بين النقد وحرية الرأي والتعبير - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1329 - عددالزوار : 138072 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 57 - عددالزوار : 42209 )           »          حكم من تأخر في إخراج الزكاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          حكم من اكتشف أنه على غير وضوء في الصلاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          المسيح ابن مريم عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 5462 )           »          يا ربيعة ألا تتزوج؟! وأنتم أيها الشباب ألا تتزوجون؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          فضائل الحسين بن علي عليهما السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          سودة بنت زمعة - رضي الله عنها - (صانعة البهجة في بيت النبوة) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          حجة الوداع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          التشريع للحياة وتنظيمها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > ملتقى الحوارات والنقاشات العامة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 12-10-2020, 10:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,090
الدولة : Egypt
افتراضي بين النقد وحرية الرأي والتعبير

بين النقد وحرية الرأي والتعبير


د. محمود عبدالجليل روزن






رأينا أنَّ الإسلام أوجب النصيحةَ، وتبعًا أوجب النقد بشروطه وضوابطه التي مرَّت معنا، ولكن قد يقال: ما زال وراء الأكمة ما وراءها، فإنَّ النقد ليس هو كل ألوان التعبير، بل إنَّ هناك ألوانًا منه يقف الدين والمتدينون حجر عثرة في طريق تحريرها، كحرِّية الإبداع مثلًا، كما أنَّ أحدًا لا يستطيعُ أن يكون حُرًّا إن أدلى برأيه الناقدِ في بعض المسائل الدينيةِ؛ فالإسلام وضع حدودًا وقيودًا على بعض الحِمَى، وإنَّ الراعي حولها على خطرٍ، فكيف بالراعي فيها؟!

ولهذا نقول: نعم؛ إنَّ الإسلام وضع حُدودًا تصون المقدسات، فلا تُنتهك الأعراضُ والقيمُ والفضائلُ باسم الإبداع، وفي هذا صيانةٌ للمبدع نفسه قبل صيانةِ المُقدَّسات، فالمُقدَّسات مصونةٌ بما لها من مكانةٍ عند كلِّ ذي فطرةٍ سليمةٍ، وهبْ أن المُبدعَ تذرَّع بحريَّة الإبداع ليُشبِّبَ بالنِّساءِ مثلًا، كما كان يفعل بعض المَجَنَةِ من الشعراء، فقام عليه مَن أُوذوا في أعراضهم؟ أفليس في هذه القيود حفظٌ له من نفسه وللنظام العامّ من الفوضى باسم الفن والإبداع؟!

إنَّ منظومةَ القيم الأخلاقيةِ مُتَّفقٌ عليها في كلِّ الحضاراتِ على اختلافِ الملل والنِّحلِ التي ينتحلها أصحاب تلك الحضارات، ولن تعدِمَ في كلِّ منها قوانين صارمةً تجعلُ لحريَّةِ الإبداعِ حدًّا تنتهي إليه ولا تتجاوزه، وإلا وقع المتجاوزُ تحت مقصلة القانونِ، هذا موجودٌ في كلِّ الدساتير، وضعيةً كانت أم غير ذلك، الشيءُ الذي قد يختلفُ من دستورٍ لآخرَ: هو المدى الذي يمكنُ أن يَصِلَ إليه المُبدعُ قبل الخطِّ الأحمر.

ولسنا هنا في مقام الاستدلال على أنَّ الإسلامَ قد أتاح حُريَّة الإبداع، بل أمرَ به، وجعله أحدَ الوسائل التي يُنافَحُ بها عن الحقِّ وأهله، فذلكَ المجالُ قد قُتِلَ بحثًا حتّى صار أشهر من التوقُّفِ عنده، وإلا احتاجت الشمسُ إلى دليل![1]

غير أنَّ روايةً تخاطبُ الغرائزَ خطابًا مباشرًا؛ فيُذكر فيها نصًّا مُصطلحُ (الملابس الداخلية) أكثر من ثلاثين مرة، فضلًا عن مُفردات تلك الملابس، والأعضاء التي تسترها وتُغطِّيها! مثل تلك المعزوفةِ الشهوانيّة البهيميّة تستحقُّ من المُبدعينَ أنفسهم أن يقفوا لها بالمرصادِ حتّى لا يتلوَّثَ الثوبُ الناصعُ الذي يُميِّزُ المُبدعَ رهيفَ الحسّ ساميَ الخيال، وهذا المذهبُ ضرورةٌ أخلاقيةٌ يتفق عليها عقلاء البشرِ باختلاف مشاربهم، فهذا أفلاطون يقول في مدينته الفاضلة: "ينبغي أن نُراقب الشعراء، ونحملهم على أن يبرزوا في إنتاجهم صورةَ الخلق الخيِّر، وإلا عاقبناهم بالحرمان من التأليف، وأن يمتدَّ الإشراف إلى أساتذة جميع الحرف الأخرى بالمثل، ونمنعهم من إبراز الوضاعة والانحلال الخلقيّ والتسفُّل وكل ما تكون طبيعته شرِّيرة"[2]

والناقد الإيطالي (بندتو كروتشيه) يقول: "وليس معنى هذه الحرية إعفاء الأديب من المسؤولية إذا استغلَّ الغرائز الدنيئة والغايات المسفة لدى الدهماء وهذا الإسفاف نفسه غريب عن الفن الذي هو طاهرٌ في ذاته ولكن مسؤوليته يحددها القانون في ذلك شأن الفنان شأن أي إنسان آخر"[3].

ويقول الشاعر الفرنسي الشهير (بودلير): "هل الفنُّ نافعٌ؟ نعم. ولم؟ لأنه الفنُّ. وهل يوجد فنٌّ ضارٌّ؟ نعم: الفنُّ الذي تضطرب به أحوال الحياة. الرذيلة فاتنة، فيجب أن توصف فاتنةً، ولكنها تجرُّ وراءها أمراضًا وآلامًا فريدةً يجب وصفها"[4].

وهذا الأديب الإنجليزي الكبير (برناردشو) يضغط على جمعية المسرح لرفض مسرحية لـ(جيمس جويز) اسمها (المنفيُّون) وذلك لأنَّ بها بعض المناظر الفاضحة، والفضائح - في نظر برناردشو - مملة تجعل صبره ينفد حتى لتوشك الدموع أن تفرّ من عينيه، ومما قاله الأديب (شو): "إنَّ الذي ينبغي أن يشغلنا فعلًا هو العنصر الطيب في الإنسانية أي قدرة الإنسان على التغلُّب على مساوئه، والارتفاع عن أوجه النقص فيه، إنَّ الصراع الذي يدور بين الإنسان ونفسه وبين الإنسان والطبيعة من أجل الترقي الدائم للبشرية هو الشيءُ الوحيد الجدير بالتفات الفنانين والأدباء، أما صرف الطاقة في تصوير الموقف الفاضح أو السقطة المسيئة فعملٌ غيرُ أخلاقيّ، ليس لأنه يهاجم الأخلاق السائدة بل لأنه يشد الإنسان إلى الوراء من حيث ينبغي للأدب والفن أن يدفعاه إلى الأمام. إنَّ قرار الرجل أن يسير عاريًا في الشارع أمرٌ لا يصلح إلا لصفحة الجريمة، أما قرار رجل آخر بأن يضع أمامنا روحه أو عقله عاريًا فهذا هو الذي ينبغي أن يلهم العمل الفني الكبير"[5].

إنَّ مَنْ يرومُ أدبًا وفنًّا تنصلحُ به الحالُ، وتتفتَّحُ له القلوب والعقول، ويبقى في العالمين ذكره، فلا يُتخيَّلُ أنَّه سيجدُه في الأجسامِ المكشوفة والعورات المفضوحةِ، وكيفُ يكمُل الأديبُ بتتبُّعِ كلِّ نقيصةٍ، ثمَّ كيفُ يكون مُكمِّلًا وهو نفسه ناقص؟!

فمَنْ كان يظنُّ أنَّ هذا الإبداع المكشوف مما ترتقي به النفوس، وتُستنهضُ به الهمم، وتُبنى عليه الأمم، فليعمدْ إلى عورات السائرين والسائرات في الشوارع والميادينِ، فليُعرِّها، ثمَّ لْيعمد إلى مُكبِّرٍ للصوتِ يتناوبُ هو وأصحابه بثَّ الإسفاف من خلاله، فلا شكَّ أن ذلك سيؤدي ما لم تؤدِّه الروايات، وسيقول ما لم تقله الكلمات!

نعم؛ لا فرقَ مُطلقًا بين التحرُّش باليد، وبين التحرُّش بالقلم، ولا فرقَ - كذلك - بين الدَّعارةِ بالجسد وبين الدَّعارةِ بالكلمات، وشُرفاء العرب قديمًا قالوا: تموت الحرَّةُ جوعًا ولا تأكل بثدييها. وشرفاؤهم اليوم يقولون: يموتُ الكاتب المُبدع الحرُّ جوعًا ولا يأكل بثديي دَواتِه! ولا يُعرِّي قلمه، ولا يُجرِّده من الشرف الذي يستمده من مجرد كونه قلمًا. هل تجدُ فرقًا بين نَهْدٍ عارٍ، وبين نُونٍ وهاء ودالٍ يُعرِّيها كاتبٌ ليصنعَ منها مادةً للإغراء؟!

وإنَّ من المُغالطات التي تُساقُ مساق الحُجَّةِ أن يُقال لك: إنَّ أحداث الرواية تقتضي ذلك. وهبْ أنَّ أحداث الرواية تقتضي ذلك؛ أفلا يستطيع هذا الكاتب أن يُبرهن لنا على عبقريَّته فيصوغُ لنا من هذه الضرورة الروائيةِ معانيَ خلَّابةً لا تأنفها الفِطَرُ النَّقيَّة ولا تعافها الأذواق الراقية؟ انظرْ إلى بلاغةِ القرآن كيفَ تورَدُ قصَّةُ يوسف بما فيها من مواقفَ، وإلى وصفِ الحور وما فيه من إبداعٍ، وإلى تَطرُّقٍ إلى أدقِّ أحكام النساء الفقهية، كلُّ ذلك دون أن تقف على كلمةٍ واحدةٍ تستحيي منها، فما ثمَّ إلا دُرَرٌ شاهدةٌ على أنَّه كلام الله المُعجِزُ. نعم؛ لن يصل بشرٌ إلى هذا الأُفقِ ولن يُقارِبَ، ولكن يظلُّ التفاوُتُ بين الأدباء المبدعين على قدر قُربهم منه، وإنَّ أديبًا مُبدعًا لا يستطيعُ أن يُخرِّجَ أفكاره في قوالبَ رشيقةٍ مقبولةٍ، فكثيرٌ عليه لقبُ الأديب المُبدع.

أما مَن "أراد الإبداع الحقَّ فليتمثَّلْ - قدر استطاعته - روعةَ البيان النبويِّ، وليلتزمْ فيه الصدق والنفع للإنسانية، وليبتعدْ فيه عن الكذب والتصنُّع والادِّعاء والإيهام والتضليل، وليلتزم فيه القيم الفاضلة والآداب الإنسانية الجامعةَ، وليبتعدْ عن التقليدِ الأعمى ومحاكاة النزعات الجامحة والاستجابة للأهواء الشريرة"[6].

وإنَّ من أبطلِ الباطلِ أن يستغلَّ الأديب مقدرته البيانية البلاغية في تزييف الحقائق وتخريب الوعي، ومصادمة ثوابت الأمة العقديَّة، ومحادة الشرع الحنيف؛ فرُبَّ كلمةٍ أقتل من ألف رصاصة!

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هُذَيْل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ دِيَةَ جنينها غُرَّةٌ: عُبْدٌ أو وليدةٌ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورَّثها ولدها ومَن معهم، فقال حَمَل بن النابغة الهُذَلي: يا رسول الله؛ كيف أَغْرَمُ مَنْ لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟! فمثل ذلك يُطَل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هو من إخوان الكهان". مِن أجل سجعه الذي سجع[7].

قال النووي:
"قال العلماء: إنما ذم سجعه لوجهين؛ أحدهما: أنّه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله، والثاني: تكلُّفه في مخاطبته، وهذان الوجهان من السجع مذمومان.

قال:
وأمَّا السجع الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله في بعض الأوقات - وهو مشهور في الحديث - فليس من هذا؛ لأنه لا يعارض به حكم الشرع، ولا يتكلفه، فلا نهي فيه، بل هو حسنٌ"[8].

فكيفَ بمَن ينتسبُ إلى الإسلام ثمَّ يقول: "ورأيت الله كالشحَّاذ في أرضِ عليٍّ"[9] تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، والآخر الذي يقول: "الله مات وعادت الأنصابُ"، ويقول الثالث: "الرب ليس شرطيًّا حتى يمسك الجناة من قفاهم،إنما هو قروىٌّ يزغط البط، ويجس ضرع البقرة بأصابعه صائحا: وافرٌ هذا اللبن!!الجناة أحرار لأنهم امتحاننا الذى يضعه الرب آخر كلّ فصلٍ قبل أن يؤلف سورة البقرة"!! اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا.

فهل يُقال في مثل هذا التخليط والهُراء: حريَّة إبداع؟!


ولينظرْ هؤلاء إلى فحول الشعراء في كلِّ العصور ومن كلّ الأمم، تجد الإجماعَ مُنعقدًا لأعلامٍ لم ينزلقوا إلى هذه الدركة، واعتبر بالمتنبي الذي يعدُّه معظمُ النُّقَّاد شاعرَ العربيةِ الأولَ، تجده مُبدعًا عفيفًا حتَّى في غزليَّاته، وقلما يمرُّ بكَ موقفٌ لا يصلح للاستشهادِ فيه بيتٌ أو أكثر من شعر المتنبِّي الحكيم.

وقارن بين المُتنبي وبين عمر بن أبي ربيعة أو دعبل الخزاعي أو امرئ القيس أو غيرهم مما اشتهر بالغزل الفاضح أو الهجاء المُوغل في الفحش، تجد ذكرى الأوَّلِ وأشعاره هي الباقية الجارية على الألسنِ في كلِّ وادٍ ونادٍ.

ونختمُ الكلام في هذه الجزئية بقول العقاد: "وليس في العقل يُسمَّى حُرِّيَّةً مطبوعةً تعلو على الحرية المخلوقة بالانطلاق من جميع القيود؛ لأن الانطلاق من جميع القيود غير معقول وغير موجود"[10].

التجديف[11]!
أمّا الاعتراض الثاني بأنَّ الإسلام حرَّم الكلام في بعض المسائل، وضرب حولها الأسوار والحواجز فلا يجوز أن يرعى حولها الراعي ولا أن يُسيم فيها، فذلك أيضًا صحيحٌ، ولكن لابد أن نفصِّل القول في ذلك، وأن نُفرِّق بين نوعين من المنع؛ الأول: منعٌ لغير المتأهِّلِ، فكأنَّه إجازةٌ مشروطةٌ، والثاني: منعٌ بإطلاقٍ على كلّ أحدٍ. وإليكَ البيان:
أمَّا منعُ غير المتأهِّل؛ كقصر الفتوى على الفقيه، وقصر القول في تفسير القرآن على الجامعين للأدوات اللازمة لذلك، وقُل مثل ذلك في كلِّ فروع العلم الشرعيّ.

وليس في هذا الحَجْرِ ما يمكن أن يُتَّخذ دليلًا على أنّ الإسلام يُقيِّد الحريَّات أو يُصادر الرأي أو نحو ذلك من الافتراءات غير الموضوعية. ولو أنَّ هذا المُعترض اعتراه مرضٌ في بدنه فلن يذهب إلا إلى طبيبٍ مشهودٍ له بالبراعة في الطبِّ، ولو حدث أن ساقته قدماه إلى مَن يُقال إنه طبيبٌ ثمَّ اكتشف بعد ذلك أنَّه مُدَّعٍ مزيِّفٌ لأقام عليه الدعاوى التي ليس أعظمها: (تزويرٌ في أوراقٍ رسميَّة)، وربَّما قتل هذا المُزيِّفُ فحُكم عليه، وهذا عدلٌ لأنَّه تطبَّب ولم يُعهد منه طبٌّ فهو ضامنٌ، ولو تُهُووِن في ذلك بعض التهاون لأقامت نقابة الأطباء الدنيا ولم تُقعدها، ولطالبت بتقديمه إلى المقصلة، وقل الشيء نفسه عن مُدِّعي الهندسة الذي صمَّم مبنًى فانهار بقاطنيه، وعن مُدَّعي المهارة بقيادة السيّارات أو الطائراتِ، وعن غيرهم من أرباب أقلّ الحرف شأنًا، فلِمَ يُرادُ للكلام في الشرع أن يُصبحَ مشاعًا لكلِّ أحدٍ؟!

وتأمَّل هذه الآية: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33]، فالأمور التي حرَّمها الله - عز وجل - من الأدنى للأعلى: الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ لأنَّ الفاحشة - غالبًا - ما يقتصر ضررها على مُرتكبها، ثم: الإثم والبغي بغير الحقّ؛ لأنَّه جَوْرٌ وتعدٍّ على حقوق الآخرين، ثمّ: الشرك بالله، لأنَّه عبادة غير الله مع الله، ثمَّ: القول على الله بغير حقٍّ؛ لأنَّه القائل على الله بغير حقٍّ كأنَّه جعل من نفسه إلهًا مع الله! وإن كان المشركُ بالله ما زال عبدًا لله من وجهٍ؛ فإن القائل على الله بغير حقٍّ مُؤَلِّهٌ نفسَه من كلِّ وجهٍ! والله المستعان.

فالمرءُ إمَّا أن يكون مُتأهِّلًا ممتلكًا لأدوات الاجتهاد، فلا عليه أن يقول؛ بل إنَّ الشرع ضمن له أنَّه دائرٌ بين الأجر والأجرين، فإن اجتهد في نازلةٍ مُستفرغًا وسعه، فأخطأ فله أجرٌ، فإن أصاب فله اثنان، أمَّا أن يتقوَّل من عند نفسه بدون أن يبذل جهده في تحصيل أدوات الاجتهاد فهذا داخلٌ تحت الوعيد المذكور في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النحل: 116، 117].

وقد عقد الشاطبيُّ - قسمًا كاملًا من كتابه الموافقات اسماه (كتاب الاجتهاد) فيما يقارب مائتي صفحة؛ بيَّن فيه ما يتعلُّق بهذه المسألة بيانًا وافيًا شافيًا فليرجع إليه مَنْ شاء[12].

ومما قاله الشاطبي -:
"الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان؛ أحدهما: الاجتهاد المعتبر شرعًا، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد... والثانى: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارفٍ بما يفتقر الاجتهاد إليه؛ لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض، وخبطٌ في عماية، واتِّباعٌ للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذى أنزل الله، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 49]، وقال تعالى: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26] .....

وأمَّا القسم الثاني (أي الاجتهاد غير المُعتبر)؛ فيعرض فيه أن يُعتقد في صاحبه أو يعتقد هو في نفسه أنه من أهل الاجتهاد وأنَّ قوله معتد به، وتكون مخالفته تارةً في جزئيٍّ - وهو أخف - وتارة في كُلِّيٍّ من كليات الشريعة وأصولها العامة، كانت من أصول الاعتقادات أو الأعمال؛ فتراه آخذًا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا راجعَ رجوعَ الافتقارِ إليها، ولا مُسلِّمَ لما رُوي عنهم في فهمها، ولا راجع إلى الله ورسوله في أمرها[13]، كما قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]، ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح واطِّراح النَّصَفَة والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب، فإنَّ العاقل قلما يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك مع العلم بأنه مخاطر"[14].

وعِندما نفهم هذا الحَجْرَ في ضوء مئات - بل آلاف النصوص - التي تحتفي بالعلم والعلماء وتحضُّ على التعلُّم والتفقُّه؛ فلن يسعنا إلا التسليم بأنَّ الشرع الحنيف يُزري على الجهل الذي كان يستطيع صاحبه التعلُّم، كما يقف بالمرصاد لكلِّ مُجدِّفٍ بالباطلِ، وما ذلك إلا حمايةً للحقِّ وأهله.


[1] انظر على سبيل المثال: حرية الرأي في الإسلام: مفهومها وضوابطها ومجالاتها في ضوء الكتاب والسنة، د. مصطفى عبد الواحد، دار السلام، القاهرة 1431هـ - 2010م.

[2] جمهورية أفلاطون (ص56) نقلًا عن حرية الرأي في الإسلام (ص 223).

[3] حرية الرأي في الإسلام (ص224).

[4] التجديد في الشعر الحديث للدكتور يوسف عز الدين (ص205)، نقلًا حرية الرأي في الإسلام (224-225).

[5] من مقال للدكتور علي الراعي في مجلة (المجلة) (العدد 37: ص 5: رجب 1379هـ) نقلًا عن: حرية الرأي في الإسلام (ص225-226).

[6] حرية الرأي في الإسلام (ص228).

[7] متفق عليه. والغُرَّة: هي نفس العبد أو الأمة، وعبَّر عنها بالغرة؛ لأن الغرة أنفس الشيء، وقول الرجل (يطل) بوجهين: أحدهما: بضم الياء وتشديد اللام ومعناه يهدر ويلغى ولا يضمن، والثاني (بطل): بالباء الموحدة مفتوحة، وتخفيف اللام على أنه فعل ماضٍ من البطلان، وهو بمعنى الملغي أيضًا.

[8] انظر: مسلم بشرح النووي (6/159).

[9] إنَّ مما يدلُّ على قلة بضاعة هذا الضَّال المُضل الذي صوَّر له غروره أنه أكبر من العروض وأكبر من اللغة أنَّه استخدم لفظة الشحَّاذ يريد بها (المتسوِّل) كما يقول العوامِّ، فلم يُفرِّقْ بين ما هو عاميٌّ وما هو فصيحٌ، وهذا كائنٌ منه مرارًا وتكرارًا في هرائه.

[10] الإنسان في القرآن (ص53).

[11] التجديف: Blasphemy مصطلح كَنَسِيّ وتهمة يُواجَه بها المُشكِّكون في العقائد النَّصرانية، أو المُتطاولون على الرموز والمُقدَّسات والعادات، ثمَّ صار كل قانون يُوضع بغرض تجريم الإساءة إلى العقائد والثوابت الرموز الدينية - أيًّا كان هذا الدين - ومُعاقبة من يفعل ذلك يوصف بأنه قانون لمكافحة التجديف.


[12] انظر: الموافقات (4/361-534).

[13] يعني أنَّه يعتقدُ ثم يستدلُّ، فيضرب كليَّات الشريعة ببعض جزئياتها ليسوغ له أن ينزِّل الدليل على هواه، فيكون رجوعه إلى الدليل رجوع استظهارٍ به على صحة ما أنطقه به هواه، لا رجوعَ افتقارٍ ورضىً بما يُصيِّره إليه الدليل من معتبر القول وصحيحه، كما أنَّ من صفة هؤلاء عدم تسليمهم بفهم السلف الصالح لتلك الأدلة والنصوص، حتى لقد ظهر مَنْ ينادي بحذف علم أسباب النزول بحجة أنَّ لنا أفهامًا يجب ألا تتأثر بما رُوي عن الصحابة في تفسير بعض الآياتِ التي نزلت في وقائع مُعيَّنةٍ معروفة!

[14] الموافقات (4/ 414، 418)




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 97.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 95.33 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.77%)]