|
ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() حين تنطلق الكلمات كاللكمات! د. نسرين الحميد المفردات حين تتشظى، وتتحول اللغة الى كراتٍ ملتهبة، تحرقُ من تُلقى عليه. تتحول فنونُ اللغةِ والقصص والأدب والفنِّ أسلحةً للجمال في ترويض الأفواه وتشذِيبِ الألسُن. هل بات انفلاتُ اللسانِ بالأذى للآخرين طبيعةً؟ أم هو رد انعكاسيٌّ؟ أم هي من صنع ثقافة المجتمع الذي أحاطت به ملامحُ العنف من شتى الجهات؟.. وقلَّ استماعنا واستمتاعنا بالكلام اللطيف، حتى صار الحديثُ مع البعض كمحاولة المشي في حقولِ الألغام. لمَ أصبح للعنفِ اللفظي طعمٌ مُستساغ، وتساهل الناس في إطلاقِ الكلمات القاسية التي لا يقلُّ أذاها عن اللَّكمات حين تُسددها الأيدي المتشابكة؟ كم من كلماتٍ أطلقَتها مسدساتُ الأفواه، فاخترقَت سمع الآخر واستقرَّت بين اللحم والعظم. وكم من اعتذارٍ حال دون إصلاح ندباتِ تلك الجروح العميقة، فكان أسوأَ منها؛ وفتكَ ببقايا نسيج وُدٍّ قد تهتَّك. إن نجح الاعتذارُ بانتزاع ابتسامةِ مجاملةٍ، فلن يقتلع آثار أنياب الكلمات القاسية حينما انقضّت على النفس. إن أدركنا أنَّ سيوفَنا حروفُنا، وأقلامَنا وكلامنا أسلحةٌ موجهة، لن نتساهل في استخدامها، حتى لو تطلَّب الأمر أن نتعلم مراراً كيف نتدرب على التحكم بخياراتنا، فكم من كلمةٍ تمنت أن ترْتدَّ لصاحبها وتُلقِّنه درساً! لقد ساهمَت القصص في حشد مشاهد متتابعة تنقل الإحساس إلى ما بعدَ اقتراف الأذى، وتصوير طريق الندم بعد انفلات اللسان بممرات عبورٍ غير آمنه. في قصة الفلاَّح الذي ثار على صديقه وقذفه بكلمةٍ جارحة، صورةٌ تحكي عن فداحةِ أثر بعض الكلام، إذ عاد الفلاح إلى صديقه ليعتذر، وطلب منه العفو خجلاً من سوء لفظه، فقبل الصديق اعتذاره، لكن الفلاح عاد ولام نفسه بخروج مثل هذه الكلمة من فمه، فقصد حكيم القرية الذي قال له: "إن أردت أن تستريح؛ املأْ جعبتك بمسامير، واعبر على كل بيوت القرية، وثبت مسماراً على سور كل منزل". وما أن استجاب الفلاح ووضعها حتى قال له الحكيم: "كي لا يبقى لكلامك الجارح أثرٌ؛ اذهب الآن بسرعة واجمع المسامير كلها من على أسوار تلك الأبواب، فإن لم تجد لأحدها بعد أن تقتلعه أثراً فستعود كلمتك القاسية تلك إلى مكانها"! ازداد حزن الفلاح عندئذ، وقال له الحكيم: "إن كل كلمةٍ تنطق بها كالمسمار تغرسه أمام بيت أخيك. ما أخفَّ أن تدقَّه، وما أصعب أن تنزعه دونما أثر"! فكرة تشبيه الإساءة اللفظية بصورٍ بشعةٍ كانت دوماً أدعى في استحضار معالم صادمةٍ ومخيفة تحكي واقع القسوة المرتبطة بالكلام المسيء بلاغيًّا، وفي القرآن الكريم تجلت البراعة والبلاغة لتصور الغيبة بأكل لحم الآخر نيئاً، فلا ينفكُّ استحضارها أن ينهر ويزجر عن الخطأ والإساءة في الغياب، فكيف في حضور الشخص! كما تلونت الأشعار بما يرسم في مخيلتنا وقع أذى الكلام كي يُشدُّ اللجام لترويض الأفواه وتقويض سطوة اللسان، فتأمل نظم يعقوب الحمدوني لهذا المعنى بقوله: وقد يُرجى لجرحِ السيفِ برءٌ ![]() ولا برءٌ لما جرحَ اللسانُ ![]() جراحاتُ السنانِ لها التئامٌ ![]() ولا يلتامُ ما جرحَ اللسانُ ![]() وجرحُ السيف تدملهُ فيبرَى ![]() ويبقى - الدهرَ - ما جرحَ اللسانُ ![]() ولم يقف الإبداع اللفظي في تصوير وقع الكلمات الجارحة بعيداً عن الفن، ولو تخيَّلنا صورةً معالمها من صنع آثار الكلام المسيء على وجه الآخر؛ لبرزت لنا بشاعة المظهر الذي يمكن أن تلطخ به تلك الكلمات نفوس الآخرين.. فقبل أيام كشفت لنا مدونة Bored Banda، عن فنانٌ محترف أراد بفنِّه تجسيد الإساءة اللفظية بصورة ندوب ضخمة تتركها الكلمات على وجه الآخر تماماً كما تصنع اللَّكمات. ذكر الموقع أن المصور ريتش جونسون، مبدع هذه الفكرة التي أسماها: "سلاحك المفضل"، اختار هذا العنوان لمشروعه في محاولة للحد من اختيار الكلمات المسيئة كي لا يلجأ إليها من كان خياره الأفضل استخدام تلك الكلمات لإلحاق الضرر. ومن اللافت في هذا المشروع أن جميع الاشخاص المتطوعين للمشاركة في تجسيد العمل هم ممن شملتهم الإساءة اللفظية التي جسدوها بالفعل، وعايشوا واقعها القاسي حيث عرضت عليهم خيارات لعدة كلمات مسيئة، واختاروا منها ما كانت ذات وقع قاسٍ وعميق لديهم في لحظةً ما في حياتهم. وجد العمل تفاعلاً أكثر لقربه من الواقع، فمن المؤثر للغاية أن يقف أشخاص يمثلون لك جرحهم. وأضاف الخبرُ أن الصور والرسوم المصاحبة للكلمة المهينة شخَّصت الأذى المصاحب لها وكأنَّها تركت ندباً كي يبقى أثره، على أيدي خبراء ماكياج وفنانين محترفين، كي يقوموا بإبراز معالم الأذى اللفظي لمن قد لا يكثرث بإطلاقه. فنُّ أبدع في إيصال رسالته، وأدبٌ استرسل في البيان لكفِّ أذى اللسان. ومع هذا، فبالرغم من وجود من يختار الاساءة اللفظية سلاحاً، فإن هناك من يختار البيان سحراً، وكلام البعض منمَّق مصفوف كخلية النحل، إن ضُغِطت تقاطر منها العسل، أولئك لا تُنسى حلاوة كلامهم، ويُشتهى الحديث معهم، ويتمنى الجميع مجالستهم. هم صفوة الناس، وخيرة الجُلاَّس، عَظُمت عندهم أنفسهم، فصانوا ألسنتهم عن أذى الغير.. نفوسٌ راقية، تأبى أن ينبعِث منها إلا فوحُ الطيب، ولها حساسيةٌ مُغلَّفةٌ بورق الورد، ومشاعرُ لو أنَّ فراشةً حطَّت عليها لحرَّكَتها وآلمتها، فكيف لو أسمعهم الآخرون كلاماً فظًّا؟ يبادلونهم بصمتٍ يشبه صمتَ يوسف حين: ﴿ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ﴾ [يوسف: 77]. وما بادلهم يوسف إلا بمنهج الصفوة؛ حينما يحلو للمنتقمين الرد، تأمل عذوبة الردِّ وتعاظُمَ الأخلاق: ﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92].
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |