التسامح مظاهره وآثاره - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4994 - عددالزوار : 2114037 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4574 - عددالزوار : 1392107 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 41 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 28 )           »          صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 171 )           »          الخوارج تاريخ وعقيدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 32 - عددالزوار : 2369 )           »          بدعة رد السنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          خَواطر حَول أزمة الخُلق المسلم المعاصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12 - عددالزوار : 78 )           »          الأمير سيف الدين المشطوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          فصول من التآمر اليهودي على النصرانية والإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > ملتقى الحوارات والنقاشات العامة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21-08-2020, 03:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,970
الدولة : Egypt
افتراضي التسامح مظاهره وآثاره

التسامح مظاهره وآثاره


ميمونة الناصر








لقد كتب الله - سبحانه - أن يكون الإسلام هو الدين الخالد حتى يرِث الأرض ومن عليها، كما كتب أن يكون هو الدين الذي يجب على كل البشر أن يعتنقوه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19].

كما أمر الله المسلمين بالدعوة إليه بالحسنى، وأخْذ الجزية ممن لم يقبل الدخول في الإسلام، لا قصدًا للمال ذاته، وإنما لتتهيَّأ القلوب لقَبول الإسلام، ولتشملهم أحكامه السَّمحة، فإذا ما تذوَّقوها، كان ذلك عاملاً قويًّا في قبولهم له، ودخولهم فيه، وإن لم يكن ذلك كانت المرتبة الأخيرة وهي القتال؛ حمايةً للدعوة الإسلامية، وإزاحةً للعراقيل التي تعوق مسيرتها.

فللموضوع أهمية كبرى لحاجة المسلمين إلى العمل بهذا الخُلق الذي له أكبر الأثر على وحدتهم وتماسُكهم، وقلة النزاع بينهم، وكذلك الحاجة إلى تصحيح موقف فئة من المسلمين في هذا الموضوع؛ إما إفراطًا في جانب العلاقات مع غير المسلمين، حتى يرى المقاطعة التامة لهم، وإما تفريطًا؛ حتى يرى البعض مساواتهم بالمسلمين، وأيضًا الحاجة إلى تصحيح ما لدى غير المسلمين من فَهم خاطئ في تعامل الإسلام مع غير المسلمين، ومعرفة ضوابط ذلك.

فالتسامح في اللغة أصلها: "سمح"، فالسين والميم والحاء أصلٌ يدلُّ على سلاسة وسهولة.

والسماحة والسماح: الجود، سمح به؛ أي: جاد به، وسمح لي: أعطاني، فالمسامحة: المساهلة.

وفي الاصطلاح يمكن أن يقال: هو ما تميَّز به الإسلام في تعامله من بذل ما لا يجب تفضُّلاً[1]، من لين وسهولة، وكرم وجُود وعطاء، ورفع مشقة، والقيام بالعدل معهم.

مظاهر التسامح في العبادات:
التيسير والتسهيل أصل في الإسلام، ولا شك إذا كان ذلك في حق الله المبني على المسامحة، ومظاهر ذلك:
1- قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ [النساء: 43].

يتيمَّم مريد الصلاة إذا كان مريضًا مرضًا يتعذَّر معه استعمال الماء، أو يضر الجرح، أو يؤدي إلى بطء الشفاء، أو كان مسافرًا في صحراء أو غيرها على الطرقات العامة، وتعذر استعمال الماء؛ لفقْده أو لمشقة السفر؛ سواء أكان المريض أم المسافر محدثًا حدثًا أصغر، أم حدثًا أكبر، فيكون التيمم جائزًا بدلاً عن الوضوء أو الغسل لأعذار ثلاثة: السفر، والمرض، وفقْد الماء، وهذا مظهر من مظاهر التسامح والتيسير في أداء الصلاة، ودليل على أن الإسلام يدفع الحرج والمشقة عن الناس؛ لذا ختَم الله تعالى الآية بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ [النساء: 43].

يعفو حيث سهَّل الصلاة للمعذور من دون وضوء ولا غُسل، والله يقبل العفو - أي: السهل - ويغفر الذنب - أي يستر عقوبته - فلا يعاقب المصلحين التائبين، ومن كان عفوًّا غفورًا، آثَر التسهيل ولم يُشدد؛ لأن الله رؤوف رحيم بعباده.

2- قال تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184] رخَّص الله للمسافر الفطر في السفر وهو أقوى على الصوم من المريض، وهذا من يُسر وسماحة الإسلام.

3- قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 119].

فمتى وقعت الضرورة بأن لم يوجد من الطعام عند شدة الجوع إلا المحرَّم، زال التحريم، وهذه قاعدة عامة في يُسر الشريعة الإسلامية، الضرورة تُقدَّر بقدرها، فيُباح للمضطر ما تزول به الضرورة.

4- قال تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196].

من يسر الشريعة أن المُحرم لما احتاج إلى ترفه بفعْل بعض محظورات الإحرام[2]، فله ذلك؛ كحلق الشعر، ولبس المخيط، وتغطية الرأس، ولكن عليه الفدية، وهي ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، فيخيَّر بين هذه الثلاث، وهذا من رحمة الله بعباده.

5- قال تعالى: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ﴾ [النساء: 101].

أجمع العلماء - رحمهم الله تعالى - أنه لا يقصر في السفر إلا الصلاة الرباعية؛ الظهر، والعصر، والعشاء، واتَّفق الفقهاء على أن المغرب والفجر لا تُقصران، يؤخذ من هذا يُسر الشريعة وسماحتها.

6- قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145].

عن عكرمة قال[3]: لولا هذه الآية: ﴿ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ﴾، لاتبع المسلمون من العروق ما تتبَّع منه اليهود، وفي ذلك عسر يأباه يُسر الشريعة السمحة, فلا جناح في أكل اللحم المذكَّى مع وجود بقايا الدم فيه؛ لأن ذلك معفوٌّ عنه شرعًا.

7- ومن يسر الشريعة التدرُّج في التشريع والتمهيد له، وتخفيف بعض الأحكام بالنسخ ونحوه؛ كما في تحريم الخمر.

8- عن عبدالله بن بُحينة - رضي الله عنه - أنه قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته، سجد سجدتين، ثم سلَّم بعد ذلك"[4].


من رحمة الله بعباده أن شرع لهم ما يَجبرون به النقص الذي يقع في عباداتهم، ومن ذلك مشروعية سجود السهو، فهو من يسر الشريعة وسماحتها، وله أحكام كثيرة أخذها العلماء من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - القولية والفعلية[5].

9- عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أيها الناس، قد فرض عليكم الحج، فحجوا))، فقال رجل: "أكل عام يا رسول الله؟"، فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو قلت: نعم، لوجَبت، ولما استطعتم))[6].

الحج لا يجب في العمر إلا مرةً واحدةً، وهذا من يُسر الشريعة وسماحتها؛ إذ لو كان الحج كل عام، لشقَّ على العباد، ولَما استطاعوا ذلك بلفظ رسول الله: ((لو قلت: نعم، لوجَبت، ولَما استطعتُم)).

10- عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّي عليكم، فأكمِلوا عدة شعبان ثلاثين))[7].

النبي - صلى الله عليه وسلم - علق الحكم بالرؤية لا بالحساب، والرؤية يدركها الخاص والعام، والجاهل والعالم، وهذا يدل على يُسر الشريعة وسماحتها.

مظاهر التسامح في المعاملات:
الإسلام حث على المسامحة ورتَّب عليها الثواب وحُسن المآب، ومظاهر ذلك في:
1- قال تعالى: ﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 178].

كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدِّية، وكان في النصارى الدِّية، ولم يكن فيهم القصاص، فأكرم الله هذه الأمة المحمدية وخيرها بين (القصاص، والدِّية، والعفو)، وهذا من يُسر الشريعة الغراء التي جاء بها سيد الأنبياء.


2 - قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].

الآيات صريحة في معاملات الناس بعضهم مع بعض، فحمَل السيئات على ما يسوء من معاملة الناس، ثم نادى بالعفو ورغَّب فيه بأنَّ لمن يعفو الأجر والمثوبة.

3- قال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106].

أخبر الله - سبحانه - أن ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ ﴾،فعليه غضبٌ من الله، وله عذاب عظيمٌ، فأما مَن أُكره، فتكلَّم بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان؛ لينجو بذلك من عدوِّه، فلا حرج عليه؛ لأن الله - سبحانه - إنما يؤاخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم.


4- قال تعالى: ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 237].


أي: إذا طلقتم النساء قبل المسيس، وبعد فرْض المهر، فللمطلقات من المهر المفروض نصفه، ولكم نصفه، هذا هو الواجب ما لم يدخله عفو ومسامحة، بأن تعفو عن نصفها لزوجها، ورغَّب في العفو، وأنَّ مَن عفا، كان أقرب لتقواه؛ لكونه إحسانًا موجبًا لشرح الصدر، والتسامح في الحقوق، والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة، ولو في بعض الأوقات، وخصوصًا لمن بينك وبينه معاملة أو مخالطة، فإن الله مجازي المحسنين بالفضل.

5- قال تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18].


وصى لقمان ابنه بالأدب في معاملة الناس، فنهاه عن احتقار الناس، وعن التفاخر عليهم، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس، وعدِّ نفسه كواحد منهم، وهذا من مظاهر التسامح والتواضع في الإسلام.


6- عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق؛ حتى يُخيِّره من أي الحور العين شاء))[8].

كظم الغيظ ليس بالهيِّن، بل هو أمر عظيم لا يستطيع عليه إلا العظماء الذين تتوفَّر فيهم صفات العفو والسماحة؛ فلذلك كان الجزاء من جنس العمل، فالإسلام مظهره هو التسامح والعفو، فهو عظيم.

7- قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].

وهذه الآية واضحة جلية في التسامح والعفو، بل الإحسان، إنه دين عظيم!

التسامح مع الأديان الأخرى:
ضوابطتسامحالمسلمينمعغيرهم:
أولاً: ضوابط تجاه الدين الإسلامي:
أ- منجهةالعقيدة: لا يُتصوَّر أن يُقبل من شخص ينتمي إلى دولة وعقيدة الإسلام، أن ينتقص دين هذه الدولة، أو يشكك فيها؛ سواء في الذات الإلهية، أو في رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أو ما جاء به من أحكام وشرائع، فالله - عز وجل - يقول: ﴿ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ [التوبة: 12]، فلا يجوز الدعوة إلى غير عقيدتنا الإسلامية، فالكفار في دولة الإسلام يُمنعون من إظهار عقيدتهم، فكيف بالدعوة إلى غيرها؟!

وإن ذلك واضح في محاربة الدعوة الإسلامية؛ ولذلك جعل عمر - رضي الله عنه - من الشروط التي اشترطها مع نصارى الشام ألا يُظهروا شركًا.

الدعوة إلى هذه الأديان الباطلة، لا شكَّ أنها من أعظم الانتقاص لله ولكتابه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولدينه.

ب- ضوابط تجاه شريعة الإسلام:
من جانب:
1- المعاملات المدنية: إن أهل الذمة يُلزمون بالخضوع في أمور التعاملات مع المسلمين وفيما بينهم بحكم الإسلام الذي به ينعم الجميع بالعدالة والأمان؛ قال تعالى: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾[المائدة: 42].

بيَّنت الآية أن أهل الذمة يحكمون بحكم الإسلام في الجملة، وهذا مقتضى انضمامهم إلى دولة الإسلام.

2- الأحكامالجنائية: هذه الشريعة السمحة إقليمية التطبيق، فهي تطبَّق في دولة الإسلام على مَن رضِي الإقامة بها؛ سواء ممن آمَن بالإسلام، أم لم يؤمن به؛ حتى يعمَّ الأمن والاستقرار في ربوعها، فلا تطبَّق على فئة دون الأخرى، وعلى هذا فالقانون الجنائي الإسلامي يطبق على جميع الجرائم التي تقع في دار الإسلام، بغض النظر عن ديانة مرتكبها.

ثانيًا:ضوابط تجاه المسلمين:
أ- عدممجاهرتهمبمنكرهم:
الإسلام دين سماحة وحرية وتيسير، فلا يقبل أن يكون هذا التسامح والتيسير ضارًّا بدعوته؛ كل ذلك حفاظًا على أهل ملَّته، ورِفعة لمنهجه، فلو أظهر أحد أهل الذمة شيئًا من منكراتهم بين المسلمين، لعُدَّ ذلك استخفافًا بالمسلمين ودينهم، أما ما يعتقدون حُرمته، وهو حرام في ديننا، فإنهم يمنعون منه حتى في أماكنهم الخاصة كتحريم الربا؛ قال تعالى: ﴿ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ﴾ [النساء: 161].

ويلحق بذلك ما يراه المسلمون منكرًا ويرونه أمرًا تعبُّديًّا، فلربما يتأثر بهذه المجاهرة بعض المسلمين، خاصةً ضعيفي العلم والتديُّن، أو على الأقل زعزعة ما لديهم من مبادئ وثوابت.

ب- اجتناب ما فيه ضرر على المسلمين:
سواء كان ضررًا أمنيًّا - فالذي يجب على الذمي أن يبتعد عن كل ما يضر بالأمور الأمنية للمسلمين الذين منحوا أهل الذمة الجوار، وقاموا بما يجب عليهم في هذا الجوار من التعامل الحسن - أم من الأضرار الأخرى، فلا يتعدَّى أحد منهم على مسلم ولا العكس، وعدَّ بعضُ أهل العلم الضرر في غش المسلمين، وفتنة المسلم عن دينه، والإيذاء البدني والمالي لأي مسلم، والإيذاء النفسي - كسخرية أو سبٍّ، أو قذفٍ أو إهانة، وأيضًا التعدي على نساء المسلمين بزنا أو قذفٍ - فهذه الأمور كلها واضح ضررها على المسلم.

ج- الالتزامات المالية: كالجزية والخراج والعشور:
فالجزية: هي ضريبة مالية تُفرض على رؤوس أهل الذمة كل عام بشروط مخصوصة، أما الخراج: هو ما وضع على رقاب الأرضين من حقوق تؤدَّى عنها.

والعشور: ضريبة تجارية تُفرض على أموال المسلمين والذميين والمستأمنين المعدة للتجارة، ومما يميز العشور عن الجزية أو الخراج، أنها تؤخذ من الذميين والمستأمنين بخلاف الجزية والخراج، فهما مختصان بالذميين.

صُوَر من تسامح المسلمين مع غيرهم:
عهد النبي لبني زرعة وبني الربعة من جهينة أن الرسول كتَب لبني زرعة وبني الربعة من جهينة: ((أنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وأن لهم النصر على مَن ظلمهم أو حاربهم، إلا في الدين والأهل، ولأهل باديتهم - من بَرَّ منهم واتقى - ما لحاضرتهم))[9]، هذا أنموذج من سماحة المسلمين مع غيرهم، والتعايش السلمي والأمن والمناصرة.

في وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل الذمة، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة))[10].

مرَّ عمر بن الخطاب بباب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخًا كبيرًا ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن؟ قال: فأخذه عمر بيده، وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: "انظر هذا وضُرباءه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته، ثم نَخذله عند الهرَم".

سماحة السلطان العثماني محمد الفاتح مع نصارى القسطنطينية حينما فتحها، فأعلن أنه ضمن لهم حرية تديُّنهم وحِفْظ أملاكهم، فرجع من النصارى من كان مهاجرًا منهم[11].

آثار التسامح النفسية:
التسامح له أثر عظيم على الفرد؛ من سلامة الصدر، والمحبة، والتعاون، والإخاء، وله فوائد صحية، وشاهد ذلك ولاحَظ أثره علماء الطب السلوكي، قال بعضهم: إذا أردت أن تُقلل من ضغط دمك، وأن تخفِّف التوتر في حياتك، فعليك بالصفح والتسامح مع الآخرين، وهذه دراسة أخرى أقيمت في جامعة تينيسي الأمريكية - لتحديد آثار التسامح على صحة الإنسان - على دراسة 107 من طلاب الجامعات المختلفة، ملؤوا استبيانات حول مناسبتين شعروا فيهما بالخداع والخيانة، بحيث تم قياس معدل ضربات القلب، وضغط الدم، والتوتر في عضلة الجبهة، وشدة التعرُّق.

ووجد الباحثون أن 20 طالبًا ممن اعتبروا متهورين وغير متسامحين، أظهروا ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات ضغط الدم، وزيادةً في التوتر العضلي في الجبهة، مقارنةً بالعشرين الآخرين الذين اعتبروا الأكثر تسامحًا.

وأشار الخبراء إلى ضرورة عدم إساءة فَهم المعاني السامية للصفح والتسامح، فهو ليس نسيان ما حدث أو التغاضي عنه أو الإذعان، بل هو التخلي عن المشاعر السلبية بصورة وديَّة ومتابعة الحياة، مشيرين إلى أن هذه الدراسة تضيف إثباتًا جديدًا على أن للمشاعر السلبية تأثيرات ضارةً على الصحة العامة.

ويقول علماء النفس: إن التسامح عبارة عن إستراتيجية تحمُّل تسمح للشخص بإطلاق مشاعره السلبية الناتجة عن غضبه من الآخرين بطريقة ودية.

وله آثار على شخصية الفرد؛ حيث يزيد من تقدير الذات، وقوة الشخصية، ويملأ علاقته بالآخرين بالمحبة والجود والسخاء، ويرسم على مُحيَّاه البشاشة والابتسامة، ويكفي بها حصول محبة الله؛ قال تعالى: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22].

فالتسامح لغة إسلامية أصيلة، ومعنًى أخلاقي شرَعه الإسلام، وحث عليه قبل أن تولد فلسفة التسامح الغربي.

آثار التسامح الاجتماعية:
التسامح من أعظم قِيَم التعايش؛ بحيث يتسامح الإنسان ويتغاضى، وتَسامح، يُتَسامح معك، فإنه سيكون يومًا ما هو أيضًا بحاجة إلى أن يتسامح الناس معه.

قال السيد أبو داود في مقال له[12]:
التسامح يزيل سرطان الكراهية من نفوس الناس، ويقدم لهم الدليل أيضًا على أن العظماء من الأنبياء والمصلحين والمؤمنين، ذاقوا المر من أجل التسامح، ودعوا إلى نبذ التعصب والعنف الذي يعمي العقول قبل العيون، ويولد المشاعر السلبية تجاه أبناء البشرية عمومًا، ثم ينتهي إلى نبذ الآخر ولو كان من نفس الدين، وإن اختلف معه في المذهب، وعلينا نحن البشر أن نتحلى بروح التسامح الذي هو التصالح مع الأحقاد الدفينة، فالتسامح هو فعل من مجنيٍّ عليه تُجاه الجاني، وأساسه التحول من موقف سلبي إلى موقف إيجابي.

الأسلوب السلمي ومبدأ العفو والتسامح، يؤصلان المحبة والمودة والتواصل الدائم بين المجتمع، بعكس القسوة والغلظة، فإنها تزيد من بث الشحناء والنفرة في المجتمع، وتقتل التواصل والألفة والمحبَّة، هذا المبدأ مهم جدًّا في مسألة صلة الرحم؛ ذكر الشيخ سلمان العودة في مقالة له عن صلة الرحم[13]: "نتجاوز قليلاً الأسرة الضيقة ونحن نتكلم عن التسامح، وهو مبدأ كبير جدًّا، والمستفيد الأكبر هو المتسامح، وكثير من الناس يفضلون ألاّ يتسامحوا بسرعة، وأن يأخذ التسامح وقتًا، بل بعض الناس لا يتسامح إلا بعدما يشعر بقرب الأجل، فكان بعض الناس بينهم خصومة وصلت إلى حد ضجة إعلامية، وعندما مرض هذا الإنسان وشعر بقرب الأجل، أوصى أن يأتي فلان، واعتذر له قبل أن يموت بثلاثة أيام!! لماذا لا نقدم التسامح في وقت مبكر؟! أحيانًا كثير من الحالات من التسامح أن تتكيف معها، لا أن تصنع معها مشكلة".

فالتسامح قيمة عظيمة جاء بها هذا الدين القويم من ربٍّ عليم حكيم، فهذا الخلق مزكٍّ للنفوس، مطهِّر للقلوب من أدران الخسائس، يساعد المجتمع على التكاتف والتكافل، وهكذا دين الإسلام، رحمة بالبشرية رأفة بهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

حيث راعى الله فيه النفوس، وما جبَل عليه الخلْق، فجعل تكاليفه غير زائدة على قدرتهم، بل إنه من أجل ما يحمله من عناصر البقاء والعموم لجميع البشرية، ترَك الآصار والأغلال التي ضربها على بني إسرائيل جزاءَ ظُلمهم وعدوانهم.

فحري بنا نحن - معاشر المسلمين - أن نتخلَّق بهذا الخلق السامي الحضاري.

هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] التعريفات؛ للجرجاني (1/ 160).

[2] شرح سنن أبي داود) 121 - 240)؛ لعبدالمحسن العباد: (9/ 484).

[3] الدر المنثور في تفسير المأثور: (6/ 263(.

[4] رواه البخاري) 1225(.

[5] شرح سنن أبي داود (121 - 240)؛ لعبدالمحسن العباد: (6/ 204).

[6] رواه مسلم (1337).

[7] رواه البخاري (1909)، ومسلم (1080).

[8] رواه أحمد (3/ 440)، وأبو داود (4777)، والترمذي (2021، 2493)، وابن ماجه (4186)، من حديث سعيد بن أبي أيوب، وقال الترمذي: حسن غريب.

[9] أورده ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 274 - 275).

[10] أخرجه أبو داود (3052)، والبيهقي (2950)، قال السخاوي: وسنده لا بأس به. المقاصد الحسنة (1: 617)، وصححه الألباني؛ انظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1: 185) رقم الحديث (446).

[11] انظر: تاريخ الدولة العلية العثمانية (1/ 165).

[12] موقع المسلم التربوي، مقال بعنوان: "الصفح والتسامح، وأثرهما الإيجابي على نفسية المؤمن"؛ للسيد أبي داود.

[13] موقع الإسلام اليوم، مقال بعنوان: "مقترحات معاصرة لتفعيل صلة الرحم"؛ للشيخ سلمان العودة.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 77.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 76.04 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.15%)]