الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4941 - عددالزوار : 2031674 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4515 - عددالزوار : 1307894 )           »          تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1059 - عددالزوار : 126577 )           »          طريقة عمل ساندوتش دجاج سبايسى.. ينفع للأطفال وللشغل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          وصفات طبيعية للتخلص من حب الشباب بخطوات بسيطة.. من العسل لخل التفاح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          طريقة عمل لفائف الكوسة بالجبنة فى الفرن.. وجبة خفيفة وصحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          وصفات طبيعية لتقشير البشرة.. تخلصى من الجلد الميت بسهولة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          هل تظل بشرتك جافة حتى بعد الترطيب؟.. اعرفى السبب وطرق العلاج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          استعد لدخول الحضانة.. 6 نصائح يجب تنفيذها قبل إلحاق طفلك بروضة الأطفال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          سنة أولى جواز.. 5 نصائح للتفاهم وتجنب المشاكل والخلافات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13-02-2020, 04:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث

الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث (1)
د. عيد نعيمي آل فيصل





قال الذهبيُّ في تذكرة الحفَّاظ: "فحقٌّ على المحدِّثِ أن يَتورَّعَ في ما يُؤديهِ، وأن يَسألَ أهلَ المعرفةِ والورعِ؛ ليعينوه على إيضاحِ مَرويَّاتهِ، ولا سَبيلَ إلى أن يصيرَ العَارِفُ الذي يُزَكِّي نَقَلةَ الأخبارِ ويَجرحهم جهبذًا إلاَّ بإدمانِ الطَّلبِ، والفَحْص عن هذا الشأنِ، وكَثرةِ المذاكرةِ والسَّهر، والتيقُّظ والفَهم، مع التقوى والدِّين المتين، والإنصاف والتردُّد إلى مجالسِ العلماء، والتحرِّي والإتْقان، وإلاَّ تفعل:
فَدَعْ عَنْكَ الكِتَابَةَ لَسْتَ مِنْهَا
وَلَوْ سَوَّدْتَ وَجْهَكَ بِالْمِدَادِ



قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [بالنحل: 43]، فإنْ آنستَ يا هذا مِن نفسك فهمًا وصدقًا ودِينًا وورعًا، وإلاَّ فلا تَتَعَنَّ، وإن غلَب عليكَ الهَوى والعصبيَّة لرأيٍ أو لمذهَب، فباللهِ لا تتعَب، وإنْ عرفتَ أنَّك مُخَلِّطٌ مُخَبّطٌ مهملٌ لحدودِ الله، فأرِحْنا منك، فبعدَ قليلٍ ينكشف البَهْرَجُ، وَيَنْكَبُ الزَغَلُ، ولا يَحيق المكرُ السيِّئُ إلا بأهلِه، فقد نصحتُك، فعِلم الحديثِ صَلفٌ؛ فأين عِلمُ الحديث، وأينَ أهلُه؟ كدتُ ألاَّ أراهم إلاَّ في كِتاب أو تحتَ تُراب".


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسمِ الله، والحمدُ لله، والصَّلاةُ والسلامُ على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبعدُ، فبَيْن يديك الآن الشرحُ الذي لا يُوجَد في المحاضراتِ المطبوعة التي وزَّعها شيخنا د. عيد نعيمي - حفظه الله - ونصَح بكتابتها وتدوينها خَلْفَه، وذلك مقدِّمة في عِلم مصطلح الحديث.

تعريف علم مصطلح الحديث:
قال السيوطيُّ في ألفيته:
عِلْمُ الحَدِيثِ ذُو قَوَانِينَ تُحَدّ
يُدْرَى بِهَا أَحْوَالُ مَتْنٍ وَسَنَدْ

فَذَانِكَ المَوْضُوعُ والمَقْصُودُ
أَنْ يُعْرَفَ المَقْبُولُ وَالمَرْدُودُ



علم مصطلح الحديث هو:
العِلمُ بالقواعدِ والقوانين التي يُعرَف بها أحوالُ السَّند والمتن مِن حيث القَبولُ والردُّ.

و معلومٌ أنَّه في بدايةِ الدِّراسة في أيِّ علم تكون هناك كلماتٌ في حاجةٍ إلى بيانٍ وتفسير، وأولُ هذه الكلمات هي (السَّند).

تعريف السند:
هو عبارةٌ عن سِلسلةِ الرِّجال الموصلة إلى المتْن.

وكما تعلمون، فإنَّ حديث النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأتي على صورةِ: ((حدَّثَنا فلان عن فلان أنَّ فلانًا قال: أخبرَنا فلان، قال: أنبأَنا فلان، قال: سمعتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال كذا وكذا)).

مثال: "حدَّثَنا مالكٌ عن نافع، عن ابنِ عُمرَ أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال كذا وكذا، فكما ترَى مالك ونافع وابن عمر - رضي الله عنهما - فهؤلاء هُم سلسلةُ الرِّجالِ الموصلة إلى المتن".

تنبيه: درَج كثيرٌ مِن طلبةِ العِلم على تعريفِ السَّند بهذا التعريف السابِق (سلسلة الرجال الموصلة إلى المتن)، إلاَّ أنَّ هذا التعريف عليه بعضُ الانتقادات[1].

انتقادات تعريف السند بأنَّه سلسلةُ الرِّجال الموصلة للمتن:
الانتقاد الأول:
تعريف السَّند بأنَّه سلسلة الرِّجال، ترَك صِيَغ التحمُّل المباشرة وغير المباشرة، فعندما نقول: حدَّثَنا مالك عن نافع عن ابنِ عُمر، فهذا التعريفُ ذَكَر الرِّجال فقط (ذكر مالكًا ونافعًا وابنَ عمرَ - رضي الله عنهما) وترَك (حدَّثَنا، أنبأَنا، أخبرَنا، سمعْت، قال، عن، أنّ)، ففي علم الحديث تُسمَّى هذه الكلمات (حدَّثَنا، أنبأَنا، أخبرَنا، سمعت، قال، عن، أنّ) تُسمَّى صِيغَ التحمُّل، وهي تنقسم إلى قِسمين:
صيغ التحمُّل المباشِرة
صيغ التحمُّل غير المباشِرة
مثل: (سمعت، حدَّثَنا، أنبأَنا، أخبَرَنا) وهي تعتمد على المواجهةِ مع الشيخ وجهًا لوجه، ولا تحتمل إلا السماعَ أو الخطأ، أو التأويل أو الكَذِب.
مثل: (عن، قال، أن) وتُقبَل هذه الصِّيَغ من الثِّقات[2] غير المدلِّسين؛ أي: إنَّها محمولةٌ على السَّماع، أما الثقات المدلِّسون فلا تُحْمَل على السَّماع، إنَّما تُحْمَل على الانقطاع - على تفصيل سوف يأتي في مراتب المدلِّسين؛ أي: إنَّ الثقةَ المدلِّس أوهم (استخدم التعريض) أنَّه سمِع الحديثَ مِن الشيخ مباشرةً، وهو إنَّما سمِعه بواسطة، ثم قام بإسقاط هذه الواسِطة ورواه عن الشيخ مباشرةً، ولكن بصِيغة تحتمِل السماعَ مثل (عن، قال، أنّ) كما أنَّ صيغ التحمُّل غير المباشرة تحتمل الكذب (مِن غير الثقات)، وتحتمل الخطأَ مِن الجميع.


التَعْرِيض:
فمثلاً تُريد أن تحصُل على سندٍ عالٍ مِن شيخك في حديثٍ لم تسمعْه منه، ولكنَّك سمعتَه من قرينٍ لك في طلبِ العِلم، فتقوم بإسقاطِ قرينِك وتَروي الحديثَ عن شيخك مباشرةً؛ طلبًا لعلوِّ السَّند، ولكنَّك ترويه بصيغةٍ تحتمل السماعَ (صيغ التحمُّل غير المباشِرة)، وهذا يُعدُّ تدليسًا؛ لأنَّك أوهمتَ الطالب أنَّك سمعتَ الحديثَ مِن شيخك، وإنَّما سمعتَه بواسطة، ثم قُمتَ بإسقاطِ هذه الواسِطة؛ طلبًا لعلوِّ السند أو غيره مِن الأغراض الحامِلة على التدليسِ، والتي سوف تدرس في مبحث التدليس - إنْ شاء الله.

في الماضي - في زمن الرِّواية - كان علوُّ السَّند شرفًا، فكلَّما اقترب الراوي مِن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بسندٍ نظيفٍ، حاز شرفًا، يقول: وصلتُ إلى النبيِّ براويين، وآخَر وصَل بثلاثة، وآخَر بخمسة، فهذا الذي وصَل بخمسةِ رُواة فيه نوعٌ من النزول؛ لأنَّك اضطررتَ أن تأخذَ عن أقرانك وتلاميذك، ولا يُعدُّ هذا عيبًا[3] ولكنَّه دنوٌّ في الهمة؛ قيل لابنِ مَعينٍ في بيتِه حين وفاته: ما تطلُب؟ قال "بيتٌ خالٍ، وسندٌ عالٍ" يُريد بيتًا خاليًا؛ ليطلبَ عِلمَ الحديث، وسندًا عاليًا؛ ليقتربَ من النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهذه كانت آخرَ أمنياته قبل موته.

الاعتراض على الانتقاد:
يردُّ على هذا الانتقاد الأوَّل؛ (لينتصرَ لتعريف السَّند بأنه سلسلةُ الرجال الموصلة للمتن)، فيقول: كلمة سلسلة تشمل صِيَغ التحمُّل المباشِرة وغير المباشرة؛ لأنَّ السلسلة مِن صِفتها أنَّها متشابكة، فلا يصلُح أن يأخذ رجلٌ عن رجلٍ إلاَّ إذا كانت هناك وسيلةُ اتصال بينهما، إذًا كلمة سلسلة تضمَّنت صِيَغ التحمُّل تضمنًا غيرَ مباشرٍ.

الرد على الاعتراض:
فيُرَدُّ على هذا الاعتراضِ بأنَّ كلمة سلسلة تَعني أنَّ الأسانيدَ متصلة أيضًا، وكثير مِن الأسانيد غير متصلة، والدَّليل على ذلك أنَّ هناك أحاديثَ ضعيفةً كثيرةً، وسببُ ضعْفِها السَّقْط في السَّند، إذًا الاعتراض على الانتقادِ مَردود، إذا ثبَت لنا الانتقاد.

الانتقاد الثاني:
إنَّ تعريفَ السند بأنَّه سلسلةُ الرجال أهملَ الوسائط غيرَ الرجال مِثل الوجادة[4]، حيث إنَّ التعريف ذكَر الرجال فقط، وفي عِلم الحديث يُمكن أن آخُذ الحديث "وجادة"؛ نعني: بذلك أنَّ شَيْخي قدْ ماتَ - رحمه الله - ثم ذهبتُ إلى مكتبته فوجدتُ كتابًا له، ولكنِّي لم أسمعْه منه، فأنقل عن كتاب شيخي - هذا يُسمَّى وجادة - وعندما أَتكلَّم بما وجدتُه لا أقول: حدَّثني شيخي، وإلاَّ أكون كاذبًا، وإن قلت: عن شيخي أكون مدلِّسًا؛ لماذا؟ لأنِّي أسقطتُ الواسطة بيني وبيْن شيخي، ألاَ وهو الكتاب الذي وجدته؛ (لذلك يُسمَّى هذا النَّوْع مِن طُرُق التحمُّل وجادة)، والصواب أن أقولَ: عن كتاب شَيْخي، فهذه هي الدقَّة، فعِلْم الحديث الذي بهذه الدقَّة المتناهية - مِن خصائص هذه الأمَّة.

كما أنَّه لا يجوز أن نَنقُل عنِ الشرائط الصوتيَّة والفيديوهات المرئيَّة وأقول: سمعتُ عن فلان أو حدَّثني فلان، بل أقول: قال فلان في شريط الفيديو، فأكون ذكرتُ الواسطةَ التي بيْني وبيْنه؛ لاحتمالِ أن يكونَ حدَث نوعٌ من التغيير والتبديل في هذه الوسائط.

كما أنَّه في عِلم الحديث لا يُؤخَذ عِلمُ عللِ الحديث مِن الصَّغير في السنِّ، بل تأخذه مِن الكبيرِ ليس في السنِّ فقط، بل الكبير في طلَب العِلم، كأن يكونَ دَرَس عِلم الحديث لخمسٍ وستِّين سَنة مثلاً (مثل الشيخ الألباني - رحمه الله)، بحيثُ يصِلُ لدرجة أنَّه مجرَّد أن يسمعَ الحديثِ يَعرِف أنَّه صحيح أم غير صحيح؛ لكثرة ممارسته للألفاظِ النبويَّة، حتى اختلط بها شحمُه ولحمُه، فمثلاً لو أعطيت نقودًا مزوَّرة لصيرفي، فسيَعرِفها بمجرَّد النَّظَر، وأمَّا إنْ أعطيتها لغير متخصِّص، فلن يعرفَ، كذلك المحدِّث الذي طال عمرُه في التحديثِ، والْتَحم شحمُه ولَحمُه بالتحديث، ويُسمَّى هذا (عِلم العِلل) عندَ الجاهل كهانةً، ولكنَّه عندَ العلماء عِلمٌ له قواعدُ وقوانين تحكمه، لكنَّها لا تُدرَك إلا بكثرةِ الممارسة، ولقدْ كان علماءُ العِلل يعلُّون بعضَ الأحاديث بقولِهم: هذا الحديث أشبهُ بحديث فلانٍ، وليس معهم في ذلك سوى كثرةِ الاطِّلاع والممارسة، حتى أصبحتْ لهم ملَكَة في ذلك[5]، فيأتي مَن لا يُحسن ويُخطِّئ هؤلاء الفحولَ؛ لمجرَّد أنَّه دَرَس خمسة أو ستة أعوام في عِلم مصطلح الحديث، فيقول: لقد أخطأ فلانٌ في هذا التعليل؛ إذ إنَّ ليس معه دليل، ولا يَدري هذا الجاهلُ المتطاول على مائدةِ العلماء أنَّ تعليل علماء العِلل للحديث هو الدليل[6]، فقولهم هو القولُ، وما سواه مردود، فهم أهلُ الصنعة، بل هم أهلُ الذِّكْر في هذا الباب، فهذا الطُّويلب يحتاج إلى أن يَتعلَّم الأدبَ قبل أن يتعلَّمَ العِلم، وكما قال العلماء: لو سَكَتَ مَن لا يَعلم، لقلَّ الخلاف، وإليك ما يُدلِّل على ذلك:[7]
قال الحُسينُ بنُ الحسَنِ المروزيُّ[8]: سمعتُ عبدَالرحمن بن مهديٍّ يقول: كنتُ عندَ أبي عَوَانةَ، فحدَّث بحديثٍ عن الأعْمَش، فقلتُ: ليس هذا مِن حديثِك.


قال: بلَى! قلتُ: بلى! قال: يا سلامة! هاتِ الدُّرج فأخرجتُ، فنظَر فيه، فإذا الحديث ليسَ فيه، فقال: صدقْتَ يا أبا سعيد؛ فمِن أين أُتيت؟! قلتُ: ذُوكرتَ به وأنت شابٌّ، ظننتَ أنَّك سمعتَه!

وقال يحيى بن معين[9]: حضرتُ نُعيمَ بن حماد بمصر، فجعَل يقرأ كتابًا صنَّفه، فقال: حدَّثَنا ابنُ المبارك، عن ابنِ عون؛ وذكَر أحاديث. فقلتُ: ليس ذا عنِ ابن المبارَك. فغَضِب؛ وقال: تردُّ عليَّ؟! قلتُ: إي واللهِ! أريد زَيْنَك، فأبَى أن يرجع، فلمَّا رأيتُه لا يرجع، قلت: لا، واللهِ؛ ما سمعتَ هذه مِن ابنِ المبارك، ولا سَمِعها هو مِن ابنِ عون قطُّ! فغضِب، وغضِب مَن كان عندَه، وقام فدخَل؛ فأخرج صحائفَ، فجعل يقول - وهي بيدِه - أين الذين يَزْعُمون أنَّ يَحيى بن مَعينٍ ليس بأميرِ المؤمنين في الحديث؟! نعمْ! يا أبا زكريا؛ غَلِطتُ، وإنَّما روَى هذه الأحاديثَ غيرُ ابن المبارك، عنِ ابن عونٍ!


وهذا حديثٌ مِن تلك التي أنكرها ابنُ معينٍ على نُعيمِ بن حمَّاد، بهذا الإسناد: قال هاشمُ بن مَرْثدٍ الطبرانيُّ[10]: قيل ليحيى بن مَعينٍ - وأنا أسمع -: حديث رواه نُعيمُ بنُ حمَّاد عنِ ابن المبارَك، عنِ ابن عون، عن محمَّد بن سِيرين، عن ابنِ عُمر، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "إذا اغْتَلَمَتْ[11]آنيتُكُم، فاكْسِروها بالماء"؟ فقال يَحيى بنُ مَعين: قال لي نعيم: سمعتُه مِن ابن المبارَك؛ فقلت كَذِبٌ - أي: خطأ - فقال لي: اتَّق الله! فقلتُ: كذِب، والله الذي لا إله إلا هو، فذَهَب، ثم لَقِيني بعدُ، فقال: ما وجدتُ له عندي أصلاً؛ فرجَع عنه!


وكان رُواة الحديث يَعرِفون شأن نقَّادِه، ويَقدرونهم قدرَهم، ويُنزلونهم منزلتَهم، فكانوا يَرجِعون إليهم ويسألونهم عنْ أحوالِ أنفسِهم وأحاديثهم، وإذا بيَّنوا لهم الخطأ رَجَعوا عنه، ولم يُحدِّثوا به بعدُ، فكلُّ راوٍ مِن الرواة كان يَعلم أنَّ نقَّاد الحديث وجهابذته أعلمُ بحديثِه: صحيحه وسَقيمِه، ومحفوظِه ومُنكَرِه، وأعلم بحاله: ثقتِه وَضْعفهِ - من نفسِه التي بين جنبيه.

قال ابنُ معين[12]: قال لي إسماعيلُ بنُ عُليَّةَ يومًا: كيف حَديثي؟! قلتُ: أنت مستقيم الحديث، فقال لي: وكيف عَلمْتُم ذاك؟! قلتُ له: عارضْنا بها أحاديثَ الناس، فرأيناها مستقيمةً، فقال: الحمدُ لله، فلم يزلْ يقول: الحمد لله، ويحمَد ربَّه، حتى دخَل دار بشر بن معروفٍ - أو قال: دار البختري - وأنا معه.

وقال ابنُ أبي حاتمٍ[13]: رأيتُ كتابًا كتَبه عبدُالرحمن بن عمر الأصبهانيُّ المعروف بـ "رُوسْتَه"؛ مِن أصبهان، إلى أبي زُرْعَةَ - بخطِّه -: وإني كنتُ رَويتُ عنكُم عن ابنِ مهديٍّ، عن سُفيانَ، عنِ الأعمشِ، عن أبي صالِح، عن أبي هُرَيرَةَ، عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((أبْرِدوا بالظُّهر؛ فإنَّ شِدَّة الحرِّ مِن فَيحِ جهنَّمَ))، فقلتَ: هذا غلطٌ؛ الناسُ يروونه "عن أبي سعيدٍ، عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم". فوقع ذلك مِن قولِك في نفْسي، فلم أكُنْ أنساه، حتى قَدِمتُ، ونظرتُ في الأصل، فإذا هو "عن أبي سعيدٍ، عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -"؛ فإنْ خَفَّ عليك، فأعْلِمْ أبا حاتم - عافاه الله - ومَن سألك مِن أصحابنا؛ فإنَّك في ذلك مأجور - إنْ شاء الله - والعار خيرٌ مِن النار.

ولهذا كان أئمَّة الحديث يُجرِّحون الرَّاوي الذي لا يُبالي بنقدِ النقَّاد،ولا يَرجِع عن خطئِه الذي بيَّنه له أهلُ العلم، ويُقيم على رِوايته آنفًا مِن الرُّجوعِ عنه.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 13-02-2020, 04:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث



قيل للإمام شُعبةَ بنِ الحَجَّاج[14]: مَنِ الذي يُترَك الرواية عنه؟ قال: إذا تمادَى في غلطٍ مُجمَع عليه، ولم يتَّهمْ نفسَه عندَ اجتماعهم على خلافِه، أو رجلٌ يُتَّهم بالكذِب.


وقال حمزةُ بنُ يوسفَ السهميُّ[15]: سألتُ أبا الحسنِ الدارقطنيَّ؛ عمَّن يكون كثيرَ الخطأ، قال: إنْ نَبَّهوه عليه ورجَع عنه، فلا يَسقُط، وإنْ لم يرجعْ، سَقَط.


وقال ابنُ معين[16]: "ما رأيتُ على رجلٍ خطأً إلاَّ سترتُه، وأحببتُ أن أزيِّن أمرَه، وما أسْتقبِل رجلاً في وجهِه بأمرٍ يَكرهُه، ولكن أُبيِّن له خطأَه فيما بَيْني وبيْنه، فإنْ قَبِل ذلك؛ وإلاَّ تركتُه".


والترك هنا بمعناه الاصطلاحي، كما تَقدَّم عن شُعبةَ؛ أي: يترك الروايةَ عنه، لا أن يتركَه وحالَه، يَرْوي ما يُريد ويحدِّث بما يشاءُ مِن غير أن يبيِّن خطأَه للناس، هذا لا يُظَنُّ بابنِ مَعينٍ، ولا بغيرِه مِن أئمَّة الدِّين.


قيل لابن خُزيمةَ[17]: لِمَ رويتَ عن أحمدَ بنِ عبدالرحمن بن وَهْب، وتركتَ سفيانَ بنَ وكيع؟ فقال: لأنَّ أحمد بن عبدالرحمن لمَّا أنْكروا عليه تلك الأحاديثَ، رجَع عنها عن آخِرِها، إلاَّ حديثَ مالك، عنِ الزُّهريِّ، عن أنس: "إذا حضَر العشاءُ"؛ فإنَّه ذَكَر أنَّه وجَدَه في درجٍ مِن كتُب عمِّه في قِرطاس [18]، وأمَّا سفيانُ بن وكيعٍ، فإنَّ ورَّاقه أدْخَل عليه أحاديثَ، فرواها، وكلَّمناه، فلم يرجِعْ عنها، فاستخرتُ الله وتركتُ الرِّواية عنه.


ومَع ما حبَاهم الله - عزَّ وجلَّ - به مِن سَعة في الحِفظ، ودقَّة في النَّقْد، وصحَّة في النظَر، وقوَّة في البَحث، وصِدق في الرأي؛ ما كانوا يتفرَّدون بالقول، ولا يَستقلُّون بالحُكم، بل كانوا يَرجِعون إلى مَن هم أعلمُ منهم، ويَسألون مَن تَقدَّمهم، ويَستشيرون مَن رُزِق الذي رُزِقوا؛ أهل العِلم والحِفظ والفَهم.


يقول الإمامُ مسلم - عليه رحمة الله -[19]: "عرضتُ كتابي هذا المسنَد على أبي زُرعةَ الرازيِّ، فكلُّ ما أشار أنَّ له عِلة، تركتُه، وكل ما قال: إنَّه صحيح وليس به عِلَّة، أخرجتُه".


وقصَّتُهُ مع الإمامِ البخاري حين جاءَه يسأله عن عِلَّة حديثِ كفَّارة المجلِس، فيها من العِبرة لمن بعدَه، ما لا يوجَد في غيرِها، قال أبو حامدٍ الأعمشُ الحافظُ، وهو أحمد بن حمدون[20]: كنَّا عندَ محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ بنيسابور، فجاء مسلمُ بن الحَجَّاج، فسألَه عن حديث: عُبيدالله بنِ عمرَ، عن أبي الزُّبَير، عن جابر: بعثَنا رسولُ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سَرِيَّة، ومعنا أبو عُبيدَةَ - فساقَ الحديثَ بطوله، فقال محمدُ بنُ إسماعيل: حدَّثَنا ابنُ أبي أويس، حدَّثَني أخِي أبو بكر، عن سليمانَ بنِ بلال، عن عُبيدِالله، عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ - القصة بطولِها، فقرأ عليه إنسان: حديث حجَّاج بن محمَّد، عن ابنِ جُرَيج، عن موسى بن عُقبةَ: حدَّثَني سُهيلُ بن أبي صالِح، عن أبي هُرَيرَةَ عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "كفَّارة المجلِس واللغو" ... الحديث، فقال مسلمٌ: في الدُّنيا أحسنُ مِن هذا الحديث! ابن جريج، عن موسى بنِ عُقبةَ، عن سُهيل! يُعرَف بهذا الإسنادِ حديثٌ في الدُّنيا؟! فقال محمَّد بن إسماعيل: إلاَّ أنَّه معلول! قال مسلمٌ: لا إلهَ إلا الله - وارتعَد - أخبِرني به؟!! قال: استُر ما ستَر الله! هذا حديثٌ جليل؛ رَوَى عن حَجَّاجِ بن محمَّد الخَلْقُ، عن ابنِ جريج! فألحَّ عليه، وقَبَّل رأسه، وكاد أن يَبكي! فقال: اكْتُبْ، إنْ كان ولا بدَّ: حدَّثني موسى بنُ إسماعيلَ، حدَّثَنا وُهَيْب، حدَّثَنا موسى بن عُقبةَ، عن عونِ بن عبدِالله، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كفَّارة المجلِس))، فقال مسلمٌ: لا يُبغِضك إلا حاسدٌ، وأشهَد أنْ ليس في الدُّنيا مِثلُك! وفي روايةٍ: جاءَ مسلمُ بن الحجَّاج إلى محمَّد بنِ إسماعيلَ البخاريِّ، فقَبَّل بين عينيه، وقال: دَعْني حتى أُقَبِّل رِجليك، يا أُستاذ الأُسْتَاذين، ويا سيِّد المحدثين، ويا طبيب الحديث في عِلله.


التعريفُ الصَّحيح للسَّند هو:
قال ابنُ جماعة في "المنهل الرَّوي": السَّند هو حِكاية طريقِ المتْنأو الإخبار عن طريقِ المتْن، والسَّنَد والإسناد والطَّريق سواءٌ عندَ المُحدِّثين، ولماذا يعدُّ هذا التعريف تعريفًا صحيحًا؟ لأني سأذكُر أنَّ فلانًا حصَل على الحديثِ وجادة مثلاً؛ أي: إذا قلت: حكاية طريق المتْن، فلمْ تتركْ شيئًا، بل ستَحكِي جميع ما حدَث في السَّنَد - مثلاً تقول: حدَّثَني فلان وضحِك، حدَّثني فلان وهو آخِذ بلحيته، وهكذا، فهذا التعريفُ على الرغم أنَّه مجملٌ إلا أنَّه شامل.

تعريف المتن:
ما انتهَى إليه السَّند مِن الكلام؛ أي: الكلام الذي يُذكَر بعدَ سِلسلة الرِّجال، هو قولُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو قول الصَّحابي.

الخـبـر

يَنقسِم الخبر إلى حديثٍ وأثَر، فالخبر أعمُّ مِن الحديثِ والأثَر، وكلُّ حديثٍ خبَرٌ، وكل أثَرٍ خبرٌ.
الحديث
الأثَر
إذا أُطلِق لفظُ حديث، ذَهَب مباشرة إلى ما قالَه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِثل: جاءَ في الحديث: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات))، فإنْ لم تكُن حافظًا للحديثِ، فستفهم أنَّه مِن كلام النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنَّ كلمةَ (حديث) ألِفناها أنَّها تدلُّ على كلامِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقدْ يأتي مع غيرِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقيَّدًا، مثال: قول القائل: وجاءَ في الحديثِ عن عثمانَ - رضي الله عنه -:"إنَّ الله لَيَزعُ بالسلطانِ ما لا يَزعُ بالقرآنِ".
إذا أُطلِق لفظُ أثَر، ذهَب مباشرةً إلى ما لم يقلْه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أي: ما قالَه غيرُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - (قول الصحابيِّ، قول التابعيِّ، قول أيِّ إنسان بسندٍ يُسمَّى أثرًا، أيُّ كلامٍ بسندٍ يُسمَّى أثرًا)، وقد يأتي مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقيدًا، مثال: وجاء في الأثَر عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات.........)).


والأمْر في ذلك واسِع؛ أي: يصحُّ أن تقولَ: جاء في الأثَر: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات))، ويصحُّ أن تقول: وجاء في الحديث: "إنَّ الله لَيَزَعُ بالسلطانِ ما لا يَزَعُ بالقرآن".

فعِلم مصطلحِ الحديث ليس كعِلم الرِّياضيات 1+1= 2؛ بل هو مِن أروعِ العلوم وألينها، وأمْتَعها وأثْراهاوأسهلها[21]، والمقصود بالسُّهولة هنا؛ أي: سهولة عباراتِه، وعُذوبة ألفاظِه، أمَّا مَن أراد أن يَتعلَّمه، فهو عِلم لا يُعطيك بعضَه إلاَّ إذا أعطيتَه كُلَّك، فقلَّ أن ينبغَ فيه الذُّكورُ كما قلَّ أن ينبغَ فيه النساء، فهو علمُ الرِّجال مِن الذكور، فعِلم الحديث صلف، فأينَ عِلم الحديث؟ وأين أهلُه؟ كدتُ ألاَّ أراهم إلاَّ في كتابٍ أو تحتَ تراب.

الأدلَّة على أنَّ الأثَر والحديثَ والخبَر بمعنًى واحِد:
1) ومِن ذلك قولُ الإمام البخاريِّ: "أحْفَظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح"؛ قال ابنُ الصلاح: "هذه العبارةُ قدْ يَندرِج تحتَها عندهم آثارُ الصحابة والتابعين، وربَّما عُدَّ الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين"؛ لأنَّه إذا جُمِعَتِ الأحاديثُ الصحيحة لا يُمكن أن تصلَ إلى هذا العدد، وكذلك الضعيفة لا يُمكن أن تصلَ إلى هذا العدد، فعَرفنا أنَّ الإمامَ البخاريَّ حين قال هنا: "حديث" إنما قصَد بكلمة "حديث" المرفوعاتِ والموقوفاتِ والمقاطيعَ، وقصد أيضًا الأسانيد المتعدِّدة لمتن الواحدٍ، فهُم يطلقون كلمة "حديث" على الإسناد، فالحديثُ الواحد - أعني: المتن الواحد - إذا ما رُوي بعِدَّة أسانيدَ فكلُّ إسنادٍ مِن تلك الأسانيد يُطلقون عليه لفظ "حديث".

2) ومن ذلك أيضًا: قول أبي زُرعَة لعبدالله ابن الإمام أحمد بن حنبل: "أبوك يَحفَظُ ألفَ ألفِ حديث، فقيل له: وما يُدريك؟ قال ذاكَرتُه فأخذتُ عليه الأبواب"؛ قال الإمامُ الذهبيُّ: "فهذه الحكايةُ صحيحةٌ في سَعةِ عِلم أبي عبدالله، وكانوا يعدُّون في ذلك المكرَّر والأثَر وفتوى التابعي وما فسّر، ونحو ذلك، وإلا فالمتون المرفوعة لا تَبلُغ عُشرَ مِعشار ذلك".

3) ومِن ذلك أيضًا: قولُ الإمام أحمد بن حنبل عليه - رحمة الله تعالى -: "صحَّ مِن الحديثِ سَبعُمائة ألف حديث وكَسْر، وهذا الفتى - يعني: أبا زُرعة - قد حَفِظ سِتَّمائة ألف حديث"؛ قال الإمام البيهقيُّ: "وإنَّما أراد - والله أعلم - ما صحَّ مِن أحاديثِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأقاويلِ الصحابة وفتاوى مَن أَخَذ عنهم مِن التابعين"؛ يعني: أنَّ كلمة "حديث" ها هنا لم يَقصدْ بها الإمامُ الأحاديثَ المرفوعةَ فحسبُ، بل يدخُل في كلامِه الأحاديثُ المرفوعةُ وغيرُ المرفوعة، إذًا ترجَّح أنَّ الحديث والأثَر والخبر بمعنًى واحد، ومَن يريد أن يَتقيَّد بالاصطلاح (أي: التفريق بين الحديث والخبر والأثر)، نقول له: جزاكَ الله خيرًا، المسألة لا تحتمل افتراقًا، وكلامك قال به بعضُ أهل العِلم، وكلامنا - إنْ شاء الله - هو الصواب؛ لأنَّه كلامُ الأئمَّة.

وكما هو معلومٌ أنَّ الأئمَّة المتقدمين (والذين هُم أصحاب هذا الفنِّ والعلم) لم يَضعوا تعريفاتٍ لهذه الاصطلاحاتِ، وكما سبق أنْ ذكرنا المراحل التاريخيَّة لتطوُّرِ عِلم المصطلح، كان الأوَّل الرامهرمزي، ثم الخطيب البغدادي، ثم ابن الصلاح، ثم ابن حجر - هؤلاء جميعًا استنبطوا من أفعالِ العلماء وأقوالهم تعريفاتٍ، مثلاً: البخاري لم يَذكُرْ شرطَه في صحيحه، وإنَّما استنبطه العلماء، والأئمَّةُ المتقدِّمون لم يَتكلَّموا عن تعريفاتٍ إلا عبْر نُتف يسيرة، مثل الإمام مسلم في مقدِّمة صحيحه، وأبي داود في رسالته لأهلِ مكة، وبعض الرَّسائل القليلة، ولكن بدأ التصنيفُ في هذا العِلم بدايةً مِن الرامهرمزي ثم الخطيب ثم ابن الصلاح ثم ابن حجر، كذلك أُصولُ الفقه أوَّل مَن تَكلَّم فيه الشافعيُّ، بدأ يرَى أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أتى عنه أمرٌ فقال: لا تفعل كذا، ثم قام - صلَّى الله عليه وسلَّم - مرة ففَعَل هذا المنهيَّ عنه، فيَنتقِل الأمر مِن التحريم إلى الكراهة؛ لوجودِ صارفٍ صَرَف الأمرَ المجرَّد مِن التحريم إلى الكراهة، ألاَ وهو فِعلُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنَّ نهي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للتحريم، وفعله لهذا المنهيِّ عنه مرةً ينقُل التحريم إلى الكراهة، فالعلماءُ استنبطوا مِن أقوالِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأفعاله هذه القواعِد، ولكن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يَقلِ: الأمر يُفيد كذا، وإذا صُرِف بصارفٍ يعني كذا؛ ولأنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه هُم أهلُ اللُّغة، فلم يَحْتَجِ الصحابةُ إلى هذه القواعدِ؛ لعِلمهم باللِّسان العربي، فكانوا يُطبِّقون هذه القواعدَ سليقةً؛ ولكن نظرًا لدخولِ العُجمة علينا، قامَ العلماء - جزاهم الله خيرًا - بتوضيحِ هذه الأمور، والتي كانتْ فيمَن سبَقَنا بدهياتٍ لا تحتاج إلى توضيح، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

كذلك الأئمَّة المتقدِّمون مِن أهل الحديثِ تَكلَّموا وصَنَّفوا، ثم أتَى العلماءُ الأكابِر ففَهِموا مِن كلامهم ومصنَّفاتهم هذه الاصطلاحاتِ وجَعَلوها اصطلاحًا، فكما أنَّ القواعد النظريَّة لهذا العِلم تُؤخَذ مِن أهله المتخصِّصين فيه، فكذلك يَنبغي أن يُؤخَذ الجانبُ العمليُّ منهم؛ لا أن تُؤخَذ منهم فقط القواعدُ النظرية، ثم يتمُّ إعمالها عمليًّا مِن غير معرفةٍ بطرائقهم في إعمالِها وتطبيقِها وتنزيلِها على الأحاديثِ والرِّوايات؛ فإنَّ أهلَ مَكَّة أعلمُ بشِعابها، وأهلَ الدار أدْرَى بما فيه، وإنَّ أفضلَ مَنْ يطبِّق القاعدة هو مَن وَضَعَها وحرَّرها، ونظَم شرائِطَها، وحدَّد حدودَها.

فكان مِنَ اللازم الرجوعُ إلى كتُب عِلل الحديث المتخصِّصة، والبحْث عن أقوالِ أهلِ العِلم على الأحاديث؛ لمعرفةِ كيفية تطبيقهم هم لتلك القواعدِ النظريَّة، التي يَقوم عليها هذا البابُ، ومعرفة فِقه تنزيلها على الرِّوايات والأسانيد.

وليس هذا جنوحًا إلى تقليدِهم، ولا دَعوةً إلى تقديسِ أقوالهم، ولا غَلقًا لبابِ الاجتهاد، ولا قتلاً للقُدرات والملَكات؛ بل هي دعوةٌ إلى أخْذِ العِلم مِن أهلِه، ومعرفتِه مِن أربابِه، ودخولِه من بابه، وتحمُّله على وجهِه.

فمَن يظن أنَّه بإمكانه اكتسابُ ملَكَةِ النقْد، وقوَّة الفَهم، وشفوف النَّظَر، بعيدًا عنهم، وبمعزلٍ عن عِلمهم، وبمنأًى عن فَهمِهم، فهو ظالِمٌ لنفسه، لم يبذلْ لها النُّصْح، ولم يبغِ لها الصلاحَ والتوفيق، ولا أَنزل القومَ منازلهم، ولا قَدَرَهم أقدارهم.

فهُم أهلُ الفَهم، وأصحاب الملَكات، وذَوُو النظرِ الثاقِب، فمَن ابتغى من ذلك شيئًا، فها هو عندَهم، وهم أربابُه، فليأْخذْه منهم، وليأخذْ بحظٍّ وافر.

فمَن تَضلَّع في عِلمهم، واستزاد مِن خيرِهم، وتَشرَّب مِن فِقههم، واهتدى بهَديهم، واسترشَد بإرشادِهم، سار على دَرْبِهم، وضرَب على منوالِهم؛ فهو الناصحُ لنفسه، المُبتغِي لها الصلاحَ والتوفيق، وهو مِن السابقين بالخيرات - بإذن الله تعالى.

ولله دَرُّ الحافظ ابنِ رجب الحنبليِّ، حيث أوْضَح في كلماتٍ قلائل، أنَّ سبيلَ تَحصيل المَلَكةِ، إنما هو مداومةُ النظر في مطالعةِ كلامِ الأئمَّة العارفين، للتفقُّه بفِقههم، والتفهُّم بفَهمهم.

يقول ابن رجب[22]: "ولا بدَّ في هذا العِلم مِن طولِ الممارسة، وكثرةِ المذاكرة، فإذا عَدِمَ المذاكرة به، فليُكثرْ طالبُه المطالعةَ في كلامِ الأئمَّة العارفين؛ كيَحيى القطَّان، ومَن تلقَّى عنه كأحمد وابن المَديني وغيرهما؛ فمَن رُزِق مطالعةَ ذلك وفَهمَه، وفَقُهَتْ نفسُه فيه، وصارتْ له فيه قُوَّة نفس، ومَلَكة، صلحَ له أن يَتكلَّم فيه".


هذا، وإنَّ علامة صِحَّة الاجتهادِ، وعلامة أهلية المجتهِد، هو أن تَكونَ أغلب اجتهاداتِه وأحكامِه وأقواله موافقةً لاجتهادات وأحكامِ وأقوالِ أهلِ العِلم المتخصِّصين، والذين إليهم المرجِع في هذا الباب.

يقول الشيخ طارق بن عِوَض الله - حفظه الله تعالى-: "وإنَّ علامةَ صِحَّة القاعدة التي يَعتمِد عليها الباحثُ في بحثِه، هو أن تكونَ أكثرُ النتائج والأحكام المتمخِّضة عنها على وَفقِ أقوال أهل العِلم وأحكامهم.


فكما أنَّ الراوي لا يكون ثِقةً محتجًّا به وبحديثه إلاَّ إذا كانتْ أكثرُ أحاديثه موافقةً لأحاديثِ الثِّقات، المفروغ مِن ثِقتهم، والمسلَّم بحِفظهم وإتقانهم؛ فكذلك الباحثُ لا يكون حُكمُه على الأحاديث ذا قيمة، إلا إذا جاءتْ أكثرُ أحكامه على الأحاديث موافقةً لأحكام أهلِ العِلم عليها.


وبقدْرِ مخالفتِه لأهلِ العِلم في أحكامِه على الأحاديث، بقَدْرِ ما يُعلَم قدرُ الخلَل في القاعدة التي اعتمَد عليها، أو في تَطبيقِه هو للقاعِدة، وتنزيلها على الأحاديث، فمَن وجَد مِن نفسه مخالفةً كثيرةً لأهل العلمِ في الحُكم على الأحاديث، فليعلمْ أنَّ هذا إنَّما أُتِي مِن أمرين؛ قد يجتمعان، وقد يفترقان:
أحدهما: عدَمُ ضبْط القاعدة التي بنَى عليها حُكمَه على وَفقِ ضبطِ أهلِ العلم لها.
ثانيهما: ضبْط القاعِدة نظريًّا فقط، وعدَم التفقُّه في كيفية تَطبيقها، كما كان أهلُ العلم مِن الفِقه والفَهم والخِبرة، بالقَدْرِ الذي يُؤهِّلهم لمعرفةِ متى وأين تُنزَّل القاعِدةُ، أو لا تُنزَّل".


[1] هذه الانتقادات نقلاً عن الشيخ المحدِّث أبي معاذ طارق بن عِوَض الله في كتابه "لغة المحدِّث".

[2] لفظة الثقة هنا يدخُل فيها رُواةُ الحديث الحسَن أيضًا؛ أي: إنَّها تشمل رُواةَ الحديثِ المقبول بشقَّيه: الصحيح والحسن.

[3] يقول العلماء: لا يَنبُل العالِم حتى يأخُذ العِلم ممَّن هو فوقه، وممَّن هو في مستواه، وممَّن هو دونه.

[4] تعريف الوجادة: أن يجدَ طالب العلم كتابًا أو أحاديث لشيخِه لم يكُن سَمِعها منه، ولماذا قيدنا الأمْر بـ لم يكن سَمِعها منه، وما المشكلةُ إنْ كان سمِعها منه؟ لأنَّه إنْ كان سمعها، لحدَّث بها على الاتِّصال مباشرةً دون وجادة، وهذا شرفٌ؛ لأنَّ الوجادةَ أقل شرفٍ مِن الاستماع، وهو أشرفُ أنواع الاتِّصال أن تسمعَ مباشرةً مِن شيخك.

[5] "العلل" (1879).

[6] هذا في حالِ اجتماعِهم، أما إن اختلفوا، ففي هذه الحالة يسوغ لنا أن ننظُرَ في أقوالهم ونرجِّح القول الصواب، وما أحسنَ قولَ الحافظ ابن رجب، حيثُ قال بصدد حديث اتَّفق أئمَّة الحديث مِن السَّلَف على إعلالِه، واغترَّ بعضُ المتأخِّرين بظاهرِ إسنادِه؛ قال: "هذا الحديثُ مما اتَّفق أئمَّة الحديث من السَّلَف على إنكارِه على أبي إسحاقَ، وأمَّا الفقهاء المتأخِّرون، فكثيرٌ منهم نظَر إلى ثقة رجاله، فظنَّ صِحَّته، وهؤلاء يظنون أنَّ كلَّ حديث رواه ثِقة فهو صحيح، ولا يَتفطَّنون لدقائقِ عِلم علل الحديث، ووافقَهم طائفةٌ مِن المحدِّثين المتأخرين؛ كالطحاويِّ والحاكِم والبيهقيِّ".
هذا، وقَدْ وقَع الإسرافُ لدَى المتأخرين من أهلِ العِلم، والمعاصِرين منهم على وجهِ الخصوص، متمثلاً في بعضِ الباحثين والمعلِّقين على كتُب التراث في إعمالِ قواعدِ هذا الباب النظريَّة؛ دونما نظَر في الشرائطِ المعتبَرة التي وضعَها أهلُ العلم لهذه القواعد، ودونما فَهم وفِقه عندَ تطبيقها وتنزيلها على الرِّوايات والأسانيد، ودونما اعتبارٍ لأحكامِ أهل العِلم ونقَّاد الحديث على هذه الأسانيد، وتلك الرِّوايات؛ فجاء كثيرٌ مِن أحكامهم مصادمة لأحكامِ أهل العِلم ونقَّاده عليها، فإنَّ آفةَ الآفاتِ في هذا الباب، ومنشأ الخَلل الحاصِل فيه من قِبل بعضِ الباحثين هو ممارسةُ الجانب العمَلي فيه استقلالاً من دون الرجوع إلى أئمَّة العِلم لمعرفة كيفية ممارساتِهم العمليَّة.

[7] نقلاً عن "الإرشادات في تقويةِ الأحاديث بالشواهدِ والمتابعات" لفضيلة الشيخ المحدِّث أبي معاذ طارق بن عِوَض الله.

[8] "الجامع" للخطيب (2/39)، و"شرح عِلَل الحديث" (1/535).

[9] "سير أعلام النبلاء" (11/89-90) و"الكفاية" (ص 231).

[10] "تاريخه" (ص 18 - 20).

[11] أي: إذا جاوزتْ حَدَّها الذي لا يُسكِر، إلى حدِّها الذي يُسكِر.

[12] "سؤالات ابن محرز" (2/39).

[13] "تَقدِمة الجرح والتعديل" (ص: 336).

[14] "المجروحين" (1/7) و"الكفاية" (ص: 229).

[15] "الكفاية" (ص: 232).

[16] "السير" (11/83).

[17] "تهذيب الكمال" (1/389).

[18] إنَّما أنكَر الأئمَّة على أحمدَ بن عبدِالرحمن تحديثَه بهذا الحديثِ عن عمِّه ابنِ وهبٍ عن مالك خاصَّة، وإلا فالحديثُ صحيحٌ ثابت مِن حديث الزهريِّ عن أنس، مِن غير هذا الوجهِ، وقدْ أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ.

[19] "صِيانة صحيح مسلِم" لابن الصلاح (ص: 67).

[20] انظر: "الإرشاد" للخليلي (3/960 - 961)، و"السَّنَن الأبين" لابن رشيدٍ السَّبْتي (ص: 124 - 126)، و"المعرفة" للحاكِم (ص: 113- 114) و"تاريخ بغداد" (2/28 -29) (13/102 - 103)، و"النُّكت على ابنِ الصلاح" (2/716 -720).

[21] المقصود بالسُّهولة هنا سُهولةُ عباراته، وعُذوبة ألفاظه، وهو بذلك شأنه كشأنِ باقي العلومِ عندَ أهل السُّنة والجماعة، فالسَّلَف كانوا يُعبِّرون بأسهلِ الكلمات التي تُوصِّل للمعنى المطلوب وإنْ طال الكلام؛ أي: إنَّ موضوع التعقيدات التي دخلَتْ في التعريفات بعدَ دخول عِلم الكلام (علوم الفلسفة والمنطق) لم يكن موجودًا في عهدِ السلف، إنَّما العبرةُ أن يصلَ التعريف للطالبِ، فيفهم المطلوب وإنْ قصُر الكلام أو طال، وكما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: "عِلم المنطق والفلسفة عِلمٌ لا يحتاجه الذكيُّ، ولا يفهمه الغبيُّ".


[22] "شرح علل الترمذي" (2/664).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 13-02-2020, 04:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث

الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث (2)
د. عيد نعيمي آل فيصل




إنَّ الحمدَ لله، نحمَده ونَستعينه ونستغفِره، ونعوذُ بالله مِن شرورِ أنفسِنا، ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلنْ يجد له وليًّا مرشدًا، وصَلِّ الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.

تعريف الحديث:هو ما أُضِيفَ إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن قولٍ أو فِعل أو تقريرٍ أو صِفة، وهذا تعريفُ السَّخاوي في "فتْح المغيث"، وهو تعريفٌ شامل.

الحديث القُدسي: هو ما أضافَه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأسندَه إلى ربِّه - عزَّ وجلَّ - مِن غيرِ القرآن، فهو حديثٌ؛ لكونِ الرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو الحاكي له عن ربِّه، وقُدسي؛ لأنَّه منسوبٌ إلى القدُّوس، فهو صادرٌ عن الله - تبارَك وتعالى.

تنبيه:وصْفُ الحديث بأنَّه قدسيٌّ لا يَعني أنَّه صحيح؛ إذ إنَّ الصحة والضعْف مرجعُهما إلى السَّند، وهذه الوصفيةُ مرجعها إلى نِسبة الكلام إلى الله - تبارك وتعالى - وتأتي صِيغ الأداء في الحديث القدسي على حالاتٍ، منها: أن يقول الراوي: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما يَرويه عن ربِّه، أو أن يقول الراوي: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: قال الله تعالى...

الفرْق بين القُرآن الكريم والحديثِ القُدسي:
القرآن الكريم
الحديث القدسي
قَطعي الثُّبوت، فهو متواتِرٌ كلُّه.
منه الصحيحُ والحسَن والضَّعيف.
كلامُ الله لفْظًا ومعنى، لا يأتيه الباطلُ مْن بيِن يديه ولا مِن خلفِه، تنزيل مِن حكيمٍ حميد.
معناه مِن عند الله، ولفْظه من عندِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقيل: لفظُه ومعناه مِن عند الله تعالى.
مُعجِز بلفظِه ومعناه.
ليس كذلك على الإطلاق.
مُتعبَّد بتلاوتِه، فمَن قرأه فكلُّ حرْف بِحسَنة، والحسَنة بعَشْرة أمثالها.
غير مُتعبَّد بتلاوتِه، إلا أنَّ لأهل الحديث نَضارةً في الوجه، وحُسنَ خاتمةٍ - إن شاء الله تعالى[1].
لا يجوز مسُّه للحائضِ والجُنُب والمُحْدِث، وهذه مسألةٌ خلافيَّة بيْن العُلماء.
يجوز مسُّه في هذه الحالات (للحائِض والجُنب والمُحْدِث).


أقسام الحديث:
تَنقسِم أحاديث النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى أربعةِ أقسام، وهي:
1) أحاديثُ قوليَّة، مِثل حديث: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات)).
2) أحاديث فِعليَّة، مثل: قولُ ابن عبَّاس: "إنَّ النبيَّ توضأ مرَّةً مرَّة".
3) أحاديث تقريريَّة، مثل: "أنَّ الضبَّ أُكِل على مائدةِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يأكلْه النبي ولم ينهْ عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم"، فهذا إقرارٌ مِن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ أكْلَ لحم الضب حلالٌ.
4) أحاديث وصفيَّة، مثل: ما جاءَ في وصْف النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه كان رَبْعةً مِن القوم؛ ليس بالطويل ولا بالقصير، وما إلى ذلك مِن وصْف النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم. أقْسام الخبَر مِن حيثُ طرُقُ وصولِه إلينا:

يَنقسِم الخبرُ مِن حيث وصولُه إلينا إلى قِسمين، وهما:



تعريف الحديث المتواتر: قال الشيخ طارقُ بن عِوَض الله في منظومته "لغة المحدِّث":
فَمَا رَوَاهُ عَدَدٌ جَمٌّ يَجِبْ
إِحَالَةُ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الكَذِبْ

فَالمُتَواتِر................
............................



فالمتواتر هو:
ما رَواه عددٌ كثير في كلِّ طبقة مِن طبقات السَّند، بحيث تُحِيل العادةُ تواطُؤَهم على الكذِب.

تعريف الطبقة:
تُطلَق الطبقةُ في الاصطلاح على الفترة الزمنيَّة؛ لذلك قام الحافظُ ابن حجر بتقسيم الفترة الزمنيَّة مِن الصحابة إلى صِغار أتْباع أتباع التابعين إلى اثنتي عشرة طبَقة، فتقسيم ابن حجر هنا تقسيمٌ زمني يوضِّح أنَّ هذا تلميذٌ لهذا، وهذا شيخٌ لهذا، وهذا أدْرَك هذا، وهذا لم يُدركْ هذا، فهو بهذا يُعتبر علمًا مِن أهمِّ علوم مصطلح الحديث.

أمَّا على سبيلِ التعليم، فنقول: المقصود بالطبقة كلُّ رَجل مِن رجال السَّند، كما في حديث: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات))، قال البخاريُّ: حدَّثنا الحميديُّ (عبدُالله بن الزُّبَير) قال: حدَّثَنا سفيان (فعبدالله بن الزبير هنا طَبقة، وسُفيان طبقة)، قال: حدَّثنا يحيى بن سعيدٍ الأنصاريُّ -طبقة - قال: حدَّثَنا محمَّد بن إبراهيم التيميُّ - طبقة - قال: حدَّثَنا عَلْقَمةُ بن وقَّاص الليثيُّ -طبقة - قال حدَّثَنا عمرُ بن الخطَّاب - طبقة).

ولماذا نقول: إنَّ الطبقة المقصود بها الرَّجُل من رِجال السَّند؟ لأنَّه ورَد في حديث عن الحسَن قال: كلمة ويح كلمة رَحْمة - سِتَّة من التابعين أخذوا الحديثَ عن بعضِهم البعض، فيكون هؤلاءِ الستَّة ستَّ طَبقات، على الرغم من أنَّهم طبقةٌ واحدة - بتقسيمِ الحافظ ابن حجر - ألاَ وهي طبقة التابعين.

مثال: ( 100، عن 100، عن1000، عن200، عن700، عن 20، عنِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم) فهذا حديثٌ متواتِر، كما أنَّ التواتر ليس شرطًا أن يكون فيه طبقةُ الصحابي؛ لأنَّ الصحابة كلَّهم عدولٌ - رضي الله عنهم - عدَّلهم الله تعالى في القرآن على الإجمالِ، وعدَّلهم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الإجمال، لا تسأل عنِ الصحابي الذي روَى، فأبو بكر مِثل عمر مِثل غيرِه في الحديث، فكلهم واحد، أمَّا في الفِقه فيختلفون.

فيستحيلُ أن يَجتمعَ مائة واحد في الهند، وواحد في السِّند على حديثٍ واحد، ثم نقول: إنَّ هذا الحديث مكذوب، واجتمعوا على كذِبه.



مستند خبرهم الحسُّ؛ أي يقول: حدَّثَنا، وأنبأَنا، وسمعتُ؛ أي: يخبر عن شيء محسوس.

ما ضابطُ العدد الكثير؟
قال العلماء: العددُ الذي يتحقَّق فيه استحالة اجتماعِهم على الكذِب وإنْ كانوا خمسة؛ لذلك يمكن أن تجِد حديثًا متواترًا رواه 10، وحديثًا آخَر غير متواتر رواه 20، كيف؟

العِشرون يكونون إخوة، ويجتمعون في بيتٍ واحِد؛ هل يمكن أن يجتمعوا ويكذبوا؟ نعَمْ يمكن، أمَّا إنْ كان العشرة (واحد مِن الهند، وواحد مِن السند، وواحد مِن إفريقيا، وأحدهم مات سنة كذا، والآخَر مات سَنَة كذا)؛ فهل يمكن أن يجتمعوا على الكذِب؟ لا يُمكن.

وممكن أن يكون خمسةً وفي بيت واحد، ولكنَّهم أئمَّة عدولٌ ثِقات، فلن يَكذبوا على النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهذا مثال، ولا يُشترط أن يكونَ التباعُدِ بالأجسام، ولكنَّ الأهمَّ هو الصِّدق واستحالة التواطُؤ على الكذِب، سواء كان قلبيًّا بالإيمان، أو تباعدًا بالأبدانِ، أو أي سبب، فعلى هذا؛ ليس هناك شرطٌ لعددِ التواتُر.

أقسام الحديث المتواتر

المتواتر اللَّفْظي:
هو ما تواتَر لفظُه ومعناه؛ أي: إنَّ كلَّ مَن رَواه رواه بنفْس اللفْظ، مِثل حديث: ((مَن كذَبَ عليَّ متعمدًا، فليتبوأْ مقعدَه مِن النار))، فقدْ رَواه أكثر مِن سَبعين بنفْس اللفْظ، لم يُغيِّروا كلمة.

المتواتر المعنوي:
هو ما تَواتَر معناه دون لفْظه، مثل أحاديث رفْع اليَدين في الدُّعاء، فكلُّ أحاديث رفْع اليدين في الدُّعاء أتتْ عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحاديثُ آحاد ليستْ متواترةً، مثلاً أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غزوةرفَع يديه، وكان في الصيف فرفَع يديه، وكان في الشتاء فرفَع يديه؛ أي حكايات مختلِفة، فيها مواقِف مختلفة، ورِوايات مختلفة، وكلها أحاديثُ آحاد أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مواقفَ مختلفةٍ رفَع يديه، واشترك الرواة في نقْل أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رفع يديه، ولكن في مواقفَ مختلفة، ويُسمَّى هذا تواترَ القدْر المشتَرك، فالموقف رُوي بألفاظ مختلفة، واشترَك فقط في المعنى أو جُزئية رفْع اليدين؛ أي: إنَّ رفْع اليدين في الدعاء أخَذ صِفة التواتر؛ لكثرةِ ورودِه في أحاديثَ غير متواتِرة، فسُمِّي تواترًا معنويًّا، وهذه التعريفات جاءتْ بالاستقراء.

الآحـاد

تعريف حديث الآحاد: هو ما قصُر عن حدِّ التواتر؛ أي: فقدَ شرطًا من شروط التواتُر.
وخَبَرُ الْآحَادِ مَا قَدْ قَصُرَ
عَنِ التَّوَاتِرِ وَلَوْ قَدْ كَثُرَ

رُوَاتُهُ...................
......................



دلَّ ذلك على أنَّ كثرةَ الرُّواة ليس شرطًا وحيدًا في التواتُر، فالحديث قد يكون آحادًا على الرَّغم مِن كثرةِ رُواته؛ لفقْده شرطًا آخَر مِن شروط التواتر.

مثال: (1000 عن 1000، عن 2، عن 1000، عن 20، عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم)، فهذا حديثٌ عزيز وليس متواترًا؛ لأنَّه فقدَ شرطَ الكثرة في طبقة مِن طبقات السند.



أي: إنَّ الطبقة الدُّنيا (الضعيفة؛ أي: الأقل عددًا وعُدَّة وقوَّة) قضَتْ على كلِّ الطبقات العليا وسُمِّي بها الحديثُ؛ أي: إنَّه حديثٌ عزيز، فالطبقة التي فيها رَاويانِ قضَتْ على كلِّ الطبقات العليا، وهذا مِن عِظم علمِ مُصطلح الحديث، حيث إنَّنا نأخذ بالأحوط، أَخذًا بقولِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن كذَب عليَّ مُتعمدًا، فليتبوأْ مقعدَه مِن النار))، فلكي تنقُل ولا تَأثَم اذْكُرِ السَّند؛ لأنَّ العلماء قالوا: "مَن أحال فقَدْ بَرِئ"، وقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن حدَّث عنِّي حديثًا وهو يرَى أنَّه كذب، فهو أحَد الكذّابين))؛ أي: إذا عرفتَ أنَّ الحديثَ ضعيف، فلا تحدث به إلاَّ أنْ تذكُر أنَّه ضعيف.

الاختلاف في صحَّة الحديث بيْن العلماء:
إذا اختلف الألبانيُّ مع البخاريِّ، نُقدِّم البخاري، وإذا اختلَف الشيخُ الألبانيُّ مع معاصرٍ، نُقدِّم الألباني، دومًا المتقدمون أعلى جوابًا، أمَّا إذا كنتَ طالبَ علم حديثٍ؛ يعني: لك خمس وعشرون سَنة في عِلم الحديث مثلاً، وتعمل في المخطوطاتِ، لك أن تَنظُر في الأسانيد وترجِّح، وإنْ كنت مقلدًا، فقلِّد الشيخ الألباني[2]؛ لأنَّه قضَى أكثرَ مِن خمسٍ وستِّين سنة في عِلم الحديث، وكان لديه مخطوطاتٌ ليستْ عندَ أحد.

1- الحديث الغريب (الفرْد):
ما انْفرَد به راوٍ واحد فقط في أيِّ طبقةٍ مِن طبقات السند، ولا يصحُّ أنْ أقول: في كلِّ طبقات السَّند؛ لأنَّه يُفهَم من هذا أنَّه رواه واحدٌ عن واحدٍ عن واحد، بل نقول: في أيِّ طبقة مِن طبقاتِ السند.

مثال: ( 1000 عن 5000، عن 20، عن (1)، عن 10، عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم) يُسمَّى حديثًا غريبًا.

قاعِدة: طبقة الصحابةِ لا تَدخُل في عِلم مُصطلح الحديث؛ لأنَّ الصحابة كلَّهم عدولٌ، فإنْ قال: حدَّثَني صحابيٌّ، ولم يذكُر اسمَه، فهو عدْل، خلافًا لغيرِهم؛ إذ لا بدَّ أن يذكر اسم الراوي، ليس هذا فحسبُ، بل لا بدَّ أن يعرفَ هل هو عدلٌ ضابط (ثقة) أم لا؟

مثال: حديث ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات)):
قال البخاريُّ: حدَّثَنا الحُميديُّ (عبدُالله بن الزُّبَير) قال: حدَّثَنا سفيانُ بن عُيينة - في أغلبِ الكتب سفيان فقط، ولكنه سفيان بن عيينة؛ لأنَّ الحُميديَّ عندَه كتاب اسمُه "مُسنَد الحُميدي" ألف وثلاثمائة حديث كلُّهم عن ابن عُيينة - قال: حدَّثَنا يَحيى بن سعيدٍ الأنصاريُّ، قال: أخبَرني محمَّد بن إبراهيم التيميُّ، قال: سمعتُ عَلقمةَ بنَ وقَّاص الليثيَّ، يقول: سمعتُ عمرَ بنَ الخطَّاب على المنبر يقول: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات)).

سُمِّي هذا الحديثُ غريبًا؛ لأنَّ مَن أخذَه عن عمرَ راوٍ واحدٌ فقط هو عَلْقمة، ورواه عن عَلقمة راوٍ واحدٌ فقط، هو محمَّد بن إبراهيم، وأخَذَه عن محمَّد بن إبراهيم رَاوٍ واحدٌ فقط، ألاَ وهو يَحيى بن سعيدٍ الأنصاريُّ، وقيل: أخَذَه عن يحيى أكثرُ مِن سبعمائة؛ هل معنى هذا أنه لا بدَّ أن يكونَ راوٍ واحدٌ فقط في ثلاثِ طبقات؟ كلاَّ! بل يَكفي أن يكونَ واحد فقط في (أي) طبقة مِن طبقاتِ السَّنَد.




الغريب (الفرْد) المطلق:
ما انْفَرَد به راوٍ واحدٌ في الطبقة التي تَلي طبقةَ الصحابي، ولا نُسمِّيها طبقةَ التابعي؛ لأنَّ التابعي يُمكن أن يأخُذ عن تابعي مثلِه مِن نفْس الطبقة، وقد تكون الطبقةُ كبيرةً، ونحن نخصِّص جزءًا منها فقط، وهي الطبقة التي تَلِي طبقةَ الصحابي مباشرةً، ((في مِثال "إنَّما الأعمالُ بالنيَّات" سُمِّي حديثًا غريبًا مطلقًا، لتفرُّد علْقَمة برِوايته عن عُمر - رضي الله عنه).

الحديث الغريب (الفرْد) النسبي:
إذا تَفرَّد الراوي في أيِّ طبقةٍ مِن طبقات السَّند عدَا الطبقة التي تَلي طبقةَ الصحابي سُمِّي حديثًا غريبًا نسبيًّا، في حديث ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات)) سُمِّي حديثًا غريبًا نسبيًّا؛ لتفرُّدِ محمد بن إبراهيم عن عَلْقَمة، أو يَحيى بن سعيدٍ الأنصاريّ انفرَد به عن محمَّد بن إبراهيم التيمي. تَفرُّد الصحابي بالحديث لا يُسمَّى حديثًا غريبًا، مع أنَّ بعضَ العلماء قال: يُسمَّى غريبًا.

سنَد حديث ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات)):
قال البخاريُّ: حدَّثَنا الحُمَيديُّ (عبدالله بن الزُّبَير) قال: حدَّثَنا سفيانُ بن عُيينةَ، قال: حدَّثَنا يَحيى بن سعيدٍ الأنصاريُّ، قال: أخبَرني محمَّد بن إبراهيم التَّيميُّ، قال: سمعتُ عَلقمَةَ بنَ وقَّاص الليثيَّ، قال: سمعتُ عُمرَ بنَ الخطَّاب على المنبر يقول: قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات)).


[1] كلامُنا هنا ليس مقارنةً بيْن أهلِ الحديث وأهلِ القرآن، فأهلُ القرآن هم أهلُ الله وخاصَّته، ولكن كلامنا على أهلِ الحديث الذين هُم في الأصل أهلُ القرآن، فهؤلاءِ هم أسعدُ الناسِ بالنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل وحُسْن خاتمتهم مأثورة، وإليك واحدةً منها: قال ابنُ أبي حاتم: سمعتُ أبي يقول: ماتَ أبو زُرعة مطعونًا مبطونًا يعرَق الجبين منه في النَّزْع، فقلت لمحمَّد بن مسلم: ما تَحفظ في تلقينِ الموتَى، فقال: حدَّثَنا بُندار، حدَّثَنا أبو عاصم، حدَّثَنا عبدُالحميد بن جعفر، ثم أُرْتِج عليه، فرفَع أبو زُرْعَة رأسَه وهو في النَّزع، فقال: رَوى عبدُالحميد بن جعفرٍ، عن صالِح بن أبي عريب عن كثيرِ بن مُرَّة عن مُعاذ عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن كان آخِرُ كلامِه لا إله إلا الله...))، وخرَجت رُوحُه مع الهاءِ مِن قبل أن يقول: ((دخَل الجنة))؛ "طبقات الشافعيَّة الكبرى، العلاَّمة/ تاج الدين بن علي بن عبدالكافي السُّبْكي.

[2]ولله درُّ الشيخ الألباني - رحمه الله تعالى - حيث قال بصدَد حديثٍ اغترَّ البعضُ بظاهر إسناده:
"إنَّ ابن حزم نظَر إلى ظاهر السند، فصحَّحه؛ وذلك مما يتناسب مع ظاهريتِه، أمَّا أهلُ العلم والنقْد، فلا يَكتفُون بذلك، بل يتتبَّعون الطرق، ويَدرُسون أحوالَ الرواة، وبذلك يَتمكَّنون مِن معرفة ما إذا كان في الحديثِ عِلَّة أوْ لا؛ ولذلك كانت معرفةُ علل الحديث مِن أدقِّ علومِ الحديث، إنْ لم يكُن أدقَّها إطلاقًا ..." .

وقال أيضًا: "إنَّ الحديثَ الحسَن لغيره وكذا الحسَنُ لذاته، مِن أدقِّ علوم الحديثِ وأصعبِها؛ لأنَّ مدارهما على مَن اختَلف فيه العلماءُ مِن رُواته ما بيْن موثِّق ومضعِّف، فلا يتمكَّن مِن التوفيق بينها، أو ترجيح قولٍ على الأقوال الأخرى، إلا مَن كان على عِلم بأصولِ الحديث وقواعدِه، ومعرفةٍ قويةٍ بعِلم الجرْح والتعديل، ومارَس ذلك عمليًّا مدَّةً طويلة مِن عُمره، مستفيدًا مِن كتُب التخريجات، ونقْد الأئمَّة النقَّاد، عارِفًا بالمتشددين منهم والمتساهلين، ومَن هُم وسطٌ بينهم، حتى لا يقَع في الإفراط والتفريط، وهذا أمرٌ صعْب قلَّ مَن يصيرُ له، ويناله ثمرته، فلا جرمَ أنْ صار هذا العلمُ غريبًا بيْن العلماء، والله يختصُّ بفضلِه مَن يشاء".

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 13-02-2020, 04:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث

الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث (3)
د. عيد نعيمي آل فيصل




السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه، إنَّ الحمدَ لله نحمَده ونستعينه ونستغفِره، ونعوذُ بالله مِن شرورِ أنفسِنا، ومِن سيِّئات أعمالنا، مَن يَهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يضللْ فلن يجدَ له وليًّا مرشدًا، وصلِّ اللهم على سيِّدنا محمَّد، وعلى آله وصحْبه وسلِّم.


الحديث العزيز


الحديث العزيز:هُو ما انفرَد به رَاويانِ فقط في (أيِّ) طبقة مِن طَبقاتِ السَّند، ولا يصحُّ أن أقول: في كلِّ طبقةٍ مِن طَبقات السَّند؛ لأنَّه يفهم مِن هذا أنَّه رَوَى اثنان عنِ اثنين، عن اثنين، عن اثنين، بل أقول: في أيِّ طبقةٍ مِن طبقات السَّنَد.

مثال: (1000 عن 100 عن 2 عن 22 عن1000 )، يسمَّى حديثًا عزيزًا.
مثال (1000 عن 100 عن 2 عن 1000 عن 1 عن 100) يسمَّى حديثًا غريبًا؛ لأنَّ أقل طبقة فيها 1.

تعريف آخر:هو الحديثُ الذي لا يقلُّ رُواته عن اثنين في أيِّ طبقةٍ مِن طبقاتِ السَّند.

مهمَّات في عِلم مصطلح الحديث:
مُصطلح الحديث ليس ألفاظًا جامدة، بل هو عِلم حي، فبأيِّ وسيلةٍ وصلتِ المعلومة إلى الطالب وفَهمها، تمَّ لنا المراد، وعِلم الكلام أو عِلم الفلسفة لما دَخَل في عِلم الحديث، صعَّب مِن عِلم مصطلحِ الحديث؛ لذلك جزَى الله العُلماء خيرًا أن نقَّوه مِن هذه المسائل.

عندَ العمل في تخريجِ الأحاديث لا تَعتمد على (الكمبيوتر)؛ لأنَّه يصيبك بالتكاسُل، وتأخذ منه المعلومةَ التي تُريدها فقط، ولا تَستفيد معلومات أخرى، وإنَّك إن لم تعتمدْ على أقوالِ الأئمَّة المتقدِّمين، فستزلُّ قدمُك.

المتواتِر ليس مِن علوم مُصطلح الحديثِ؛ لأنَّ المتواتر يَقينًا صحيح، وعِلم مصطلح الحديثِ إنَّما هو لتمييزِ الصحيح مِن الضعيف، كما أنَّ تقسيمَ الأحاديث إلى متواتِر وآحاد، ليس تَقسيم عُلماء الحديث، بلْ هو تقسيمُ المتكلِّمين والفلاسفة.

كذلك طبَقة الصحابة ليستْ مِن مصطلح الحديث؛ لأنَّ الصحابةَ كلَّهم عدولٌ، قد يقول قائل: إنَّ الصحابةَ كلَّهم عدولٌ، ولكن يُمكن أن يُخطِئوا، نقول: نعَمْ يمكن، ولكن هناك قاعدة في الأصول تقول: "إنَّ النادرَ ليس له حُكْم"، والصحابة في غالبِ أمرِهم صواب.

في زمَن الصحابةِ لم يَنظُروا للإسنادِ؛ لأنَّهم كلَّهم عدولٌ، ولم يكن هناك تفشِّي الكذب.

إذا جَمَع الحديثُ بين غريبٍ مُطلَق، وغريب نِسبي، يجوز أن تقول: غريب نِسبي، وغريب مُطلَق، والأفضلُ أن تقول: غريب أو فرْد فقط.

كلَّما بَعُدَ الزمان عن مِشكاة النبوَّة، كانتِ الصحَّة أقل، وهذا إجمالاً؛ أي: طبقة الصحابة أفضلُ مِن طبقة الأتباع، وطبقة الأتْباع أفضلُ مِن طبقةِ أتباع الأتباع، فكلَّما نزلنا بالحديثِ قلَّت الصحَّة؛ لتفشِّي الكذِب وطول الأسانيد.
مِثال الحديث العزيز؛ قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يُؤمِن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه مِن والدِه وولدِه))؛ رواه عن أنس - رضي الله عنه - رَاويانِ، هما قَتادة بن دعامة السَّدوسي، وعبدالعزيز بن صُهَيب.





الحديث المشهور

تعريف الحديثِ المشهور الاصطلاحي:هو ما انْفرَد برِوايتِه ثلاثة رُواة فأكثر في أيِّ طبقةٍ مِن طبقاتِ السَّند، بشرْط ألا يَصِل إلى حدِّ التواتُر.
مثال: (20 عن 100 عن 6 عن 50 عن 200 عن 10 عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم)، حديث مشهور؛ لوجودِ 6 مِن الرُّواةِ في طبقةٍ مِن الطبقات.
مثال: حديث: ((إنَّ الله لا يَقبِضُ العلمَ انتزاعًا يَنتزِعُه، ولكن يَقبِضُ العِلمَ بقَبْضِ العُلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالِمًا، اتَّخَذ الناسُ رُؤوسًا جُهَّالاً، فسُئِلوا، فأفْتَوا بغيرِ عِلم فضلُّوا وأضلُّوا))؛ رواه هشام بن عُروةَ عن أبيه، فوافَق هشامٌ عن أبيه ثلاثة، هم: الزُّهري، وأبو الأسود المَدني، ويَحيَى بن أبي كَثير، هذا يُسمَّى حديثًا مشهورًا.







المشهور اللغوي (غير الاصطلاحي):
ويُقصَد به الشهرة؛ أي: معروف لدَى الناس، فالمشهور اللُّغوي يُمكن ألاَّ يكونَ حديثًا أصلاً، يُمكِن أن يكونَ كلامًا، أو أيَّ شيء؛ لأنَّه لُغويًّا متعارَفٌ عليه.

قسَّم العلماء الأحاديث المشهورة (غير الاصطلاحي) إلى:
1- مشهورٌ عند المحدِّثين: ((أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قنَت شهرًا يدْعو على رِعْل وذكْوان)).
2- مشهورٌ عند الفقهاء: ((إنَّ أبغضَ الحلالِ عندَ الله الطَّلاق)).
3- مشهورٌ عند العوامِّ: ((العَجَلة مِن الشَّيطان)).
4- مشهورٌ عند الأطبَّاء: ((المَعِدة بيتُ الدَّاء))، وهو ليس حديثًا، ولكنَّه مِن قولِ الحارثِ بن كِلدة طبيبِ العرَب.
5- مشهورٌ عند الأُدباء: ((أدَّبَني ربِّي فأحسنَ تأديبي))، وهو حديثٌ ضعيف.
6- مشهورٌ عند النحاة: قولُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نِعم العبدُ صهيبٌ! لو لم يَخفِ اللهَ لم يَعْصِه))، هذا الحديثُ مشهورٌ عندَ النحاة؛ لأنَّ فيه نُكتةً نحوية مِثل الآية: ï´؟ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ï´¾ [فاطر: 28].
7- مشهورٌ عند الأصوليِّين: ((رُفِع عن أمَّتي الخطأُ والنسيانُ وما اسْتُكرِهوا عليه)).

س: كيف يكونُ أقلُّ عددٍ ثلاثةً، ويُسمَّى حديثًا آحادًا؟
ليستْ معنى تَسمية الحديثِ الآحادِ بآحادٍ أن يَرويَه واحدٌ، ولكن هذا وصفٌ للجانبِ الآخَر مِن المتواتِر، فهُناك متواتِر وآحاد، وهذا مهمٌّ؛ لأنَّ أهلَ البِدع يقولون: لا يُحتجُّ بالحديثِ الآحاد في العقائدِ، مستدلِّين بحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عندما استأذَنَ مِن عمرَ، فطلَب عمرُ بن الخطاب لأبي موسى شاهدًا، فذَهَب أبو موسى للأنصارِ، فذَهب معه أبو سعيدٍ الخُدري، فقالوا له: يذهب معك أصغرُنا؟! فقال أهل البِدع: إنَّ عمرَ بنَ الخطاب لم يأخذْ بحديثِ الآحادِ؛ أي: بقول أبي موسَى الأَشعري بنفسِه، وهذا خطأٌ؛ لأنَّ ذَهابَ أبي سعيد الخُدري فقط، مع أبي موسَى يظلُّ الحديث آحادًا أيضًا، وهو حديثٌ عزيز.

أغلبُ الأحاديثِ الغَرائب ضعيفة، ولكن صحَّ مِن الأحاديثِ الغرائب أحاديثُ عدَّة، وأشهرها حديث: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات))، ولكن إذا أطْلق عُلماءُ الحديثِ على حديثٍ أنَّه حديثٌ غريبٌ، فهُم يقصدون بذلك أنَّه حديثٌ ضعيف، بل في غالبِ الأحيان ما يَكون الحديثُ منكرًا.

س: هل إذا قال الترمذيُّ: هذا حديثٌ غريبٌ يُعدُّ قدْحًا في الحديث؟
ج: إذا قال الترمذيُّ في "سُننه" أو في "جامعه": هذا حديثٌ غريب، فهو يقصِد أنَّه حديثٌ ضعيف، ولا يعني بضرورة الحال أنَّه انفرد به رَاوٍ واحدٌ.

س: ما فائدةُ هذا التقسيم إلى متواتِر وآحاد؟
1- إنَّ مبحَث المتواتِر ليس مِن مباحِث علوم مُصطلح الحديثِ؛ لأنَّ عِلم مصطلح الحديثِ يَبحث في القَبول والرد، والحديثُ المتواتِر مُجمَع على صِحَّته، بل يُفيد العِلمَ الضروري.

تعريف العِلم الضروري: هو العِلم الذي يَهجُم على القلبِ فيُصدِّقه مباشرةً دونما استدلالٍ ونظَر، ويَضرِب له العلماء، مثال: (عندما تكون الشمسُ ساطعةً في وضَح النهارِ؛ فهلْ تحتاج إلى أدلَّةٍ وبراهين لكي تقول: إنَّ الشمسَ مُشرِقة؟ يَكفيك فقط أن تَنظُر بعينيك)، وحديث الآحاد يُفيد العِلم النَّظَري، الذي يحتاج إلى استدلالٍ ونظَر، وهذا كلام الذين تأثَّروا بالفلاسفة والمبتدِعة، حتى قالوا: لا يُؤخَذ بحديثِ الآحاد في العَقائد، وإنَّما يُؤخَذ به في الأحكامِ العمليَّة (مِثل الفقه)؛ لأنَّه يُفيد العلمَ النظري، والعقائدُ يَقينيَّة!

نقول لهم: مِن أين لكم هذا التقسيمُ البِدعي، فلم يرِدْ عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا أصحابِه تقسيمُ الدِّين إلى أحكام عمليَّة وعقائد، كما أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يَبعث آحادَ الصحابةِ؛ ليبلغ الدِّين جملةً، دونما تَفريق بيْن العقائد والأحْكام، بل لو قلنا: إنَّ هذا الصَّحابي الواحِد أرسله النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لتعليمِ العقائد، لجازَ لنا ذلك؛ لأنَّه في بدايةِ الإسلام، فلمْ يكُن هناك ثَمَّة أحكام عمليَّة، بل إنَّ كلَّ الأحكام كانتْ عقائدية، وحديث بعْث مُعاذ إلى اليَمن ليس عليكم ببعيد، ونقول أيضًا: إنَّه إذا صحَّ حديثٌ ولم يكُن هناك تعارضٌ بيْنه وبيْن حديث آخَر، وجَبَ العملُ به إجماعًا.

2- عندَ الترجيحِ بيْن الأحاديث المتعارِضة عند تعذُّرِ الجمْع بينهما، فيُقدَّم الحديثُ الأصحُّ على الصحيح، فالمتواتر أصحُّ مِن الآحاد، فإذا لم تستطعْ كمجتهدٍ أن تجمَع بين حديثين متعارِضين أحدُهما آحاد، والآخَر متواتر، فيرجّح الحديث المتواتر على الآحاد.

المعتزلة قالوا: إنَّ مِن شروط الصحيح أن يكونَ الحديثُ عزيزًا فما أعلى، واستدلُّوا على هذا بالشهادَة، حيث قالوا: لا بدَّ مِن راويين كما في مسألةِ الشهادة؛ لذلك قال الصنعانيُّ في منظومته "قصب السكر" ردًّا عليهم:
وَلَيْسَ شَرْطًا لِلصَّحِيحِ فَاعْلَمِ
وَقَدْ رُمِي مَنْ قَالَ بِالتَّوَهُّمِ



أي ليس شرطًا مِن شروط الصحيح أن يكونَ الحديث عزيزًا؛ أي: إنَّ الأحاديثَ الغرائبَ عند المعتزلة كلّها ضعيفة، وهذا باطلٌ، حيث إنَّه صحَّ مِن الغريب أحاديثُ، منها: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات))؛رواه البخاري ومسلم، واستقبلتْه الأمَّةُ كلها بالقَبول، ولم يطعنْ أحد في صحَّته، إذًا فكلامُهم مردود.


أقسام الخبر من حيثُ القَبول والردّ







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 13-02-2020, 04:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث


الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث (4)
د. عيد نعيمي آل فيصل



سنتكلَّم عن شجرةِ الحديثِ، وسوف نأخُذ شجرتين:
الشجرة الأولى: أقسامُ الحديث مِن حيثُ طُرقُ وصولِه إلينا، وقد مرَّت معنا (الحديث المتواتر والآحاد).

الشجرة الثانية: أقسامُ الحديث أو الخبَر مِن حيثُ القَبولُ والرد، ومنها:
أولاً: الحديث المقبول ينقسِم إلى:
أ‌- الحديث الصحيح، وينقسم إلى:
1- صحيح لذاته.
2- صحيح لغيره.

ب- الحديث الحسن، وينقسم إلى:
1- حسَن لذاته.
2- حسَن لغيرِه.

تعريف الحديث الصحيح:
قال السيوطي في ألفيته:
حَدُّ الصَّحِيحِ مُسْنَدٌ بِوَصْلِهِ
بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطٍ عَنْ مِثْلِهِ



وَلَمْ يَكُن شَاذًا وَلاَ مُعَلَّلاَ



شروط الحديث الصحيح:
1- اتِّصال السَّند.

2- عَدالة الرُّواة.

3- ضبط الرُّواة.

4- ألاَّ يكون الحديث شاذًّا.

5- ألاَّ يكونَ الحديثُ مُعَلاًّ: فيه خلافٌ بيْن عُلماء اللُّغة؛ هل نقول: مُعلاًّ، أم مُعلَّلاً، أم معلولاً؟ وقلنا: إنَّ مصطلحَ الحديث ليس رِياضيات - أعني: مجرَّد أن تفهمَ ما يقول الشيخُ، فهذا هو المطلوبُ بدون تعقيد.

تعريف الحديثِ الصحيح:
هو ما اتَّصل سندُه بنقلِ العدلِ الضابطِ عن مثلِه إلى منتهاه، مِن غير شذوذٍ ولا عِلَّة قادحة.

نبدأ بتفسير شروط الحديث الصحيح
الشرط الأوَّل مِن شروط الحديثِ الصحيح (اتصال السند):
س: ماذا يُقصَد باتِّصال السَّنَد؟
ج: يُقصَد باتِّصالِ السندِ أن يَتحمَّلَ الرَّاوي الحديثَ عن شيخِه بطريقةٍ مِن طرُق التحمُّلِ المعتبَرة، مثل: (سمعت، حدَّثَنا، أنبأَنا، أخبرَنا) أو: (عن، قال، أن).

س: لماذا قلنا: يتحمَّل الراوي، ولم نقل: يسمع الرَّاوي عن شيخِه؟
ج: مراعاةً لطُرق التحمُّل الأخرى - طرُق التحمُّل غيْر المباشرة - لأنَّنا إذا قلنا: يسمع فقط، فبذلك نكون اعتمدْنا على طرُق التحمُّل المباشِرة فقط، مثل السَّماع، وترَكْنا طرقَ التحمُّل غير المباشِرة، مثل الوجادة والإجازة، وعن وأن وقال؛ لذلك فمِن الصواب أن تقول: يتحمَّل الراوي، فبذلك تشمل جميعَ طرق التحمُّل - المعتبَرة عندَ العلماء - التي سيتمُّ دِراستها آخِرَ الفصل الدراسي - إنْ شاء الله تعالى.

س: ما الفرقُ بيْن التحمُّل والأداء؟ وهل يُشترط لهما الإسلام؟
التحمُّل: أن يتحمَّل الرَّاوي الحديثَ مِن شيخه (أي: يأخذَه مِن شيخه بأيِّ شكلٍ كان - مثال: طلَبةُ العلم في دَرْس الشيخ يكونون في موضِع تحمُّل، أمَّا الشيخ، فيكون في موضِع أداء).

الأداء: أن يَقومَ الشيخُ بأداءِ الحديث أو إعطائِه في مجلسِ العِلم لطلاَّبِه.

س: وهل يُشترَط لهما الإسلام؟
ج: لا يُشترط الإسلامُ في التحمُّل، أمَّا في الأداء، فيُشترَط الإسلام، بل ومعَ الإسلام العَدالة، فلا بدَّ أن يكونَ المؤدِّي (الشيخ) مسلمًا عدلاً ضابطًا دَيِّنًا وَرِعًا بعيدًا عن الفِسق وخوارم المروءة، إلى آخِرِ الشروط، (بمعنى إذا جاءَ نصرانيٌّ ليجلسَ في جلسةِ العِلم؛ هل سنقول له: لا تجلس؟ لا، فهو يَتحمَّل مِن الشيخ ويَسمع، ولكن إذا أراد أن يؤدِّيَ لا يصحُّ ونقول له: لا؛ لأنَّنا نشترط فيمَن يُؤدِّي الحديثَ وهو مسلم أن يكون عدلاً ضابطًا؛ أي دَيِّنًا، فما بال الكافر؟! (لا يصحُّ إطلاقًا)، إذًا لا يُشترط الإسلام في التحمُّل فيأتي أيُّ شخص ويجلس في حَلقةِ العِلم، لا ضيرَ في ذلك، ولكن عندَما يُريد أن يؤدِّي ويَنقُل عن الشيخِ يجِب أن يكونَ مسلمًا عدلاً ضابطًا.

الدليل:
حديثُ جُبَير بن مُطعِم في قِراءة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لسورةِ الطور في صلاة المغرب؛ فجُبير بن مطعم أتى - وهو إذ ذاك كان كافرًا - إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم سمِع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يقرأ (سورة الطور) في صلاة المغرب، فتحمَّل هذه السُّنَّة الفِعليَّة في حالِ كُفره، وأدَّاها في حالةِ إسلامه، فعندما أَخبر جُبير بن مُطعِم أنَّ النبي قرأ بسورةِ الطور في صلاة المغرِب، قَبِلْنا منه هذا، على الرغم مِن أنَّه تحمَّل هذه السُّنَّةَ الفِعلية في حال كُفِره.

ذكَر أحدُ الإخوة: أنَّ حديث جُبير في سندَه رجلٌ مبتدِع مِن القَدرية.
رد الشيخ: الأخُ يَسبِق الأحداثَ ولا يعلم أنَّ البخاريَّ روَى عن عِمران بن حِطَّان رأس مِن رؤس القعديَّة الخوارج، فليس كلُّ مبتدعٍ حديثُه يُرَدُّ، ولكن هناك شروطًا لردِّ حديث المبتدع سوف نتكلَّم عنها في مبحثِ البدعة - إن شاء الله.

س: ما هي طرقُ معرفةِ الاتصال؟ بِمَ يُعرف الاتِّصال؟
(إذا قال راوٍ: عن فلان، أو قال فلان، أو حدَّثَنا فلان، فبناءً على أيِّ شيء يَحكُم العلماء على حديثِه بالاتصال؟)

هناك ثلاث وسائل لمعرفة الاتصال:
1- التصريح: مثلاً يأتي أبو زُرعة الرازيُّ ويقول: فلانٌ سمِع مِن فلان، فهذا تصريحٌ، ومِن أنواع التصريح:
أ- أن يُخبِر إمامٌ من أئمَّة الجرحِ والتعديل أنَّ هذا الراوي سَمِع.


ب- أن يكونَ الراوي نفسُه ثقةً فيقول: حدَّثَنا أو عن، ويكون غيرَ مُدَلِّس، وهذه أيضًا مِن أنواعِ التصريح، ما دام العالِمُ ثقةً في نفسِه، وقال: عن أو حدَّثَنا، فهذا نوعٌ مِن أنواع التصريح بالسماع.

2- الترجيح: مثلاً: أبو زرعة الرازيُّ وأبو حاتم الرازيُّ اختلفا؛ قال أحدهما: هذا الراوي سَمِع، والآخَر قال: لم يسمع، فنبدأ نُرجِّح بيْن الأمرين، والعلماء يقولون: المُثبِت مُقَدَّم على النافي؛ أي: مَن قال: سَمِع، أَوْلَى ممَّن قال: لم يسمع، "هذه قاعدةٌ أُصولية"، هذا إذا كان الإمامانِ في نفس المرتبة مِن العِلم، وإلاَّ فسوف يُقدَّم قولُ الأعْلم.

3- الاستنباط: مثلاً: عندما يقول راوٍ: عن الشيخ أبي إسحاق الحُويني، وينقُل عن الشيخ أبي إسحاق الحويني كلامًا، فننظر: هل هذا الراوي عدلٌ ضابط؟ إذا كان كذلك وله رِحلةٌ في طلَب العِلم، في حين أنَّ العالم الذي يَحكُم على حديثه لا يَعْلَم أحَضَر مجلسَ الشيخ أبي إسحاق أم لا، في هذه الحالة يُحكَم له بالسماع، وهذا يُسمَّى استنباطًا؛ لأنَّه أدرك زمنَ الشيخ أبي إسحق إدراكًا بيِّنًا، كما أنَّه عُلِم عنه التنقُّلُ في الرحلة لطلبِ العِلم، فمُجرَّد أن يقول: عن الشيخ أبي إسحاق، تُحمَل على أنَّه سمع، ما دام أنَّه ثِقة في نفسِه غير مدلِّس.

الدليل:
قال الترمذيُّ في "العلل الكبير" في باب ما قُطِع مِن الحيِّ، فهو ميِّت: سألت مُحمدًا (أي: سألتُ مُحمدَ بنَ إسماعيل البخاريَّ) عن هذا الحديث: ((ما قُطِع من الحيِّ، فهو ميِّت))، أتراه محفوظًا؟ قال: نعَمْ، قلت (أي: الترمذي): عَطاء بن يَسار أَدْرَك أبا واقِدٍ الليثيَّ؟ قال: يَنبغي أن يكونَ أَدْرَكه؛ فعطاء بن يَسار قديم.

قلتُ: فالبُخاري أثبَت الاتِّصالَ بين عطاء بن يَسار وبيْن أبي واقدٍ عن طريقِ الاستنباط.

الشرط الثاني مِن شروطِ الحديث الصحيح (العدالة):
تعريف العَدالة: هي المَلَكة التي تحمِل صاحبَها على ملازمةِ التَّقْوى - أي: الدِّين - ومجانبة الفِسق وخوارم المروءة.

أي: إنَّ العدالة تَشتملُ على شيئين:
1- أن يكون تقيًّا؛ أي: دَيِّنًا.

2- غير مخروم المروءة.

تعريف العدل، هو:
1- مَن أتى بالواجباتِ، وتَرَك المحرَّمات.

2- لا يُجاهِر بالكبيرةِ، ولا يُصرُّ على الصغيرة.

3- مَن قارَب وسدَّد، وغلَب خيرُه شرَّه.

4- مَن كانتْ محاسنُه أكثرَ مِن مساوئه.

5- مَن كان أكثرُ أحواله طاعةَ الله.

6- المسلم العاقِل البالِغ السالِم مِن أسبابِ الفِسق وخوارمِ المروءة، فالصغير لا يُعتبَر به في الحديثِ؛ لأنَّه ليس مِن أهل المروءة.

تعريف المروءة:
1- أن تَفعل مِن المباحات ما يَزينُك، وتَترُك منها ما يَشينُك.

2- الصِّيانةُ مِن الأدناسِ، والترفُّع عمَّا يَشينك أمامَ الناس.

3- تَرْك المذموم عرفًا - لا شرعًا - يَعني: ما تَعارَف عليه الناسُ أنَّه مذمومٌ؛ لأنَّ إتيانَكَ به فيه خارمٌ مِن خوارم المروءة.

والمروءةُ لَيسَ لها ضابطٌ يَضبطُها، فما قدْ يكونُ خارمًا مِن خوارم المروءة في قريةٍ، لا يكون خارمًا مِن خوارمها في قريةٍ أخرى.

مثلاً: رجلٌ يأكُل في الطريقِ؛ هل هذا يُعدُّ مِن خوارم المروءة! بمعنًى آخَر: هل يُعدُّ الأكل في الطرقات الآن خارمًا مِن خوارم المروءة؟ نقول: إذا كان مذمومًا عُرفًا، فنَعَمْ، وإلاَّ فلا؛ لأنَّ خوارم المروءة هي ما تَعارفَ عليه الناسُ أنَّه مذمومٌ.

أمثلة مِن الأمور المذمومة عندَ المحدِّثين:
1- قِيل للحَكَم: مَا لَكَ لا تَروي عن زَاذانَ الكِنديِّ؟ قال: كان كثيرَ الكلام.

2- طبعًا نَعْلَم قِصَّة شُعبة لَمَّا ترَك أحد الرواة؛ فقيل: لماذا تركتَه؟ قال: "لقد رأيتُه يركَبُ بِرذونًا يَجري مِلْءَ فروجه"؛ أي يركَب فرسًا ويركُض به بسرعة، فعدَّ هذا مِن خوارم المروءة؛ لأنَّه كان يَقفِز على الفرَس - ولكن هذا الكلام غيرُ صحيح؛ لأنَّ العلماءَ غيرَ شُعبة وثَّقوه.

س: لماذا اشتراط المروءة وهي ليست لها عَلاقة بالدِّين، والناس فقط يَستنكرونها؟
ج: يُخشَى أن يكونَ صاحب مجازفة وتوسُّع غير مرضيٍّ، ويُلقي الكلامَ دون مبالاةٍ، فمِن الممكن أن يقول على النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما لم يَقُلْه.

مثلاً: راوٍ مِن الرُّواة يَفعل شيئًا مِن خوارم المروءة، لكن هذا الفِعل ليس مُحَرَّمًا شرعًا، فهل يُؤخَذُ حديثُ مَن كان هذا حاله؟ لا نأخُذ منه الحديث؛ لأنَّ مِثل مَن يفعل هذا، لا يتورَّع أن يَتقوَّل على الله ما لم يقلْه؛ لأنَّه عندَه مجازفةٌ، فيفعل مثلَ هذا الفِعل ولم يخجلْ، فلا يُستأمن على حديثِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فمِثله يكون رجلاً تافهًا لا يأبه لشيء ولا يهمُّه كلامُ الناسِ، كما أنَّه صاحب مجازفة، فمِثله لا يُستأمَن على حديثِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

الشرط الثالث مِن شروط الحديث الصحيح (الضبط):
الضبط ينقسم إلى قسمين:
1- ضَبْط صَدْر (يُحدِّث كيفما شاءَ، سواء مِن كتابه أو مِن حِفظه).

2- ضَبْط كتاب (لا بدَّ أن يُحدِّث مِن كتابِه).

قال يَحيى بن مَعين (توفِّي سنة 233، وكان إمامًا من أئمَّة الجَرْح والتعديل)، قال: "هما ثَبتانِ: ثبت حِفظ، وثبت كِتاب".

تعريف ضَبْط الصَّدر:
أن يحفظَ الراوي الحديثَ مِن شيخه بحيثُ يستطيع أن يستحضرَه متَى شاء.
(نمثِّلها بالقرآن محفوظٌ في الصُّدور).

سؤال: الأفضل أن نقول: متى شاءَ، أم متَى طُلِب منه؟
الإجابة: الصوابُ: متَى شاءَ؛ حتى نَتجنَّب أن نقدحَ في الأئمَّة الذين عُرِفوا بالعُسْر في الرِّواية، مِثل سليمان بنِ مِهران الأعمش، ومِثل أبو بكر بن عَيَّاش، أخذ هذه الشِّدَّة مِن شيخِه الأعمش، فكان عَسِرَ الرِّواية؛ لأنَّ بعضَ العلماء عُرِف بالعسر في الرِّواية، ويأتي إليه أحدُهم فيقول: حدِّثْني حديثًا، فلا يُحدِّثه ويقول له: ولا نِصف حديثٍ، فلا نقول على مِثل هذا: إنَّه ليس ضابطًا، لا، بلْ هو عَسِرٌ يحبُّ أن يُعَلِّم طالبَ الحديث التواضُعَ.

تعريف ضَبْط الكِتاب:
صِيانة الرَّاوي لكتابِه منذُ أدْخَلَ الحديثَ فيه وصحَّحه وقابَلَه على أصلِ شيخِه إلى أن يُؤدِّي منه؛ أي: إلى أن يبدأ في التحديثِ مِن هذا الكتاب.

شروط ضَبْط الكتاب:
1- حِفْظ الكتاب مِن وَرَّاق السُّوء (ورَّاق السُّوءِ الذي يكتُب للشيخِ الحديثَ، يُسمَّى في عِلم الحديث "الورَّاق"؛ لأنَّ بعضَ الورَّاقين كانوا يُخالِفون الشيوخ في الاعتقاد، فكانوا يُدخِلون في أحاديثهم ما ليس مِن حَديثِهم).

2- أن يُحفَظ الكتاب مِن التَّلَف.

3- أن يُحفَظَ الكتاب مِن الضَّياع.

4- أن يُحفَظ الكتاب مِن الاحتراق.

5- مُقابلة الكتاب على أصلٍ معتمَد.

6- ألاَّ يُحَدِّث إلاَّ مِن كتابه؛ (لأنه ليس عندَه ضبط صدْر، وكان يضبط الأحاديثَ في كتابه؛ ولكي يُقبَل منه الحديثُ لا بدَّ أن يُحَدِّث مِن كتابه؛ لذلك ضُعِّف بعض الأئمَّة الذين ترَكوا كُتبَهم وسافروا إلى بلادٍ وطُلب منهم التحديثُ، فحدَّثوا مِن حِفظهم؛ لأنَّ ضبْطَهم كان ضبطَ كتاب).


سأل أحد الإخوة: هلِ الاستنباط يُخالِف شَرْط البُخاريِّ في الصحيح؟
الإجابة: عندما قال البخاريُّ على عَطاءِ بن يسارٍ: يَنبغي أن يكونَ أدركه؛ لأن عطاء قديم، هذا المثال يقول: إنَّ البخاريَّ لم يشترط اللقاء؛ لأنَّه استنبط الاستماعَ مِن مجرَّد الإدراك الزَّمني، مِثل شرط مسلم تمامًا؛ لأنَّ مسلمًا يشترط الإدراك الزَّمني مع إمكانية اللِّقاء، وأن يكونَ الرَّاوي ثِقة وغير مُدلِّس، وألاَّ توجد قرينة تدلُّ على عدمِ اللِّقاء، فهذا المثال مِثل مسلِم بالضبط، لكن كثيرًا مِن العلماء يقولون: إنَّ البخاريَّ اشترط أن يكونَ لِقاء الشيخ والرَّاوي ثابتًا، ويقول الشيخ عيد: إنَّه يُقلِّد الشيخ الشريف حاتم بن عارِف العوني؛ أي: إنَّ شرط البخاري هو شرطُ مسلمٍ في هذه النُّقطة، وله كتابٌ رائِع اسمُه: "إجماع المُحَدِّثين" يُثبت ذلك فيه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 13-02-2020, 04:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث


الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث (5)
د. عيد نعيمي آل فيصل






إنَّ الحمدَ لله، نحمَده ونَستعينه ونستغفِره، ونعوذُ بالله مِن شُرورِ أنفسنا ومِن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهدِه الله فهو المهتد، ومَن يضللْ فلن يجدَ له وليًّا مرشدًا، وصلِّ اللهم على سيِّدنا محمَّد، وعلى آله وصحْبه وسلِّم.


ثم أما بعد:
فنبدأ درسَنا اليوم بسؤال: هل مِن الأفضل أن أقول على الرَّاوي: إنَّه عدلٌ ضابط، أم يكفيني أن أقول: ثقة؟
الإجابة: الأفضل أن نقول: عدلٌ ضابِط؛ لأنَّه قد يكون ثِقة وليس بضابط، فبعضُ العلماء يُطلِقون الثقةَ على العدالة فقط (الدِّين)، وأنَّه تقيٌّ، ولكن لا يُطلقونها على الضبط، وهذا كان مصطلحًا خاصًّا بابنِ معين، فهوكان شديدًا في ألفاظ الجرْح والتعديل، وكان مِن أئمَّة الجرْح والتعديل، ولكن عُرِف عنه أنَّهإذا قال: فلان ثِقة، فلا بدَّ وأن نبحثَ في ضبط هذا الرجل؛ لأنَّ ابن معين عندما يقول: (ثقة فإنَّه يقصِد العدالة، إذًا مِن الأفضل عندما يتكلَّم طالِبُ العلم على رَاوٍ أن يقول: عدل ضابط لأنَّ كلمة ثِقة وردَتْ عن بعض الأئمَّة أنَّه يُطلِقها على النِّصف الأوَّل ألا وهو العَدالة، فلكي تخرُج مِن هذا المأزق نفسِّر ونقول: عدلٌ ضابط.


سؤال آخَر: هل مِن الأفضل أن أقول في تعريف الحديث الصحيح: مِن غير شذوذ ولا عِلة، أم أنَّ أقول: ألا يكون الحديث شاذًّا وألاَّ يكون مُعلَّلاً؟
الإجابة: الأفضل حتى أكون دقيقًا في التعريف أنأقول: ألاَّ يكون الحديثُ شاذًّا وألا يكون معلَّلاً، لماذا؟ لأنَّ العلماء قالوا: إنَّ قيد (مِن غير شذوذ ولا علَّة) يشمَل العِلَّة القادحة والعِلة غيرَ القادِحة؛ لأنَّه - وكما هو معلوم في عِلم الأصول - أنَّ النكرة في سِياق النفي تُفيد العموم، ونحن في عِلم الحديثِ نَتكلَّم على العلَّة القادِحة فقط، إذًا تعريف الحديث الصحيح بقيد مِن غيرشذوذ ولا عِلَّة - شَمِل العلَّة غير القادِحة، التي لا تُؤثِّر في صحة الحديث، ولكن عندما أقول: ألا يكون الحديثُ شاذًّا وألاَّيكون معلَّلاً، إذًا العلَّة صبغتِ الحديث بصِبغة،فأصبح الحديثُ معلولاً، ولا يكون الحديثُ معلولاً إلا إذا كانتِ العِلَّة قادِحة، فاللفظُ الصواب أنْ أقول: ألاَّ يكون الحديثُ شاذًّا وألاَّيكون مُعللاً؛ حتى لا تدخُلمعي العلَّة غير القادِحة، وهذا سنَعرِفه من تعريف العلَّة، وأنها سببٌ خفي يَقدَح في صحَّة الحديث، معأنَّ الظاهرَ السلامة منها، إذًا العلَّة لا بدَّ أن تكونَ قادحة.


الشرط الرابع مِن شروطِ صحَّة الحديث: انتفاء الشُّذوذ:
س: ما هو تعريفُ الشذوذ؟
للشذوذ تَعاريف كثيرةٌ، وسنتكلَّم عن هذه التعارِيف.
فأوَّل هذه التعارِيف هو: مخالَفة الثِّقة للأوثق (وهذا التعريفُ ناقصٌ؛ لأنَّ درجةَ الثقة كبيرة إلى حدِّ أنَّها ستترك الصدوقَ الذي حديثُه مِنْ قبيل الحسَن، وحديثه مقبول أيضًا، فلكي يَدخُل معي في هذه المرتَبة مَنْ حديثه مِنْ قبيل الحسَن؛ نأتي بلفظٍ يشمل الصدوقَ أيضًا، وهذا اللفظ هو: المقبول، ولو تَذكَّرْنا شجرة الحديث، فمنها المقبول، وكان مِن ضمن أقسامِه الحسَن، فإذا قلنا: إنَّ تعريفَ الشاذِّ هو مخالفة الثِّقة لمن هو أوثقُ منه، فبهذا نكون تركْنا جزءًا مِن الحديث المقبول، ألاَ وهو الحديث الحسَن، إذًا لا بدَّ أن نُدْخِل كلمةً تشملُ الراوي الذي يكون في أعْلى درجات القَبول (الثِّقةوتشمل أيضًا الرَّاوي الذي يكون حديثُه في أدْنى درجاتِ القَبول (الحسن)، وهذه الكلمة هي المقبول.


وعليه؛ فإنَّ التعريف الصواب هو: مخالفة المقبول لمن هو أوْلَى منه؛ أي: عندما يُخالف أحدٌ أحدًا نرَى مَنْ الأوثقُ ومَنْ الأقل، ويكون الأوثقُ هو الصوابَ، والأقل في الثِّقة يكون حديثه شاذًّا.


هناك تعريفٌ آخَر للشاذِّ، وهو تعريفٌ مهم لابدَّ مِن معرفته:
تَكلَّم بعضُ العلماء على أنَّ الشاذَّ والمنكر هما مطلَق التفرُّد، مثلاً: إذا وجدْت أيَّ إنسان تفرَّد بحديثٍ، فحديثه يكون مِن قبيلالشاذِّ أو المنكَر، هذا الكلام ورَد عن بعضِ الأئمَّة، ولكنَّه مقيَّد بفِعلهم العمَلي في التطبيق، فهُم لم يَردُّوا الحديثَ لمجرَّد التفرد، ولكن ردُّوا التفرُّدَ المقترِن بقرينةٍ تدلُّ على النَّكارة، إذًا مجرَّد التفرد ليس عِلَّة في حدِّ ذاته، ولكن لا بدَّ أنيكونَ التفرُّد مقرونًا بقرينة تدلُّ على الشذوذِ أو النَّكارة.


وما الدليل؟
الدليل هو: حديث ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات))، فيه تفرُّدٌ في أربع طَبقات، ولم يتكلَّم فيه أحدٌ مِن العُلماء - إذًا مطلَق التفرُّد ليس علَّةً في حدِّ ذاته، ولكن إنْ وُجِدت قرينةٌ أخرى تدلُّ على الخطأ، فنقول على هذا التفرد: إنَّه شاذٌّ أو منكَر.


الأمر الثاني: لفظُ الحديث الشاذِّ عندَ الأئمَّة المتقدِّمين قليل جدًّا، مثلاً إذارجعْت لكتُب الأئمَّة، مِثل "العلل" للدارقطني، و"العلل الكبير" للترمذي، و"علل الإمام أحمد والكتُب التي تَتحدَّث عن صحَّة الحديثِ وضعْفه، فإذا حصرْت هذه الكتُب ممكن مثلاً لا تخرُج منها بكلمة شاذ، إلاَّ في خمْسة أحاديث، ولكنَّك على العكسِ مِن ذلك تجِد لفظ الحديث المنكَر كثيرًا، ولكن لفظ الشاذ إنَّما ظهَر بكثرةٍ عندَ الأئمَّة المتأخرين، أما عندَ الأئمَّة المتقدِّمين فكان قليلاً، وإنَّما كانوا يُعبِّرون عنه بالمنكَر؛ أي: أن يَحكُموا على الحديث بالشذوذ لا تَجِده كثيرًا، ولكن يقولون عليه: منكر، والأئمَّة المتقدِّمون كانوا لا يُفرِّقون بيْن المنكَروالشاذ، إذًا عندما نَتكلَّم عنِ المنكَر، يمكن تقول عليه: شاذٌّ، وتقول على الشاذ: منكرٌ، وسنتكلَّم عن معنى المنكَر مع أنَّه مبحَث سابِق لأوانِه، ولكن كما قال الشيخُ ابن عثيمين: "إذا وردتْ لفظةٌ في باب وليس موضعها، لا بدَّمِن تَعريفِها للطالب؛ حتى لا تمرّ على الطالِب الفائدة".


تعريف المنكَر: هو مُطلَق التفرُّد المقترِن بقرينةٍ تدلُّ على الخطأ (وهو نفْس تعريفِ الشاذ)، ولكن بعض العُلماء فرَّقوا، فقالوا:
الشاذ: مُخالَفة المقبول لِمَن هو أوْلى منه.


والمنكَر: هو مخالفة الضعيف لِمَن هو أوْلى منه.


قلت: إنَّ مخالفة أيِّ إنسان لِمَن هو أوْلى منه يصلح أن أقول عليه: شاذٌّ، ويصلح أن أقول عليه: منكرٌ؛ لأنَّ الشاذ = المنكر = الخطأ، فما دمْت خالفت الأفضلَ، فحديثُك هذا يصحُّ أن تقول عليه: شاذٌّ، ويصحُّ أن تقول عليه: منكَر، والأفضل أن تقول: مُنكَر، تقيدًا بأئمَّة هذا الشأن.


â—„ تعريفٌ آخَر مهم للمنكر:
تفرُّد مَن لا يحتمل حالَه التفرُّد والمخالَفة بمِثل هذه الرِّواية.


لاحِظ أنَّ هذا التعريفَ به ثلاثة قيود:
1- التفرُّد.
2- المخالَفة.
3- بمِثل هذه الرِّواية.


1- التفرُّد: فلا بدَّ أنْ تلاحِظَ في التعريف قولَه: بمِثل هذه الرِّواية، وكأنَّه يريد أن يقول لك: ليس كل تفرُّد مردودًا، ولكن التفرُّد المردود هو التفرُّد برِواية تحتفُّ بأمورٍ تجعل التفرُّدَ بها منكرًا؛ أي: إنَّ حالك لا يَحتمل أنْ تخالِف أو تتفرَّد بحديثٍ فيه أمرٌ تعمُّ به البلوى والهِمم تتداعَى على نقْله (هاتان قرينتان تجعل التفرُّد بالرواية منكرًا).


مثال: أنت مِن أئمَّة الحديث، ولكن مستواك في الحِفظ في درجة الحسن (أي درجة أقل قليلاً مِن درجة الثِّقة)، ففي هذه الحالة لو تَفرَّدتَ بحديث فيه أمرٌ تعمُّ به ا البلوى والهِمم تتداعَى على نقْله (كصلاة التسابيح)، نقول على تفرُّدك هذا: تفرُّد مُنكَر؛ لماذا؟


لأنَّه احتفَّ بثلاث قرائن تدلُّ على أنَّك أخطأت:
القرينة الأولى: أنَّ حالك لا يَسْمح بالتفرُّد بمِثل هذه الرِّواية، فأين كان فلانٌ وفلان؟ حيثُ كان العلماء يُحَاسِبُونَ مَن تفرَّد بحديثٍ ما، فيقولون لهذا المُتفرِّد: أين كان فلان، وأين كان فلان، وأين كان فلان؛ لكي تتفرَّد أنتَ بهذا الأمْر؟!


بصيغة أخرى: عندما يأتي راوٍ أقلُّ فيالدرجة مِن أئمَّة عصره ويتفرَّد بسُنَّة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأخذها عنْ إمام مُكْثِر، مثلاً يأخذ الحديثَ عنِ الأعمش، فنقول له: أين كان أصحابُ الأعْمَش لكي تتفرَّد أنت بسُنَّة عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحالك هو أقل دَرَجات القَبول؟ إذًا وُجِدَت قرينة هي: حالك لا يَحتمِل التفرُّد بمِثل هذه الرِّواية.


القَرينة الثانية: أنَّك تفرَّدت عنِ الأعمش، وهو إمام مُكْثِر، كان الأئمَّة يَلهَثون خلْفه؛ لكي يأخذون منه الحديث، فإذًا كيف لك وأنت مُستواك في الحِفظ والإتْقان أقل، ثُم تتفرَّد عمَّنْ يلهَثالناسُ وراءَه؟ فبذلك لم نَحكُم عليه بالنَّكارة لمجرَّد أنَّ فلانًا هذا تفرَّد بالحديث، ولكن لأن:
1- حاله أقلُّ حالاً.



2- ولأنَّه تفرَّد عن إمام مكثِر يَسعَى الناسُ إلى حديثه.


القرينة الثالثة: أنَّك تفرَّدت بأمْرٍ تعمُّ به البلوى، ولكن إذا تفرَّدتَ بأمر معلومٍ مِن الدِّين بالضرورة، مِثل النيَّات؛ حيثُ إنَّ كلَّ الشَّرْع يأمر بالنيَّات، فلا مُشكلةَ في التفرُّد بمِثل هذا؛ لذلك قُبل حديثُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات)) رغمَ أنَّ فيه رواةً في مرتبة الحسن وتفرَّدوا به؛ لأنَّه ارتبط بأمر لا تعمُّ به البلوى (معلوم مِن الدِّين بالضرورة)، فمثلاً إنْ كان حديثُ ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات)) ليس موجودًا، فلا بدَّ لأيِّ عملٍ مِن نية حتى يصحَّ هذا العمل؛ لأنَّالقرآن فيه آياتٌ تدلُّ على رُكنيَّة النيَّة <img alt="">، إذًا هي مسألة لا تعمُّ بها البلوى؛ أي: معلومة لدَى الجميع.


مثال للأمور التي تعمُّ بها البلوى: صلاة التسابيح، حيث إنَّ الحافظَ ابن حجر ضعَّفالحديث؛ لماذا؟ لأنَّ راويًا اسمه عبدالعزيز حالُه في مرتبةِ الحسن، والحديث شديدالفرديَّة؛ أي: لم يرِدْ عن غيره، وصِفتُه غريبة عن جميعِ صِفات الصَّلوات، إذًا مِن أين أتَى به عبدُالعزيز؟ ليس معنى هذا أنَّ الحديث ضعيفٌ، لا، فالشيخُ الألبانيُّ- رحمه الله تعالى - قد صحَّحه، ولكن نقول لك: انظر كيف نقَد الحافظُ ابن حجر الحديثَ، ولماذا ضعَّفه وقال: إنَّه منكر؟
1- لأنَّ الراوي حالُه متوسِّط لا يحتمل التفرُّد بمِثل هذه الرِّواية.


2- أنَّه انفرَد بأمرٍتعمُّ به البلوى.


3- انفرد بأمرٍ تتداعى الهِممُ على نقْله، فهي صلاةٌ غريبةٌ في صِفتها عن جميعِ صِفات الصلوات.


أي: إنَّ الحافظَ ابن حجر يُريد أن يقول: إنَّ هذه الصلاة لو كان صلاَّها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لكان كثيرٌ مِن الصحابة نقَلَها؛ لأنَّها صِفة جديدة علينا، فَضَعَّفَ الحديث؛ لأنَّ الراوي حاله متوسِّط، وتفرَّد بأمرتعمُّ به البلوى، وتتداعى الهِممُ على نقْله.


2- المخالفة:
أ- قدْ تكون المخالفةُ خاصَّةً بصِفة الرَّاوي مِن حيث الحفظُ والتثبتُ: فمثلاً راوٍ حاله متوسِّط من حيثُ الحفظُ، ثم خالف إمامًا مِن أئمَّة الحفظ مِثل يحيى بن سَعيد القطَّان، أو مالك أو شُعْبة أو غيرهم، فهل يصحُّ هذا؟ لا يجوز لك أن تخالفَ مِثل هؤلاءِ العلماء؛ لأنَّهم أئمَّةٌ في الحِفظ، وهم أئمَّة هذا الشأن، بل ومؤسِّسوه.


ب- وقد تكون المخالفةُ خاصَّةً بالعَدَد؛ أي: راوٍ واحِد يُخالف مجموعة (مثلاً ثِقة يُخالِف مجموعةً مِن الثِّقات)، أو عدَد قَليل يُخالِف عددًا كثيرًا، فيُقدَّم العَددُ الكثير على القليل.


سؤال أحد الإخوة: مِن الممكن أنَّ هذا الحديثَ الشاذَّ أو المنكَر لم يأخذْه مِن العالم غير هذا الرَّاوي؟
كلِمة ممكِن هذه لا تَصلُح؛ لأنَّهبهذا التعليل يفْتَح المجال لمن أراد أنْ يُصحِّح الأحاديثَ كلَّها سوف يُصحِّحها، ومَن أراد أن يُضعِّفها سوف يُضعِّفها، إذ إنَّ تحتَ (ممكِن) كل شيء ممكِن، فمثلاً الرَّاوي الضعيف الذي أُضَعِّف حديثه، من الممكِن أن تقول: إنَّهحفِظ هذا الحديث، ولكن سنُحاكمه بقاعدة أنَّ النادِر ليس له حُكم، فأنتَتقول: ممكن، وكَلِمة (ممكِن) هذه على التَّقليل، إذًا هذا أمر نادِر فليس له الحُكم، فنَحكُم على الرَّاوي بالغالب، والغالبأنَّ هذا الراوي لم يسمعْ هذا الحديثَ وحْدَه.


سؤال آخَر لأحدِ الإخوة: مخالفةُ الثقة لأحدٍ مِن الثقات؛ ماذا يكون حديثه؟
ج: حديثُه يكون شاذًّا أو منكرًا، فما معنى مخالفةِ الثِّقة للثِّقات، (وهذا تعريفُ الشاذِّ عند البعض)؟ إنَّه - أي: الثِّقةَ الذي خالَف الثِّقات - أخْطأ، وما معنَى مخالفةِ الضعيف للثِّقاتِ (وهذا تعريفُ المنكَر عندَ البعض)؟ أنَّ الضعيف أخطأ، فخَطأُ الثِّقة هل يُساوي خطأ الضعيف؟ نعَمْ يساويه.



ولكي نُريحكم في هذا المبحَث، فالشاذُّ بمعنَى الخطأ، والمنكَر بمعنى الخطَأ، إذًا هل يتساويان؟ نعم يتساويان؛ لأنَّ الخطأ لا يتعدَّد، وعليه يصحُّ أن تقول على الشاذِّ: منكَرٌ، ويصحُّ أن تقول على المنكر: شاذٌّ، والأفضل أن تقول: منكَر؛ لأنَّ غالبَ الأئمَّة المتقدِّمين على هذا اللفظ.


تنبيه:
إذا استخدمْت الشاذ على المعنى الذي هو مُخالَفةُ الثِّقة للأوثق، أو مخالفة المقبول للأَولَى، وإذا استخدمْت المنكَر على المعنى الذي هو مخالفةُ الضعيف للثِّقة، فلك سلفٌ في هذا مِثل الحافِظ ابن حجر والسيوطي، والخطيب البغداديّ وابن الصلاح، وغيرهم؛ أي: الأئمَّة بعدَ سَنَة 400هجرية تقريبًا، لكن الأئمَّة الذين كانوا في فترةِ الرِّواية مثلاً مِن سَنة 100 لسنة 385، إلىالدارقطني، فكلُّ هؤلاء في غالب أمرِهم كانوا يستخدمون الشاذَّ والمنكَر بمعنى واحد، (تفرُّد مَن لا يحتمل حالُه التفرُّد والمخالَفة بمِثل هذه الرِّواية = مطلق التفرُّد المقترِن بقرينة تدلُّ على الخطأ)، بلإنَّهم كانوا يُعبِّرون عن هذا المعنَى بالمُنكَر بصورةٍ أكثر.


سؤال مهمٌّ جدًّا: لماذا اشترط الأئمَّة المحدِّثون انتفاءَ الشذوذ على الرَّغْم مِن أنَّ الشذوذَ مِن أنواع العِلل؟ فهذا نوعٌ مِن التَّكرار، ألَيْس كذلك؟
â—„ نقول - وبالله التوفيق -: هذا كلامٌ غير صحيح، فانتفاء الشذوذ لا بدَّ مِن ذِكْره...لماذا؟
لأنَّ الفُقهاءَ لا يَعتبرون الشذوذَ عِلَّة، فيَجب التنبيهُ على أنَّ الشذوذَ عندَالمحدِّثين عِلَّة؛ لكي لا نَسير خلفَ طريقةِ الفقهاء (عندما يأتي ثِقة ويَنفرِد بحديث، وتكونهناك قرائنُ دالَّة على خطئِه يقول الفقهاء: إنَّه ثِقة، وحديثُه صحيح).

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 13-02-2020, 04:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث



الدليل: العلماء توقَّفوا فيكلمةِ مالك في زَكاةِ الفِطر في الحديث: إنَّها صاع مِن كذا وكذا، وزاد الإمام "من المسلمين"، العلماء قالوا: لم نُصحِّحها إلاَّ بعدَ ورُودها عن غير مالك، وهذا الإمامُ مالكٌ نفسُه؛ لماذا فعلوا هذا؟ لأنَّ العالِم أتتْ عندَه القرائن التي تدلُّ على أنَّ مالكًا أخطأ، فكلُّ مَن رَوى الحديثَ رواه مِن غير كلمة "مِن المسلمين"، ثم أتى مالك ورَواها بهذا، فهذه قرينةٌ تدلُّ على الخطأ، فلم يُصحِّحوا الروايةَ إلا بعدأنْ أتَى من وافق مالكًا عليها، إذًا لما رأى المحدِّثون أنَّ الفقهاء لا يَعتبرون الشذوذَ عِلَّة، أفْرَدوه بالبحث ووضَّحوه.


لابدَّ مِن توضيح هذا؛ لأنَّ البعضَ يَنتقِدك ويقول: لماذا التَّكرار؟ وكما قال الشيخُ ابن عثيمين: "اللَّفْظ إذا اشتمَل على التَّكْرار أو البِناء، يُحمَل أنَّه بناء"، فالتَّكرار عيبٌ عند البُلغاء،وإنَّك لا تَعرِف كيف تَتكلَّم فتكرِّر ما تقول، فنوضح أنَّ هذا ليس تَكرارًا، بل مخالفة لمنهجِ الفُقهاء؛ لأنَّهم لا يَعتبِرون الشذوذَ عِلَّة.


سؤال آخَر: أليس اشتراطُ الضبط (الشرط الثالث) يُغْني عن اشتراط انتفاءِ الشذوذ (الشرط الرابع)، وانتفاء العلَّة (الشرط الخامس)؟
توضيحٌ للسؤال: عندما اشترط المحدِّثون أن يكونَ الراوي ضابِطًا - الشَّرْطالثالث - أليس هذا يُغني عن انتفاءِ الشذوذِ وانتفاءِ العِلَّة؟ لأنَّ وقوع الرَّاوي في الشذوذ والعلَّة يعني أنَّ ضبط الراوي خفيفٌ، وقد اشترط المحدِّثون - الشرْط الثالث - أن يكونَ الراوي تامَّ الضبط، فبهذا الشرْط - تام الضبْط - نَضمن أنَّ الراوي لا يشذُّ، كما لا تقَع في مَرويَّاته عِلَّة؟


ج: نقول: لا يَكفي اشتراطُ الضبط فقط؛ لأنَّالضبط شرْط عام (أي: على الإجمال) في الراوي؛ أي: أقول: إنَّ هذا الراوي ضابط، إنَّما شرْط انتفاء الشُّذوذ وانتفاء العِلَّة خاص بالرِّواية التي أقوم بدِراستها، فمِن الممكن أن يكونَ الراوي ضابطًا، ووصفته بالحِفظ، ثم يُخطِئ في رِواية مرَّةً مِن المرات، فنشترط انتفاء الشذوذ والعِلَّة؛ حتى نتلافَى خطأ الثقة في هذه الرِّوايةبعينها.


مثال: الإمام مالك ثِقة ضابِط، عدلٌ حجَّة، حافِظ، إمام دار الهِجرة، لو لم نذكُر انتفاء الشذوذ والعِلة مِنضِمن شروط الصحَّة، فلو أخطأ مالكٌ في رِواية بعينها؛ فهل أُصحِّح الرواية أم لا؟ فبما أنَّك قلت: نُلغي شرط انتفاء الشذوذ والعلة، وقلت: إنَّ الشذوذ والعلة مُتَضَمَّنان في الضبط (الشرط الثالث)، فسوف تصحِّح الرواية، وهذا خطأ؛ لأنَّ اشتراطَ الضبط شرطٌ عام في الرَّاوي، إنَّما شرط انتفاء الشذوذ والعِلَّة خاص بالرِّواية المدروسة، فقد يكونُ الإمام تامَّ الضبط، إمامًا في الحِفظ، ويُخطِئ في رِواية بعَينها، فحتى لا أُصحِّح روايته بناءً على الشَّرْط العام، وضعتُ شرطًا خاصًّا بالرِّواية، يعني أنَّنا حتى الثقة لن ندعَ خطأه يمر، إذًا الضبط شرْطٌ عام، ويختصُّ بالراوي، والشذوذ والعلة شرْطٌ خاصٌّ، ويختصُّ بالرِّواية.


فمَن أراد أن يدفع الشَّرْط الخاص (شذوذ الرِّواية) بالشرط العام (ضبْط الراوي)، فعليه بالدليل؛ إذ - وكما هو معلوم في الأصول - إنَّ الشَّرْط الخاص يخصِّص العام؛ أي: إنَّ شذوذَ الرواية يدلُّ على أنَّ الثقة أخطأ، فكيف تدفع هذا بهذا؟! وهذا ذَكَرْناه؛ لأنَّ كثيرًا ممَّن يتطاول على مائدةِ العلماء يردُّون تعليلاتِ الأئمَّة بقولهم: وقد أخطأ أبو زُرْعة الرازيُّ حيث إنَّه ضعَّف الحديث وحَكَم عليه بأنَّه منكَر؛ لأنَّ فلانًا تفرَّد به، وقول أبي زُرعة مردودٌ، حيث إنَّ فلانًا هذا ثِقة، نقول لهذا الشِّبر وأمثاله: توثيق فلان لا يَخفَى على هذا الإمام، بل إنَّه مِن الممكن أن يكونَ الإمامُ أبو زرعة وثَّقه، الأمر الثاني أنَّ الإمام أبو زُرْعَة ضعَّف الحديث بدليل خاصٍّ (التفرُّد المقترن بقرينة تدلُّ على النَّكارة)، فيَجب عليك حتى تَستطيعَ أن تردَّ عليه - وأنَّى لك هذا؟! - أن تأتي بدليل خاصٍّ يدفَع دليلَ أبي زرعة، أمَّا دفعك للدليل الخاصِّ (التفرُّد المقترن بقرينةٍ تدلُّ على النَّكارة) بالدليل العام، فهذا فيه أمْران:
الأول: سوء أدَب مع العلماء.
الثاني: سوء عِلم<img alt="">.


الشَّرْط الخامِس مِن شروط الصحَّة: انتفاء العلَّة:
â—„تعريف العلَّة: هي سببٌ خفيٌّ يقْدَح في صحَّة الحديثِ مع أنَّ الظاهِر السلامة منها، وهذا أشرفُ أنواع علومِ الحديث، وهو عِلمالعِلل، ولا يُبَرَّز فيه إلا مَن كان مُبَرَّزًا في علوم الحديث، مِن الجرْح والتعديل، ومعرِفة المراسيل، والتصحيف والتحريف، والجمْع والتفريق، وأسباب الشذوذ والنَّكارة، وما رُوي بالمعنى وما رُوي باللفظ، وغير ذلك، وأنْ يكون عالِمًا بمناهج المحدِّثين العارفين بالرِّجال والعِلل، مميِّزًا لاصطلاحاتِهم، مُحرِّرًا لأصولهم، مُدْمِنًا النَّظرَ في كلامِهم في الرِّجال والعِلل؛ كيحيى القطَّان، ومَن تلقَّى عنه كأحمدَ بن حنبل، وابن المديني، وغيرهما، ومَن جاءَ بعدَهما وسلَك سبيلهما مِن أئمَّة هذا الشأنِ؛ كالبخاريِّ، ومسلم، وأبي حاتِم، وأبي زُرْعَة، والنَّسائي، والدارقطني، وابن عَدِيٍّ، وغيرهم مِن الأئمَّة الكبار، ومَن تبعهم، وسار على دَرْبهم، وضرب على منوالِهم، ممَّن جاءَ بعدَهم، مِن المبرّزين مِن العلماء المتأخِّرين؛ كالذهبي، وابن حجر، وابن رجب، وابن عبدالهادي، والمعلّمي اليماني، والألباني - رَحِمهم الله جميعًا، ورضِي عنهم أجمعين.


â—„عندما نَتكلَّم عن العِلَّة نقصد بها العلة الخفيَّة القادِحة، ولكن قدْ توسَّع بعضُ العلماء فأطلقوا العِلَّةَ على الضعْف غير الخفي (أي: أمر ظاهر)، وهذا مِن باب التوسُّع في الاصطلاح، أو مِن باب لا مُشاحةَ في الاصطلاح؛ لماذا؟
لأنَّ كلَّ ضَعْف في الحديث يجوز أن نُطلِق عليه علَّة، مثلاً: السقط الظاهِر الذي ذَكَرْناهمِن قبل المُعلَّق والمنقطِع والمُرسَل والمُعضَل - هذا سقطٌ ظاهِر، ويصلح أنْ نُطلِق عليه عِلَّة ظاهِرة، الترمذي نفْسه أطْلَق على النَّسْخ علَّة؛ أي: إذا جاء حديثٌ نُسخ بحديثٍ آخَر أطلق عليه عِلَّة، فقدْ حَكَم بالعلة على حديثِ مُعاويةَ في شارِب الخمر، وفيه: ((فإنْ عادَ في الرابعة، فاقْتُلوه)).

س1: التفرُّد هو المنكَر؛ فما بال حديث ((إنَّما الأعمالُبالنيَّات))؟
ج: السُّؤال خطأ؛ لأنَّ قولَك: التفرُّد هو المنكَر، كلامٌ غير صحيح، ولكن الصحيح أن تقولَ: التفرُّد المقترِن بقرينةٍ تدلُّ على الخطأ هو المنكَر، وليس مُطلَق التفرد.


أمَّا فما بالُ حديث ((إنَّما الأعمال بالنيَّات))، أقول: حديث ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات)) حديثٌ فرْد ليس في طَبقة واحدة، بل في ثلاث طبقات، إلا أنَّ هذه الفرديةَ غيرُ مقترنة بقرينةٍ تدلُّ على الخطأ (النَّكارة)، وإن كان الرواة فيه ليسوا مِن الدرجات العليا مِن الإتْقان، إلا أنَّهم تفرَّدوا بشيء معلوم مِن الدِّين بالضرورة؛ لأنَّ كل الشرع يدلُّ على أنَّ العمل لايُقبَل إلا بنيَّة.


س2: لوتَفرَّد ثقةٌ مخالِف للضعيف؟
هذا السؤال خَطأ من وجهين:
1) كَلِمة تفرَّد هنا خطأ؛ لأنَّه ما دام هناك مخالفةٌ يعني أنَّ شخصًا ما خالَف شخصًا آخَر، فكيف يكون هذا تفرُّدًا؟!

2) لا يُمكِن أن يخالِف الثِّقة؛ لأنَّ الضعيفَ هو مَن خالَف، ولو خالَف جَمْعٌمِن الضعفاء ثِقةً، فيكون الثقةُ هو الصواب، فالضعفاءُ لا يَزيد بعضُهم بعضًا إلاَّ وهنًا، والشيخُ أبو إسحاق الحويني - حفظه الله تعالى - مَثَّلها بمثالٍ رائِع جدًّا، قال: لو أنَّ صخرةً ستَقع مِن فوق جبل واعتبَرْنا أنَّ هناك ثلاثةً مِن الأشخاص سيَدفعونها، هُم الذين سيدفعونها أم 1000 بدون أزْرُع (أي: مقطوعي الأيدي فالثلاثةُ هم مَن يَستطيعون دفْعَها.


س3: ماذا لو خالَف الثقةُالثقاتِ؛ هل نُصحِّح الاثنين أم يتمُّ الجمع بينهما؟
لا نُصحِّح الاثنين، ولا يتمُّ الجمع بينهما، وإنَّما نُصحِّح حديثَ الثقات، ونُضعِّف حديثَ الثِّقة الذي خالفَهم، فما دام الثِّقة خالَف الثِّقات، فقدْ أخطأ، والشيخُ الألبانيُّ يقول: "الخطأ وإنْ رُوي عن ألْف راوٍ لا يَرتقي إلى الصحيح؛ لأنَّه خطأ، والخطأُ لا يتعدَّد.


مثال: مائة شخص قالوا: 1×1=1، وشخص سألته: 1×1 يساوي كم؟ قال: يساوي 2، فتأخذ برأي مَن؟ أكيد مَن قال 1×1=1، ومَن قال بغير هذا لا يُؤخذ بكلامه، فمسألة الثقة إنْ خالف ثِقاتٍ نُصحِّح الاثنين غير صحيحة، بلنُصحِّح حديثَ الثقات، ويكون حديثُ الثقةِ شاذًّا أو منكرًا.


س4: - إذااتَّفق علماءُ الحديث على صحَّة حديثٍ؛ فهل الفقهاء يستطيعون التكلُّمَ فيه؟
الفقهاءُ لا يُعارِضون في صحَّةِ الحديث، بل في غالب الأمْر يُعارضون في ضَعْف الحديث، فإذا قال المحدِّثون: الحديث ضعيفٌ، قال الفقهاء: لا، بلْ هو صحيحٌ؛ لأنَّ الشذوذَ عندَهم ليس عِلَّة، ومخالفة الثقات ليستْ عِلَّة، وإنَّما إذا اتَّفق علماءُ الحديث على صِحَّة حديثٍ، فلا يُخالفهم الفقهاءُ.


<img alt=""> قال الشيخ محمَّد عمر: الآياتُ التي في القرآن تدلُّ على إخلاص النيَّة وإرادة العمَل لوجهِ الله، أمَّا تَفصيل أنَّ لكلِّ عملٍ نيَّة، فهذا أتتْ به السُّنَّة.

<img alt=""> ومِن ذلك أيضًا أنَّ أبا حاتم الرازي أعلَّ حديثًا بتدليس اللَّيْث بن سعد فيه، فقال: ولم يذكر أيضًا الليثُ في هذا الحديث خبرًا، ويحتمل أنْ يكون سَمِعه مِن غير ثِقة ودلَّسه، والليث بن سعد لم يَحكُم عليه أحد أنه مدلِّس.
وقال أبو حاتم أيضًا في حديث آخر: لم يُحدِّث بهذا أحدٌ سوى ابن عيينة، عن ابن أبي عَروبةَ، ولو كان صحيحًا لكان في مُصنَّفات ابن أبي عروبةَ، وهذا أيضًا ممَّا يُوهِّنه، فتعقَّبه بعضُ المعاصرين بأنَّ ابن عيينة أحدُ جِبال الحفظ ولا يضرُّه كون الحديث ليس في مصنَّفات ابن أبي عَروبة، وبأنَّه إنْ لم يصرِّحْ بالسماع لا يضرُّه؛ لأنَّه لا يُدلِّس إلا عن ثِقة، كما قال ابنُ حبَّان وغيرُه.
وهذا التعقب ليس بشيء، وهو يدلُّ على عَدَم فَهْم مراد الإمام مِن إعلاله، فهبْ أنَّ سفيان لم يُخطِئ في هذا الحديث عن ابن أبي عروبة، لكن ما دمنا قد تحقَّقْنا أنَّ الحديث ليس في مصنَّفات ابن أبي عروبة، فهو إذًا لم يُحدِّث به من كتاب، وإنما حدَّث به حفظًا، وإنَّ ابن أبي عروبة كان قد اختلَط كما هو معلومٌ، وابن عُيينة لم يَذكُروا أنَّه ممن أخذ عنه قبل الاختلاط، فالظاهرُ أنَّه أخَذ عنه بعدَه، وعليه يكون ابنُ أبي عروبة قد حدَّث ابنَ عُيينة بهذا الحديثِ إنْ كان ابنُ عُيينة حفِظه - في حال اختلاطِه مِن حِفْظه وليس مِن كتابه، وهذا وحْده يَكفي في الطعن في الحديث.
ثم إنَّه ليس هناك تعارُضٌ بين قول أبي حاتم الرازي وقول ابن حبان البُستي؛ فإنَّ قولَ البستي إنَّما هو حُكم عام فيما يُدلِّسه ابنُ عُيينة بأنَّه لا يكون إلاَّ عن ثِقة، بينما قولُ أبي حاتم إنَّما هو حُكم خاص بهذا الحديثِ، ولا يُعَارَض الحُكم الخاصُّ بالحُكم العام، بل يُحمَل العام على الخاص، فمَن أراد أن يدفَع تلك العِلَّة الخاصة لا يَكفيه أن يأتي بالحُكم العام؛ لأنَّ أبا حاتم وأمثالَه مِن النقَّاد لا تخفَى عليه القاعدةُ العامَّة، بل لا بدَّ حينئذٍ مِن الإتيان بدليل خاصٍّ تدفَع به تلك العِلَّةَ الخاصَّة، وذلك بأن يأتي بتصريحٍ بالسماع، أو ما يدلُّ عليه في موضِعٍ آخَر، شريطةَ أنْ يكون ذلك محفوظًا عن ابن عُيينة وليس شاذًّا.
والقول في ذلك كالقولِ في أخْطاء الثِّقات؛ فإنَّ الثقة إذا وهَّمه إمامٌ حافظ ناقِد في حديثٍ معيَّن وأعلَّ الحديثَ بتفرُّده به، لا يصلُح لمن دونه أن يدفَع ذلك الإعلالَ بمجرَّد أنَّ هذا الراوي ثِقة، وأنَّ تفرُّدَه مقبولٌ في الأصل، فإنَّ ثِقة هذا الراوي لا تَخفَى على مِثل هذا الإمام، بل قد يكون هو نفسُه يوثِّقه، ولكنَّه حيث وثَّقة إنما حَكم علَيه حُكمًا عامًّا، وحيث خطَّأه في ذلك الحديثِ المعيَّن، فإنَّما هو حُكم خاص يتعلَّق بهذا الحديث المعيَّن، فلا يُدفَع الحُكم الخاصُّ بالحُكم العامِّ، بل يُحْمَل العام على الخاص، فيقال: هو ثِقة إلاَّ أنَّه أخطأ في هذا الحديث، ومَن أراد أن يدفَع خطَأَه في هذا الحديث المعيَّن، فيلزمه أن يأتيَ بدليلٍ خاصٍّ يدلُّ على ذلك، كأن يأتيَ بمتابعةٍ كافية للدلالة على براءتِه مِن عُهدة الحديث، والله أعلم.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 13-02-2020, 04:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث


الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث (6)
د. عيد نعيمي آل فيصل




إنَّ الحمدَ لله نحمدُه، ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرورِ أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يَهدِه اللهُ فهو المهتدِ، ومَن يُضلِل فلن تجدَ له وليًّا مُرشدًا، وصَلِّ اللهمَّ على سيِّدنا محمدٍ وعلى آله وصحبِه وسلِّم.

ثم أمَّا بعدُ:
لقد شعرت بصُعوبة الكَلام على الشاذِّ والمنكر في المحاضرة السابقة؛ لذلك سوفُ أوجزُ الكلام عليهما دُون إخلالٍ بالمراد، فأقولُ وبالله التوفيقُ.

عند مَن لا يُفرِّقُ بين الشاذِّ والمنكر:
فالتعريف هو: تفرُّد مَن لا يحتملُ حالُه التفرُّد والمخالفة بمثل هذه الرواية، فانظُر أخي -بارك الله فيك- إلى هذا القيد؛ ألا وهو بمثل هذه الرِّواية؛ أي: "القَرائن التي احتفَّت بهذه الرواية فجعلت التفرُّد بها تفرُّدًا منكرًا".

ذكرنا أنَّ المتقدِّمين يسمُّون المنكر خطأً، ويسمُّون الشاذَّ خطأ، فخطأ = خطأ، إذًا المنكر = الشاذ، كما أنَّ خطأ الثقة = خطأ الضعيف؛ لأنَّ الكلَّ خطأ، والخطأ لا يتعدَّدُ.

عند مَن يُفرِّق بين الشاذِّ والمنكر:
الشاذ هو: مخالفة المقبول لِمَن هو أَوْلَى منه.

المنكر هو: مخالفة الضعيف لِمَن هو أَوْلَى منه.

هذا هو مبحث الشاذ والمنكر.

لا بُدَّ عند دراسة علم مصطلح الحديث أنْ تعرفَ اصطلاحات كلِّ عالِمٍ:
عندما تكلَّمنا سابقًا على مسألة: هل من الأفضل في شُروط الصحيح أنْ نقول: ثقة أو عدل ضابط؟ قلنا: إنَّ الأفضل أنْ نقول: عدل ضابط، رغم أنَّ ثقة تُساوي عدل ضابط في غالب الأمر، لماذا؟ لأنَّه قد ورَد عن بعض الأئمَّة استخدامُ الثقة للعدالة فقط، فإنْ لم تكن تعلم مصطلحَ العالِمِ في هذا الجانب فسوف تخطئُ.

فمثلاً عندما يقول ابن مَعِين عن راوٍ: إنَّه ثقة، وبِناءً على فهمك لكلمة "ثقة" قلت: إنَّه عدل ضابط؛ فتُصحِّح الحديث، فهذا خطأٌ؛ حيث إنَّ ابن مَعِين في كثيرٍ من الأحيان يطلقُ لفظ الثقة على العدالة فقط دون الضَّبط، وذكَرْنا مثال يعقوب بن شيبة؛ حيث قال في الربيع بن صبيح: إنَّه ثقة ليس بأحفظ الناس، فكيف يكونُ ثقةً وليس بأحفظ الناس؟ فيعقوب بن شيبة عندما تحدَّثَ عن الثقة فهو يقصدُ الدِّين (العدالة)؛ أي: إنَّه رجلٌ دَيِّنٌ وَرِعٌ ولم يقصد الحفظَ؛ فيجب أنْ نعلَمَ مصطلحَ كلِّ إمامٍ؛ حتى لا نُقوِّلَ الإمامَ ما لم يَقُلْ.

كما أنَّ من أخطاء الإخوة الذين يعمَلُون في المصطلح أنهم يفهَمُون كلامَ الأئمَّة بِناءً على الاصطِلاح الذي فَهِموه، دون النظَر والتقيُّد بتطبيقاتهم العمليَّة[1]؛ فمثلاً عندما يأتي يحيى بن مَعِين ويقولُ: ثقة، فتقول أنت: ولقد صحَّح الحديثَ يحيى بن مَعِين، وتسكتُ، فأنت فهمتَ من كلام يحيى بن مَعِين أنَّ قوله: ثقة؛ أي: عدل ضابط، فنقلت الكلام بالمعنى فقلت: إنَّ يحيى بن مَعِين صحَّح الحديث، مع أنَّ يحيى بن مَعِين لم يقصدْ تصحيحَ الحديث، بل يقصد أنَّ الرجل هذا عدلٌ، فابحث أنت عن ضبطه.

فمهمٌّ جدًّا أنْ تتقيَّد بألفاظ الأئمَّة، وكما قال الشيخ أبو معاذ طارق بن عوض الله في "لغة المحدث":
اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ
فِي غَيْرِ مَا عِلْمٍ فَلا يُسْتَشْكَلُ

فَكُلُّ عِلْمٍ وَلَهُ اصْطِلاحُهُ
مَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِهِ وَشَرْحُهُ

يُدْرَى بِالاسْتِقْرَاءِ أَوْ بِنَصِّ
صَاحِبِهِ أَوْ عَالِمٍ مُخْتَصِّ

وَرُبَّمَا تَعَدَّدَتْ مَعَانِي
الاصْطِلاحِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّانِ

لذلك من الانتِقادات على كتاب الحافظ الذهبي "ميزان الاعتدال" أنَّه كان ينقلُ بالمعنى -في بعض المواضع- عن الأئمَّة، رغم أنَّ الحافظ الذهبي كان إمامًا في علم الحديث، ففهمه مُعتَبر، ومع ذلك من ضِمن الانتقادات عليه أنَّه كان ينقل بالمعنى.

بهذا نكونُ أنهينا الحديث الصحيح لذاته، وننُهِي في هذه المحاضرة -بإذن الله- أقسامَ القَبول، وهي: الصحيح لغيره، والحسن لذاته، والحسن لغيره.


الحديث الحسن لذاته

المفروض أنْ نبدأ حسَب ترتيبِ شجرة الحديث بالصحيح لغيره، ولكنَّنا سوف نبدأُ -بإذن الله- بالحسن لذاته، وسنعرفُ لماذا بدأنا بالحسن لذاته.

سوف نبدأ -بإذن الله- بالحسن لذاته لأنَّنا عندَ تعريفنا للحديث الصحيح لغيره سوف نقولُ: هو الحديث الحسن لذاته إذا تعدَّدت طرقُه؛ وعليه فلا بُدَّ من دِراسة الحديث الحسن لذاته أولاً.

للحسن لذاته تعاريف كثيرةٌ؛ كتعريف الترمذي، والخطابي، وابن الجوزي، والتعريف الراجع للحسَن لذاته هو تعريف الحافظ ابن حجر.

• الفرق بين الحسن لذاته والصحيح لذاته خفَّة الضبط، حيث إنَّ الضبط في الصحيح لذاته لا بُدَّ وأنْ يكون ضبط الراوي (ضبطًا تامًّا)، أمَّا في الحسن لذاته فيكون الراوي خفيفَ الضبط.

تعريف الحسن لذاته: هو ما اتَّصل سنَدُه بنقل العدل (خفيف الضبط)، وألا يكون الحديث شاذًّا ولا معلاًّ.

سؤال لأحد الإخوة: التعريف السابق هل من الممكن أنْ يكون ما اتَّصل سندُه بنقل العدل خفيف الضبط (عن مثله إلى منتهاه) من غير شُذوذٍ ولا علة قادحة؟

الإجابة: نعم؛ من الممكن أنْ يكون ما اتَّصل سنده بنقل العدل خفيف الضبط (عن مثله إلى منتهاه) من غير شذوذٍ ولا علة قادحة.

مع الأخْذ في الاعتبار أنَّ كلمة "عن مثله إلى منتهاه" توهمُ إشكالاً؛ حيث إنَّه قد يُفهَم منها أنَّ من شروط الحسن لذاته أنْ يرويَه خفيفُ الضبط عن خفيفِ الضبط، عن خفيفِ الضبط، عن خفيفِ الضبط، فهذا فهمٌ خاطئٌ، فيكفيني في طبقةٍ واحدةٍ أنْ يكون راوٍ واحد خفيفَ الضبط، ونرجع للقاعدة أنَّ الطبقة الدنيا قاضيةٌ على العُليا، وبها يُسمَّى الحديث ويُحكَم على الحديث بها، فيَكفِيني واحد فقط خفيف الضبط في أيِّ طبقةٍ، وباقي الطبقات يكونُ الضبط تامًّا، فيكون الحديث حسنًا لذاته؛ لذلك الأفضل ألا نكتبها (عن مثله إلى منتهاه)، ولا نقولها؛ لكي لا تشتبه، ولكن إذا قُلتها فلا بُدَّ أنْ أكون فاهمًا لهذا الكلام.

شروط الحديث الحسن لذاته خمسة وهي:
1- أن يكون الحديث متَّصل السند.

2- أن يكون الراوي عدلاً.

3- أن يكون الراوي (خفيف الضبط).

4- ألا يكون الحديث شاذًّا.

5- ألا يكون الحديث معلاًّ.

مثال الحديث الحسن لذاته: روى الترمذي عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- "نهى عن تناشُد الأشعار في المسجد، وعن البيعِ والشراء فيه، وأنْ يتحلَّق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة"، قال الترمذي: حديث حسن، فللترمذيِّ اصطلاحٌ خاصٌّ في الحسن.


الحديث الصحيح لغيره

تعريف الصحيح لغيره: هو الحديث الحسن لذاته إذا تعدَّدت طرقُه.

أي: "حديثٌ له سند يَروِيه عدلٌ ضابط عن عدلٍ ضابط، عن عدلٍ ضابط، عن عدلٍ ضابط، عن عدل (خفيف الضبط)، فهو حديثٌ حسن لذاته؛ لوجود راوٍ خفيف الضبط في طبقةٍ واحدة، وكذلك (له سندٌ آخر) لنفس الحديث يرويه عدل (خفيف الضابط) عن عدلٍ ضابط، عن عدلٍ ضابط، عن عدلٍ ضابط، عن عدلٍ ضابط، فهو حديثٌ حسن لذاته أيضًا؛ لوجود راوٍ خفيف الضبط في طبقةٍ واحدة، فيُصبح عندنا طريقان لحديثٍ واحد، وكلُّ طريقٍ حسنٌ لذاته؛ فيرتفع الحديث، ويُصبح حديثًا صحيحًا لغيره، كأنهما اعتضدا ببعضِهما، فإذًا نفس المتن لهذا الحديث أتى بسندين، كلُّ الطبقات في السندين أئمَّةٌ حُفَّاظ ثقات؛ أي: نفس شُروط الحديث الصحيح لذاته ما عدا طبقة واحدة فيهما خفيف الضبط، فأصبح عندي سندٌ حسنٌ لذاته وسند آخَر حسنٌ لذاته لحديثٍ واحد؛ فيرتفع مباشرةً للحديث الصحيح لغيره.




تعريف آخَر للصحيح لغيره: هو ما اتَّصل سنده بنقل العدل الذي خفَّ ضبطُه، ولا يكون الحديث شاذًّا ولا مُعللاً، إذا تُوبِعَ (إذا تعدَّدت طرقُه).

نلاحظ أنَّ هذا التعريف يُساوي التعريف السابق، لماذا؟
لأنَّ هذا التعريف بدايةً من: "هو ما اتَّصل سنده بنقل العدل الذي خَفَّ ضبطه، ولا يكون الحديث شاذًّا ولا معلَّلاً" = الحديث الحسن لذاته؛ وعليه: لو وضَعْنا جملة "الحديث الحسن لذاته" بدلاً من: "هو ما اتَّصل سنده بنقل العدل الذي خفَّ ضبطُه، ولا يكون الحديث شاذًّا ولا معللاً"، يصبحُ تعريف الصحيح لغيره: هو الحديث الحسن لذاته إذا تعدَّدت طرقُه، وهو نفس التعريف الأوَّل.

لذلك نُنبِّهُ دائمًا أنَّ في علم مصطلح الحديث وجميع العلوم الشرعيَّة وجميع علوم أهل السُّنَّة والجماعة ليس فيها تعقيداتٌ، ما دامت المعلومة وصَلتْ إليك صحيحةً كما يريدُها الله ورسوله فهو الصوابُ، ولا يشترطُ التقعُّر والمصطلحات الصَّعبة، وليس معنى هذا أنَّنا لا نأخُذ باللغة العربيَّة، لا؛ فاللغة العربيَّة الفُصحى هي الأساس.

مثال الحديث الصحيح لغيره: عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال: ((لولا أنْ أشقَّ على أمَّتي لأمرتُهم بالسواكِ عند كلِّ صلاةٍ)).

محمد بن عمرو بن علقمة، هذا الراوي قال عنه العلماءُ: صالح الحديث ليس بأحفَظِ الناس؛ أي: إنَّ حاله وسطٌ من حيث الحفظ؛ أي: حديثه حسن لذاته.

قال الترمذي: "وإنما صحَّ الحديث لمجيئِه من طريقٍ آخر"، وكلمة "صحَّ" هنا؛ أي: الحديث صحيحٌ لغيره.

سؤال: لو أنَّ راويًا خفيف الضبط والرُّواة عنه كلُّهم ثقات، هل يرتقي الحديث إلى الصحيح لغيره؟
الإجابة: لا يرتقي إلا في حالاتٍ نادرةٍ جدًّا؛ مثل: أنْ يرويَ عنه يحيى بن سعيد القطَّان مع عبدالرحمن بن مهدي مع مالكٍ، فمثلاً هؤلاء لا يُحدِّثون إلا عن الثقاتِ، فلو اجتمَعُوا فعندها تقول: إنَّ هذا الحديث صحيحٌ لذاته، وهذا في حالاتٍ نادرة، وهؤلاء الثلاثة طبقةٌ واحدة؛ لأنَّ مالكًا تُوفِّي عام 179، ويحيى بن سعيد 198، وعبدالرحمن بن مهدي 198، وكانوا أصدقاء، وسبحان الله، تُوفُّوا في نفس السَّنة!



سؤال: في الحديث الصحيح لغيره هل معنى تعدُّد الطرق أنْ يكون كلُّ طريق حسنًا لذاته، أو أن يكون فيهم طريق صحيح؟
الإجابة: لا بُدَّ أنْ يكون كلُّ طريق حسنًا لذاته، أمَّا إنْ وُجِدَ طريقٌ صحيح مع طريقٍ حسن لذاته ففي هذه الحالة نحكُم على الحديث بالصحَّة؛ لوجود طريقٍ صحيح، وتبقى موافقة الحسن لذاته للصحيح زيادة في الصحَّة.

سؤال: في الحديث الحسن لذاته لو أنَّ الرجل في السند الأوَّل اسمه فلان مثلاً، وكان خفيفَ الضبط، ثم الطريق الثاني الذي تبحث عنه وجدت فيه نفس الرجل، فهل يرتقي الحديث إلى الصحيح لغيره؟
الإجابة: لا يرتقي إلى الصحيح لغيره؛ لأنَّ وجود نفس الرجل في طريقين (إسنادين) يرجعُ الأمر إلى طريق واحد؛ لأنَّ نفس الراوي في الطريقين واحد؛ وعليه: يكون الحديث حسن لذاته.



يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 13-02-2020, 04:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث

الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث (6)
د. عيد نعيمي آل فيصل

الحديث الضعيف:
هو ما فقَدَ شرطًا من شروط الصحَّة.



وقد ينتقدُ أحدٌ هذا التعريفَ ويقول: لقد فَقَدَ الحسن لذاته شرطًا من شروط الصحَّة ولم يتحوَّل إلى حديثٍ ضعيف، ولكن أصبح حديثًا حسنًا لذاته.

التعريف الصواب للحديث الضعيف: هو ما فقَدَ شرطًا من (شروط القبول)؛ (وذلك حتى يدخُل معنا الصحيح والحسن).
ينقسم الحديث الضعيف إلى قسمين:




هذه التقسيمة مهمة؛ لأنَّنا عندما سنتحدثُ عن الحسن لغيره ونقول: هو الحديث الضعيف إذا تعدَّدت طرقُه، فنقصد الضعيف ضعفًا منجبرًا، ومن هنا تعلمُ لماذا قدَّمنا الكلام على الضعيف قبل الحسن لغيره.



الحديث الحسن لغيره: هو الحديث الضعيف ضعفًا منجبرًا إذا تعدَّدت طرقُه.

تعريف آخَر: هو الحديث الذي في سنَدِه راوٍ ضعيف؛ نتيجةً لسوء الحِفظ أو تدليسٍ أو جهالةٍ، أو كان الحديث مرسلاً أو منقطعًا ثم تُوبِعَ، أو جاء من طريقٍ آخَر أو تعدَّدت طرقُه.

نلاحظُ أنَّ هذا التعريف يُساوي التعريف السابق، لماذا؟
لأنَّ هذا التعريف بداية من: هو الحديث الذي في سنَدِه راوٍ ضعيف؛ نتيجةً لسوء الحِفظ أو تدليسٍ أو جهالةٍ، أو كان الحديث مرسلاً أو منقطعًا = الحديث الضعيف ضعفًا منجبرًا؛ لأنَّ الحديث الضعيف ضعفًا منجبرًا هو الحديث الذي في سنده راوٍ ضعيف نتيجةً لسوء الحفظ أو تدليس أو جهالة، أو كان الحديث مرسلاً أو منقطعًا؛ وعليه: لو وضعنا جملة: "الحديث الضعيف ضعفًا منجبرًا" بدلاً من: "هو الحديث الذي في سنده راوٍ ضعيف نتيجة لسوء الحفظ أو تدليس أو جهالة، أو كان الحديث مرسلاً أو منقطعًا"، يصبحُ تعريف الحسن لغيره: هو الحديث الضعيف ضعفًا منجبرًا إذا تعدَّدت طرقه، وهو نفس التعريف الأول.

مثالٌ للحديث الحسن لغيره: حديثٌ رواه قتادة عن عبدالله بن بريدةَ عن أبيه بريدةَ عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: (المؤمنُ يموتُ بعرقِ الجبين)، العلماء قالوا: لا نعلم لقتادة سماعًا من عبدالله بن بُريدةَ؛ فالحديث يكون منقطعًا؛ إذًا فالحديث ضعيف، ولقد حسَّنَه الترمذي رغم انقِطاعه لمجيئه من طريقٍ آخَر.


الحسن عند الترمذي

قال الترمذي: "وما ذكرنا في هذا الكتاب: حديث حسن، فإنما أرَدْنا به حُسنَ إسنادِه عندنا، (كل حديث يُروَى لا يكونُ في إسناده مُتَّهَمٌ بالكذب، ولا يكون الحديث شاذًّا، ويُروَى من غير وجهٍ كذلك فهو عندنا حديث حسن)"، وقال: عندنا؛ أي: لعلَّ له اصطلاحًا خاصًّا به.

فتبيَّن لنا من كلام الإمام الترمذي -عليه رحمة الله- الشرائط الواجب توفُّرها في الرواية حتى تكون حسنةً بالمجموع؛ أي: حسنة إذا انضمَّ غيرها ممَّا هو مثلها أو أقوى منها إليها، فيتشكَّل الحديث الحسن من مجموع هذه الروايات:

فأوَّل هذه الشرائط: أنْ يكون الحديث سالمًا من أنْ يكونَ من رواية أحد المتَّهَمين بالكذب، بل لا بُدَّ أنْ يكون الراوي إمَّا من أهل الثقة أو الصدق، وأمَّا إنْ كان ضعيفًا فلا يبلُغ به الضعف إلى حدِّ أنْ يكون متَّهمًا بالكذب أو متروكَ الحديث أو ضعيفًا جدًّا، فإنْ كان كذلك فإنَّ حديثه لا ينفعُ في هذا الباب مهما انضمَّ إليه من رواياتٍ، فإنَّ الضعيف جدًّا والمتَّهم بالكذب والمتروك أحاديثهم في غاية السُّقوط، لا تنفعُ في باب الاعتبار ولا في باب الشَّواهد والمتابعات، ولا ترتقي إلى مرتبة الحسن لغيره مهما انضمَّ إليها من رواياتٍ، فهذا أوَّل شرط.

الشرط الثاني: متعلِّق بالرواية نفسها؛ وهو أنْ تكون هذه الرواية سالمةً من الشُّذوذ، ومعنى كونها سالمةً من الشذوذ؛ أي: تكونُ سالمة من مخالفة الأحاديث الصحيحة الثابتة التي قد فرغ منى صحَّتها وثبوتها، فهذا النوع من الأحاديث -أعنى: الأحاديث الشاذَّة- لا تنفعُ في هذا الباب أيضًا، فإذا ثَبَتَ شُذوذ الحديث -أو نكارته من باب أَوْلَى- لم يصلح لأنْ يُحسَّن، مهما انضَمَّ إليه من رواياتٍ؛ وعليه: فالشاذ والمنكر لا يصلحان في باب الاعتبار، ولا يصلح أنْ تتقوَّى بهما الرواية، ولا تنفعها الرواياتُ المتعدِّدة مهما تعدَّدت ومهما كثُرت.

وهذا المعنى الذي أشَرْنا إليه والذي دلَّ عليه كلام الإمام الترمذي -عليه رحمة الله- قد توارد عليه العلماء واتَّفقوا عليه من غير نكيرٍ بينهم، فها هو الإمام ابن الصَّلاح -عليه رحمة الله- يقول في "مقدمة علوم الحديث" له: "ليس كلُّ ضعيفٍ في الحديث يزولُ بمجيئِه من وُجوهٍ، بل ذلك يتفاوَتُ؛ فمنه ضعفٌ يزيلُه ذلك، ومن ذلك ضعفٌ لا يزولُ بنحو ذلك؛ لقوَّة الضعف، ولتقاعد هذه الجابر عن جيرِه ومقاومته؛ وذلك كالضعف الذي ينشأُ من كون الراوي مُتَّهمًا بالكذب، أو كون الحديث شاذًّا".

فانظُر إلى قول الإمام ابن الصلاح، كيف جعَل الحديث الشاذَّ كالحديث الذي اشتمَلَ على راوٍ متَّهم بالكذب!

وإنما لم يعتدَّ أهلُ العلم بالروايات الشاذَّة والمنكرة ولم يلتَفِتوا إلى طرقها وإن تعدَّدت لأنَّ شُذوذ الرواية ونكارتها إسنادًا أو متنًا يُحقِّق كون راويها قد أخطأ فيها، وحينئذٍ يَقوَى جانب الردِّ على جانب القبول؛ لأنَّه -والحالة هذه- لا يكونُ لهذه الرواية وجودٌ في الواقع إلا في ذهن ومخيلة ذلك الراوي الذي أخطأ فيها، فكيف يُتصوَّر أو يُعقل أنْ تتقوَّى روايةٌ بروايةٍ لا وجودَ لها في الواقع، بل وجودها وعدمها سواء؟!

وقد أشار إلى ذلك الشيخ الألباني -رحمة الله تعالى- في بعض ما كتَب؛ حيث ذكَر في كتاب "صلاة التراويح" حديثًا يرويه بعضُ مَن هو صدوقٌ في الأصل، إلا أنَّ روايته شاذَّة خالَفَ فيها غيرَه ممَّن هو أَوْلَى منه بالقبول والحِفظ فقال الشيخ الألباني -عليه رحمة الله- مُوضِّحًا أنَّ هذه الرواية الشاذَّة رواية في غاية الضعف والوهاء، وأنها لا تصلح لا في الاحتجاج ولا في الاعتبار، قال: "من الواضح أنَّ سبب ردِّ العلماء للشاذِّ إنما هو ظُهور خطئها بسبب المخالفة المذكورة، وما ثبت خطَؤُه فلا يُعقَل أنْ تَقوَى به روايةٌ أخرى في معناها؛ فثبت أنَّ الشاذ والمنكر ممَّا لا يُعتَدُّ به ولا يُستَشهد به، بل إنَّ وجودَه وعدمه سواء، وقال حاكيًا عن أهل العلم: "من المقرَّر في علم مصطلح الحديث أنَّ الشاذَّ والمنكر مردودٌ؛ لأنَّه خطأ، والخطأ لا يُتقوَّى به.

هذا، وإنما يصلحُ في هذه الباب فقط الضعف الذي يكون هينًا، أمَّا الضعف الشديد؛ كالشذوذ والنكارة والتهمة بالكذب، فهذا لا يصلحُ في هذا الباب بحالٍ من الأحوال.

ولله درُّ الإمام أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله- لَمَّا سُئِلَ عن مثل هذه الأحاديث قال كلمته المشهورة: "الحديث عن الضعفاء قد يُحتاجُ إليه، والمُنكَر أبدًا مُنكَرٌ".

فقد بيَّن الإمام -عليه رحمة الله- أنَّ هناك فرقًا بين الضعف الذي يكونُ سببه ضعف حِفظ الراوي، والضعف الذي يكونُ سببه شذوذَ الرواية أو نكارتها، فبيَّن أنَّ النوع الأوَّل من الضعف يصلحُ في هذا الباب، وأنَّه يحتاج إليه في وقتٍ؛ أي: في باب الاعتبار، وبيَّن أيضًا أنَّ النوع الثاني من الروايات المنكرة؛ وهى التي يترجَّحُ عند أهل العلم نكارتها وخطأ الراوي فيها، لا تنفع أبدًا، وأنَّ وجودَها كعدَمِها، ولو كانت هذه الرواية من راوٍ يصلحُ حديثه للاحتجاج والاعتبار في الأصل، ولكن لَمَّا ترجَّح خطَؤُه في هذه الرواية بعينها كانت هذه الرواية ساقطةً عن حدِّ الاعتبار، لا اعتدادَ بها، ولا انشغالَ بها.

وهذا الشذوذ -أو النكارة- الذي يعتَرِي مثلَ هذه الروايات تارةً يكونُ في الإسناد، وتارةً يكونُ في المتن، فأمَّا ما كان منه في المتن فلا شكَّ أن يكون قد فرغ منه وسقط كليَّة؛ لأنَّ الأسانيد ما هي إلا وسيلةٌ لاعتبار المتون، والبحث عن صحيحها وسقيمها، فإذا كانت المتون نفسها في غاية النكارة أو في غاية الشُّذوذ وقد حكم الأئمَّة بشذوذها أو بنكارتها، وأنها غير صالحة بحال، فإنَّه -والحالة هذه- تكونُ قد فُرِغَ منها وأُسقِطت إلى غير رجعةٍ.

وهذا الرأي قصَدَه الإمام الترمذيُّ -عليه رحمة الله- حيث ذكَر أنَّ الحديث الشاذ لا يصلحُ في باب الاعتبار، إنما قصَد -بالدرجة الأولى- الشذوذ الذي يعتَرِي المتون؛ وهذا لكونها مخالفةً للأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-.

لكن هناك نوعٌ آخَر من أنواع الشُّذوذ والنكارة؛ وهو الذي يعتَرِي الأسانيد دُون المتون، وهذه مهمٌّ جدًّا؛ فإنَّ الراوي لا يخطئ في المتن فحسْب، بل يخطئُ في المتن ويخطئُ أيضًا في الإسناد، بل إنَّ أخطاء الأسانيد أكثرُ من أخطاء المتون؛ لأنَّ الأسانيد متشابهةٌ ومتداخلةٌ، بخِلاف المتون.

ولهذا تجدُ أخطاء الرُّواة في الأسانيد أكثر منها في المتون، والأسانيد هي عَصَبُ هذا العلم، وعلى أساسها يُعرَف الصحيحُ من الضعيف من المتون، فإذا عمد الباحث إلى أسانيد شاذَّة أو أسانيد مُنكَرة ثم أخَذ بضمِّ بعضها إلى بعض، ظنًّا منه أنها بذلك تتقوَّى وتدلُّ على صحَّة المتن أو على حُسنه، فيكون بذلك قد وقَع الخطأ والتناقُض؛ لأنَّ المنكر خطأ مُتحقِّق، والشاذ كذلك، فكيف نُقوِّي خطأً بخطأٍ؟ كيف نُقوِّي خطأً تحقَّقنا من كونه خطأً بخطأٍ تحقَّقنا من كونه خطأً؟

إنما الذي يصلحُ في هذا الباب تلك الروايات التي يحتملُ أنْ تكون صوابًا ويحتمل أيضًا أنْ تكون خطأً، فالإسناد الذي اشتَمَلَ على راوٍ ضعيفٍ هذا الراوي الضعيف ليس من شأنه أنْ يُخطئ في كلِّ أحاديثه، بل تارةً يصيبُ وتارةً يخطئُ، هذا الإسناد الذي فيه إرسالٌ فالإرسال لا يستلزمُ الضعف دائمًا، بل من المُرسَل ما هو صحيحٌ ومن المُرسَلِ ما هو غيرُ صحيح.

فإذا نظرنا لمثلِ هذا الضعف الهيِّن في الرواية ينبغي علينا أنْ نُعامِلَه بما يستحقُّ؛ فلا نترُك الرواية كليَّةً، كما أنَّنا لا نحتجُّ بها على سبيل الإطلاق، بل ننظُر هل لهذه الرواية من شواهد؟ هل لهذه الرواية من مُتابعات تعضدها وتُؤكِّد حفظَ الراوي لها، أو تؤكِّد أنَّ مخرجها عن ثقةٍ؟ فحينئذٍ تكون الرواية صالحةً للاحتِجاج بانضِمام الروايات الأخرى إليها.

إنَّ هذا الانضِمام يُقوِّي جانبَ القبول لها على جانب الردِّ، ويُرجِّح أحدَ الاحتمالين في المسألة؛ لأنَّ الرواية حيث رَواها ضعيفُ الحفظ كان يحتمل أنْ يكون أصابَ فيها، ويحتمل أنْ يكون أخطأ، فبالشواهد والمتابعات يترجَّح لدَيْنا أنَّه أصابَ، كذلك الرواية المُرسَلة يحتملُ أنْ يكون مخرجها عن ثقةٍ، ويحتمل أنْ يكون مخرجها عن غيرِ ثقةٍ، فبالشواهد والمتابعات يترجَّح لدينا أنَّ مخرجها عن ثقةٍ وليس عن ضعفٍ.

وينبغي أنْ يعلم أنَّ رجحانَ الخطأ في الرواية بما يوجبُ الحكم عليها بالشذوذ أو النكارة ليس دائمًا مرتبطًا بحالِ الراوي؛ فقد يكونُ الراوي ضعيفًا لكنَّ روايتَه تلك صالحةً للاعتبار؛ لكونه لم يترجَّح خطَؤُه فيها بما يوجبُ الحكمَ عليها بالشذوذ أو النكارة.

بل قد روَى الراوي الواحد حديثين فيُعتَبر بأحدِهما ولا يُعتَبر بالآخَر، وقد يكونُ الحديثان بإسنادٍ واحدٍ؛ وذلك أنَّه ترجَّحَ في أحدِهما كونُه خطأً فلم يُعتَبر به، ولم يترجَّح ذلك في الآخَر فاعتُبِر به.

فكما ترَوْنَ الأمرَ، الأمرُ ليس راجعًا إلى حال الراوي فحسْب، بل هو أيضًا راجعٌ إلى اعتبار الرواية والنظر فيها، وهل الضعف الذي اعتَراها من الضعف المحتمل، أو هو من الضعف الشديد المنكَر الذي لا يحتملُ.

ولا بأسَ بذِكر مثالٍ يُوضِّح كيف أنَّ الرواية المنكرة لا تصلحُ للتقوية، وإن كان الراوي نفسه الذي رواها صالحًا للاعتبار: حديث يَروِيه عبدالله بن بُدَيل -وهذا رجلٌ ضعيف- عن عمرو بن دينار، عن عبدالله عمر، أنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نذَر أن يعتَكِفَ في الجاهليَّةِ ليلةً أو يومًا عند الكعبة، فسأل النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: (اعتَكِفْ وصُمْ).

هذا الحديث صحيحٌ عن الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- من غير ذِكر لفظ الصوم فيه والأمر به، ولكنْ هكذا روَى الحديث عبدالله بن بديل بذِكر الصوم فيه، وهذا ممَّا أنكَرَه العلماءُ على عبدالله بن بُدَيل.

فهو أولاً تفرَّدَ به عن عمرو بن دينار، وهذا من التفرُّد عير المحتمل؛ لأنَّ عمرو بن دينار من المكثرين حديثًا وأصحابًا، فأين كان أصحابُه عن هذا الحديث حتى لا يَروِيه عنه إلا رجلٌ ضعيفٌ.

ثم إنَّه لم يتفرَّدْ فحسب، بل خالَفَ أيضًا فزادَ في المتن زيادةً أنكَرَها العلماء عليه، وممَّن أنكَرَ هذه الزيادةَ في هذا الحديث الإمامُ ابن عَدِيٍّ، والإمام الدارقطني، والإمام أبو بكر النيسابوري، والإمام البيهقي أيضًا.

فجاء بعضُ إخواننا من المشتغِلين بالحديث فحكَم على هذه الرواية بمقتضى حالِ راويها فحسب، فاغترَّ بظاهر الإسناد وذهب إلى أنها روايةٌ صالحةٌ للاعتِبار، على أساس أنَّ عبدالله بن بُدَيل ليس متَّهمًا بكذبٍ أو فسقٍ؛ يعني: ليس ضعفُه شديدًا، وغفل هذا الفاضل عن أنَّ روايته تلك منكرة، وأنَّ الأئمَّة أنكروها عليه، بصرفِ النظَر عن حال راويها، وكما سبق: المنكر أبدًا منكرٌ.

ثم إنَّه جاء لها بروايةٍ أخرى، وقد اعتَبَر هذه الرواية الأخرى شاهدًا للرواية الأولى، وهذه الرواية الأخرى أيضًا منكرة، ذكر الصوم الوارد فيها خطأٌ من راويها، وقد أنكَرَه عليه أهل العلم أيضًا، هذا فضلاً عن كون ذلك الشاهد قاصرًا عن الشهادة كما سيأتي.

وهذا الشاهد يَروِيه سعيد بن بشير، عن عبيدالله بن عمر، وسعيد بن بشير هذا ضعيف الحِفظ، وقد تفرَّد به عن عبيدالله بن عمر، وهذا ممَّا يوجبُ التوقُّف في تفرُّده؛ لأنَّ عبيدالله بن عمر -رحمه الله- أيضًا من المكثرين حديثًا وأصحابًا، فأين كان أصحابه الثقات من هذا الحديث؟ فضلاً عن أنَّ أصحاب عبيدالله بن عمر قد روَوُا الحديث نفسَه ولم يَذكُروا فيه الصوم، فتكون رواية سعيد بن بشير هذه من قَبِيل الأحاديث المناكير.

سعيد بن بشير يَروِيه عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنَّ عمر نذَر أنْ يعتكفَ في الشرك ويصومَ، فسأل النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- بعدَ إسلامِه فقال: (أوفِ بنذرِك)، فذكر الصوم أيضًا في حديثه؛ ومن ثَمَّ أنكر عليه الأئمَّة أيضًا هذا الحديث.

فأنت ترى أخي الكريم أنَّ الحديث بطريقَيْه منكر، ذِكرُ الصوم في كلِّ طريق على حِدَةٍ منكرٌ؛ إمَّا لتفرُّد الضعيف به عن إمامٍ حافظ مُكثِر له أصحاب حُفَّاظ، وهذا ممَّا لا يحتملُ، وإمَّا مع ذلك قد خالَف فروَى الحديث على خِلاف ما يَروِيه أصحاب ذلك الإمام الحافظ، فإذًا كلُّ طريقٍ على حِدَةٍ منكرٌ ذِكرُ الصوم فيه.

فمَن يعمدُ لتقوية المنكر الأوَّل بالمنكرِ الثاني يكونُ قد وقَع في تخبُّط وتناقُض واضح؛ لأنَّ المنكر لا يُقوِّي المنكر، بل لا يُقوِّي حتى الصحيح فكيف يُقوِّي المنكر مثلَه؟

ثم إنَّ رواية "سعيد" هذه لو كانت صحيحة لما صلحت لتقوية رواية عبدالله بن بُديل، فرواية عبدالله بن بديل فيها اشتراطُ الصوم للمعتكِف؛ لأنَّ الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما هو في الرواية - لَمَّا سأله عمرُ عن نذرِه الذي نذَرَه في الجاهليَّة هل يُوفي به؟ فقال له: (اعتَكِفْ وصُمْ)، فقد أمَرَه هاهنا بالصوم، بينما رواية سعيد بن بشير ليس فيها ما يدلُّ على اشتِراط الصوم للمعتكف، ففيها "أنَّ عمر نذَر أنْ يعتَكِفَ في الشِّرك ويصوم"، فهكذا هو عقَدَ نذرَه على الأمرين وليس على أمرٍ واحد، عقَدَ نذرَه على أنْ يعتكف وعلى أنْ يصوم، "فأمره النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنْ يوفي بنذره"؛ أي: على الصِّفة التي كان قد عقَدَ نذرَه عليها، وهذا بطبيعة الحال لا يدلُّ على اشتراط الصوم للمعتكف، وإنما أمَرَه الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقط بأنْ يُوفِيَ بنذره الذي نذَرَه، وقد نذَرَ - كما في رواية سعيد - أنْ يعتكف وأنْ يصوم، بينما في رواية عبدالله بن بُديل نذَر أنْ يعتكف فقط، فإذا برسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يأمره بأنْ يعتكف وفاءً بنذره، وأيضًا أنْ يضمَّ إلى ذلك الصومَ، فهذا يدلُّ على اشتراط الصوم للمعتكف، بينما رواية سعيد بن بشير لا تدلُّ على ذلك؛ وعليه: فلا تصلحُ رواية سعيد لتقوية رواية عبدالله بن بديل؛ لأنها قاصرةٌ عن المعنى الذي دلَّت عليه روايةُ ابن بُديل.

وهذا أمرٌ مهم جدًّا؛ فإنَّ الروايات التي يُقوِّي بعضها بعضا حتى وإنْ كانت صالحةً للتقوية لا بُدَّ أنْ يكون المعنى الذي يُراد تقويته في الروايتين قد اشتركت الراويتان جميعًا فيه، لا أنْ يكون هذا المعنى موجودًا في إحدى الروايتين دون الأخرى، فإنَّ الرواية الأخرى التي لم تشتمل ولم تتضمَّن هذا المعنى لا تصلح لتقوية الرواية التي تتضمَّنه، بل لا بُدَّ من اشتراك الروايتين في هذا المعنى واتِّفاق الروايتين على تضمُّن هذا المعنى، والله أعلم.

الشرط الثالث: للحديث الحسن لغيره عند الإمام الترمذي أشارَ إليه بقوله: "وأنْ يُروَى من غير وجهٍ نحو ذلك".

يعني: أنَّ هذا الحديث الذي سَلِمَ إسناده من راوٍ متَّهم بالكذب، والذي سَلِمَ أيضًا من أنْ يكون حديثًا شاذًّا، فهذا الحديث الذي سَلِمَ من الشُّذوذ وسَلِمَ من راوٍ متَّهم بالكذب يصلح لأنْ يتقوَّى بغيره، لكن ما صفة هذه المقوِّيات أو العواضد التي إذا ما انضمَّت إليه شكَّلت الحجَّة، وكان الحديث من القسم الحسن؟

إن هذا يتضمَّنه قوله: أنْ يُروى نحوُه من غير وجهٍ، فقوله: "نحوه"؛ أي: في القوِّة والمعنى؛ يعني: أنْ تجيءَ روايةٌ تكونُ مثلَ الرواية الأولى من حيث القوَّة، وأيضًا من حيث المعنى؛ بمعنى: أنْ تكونَ مُتضمِّنةً نفس المعنى الذي تضمَّنته الرواية الأولى؛ فيكون هذا المعنى اشتَركتْ فيه الروايات معًا.


[1] فكما أنَّ القواعدَ النظريَّة لهذا العِلم تُؤخَذ من أهله المتخصِّصين فيه، فكذلك ينبغي أنْ يُؤخَذ الجانب العملي منهم، لا أنْ تؤخذ منهم فقط القواعد النظريَّة، ثم يتمُّ إعمالها عمليًّا من غير معرفةٍ بطَرائِقهم في إعمالها وتطبيقها وتنزيلها على الأحاديث والرِّوايات.
فإنَّ أهل مكَّة أعلمُ بشعابها، وأهلَ الدار أدرى بما فيه، وإنَّ أفضل مَنْ يُطبِّقُ القاعدةَ مَن وضعها وحرَّرَها، ونظَم شرائطها، وحدَّد حدودها.
فكان من اللازم الرُّجوع إلى كتب علل الحديث المتخصِّصة، والبحث عن أقوال أهلِ العلم على الأحاديث؛ لمعرفة كيفيَّة تطبيقِهم هم لتلك القواعد النظريَّة، التي يقومُ عليها هذا الباب، ومعرفة كيفيَّة تنزيلها على الرِّوايات والأسانيد.
وليس هذا جُنوحًا إلى تقليدِهم، ولا دعوةً إلى تقديس أقوالهم، ولا غلقًا لباب الاجتهاد، ولا قتلاً للقُدرات والملكات، بل هي دعوةٌ إلى أخْذ العلم من أهله، ومعرفته من أربابه، ودخوله في بابه وتحمله على وجهه.
فمَن يظنُّ أنَّه بإمكانه اكتساب ملَكَةِ النقد، وقوَّة الفهم، وشفوف النظر، بعيدًا عنهم، وبمعزلٍ عن علمهم، وبمنأًى عن فهمهم - فهو ظالِمٌ لنفسه، لم يبذل لها النُّصح، ولم يبغِ لها الصلاحَ والتوفيق، ولا أنزَلَ القومَ منازلهم، ولا قَدَرَهم أقَْدارهم.
فهم أهل الفهم، وأصحاب الملكات، وذوو النظَر الثاقب، فمَن ابتغى من ذلك شيئًا فها هو عندهم، وهم أربابه، فليأْخُذه منهم، وليأخذ بحظٍّ وافر.
فمَن تضلَّع في علمهم، واستزادَ من خيرهم، وتشربهم من فِقههم، واهتدى بهديِهم، واسترشَدَ بإرشادهم، وسارَ على دربهم، وضرب على مِنوالهم - فهو الناصحُ لنفسه، المُبتغي لها الصلاحَ والتوفيق، وهو من السابقين بالخيرات - بإذن الله تعالى.
ولله دَرُّ الحافظ ابن رجب الحنبلي، حيث أوضح في كلماتٍ قلائل أنَّ سبيل تحصيل المَلَكة إنما هو مُداوَمة النظر في مُطالَعة كلام الأئمَّة العارفين، للتفقُّه بفِقههم، والتفهُّم بفهمِهم.
يقول ابن رجب: "ولا بُدَّ في هذا العلم من طُول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عَدِمَ المذاكرةَ به، فليُكثِر طالبُه المطالعةَ في كلام الأئمَّة العارفين؛ كيحيى القطان، ومَن تلقى عنه كأحمد وابن المديني وغيرهما؛ فمَن رُزِقَ مطالعةَ ذلك وفهمَه، وفَقُهَتْ نفسه فيه، وصارت له فيه قوَّة نفس ومَلَكة - صَلُحَ له أنْ يتكلَّم فيه".
هذا، وإنَّ علامة صحَّة الاجتهاد، وعلامة أهليَّة المجتهد، هو أنْ تكونَ أغلب اجتهاداته وأحكامه وأقواله موافقةً لاجتهادات وأحكام وأقوال أهل العلم المتخصِّصين، والذين إليهم المرجعُ في هذا الباب.
وإنَّ علامة صحَّة القاعدة التي يعتمدُ عليها الباحث في بحثه، هو أنْ تكون أكثر النتائج والأحكام المتمخِّضة عنها على وفق أقوال أهل العلم وأحكامهم.
فكما أنَّ الراوي لا يكون ثقةً مُحتَجًّا به وبحديثه إلا إذا كانت أكثر أحاديثه موافقةً لأحاديث الثقات، المفروغ من ثقتهم، والمُسلَّم بحِفظهم وإتقانهم، فكذلك الباحث لا يكون حكمه على الأحاديث ذا قيمةٍ إلا إذا جاءتْ أكثرُ أحكامه على الأحاديث موافقةً لأحكام أهل العلم عليها.

وبقدرِ مخالفته لأهل العلم في أحكامه على الأحاديث يعلم قدْر الخلل في القاعدة التي اعتمد عليها، أو في تطبيقِه هو للقاعدة، وتنزيلها على الأحاديث.
فمَن وجد من نفسه مخالفةً كثيرةً لأهل العلم في الحكم على الأحاديث فليعلم أنَّ هذا إنما أُتِي من أمرين، قد يجتمعان، وقد يفترقان:
أحدهما: عدم ضبط القاعدة التي بنى عليها حكمَه على وفق ضبط أهل العلم لها.
ثانيهما: ضبط القاعدة نظريًّا فقط، وعدم التفقُّه في كيفيَّة تطبيقها، كما كان أهل العلم من الفقه والفهم والخبرة بالقدر الذي يُؤهِّلهم لمعرفة متى وأين تنزلُ القاعدة، أو لا تنزل.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 14-02-2020, 03:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,668
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث


الجوهر النفيس شرح مصطلح الحديث (7)
د. عيد نعيمي آل فيصل




إنَّ الحمد لله نحمَده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فهو المهتدي، ومن يضلل، فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وصلِّ اللهم على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.



ثم أما بعدُ:

سؤال: بداية من كلامنا عن الحديث الصحيح لذاته والصحيح لغيره، والحسن لذاته والحسن لغيره، فهل كلامُنا هنا منحصر على خبر الآحاد أم المتواتر؟

الإجابة: الحديث عن الآحاد؛ لأنَّ المتواتر غيرُ داخل في علم مصطلح الحديث، ومَن أدخل المتواتر في علم مصطلح الحديث هم المتكلِّمون، فالمتواترُ: مقطوعٌ بصحَّته، ونحن في مصطلح الحديث نبحثُ عن الصِّحة وعن الضَّعف، فالمتواترُ ليس معنا في مصطلح الحديث، فبداية من كلامنا على الحديث الصحيح لذاته ولغيره، والحسن لذاته ولغيره - كلامُنا هنا منحصرٌ على خبر الآحاد.



إذًا سنبدأ في كلامنا الآن عن:

خبر الآحاد المقبول المُحْتَفُّ بالقرائن:

وهذا يعني أنَّ هناك أخبارَ آحادٍ تحتَفُّ ببعض القرائن، تجعلُها قريبة من المتواتر، أو تزيدُها صحَّةً فوق صحتها؛ أي: خبر الآحاد المقبول المُحتف بالقرائن.



ما فائدة هذا البحث؟

فائدة هذا البحث أنه إذا جاءنا خبرُ آحاد محتَفٌّ بالقرائن، وخبرُ آحاد غير محتَفٍّ بالقرائن، وتعارضا مع عدم إمكان الجمع بينهما، فمَن يقدَّم؟ يُقدَّم خبر الآحاد المحتفُّ بالقرائن، إذًا يصلح هذا البحثُ في الترجيح بين الأحاديث المتعارضة في حالة عدم إمكان الجمع بينهما.



القرائن التي تحتفُّ بخبر الآحاد:

أولاً: أن يُخْرِجه الشيخان "البخاري ومسلم"، أو أحدهما، لماذا؟

1- لجلالتِهما في هذا الشأن.



2- تقدُّمِهما على غيرِهما في معرفة الصحيح من الضعيف.



3- تلقي الأمَّةِ لكتابَيْهما بالقَبول.



ثانيًا: أن يكون الحديث مشهورًا، وجاء من طرُق متباينة.




ثالثّا: أن يكون الحديث مسلسلاً بالأئمَّة الحُفَّاظ:

كالحديث الذي يرويه أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمرَ مثلاً، فهذا مسلسلٌ بالأئمَّة الحُفَّاظ، فهذه قرينة احتفت بخبر الآحاد تجعلُه مقدَّمًا على غيره عند التعارض.



خبر الآحاد المقبولُ المعمول به وغير المعمول بها:

ينقسم هذا البحث إلى قسمين:

أولاً: المحكَم، ومختلِف الحديث.



ثانياً: ناسخ الحديث، ومنسوخه.



أولاً: المُحْكَم:

تعريف الحديث المُحْكَم:

هو الحديث المقبولُ الذي سَلِم من مُعَارضة مثله، وجلُّ أحاديث النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- بفضل الله من هذا النوع.



لماذا قلنا من معارضة مثله؟

لأنَّه لا بد أن يكون في نفس مرتبة الحديث من حيث القوَّة، أمَّا إذا كان في مرتبةٍ أقلَّ، فسيُقدَّم الأصحُّ على الصحيح، وبالتَّالي فليس هناك ثمَّة معارَضة، فالمعارَضة تأتي بين حديثين في نفس القوَّة؛ لأنه لا بد للحديث المعُارِض أن يكون في نفس مرتبة الحديث المعُارَض من حيث القوَّة.



مُخْتَلِف الحديث:

تعريف مختلِف الحديث:

هو الحديث المقبول الذي عارضَهُ مثلُه "عكس المحكََم".



كيف نتعامل مع مختلف الحديث؟

أي إذا كان هناك حديثان متعارضان، وفي نفس القوَّة، فما هي الخطوات المتَّبعة للتعامل مع مثلِ هذه المسألة؟

1- إمكانية الجمعِ بينهما بدون تعسُّف: "إذا أمكن الجمعُ وجب المصير إليه بدون تعسُّف".




2- إذا لم يمكن الجمعُ بين الحديثين أبدًا، فأمامك طرُقٌ:

1- النظر في الناسخ والمنسوخ: أن تبحث في الناسخ والمنسوخ وترى: أيُّ الحديثين ناسخٌ، وأيُّهما منسوخٌ، فيُعمل بالناسخ، ولا يُعمل بالمنسوخ.



2- النظر في الترجيح: إن لم يكن هناك ناسخٌ، عليك بالتَّرجيح بوجه من وجوه الترجيح المعتبرَة.



3- التوقف في الحديثين ولا تستطيع أن تعمل بهما: وهذه المرحلة لم يصلْ إليها أيُّ عالم حسْبما نقل بعضُ علماء الحديث، وهو الشيخ الشَّريف حاتم بن عارف العوني، قال: لم نصلْ لهذه المرحلة؛ لأنَّ المائة وسبعة وجه تكون كافيةً في ترجيح أحد الحديثين على الآخر.



ثانيًا: ناسخُ الحديث ومنسوخُه:

سؤال: ما هو النسخ؟

هذا تعريف النَّسخ من كتاب الشيخ محمود الطحان، في كتابه "تيسير مصطلح الحديث" يقول:

النَّسخ اصطلاحًا هو: رفع الشارع حُكمًا منه متقدِّمًا بدليل شرعيٍّ منه متأخِّر.



التعريف ليس به بأس، ولكن لمن أراد التَّدقيق في التعريف، وجعْلَه تعريفًا دقيقًا، نقولُ: هل الحكم الشَّرعي يُرفع؟ أم تعلُّق المكَلَّف بالحكم الشرعي هو الذي يُرفع؟ تعلُّق المكلَّف بالحكم الشرعي هو الذي يُرفع، والحكم الشرعي موجودٌ لا يرفع، إنما الذي رُفع هو ارتباطُك بهذا الحكم الشرعي؛ أي: إن هذا الحكمُ الشَّرعي أصبحَ لا يقع عليك كمُكَلَّفٍ.



التَّعريف الدقيق للنسخ: هو رفع الشارع تعلُّقَ حكم شرعيٍّ بخطابٍ شرعيٍّ متأخِّر عنه.



قلنا: رفع الشارع تعلُّق حكمٍ شرعي، ولم نقُلْ: رفع الشارع حكمًا؛ لأنَّ الحكم الشرعي لا يُرفع، إنما الذي رُفع هو ارتباطك بهذا الحكم الشرعي؛ أي: أصبح هذا الحكم الشرعي لا يقع عليك كمُكلَّف.



وقلنا: بخطابٍ شرعيٍّ متأخر، ولم نقل: بدليلٍ شرعيٍّ متأخر؛ لأنَّ الدليل يدخل فيه الإجماع والقياس، أمَّا الخطاب فيشملُ الكتاب والسنَّة فقط، ويخرُج الإجماع والقياس والأدلة غير المتَّفق عليها؛ كالمصالحِ المرسَلة وغيرها، فالكتاب والسنَّة هما مَنْ يقومان بالنسخ، والإجماعُ والقياس لا يقومان بالنَّسخ.



بِمَ يتمُّ النسخ؟

ج: يتمُّ النسخ بخطابٍ شرعي متأخِّر، "لا بدَّ من كلمة: بخطابٍ شرعي متأخر بدلاً من كلمة: دليل شرعي متأخر؛ لأنه إذا قلنا: بدليل شرعيٍّ متأخِّر، يدخل معنا الإجماعُ والقياس، والأدلة غير المتَّفق عليها؛ كالمصالح المرسلة وغيرها.



يسأل أحدهم: هل الإجماع ينسخ؟

ج: الإجماع لا يَنسخ ولا يُنسخ، ولكن يدلُّ على ناسخ؛ أي: يدلُّ على خطاب شرعيٍّ، ولكن لم نعرفه، فرجع الأمرُ إلى الكتاب والسنَّة.



بِمَ يُعرف النسخ؟

1- أن ينصَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- على النَّسخ:

مثال: حديث النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((كنتُ قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزُوروها))؛ فالحديثُ نفسُه دلَّ على النسخ، فكلمة ((ألا فزُوروها)) نسخَت الحكمَ الأول.



2- أن ينصَّ الصحابي على النسخ:

مثال: حديث جابر -وإن كان فيه كلامٌ- "كان آخرُ الأمرين تركَ الوضوء مما مسَّت النار"، وهذا حديثٌ منازع فيه كناسخٍ، ونقلاً عن الشيخ طارق بن عوض الله، قال: هذا الحديثُ اختصره الراوي ونقله بالمعنى: "قصة الحديث: النبي -صلَّى الله عليه وسلم- كان في جلسة، ثمَّ أكل من لحمٍ، وتوضَّأ، ثم في نفس الجلسة أكل ولم يتوضَّأ، فقال الراوي -بالمعنى-: "كان آخرُ الأمرين من رسولِ الله ترْكَ الوضوء مما مست النَّار"، فأنت عندما تسمع الحديثَ، تقول: "آخر الأمرين"؛ أي: في أوَّل الإسلام وآخره، ولكنَّ الراوي كان يقصد أنَّ آخر الأمرين في نفس الجلسة؛ فالحديث لا يصلح ناسخًا".



والدليل المطلوب حفظُه هو: حديثُ سعد بن أبي وقَّاص في التطبيق -أن يضعَ يديه بين جانبي الرُّكبتين في الركوع- ويفعلُه أكثر النساء؛ قال سعد بن أبي وقَّاص: "كنَّا نفعلُ ذلك، ثم أُمرنا بالرُّكَب؛ أي: وضع اليدين على الرُّكبتين، وهذا دليلٌ على نسْخ التطبيق، وللأسف أكثرُ النِّساء يفعلنَ هذا، وهذا خطأٌ، والصواب أنْ تُفرَّقَ الأصابعُ، وتُقبضَ على الرُّكبة نفسِها عند الركوع، فهذا أَولى من حديث جابر؛ لأنه دليلٌ صريح على النَّسخ.



3- معرفة التاريخ:

أن يكون حديث متقدِّم في التاريخ، ويعارِضُه حديثٌ متأخِّر في التاريخ، فيكون الناسخ هو المتأخِّر؛ مثال: "حديثُ شدَّاد بن أوس ((أفطر الحاجم والمحجومُ))، نُسِخ بحديث ابن عبَّاس: "احتجمَ النبي -صلَّى الله عليه وسلم- وهو صائمٌ"؛ فقد ورد في بعض طرُق الحديث: أنَّ حديثَ شدَّاد بن أوس كان في فتح مكَّة، وحديثَ ابن عباس كان في حجَّة الوداع، فبهذا عُرِف التاريخ، فحديث شداد بن أوس متقدِّم، نُسخ بحديث ابنِ عباس المتأخِّر.



4- الإجماع:

مثال: حديث شارب الخمر؛ حديث معاوية بن أبي سفيان: ((وإنْ عاد في الرابعة، فاقتلوه))، قال الترمذي: دلَّ الإجماع على نسْخه.



5- تأخُّر إسلام الراوي:

يقول البعضُ: إذا تعارضَ حديثان، وكان الرَّاوي للحديث الأوَّل أبو هريرة "متأخِّر الإسلام"، والراوي للحديث الثاني: أبو بكر "متقدِّم الإسلام"، يكون حديثُ أبي هريرة ناسخًا لحديث أبي بكرٍ، وهذا الكلامُ غير صحيح، فقول البعض: إنَّ تأخُّر إسلام الراوي يدلُّ على النسخ إذا تعارض مع حديث مَن كان إسلامُه متقدِّمًا، هذا الكلامُ غيرُ صحيح، وحتَّى يكون صحيحًا، لا بدَّ له من اجتماع ثلاثة شروط:

أن يكون الراوي متأخِّرُ الإسلام سمِع الحديث مباشرة من النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لماذا؟

حتى نخرج من أن يكون الرَّاوي متأخِّرُ الإسلام سمِع الحديثَ من صحابيٍّ آخرَ، قد يكون متقدِّم الإسلام، والصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يسمعون الحديث من بعضِهم، ولا يذكرون أسماء بعضهم؛ لأنَّ الصحابة كلَّهم عُدول.



ألاَّ يكون الصحابي متأخِّرُ الإسلام قد سمِع من النبي قبل إسلامه:

مثل العباس، فقد أسلم متأخِّرًا جدًّا، وسمع أغلب أحاديث النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فهل نقول: إنَّ العباس كان متأخِّر الإسلام؟ وما أدراك؟ لعلَّه سمع الحديث حالَ كفرِه، وتكلَّمنا عن الأداء والتحمُّل، فيصحُّ أن يتحمَّل حال كفره ويؤدِّيَه بعد إسلامه؛ كحديث جُبير بن مُطعم في قراءة سورة "الطور" في صلاة المغرب.



ألا يكون الصحابي متقدِّم الإسلام سمِع الحديث بعد إسلام الصحابي متأخِّر الإسلام.


مثال: ألا يكون أبو بكر الصديق سمع الحديث بعد 7 هـ؛ أي: بعد إسلام أبي هريرة، فبالتالي يكون حديثُ أبي بكر ناسخًا لحديث أبي هريرة.



ولكي يتحقَّق الشرط الخامس باجتماع هذه الشروط الثلاثة، فهذا صعب جدًّا، بل قد يكون مستحيلاً، هذا قول الشيخ الشريف حاتم بن عارف العوني، فبالتتبُّع والاستقراء لم يوجد حديثٌ نُسِخَ لمجرَّد أنَّ راويَه متأخِّر، وآخر متقدِّم.



إذًا نقطة تأخُّر إسلام الراوي غير موجودة أصلاً، ولكن ذكرناها؛ لأنَّ في بعض الكتب الفقهية يقولون: "وأبو هريرة متأخِّر الإسلام، وعمر متقدِّم الإسلام؛ فحديثُ أبي هريرة ناسخٌ لحديث عمر"، فهذا كلامٌ غير صحيح.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 288.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 282.53 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (2.03%)]