|
ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() قلب همومه أخروية د. هاني درغام نظرَ صاحبُ القلبِ الموصول بالله في همومِ النَّاس من حوله، فوجدَ أكثرَهم يهتمُّون بزينةِ الحياة الدُّنيا؛ تراهم أخلدوا إلى مباهجِها، وخُدِعوا بشهواتِها، وانصرفتْ همتُهم نحو المآكلِ والمشاربِ، والملابسِ وفخامةِ المنازل، وأناقةِ الفراش والأثاث وألوان التَّرَفِ والرياش، وعزَّةِ المناصب والجاه والمال، والزَّوجاتِ والعشيرة، تشغلُهم الأفكارُ التَّافهةُ والنزوات الفارغة ومطالبُ النَّفسِ الحيوانية الظَّاهرة والباطنة، أمَّا صاحبُ القلبِ الموصولِ بالله فينظرُ إلى الدُّنيا بعين البصيرةِ، ويوقنُ أنَّ نعيمَها ابتلاءٌ، وحياتها عناءٌ، وعيشتَها نكدٌ، وصفوَها كدرٌ؛ فهي دارٌ حلالُها حسابٌ وحرامُها عقابٌ، وأهلُها منها على وجل: إمَّا بنعمةٍ زائلة، أو بلية نازلة، أو منية قاضية[1]؛ لذا فهو يتخذُها استراحةً في طريق، ومنزلاً مؤقتًا يريحُ فيه جسمَه ويجدِّدُ نشاطَه، ويتناول ما قد يحتاجُ إليه من طعامٍ وشراب ليواصلَ سيرَه بعد ذلك إلى غايتِه، غير آبه بما قد رآه في تلك الاستراحةِ من مُلهياتٍ، وغير متأثرٍ بما قد نالَهُ فيها من موحشات، فهو مشغولٌ بالنبأ العظيم، مشغولٌ بمآلِه في المصيرِ الأخروي العظيمِ فلا وقتَ لديه للالتفاتِ أو الانشغالِ بهمومِ الأرضِ ولا بأهلِها الغارقين في أوحالِها، فهو لا يغريه البريقُ الخاطفُ، ولا تشغلُه الزينةُ عن الجوهرِ، وضع نصبَ عينيه وصيةَ ابنِ عطاء الله: "كفى بك جهلاً أن تعولَ الهمَّ الصغيرَ وتتركَ الهمَّ الكبير، عُلْ همَّ هلْ تموتُ مسلمًا أو كافرًا، عُلْ همَّ أنتَ شقيٌّ أم سعيد، عُلْ همَّ النَّار الموصوفة بالأبدية التي لا انتهاءَ لها، عُلْ همَّ أخذِ الكتابِ باليمين أو الشِّمال، هذا هو الهمُّ الذي يُعال، لا تعُلْ همَّ لقمةٍ تأكلُها أو شربةٍ تشربُها، أيستخدمُكَ الملكُ ولا يطعمُك؟ أتكونُ في دار الضِّيافةِ وتضيع؟ لأَنْ تكونُ خاملاً (الذي لا يُعرف ولا يُذكر) في الدُّنيا خيرٌ لك من أن تكونَ خاملاً يومَ القيامة"، وهكذا حالُ القلبِ الموصول بالله؛ يُحلِّقُ في رحابِ الآخرة وينظرُ من علوٍّ إلى عالم الشَّهواتِ والملذات والغرائز، "فكلُّ ما في الدُّنيا يحرِّكه إلى ذكرِ الآخرة، فإذا رأى ظلمةً ذكر ظلمةَ القبر، وإنْ رأى النَّاسَ نيامًا ذكرَ الموتى في القبور، وإن رأى لذةً ذكرَ الجنَّةَ، وذلك يشغلُه عن كلِّ مأثم، وأعظمُ ما عنده أنَّه يتخايلُ البقاءَ في الجنَّةِ وأنَّ بقاءَه لا ينقطعُ ولا يزول ولا يعتريه نغصةٌ، فيكاد إذا تخايلَ نفسَه متقلبًا في تلك اللذات الدَّائمة التي لا تفنى يطيشُ فرحًا، ويَسْهُل عليه ما في الطَّريق إليها من ألمٍ، ومرضٍ وابتلاءٍ، وفقدِ محبوب، وهجومِ الموت ومعالجة غصصه، فإنَّ التَّائقَ إلى العافيةِ لا يبالي بمرارة الدَّواء ويعلمُ أنَّ جودةَ الثمر هناك على مقدار جودةِ البذرِ ها هنا، فهو يتخيَّرُ الأجودَ ويغتنم الزَّرعَ في تشرين العمر من غير فتور، ثُمَّ يتخايلُ دخولَ النَّار والعقوبة، فينغص عيشَه ويقوى قلقه، فعنده بالحالين شغلٌ عن الدُّنيا وما فيها، فقلبُه هائمٌ في بيداء الشَّوق تارةً وفي صحراء الخوف أخرى، فإذا نازلَه الموتُ قَوِيَ ظنُّه بالسَّلامة، ورجا لنفسِه النجاةَ فيهون عليه، فإذا نزلَ إلى القبرِ وجاءه يسألونهُ، قال بعضُهم لبعضٍ: دعوه فما استراح إلا السَّاعة"[2]. كيف يتعاملُ القلبُ الموصول بالله مع الحياة الدُّنيا؟ "لقد خلق اللهُ طيباتِ الحياة ليستمتعَ بها النَّاسُ، وليعملوا في الأرضِ لتوفيرها وتحصيلها، فتنمو الحياةُ وتتجدَّدُ وتتحقَّقُ خلافةُ الإنسانِ في هذه الأرض، ذلك على أنْ تكون وجهتُهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقِها ولا يشغلون بالمتاعِ عن تكاليفِها، والمتاعُ في هذه الحالةِ لونٌ من ألوانِ الشُّكر للمنعم، وتقبلٌ لعطاياه وانتفاعٌ بها، فهو طاعةٌ من الطَّاعاتِ يجزي عليها اللهُ بالحسنى"[3]. إنَّ صاحبَ القلبِ الموصول بالله يتعاملُ مع الحياةِ الدُّنيا على أنَّها دارُ مرورٍ وعبور وامتحان وابتلاء وزوال وفناء، لا تدومُ لأحدٍ، ولا تصفو لبشرٍ، ولا تدومُ لراغبٍ، وليست بمستقرٍّ دائم ومقام أبدي، فهي كما وصفها اللهُ - عزَّ وجل -: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ [الكهف: 45]. إنَّ "مثلَ هذه الحياةِ الدُّنيا كمثلِ المطرِ ينزلُ على الأرضِ فيختلط نباتها، تنبتُ من كلِّ زوج بهيج، فبينما زهرتُها وزخرفها تسرُّ النَّاظرين وتفرحُ المتفرِّجين وتأخذُ بعيون الغافلين - إذ أصبحت هشيمًا تذروه الرِّياحُ، فذهب ذلك النباتُ النَّاضرُ والزهر الزاهر والمنظرُ البهي، فأصبحت الأرضُ غبراءَ ترابًا، قد انحرف عنها النَّظرُ، وصَدَفَ عنها البصرُ، وأوحشت القلب كذلك هذه الدُّنيا، بينما صاحبُها قد أعجب بشبابِه وفاق فيها على أقرانِه وأترابِه، وحصَّل درهمَها ودينارَها واقتطف من لذتِه أزهارَها، وخاض في الشَّهواتِ في جميعِ أوقاته، وظنَّ أنَّه لا يزالُ فيها سائر أيامِه، إذ أصابه الموتُ أو التلف لمالِه فذهبَ عنه سرورُه وزالت لذتُه وحبورُه، واستوحشَ قلبُهُ من الآلامِ، وفارقَ شبابَه وقوتَه ومالَه، وانفرد بصالحِ أو سيئ أعمالِه، هنالك يعضُّ الظالمُ على يديه حين يعلم حقيقةَ ما هو عليه ويتمنَّى العودَ إلى الدُّنيا، لا ليستكملَ الشَّهواتِ، بل ليستدركَ ما فرَّط منه من الغفلات بالتَّوبةِ والأعمال الصَّالحات"[4]. فصاحبُ القلبِ الموصول بالله كلَّما تأمَّلَ في الآيةِ السَّابقة أدرك أنَّ نضرةَ النَّباتِ تصيرُ إلى جفافٍ ثُمَّ إلى حطام، وأنَّ نشاط الشَّبابِ يتحوَّلُ إلى ضعفِ الشَّيخوخةِ ثم إلى ركود الموت، وأنَّ الذي يجعلُ الأرضَ تموج بالنضرةِ والحيويةِ مرةً أخرى سيحييه بعد موتِه كذلك، ثُمَّ يحاسبُه على ما قدَّم؛ ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، فهو يعلمُ أنَّ الحياةَ للأرضِ حياةٌ تليقُ بالدِّيدان والزَّواحفِ والحشرات والهوام والوحوش والأنعام، أمَّا الحياةُ الحقيقية التي ينبغي العملُ لها فهي الحياة الآخرة؛ ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]، لذا فهو دومًا يقولُ لنفسِه: قدِّري أنَّك قد متِّ، ولا بد أنْ تموتي، فأي الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرفِ هذه الدَّار والتَّمتعِ بها كتمتعِ الأنعام السَّارحة؟ أم العمل لدارٍ أكلُها دائمٌ وظلُّها، وفيها ما تشتهيه الأنفسُ وتلذُّ الأعين؟ لله در القلب الموصول بالله، نظر إلى باطنِ الدُّنيا حين نظر المغترُّ إلى ظاهرِها، وعمل لآخرتِه حين عمل الغافلُ لدنياه، فشتَّان ما بين الفريقين، وما أبعد الفرق بين الطَّائفتين! أخي في الله، "تصوَّرْ نفسَك واقفًا أمامَ بحرٍ عظيم، ألقتْ أمواجُه على شاطئه بكثيرٍ من الأصدافِ المختلفة الأنواع، كما ألقت على مقربةٍ منها كثيرًا من اللآلئ والجواهر النَّادرةِ الوجود الباهظةِ الأثمان، وقد اهتمَّ غلامٌ لا يعرفُ قيمةَ اللآلئ والمجوهراتِ بملءِ جيوبِه وما معه من حقائبَ بالأصدافِ والحصى، فرحًا بها وهو يحسبُ أنَّه يُحسنُ صنعًا، وكنتَ أنت تبذلُ الوسعَ في نصحِه وإرشادِه، وتطلبُ إليه أن يكفَّ عن جمعِ الأصداف، ويغتنم هذه الفرصةَ الثَّمينةَ التي ما يجودُ الدَّهرُ بمثلِها، فلا يعيرُ إرشادَك ونصيحتَك اهتمامًا والتفاتًا، بل يستمرُّ منهمكًا في جمع الصَّدفِ وتعديدِه، على حين تهتمُّ أنت بجمعِ اللؤلؤ واختيار الكبير الثَّمين من حبَّاته، أفلا تقولُ والحالة هذه وأنت ترى ذلك الغلامَ القليل العقل يفعلُ ما يفعل: مسكين هذا الغلام إنَّه يجمعُ صدفاً! وفي نفسِك ما فيها من احتقارٍ لشأنه وازدراءٍ لهمَّته وعمله"[5]، أقول: وكذلك الأمرُ بالنسبةِ للقلبِ الموصول بالله والقلب الغافل، فالأولُ يستزيدُ في دنياه مِنْ فعلِ المعروف والإحسانِ، ويبذلُ الوسعَ في اغتنامِ الصَّالحات من الأعمالِ، والقلبُ الغافل الجاهل ينصرِفُ إلى جمعِ المال، وأكبرُ همِّه من دنياه جمعُ المالِ وتعداده، روى الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجَه من حديثِ زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن كانتِ الآخرةُ هَمَّه، جَمَع الله له شَمْلَه، وَجَعَلَ غناهُ في قَلْبه وَأَتَتْه الدُّنيا وهي راغِمة، ومَن كانتِ الدُّنيا هَمَّه، فَرَّقَ اللهُ عليه شَمْلَه، وجعل فقرَه بين عَيْنَيْه، ولم يأتِه منَ الدُّنيا إلاَّ ما قدر له))؛ (صحيح الجامع 6510). وهكذا إذا تغلغلَ همُّ الآخرةِ في النُّفوس، ووصل سويداءَ القلب - هانَ على المرء ما ضاعَ من دُنياه، ورخصَ عليه ما خسرَه في تجارتِه ومربِحه؛ لأنَّه يَسْتَيقِنُ أنَّ مستقرَّه وبقاءَه هناك في الدَّار الآخرة، ولا تحسبنَّ أنَّ صاحبَ القلبِ الموصول بالله لا يخلو مِن هُمُومٍ تعتريه في دنياه؛ من همِّ عملٍ أو مسكنٍ أو زواج أو تربيةِ ولدٍ أو غيرِها، غير أنَّها همومٌ صغيرة تضيعُ أمامَ همِّه الأكبر ومقصده الأعظم. فيا قلبي الضَّعيف، يا من رواحلُه في طلبِ الدُّنيا لها إسراعٌ، متى تحلُّ عنها نطاقَ الأملِ فيكون الانقطاعُ؟ إذا طلبتَ الآخرة تمشي رويدًا، فمتى يكون الانتفاع؟ عجبًا لك، كيف تشدُّ الرِّحالَ في طلبِ الفاني وفي طريقِه قطَّاع! العمرُ أمانةٌ، أتلفتَ شبابَه في الخيانةِ وكهولتَه في البطالةِ، وفي الشيخوخةِ تبكي وتقول: عمري قد ضاع، أنت في طلبِ الدُّنيا صحيحُ الجسم وفي طلبِ الآخرة بك أوجاعٌ، كم تعرجُ عن سُبل التقوى يا أعرجَ الهمة، يا من يبقى في القاع، اعلم أنَّك راحلٌ إلى الله حتمًا، وما عمرك هذا المتناثر من بين يديك صباحَ مساءَ إلا دلالة صريحة على السَّيرِ الحثيث، فبعد قليلٍ ستنتهي الرِّحلةُ، ونقفُ على محطةِ القبر أنا وأنت لنلجَ عالمَ البرزخِ، في انتظار اجتماعِ أجيالِ الخلائق لليوم الموعود؛ ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 2]، أخوفه من مشهدٍ عظيم للأهواء والأدواء! وما أفزعَه للنَّفسِ المؤمنة بالله! وما أيقظَه لها من غفلتها! وما أشدَّه تنشيطًا لها في سيرِها إلى مولاها - جل علاه. دعاء القلب الموصول بالله: • اللهم لا تجعل الدُّنيا أكبرَ همِّنا، ولا مبلغَ علمنا، ولا إلى النَّارِ مصيرَنا، واجعل الجنَّةَ هي دارنا ومأوانا. المصدر: نقلا من كتابي قلب موصول بالله. [1] لمزيد من التفاصيل حول حقيقة الحياة الدنيا راجع كتابي متاع الغرور- دار طيبة مصر. [2] صيد الخاطر ابن الجوزي 428 - 429. [3] في ظلال القرآن ج 5 ص 2711. [4] تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن؛ الشيخ عبد الرحمن السعدي. [5] تأويل سورة الهمزة ص (10 - 11)؛ محمد أمين شيخو.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |