|
ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() سيرة محمد بن عبد الكريم بن محمد المغيلي التلمساني د. بن يحيى الطاهر ناعوس توطئة: الحمد لله الذي منَّ علينا بالمنن الجليلة، وأكرمنا كرامة فيها صفاتٌ جميلة،وأعظمها هي نعمة الإسلام،فيها سرّ سعادتنا في الدُّنيا والآخرة، ونصلِّي ونسلِّم على المبعوث رحمة للعالمين. في هذا السياق نقِف وقفة إجلال مع عُلماء اختارَهم الله فرفَعُوا لواء العلم والمعرفة في بلاد تلمسان، الَّتي اشتهرت في التَّاريخ بثلَّة من العلماء والفقهاء، الَّذين سجَّلوا أسماءَهم بحروف من نور في سماء الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة عبر العصور والسنين والدّهور، فكأنَّهم الدّرّ المنثور والتِّبْر المنشور في الكتاب المسطور والكون المنظور. ففي هذه السَّماء سطعت أسماء كثيرة، أنارت الدروب، وأضاءت العقول، بالعلم النيِّر الذي هو نبراسٌ في يدي الإنسان ونبعُ العرفانِ والتطوُّر في شتَّى الميادين، وتسبح هذه الأنجمُ في فلكِ البحثِ والتَّنقيب لترسم الطريقَ المستقيم، وترفع الغبن عن العقول المتحجّرة التي تبحث عن مَن يسقيها بماء الحكمة، الَّتي هي نبع كل خير، ونبراس كل شرف. من هنا وفي تلمسان، بلد الحضارة والقِيَم، يبزغ نجم عالِم ترعْرع في أحضان مغيلة، قبيلة من البربر استوطنتْ تلمسان ووهران والمغرب الأقصى، وهي فرْع من قبيلة صنهاجة، كبرى شعوب الأفارقة، يظهر في سنة 790 هـ / 1425 م أبو عبدالله، محمد بن عبدالكريم بن محمد المغيلي التلمساني، في أسرة عُرفت بالعِلْم والأخلاق الفاضلة؛ فقد كان الابْنُ يرى طلاَّب العلم يتوافدون على والدِه عبدالكريم الَّذي اشتهر بالعلْم والورع والتَّقوى، فرَأَتْ عيْنا الطفل محمَّد الأب الوقور الَّذي يحترمه النَّاس، وكان يجلس معه يستمِع لكلامه الَّذي تتلقَّفه آذان المريدين بكلّ شغَف وحبّ، وعندما ينتهي الوالد مِنْ حلقتِه يَخرج الطلاَّب بكلِّ وقار واحتِرام وهُم يقبِّلون رأس العالِم وابنِه، ينظر لكلّ هذه المشاهد التي رسخت في مخيلتِه وسنراها فيما بعدُ تَكْبر معه، وتكون هي اللبنة النيّرة التي كوَّنت شخصيَّة هذا الطفل. وظلَّ الطِّفل يتلقَّف العِلم من يدِ والدِه، الَّذي علَّمه قراءة القُرآن الكريم، وكانت مظاهر النبوغ والتفوُّق تبزغ في ملامحه، فيجلس يعْرض ما حفظه والأب يسمع ويلاحظ، وما إن يتمّ الطّفل القراءة فيُثني عليه الثناء الحسن فيزداد حَماس محمَّد على طلب العلم، والأخذ من شتى صنوفه، فصار قارئًا يُضرب به المثل في الحفظ وحُسْن التَّجويد وضبْط أحْكام التِّلاوة، وفي حفل تخرّج الطفل يحضر جَمع كبير من شتَّى البقاع، ويمتلئ المسجد عن آخره فيتقدَّم الأب بكلمة يرحّب فيها بالحضور، ويسأل الله أن يأْجرهم على تعَبِهم وتحمُّل أعباء السَّفر، ثمَّ جاء المتحدِّثون تتْرى، وأخيرًا جاء دوْر الابن محمَّد فألقى السَّلام، وبدأ بحمد الله، ثمَّ شرع في التّلاوة فأعجب الحضور بحلاوة صوتِه وحسن أدائه، وجاءت لحظة التَّكريم وانتهى الحفل البهيج. وهكذا صار يعرف بالدَّاعية المصلح، والعالم والفقيه، والقارئ محمد بن عبدالكريم بن محمد المغيلي، الَّذي وصل إلى مملكة صنغاي بالنيجر، مرورًا ببلاد التكرور وكانو، بعد أن انتقل من تلمسان إلى واحات أدرار تمنطيط توات، وغيرها من القصور بالصحراء الإفريقية الشَّاسعة مجاهدًا في سبيل نشر الدَّعوة، وتنقية الإسلام ممَّا علق به من شوائب البِدَع والخزعبلات. يُعتبر محمَّد العالِم رقم عِشْرين في سلالة المغيليين الَّتي تبتدئُ بإلياس المغيلي، وهو ذلك العالم البربري الَّذي اعتنق الإسلام، وحمل لواء الجهاد فكان له شرف المشاركة مع طارق بن زياد في فتح الأندلس، والدُه عبدالكريم اشتهر بالعلم والصلاح، كما أنَّ أمَّه اشتهرت بأنَّها سيّدة فاضلة تحب الفقراء والمساكين، وتنفق عليهم بسخاء، وقد قام هذان الوالدان - كما أسلفْنا - بتربيته وتنشِئَته تنشئة حسنة طيِّبة مباركة. بين أحضان الأب الوقور: لم يحفظ القُرآن الكريم على يد والدِه فقط، وإنَّما علَّمه أيضًا مبادئ العربيَّة من نحو وصرْف وبيان، كما قرأ عليه أيضًا موطَّأ الإمام مالك وكتاب ابن الحاجب الأصلي، وقد سأل والده في بداية دراستِه عن هذا الكتاب العظيم، عن سر تسميتِه بالموطَّأ، فذهب إليه مسرعًا فوجده جالسًا يعلّم طلابه العلم فانتظر حتَّى أنْهى كلامَه ثمَّ قال: يا أبت، عندي سؤال يحيّرني ولم أستطع الإجابة عنه؟ فقال الأب: ما هو السؤال الَّذي يحيرك يا بني؟ فقال الابن: لماذا سمَّى الإمام مالك كتابه بالموطأ، فقد حاولت أن أفهم ولم أستطع إلى ذلك سبيلاً؟ فقال الأب بكلّ وقار وتواضُع: يا بُنيَّ، إنَّ الموطَّأ هو واحدٌ من دواوين الإسلام العظيمة، وكتُبه الجليلة، يشتمِل على جُملة من الأحاديث المرْفوعة، والآثار الموقوفة من كلام الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ثمَّ هو أيضًا يتضمَّن جملة من اجتِهادات المصنّف وفتاواه، وقد سمّي الموطَّأ بهذا الاسم لأنَّ مؤلفه وطَّأَهُ للنَّاس، بمعنى أنه هذَّبَه ومهَّدَه لهم. وقد نُقِل - يا بنيّ - عن مالكٍ - رحِمه الله - أنَّه قال: عرضتُ كتابي هذا على سبعين فقيهًا من فُقهاء المدينة، فكلّهم واطَأَنِي عليه، فسمَّيتُه الموطَّأ. وأمَّا سبب تأليفه: فقد ذُكر أنَّ أبا جعفر المنصور قال للإمام مالك: "يا مالك، اصنع للنَّاس كتابًا أحْمِلُهم عليه، فما أحدٌ اليوم أعلم منك"، فاستجاب الإمام مالك لطلبه، ولكنَّه رفض أن يُلزِم النَّاس جميعًا به. وقد مكث - يا بنيَّ - الإمام مالك أربعين سنة يقرأ الموطَّأَ على الناس، فيزيد فيه وينقص ويُهذِّب، فكان التلاميذ يسمعونه منه أو يقرؤونه عليه خلال ذلك. ففرِح الابن بهذه الإجابة الشَّافية الكافية، ثمَّ شكر أباه ثمَّ انصرف فرِحًا مبتهجًا بما سمع من الكلام المفيد. ثمَّ انتقل بعدها ليدْرس عند الإمام الفقيه محمد بن أحمد بن عيسى المغيلي الشَّهير بالجلاب التلمساني (ت سنة 875 هـ)، والَّذي أخذ عنه بعض التَّفسير والقِراءات، ولقَّنه الفقه المالكي، فقد ذكر المغيلي أنَّه ختم عليه المدوَّنة مرَّتين، ومختصر خليل والفرائض من مختصر ابن الحاجب، والرسالة، وهكذا ظلَّ الابن يتنقَّل بين العلماء مُقتبسًا العلم تنقُّل النحلة بين الأزهار لتصنع الشَّهد الَّذي جعل ربُّنا فيه الشفاء لكلِّ سقيم. ولمَّا بلغ أشُدَّه وبلغ الثَّلاثين من عُمره، قرَّر أن يتعلَّم علم التَّفسير ويتبحَّر فيه، فسمع بعلَم من أعلام تلمسان في ذلك الزَّمان، زمان الرقيّ والعلم والحضارة والسؤدد، حيث توجَّه إلى عبدالرَّحمن بن محمد بن أحمد بن عليّ بن يَحيى الحسني أبو يحيى التلمساني (826 وقيل 825 هـ)، وهو عالم بالتَّفسير، حافظ محدِّث من أكابر فقهاء المالكيَّة، قال عنه أحمد بابا في "نيل الابتهاج": "بلغ الغاية في العلم، والنّهاية في المعارف الإلهيَّة، وارتقى مراقي الزُّلفى، ورسخ قدمه في العلم، وناهيك بكلامه في أوَّل سورة الفتح، ولما وقف عليه أخوه عبدالله كتب عليه: وقفت على ما أوَّلتموه وفهمت ما أردتموه، فألفيتُه مبنيًّا على قواعد التَّحقيق والإيقان، مؤدِّيًا صحيح المعنى بوجْه الإبداع والإتْقان، بعد مطالعة كلام المفسّرين ومراجعة الأفاضل المتأخِّرين". فأخذ عنه علم التَّفسير بجميع مدارسِه، حتَّى صار علمًا من أعلام التَّفسير، فأجازه الشَّيخ ورخَّص له التَّدريس. لكن نهم محمَّد لا يزال كبيرًا، وشغفه بالعلم عظيمًا، فقرَّر الاستزادة من العلوم الأخرى؛ مثل: التصوّف والطِّب والفنون الأخرى، فتوَجَّه تلقاء محمَّد بن إبراهيم - بن يحيى حسب الونشريسي في المعيار - بن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله ابن الإمام أبي الفضل التلمساني (ت 845 هـ)، عالم بالتَّفسير والفقه مشارك في علوم الأدب والطب والتصوُّف مِنْ أهْل تلمسان. قال عنه السخاوي في "الضوء اللامع": "ارتحل في سنة عشر وثمانمائة فأقام بتونس شهرَيْن، ثمَّ قدم القاهرة فحجَّ منها وعاد إليها، ثم سافر إلى الشام فزار القدس، وتزاحم عليه النَّاس بدمشق حين علموا فضله وأجلوه". وفي هذه المرحلة ظهرتْ موهبة جديدة تتمثَّل في عبقرية تدريس اللّغة العربية وتحبيبها إلى النَّاس، فقد استطاع أن يدرسها وينشرها في جُملةٍ من البلدان الإفريقيَّة بطريقة بديعة وجميلة، يشهد له بذلك كلّ علماء إفريقيا الَّذين تَتَلْمذوا على يديه. انتقل بعدها إلى بجاية حيث أخذ عن علمائها التَّفسير والحديث الشَّريف والفقه، وكانت بجاية حينئذٍ إحدى حواضر العِلْم والثَّقافة العربيَّة الإسلامية، وكيف لا يقْصدها وقد أصبحت قبلة العلم والعلماء؛ إذ كانت هذه الحاضرة قد استعانت بعلماء المشرق في نشْر العلم، ثمَّ سرعان ما أنجبت وخرَّجت علماء كثيرين سار بذكرهم الرّكبان، ليس فقط في المغرب الأوسط أو المغرب الكبير، بل وذاع صيتهم في المشرق العربي؛ حيث تولَّى بعضُهم التدريس والقضاء في الشَّام وبغداد ومصر. انكبَّ المغيلي على الدِّراسة في بجاية، تلقَّى خلالها علوم جمَّة على يد علماء أجلاء، أمثال: • الشيخ أحمد بن إبراهيم البجائي (ت سنة 840هـ /1434م)، إمام جليل، اشتهر بالتفسير والفقه، تتلمذ له المفسر المشهور الثعالبي. • منصور بن علي بن عثمان أبو علي الزواوي المنجلاتي، من فقهاء وعلماء بجاية، ومن ذوي العصبيَّة والقوَّة فيها، وكان من أصحاب الرَّأي والتدخّل في الأحداث السياسيَّة لمكانته المرْموقة، قال عنه السَّخاوي في "الضوء اللامع": "رأيتُ مَن قال: إنَّه الزَّواوي العالم الشهير، وأنَّه مات بتونس 846 هـ". كما أخذ عن غيرهم من العلماء، منهم: يحيى بن نذير بن عتيق، أبو زكريا، التدلسي، القاضي، من كبار فقهاء المالكيَّة، من أهل تدلس، تعلم بتلمسان وولي القضاء بتوات، أخذ عنه محمد بن عبدالكريم المغيلي، وأبو العباس الوغليسي، ويذكر المغيلي أنَّه: قرأ الصحيحَين، والسنن وموطأ الإمام مالك، والفقه المالكي". ولَم يكتفِ عبد الكريم المغيلي بما تحصَّل عليه من علوم في تلمسان وبجاية، بل راح يبحث الاستزادة من رحيق المعرفة، فتوجَّه مباشرة إلى الجزائر؛ حيث اتَّصل بالمفَسِّر المشهور عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف بن طلحة الثَّعالبي، صاحب التفسير المشهور "الجواهر الحسان"، ولازمه ملازمة لصيقة، وقد أعجب الإمام الثعالبي بالطَّالب المغيلي وبفِطْنته وذكائه، فزوَّجه ابنته اعترافًا منْه بعلمه وفقهه وأدبه. العلماء في عصر المغيلي: قدَّر الله أن يعيش الإمام المغيلي في فترة شهِدت بروز العديد من المفسّرين والعلماء والفُقَهاء والمؤرِّخين والأدباء والشّعراء، الكثير منهم خالطه واجتمع به وتبادَل معه مجالس العلم والأدب، نذكُر منهم العلاَّمة قاسم بن سعيد بن محمد العقباني، المتوفى سنة 837 هـ، والعلامة محمد بن أحمد بن مرزوق، المتوفى سنة 842 هـ، والعالم الصوفي إبراهيم التازي، المتوفى سنة 866 هـ، والعلامة الفقيه محمَّد بن يحيى التّلمساني المعروف بابن الحابك، المتوفَّى سنة 867 هـ، والعلامة محمد بن أبي القاسم بن محمد بن يوسف بن عمرو بن شعيب السنوسي، المتوفَّى سنة 895 هـ، والعلامة أحمد بن زكري التلمساني، المتوفى سنة 899 هـ، وابن مرزوق الكفيف، المتوفَّى سنة 901 هـ، والعلامة أحمد ين يحيى الونشريسي، المتوفَّى 914 هـ وغيرهم، ممَّا جعله يستفيد فائدة عظيمة من عِلْمهم ونصائحهم وإرشاداتِهم الَّتي سنرى أثرها في دعوته فيما بعد. يشبّهه الكثير من المؤرّخين والمترْجمين الَّذين كتبوا عنه وعن جهادِه ودفاعه لنشْر الإسلام الصَّحيح ومحاربة البدَع والمنكرات بشيخ الإسلام ابن تيميَّة نفسِه، الَّذي تأثر به وبأفكاره وكتبه ورسائله، الَّتي كانت تصل إلى الشطر الغربي من العالم الإسلامي. "وهو ما أجاب عنْه الدكتور عمار هلال في مقالة له نشرها بجريدة المجاهد الجزائرية بتاريخ 20 /06 /1985 م؛ حيث ذكر أنَّه: "في المؤلَّفات الجزائريَّة التي لها علاقة بالعلوم الإسلاميَّة: فقه وتفسير وحديث... إلخ في القرْن الخامس عشر الميلادي، هل نَجد أيَّ إشارة إلى ابن تيمية أو إلى أعماله؟ ليس من السَّهل الإجابة عن هذا السؤال، ولكن ما يسمح لنا بالاعتقاد هو أنَّ المغيلي نفَى نفسَه إلى الصحراء الجزائريَّة؛ حيث كانت المواصلات حينئذٍ من الصّعوبة بمكان، ومع هذا فإنَّ فتاتًا من المعلومات الَّتي وصلتنا من تلك المنطقة الواسعة للشَّرق الأوسط تجعلُنا نفكّر "في التشابه الكبير بين ابن تيمية ومحمد بن عبدالكريم المغيلي، المهم هو أنَّ كلاًّ منهما قد قام بعمله بدافع حماسته للإسلام، حتَّى لو أنَّهما لم يلتقيا، والمهمّ كذلك هو أنَّ الرسالة التي أرادا نقْلها وصلت تمامًا إلى الذين أرادا استقطابَهم ليصبحوا مؤمنين صالحين"، وكانت له مراسلات ومناظرات مع الإمام السيوطي ، نقلها ابن مريم في كتابه: "البستان في ذِكْر الأوْلياء والعلماء بتلمسان" أثناء ترجمته للمغيلي. الإمام المصلح ونازلة توات: نقم الإمام المغيلي وانزعج من سلوك سلاطين تلك الفترة، الَّذين كانوا يَحكمون مملكة تلمسان وبجاية، وبعد سخْطه على أفعالهم وخاصَّة على الكيفيَّة التي يعالجون بها رعاياهم، وبعد أن أثَّر فيه سكوت أو تغاضي المثقَّفين ورجال العلم، هاجر الإمام إلى منطقة تمنطيط بتوات أدرار، وكان لومه على السَّلاطين بسبب "عدم امتثالهم لا في حياتِهم الشَّخصية ولا في كيفيَّة حكمهم إلى قواعد الإسلام". إنَّ قصور توات وتيكرارين تمنطيط وأسملال وأولف وزاوية كونتة وفتوغيل، كلّها أسماء تشهد لهذا الإمام زُهْدَه ودعوته وعلمه وورعه، هذه المناطق التي زارها صال وجال فيها يقوم بمهمَّة الدَّعوة إلى الله والإصلاح، ونشْر المبادئ الإسلاميَّة الصَّحيحة النَّقيَّة كما عرفها السَّلف الصَّالح من الصَّحابة والتَّابعين - رضوان الله عليهم أجمعين - وقد احتضنتْه القبيلة العربيَّة الأصيلة (بني سعيد)، حيث عاش بينهم كواحد منهم يحترمونه ويبجلونه، ويستمعون إلى دروسه ويتبعون دعوته، حتَّى بدأ يكتشف دسائس اليهود الَّذين كانوا يعيشون في المنطقة منذ زمن بعيد، وكانوا يستحْوذون على السلطة الاقتِصاديَّة والموارد الماليَّة، وأفسدوا الأخلاق والذِّمَم - كما هي عادتهم دائمًا - حيث إنَّهم كانوا يتحكَّمون في أكبر كنزٍ في الصَّحراء ألا وهو: الماء، كما أنَّهم قاموا ببناء معبد لهم في واحة تمنطيط خارقين بذلك العهود التي بيْنهم وبين المسلمين، وقد شنَّ عليهم المغيلي حربًا شعواء لا هوادة فيها، لوضع حدّ نهائي لتجاوزاتهم واستهانتهم بالدّين الإسلامي، لقد ضيق عليهم الخناق وبذلك ظهرت ما يسمَّى "بنازلة توات". وأصل المشكلة التي طرحت على الفقيه الإمام المغيلي، هو أنَّ بعض المسلمين من "توات"، تلك الناحية المتواجدة في وسط الصحراء الجزائرية، والتي تضمّ عددًا من الواحات أو القصور كما يسميها سكَّان الجنوب، وأهمّها في القديم واحة "تمنطيط"، وهي لا تزال موجودة إلى يومنا هذا، وقد تفوَّقت عليها في العصر الحاضر مدينة أدرار، وتمنطيط هي اليوم ضمن ولاية أدرار. قلت: إنَّ بعض المسلمين من توات قد أنكروا على اليهود القاطنين في المنطقة سلوكَهم، ومخالفتهم للقوانين، وللتراتيب الَّتي حدَّدها لهم الفقهاء المسلمون على مرِّ العصور، وتفاقمت الأزمة بعد أن شيَّد أولئك السكَّان من اليهود كنيسة جديدة لهم في "تمنطيط"، وقد أثار هذا الخبر ثائرةَ المسلمين، الَّذين اعتبروا تشْييد معبد جديد مخالفة صريحة للشَّريعة التي تسمح للذميين بإصلاح معابدهم القديمة فقط، وتحْظر عليهم بناء معابد جديدة، غير أنَّ بعض العلماء المحلّيِّين - وعلى رأسهم قاضي المدينة - خالفوا أولئِك النَّفر من المسلمين وقالوا: إنَّ اليهود ذميون، لهم ما لأهل الذمَّة من الحقوق المنصوص عليها في كتب الفقه. وقد احتجَّ كلّ فريق بآيات قرآنيَّة كريمة، وبأحاديث نبويَّة شريفة، وبأقوال السَّلف من الأئمَّة والفقهاء، غير أنَّ كلا الفريقين لم يقْوَ على فرض آرائه، وعلى استِمالة عامَّة النَّاس إليه، وكان في مقدّمة الناقمين على اليهود: العالم الكبير محمَّد بن عبدالكريم المغيلي. وقد اشتهر هذا الفقيه بنشاطه، وبحيويَّته في الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وفي نشْر تعاليم الإسلام ومحاربة البِدَع والخرافات خاصَّة ببلاد الزّنوج - كما سنرى - حيث أصدر فتوى أكَّد من خلالها: "أنَّ سيطرة اليهود على عموم نواحي الحياة في تلك الديار، وبخاصَّة النواحي الاقتصادية، يتنافى مع مبدأ الذّلَّة والصغار التي اشترطها الإسلام مقابل حِمايتهم وعيشهم بين ظهراني المسلمين، وعليه؛ فإنَّ هذا التفوق لليهود وإمساكهم بزمام السلطة من خلال سيطرتهم على التجارة، يستوجب - في نظر هذا العالم - محاربتَهم وهدْم كنائسهم وكسْر شوكتهم ليعودوا إلى الذّل والصَّغار". يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |