|
ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() درة طنطاوية: عرفات د. عبدالحكيم الأنيس (هذه مقالة رائعة للأستاذ الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - نُشرَتْ في رسالة خاصة، صدرتْ عن لجنة مسجد الجامعة السورية بدمشق في ذي الحجة سنة 1374هـ[1] - قبل أربع وستين سنة -، ثم أدرجها في كتابه: "مِنْ نفحاتِ الحرم"[2]، وقد رأيتُ أنْ أعيدَ نشرَها هنا مضبوطة، مع تعليقاتٍ يسيرة) (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فكلوا منها أطعموا البائس الفقير، ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطَّوفوا بالبيت العتيق). هنالك ينكشفُ الغطاءُ، وتنفتحُ أبوابُ السماءِ، فيتوجّه الحُجّاج إلى الله بقلوبٍ انزاحتْ عنها ظلمةُ الأهواءِ والشهواتِ، وأشرقتْ عليها الأنوارُ، فسمَتْ حتى رأتِ الأرضَ ومَنْ عليها ذرةً صغيرةً تحملُها رياحُ القدرةِ. ثم سمَتْ حتى سمعتْ تسبيحَ الملائكةِ بألسنةِ الطاعةِ. ثم سمَتْ حتى تدبَّرت القرآنَ غضّاً غريضاً، كأنما نزلَ به الوحيُ أمس، وسمعتِ النداءَ مِنْ جانب القُدُس: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم). فأجابتْ: لبيك اللهم لبيك!، فردَّدتْ بطاحُ عرفات، وأرجاءُ الحرَم، وردَّدت السماواتُ السبعُ والأرضون السبعُ: لبيك اللهم لبيك! هنالك تتنفسُ الإنسانيةُ التي خنقَها دخانُ البارود، وعلاماتُ الحدود، وسيدٌ ومسودٌ، وعبدٌ ومعبودٌ[3]، وتحيا في عرفات حيثُ لا كبير ولا صغير، ولا عظيم ولا حقير، ولا مأمور ولا أمير، ولا غني ولا فقير. هنالك تتحققُ المُثلُ العليا التي لم يعرفها الغربُ إلا في أدمغةِ الفلاسفةِ وبطونِ الأسفار، فتزولُ الشرورُ، وترتفعُ الأحقادُ، وتعمُّ المساواةُ، ويسودُ السلامُ، ويجتمع الناسُ على اختلافِ ألسنتِهم وألوانِهم في صعيدٍ واحدٍ، لباسُهم واحدٌ، يتوجهون إلى ربٍّ واحدٍ، ويؤمنون بنبيٍّ واحدٍ، ويدينون بدينٍ واحدٍ، ويصيحون بلسانٍ واحدٍ: لبيك اللهم لبيك! هنالك تظهرُ المعجزةُ الباقيةُ، فتُطوى الأرض ثم تُؤخذُ مِنْ أطرافها، حتى توضعَ كلُّها في عرفات، فتلتقي شطآنُ إفريقيا بسواحلِ آسيا، ومدنُ أوروبا بأكواخِ السودان، ونهرُ الكانج بنهرِ النيل، وجبالُ طوروس بجبالِ البلور، فيعرفُ المسلمُ أنَّ وطنَه أوسعُ مِنْ أنْ تحدَّه على الأرض جبالٌ أو بحارٌ، أو تمزِّقَه ألوانٌ على المُصوَّر فوق ألوانٍ، أو تفرِّقَه في السياسة خرقٌ تتميزُ مِنْ خرقٍ، وأعلامٌ تختلفُ عن أعلامٍ. ذلك لأنَّ وطنَ المسلم في "القرآن"، لا في الترابِ والأحجار، ولا في البُحيراتِ والأنهارِ، ولا في الجبالِ والبحارِ: (إنما المؤمنون إخوة)، لا "إنما المِصريون..."، ولا "إنما الشاميون..."، ولا "إنما العراقيون...". هنالك يتفقدُ الأخوة إخوتَهم فيعينُ القويُّ الضعيفَ، ويعطي الغنيُّ الفقيرَ، ويساعدُ العزيزُ الذليلَ، فلا ينصرفون من الحجِّ إلا وهُمْ أقوياء أغنياء أعزاء. هنالك يذكرُ المسلمُ كيف مرَّ سيِّدُ العالمِ صلى اللهُ عليه وسلم بهذه البِطاحِ مُهاجِراً إلى الله، تاركاً بلدَهُ التي نشأ فيها، وقومَهُ الذين رُبِّيَ فيهم، وكيف جاءَ حتى وقفَ على الحَزْورة[4]، فنظرَ إلى مكةَ وقالَ: "إنكِ لأحبُّ بلادِ اللهِ إلى اللهِ، وإنكِ لأحبُّ بلادِ اللهِ إليَّ، ولولا أنَّ أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجتُ"[5]. ثم يستقبلُ هذه الصحراءَ الهائلة، ليس معه إلا الصدِّيق الأعظم، يتلفتُ كلما سارَ ليتزودَ بنظرةٍ مِنْ مكة حتى غابتْ وراءَ الأفقِ الفسيحِ، فانطلقا يؤمّان الغارَ. هل علمتْ هذه البطاحُ أنَّ هذا الرجلَ الفردَ الذي قام وحدَه في وجهِ العالمِ كلهِّ، يصرعُ باطلَه بقوة الحق، ويبدِّدُ جهالتَه بنور الاسلام، ويهدي ضلالتَه بهدي القرآن، والذي فرَّ[6] مِنْ مكة مُستخفياً، سيعودُ إليها بعشرةِ آلافٍ مِنَ الأبطال المغاوير، فتفتحُ له مكةُ أبوابَها، وتتهاوى عند قدميهِ أصنامُها، ثم تعنو له الجزيرةُ، ثم يخضعُ لدينهِ نصفُ المعمورِ؟ هل علمتْ هذه البطاحُ أنَّ هؤلاء النفر[7] الذين مرُّوا بها هاربين مِنْ جبروتِ قريش وسلطانِها، سيعزّون حتى تدينَ لهم قريش، ثم يعزون حتى يرثوا كسرى وقيصر في أراضيهما، ثم يعزّون حتى يرثوا الأرضَ ومَنْ عليها، وسيكثرون حتى يبلغوا أربع مئة مليون، وسيتفرّقون في الأرض داعينَ مجاهدينَ فاتحينَ، ثم يجتمعونَ في عرفات حاجّين مُنيبين مُلبين: لبيك اللهم لبيك! هنالك وقفَ سيدُ العالم صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداعِ يعلِنُ حقوقَ الإنسانِ، ويقرِّرُ مبادئَ السلامِ، وينشرُ الأخوةَ والعدالةَ والمساواةَ بين الناس قبل أنْ تنشرَها فرنسا بألفِ عامٍ. أيُّها الناسُ: اسمعوا مني أبين لكم، فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيُّها الناسُ: إنَّ دماءَكم وأموالَكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومِكم هذا في بلدِكم هذا. ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهدْ! أيُّها الناسُ: إنما المؤمنون إخوة، لا يحلُّ لامرىءٍ مالُ أخيه إلا عن طيبِ نفسٍ منه. ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهدْ! أيُّها الناسُ: إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، كلكم لآدم، وآدم مِنْ تراب، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربيٍّ فضلٌ على أعجميٍّ إلا بالتقوى. ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهدْ![8] وهنالك وقفَ يعلنُ انتهاءَ الرسالةِ الكبرى التي بعثه اللهُ بها إلى الناس كافةً، ويتلو قولَه جل وعز: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً). ويبعثُ صحابتَه ليحملوا هذه الرسالة إلى آخر الأرض، ثم يحملوها إلى آخر الزمان. فحملوها فأنشأوا بها هذه الحضارة التي استظلَّ بظلِّها الشرقُ، ويستظلُّ بها الغربُ. ♦ ♦ ♦ في عرفات تتجلى عظمةُ الإسلام، دينِ الهُويةِ والمساواةِ والعلمِ والحضارةِ، ومِنْ عرفات يسمعُ المسلمون داعي الله يدعو: حيَّ على الصلاة! حيَّ على الفلاح! فيجيبون: لبيك اللهم لبيك! وينطلقون ليعملوا للآخرةِ كأنهم يموتون غداً. ويعملوا للدنيا كأنهم يعيشون أبداً. ♦ ♦ ♦ فلتفسدِ الأرضُ، ولتطغَ الشرورُ، وليعصفِ الحديدُ، ولينفجرِ البارودُ، ولتغصِ الإنسانيةُ في حمأة الرذيلةِ إلى العُنُق، فإنّه لا خوفَ على الفضيلةِ ولا على الحقِّ ولا على السلامِ، ما دامَ في الأرضِ "عرفات". وما دامَ في الجوِّ هذا الصوتُ القدسيُّ المُجلْجلُ: "لبيك اللهم لبيك"! [1] رأيت هذه الطبعة في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي. [2] وذكرَ فيه أنها نُشِرتْ عام (1935م)، وهذا يعني أنها نُشِرتْ قبل نشرة مسجد الجامعة السورية: جامعة دمشق. [3] أي من البشر. [4] في الأصل: الحذورة! وهو خطأ مطبعي، والصواب بالزاي، وقد جاء على الصواب في كتاب: "من نفحات الحرم". وجاء في "معجم البلدان" (2 /255): "حزورة بالفتح ثم السكون وفتح الواو وراء وهاء، وهو في اللغة: الرابية الصغيرة وجمعها حزاور، وقال الدارقطني: كذا صوابه، والمحدثون يفتحون الزاي ويشددون الواو وهو تصحيف. وكانت الحزورة سوق مكة، وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه، وفي الحديث: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بالحزورة فقال: يا بطحاء مكة ما أطيبك من بلدة، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرك". [5] يُنظر تخريجه موسعًا في "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف" للزيلعي (3/21-23). [6] هذه كلمة خشنة ثقيلة، وليته قال: خرج. [7] في الأصل: النفرة. [8] يُنظر لزامًا: "الوصية النبوية للأمة الإسلامية في حجة الوداع" للدكتور فاروق حمادة.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |