شرح حديث أبي ذر: إني حرمت الظلم على نفسي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 43 - عددالزوار : 10292 )           »          الإسلام في أفريقيا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 345 )           »          الحقوق الزوجية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الصبر عند الصدمة الأولى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          ميليشيا الإلحاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - الخلقية والخلقية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          انتبه فالرحلة قصيرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          إنشاء صور لذوات الأرواح بالذكاء الاصطناعي.. رؤية شرعية معاصرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          روعة معايشة النص (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          الأب شيء عظيم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 09-04-2020, 09:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,992
الدولة : Egypt
افتراضي شرح حديث أبي ذر: إني حرمت الظلم على نفسي

شرح حديث أبي ذر: إني حرمت الظلم على نفسي

سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين


عَنْ سعيدِ بن عبد العزيز، عَنْ ربيعةَ بن يزيد، عن أبي إدريسَ الخولاني، عن أبي ذرٍّ جُندب بن جُنادة - رضي اللهُ عنه - عن النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنَّه قال: « يا عبادي إنِّي حرمت الظلم على نفسي وجعلتُه بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضالٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمتُه فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا: فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم، وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم، وأنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحدٍ فسَألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيطُ إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إيَّاها فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه» قال سعيد: كان أبو إدريس إذا حدَّث بهذا الحديث جثا على ركبتيه. رواه مسلم وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - قال: ليس لأهلِ الشام حديثٌ أشرفَ من هذا الحديث.

قال العلَّامةُ ابنُ عثيمين - رحمه الله -:
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - في باب المجاهدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه - تبارك وتعالى - يعني أن الرسول عليه الصلاة والسلام حدث عن الله أنه قال... إلى آخره.

وهذا يسمى عند أهل العلم بـ«الحديث القدسي»، أو «الحديث الإلهي»، أما ما كان من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يسمى بـ «الحديث النبوي».

وهذا الحديث القدسي يقول الله تعالى فيه: «يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسِي»، أي: ألَّا أظلم أحدًا، لا بزيادة سيئات لم يعملها، ولا بنقص حسنات عملها، بل هو - سبحانه وتعالى - حكَمٌ عدل محسن، فحكمه وثوابه لعباده دائر بين أمرين: بين فضل وعدل، فضل لمن عمل الحسنات، وعدل لمن عمل السيئات، وليس هناك شيء ثالث وهو الظلم.

أما الحسنات فإنه - سبحانه وتعالى - يجازي الحسنة بعشر أمثالها، من يعمل حسنة يثاب بعشر حسنات، أما السيئة فبسيئة واحدة فقط، قال الله تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 160]، ولا يظلمون بنقص ثواب الحسنات، ولا يظلمون بزيادة جزاء السيئات، بل ربنا - عزَّ وجلَّ - يقول: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ﴾ [طه: 112]، ظلمًا بزيادة في سيئاته، ولا هضمًا بنقص من حسناته.

وفي قوله تعالى: «إنِّي حرَّمت الظلم على نفسِي» دليل على أنه - جلَّ وعلا - يحرم على نفسه، ويوجب على نفسه، فمما أوجب على نفسه: الرحمة، قال تعالى: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة ﴾ [الأنعام: 54]، ومما حرم على نفسه: الظلم، وذلك لأنه فعال لما يريد، يحكم بما يشاء، فكما أنه يوجب على عباده ويحرم عليهم؛ يوجب على نفسه ويحرم عليها - جلَّ وعلا - لأن له الحكم التام المطلق.

وقوله تعالى: «وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا»، أي: لا يظلم بعضكم بعضًا، و(الجعل) هنا هو الجعل الشرعي، وذلك لأن الجعل الذي أضافه الله إلى نفسه: إما أن يكون كونيًّا مثل قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ [النبأ: 10، 11]، وإما أن يكون شرعيًّا مثل قوله تعالى: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ ﴾ [المائدة: 103]، ما جعل: أي ما شرع، وإلا فقد جعل ذلك كونًا، لأن العرب كانوا يفعلون هذا، ومثل هذا الحديث: «جعلتُه بينكم محرمًا»، أي: جعلته جعلًا شرعيًّا لا كونيًّا، لأن الظلم يقع.

وقوله: «جعلتُه بينكم محرمًا»، الظلم بالنسبة للعباد فيما بينهم يكون في ثلاثة أشياء بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وهو يخطب الناس في حجة الوداع: «إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم، قال: «اللهم فأشهد». فهذه ثلاثة أشياء: الدماء، والأموال، والأعراض.

فالظلم فيما بين البشر حرام في الدماء، فلا يجوز لأحد أن يتعدى على دم أحد، ولا على دم تفوت به النفس وهو القتل، ولا على دم يحصل به النقص، كدم الجروح، وكسر العظام، وما أشبهها، كل هذا حرام لا يجوز.

وأعلم أن كسر عظم الميت ككسره حيًّا، كما جاء ذلك عن النبي - عليه الصلاة والسلام -، فالميت محترم لا يجوز أن يؤخذ من أعضائه شيء، ولا أن يكسر من أعضائه شيء، لأنه أمانة وسوف يبعث بكامله يوم القيامة، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن تأخذ منه شيئًا.

ولهذا نص فقهاء الحنابلة - رحمهم الله - على أنه لا يجوز أن يؤخذ من الميت شيء من أعضائه، ولو أوصى به، وذلك لأن الميت محترم، كما أن الحي محترم. كسر عظم الميت ككسره حيًّا، فإن أخذنا من الميت عضوًا، أو كسرنا منه عظمًا، كان ذلك جناية عليه، وكلُّ اعتداءٍ عليه، وكنا آثمين بذلك.

والميت نفسه لا يستطيع أن يتبرع بشيء من أعضائه، لأن أعضاءه أمانة عنده، أمانة لا يحل له أن يفرط فيها، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾، فسرها عمرو بن العاص - رضي الله عنه - بالإنسان إذا كان عليه جنابة، وكان في البرد، وخاف إن اغتسل أن يتضرر، جعل عمرو بن العاص هذا داخلًا في الآية، وذلك حين كان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في سرية، وأجنب، وكانت الليلة باردة فتيمم، وصلى بأصحابه، فلما رجعوا إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - وبلغه الخبر، قال: «يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب»، يعني لم تغتسل؟ قال: يا رسول الله، إني ذكرت قول الله تعالى: ﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، وخِفْتُ البردَ فتيممت، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على فعله وعلى استدلاله بالآية، ولم يقل: إن الآية لا تدل على هذا.

فإذن كل شيء يضر أبداننا، أو يفوِّت منها شيئًا، فإنه لا يحل لنا أن نفعله، لقوله تعالى: ﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾. فما حرم علينا أن نتناول الدخان وغيره من الأشياء الضارة إلا من أجل حماية البدن، فالبدن محترم. فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «دماءكم»، يشمل الدم الذي يهلك به الإنسان وهو القتل، والدم الذي بدون ذلك، وهو الجرح، أو كسر العظم، أو ما أشبه ذلك.

أما قوله صلى الله عليه وسلم: «وأموالكم» فإن الأموال قد حرم الله - سبحانه وتعالى - على بعضنا أن يأخذ من مال أخيه بغير حق، بأي نوع من الأنواع؛ سواء أخذه غصبًا بأن يأخذ بالقوة، أو أخذه سرقة، أو اختطافًا، أو خيانة، أو غشًّا، أو كذبًا، بأي نوع من هذه الأنواع يأخذه، فإنه حرام عليه.

وعلى هذا فالذين يبيعون على الناس بالغش - ولا سيما أهل الخضار - فإنَّ كل مالٍ، بل كل قرش يدخل عليهم من زيادة في الثمن بسبب الغش؛ فإنه حرام، فالذين يغشون في البيع أو في الشراء يرتكبون محظورين: المحظور الأول: العدوان على إخوانهم المسلمين بأخذ أموالهم بغير حق.

المحظور الثاني: أنهم ينالون تبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وبئس البضاعة بضاعة يلتحق فيها صاحبها بالبراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: «من غشَّنا فليس منَّا».

ومن ذلك ما يفعله بعض الجيران، حيث تجده يدخل المراسيم على جاره من أجل أن تزيد أرضه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن «مَنِ اقتطع من الأرضِ شبرًا بغير حقٍّ، فإنه يطوقه يوم القيامة من سَبَعِ أرَضين»، يكون يوم القيامة من سبع أرضين، في عنقه طرق من سبع أرضين - والعياذ بالله - يحمله في يوم المحشر. وهذا من الظلم.

ومن الظلم أيضًا: أن يكون لشخص على شخص دراهم، ثم ينكر الذي عليه الحق، ويقول: ليس لك عندي شيء، فهذا من أكل المال بالباطل، حتى لو فرض أنه تحاكم إلى القاضي مع خصمه، وغلبه عند القاضي، فإنه لا يغلبه عند الله، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «إنَّكم تختصمون إلىَّ، لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجَّته من بعض، فأقضي له، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيتُ له بشيء من حق أخيه؛ فإنما أقتطع له جمرة من نار، فليستقل أو ليستكثر»، فلا تظن أنك إن غلبت خصمك عند القاضي، وكنت مبطلًا، تسلم بهذا في الآخرة أبدًا؛ لأن القاضي إنما يقضي بنحو ما يسمع ولا يعلم الغيب، ولكن علام الغيوب - جلَّ وعلا - هو الذي يحاسبك يوم القيامة.

وكذلك أيضًا من أكل الأموال: أن يدعي شخص على آخر ما ليس له، ويقيم على ذلك البينة بالشهادة الزور، ويحكم له بذلك، فإن هذا من أكل المال بالباطل، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولكنها كلها محرمة إذا لم تكن بحق ولهذا قال - عزَّ وجلَّ -: «فلا تظَّالموا».

أما الأعراض فهي أيضًا حرام، فلا يحل للإنسان أن يقع في عرض أخيه، فيغتابه في المجلس أو يسبه، فإن ذلك من كبائر الذنوب. قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ [الحجرات: 12] انظر للترتيب: اجتنبوا كثيرًا من الظن، فإذا ظن الإنسان بأخيه شيئًا تجسس عليه، ولهذا قال: ﴿ وَلا تَجَسَّسُوا ﴾، فإذا تجسس صار يغتابه، ولهذا قال في الثالثة: ﴿ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾. ثم قال تعالى: ﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ﴾؟ الجواب: لا. لا يحب، بل يكره، ولهذا قال: ﴿ فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾، قال بعض المفسرين: إذا كان يوم القيامة، فإنه يؤتي بالرجل الذي اغتابه الشخص، يمثل له بصورة إنسان ميت، ثم يقال له: كُلْ من لحمِهِ، ويكره على ذلك، وهو يكرهه، لكن يكره على هذا عقوبة له، والعياذ بالله.

فالغيبة - وهي انتهاك عرض أخيك - محرمة، وقد روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ ليلة عرج به بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، يعني يكرُّون الوجوه والصدور بهذه الأظفار التي من النحاس، فقال: «يا جبريل، من هؤلاء؟» قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم. نعوذ بالله.

ثم إن الإنسان إذا انتهك عرض أخيه، فإن أخاه يأخذ في الآخرة من حسناته، ولهذا يذكر أن بعض السلف قيل له: إن فلان يغتابك، فقال: مؤكدًا؟ قال: نعم، اغتابك، فصنع هديةً له، ثم بعث بها إليه، فاستغرب الرجل! كيف يغتابه، ويرسل له هدية؟ قال: نعم إنك أهديت إليَّ حسناتٍ، والحسنات تبقى، وأنا أهديت إليك هدية تذهب في الدنيا، فهذه مكافأة على هديتك لي، انظر فقه السلف، رضي الله عنهم.

فالحاصل أن الغيبة حرام، ومن كبائر الذنوب، ولا سيما إذا كانت الغيبة في ولاة الأمور من الأمراء أو العلماء، فإن غيبة هؤلاء أشد من غيبة سائر الناس، لأن غيبة العلماء تقلل من شأن العلم الذي في صدورهم، والذي يعلمونه الناس، فلا يقبل الناس ما يأتون به من العلم، وهذا ضرر على الدين، وغيبة الأمراء تقلل من هيبة الناس لهم؛ فيتمردون عليهم وإذا تمرد الناس على الأمراء فلا تسأل عن الفوضى:
لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لا سَرَاةَ لهُمْ *** ولَا سَرَاةَ إِذا جُهَّالُهم سَادُوا

فنسألُ الله أن يحمينا وإيَّاكم مما يُغْضِبه، إنَّه جوادٌ كريم.

ثم قال الله تعالى: «يا عبادي، كلُّكم ضالٌ إلا من هديتُه، فاستهدُني أهْدِكم»، ضال يعني: تائهًا، أي لا يعرف الحق، وضال يعني: غاويًا لا يقبل الحق، فالناس في الضلال قسمان:
قسم تائه: لا يعرف الحق. من النصارى، فإن النصارى ضالون، تائهون، لا يعرفون الحق إلا بعد أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم عرفوا الحق لكنهم استكبروا عنه، فلم يكن بينهم وبين اليهود فرق في أنهم علموا الحق ولم يتبعوه.

وقسم غاو: أي اختار الغي على الرشد بعد أن علم بالرشد، وهؤلاء مثل اليهود، فإن اليهود عرفوا الحق ولكنهم لم يقبلوه، بل ردوه.

ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ [فصلت: 17]، هداهم الله، وبين لهم، ودلهم، لكنهم استحبوا العمى على الهدى، واستحبوا الغي على الرشد، فالناس كلهم ضالون إلا من هدى الله.

لكن؛ ما هي هداية القسم الأول، وهو الضال الذي لم يعرف الحق؟ هداية القسم الأول: أن يبين الله لهم الحق ويدلهم عليه، وهذه الهداية حق على الله، حق على الله أوجبه الله على نفسه، فكل الخلق قد هداهم الله بهذا المعنى، يعني بمعنى البيان، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾ [الليل: 12]، وقال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 185]، هدى للناس عمومًا.


ولكن الهداية الثانية، هي هداية التوفيق لقبول الحق، هذه هي التي يختص الله بها من يشاء من عباده، فالهداية هديتان هداية بيان الحق، وهذه عامة لكل أحد، وقد أوجبها الله على نفسه، وبين لعباده الحق من الباطل، وهداية توفيق لقبول الحق والعمل به، تصديقًا للخبر وقيامًا بالطلب، وهذه خاصة يختص الله بها من يشاء من عباده.

والناس في هذا الباب ينقسمون إلى أقسام:
القسم الأول: مَنْ هُدي الهدايتين، أي علمه الله ووفقه للحق وقبوله.
والقسم الثاني: من حُرم الهدايتين، فليس عنده علم، وليس له عبادة.
والقسم الثالث: من هدي بالدلالة والإرشاد، ولكنه لم يهد هداية التوفيق، وهذا شر الأقسام، والعياذ بالله.

والمهم أن الله - عزَّ وجلَّ - يقول: «كلكم ضال»، أي كلكم لا يعرف الحق. أو كلكم لا يقبل الحق، إلا من هديته «فاستهدوني أهدكم» يعني: اطلبوا الهداية مني، فإذا طلبتموها؛ فإنني أجيبكم وأهديكم إلى الحق، ولهذا جاء الجواب في: «استهدوني أهدكم»، وكأنه جواب شرط، ليتحقق المشروط عند وجود الشرط، ودليل هذا أن الفعل جزم «استهدوني أهدكم»، فمتى طلبت الهداية من الله بصدق وافتقار إليه، وإلحاح، فإن الله يهديك.

ولكن أكثرنا معرض عن هذا، فأكثرنا قائم بالعبادة، لكن على العادة، وعلى ما يفعل الناس، كأننا لسنا مفتقرين إلى الله - سبحانه وتعالى - في طلب الهداية، فالذي يليق بنا: أن نسأل الله دائمًا الهداية، والإنسان في كل صلاة يقول: رب اغفر لي، ارحمني واهدني بل إنه في كل صلاة: يقول على سبيل الركنية: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 7]، ولكن أين القلوب الواعية؟! إن أكثر المصلين يقرأ هذه الآية، وتمر عليه مر الطيف، أي مر الغيم الذي يجري بدون ماء، وبدون شيء، ولا ينتبه لها.

والذي يليق بنا أن نتنبه، وأن نعلم أننا مفتقرون إلى الله - عز وجل - في الهداية، سواء الهداية العلمية، أو الهداية العملية، أي هداية الإرشاد والدلالة - أو هداية التوفيق، فلابد أن نسأل الله دائمًا الهداية.

«فاسْتهدُوني أهْدِكم» وربما تشمل هذه الجملة الطريق الحسي، كما تشمل الطريق المعنوي، فالهداية للطريق المعنوي: هي الهداية إلى دين الله، والهداية للطريق الحسي: كأن تكون في أرضه قد ضللت الطريق وضعت، فمن تسأل؟ فإنك تسأل الله الهداية، ولهذا قال الله عن موسى صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [القصص: 22]، أي السبيل المستوي الموصل للمقصود بدون تعب، وقد جرب هذا، فإن الإنسان إذا ضاع في البر فإنه يلجأ إلى الله تعالى ويقول: رب أهدني سواء السبيل، أو عسى ربي أن يهديني سواء السبيل،، وذلك لأننا محتاجون إلى الله في الهدايتين؛ هداية الطريق الحسي، كما أننا محتاجون إلى الله في الهداية إلى الطريق المعنوي. نسأل الله أن يهدينا جميعًا الهدايةَ فيمَنْ هَدَى.

ثم قال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: « يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم»، هاتان الجملتان الخاصتان بالجوع والعرى ذكرهما الله - عزَّ وجلَّ - بعد أن ذكر الهداية، لأن في الهداية غذاء القلب بالعلم والإيمان، والجوارح بالعمل الصالح.

أما الطعام والشراب والكسوة فهي غذاء البدن، لأن البدن لا يستقيم إلا بالطعام، ولا يستتر إلا بالكسوة، ولهذا قال: «يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم» وصدق ربنا - عزَّ وجلَّ - كلنا جائع إلا من أطعمه الله، ولولا أن الله تعالى يسَّر لنا ما يكون به طعامنا لهلكنا، يقول الله تعالى مبينًا ذلك في سورة الواقعة: ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾ [الواقعة: 63، 64].
والجواب: بل أنت - يا ربنا - الذي زرعته، لأن الله يقول: ﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ [الواقعة: 65 - 67]، وتأمل كيف قال تعالى: ﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾، ولم يقل: لو نشاء ما أنبتناه، لأنه إذا نبت وشاهده الناس؛ تعلقت به قلوبهم، فإذا جعل حطامًا بعد أن تعلقت به القلوب؛ صار ذلك أشد نكاية، ولهذا قال تعالى: ﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾، ولم يقل لو نشاء ما أنبتناه.

وقال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ ﴾ [الواقعة: 68، 69]، يعني: من السحاب، ﴿ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ﴾؛ لأن الماء الذي نشرب من السحاب، ينزله الله - عزَّ وجلَّ - على الأرض فيسلكه ينابيع، يدخله في الأرض، ويجري فيما تحت الأرض كالأنهار، ثم يستخرج بالأدوات التي سخرها الله - عزَّ وجلَّ - في كل وقت بحسبه، وهذا من حكمة الله - عزَّ وجلَّ - أن استودع الماء في بطون الأرض، ولو بقى على ظهر الأرض لفسد، وأفسد الهواء وأهلك المواشي، بل وأهلك الآدميين من رائحته ونتنه، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - بحكمته ورحمته جعل هذه الأرض تشربه وتسلكه ينابيع فيها، حتى تأتي حاجة الناس إليه؛ فيحفرونه، فيصلون إليه.

والذي أنزله هو الله - عزَّ وجلَّ -، ولو اجتمع الناس كلهم على أن ينزلوا قطرة من السماء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - هو الذي ينزله بقدرته ورحمته، إذن، نحن لا نطعم شيئًا من طعام، أو مأكول، ولا من مشروب؛ إلا بالله - عزَّ وجلَّ - ولهذا قال: «كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمتُه، فاستطعِموني أطْعمْكُم».

واستطعام الله - عزَّ وجلَّ - يكون بالقول وبالفعل؛ بالقول: بأن تسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يطعمنا وأن يرزقنا، وأما بالفعل، فله جهتان:
الجهة الأولى: العمل الصالح، فإن العمل الصالح سبب لكثرة الأرزاق وسعتها، قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة: 65، 66]، ﴿ مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾: أي من ثمار الأشجار، ﴿ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾: أي من ثمار الزروع، فالمهم أن هذا من أسباب إطعام الله.

الجهة الثانية من جهة الاستطعام الفعلي: أن نحرث الأرض، ونحفر الآبار، ونستخرج المياه، ونزرع الحبوب، ونغرس الأشجار، وما أشبه ذلك.

فالاستطعام يكون بالقول، ويكون بالفعل، والفعل له جهتان: الجهة الأولى: العمل الصالح، والجهة الثانية: الأسباب الحسية المادية كالحرث، وحفر الآبار، وما أشبه ذلك.

وقوله - جلَّ ذكرُه -: «فاسْتطعِموني أُطْعِمكُم» هذا جوابُ شرطٍ مقدَّر، أو جواب الأمر الذي كان في الشرط، يعني أنك إذا استطعمت الله فإن الله يطعمك، ولكن استطعام الله - عزَّ وجلَّ - يحتاج إلى أمرٍ مُهِمٍّ، وهو حسن الظن بالله - جلَّ وعلا -، أي أن تحسن الظن بربك أنك إذا استطعمته أطعمك، أما أن تدعو الله وأنت غافل لاهٍ، أو تفعل الأسباب وأنت معتمد على قوتك لا على ربك؛ فإنك قد تكون مخذولًا، والعياذ بالله، لكن استطعم الله وحده وأخلص له وحده في ذلك.

«يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم»، كلكم عار إلا من كسوته، ذلك لأن الإنسان يخرج من بطن أمه ليس عليه ثياب، بل يخرج مجردًا؛ لا ثياب، ولا شعر يكسوه، كما يكون في الحيوان، وهذا من حكمة الله عزَّ وجل.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 115.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 114.10 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]