العلامة ابن غديان منبر العلم ومحراب العبادة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         ما أفضل حمية للمصابات بسكر الحمل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          دليلك الشامل لأنواع السرطان! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          ما لا تعرفه عن أسباب العقم! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          العصبية وصحة القلب: هل الغضب يدمّر صحتك؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          أعراض مرض الزهري: كل ما تحتاج معرفته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          أطعمة غنية بسكر الفركتوز: هل هي ضارة أم مفيدة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          7 نصائح ذكية حول كيفية الوقاية من داء القطط للحامل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          أسباب وعوامل خطر الإصابة بسوء التغذية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          أطعمة تحتوي على الكربوهيدرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          إنقاص الوزن بعد الولادة: طرق آمنة وفعالة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام > ملتقى أعلام وشخصيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22-03-2020, 02:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي العلامة ابن غديان منبر العلم ومحراب العبادة

العلامة ابن غديان منبر العلم ومحراب العبادة (1/3)
د. سعد بن مطر العتيبي




العلامة ابن غديان.. منبر العلم ومحراب العبادة

وشيخ النقل والعقل والرأي والفكر

(1/2)


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد:
إنَّ الحديث الوافي عن الكبار عسير.. غير أنَّ سيرتهم لا تخلوا من منارات للمستهدين، ودوافع خير للراغبين.. ومن ثم فالحديث عنهم مهما قلّ، يكشف للأجيال أمثلة معاصرة من رموز الصلاح والتقى والعلم، ويجعل شواهد بعض ما يقرؤون من سير الأعلام النبلاء ما ثلة للعيان، كما يرسم للأجيال منطلقات جِدّ، وقدوات عمل، بعيداً عن النعي المذموم..
من هنا كان حديثي عن هذا العلم الكبير..

التقيته في صغري وفي دار الإفتاء وفي مسجدها مراتٍ، وكنت في بعضها غير مرتاح.. نعم! ولكن كم هي الفروق بين انطباعات البعيد وقناعات القريب! لكأنَّها فرع عن الفروق بين انطباعات من يُنظّر في الذِّهن، وقناعات من يطبّق في الميدان! بل لكأنها قناعات من يسمع – حقا وباطلا – ومن يرى الحقائق رأي العين! فما راءٍ كمن سمعا.. وكيف يكذِّب عينه من رآى بها!

نعم! التقيته، ولم أكن أعلم حينها حقيقة: أنني كنت أمام منبرِ علمٍ نادر، ومحراب عبادة عتيق، وعقل في الرأي ثاقب، وزهدٍ في الدنيا عجيب، هكذا أحسبه ولا أزكي على الله أحدا.. تلك الصفات هي الحقيقة التي يشهد بها العارفون له..

ذلكم هو شيخ عدد من شيوخي، وشيخي الذي أفدت منه كثيراً كثيراً.. إنَّه الشيخ الفقيه الأصولي الزاهد العابد العلامة / عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن قاسم آل غديان، المولود عام 1345 هـ في مدينة الزلفي، من ديار نجدِ جزيرة العرب. و يرجع نسبه إلى آل محدث من بني العنبر من بني عمرو بن تميم؛ ويرجع نسب أمَّه إلى آل راشد من عتيبة، من قبيلة هوازن.

نعم لم أكن أعلم حينها بعض تلك الصفات آنفة الذكر - لشيخنا العلامة عبد الله بن غديان - فضلاً عن جلِّها، إلا بعد أن خالطته مخالطة التلميذ شيخَه، وجلست بين يديه (دارساً) في المعهد العالي للقضاء، وطالباً في حلقة الدرس بالمسجد، أو زائراً في استشارة علمية أو شخصية، أو سامعا لاستشارة تصدر منه في جوابِ حاضرٍ أو متحدثٍ في هاتف، ومتتبعاً لبعض خبره تتبع المحب له و المعجب بصفاته تلك، التي قلَّ أن تجتمع في عالم يشار إليه بالبنان فضلاً عن غيره.. وتلك الصفات التي ذكرتها من قبل، ليست إلا منطلقات هادية إلى طريق الحديث عن بعض ما يفيد الجيل من سيرته، ولذا جعلتها محور هذا الحديث - الموجز - وهذه النتف عنه!

1) أمَّا الزهد في الدنيا، فسأجمل الحديث فيه؛ لأنَّ فيه من الخفايا والأسرار ما لا يكاد يُصَدَّقُ فيه من تَحَدَّث، ولذا فلن أتحدث عن تفاصيل قصة الشيك الذي كتبه الشيخ رحمه الله في أواخر حياته لدائنه (الذي يعرف الشيخ وزهده)، ولا كيف أعلم الدائنُ الشيخَ فيما بعدُ: أنه شيك بلا رصيد! فما كان من الشيخ إلا أن قال: تجده إن شاء الله.. قريبا ينزل الراتب! بينما الظنّ بمثل حاله عند من لا يعلمه أنَّ رصيد مثله لا ينضب!

ولن أتحدث عن تفاصيل قصة الراتب الذي وعد به الشيخ دائنَه! فهو راتب منقوص! تسترد منه الدولة نسبة التقاعد، مع أن صاحبَه يستحق الراتب كاملاً - بحسب الأنظمة - منذ أربعة وعشرين عاما تقريبا!

ولن أتحدث عن تفاصيل امتلاك الشيخ دارته، التي لم يمتلكها ملكاً خالياً من الدين، إلا قبل وفاته بثلاث سنين أو تزيد قليلا!

ويكفيك من ذلك كلّه أن تعلم أن الشيخ رحمه الله لا يظهر عليه شيء من التمظهر بالزي المتميز الذي يحرص عليه بعض طلبة العلم، فضلاً عن أقرانه من كبار العلماء الأجلاء، حتى إنَّه لا يمكنك معرفته حين تراه رأي العين، إلا أن تكون قد عرفتَه من قبل، أو أن يُعلمك من يعرفه بأنه هو! وكم سأله سائل عن نفسه قائلاً له: أين الشيخ ابن غديان؟ فيجيب الشيخ بكل تواضع: وصلت، وش تبي منه؟ وش عندك؟

وكم سألني في مسجده من شخصٍ: أين الشيخ ابن غديان؟ قالوا لي إنه إمام مسجد الإفتاء؟.. والشيخ واقف يؤدي السنة القبلية أو البعدية! أو يأتي داخلا المسجد، ويتقدم ليصلي بالناس؛ فتجد نظرة التعجب في عين الباحث عنه! وكأنه يقول: أهو هو يا ترى؟ بل منهم من انتظر حتى انتهينا من الصلاة فاتجه إلى الشيخ يسأله مستبعداً أن يكون هو: أين الشيخ ابن غديان؟

2) وأمَّا العبادة، فسأجمل الحديث فيها أيضاً؛ لأنَّني اكتشفت أنني لا أعلم عنها إلا القليل، وقد علمت أنني إنَّما أدركته – منذ عام ثلاثة عشر وأربعمائة وألف - بعد أن ضعف جسمه عن القيام بما كان يقوم به من العبادة من قبلُ! بسبب عوارض صحية، كان أثرها عليه ظاهراً في صلاته، مما قد يستغربه بعض من لم يعرف عذرَه، وهذا يذكرني بقصة مالك رحمه الله وسدله يده في الصلاة بسبب ما جرى له..

ومما رأيته من عبادته:
كثرة قراءته للقرآن الكريم، وعنايته به قصدَ التدبّر؛ وقد أرشدني رحمه الله إلا تقسيم مصحفي (طبعة الشمرلي)، على نحو تقسيم ما يعرف بـ(المصحف الباكستاني) الذي يرسم بالحرف الأردي؛ لأنَّ كلّ ربع حزبٍ (ثمن جزء) منه يتضمن قسمين يطلق على كلٍ منها ركوعا، فالربع فيه ركوعان، وأنَّ تقسيمهما أقرب إلى التقسيم الموضوعي الذي يفيد في التدبّر، كما يقول رحمه الله! وأنه مقسّم للسير عليه في إمامة الناس في الصلاة الجهرية.

وقد أوتي الشيخ رحمه الله خفة لسان في القراءة؛ فهو سريع القراءة.. وقد قدرت له قراءة سورة الدخان بقراءة سورة الفجر عند غيره - ممن لم يعتد السرعة في القراءة - تقريبا؛ وهي سرعة لا تكاد تشعر بها، لولا انقضاء قراءته سريعا.. وقد حدثني ابن الشيخ عبد الله الشيخ الدكتور محمد أنَّه خرج مع الشيخ في سفر إلى الطائف بالسيارة، فما إن خرج من البنيان حتى قال: تقضب لي أبي أقرأ؟ قال: فبدأ بالفاتحة ودخلنا الطائف وهو في آخر الختمة! قرابة سبع أو ثمان ساعات! وله في هذا الأمر أخبارٌ أخرى.

وقد قال لي الشيخ صالح المرشد (الواعظ العابد) رحمه الله ذات مساء - بعد أن سألني آنذاك عن الدروس التي أحضرها -: هل صليت خلف ابن غديان؟ قلت: نعم! فقال معترضاً على سرعته: الله يهديه يسرع في القراءة؟ سمعته قرأ خمسة أجزاء في ساعة! ولا أدري كيف؟ أنا يا الله أقرأ أربعة أجزاء في الساعة! هكذا قال رحمه الله!

قلت: رحمكما الله! يا له من جيل تشبّع بحب القرآن؛ فتلاه لله! ولم يعرف جوائز حفظ، ولا تشجيع أفراد ولا مؤسسات؛ وإنَّما هو اليقين بعظمة القرآن وبركته على صاحبه دنيا وأخرى.. ومن اعتاد السرعة في تلاوة القرآن في المواسم – كشهر رمضان وعشر ذي الحجة ولا سيما يوم عرفة الذي ربما ختم الشيخ رحمه الله فيه ختمة كاملة أو تزيد - خفّ لسانه بالقرآن حتى يعان على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وليس ذلك إعراضاً منهم عن السنة، وإنَّما هو أثر من آثار عنايتهم بالمواسم ومراعاة فضائل الزمان والمكان وحرصهم على قيام الليل والله تعالى أعلم.. وتلك عادة ذلك الجيل، ورحم الله الوالد فقد كان يتلو القرآن على كل حال، في المنزل، و المسجد، وفي الطريق ماشيا، والسيارة راكبا!

ومما رأيته من صلاة الشيخ رحمه الله: كثرة صلاته للنوافل، مع عنايته بالسنن الراتبة، قبلية وبعدية، وبصلاة الليل، وله في بدء وقتها رأي، وكان رحمه الله قبل بضع سنوات يصلي راتبة العشاء، ثم يصلي ما تيسر له فيما يقارب الأحد عشر أو الثلاثة عشر ركعة ويدعو في الوتر، ونحن ننتظره في مجلس الدرس، ثم ينصرف إلينا ويبدأ الدرس حتى وقتٍ متأخرٍ ولا سيما في فصل الصيف، واستمرّ على ذلك مدّة، ثم صار يصلي الليل في المنزل شأنه في غير أيام الدرس.

وقد حدثني عنه ابنه د. محمد بارك الله فيه ونفع به: أنَّهم كانوا ينصرفون من صلاة الفجر يوم الجمعة زمن الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، ثم يتسابقون بعد الصلاة لحجز أماكنهم لصلاة الجمعة في الصف الأول ويكون غالبيتهم قد ختموا القرآن قبل الآذان الثاني وكان الواحد منهم يعيب على من يراه يقرأ في المصحف. أهـ ما ذكره الشيخ محمد حفظه الله نقلاً عن الشيخ عبد الله رحمه الله.

وحدثني الشيخ د. محمد – أيضاً - أنَّه كان يذهب بالشيخ إلى المسجد بعد ذلك في الساعة التاسعة تقريباً ويشرع الشيخ بصلاة النافلة إلى حين دخول الخطيب، فيجمع في هذه العبادة أفاضلها وهي: الصلاة، وقراءة القرآن، والدعاء، والذكر.. وهذه عبادة مأثورة عن صالح سلف الأمَّة، ولربما قرأ في بعض أوقاته في مثل هذه الصلوات ما يتراوح ما بين ثلث القرآن ونصفه. ثم لمّا اشتدّ به المرض (الذي امتدّ سبع سنين) وأعجزه عن الذهاب مبكراً صار يذهب بعد ذلك شيئاً فشيئاً، حتى صار يتأخر لتضرره، رحمه الله وعظّم مثوبته. أهـ ما ذكره الشيخ محمد حفظه الله.

قلت: والله لكأني أرى في هذا السلوك سلوك الوالد في صحته ومرضه! رحمهم الله وأجزل مثوبتهم! فيا له من جيل عرف قدر العبادة، وما أشغلته الدنيا عن الآخرة..

لقد بلغ من تعظيمهم للقرآن ما لا يعبّر عنه إلا قول الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾؛ فلقد رأيته أثناء خروجنا من الدرس يتوقف عند حامل مصحف، ويأخذ أحد المصاحف المنكوسة عليه ويجعل وجه المصحف إلى الأعلى! بينما تجد بعض الناس يضع المصحف على الأرض ويقرأ فيه وهو على تلك الحال! محتجا بفتوى في جواز ذلك! وكأنَّ فتوى الجواز عند من يجيز تتعارض مع تقوى القلوب! ولكنه الجهل بقدر التعظيم، والغفلة عن الفروق بين فتوى العامة وسلوك الخاصّة وما يصاحبه من نية التعبّد والتربية..

بل لقد كان الشيخ رحمه الله يأتي لحلقة الدرس في المسجد، والطلاب قد أخذوا مقاعدهم، والكتب المتراكمة بين أيديهم تكاد تسد طريق الشيخ إلى مجلسه؛ فيأتي الشيخ يتخلل بين الكتب خشية أن يعلو شيئاً منها بقدمه أو حتى طرف ثوبه!!

وله في برّ أمِّه أخبار، قال فيها ابنه الشيخ د.محمد حفظه الله إنَّها:" أخبار لا يصدقها إلا من وقف عليها بنفسه، أو حدثه بها الشيخ - رحمه الله - ولقد كان من مواقفه العجيبة، وبرّه بأمِّه بأن اختاره سماحه الشيخ: ابن باز - رحمه الله - ليرافقه إلى المدينة النبوية عندما كُلِّف نائباً لرئيسها سماحه الشيخ: محمد بن إبراهيم - رحمه الله - فقال الشيخ عبدالله - رحمه الله - أنا القائم بشؤون والدتي وأرى من المصلحة أن تبقى في الرياض، فقبل سماحه الشيخ: ابن باز - رحمه الله - اعتذاره وأوصاه خيراً بأمِّه. فهل نعجب من عذر الشيخ: عبدالله أو من قبول عذره من سماحه الشيخ: ابن باز - رحمة الله على الجميع -".

وأكتفي بهذا إلى حين المقالة الثانية إن شاء الله تعالى.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22-03-2020, 02:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,335
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العلامة ابن غديان منبر العلم ومحراب العبادة

العلامة ابن غديان منبر العلم ومحراب العبادة (2/3)
د. سعد بن مطر العتيبي




العلامة ابن غديان.. منبر العلم ومحراب العبادة

وشيخ النقل والعقل والرأي والفكر (2/3)


في المقالة الأولى كان الحديث عن شيء من زهد الشيخ عبد الله الغديان رحمه الله، وعن شيء من عبادته.. وكانت تحت عنوان (العلامة ابن غديان.. منبر العلم ومحراب العبادة)..

وفي هذه الثانية سيكون الحديث – إن شاء الله تعالى - عن شيء من علم الشيخ، ويمكن أن توضع تحت عنوان: (العلامة ابن غديان.. شيخ النقل والعقل والرأي والفكر)..

وقد وجدتني مضطراً لجعل هذا الموضوع في مقالتين، ثانية، وثالثة؛ إذ وجدت الحديث قد تجاوز ضعف هذه المقالة، ولا سيما بعد رسالة وردتني من بعض من يعز عندي، من محبي الشيخ رحمه الله.

وحتى تتصل المقالات الثلاث، أتمها على تسلسل فقراتها..


العلامة ابن غديان.. شيخ النقل والعقل والرأي والفكر

(2/3)

سبق الحديث في الفقرة السابقة عن جانب الزهد والعبادة عند الشيخ العلامة عبد الله الغديان رحمه الله.. ولقد كنت ألمحه في الدرس متأمِّلا حالَه! وأرقب شيئا من صفاته، ولن أبالغ إن قلت: إن من يقرأ واقع السيرة العلمية والعملية للشيخ رحمه الله، يجد فيها معالم صفات قلّ أن تجتمع في عالم واحد؛ ففي سيرته من أصالة وحذر علماء نجد، وجَلَد وتحقيق علماء العراق، ولغة وطرح علماء المغرب، وتنسّك وعبادة علماء الشام، وزهد علماء اليمن، وموسوعية علماء مصر – ما لا يكاد يخفى على من له به اتصال.

ولمَّا طلب الإخوة في (قناة دليل) حديثاً عن الشيخ عبد الله الغديان رحمه الله - وذلك مع فضيلة الشيخ / د. فهد الجهني سلمه الله - وجدتني أُردِّد بثقة عجيبة، عبارة تراثية كنت أستغربها لقربها من المبالغة، وهي قول بعض أهل التراجم عن بعض العلماء: " وحيد دهره، وفريد عصره "! وربما كان من أسباب ذلك أنَّ من المترجِمِين من يخونه التعبير عن كل ما يعرف عن شيخه، حتى لا يجد بدّاً من التعبير بهذه العبارة المأثورة عنهم.. ولا أظن أحداً يعرف الشيخ عن كثب، لا يجد لهذه العبارة مصداقية في سيرة هذا العلم، في هذا العصر.. وقد وقفت بعد إعداد هذه المقالة على مقالة بعنوان (زكاء يتلظّى ذكاء)، راسلني بها فضيلة الشيخ د.عبد الوهاب الطريري سلمه الله، فوجدته قد رقم ذات المعنى واصفا شخصية الشيخ العلمية بقوله: " كان الشيخ شخصية علمية استثنائية في النمط العلمي المتتابع، ولم يوجد له نظير فيالشخصيات العلمية المعروفة حيث اختط طريقاً غير مسلوك؛ فقد كان النمط العلمي خلالالعقود المتعاقبة قبله معتنياً بالعقيدة والفقه ومشاركاً في غيرها، أمَّاالشيخ فكان إضافة نوعية من حيث التعمق في الأصول والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة،مع الإتقان لعلوم المنطق والجدل ونحوها من العلوم التي لم تكن رائجة في المحيطالعلمي آنذاك ".

وعودا إلى أصل الموضوع أقول:
3) وأمَّا العلم؛ فإنَّ علم الشيخ رحمه الله علم واسع نافع، يعمِّق الإيمان، ويحفظ الكيان، جمعَ فيه بين النقل المعصوم والعقل المصون؛ فأثمر درء التعارض، و دقّة الإفصاح عن الرأي وبيان الفكر؛ حتى إنَّك تجد وصف (عالم) ينطبق عليه انطباقا يذكّرك بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء)؛ ويذكرني بحكاية أوردها العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، مبينا أنها مما مرّ به في بعض الكتب قديما، قال رحمه الله: " يُذكر أنَّ الشيطان - أبا الشياطين - الذي يَجعل له كرسياً على البحر، ويبث جنوده وسراياه في إضلال الخلق، قالت له ذريته: لم تفرح بموت العالم أكثر مما تفرح بموت العابد ؟ قال: لأن العالم يرشد الناس ويهديهم ويدلهم، ولا أتمكن من إضلاله، لكن العابد تنطلي عليه الأمور!، قالوا: كيف ذلك ؟ قال: أنا أختبرهم لكم، فأرسل من جنوده من يقول للعابد: هل يستطيع اللهُ أن يجعل السمواتِ والأرضَ في جوف بيضة ؟، والعابد يعبد الله ليل نهار، ففكر وقال: لا يستطيع!!!، فرجع المندوب وقال: إنه يقول لا يستطيع، قال: انظروا الآن كفر الرجل وهو لا يدري!، فأرسله إلى العالم وقال له: هل يستطيع الله أن يجعل السموات والأرض في بيضة ؟ قال العالم: نعم يستطيع ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾، لو قال للسموات كوني في جوف بيضة كانت، إما أن تكبر البيضة أو تصغر السموات والأرض!!.. فرجع إلى شيطانه وأخبره بقول العالم، قال: انظر!!.. هذا تخلص وذاك المسكين كفر!! ".

لقد كانت منهجية الشيخ عبد الله الغديان - رحمه الله - تقوم على بناء الشخصية العلمية، التي تملك أدوات النظر العلمي، وتمارس الدّربة عليه من خلال التطبيق العملي، بربط المسائل الفقهية بقواعد تأصيلها فقهاً، فتُرِيكَ من انتظام الفقه في المؤلفات الفقهية ما يُدهِش؛ وبربط القواعد الأصولية وقواعد الاستدلال بأدلة نصوص الشريعة ما يؤكد انتماءها للثوابت التي تحفظ النصوص من عبث العابثين؛ فتتهاوى أمام طالب العلم كلُّ دعاوى إعادة قراءة النصوص الشرعية على غير تلك القواعد، وتكشف لك سرّ ورطة بعض العقول أمام النصوص، وتردّ الورطة إلى تشابك ضعف التحصيل مع عقولهم، حين غاب عنها التأصيل..

وقد جرى ذكر الشيخ عبد الله الغديان رحمه الله وعنايته بعلم أصول الفقه في مجلسٍ منذ ليلتين، فحكى لنا أستاذنا المفضال وشيخنا الجليل د. منير البياتي - حفظه الله - بعض خبره مع دعاة تجديد الفقه في بعض الجامعات الإسلامية ومعاناته منهم، وختم حديثه بقوله: قواعد الاستدلال الأصولية تحفظ الفقيه من الزلل في فهمه للنصوص الشرعية، كما تحفظ قواعد النحو المتحدث من اللحن في كلامه.

ولا أظنّ متابعا للحراك الفكري إلا واجداً عند الشيخ جديداً في تفنيد مهالك الفكر، ومكتشفاً في علم الأوائل من الأجوبة ما يشفي غليل أولي الذكر، وكأنَّ التاريخ يعيد نفسه شبهة وجوابا.. ولعلّ هذا من أسرار جاذبية دروس الشيخ لدى طلابه.. تلك الجاذبية العجيبة التي عبّر عنها أحد كبار تلاميذ الشيخ الملازمين له، فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبد العزيز العقيل - حفظه الله - حين وصف دروس الشيخ في قوله: "من العلماء من تتلقى عنه حتى تأتي المرحلة التي ترى أنك لا تجد لديه مايمكن اعتباره إضافة على ما حصلته منه، إلا أنه وعلى مدى أكثر من ثلاثين سنة من تلقيالعلم عنه رحمه الله، فإنك تجد نفسك لا تستغني عنه وكأنَّ علمه رحمه الله ليس له غايةتنتهي إليها".

لقد احترت كثيراً من أين أبدأ في الحديث حول علم الشيخ رحمه الله! فمنهجية الشيخ العلمية قد أوضح معالمها الشيخ الدكتور صالح بن عبد العزيز العقيل حفظه الله، وذلك في مقالته القيمة: "من مآثر العلامة ابن غديان وصفاته العلمية" لذا رأيت أن أكتفي بالإحالة إليها، في بيان تلك المعالم، وأن أحصر حديثي في محاولة التوقف عند خواطر من وحي ما يسرّ الله لي حضوره من الدروس العلمية ذاتها، وشيءٍ من فوائدها ومناراتها.. وذلك في الفقرات التالية:

أولاً: تدريس الشيخ في المعهد العالي للقضاء:
ما أحسنها مفاجأة! ويا لها من فرحة، حين وجدنا ذكر الشيخ (الغديان) في جدول اليوم الدراسي في المعهد.. هما محاضرتان متتاليتان في مقرر (القواعد الفقهية)، يجتمع فيها للشيخ طلاب القسمين: قسم الفقه المقارن، وقسم السياسة الشرعية، شأن كبار العلماء الذين يدرِّسون في المعهد العالي آنذاك؛ وقد تكرر ذلك في السنة الثانية التي كان يدرسنا فيها مقرر (مقاصد الشريعة).

وكانت أعداد الطلاب حينها أعداداً معقولة، قريبة من المعتاد في الدراسات العليا في الجامعات الأخرى، فقد كنَّا نجتمع في قاعة دراسية واحدة بحجم فصل دراسي في المدارس المتوسطة (الإعدادية)! فيحاضرنا الشيخ – رحمه الله - بعد أن يتم تحضير الطلاب من قبل أحد الزملاء وأحيانا من قبل بعض موظفي شؤون الطلاب أو مدير شؤون الطلاب حينها أبي محمد سفر آل شبر سلمه الله، الذي كان يقدّر أهل العلم الكبار تقدير الرجال الأوائل.. وأبو محمد من الشخصيات التي لا يمكن الحديث عن تاريخ تلك المرحلة دون أن يكون حاضراً في كل مشاهدها؛ فقد كان من الموظفين الذين يرون أداء الوظيفة أمانة، والإخلاص فيها ديانة؛ فجزاه الله عنا خيرا.

وكان الشيخ عبد الله رحمه الله يعتمد في تدريسه (القواعد الفقهية) كتباً من المذاهب الأربعة؛ لنعرف القواعد المتفق عليها من القواعد المختلف فيها في مذاهب الأئمة، إضافة إلى معرفة الفروق بين صيغ القواعد عند كل مذهب، كما كان من أهدافه التي يصرِّح بها: الدربة على القراءة الصحيحة لهذه الكتب وما في معناها.

والكتب الرئيسة التي كان يفرضها الشيخ علينا: (الأشباه والنظائر) لابن نجيم الحنفي، و(الفروق) للقرافي المالكي، و(الأشباه والنظائر) للسيوطي الشافعي، و(القواعد) لابن رجب الحنبلي؛ ينتقي من كلٍّ منها أهم القواعد، مع جملة من القواعد من كل الأبواب، يشرح ما يحتاج منها إلى شرح، و يطالبنا بالباقي دون شرح منه؛ شأن الدراسات العليا.

كما كان يكلفنا أثناء الدراسة بأبحاث من نوع خاص؛ فتعليمه لا ينفك عن كتاب، وتكليفاته لنا لا تنفك عن كتاب! ويمكن أن يوصف تكليفه بالتطبيقات الفقهية للقواعد الفقهية؛ إذ كان يُقسِّم كتب الشروح الفقهية المشهورة في المذاهب بين جميع الطلاب، يكون الكتاب الواحد بين اثنين أو ثلاثة أو أكثر بحسب حجم الكتاب - وكان نصيبي الجزء الثاني من كتاب (المهذب، للعلامة الشيرازي) وهو كتاب لوصول نسخته الوحيدة إلينا قصة، فبقية نسخه أحرقها المؤلف!

أمَّا المطلوب منّا، فهو: قراءة الكتاب، من خلال مشروع قراءة، يُلزِمنا فيه بجمع كل ما يمرّ بنا من القواعد والضوابط الفقهية، مع ذكر المسألة التي عُلل حكمها بالقاعدة أو الضابط، والتفريق بين القواعد والضوابط؛ وتقوم فكرة هذا الطلب على حقيقة أفادها الشيخ رحمه الله، وصرّح لنا بها في أكثر من درس، وهي: أنَّ كتب الشروح الفقهية مظنّة القواعد والضوابط الفقهية، فالفقهاء يذكرون – عادة – في شروحهم: التعليل بالقواعد والضوابط الفقهية للمسائل، بعد ذكرهم الأدلةَ النصية لها.

وأمَّا مقرّر (علم المقاصد) فكان يشرح فيه كتابين رئيسين هما: (الموافقات للشاطبي) [قسم المقاصد]، وكتاب (مقاصد الشريعة) للطاهر ابن عاشور. مع توضيحات مهمة لما يعرض من المسائل، وكان يتوقف عند مواطن الإشكالات، ولا سيما ما اشتهر منها بين الناس مع عدم دقته، كقول من يقول: إنَّ الطوفي يقدم المصلحة على النصّ!

وكان لدرس الشيخ رحمه الله في المعهد العالي مذاق خاص وجاذبية هائلة؛ فلا يستطيع الطالب الجاد التفريط في درسه؛ لما يجده من فوائد، ولفتات مهمّة، قلَّ أن يجدها عند غيره إن هو وجدها.

ولمَّا قدّر لي – بعد ذلك - أن أعمل في لجان الامتحانات، وكان الشيخ رحمه الله لا يزال أحد أهم الشيوخ الذين يدرِّسون في المعهد، كنت أُسرّ كثيراً حين أُنتدب لتسليمه أجوبة الطلاب لتصحيحها، وذلك في مدينة الطائف؛ فقد كان تسليمها إليه واستلامها منه، فرصة للقاء به والجلوس بين يديه؛ بل كنت أحيانا أذهب لاستلامها منه مسافرا من الرياض إلى الطائف؛ فأجده لم ينته منها بعد، فيقعدني عنده وهو يصحح، وألحظ فيه أناة في التصحيح، وتفاعلا مع الإجابة، ما بين ابتسامة و عبوس، وتعجب.

وأكتفي بهذا القدر في هذه المقالة، متوقفا عند فقرة الحديث عن دروس الشيخ في المسجد؛ لتكون أولى موضوعات المقالة التالية إن شاء الله، مع حديث عن تراث الشيخ رحمة الله عليه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 78.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 76.07 كيلو بايت... تم توفير 2.17 كيلو بايت...بمعدل (2.78%)]