|
ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() التعصب د. بليل عبدالكريم التقليد: من مقومات العصبيَّة بُعد العقليَّة النفسيَّة المهيئة أصلاً؛ لعدم الرُّجوع إلى الخلف، ظاهرة التقليد، فلا ينبت غلو تقليد إلا من بُذور تعصُّب، والتعصُّب الفردي يتكاثَرُ ويتآزَرُ ليحشد من حوله الأتباع، فتَنشَأ الطائفة، ويكون لها هويَّتها التي تدفعها لنصر أصولها والجهاد لإثبات كينونتها وتميُّزها عن غيرها، كيما يشعُر كلُّ طرفٍ في الطائفة بنشوة الانتماء، والخصوصيَّة عن العامَّة، وهنا تطفو الطائفيَّة ذات النزع التعصبيَّة، وهي كاللاحم لأطراف الطائفة، فترصهم كالقطيع، ما شق فردُهم فجًّا إلا تبعوه لا أنَّه على رشد؛ بل لأنهم منهم، وضابطهم هنا الآبائيَّة، والاغتِرار بالكَثْرة، وأنهم على أمَّةٍ من أمرهم، ولو جِيء لهم بأهدى ممَّا هم عليه، إنْ نظروا إليه فُرادَى تبصر العقل الفردي أنهم على ضَلال، وإنْ جمعت عُقولهم كانت للعقل الجمعي الطائفي نزعة استِبداد رأي الكَثْرة، ونزعة العصبيَّة للعصبة، فيتولَّد التعصُّب بالدَّفع والردِّ، وهنا يكون التحلُّق على الرأس، ويَزْداد التمسُّك بكبير القوم كلَّما أعلى النكير على مَن لم يكن منهم، فبلسانه السَّليط على مَن خالَف يُضفي حظوة تزكية على مَن وافَق. منشأ التقليد الغلوُّ في الرجال، وإنزالهم مَقام العِصمة، ومَواضع العظمة، فيرد قول النبي برأي الولي، وقول العاقل بتخريف الجاهل، ويتبنَّى العُقَلاء ما يَرُوق للسُّفَهاء، وهذا من تعظيم أقوال المقلد، وإيثارها على غيرها من الهدى، والرد لها لا دُون تدبُّرها، ومحاكمة الأفكار والمُعتَقدات والمقالات لها، وإن وجد أهدى منها. والتقليد المذموم ما أدَّى إلى التعصُّب لمذهبٍ أو عرق أو تراب، وألزم به الغير، وردَّ ما عَداه اعتقادًا بعِصمة المقلَّد، ويزداد سوءُه، وتحتد خُطورته، إن قاد للنزاع، وأشعل فتيل الصراع، وتجرَّأ على إبطال الحق، وإحقاق الباطل. ولدى أهل النظر التقليد من مَقامات الجمود، وعَلامات التخلُّف والرُّكود، وسببه الولع بمخلَّفات الآباء، حين يعدُّ تعظيمهم من تعظيم أقوالهم ومُعتقداتهم، ولو بدا شُذوذها وبُطلانها، أو جِيء بما هو أهدى منها، فهي إنما قبلت؛ لا لأنها عظيمة البيان قويَّة البرهان، بل لأنَّ قائلها عظيمُ أهلِ المكان، فقوَّتها من قوَّة مركز قائلها، أورد عليها دَلائل وبيان، أو ساقها تشريعًا بلا برهان. وتعصُّب المقلِّدة داعيه النُّفور ممَّا لم يشبَّ عليه الفتى، والعِصمة بما شاب عليه الرأس والقفا. فكأنما الطَّعن في العادة طعنٌ في مُعتقِدها، ولمزٌ في قُدراته الفكريَّة، وتلميحُ بقِصَر نظرِه؛ أنْ كان ذا خطأ مُبين، فيحز في نفسه ردُّ باطلٍ عاشَرَه حينًا من الدَّهر، وقبول حقٍّ نابَذَه أمدًا من العصر، وهذا جليٌّ في أنَّ جلَّ السابقين لاتِّباع الأنبياء فتية آمنوا بهم، وهم زُمرة الناقمين على التقليد؛ إذ لم تشتعل رؤوسهم شيبًا بمقالات الآباء، فترى لهم قابليَّة نفسيَّة وإدراكيَّة؛ لردِّ ما قام بلا دَليل ولو اشتهر، ولهم فسحةٌ في مُراجعة الموروثات، وهمَّة للاستِدراك على العادات، وهذه النفسيَّة تبرد وتندر في الكهول، وتفتر في شيبة الرأس. وهذا ما نصُّه المبين ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 170]، ﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23]. فأهل التَّرف أهلُ استبدادٍ بالرأي، واعتدادٍ بالنفس، يردُّون ما خالف أعرافهم، وينقمون على مَن حَطَّ من آثار آبائهم، فالمقدس حجَّته إجماع الآباء، والمدنس ما لا تهواه أنفس الأبناء، وواحدهم يعضدُ رأيه، عجبه بجسمه، ويصوب فكره؛ أنْ كان ذا مالٍ وبنين، ولو علم أنَّ قوله لا أبا له؛ إنما هو زنيم. ولا تزال نزعة تقليد السابقين في قلوب اللاحقين، وإنْ كانوا يتفاوَتُون فيما بينهم، فمن الأفكار ما أضفت عليها الأجيال قداسةً تجعل لها سلطانًا على العقول، يدفعها إلى اختراع أقيسة لنُصرتها، والمجادلة عنها، والولاء والبراء عليها، وكل مغلول بتركةِ الآباء[15]. ولا يعدُّ اتِّباع الأنبياء تقليدًا، ولا يذم تقليد العامي وطالب العلم للعلماء، بل هو من اتِّباع أهل الذِّكر؛ لأهليَّتهم في بيان هدي الإسلام، والأصل لكلِّ مَن أُوتي آلةَ الاجتهاد أنْ يبحث ويُحرِّر، ومَن أُوتي الفهمَ أنْ يتدبَّر، ويلزم مَن لا علم له ولا قُدرة لتحصيله بتقليد العلماء، غير أنَّه يحرم التعصُّب والمنابذة لأجل ذاك خاصَّة في الفقهيَّات، ويحرُم على مَن تبيَّن له بطلانُ قولٍ أنْ يعتمده تقليدًا لعالمٍ أو إمامٍ، ويدرأ عرض الخلاف عن العامَّة، ويبين لهم قدْر ما ينفعه في مَعاشهم ومَعادهم، وطالب العلم عليه معرفةُ دليل مَن يتبع قوله وفهمه. دين الملوك: وللعصبيَّة عصبةٌ، ومبلغ منتهى العصبة دولةٌ، والناس على دِين مُلوكهم، ومَن ولي سلطة تولَّى دِين الناس بسُلطانه، ولذاك مَآرب من الملأ، كلٌّ بقدر نَواياه، فمنهم مَن يبغي الاستقرار، ودرء الطائفيَّة التي قد تشتَّت الأمر من بين يديه، أو يريد جمْع أمر قومه على ما لا يخالفهم فيه، فلا يختلفوا عليه، فتجده يشدُّ ركاب الدعاة لمذهبه، ويبني المعاهد، ويشيد المدارس، وينشر المؤلَّفات، ويبعث الوعاظ والدُّعاة. وآخَر يُكرِهُ الناس عليها تعصُّبًا منه، ويحشد من حوله من يزينون ذلك، ويقتلعون له الحجج، ويحاجُّون عن السُّلطان من عارض، فينتفون شَواذ القول ممَّا دفن في مَقابر الباطل، وينقبون عن رُخَصِ المذاهب، ويلفقون بين الأقوال دُون أيِّ تناسُب. "علمت أنَّ التعصُّب على قدم وُجوده حادثٌ طارئٌ على الإنسان، تولَّد عن مَفاسد الرِّئاسة في الجماعات. وتأصل بالعادة والتقليد حتى صار في النُّفوس من الملكات، يظهَرُ ذلك لمن تدبَّر قدم التعصُّب في جنب خُروجه عن الطِّباع، ويعلمه مَن تأمَّل أحوال الرئاسة في صُدور هيئات الاجتماع"[16]. ومثال ذاك دولة العُبَيديِّين الإسماعيليَّة الباطنيَّة، فقد حشَدُوا لمذهبهم دُعَاة من أصقاع العالم الشيعي، وأكرَهُوا الناس على معتقدات وعادات، وقتلوا وحبسوا وعذَّبوا ونكلوا بِمَن عارضهم من عُلَماء، وأقاموا الأزهر جامعةً تُفاخَر بها زهراء قرطبة، وشيَّدوا ونظَّموا جماعات دعويَّة لنشْر مذهبهم، ونفْث شُبَهِهم، وربوا ناشئةً على ذلك، ومنعوا السُّنَّة وأهلها أنْ يلفظوا ببنت شفة، وروَّعوا مَن خالَف بالتنكيل، حتى أكرهوا على السُّكوت، وأقاموا لذلك مُنظَّمات هدَّامة، حبكة إداراتها وتنظيماته بأعجب سياسة ذاك الزمن، وصاروا مدرسةً في التنظيم السِّرِّي الدِّيني، وأكاديميَّة في الاختراق العقدي، ومؤسَّسة للإرهاب الفكري. حتى دَرَسَتْ معالم الإسلام، ولُعِنَ الصحابة والأئمَّة الأعلام، وعفا الزمن عن ذِكر السنن أو تلاوة القُرآن، وأُبِيحت المحرَّمات في أيِّ مكان، وكاد يطلع على القوم مزدك أو ماني أو ديصان، يصيحُ بالقوم أنَّ هذا هو ديني، وأنا الأب وهذا ابني، فلِمَ يلحق بغيري؟ ثم أزال الله الغمَّة، وبعَث بصلاح الدين الأيوبي رحمةً بالأمَّة، فقَضى على دولتهم سياسيًّا، ثم هدَم نحلتهم فكريًّا، وكان أشعريَّ المعتقد، صوفيَّ السُّلوك، شافعيَّ المذهب؛ فنشَر المدارس والمعاهد، وجلب العلماء والدعاة، وفرَض العقيدة الأشعريَّة والمسلك الصوفي والمذهب الشافعي، لا يقبل بغيره في مملكته، حتى رَماه البعض بالمغالاة في إكراه الناس عليه، خاصَّة أنَّ بينَ السُّنَّة مَن يعارض ذلك. وقاد حملة علميَّة عقديَّة لتطهير بقاع الشام ومصر من عفن الإسماعيليَّة، وتنظيف مُعتَقد الناس من بَراثن الباطنيَّة، فكان للمهمَّة الزوايا والطرق الصوفيَّة، والمدارس والمعاهد الأشعريَّة، وما هي إلا سنون وعادت السُّنَّة لدِيارها، وإن ترك الإسماعيليَّة بعض العادات بين العامَّة، صعب قلعها، بل تسرَّبت لفُضَلاء من أهل السُّنَّة، وتكلفوا لها أدلَّة حجيَّتها. وطلبُ الرياسة من مسببات البغي، والنيل من الآخَرين وانتقاصهم، وهذا يقودُ أحيانًا لحد التنظير وتكريس مناهج للدِّفاع والهجوم، فتُخاض حملات كلاميَّة، ومعارك فكريَّة، وكلَّما اشتدَّ أوارها، وطال زمانها، قَوِيَ حجاجها، وتقعَّر لجاجُها، فيُتفنَّن في الأدلَّة، ويبرع في تطوير المسالك، وتتولَّد أفكار ومَقالات، وتقوى المدارك، وتنشأ تنظيرات أكثر حبكةً وأدق صنعةً، حتى يكتمل ويتشبَّع البحث والتقعيد، فيولد المذهب بكامل قُواه، وقد تترَّس بمنهج وخَصائص وقواعد، وكسب أهله خبرات القتال، وعرفوا مَيادين النزال، فدروا مواطن الزلل، وأبصَرُوا مواقع الخلل، فأصلحوا الثُّغور، وعدلوا الأمور، فيخلفهم جيل ما عليه إلا حمل ما ورث بعد أنْ نضج، فإنْ كانت له به طاقة صار به، وإلا قام عليه غيرُه من المذاهب؛ فيبيده هو ومَن تشدَّد له. ومثله ما بين المرابطين والموحِّدين، فالأولى سنيَّة شاعَ فيها فقه الفروع والتقليد، والثانية تومرتيَّة شاع فيها فقه الحديث والاجتهاد، ودولة الموحِّدين قامت بإسقاطها للمرابطين على عقيدة رأس الحركة المهدي بن تومرت، فنشرتها وفرضَتْها عنوةً بحدِّ السيف، وهي عقيدةٌ تكفيريَّة. ومنها الدولة العثمانيَّة الصوفيَّة الحنفيَّة مع مصر الأشعريَّة الشافعيَّة، وشمال المغرب العربي الأشعري المالكي، والسعوديَّة السلفيَّة الحنبليَّة. وفي الملل الأخرى أمثلةٌ كثيرة؛ كفرض النصرانيَّة من الروم بعد تنصُّر الإمبراطور قسطنطين، والكاثوليكيَّة على أوربا، والإنجيليَّة على إنجلترا من ملكها هنري الثامن. وتغيَّرت توجُّهات الملوك تغيُّرًا حتى في العلوم الطبيعيَّة، فكثيرٌ من الملوك كان له ولعٌ بالفلك وآخَر بالطب، وآخَر بالصِّناعات والاختِراعات، فيُوفِّر لها ما لم يكن لغيرها من قبلُ. والطبقات السياسيَّة الحاكمة توسع من تسويق نظريَّاتها، وتُكثِّف من جُهود البرهنة على صَوابها، وتُكثِّف من الجهات القائم على تدعيم مُقرَّراتها، مثال هذا الأنظمة الإمبرياليَّة، والشيوعيَّة، والملكيَّة، والعلمانيَّة، والدِّينيَّة، وصورها أجلى من أنْ تسمى. وطلب السُّلطان ممَّا ابتُلِي به المسلمون بعد ثاني الخلفاء، وإنْ كان هذا الأمر عامًّا في تجمُّعات البشَر أجمعين، والأمم والأقوام كلها، غير أنَّ قوَّة إيمان الصحابة وتحكيمهم للنُّصوص قبل هوى النُّفوس، درَأ عنهم فتنَ زَوابع عراك التيوس، لاعتِلاء الرُّؤوس، وهذا ما لم يكن بعد مقتل الخليفة عثمان - رضِي الله عنه - فصاغت الحزازات السياسيَّة نعرات عِرقيَّة، تحلَّت بشعارات عقديَّة، وتترَّست بنِداءات إيمانيَّة، فأنبتت أُولَى الفِرَقِ في الأمَّة الإسلاميَّة، الخوارج ثم الشِّيعة، ثم صحبها دَوافع الخلاف البشريَّة العامَّة؛ من عَصبيَّة وتعصُّب وتقليد لقول الطائفة، وتفاوت المدارك والأمزجة والرَّغبات، فصنعت آراء في قَضايا ساعتها، وطرحت مسائل تستشكلها أيَّام تكوُّنها، ثم تتجمَّع مَقالاتها، وتنسق مَقولاتها، لتنسج نسقًا فِكريًّا، يضطرُّها لتبنِّي منهج، يورد كلَّ ما يتدفَّق فيها إلى واديها العَقدي، ويستقر على قواعدها، وما خالَفها فهو زبدٌ يذهب جُفاء عن أوعيتها. وهنا يشتدُّ الخلاف، ويقوى النِّزاع الفكري والعقدي، وكل يكفُّ الضَّربات عن حِزبه، فتقوى أدلَّة الخصوم، ويكثر البحث عن الثَّغرات، وتتقوَّى أدلَّة الهجوم، وتستجلب الدلالات، وتبتكرُ المناهج والمسالك والمقدمات. اختلاف الأمزجة: اختلاف نفسيَّات وطَبائع البشر، وتتنوَّع محدَّداتهم النفسيَّة ما بين ليِّن هيِّن، وما بين قاسٍ غليظ الطبع، وما بين مُتوسِّط بين هذا وذاك، يخالف بين سُلوكهم وتصوُّراتهم، والمتأمِّل في حركة "التفرُّق" التي حصلت في الأمَّة الإسلاميَّة، والناظر في سمات الفرق؛ كحركات الغلو والتكفير وغيرها في القديم والحديث، يجد أنَّ النفسيَّة "الغالية" هي نفسيَّةٌ مُهيَّأة ابتداءً إلى تقبُّل "الغلو"، فبدايتها مع البُعد النفسي، ثم تتكلَّف في تأصيل غُلوِّها بتلفيقاتٍ فكريَّة؛ حتى تطمئنَّ أنَّ طريقها صحيح، فالخوارج قديمًا أو حاليًّا يمتازون بالجَفاء في المُعامَلة، حتى قبل اعتِناقهم للآراء الخارجيَّة، فخَوارج العصر الأوَّل استَهوَتْهم فِكرة البَراءة من عُثمان وعلي وبني أميَّة؛ حتى احتلَّت أفهامهم، وملكت عليهم عُقولهم، وسدت كل باب للمُراجعة، فمَن تبرَّأ من عثمان وعلي وطلحة والزبير، سلكوه في جمعهم، وأضافوه لعدهم، وتسامَحُوا في مَبادئ أُخَر، كانت حال التَّدقيق أخطر من البَراءة تلك، ولما خرج ابن الزبير على الأمويين ناصروه، فلمَّا علموا أنَّه لا يتبرَّأ من أبيه، ومَن تبرَّؤوا هم منه نابذوه، وشهدوا لعمر بن عبدالعزيز بالحكم الراشد والعدل في الرعيَّة، لكنْ حال بينهم وبين القبول بالطاعة له البراءة. هذا علنًا، أمَّا في قَرار أنفُسِهم، فقد حالَ بينهم وبين أولئك الصحابة والأمويين من قريش، عصبيَّتهم القبليَّة، التي لا يرضون بغيرها، ولا يقبلون إلا مَن هو منهم عرقًا لا دينًا. والأُوَل منهم كانوا من أهل البادية في فقرٍ مُدقِع، وشدَّة وبلاء قبلَ الإسلام وبعدَه؛ لبُعدِهم عن القُرَى والحضَر، فلم تتحسَّن أوضاعهم كثيرًا، وأصابَ الإسلام شِغاف قُلوبهم، مع سَذاجةٍ في التفكير، وضِيق في التصوُّر، وبُعد عن العلوم، وعادتهم عدم الولاء لرأس دولةٍ، فهم بدوٌ رُحَّلٌ، كلُّ واحدٍ رئيس نفسه، وإنْ تجمَّعوا جعلوا الرئيس رؤوسًا، ولا الطاعة للإمام الواحد، فميزة الأعراب في الجاهليَّة أنَّ لكلِّ قبيل رأسًا، وتجميعهم تحت لواءٍ واحدٍ كان من المحال، والأعراب أشدُّ كُفرًا ونِفاقًا، وهم إنْ أسلموا لم يؤمنوا، وغالب مَن ارتدَّ في حُروب الردَّة كانوا من الأعراب، ومن اليمن، وهم من القبائل الربعيَّة المعادية للمُضريَّة التي منها قُريش، ومَن تُبَّعٍ أدعياء النبوَّة، لا تصديقًا بهم، بل عصبتهم لقبائلهم. وزهد الخوارج لا عن غنى، بل عن فقرٍ، فليس صبر امتثال بل اضطرار، وطباع سارَتْ عليها حياتهم، فصارت عليها بَداوتهم، فحوَّلوها دينًا لزامًا؛ لذا لا تجد فيهم التكلُّف في تحمُّل قسوة المعاش؛ لأنَّ طباعهم اعتادت قساوة العيش وضَنك الحياة، فتولَّدت لهم طباع خَشنة وعُقول قاسية، وانفِعالات مُتهوِّرة مندفعة، قَلَّ مَن تجده فيهم ذا لين في المعاملة وتفهم. وعلى نقيضهم المرجئة، نبتوا في ترف حضائر العِراق، بين المدنيَّة والعيشة الهنيَّة، لا يدرون ضنك العيش، جلُّهم من أهل الترف، طباعهم بين اللين ودونه، عاشروا أقوامًا وثقافات، وجاوَرُوا طوائف ودِيانات، فتَشابه الأمر عليهم، وكثُر فيهم تشقيق الكلام، وتتبُّع مُتشابه القُرآن، فتَراهُم قلَّ فيهم التعبُّد، وهالهم تكفيرُ مَن ثبت كفرُه؛ لرقَّةٍ في الدين تغلب بعضهم، وتورُّع زائد لدى طائفةٍ منهم، ونفاق مندس بين فرس عاشروا هذا المعتقد في نحلهم، فغلب عليهم التحلُّل من الأحكام، نقيض الخوارج الذين سِيماهم الغلوُّ في العبادات، وسيما المرجئة رقَّة الدين، والخوارج الغلو في التديُّن. فاستحواذ الأفكار قد يكون له عامل وراثي وتربوي، فالفرد من طبْعه أنْ يكره كلَّ ما تعلَّق بما آلمه ممَّا مضى، من كلام أو صور أو روائح؛ لأنَّ تذكُّرها يستحضر وجع ذلك الألم، وطبائعه النفسيَّة تجعله يتقبَّل من الأفكار ما يرتاح لها نفسيًّا؛ لذا كان من القواعد العامَّة أنَّ السُّني يبحث عن الدليل ثم يعتقد، أمَّا المبتدِع فهو يعتقدُ ثم يبحث له عن دليلٍ يكسب ما يهوى شَرعيَّة دِينيَّة، فأفكار الخوارج لها قبول نفسي كبير عند ذوي الأخلاق الضيِّقة والنُّفوس الخشنة الطباع، وإن بعض مَن هدى الله لا يعتقدها، ولكن يجد في نفسه شيئًا ممَّا يُوافق هَواه وطبعه، إلا أنَّه يقدم ما أتى به نبيه على ما يهوى هو، والمرجئة تجدُهم يتهافَتُون على نُصوص الرحمة وسعتها ومغفرته، ويملؤون الحديث بالرجاء، ويتناسَوْن الوعيد، وعندهم الله تعالى غافر الذنب.. ويغلق القوس قبلَ شديد الطول؛ لذا تجدُ مَن يميلُ لهذا الفكر من أهل الترف وأهل الحضر، والكُسالى وضِعاف النُّفوس، ذوي السلوكيَّات المضطرِبة، ومرتعهم كان في مدن العراق، ومنها نبت الإرجاء، ومرتع ضنك العيش وقساوة الطبع بادية الصحراء، وأعراب الحجاز واليمن، ومنها نبَت الخروج، وقِسْ على ذلك الكثيرَ من الفرق والآراء والعقائد، فالشِّيعة كثيرٌ من آرائهم أصلها فارسي بتنوُّع عقائد أهل الفُرس، حتى عقيدة الإمام المعصوم هي من صُلب معتقداتهم في "كسرى الفرس"، والمتصوفة تاريخيًّا منشؤهم بالبصرة بمناطق تجاور طوائف نصرانيَّة رهبانيَّة، وأهل الكلام أساطينهم ليسوا عربًا بل من عجم العراق، وأرض العراق أهلُها أهل فراق، وتشقيقٍ للكلام، وطبعهم كثرة المسائل، واختلافهم على عُلَمائهم، وطينة العراق بها تداخُل حَضارات وامتِزاج مُعتَقدات، فناسَب الكلام جُذورهم الوراثيَّة، وبِيئتهم الاجتماعيَّة، وقابليَّتهم النفسيَّة، وأساليبهم الفكريَّة. [1] "مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم"؛ محمد العبده، طارق عبدالحليم، دار الأرقم - الكويت، ط(2)، 1986، ص39. [2] "أضواء على التعصب"؛ أديب إسحاق، جمال الدين أفغاني، ومجموعة من الباحثين، دار الأمواج - بيروت، ط(1)، 1993، ص7. [3] "لا للتعصب العرقي"؛ عيد الدويهيس، دار الكويت، ط(1)، 1999، ص2. [4] "معجم مقاييس اللغة"؛ أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا؛ تحقيق/ عبدالسلام محمد هارون، دار الفكر - بيروت، ط(1)، 1979، ج4، ص336. [5] "المفردات في غريب القرآن"؛ لأبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني؛ تحقيق/ محمد سيد الكيلاني، دار المعرفة - بيروت، دت، ص3. [6] "العصبية؛ بنية المجتمع العربي"؛ عبدالعزيز قباني، دون معلومات نشر، ص45. [7] "أضواء على التعصب"؛ جمال الدين الأفغاني، ص28. [8] "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"؛ جواد علي، دار الساقي - بيروت، ط(4)، 2001، ج7، ص397. [9] "أضواء على التعصب"؛ أديب إسحاق، ص13. [10] "التطرف الديني والرأي الآخر"؛ صلاح الصاوي، الآفاق الدولية للإعلام - (دون معلومات نشر)، ص10. [11] "أضواء على التعصب"؛ جمال الدين الأفغاني، ص27. [12] "تاريخ الجدل"؛ لأبي زهرة، ص 146. [13] المرجع نفسه: ص147. [14] "الكامل في اللغة والأدب"؛ للمبرد أبي العباس محمد بن يزيد بن عبدالأكبر؛ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي - القاهرة، ط(3)، 1997، ج2، ص120. [15] "تاريخ الجدل"؛ لأبي زهرة، ص10. [16] "أضواء على التعصب"؛ أديب إسحاق، ص15.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |