|
ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() التكالب على الدنيا الشيخ محمود شلتوت استعرضنا الأوضاع التي يمكن أن تكون عليها علاقة الفرد بالحياة، وفرَضنا لها الفروض الممكنة، وتحدَّثنا عن الفرض الأول منها، وهو أن تكون علاقته بالحياة علاقة الضرورة والكَفاف الذي يُقيم الأَوَد، ويحفظ للإنسان حياته الشخصية، فيَعتزل الناسَ والعمل، ويتبتَّل بصومه وعبادته الرُّوحية، وأشرنا إلى الحُجج الموهومة التي استند إليها الذين ابتدَعوا هذا الفرض، وزعموا أنه الدين أو من الدين، ودعوا إليه وحثُّوا عليه، وكان من ذلك آيات من القرآن الكريم، حرَّفوها عن مواضعها، وصرَفوها عن مقاصدها، وبشَّعوا بها الدنيا في نظر الناس، واتَّخذوها بفَهمهم المنحرف أساسًا للإعراض عنها، وعن العمل فيها بما تَقتضيه مِنَحُ الله للإنسان وسُننه في الحياة، وكان منها أيضًا أحاديثُ لم تُحرَّر الرواية في أكثرها، وإنما وُضِعت أو قيلت في عصور خاصة، على ألسِنة خاصة، لغرضٍ خاص، هو صرْف المسلمين عن العمل الجاد المثمر، وأحاديثُ تحرَّرت روايتها، ولكن حُرِّفت عن معناها الصحيح كما حُرِّفت الآيات. أشرنا إلى تلك الحُجج، وقفَّينا عليها بالنقض، وبيان الخطأ في شرْحها، وأنها سِيقت لتركيز فرضٍ آخر غير الذي يعملون على تركيزها، وصرْف الناس به عن الحياة، وأن الإسلام يأبى كل الإباء أن تكون علاقة الإنسان بالحياة على هذا النحو، الذي حاوَل هذا الفريق غرْسه في النفوس، وليس له من نتيجة سوى حِرمان الإنسان من أسرار الكون، وحِرمان أسرار الكون من قوى الإظهار والكشْف، والانتفاع بها فيما أُعِدت له بمقتضى الخلْق والتكوين، وهو بالتالي يَسلُب الجماعة الإسلامية عزَّ الحياة وسلطانها، بينما يضع غيرُها يَدَهُ عليها، ويكون لهم فيها السلطان النافذ، والكلمة المسموعة، والقوة المرهوبة، بما يَحصلون عليه من آثار العلم الكوني، والعمل المُنتج، والتدبير المُنظم، وإني لأعتقد أن من أهم الأسباب التي تأخَّر بها المسلمون وتخلَّف بها رَكْبُهم عن رَكْب العالم - شيوعَ أن الإسلام يَعتبر الدنيا والحرص عليها، والكَدَّ في تحصيلها - نقصًا في التديُّن، وأن كمال الدنيا إنما هو في التخفُّف منها والزهد فيها، وقد أدى ذلك إلى فَهم الدنيا على غير وجهها، وانتشَرت البطالة بين الناس باسم الدين وكمال الإيمان، ولا بد - للتخلُّص من آثار هذه الفكرة - مِن عرْض النصوص القرآنية والنبوية - الواردة في شأن الدنيا - عرضًا سليمًا، يَبعث على العمل والتعمير، وبالتالي يهيِّئ لجماعة المسلمين وسائلَ العزة والسيادة. وإذا كان الانقطاع عن الدنيا والإعراض عنها بالتبتُّل، والاكتفاء من مُتَعها وخيرها بما يُقيم الأَوَد الشخصي، مما يأباه الإسلام، ويُنكره أشد الإنكار - فإن الإسلام أشدُّ إباءً وإنكارًا لفرْضٍ آخر في علاقة الإنسان بالحياة، وهذا الفرض المقابل للانقطاع والتبتُّل، هو فرض التكالُب على الجمْع والادِّخار في محيط الدائرة الشخصية، وبذلك يركِّز الإنسان قواه العقلية في خدمة وجوده المادي الخاص، ويعمل على أن يَبسُط به سلطانه على مَن سواه، ويَسلك إلى تلك الغاية كل السُّبل التي يراها مُحقِّقة لها، غير مُكترث بشيء من جوانب الفضيلة الرُّوحية، ولا الشكر الإلهي على ما هُيِّئ له من نِعمٍ، فلا عطْفَ ولا رحمة، ولا تعاوُنَ، وإنما هو طُغيان ولَعِب ولَهْو، وتفاخُر وتكاثُر. وإذا كان الفرض الأول سبيلاً فقط للفردية الرُّوحية، ولا يُلائم طبيعة الإنسان ولا طبيعة الكون، فإن هذا الفرض سبيلٌ فقط للفردية المادية التي تقطع ما بين الناس من صِلات طبيعية، وتقضي على عوامل التعاون وبواعث النفع العام، وتَغرس في النفوس الشُّحَّ، وتُنمي عوامل العداوة والبغضاء. به يَنظر فريق المتكاثرين إلى غيرهم نظرة المالك للمملوك، ونظرة المعبود للعابد، والسيد للمَسُود، لا يعترف له بحقٍّ، ولا يَسمح له بمُتعة، وبنظر هؤلاء إليهم نظرةَ المظلوم للظالم، والضعيف للقوي، يُضمر له الحقد، ويتربَّص به رَيب المنون، وقد جرَّبت الإنسانية في عصورها المختلفة - وجرَّبت مصر خاصة - هذا الفرض، فلم ترَ منه إلا الشقاء والاضطراب، والعُقْم والتفرُّق والانقسام. وإذا كان الإسلام حارَب فكرة التبتُّل والانقطاع عن الدنيا بنصوصه الكثيرة التي حثَّت على العمل والسعي، وطلبت إلى الناس أن يَضربوا في الأرض، وأن يعملوا بقواهم فيما سُخِّر لهم؛ من أرض للزراعة، وأدوات للصناعة، وبحارٍ للتجارة؛ فإنه قد حارب كذلك - بل أشد - فكرة التكالُب على الدنيا، والعمل في تحصيلها لخاصة النفس، واعتبَر هذا الفرض من دلائل التكذيب بيوم الدين: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 1 - 8]. وقد قصَّ الله علينا شأنَ كثيرٍ من المتكالبين الذي قطعوا - بما أعطاهم الله - صِلتَهم بالآخرة، قصَّ علينا شأن صاحب الجنتين الذي افتخَر بهما على صاحبه، وقال له: ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: 34 - 36]، وكانت عاقبته أنْ: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 42]. وقصَّ علينا أمْر قارون، أنعم الله عليه بمالٍ تَعجِز الجماعة القوية عن حمْل مفاتح خزائنه، ونسِي حقَّ الله فيه، واعتقد - طغيانًا - أنه من مَحض سَعْيه، سِيقَ إليه باستحقاق ذاتي، فدارت عليه الدائرة، وما هي إلا عشيَّة أو ضُحاها، حتى كان هو ودنياه في طي صُحف القضاء العادل؛ ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴾ [القصص: 81]. وهكذا نجد القرآن يُحذِّر منهج التكالُب الشخصي في الحياة، ويجعل عاقبته الخِزي والدمار والنَّكال. وكما تَسقط المجتمعات من سلوك أفرادها مسلكَ التبتُّل، تسقط أيضًا من سلوكهم مسلكَ الطغيان المالي، الذي يقطع صلة الإنسان بأخيه، وصِلته بالله، ثم تكون عاقبته خُسران الدنيا والآخرة؛ ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 15 - 16]. وبعدُ: فهذان فرضان، كلاهما مانع من تكوين المجتمع الفاضل؛ فعلى المصلحين والمُقوِّمين المُرشدين، بذْلُ الجهود في تطهير النفوس من فكرتي التبتُّل الديني والطغيان المالي، وأن يأخذوا بها إلى الحد الوسط الذي رسمَه القرآن، ودعا إليه، وجعَله منهج الحياة الطيِّبة، وسبيلاً للمجتمع الفاضل.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |