شرح حديث (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة) - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حِيلة الجَاكِيت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          أدب المعلم مع طلبته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          حكم السمر بعد العشاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          هجر المسلم لأخيه المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          في أيُّ مراتبِ الخُلق أنت؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          بناء المساجد وترميمها: أجرٌ عظيم وأثرٌ باق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          قضايا تُنسي قضايا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          (رجل) صفة مدح أم ذم ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          (ورَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          التحذير من الغفلة عن ذكر الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 27-07-2020, 02:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,200
الدولة : Egypt
افتراضي شرح حديث (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة)

شرح حديث (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة)
الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح




بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن والعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله تعالى يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم:
عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ))، قال: فقرأها رسول الله ثلاث مرارٍ، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: ((المسبل إزاره، والمنان، والمُنَفِّقُ سلعته بالحلف الكاذب))؛ رواه مسلم.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، وملكٌ كذابٌ، وعائلٌ مستكبرٌ))؛ رواه مسلم.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ: رجلٌ على فضل ماءٍ بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجلٌ بايع رجلًا بسلعةٍ بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه، وهو على غير ذلك، ورجلٌ بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفَى، وإن لم يُعْطِه منها لم يَفِ)).

أولًا: ترجمة راويي الأحاديث:
أبو ذر - رضي الله عنه - تقدمت ترجمته في الحديث الثاني والأربعين من كتاب الإيمان.
وأما أبو هريرة - رضي الله عنه - فتقدمت ترجمته في الحديث الأول من كتاب الإيمان.

ثانيًا: تخريج الأحاديث:
حديث أبي ذر أخرجه مسلم حديث (106)، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه أبو داود في "كتاب اللباس" "باب ما جاء في إسبال الإزار" حديث (4087)، وأخرجه الترمذي في "كتاب البيوع" "باب ما جاء فيمن حلف على سلعة كاذبة" حديث (1211)، وأخرجه النسائي في "كتاب الزكاة" "باب المنان لما أعطى" حديث (2562)، وأخرجه ابن ماجه في "كتاب التجارات" "باب ما جاء في كراهية الأيمان في الشراء والبيع" حديث (2208).

وأما حديث أبي هريرة الذي يليه فأخرجه مسلم حديث (107) وانفرد به.

وأما حديث أبي هريرة الآخر فأخرجه مسلم حديث (108)، وأخرجه البخاري في "كتاب المساقاة" "باب إثم من منع ابن السبيل من الماء" حديث (2358)، وأخرجه ابن ماجه في "كتاب التجارات" "باب ما جاء في كراهية الأيمان في الشراء والبيع" حديث (2207).

ثالثًا: شرح ألفاظ الأحاديث:
(ثلاثة لا يكلمهم الله): العدد ثلاثة في الأحاديث لا يراد به الحصر، بدليل أن مجموع من يدخل في هذا الوعيد في الأحاديث الثلاثة تسعة أصناف، وجاء غيرهم في أدلة أخرى؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174]؛ فالوعيد في هذه الأحاديث جاء مثله من الوعيد في كتاب الله جل وعلا.

(لا يكلمهم الله يوم القيامة): جمهور المفسرين على أنه لا يكلمهم كلامًا ينفعهم ويسرهم ويرضى به عنهم، وهناك أقوال أخرى، هذا أصحها والله أعلم؛ لأن الله عز وحل يكلم أهل النار وهم في النار، لكنه كلام ليس على سبيل الرضا، فيقول تعالى: ﴿ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 108].

(ولا ينظر إليهم)؛ أي: لا ينظر إليهم نظرًا خاصًّا، بل يعرض عنهم، فلا ينظر إليهم نظر رحمة ولطف، وإنما النظر العام؛ فإن الله ينظر إلى كل شيء سبحانه.

(ولا يزكيهم)؛ أي: لا يطهرهم من الدنس، ولا يُثني عليهم خيرًا.
(ولهم عذابٌ أليمٌ)؛ أي: مؤلم وموجع.
(خابوا وخسروا)؛ أي: من الخيبة، وهي الخذلان في ذلك الوقت، وهذه خسارة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية.

ما تقدم هو بيان لألفاظ قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليمٌ))، وهي ألفاظ كررها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثلاثة، وأما الأصناف الذين يدخلون تحت هذا الوعيد فسيأتي ذكر كل واحد منهم على حدة في الفوائد بإذن الله تعالى.

رابعًا: من فوائد الأحاديث:
الفائدة الأولى: أحاديث الباب دليل على عظم جرم من وقع في واحد من الأصناف المذكورة، وهذا يدل على أنها من كبائر الذنوب، وعقابه من الله عز وجل بأن يحرم من ثلاث، ويعطى واحدة؛ فيُحرَم من تكليم الله عز وجل له، والنظر إليه، وتزكيته، وله واحدة وهي عذاب أليم، فيا لها من خسارة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية؛ ولذا قال أبو ذر - كما في حديثه -: (خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟)، ولعظم وفظاعة هذه الخسارة كررها النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث أبي ذر ثلاث مرات.

الفائدة الثانية: في الأحاديث إثبات لصفة الكلام لله عز وجل، وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله عز وجل يتكلم، وأن كلامه بصوت وحرف، وأن القرآن كلامه منزل غير مخلوق، وكلام الله صفة ذاتية فعلية؛ فهو متكلِّم سبحانه، ولم يزل متكلمًا، والأدلة على ذلك كثيرة:
أولًا: من القرآن وهي كثيرة، ومنها:
1. قوله تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164].
2. وقوله: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 6].
3. ويصح أن نقول أيضًا، وهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة بأن الله يتكلم (كما سبق في الأدلة)، ويتحدث؛ ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، ويقول: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]، وينادي: ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [القصص: 30].

ثانيًا: ومن السنة:
الأدلة كثيرة مستفيضة، منها أحاديث الباب، ومنها:
1. ما رواه البخاري ومسلم: حديث احتجاج آدم وموسى وفيه: ((قال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه)).

2. ما رواه البخاري ومسلم أيضًا: حديث قصة الإفك، وقول عائشة: ".. ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى".

قال أبو بكر الخلال: "أخبرني علي بن عيسى: أن حَنْبَلاً حدثهم قال: قلت لأبي عبدالله (يقصد أباه أحمد بن حنبل): الله يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز وجل؟! يكلم الله عبده ويسأله، الله متكلم، لم يزل الله متكلمًا، يأمر بما شاء، ويحكم بما شاء، وليس له عدل ولا مثل، كيف يشاء، وأين شاء"؛ [انظر: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد (1/ 288)، وانظر أيضًا فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (12/ 304)].

الفائدة الثالثة: في الأحاديث إثبات صفة النظر لله عز وجل، وهي صفة فعلية خبرية ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 77]، ومن السنة أحاديث الباب.

الفائدة الرابعة: دلت أحاديث الباب على أصناف يدخلون تحت هذا الوعيد العظيم، فيُحرَمون من نظر الله عز وجل لهم، ومن تكليمه وتزكيته، ولهم مع ذلك عذاب أليم، وإليك هذه الأصناف مع شيء من الأحكام:
أولًا: المسبل إزاره:
أولًا: تعريفه:
الإسبال في اللغة:
الإرخاء والإرسال، يقال: أسبل إزاره؛ أي: أرخاه وأرسله إلى الأرض؛ [انظر: الصحاح (5/ 1723)، وانظر النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة: (سبل)]

الإسبال: هو إرسال الشيء من علو إلى سفل؛ كإسبال الإزار؛ أي: إرخائه (ويدخل في ذلك الثوب والسراويل - ومنه البنطال لمن لبسه من الرجال - والقميص والمشلح)؛ لأنها جميعًا تندرج تحت أصل واحد، وهو إرخاء اللباس وإرساله بحيث يتجاوز الحد المقرر في النصوص الشرعية.

قال الحافظ - رحمه الله - في فتح الباري: (وقال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار؛ لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبَسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي؛ قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأتِ النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك، وفي تصوير جر العمامة نظر، إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب من إرخاء العذبات، فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال) [الفتح 16/ 331].

وقال في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (31/ 429): "قوله: من جر ثوبه يدخل فيه الإزار والرداء والقميص والسراويل والجبة والقَبَاء، وغير ذلك مما يسمى ثوبًا، بل ورد في الحديث دخول العمامة في ذلك..."، وانظر أيضًا (عون المعبود 9/ 126).

وقال ابن باز - رحمه الله -: (فالواجب على الرجل المسلم أن يتقي الله، وأن يرفع ملابسه، سواء كانت قميصًا أو إزارًا أو سراويل أو بشتًا، وألا تنزل عن الكعبين، والأفضل أن تكون ما بين نصف الساق إلى الكعب)؛ "مجموع الفتاوى والمقالات 6/ 350"، وبدخول البنطال في الإسبال قال شيخنا ابن عثيمين والألباني رحمهما الله تعالى، وأيضًا من فتاوى اللجنة الدائمة في ذلك راجع الفتوى رقم (9390) و(19600).

ولا يخرج تعريف الفقهاء عن هذا، ومنهم من وسع مفهومه فجعله يتناول الكُم؛ كأن يرسل كمه على يده حتى يتعدى الرسغ إلى شيء من الكف، ومنهم من يضيف أيضًا في مفهوم الإسبال ليتناول العمامة أيضًا؛ كألا يزاد في طولها وعرضها، وألا تتدلى ذؤابتها أكثر من شبر، ومن يدخل الكم والعمامة يستدلون بحديث أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف وأبو داود في السنن (4094) والنسائي (8/ 208) وابن ماجه (3576)، وغيرهم من طريق عبدالعزيز بن أبي رواد عن سالم بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جَرَّ شيئًا خيلاء لم ينظُرِ الله إليه يوم القيامة)).

قال أبو بكر بن أبي شيبة (ما أغربه)، وقال الحافظ في الفتح (10/ 262): (وعبدالعزيز فيه مقال).

وعبدالعزيز فيه خلاف؛ من أهل العلم من وثقه فقبل روايته، ومنهم من ردها، والحديث صححه الإمام الألباني - رحمه الله - في صحيح ابن ماجه برقم (3576)، والمشكاة برقم (4332)، وصحيح الترغيب وصحيح أبي داود وغيرها من الكتب.

وسأسلط الضوء في هذه الأسطر على الإسبال في الثياب ونحوه؛ حيث إنها هي محور الحديث في الساحة اليوم.

ثانيًا: من الأحاديث الواردة في الإسبال:
أحاديث النهي عن الإسبال على قسمين:
قسم مطلق: ومنه ما رواه البخاري في صحيحه مرفوعًا: ((ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)).

وقسم مقيد بمن يجره خيلاء: ومنه ما رواه الشيخان البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا)).

وقسم ورد في حادثة معينة اختلفت فيها وجهات النظر من حيث الاستدلال، منه ما رواه البخاري في صحيحه، وروى مسلم بعضه، من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة))، قال أبو بكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لستَ ممن يصنعه خيلاءَ)).

وهناك أحاديث أخرى لكنها تدخل ضمن أحد الأقسام السابقة.

ثالثًا: يستثنى من الخلاف أربعة أصناف:
قبل الشروع في الخلاف فإننا نستثني أربعة أصناف لا تدخل ضمن الخلاف، وهي:
الأول: من أسبل متقصدًا الخيلاء، فهذا بالإجماع أنه محرم، وأنه من كبائر الذنوب، فليس الكلام عليه في الخلاف القادم؛ [انظر: المجموع (3/ 176) (4/ 454)، المغني (2/ 298)، وعده ابن حجر الهيثمي في كتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر" من الكبائر (الكبيرة التاسعة بعد المائة (1/ 351 - 354)، وانظر: طرح التثريب (8/ 172)].

الثاني: من أسبل لضرورة لحقت به، فلا حرمة حينئذٍ، فهذا كمن أسبل إزاره على قدميه لمرض فيهما، ونحوه، وهذا كالترخيص في لبس الحرير للحكة ونحو ذلك، والقاعدة أن الضرورات تبيح المحظورات، وأيضًا لا بد أن يؤخذ بقدر الضرورة؛ فالضرورة تقدر بقدرها.

الثالث: إسبال النساء؛ فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم لهن بإرخاء ذيول ثيابهن شبرًا، استحبابًا، لستر القدمين، ويرخين ذراعًا إن احتجن لذلك، وإسبال النساء جائز بالإجماع، بل هو مشروع لستر القدمين.

عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة))، فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: ((يرخين شبرًا))، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال: ((فيرخينه ذراعًا لا يزدن عليه))؛ رواه الترمذي وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، ورواه النسائي.

الرابع: الإسبال لعارض عرَض له وليس قصدًا، فلا بأس حينئذٍ بإسباله حتى يزول ما عرض له من نسيان، أو استعجال، أو فزع، أو حال غضب، أو استرخاء مع تعاهد له برفعه، كما في قصة استرخاء إزار أبي بكر - رضي الله عنه؛ إذ كان يسترخي لنحافة جسمه - رضي الله عنه - فينجر، فيتعاهده برفعه.

ويدل على ذلك:
1- ما جاء في صحيح البخاري عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: خسفت الشمس ونحن عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام يجر ثوبه مستعجلًا حتى أتى المسجد؛ الحديث.

2- ما جاء في صحيح مسلم عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - في قصة حديث ذي اليدين في سهو النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العصر - وفيه: وخرج صلى الله عليه وسلم غضبانَ يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس؛ الحديث.

3- ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة))، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، إن أحد شقَّيْ إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لست ممن يصنعه خيلاء))، ففي هذا الحديث أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر - رضي الله عنه - على ما قد يحصل منه من استرخاء إزاره من غير قصد عند عدم تعاهده، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك الاسترخاء لا يدخل في الخيلاء، وليس بذريعة إليه، فلم يدخل في النهي.

4- ما جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين إلى قُباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عتبان فصرخ به، فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعجلنا الرجل...))؛ الحديث.

رابعًا: الخلاف في حكم الإسبال:
اختلف العلماء في حكم الإسبال من دون خيلاء على قولين:
القول الأول: أن الإسبال بدون قصد الخيلاء ليس محرمًا، وهذا قول جمهور العلماء من المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، على خلاف بينهم هل يكون مكروهًا أو جائزًا، ولكن لا يصل إلى حد التحريم.

واستدلوا:
1- بالأدلة السابقة ذكرها، وحملوا المطلق من الأحاديث في الإسبال - كحديث الباب مثلًا والأحاديث السابقة المطلقة - على الأحاديث المقيدة بمن يتخذه خيلاء، فقالوا: إن من يتخذه خيلاء هو المخاطب في جميع الأحاديث التي تنهى عن الإسبال.

2- الحديث الوارد في قصة أبي بكر؛ حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لست ممن يصنعه خيلاء)).

ووجه الدلالة: أن المحرم من الإسبال هو ما كان للخيلاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر.

قال ابن قدامة في: "المغني" (2/ 298): "ويكره إسبال القميص والإزار والسراويل، فإن فعل ذلك على وجه الخيلاء حرم"؛ انتهى.

وقال النووي في "شرح مسلم" (14/ 62): "لا يجوز إسباله تحت الكعبين إن كان للخيلاء، فإن كان لغيرها فهو مكروه، وظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء تدل على أن التحريم مخصوص بالخيلاء، وهكذا نص الشافعي على الفرق"؛ انتهى، [وانظر في ذلك: الآداب الشرعية لابن مفلح (3/ 521)، والتمهيد لابن عبدالبر في (3/ 244)، والمجموع للنووي (3/ 177)، وشرح العمدة لشيخ الإسلام ابن تيمية ص (361 - 362)].

والقول الثاني: أن الإسبال محرم مطلقًا، فإن كان خيلاء فهو أشد حرمة.

واختار هذا القول ابن العربي والقَرافي من المالكية، والذهبي وابن حجر من الشافعية، واختاره الصنعاني، وكتب في ذلك كتابًا سماه "استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال"، وهو اختيار أكثر علمائنا المعاصرين؛ كالألباني وابن باز، وشيخنا ابن عثيمين وابن جبرين والفوزان، وعلماء اللجنة الدائمة للإفتاء وغيرهم.

واستدلوا:
بالأحاديث السابقة؛ حيث جاء بعضها مطلقًا بدون خيلاء، وبعضها مقيدًا بالخيلاء، قالوا: ولا يصح حمل المطلق على المقيد؛ لأن لكل حال عقوبته الخاصة به.

وأما الحديث الوارد في قصة أبي بكر فهي حادثة عين وقعت لأبي بكر، فهي خصوصية له، من جهتين:
الأول: أن أبا بكر - رضي الله عنه - ذكر أن ثوبه بنفسه يسترخي، وهو مع ذلك يتعاهده، ومن يسبل إزاره اليوم يتعمد الإسبال، فلا يلحق هذا بهذا، فالذي يسترخي ثوبه من غير قصد كأبي بكر لا يدخل في هذا الوعيد، بخلاف من تعمد ذلك.

الثاني: أن أبا بكر شهد له النبي صلى الله عليه وسلم وزكَّاه بأنه لم يصنع ذلك خيلاء، ومن يسبل اليوم من الذي يزكيه؟
قال ابن العربي في "عارضة الأحوذي" (7/ 238): "لا يجوز لرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أتكبر فيه؛ لأن النهي تناوله لفظًا، وتناول علته، ولا يجوز أن يتناول اللفظ حكمًا فيقال: إني لست ممن يمتثله؛ لأن العلة ليست فيَّ؛ فإنها مخالفة للشريعة، ودعوى لا تسلم له، بل من تكبره يطيل ثوبه وإزاره، فكذبه معلوم في ذلك قطعًا"؛ انتهى.

وقال ابن حجر في الفتح (10 / 263):
"وأما الإسبال لغير خيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه..، وإن كان الثوب زائدًا على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف، فينتهي إلى التحريم، وقد يتجه المنع من جهة التشبه بالنساء، وهو أمكن فيه من الأول، وقد صحح الحاكم من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبَس لِبسة المرأة، وقد يتجه المنع من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به"، [وانظر في ذلك سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 234)، والمصدرين السابقين في عارضة الأحوذي والفتح، ومحاضرة للألباني تحت عنوان: الألبسة والأزياء في الإسلام، وأيضًا فتاوى شيخنا ابن عثيمين 12/ 252، وفتاوى اللجنة الدائمة فتوى رقم (3826)، وفتوى رقم (9390)].

مما سبق يتلخص ما يلي:
أن الأحاديث الواردة فيها نوعان من العقوبة:
الأول: تعذيب المسبل في النار، وهذا التعذيب يتناول جزأه الأسفل من الكعبين الذي وقع فيه الإسبال.
ويدل عليه: ما رواه البخاري في صحيحه مرفوعًا: ((ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)).

الثاني: حرمانه من نظر الله له يوم القيامة وتكليمه وتزكيته له، وله مع ذلك عذاب أليم.
ويدل عليه: حديث الباب، وأيضًا ما رواه الشيخان البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا)).

وموطن الخلاف بين القولين:
في هل يحمل المطلق على المقيد فتكون العقوبتان تتناولان حالًا واحدة، وهي من أسبل خيلاء (وهذا هو القول الأول)، أو أن العقوبتين تتناولان حالين مختلفتين: الأولى من أسبل بلا خيلاء، والثانية من أسبل مع خيلاء، فلا يحمل المطلق على المقيد لاختلاف الحكم والسبب، (وهذا هو القول الثاني).

والقول الراجح والله أعلم:
القول الثاني، وهو: أن الإسبال محرم على الإطلاق، فإن اتخذ ذلك خيلاء، فقد زاد العقوبة عقوبة أخرى.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 149.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 148.27 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.14%)]