الصبر في القرآن الكريم .. تأويل وتحليل - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1124 - عددالزوار : 129790 )           »          الصلاة مع المنفرد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          الاكتفاء بقراءة سورة الإخلاص (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          أصول العقيدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          الإسلام يبيح مؤاكلة أهل الكتاب ومصاهرتهم وحمايتهم من أي اعتداء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          تحريم الاعتماد على الأسباب وحدها مع أمر الشرع بفعلها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3097 - عددالزوار : 369981 )           »          وليس من الضروري كذلك! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          مساواة صحيح البخاري بالقرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          محرومون من خيرات الحرمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 07-09-2020, 02:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,797
الدولة : Egypt
افتراضي الصبر في القرآن الكريم .. تأويل وتحليل

الصبر في القرآن الكريم .. تأويل وتحليل


أ. د. عباس توفيق








الصبر هو حبس النَّفس على ما تحب أو عمَّا تكره، وهو من القِيم العليا التي يحث الإسلامُ معتنقيه على أن يتصفوا بها؛ لأنه يزين الإنسانَ المسلم، ويمثِّل علامة على إيمانه، ذلك الإيمان الذي قيل إنه نصفان: ((نصفٌ صبرٌ، ونصفٌ شكرٌ))؛ "تخريج الإحياء للعراقي (4/75)، السفاريني الحنبلي: شرح كتاب الشهاب (282)، وإسناده ضعيف".

وفي هذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كلَّه خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرَّاءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له))؛ صحيح مسلم (2999).

ولاحظ استعمال كلمة "أصاب" بما لها من ظلال المصيبة للخير والشر معًا؛ لأنهما جميعًا اختبار من الله تعالى، فتعرُّض الإنسان إلى ما يستوجب الصبر لا يعني أن الله -تعالى- يُبغضه، كما أن النعمة التي تأتيه لا تعني أنه يحبه، بل إن حب الله -تعالى- للعبد أو بُغْضَه له ناتجٌ عن كيفية تعامل الإنسان مع ما ابتُليَ به.

والمؤمنون هم الذين يدركون اختبارَ الله -تعالى- لهم فيما يجري عليهم، فيصبرون على البلاء، ويشكرون عند النَّعماء كما أُمروا.

وقد زخر القرآن الكريم ببيان أهمية الصبر بصورة مباشرة من خلال الثناء على الصبر، أو بصورةٍ غيرِ مباشرة من خلال ما قصَّه على النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وعلى الناس من قصص الأنبياء والصالحين، وقد أمرنا - تبارك وتعالى - بالتحلي به، ورغَّبنا فيه من خلال أمرِه لنبيِّه - صلى الله عليه وآله وسلم - به، إذ قال: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً ﴾ [المعارج: 5].

الصبر الجميل:
هو ما لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله تعالى، وقد قيل: إنه ذلك الصبر الذي يجعل صاحب المصيبة خفيًّا، فلا يُدرى بأنه مصاب؛ فتح القدير ص: (1823).

وذكر الباري - عز وجل - على لسان عبده لقمان وصيتَه لابنه بالصبر، فقال: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأمور ﴾ [لقمان: 17].

ومردُّ تخصيص هذه العبادات في وصية لقمان - وهي الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر - إلى أنها "أمهاتُ العبادات، وعمادُ الخير كله، والإشارة بقوله: ﴿ إِنَّ ذَلِكَ ﴾ إلى الطاعات المذكورة"؛ فتح القدير (1375)، وهي من الأمور التي أوجبها الله -تعالى- على عباده، ولعل قوله: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ﴾ ينطوي على إشارة من لقمان - عليه السلام - إلى ما سيصيب ابنَه في المستقبل عندما يتفاعل مع الوسط الذي يحيا فيه، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وليس الوسط كله ممن يستجيب لداعي الخير، وإن مَن يتصدى لهذه المهمة الجليلة سيلقى أذًى ماديًّا ونفسيًّا، ومن هنا كانت وصية لقمان لابنه بأن يكون صابرًا، وإلى جانب أنَّ ذلك من عزم الأمور - أي: من الأمور التي أوجبها اللهُ تعالى - فإن هذا الجزء من الآية يعطي انطباعًا بقوة الإرادة والتحكم في النفس، وهو في محصلته النهائية علامةٌ على المؤمن القويِّ، الذي فضَّله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: ((المؤمن القويُّ خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ))؛ صحيح مسلم (2664)؛ فكلاهما مؤمن، ولكن هذا قوي وهذا ضعيف، والقوة والضعف إنما يكونان في قوة القلب إزاء الأحداث، وفي العزيمة في التعامل مع الأشياء، لا في حقيقة الشعور الإيماني المستقر في الوجدان، والله أعلم.

إن القوة قرينة الصبر، ولأهمية هذه الخصيصة في الحياة الإنسانية والإسلامية أثنى الله -تعالى- على المتواصين به؛ وذلك لكي يلفتهم إلى تبيان أهميته في الحياة الدنيا، ولأنه عُدَّة للطاعة، ولتجنب المعصية، ولأنه سبب لإيتاءِ المتواصين به في الآخرة كتبَهم بأَيْمانِهم، ولأن يكونوا من أصحاب الميمنة؛ فقد قال -تعالى-: ﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴾ [البلد: 17، 18].

وقد قرن اللهُ -تعالى- بين التواصي بالحق والتواصي بالصبر؛ إعلاءً لشأن الصبر، وتنويهًا بعظيم قدره، وبيانًا لجزيل ثوابه؛ ﴿الْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].

وبينما كان التواصي بالصبر بين المسلمين، فإن الله -تعالى- أمر عباده بأن يُباروا أعداءَهم ويجالدوهم، ويتفوَّقوا عليهم في الصبر على الشدائد، وفي أن يصبِّر بعضُهم بعضًا حتى يَدْحَرُوهم، وهو ما يُفهَم من ﴿ وَصَابِرُوا ﴾ في قوله - سبحانه - في سورة آل عمران: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].

ويرشدنا الله -تعالى- في آياتٍ أخرى إلى أن نستعينَ به - سبحانه - في الحصول على الصبر؛ ذلك أن ما يَعرِض للنفس قد يفوق الطاقةَ، لولا مددٌ من الله وتثبيت، وقد ورد هذا التعليمُ في موضعين:
الأول: دعوة السحرة الذين استعان بهم فرعون لمواجهة موسى - عليه السلام - فما أن تبيَّن لهم الحقُّ حتى خروا له مُذْعِنين، وأيقنوا أن ما سيلحق بهم جراء ذلك سيكون شديدًا، فقالوا: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾[الأعراف: 126].

والثاني: دعوة طالوت وجنوده في قوله -تعالى-: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250].

والصبر فيما يفهم من هاتين الآيتين ليس مَلَكةً نفسية، بل هو مدد رباني يشدُّ به اللهُ - تعالى - أولياءه في مواجهة ما يضعُفُ الإنسانُ عن تحمُّله، ويُظهر الدعاءُ عجزَ الإنسان بنفسه، واحتياجه إلى أن يتقوَّى بربه، والآيات المتممة للآيتين السابقتين واضحةٌ في استجابة الله -تعالى- لهم؛ فمات السحرة شهداءَ، وانتصر طالوت وجنوده بالرغم من قلة عددهم.

إن الصبر في حد ذاته قوة، ولكن الله - تعالى - يريد لعباده المؤمنين أن يتجاوزوه إلى ما هو أفضل منه وأرقى؛ أن يتجاوزوه إلى العفو، حين يتعلق الأمر بالأذى.

فبعد أن يحث - سبحانه - عبادَه على الصبر، ويرغِّبهم فيه، ويبيِّن لهم أن جزاء السيئةِ سيئةٌ مثلها، وأن هذا حقٌّ وانتصاف، يُعلِي - سبحانه - من شأن مَن يتجاوز ويصفح، ويوكِل بذاته العلية أجر العافي، ويترك وصْفَه مبهمًا؛ لتعظيمه إياه، فقال - عز من قائلٍ -: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].

وأكَّد معنى الصفح والمغفرة بقوله - سبحانه -: ﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 41].

حكمة الصبر:
ويجد الناظر في القرآن الكريم أن الله - سبحانه وتعالى - يبتلي عباده بطرائقَ شتَّى ليمحِّصَهم، وأن مَن يجتاز الاختبار منهم بنجاح هو الذي يكون جديرًا بصفة الصابر؛ ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾[محمد: 31].

فالله - سبحانه وتعالى - يأمر بالجهاد؛ لتمييز الصابر على دينه، وعلى تحمُّل مشقة هذا التكليف، والجود له بالنفس والمال، ممن يتحلل منه، ويُؤثِر الدَّعة عليه.

وهو يأمرنا بالزكاة؛ لتمييز البخيل الحريص على المال، ممن يؤثر رضا الله على ما يملك.

ومثل هذه الاختبارات إنما هي لتبصير الناس بعضهم ببعض، ولتبصير الإنسان بنفسه؛ لئلا يقول: لو أمرتني بالجهاد والزكاة لفعلت، والادعاء سهل، غير أن العملَ لا يكون بغير إرادة، وهذه الإرادة لا يتبدى خضوعُها لمراد الله -تعالى- إلا بالامتحان، بالضبط كما أن النار هي التي تُظهِر نفاسةَ الذهب.

لقد ضرب الله - عز وجل - لبني آدم أمثلة من هذا الاختبار في سورة البقرة؛ فقال - جل شأنه -: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].

وإن تنكير ﴿ شَيْءٍ ﴾ في هذه الآية إنما هو للتقليل؛ أي: إن الاختبار يكون بأمور يسيرة فبعضها: نفسي؛ كالخوف، وبعضها: شعوري؛ كالجوع، وبعضها: مادي؛ كنقص الأموال والأنفس والثمرات.

والذين يجتازون هذا الاختبارَ - محتسبين - هم الذين يستحقون البِشارة، وهم الذين يرتبطون بالله - تعالى - ويرونه في كل شيء، ويعلمون أن ما يجري لهم إنما هو بأمره وعلى عينه، فهم والحالةُ هذه في مقام الرضا، وما داموا عبادًا طائعين فهم مستسلمون لأمر الله وقضائه، ويعبِّرون عن هذا الاستسلام بقولهم: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾، وإن هؤلاء هم الذين تتنزل عليهم رحمات الله -تعالى- وهؤلاء هم المؤمنون حقًّا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((مَن استرجع عند المصيبة، جبر اللهُ مصيبتَه، وأحسن عقباه، وجعل له خَلَفًا يرضاه))؛ الترغيب والترهيب للمنذري (4/256)، مجمع الزوائد للهيثمي (6/319).

وورد أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ((أُعطِيتْ أمتي شيئًا لم يُعطَه أحدٌ من الأمم، أن يقولوا عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون))؛ الجامع الصغير للسيوطي (1176)؛ ضعيف الترغيب للألباني (2047).

إن مادة الاختبار المشار إليها في الآيات السابقة ميسورةٌ إذا قِيست بما ابتُلِيَ به الأنبياء؛ كإبراهيم - عليه السلام - الذي اختُبِر بالنار، وبترك ولده وزَوْجِه في صحراءَ قاحلة، وبذبح ابنه، وكنوح ولوط - عليهما السلام - اللذينِ ابتُلِيا بأزواج جاحدات، فضلاً عن ابتلاء نوح - عليه السلام - بابن عاقٍّ رافضٍ تصديقَه، وابتُلي إسماعيلُ - عليه السلام - بالذبح، وابتُلِي يوسف - عليه السلام - بالعبودية والسجن، وهكذا.

أنواع الصبر:
حري بالمرء أن يستحضر الصبر، وأن يجعله من الوسائل التي يخوض بها عباب هذه الدنيا، التي هي في أصل وجودها دارُ اختبار وابتلاء.

والصبر مراد جوهري في اجتياز الابتلاء، وإن صُوَرَه تتعدد بتعدُّدِ صور الحياة الدنيا ومظاهرها.

والمتأمل في الآيات القرآنية يجد أمثلة لأوجه الصبر ومجالاته، من غير أن يعني ذلك أنها هي المجالات الوحيدة التي تتطلب صبرًا، بل هي عيِّنات يقاس عليها ما عداها، وإن درج البعض على حصر الصبر في الطاعة، واجتناب المعصية، وتحمُّل المصائب والنوائب؛ فهذه الأنواع الثلاثة من أوجه الصبر هي أطرٌ عامة قد تُدرجُ فيها حالات أخرى بحسب الفهم أو النظرة، وإن الحالات التي أضاءها القرآن الكريم بالصبر هي:
الصبر المطلق:
وقد ورد هذا في قوله - سبحانه -: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 22].

وهذا الصبر في صدر الآية غير مقيَّد بالإتيان بما أمر الله -تعالى- به، وباجتناب ما نهى عنه، أو بالصبر على البلايا، بل هو مطلق؛ ليشمل هذه الأبواب الثلاثة وما عداها، ولكن المهم هو ابتغاء وجه الله فيه؛ أي: أنْ يكون خالصًا لوجهه، لا تشوبه شائبةٌ، ولا يخالطه رياء.

وقد تقدم ذِكْرُ الصبر على الصلاة في هذا الموضع وفي بعض الآيات التي سنقتبسها؛ لأن الصبر عمل قلبي، وهو مقترن بالإيمان، والله - سبحانه - لا يسأل عباده أن يصلُّوا ويؤمنوا، بل يسألهم أن يؤمنوا - أولاً - ويصلُّوا، وكذلك الحال بالنسبة إلى الصبر؛ فالآيات التي تسبق الآية السالفة تدور على الإيمان بالكتاب المنزل، والوفاء بعهد الله، ووصْل ما أمر الله به أن يوصلَ، والخوف من سوء الحساب، وهذه كلها أمورٌ منوطة بالقلب؛ فعُقِّبت بالصبر، الذي هو أيضًا حالة قلبية، وحينما يكون القلب مستقرًّا بإيمانه والتزامه، تكون الصلاةُ مناسبة له خشوعًا وأُنسًا بالله تعالى، وإن الصلاة والإنفاق وحسن المعاملة كل ذلك من ثمراتِ الإيمان؛ أي: هو نتيجة للإيمان، وسبب - من ثَمَّ - لدخول الجنة ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾.

وقد ورد الصبر مقرونًا بالصلاة في آيات أخرى، على أنهما من وسائل الاستعانة بالله -تعالى-: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45]، وكذلك في قوله -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]؛ فالصبر في هاتين الآيتين مستقلٌّ عن الصلاة، وهو واحد من العمودين اللذين يستعين بهما الإنسانُ في علاقته بالله عز وجل، ولكن الآية الثانية خصصت الصابرين دون المصلِّين بمعيَّةِ الله تعالى، ولعل ذلك مردُّه - والله أعلم - إلى أن الصلاة قد تكون رياءً، بينما الصبر عندما يكون خالصًا لوجه الله يكون هو الأساسَ الذي تقوم عليه الصلاةُ المبرورة.

الصبر على العبادة:
وقد وردت في هذا السياق آياتٌ عديدة تحث المسلمين على الصبر على العبادة، من ذلك قوله - سبحانه -: ﴿ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ [مريم: 65].

وقوله: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [طه: 132].

ويرى العلماء أن "اصطبر" بمعنى "صبر"، وأن ﴿ اصْطَبِرْ ﴾ على الصلاة يعني: اصبرْ عليها ولا تنشغل عنها بأمور الدنيا؛ فيض القدير (1122 - 1123)، ولكن ﴿ اصْطَبِرْ ﴾ توحي بمعنى حمل النفس على الصبر على الصلاة، ولعل مما يعزِّز هذا المعنى قولَه -تعالى- في الصلاة: ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].

فالصلاة بحاجة إلى الصبر لتؤدَّى بأركانها كاملة، وتُبعدَ عن أن ينتهز الشيطان منها شيئًا، كأن تنشغلَ النفسُ عنها بأمور الدنيا فلا تؤدى في وقتها، أو تنشغل النفس عنها في أثناء تأديتها فلا يبقى منها إلا حركاتها، ولو كانت النفس محمولةً على الصبر، لأُدِّيت الصلاة كاملة تامة.

وقد وردت كلمة ﴿ اصْطَبِرْ ﴾ في قوله -تعالى-: ﴿ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ﴾ [القمر: 27].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 115.81 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 114.09 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]