|
ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() نحو رؤية أصولية للواقع الدعوي المعاصر (1) د. فارس العزاوي ![]() مراتب المجتهدين: تعرض العلماء لبيان أقسام المجتهدين والمفتين ممن يكون له حق الاجتهاد والفتيا لتمييزهم عن غيرهم ممن يغلب عليهم التقليد، وكان الدافع لهذا فيما يظهر ذلكم النزاع الذي حدث بعد المائة الرابعة للهجرة حول دعوى إغلاق باب الاجتهاد، وفي هذا يقول السيوطي في معرض حديثه عن المجتهد المطلق: " وهذا شيء فقد من دهر، بل لو أراده الإنسان اليوم لامتنع عليه "[21]. وهي من المسائل التي كان لها آثارها السلبية على جميع الأصعدة، حيث فتح الباب لكل من أراد الطعن في الشريعة والفقه من قبل أعداء الإسلام الذين حاولوا إلصاق الأوصاف الدالة على عجز الشريعة والفقه في مجاراة مصالح العباد وحاجاتهم المتجددة، ويتهمونها بعدم صلاحيتها لتنظيم شؤون الحياة؛ لأن القول بالإغلاق أدى إلى تقاصر الفقه الإسلامي عما جد للناس من قضايا وحاجات في غيبة الاجتهاد. وعلى الرغم من أن الداعين إلى إغلاق باب الاجتهاد كانت لهم أسبابهم الموضوعية: كتدوين المذاهب الإسلامية، والتعصب المذهبي، وسعي الحكام المستبدين لغلق باب الاجتهاد، وانتشار الفوضى في التشريع والاجتهاد وغيرها، إلا أن ذلك لم يكن بحجم الأثر الذي أحدثته الدعوة إلى الإغلاق؛ لكونه لم يحقق الغرض، فلا هو منع الدخلاء، ولا هو حافظ على الاجتهاد وسلامته[22]، وكان حرياً بالعلماء أن يحيطوا الاجتهاد بجملة من الشروط والقيود التي تحرم على غير أهله الخوض الفقه أو الدخول في حدوده. وقد جعل العلماء المجتهدين على خمس مراتب[23]: الأولى: المجتهد المطلق: وهو الذي استقل بقواعده لنفسه، يبنى عليها الفقه خارجاً عن قواعد المذهب المقررة، وهو الذي تنطبق عليه شروط الاجتهاد المتقدمة، بحيث يستقل باجتهاده في الأصول، والفروع، والاستنباط من الأدلة، ويضع الأسس العامة لاجتهاده، ويمهد القواعد، ويوجه الأدلة، لا ينتسب إلى أحد، ولا يقلد أحداً، وهذه المرتبة تنطبق على أئمة المذاهب الأربعة المدونة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأمثالهم من أئمة المذاهب المندرسة: كالأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان الثوري. الثانية: المجتهد المنتسب: وهو الذي وجدت فيه شروط الاجتهاد التي اتصف بها المجتهد المطلق المستقل، لكنه لم يبتكر لنفسه قواعد، بل سلك طريقة إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد فهو منتسب، ومن هؤلاء: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، وزفر بن الهذيل من الحنفية، وعبد الرحمن بن قاسم المصري، وأشهب بت عبد العزيز العامري من المالكية، وأبو بكر بن المنذر، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن جرير الطبري، ومحمد بن خزيمة من الشافعية، وعمر بن الحسين الخرقي، وأبو بكر أحمد بن محمد هارون المعروف بالخلال من الحنابلة. الثالثة: المجتهد المقيد أو مجتهد المذهب أو مجتهد التخريج أو أصحاب الوجوه: وهو أن يكون مقيداً في مذهب إمامه، مستقلاً بتقرير أصوله بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده، حيث يتمكن من فيه المستنبط من معرفة الأحكام في الوقائع التي لم يرد فيها نص عن إمام المذهب بطريق التخريج على النصوص أو القواعد المنقولة عن إمام المذهب.ويحدث التخريج أيضاً فيما إذا أفتى المجتهد في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين في وقتين، فيجوز نقل الحكم وتخريجه من كل واحدة منهما إلى الأخرى، ومن هؤلاء: الطحاوي من الحنفية، وابن أبي زيد من المالكية، والأنماطي، والاصطخري، وابن أبي هريرة، والقفال، والشاشي، وأبو العباس ابن سريج، وغيرهم من الشافعية. الرابعة: مجتهد الترجيح: قال عنه النووي: " ألا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه، لكنه فقيه النفس[24]، حافظ مذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، يصور، ويحرر، ويقرر، ويمهد، ويزيف، ويرجح.لكنه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب، أو الارتياض في الاستنباط، أو معرفة الأصول ونحوها من أدواتهم، وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه، وصنفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم "[25]، ومن هؤلاء: الماوردي، وأبو الطيب الطبري، وإمام الحرمين، والشيرازي، والروياني. الخامسة: مجتهد الفتيا: وهو الذي يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات، ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته، فهذا يعتمد نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه، من نصوص إمامه، وتفريع المجتهدين في مذهبه، وما لا يجده منقولاً إن وجد في المنقول معناه، بحيث يدرك بغير كبير فكر أنه لا فرق بينهما جاز عند ذلك إلحاقه به والفتوى به، وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط ممهد في المذهب، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى به[26]، وهذه المرتبة مثَّل لها العلماء بالرافعي والنووي. الاجتهاد الجزئي بين الحظر والإباحة: يقصد بالاجتهاد الجزئي أن المجتهد يجتهد في استنباط بعض الأحكام دون بعض، بمعنى أنه يستطيع الاجتهاد في مسألة معينة دون مسألة أخرى في نفس الباب، فهل يجوز ذلك أم لا؟[27]. اختلف العلماء والأصوليون في جوازه، قال الفتوحي: " الاجتهاد يتجزأ عند أصحابنا والأكثر، إذ لو لم يتجزأ لزم أن يكون المجتهد عالماً بجميع الجزئيات، وهو محال، إذ جميعها لا يحيط به بشر، ولا يلزم من العلم بجميع المآخذ العلم بجميع الأحكام؛ لأن بعض الأحكام قد يجهل بتعارض الأدلة فيه، أو بالعجز عن المبالغة في النظر إما لمانع من تشويش فكر أو غيره، وقيل: لا يتجزأ "[28]. والذي يظهر من أقوال أهل العلم جوازه، قال ابن القيم: " الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام، فيكون الرجل مجتهداً في نوع من العلم مقلداً في غيره، أو في باب من أبوابه. كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم، أو في باب الجهاد أو الحج أو غير ذلك.فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه، ولا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له الإفتاء بما لا يعلم في غيره. وهل له أن يفتي في النوع الذي اجتهد فيه؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها الجواز، بل هو الصواب المقطوع به، والثاني: المنع، والثالث: الجواز في الفرائض دون غيرها. فحجة الجواز: أنه قد عرف الحق بدليله، وقد بذل جهده في معرفة الصواب فحكمه في ذلك حكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع. وحجة المنع: تعلق أبواب الشرع وأحكامه بعضها ببعض، فالجهل ببعضها مظنة للتقصير في الباب والنوع الذي قد عرفه، ولا يخفى الارتباط بين كتاب النكاح والطلاق والعدة وكتاب الفرائض، وكذلك الارتباط بين كتاب الجهاد وما يتعلق به وكتاب الحدود والأقضية والأحكام، وكذلك عامة أبواب الفقه.. فإن قيل: فما تقولون فيمن بذل جهده في معرفة مسألة أو مسألتين، هل له أن يفتي بهما؟ قيل: نعم، يجوز في أصح القولين، وهما وجهان لأصحاب الإمام أحمد، وهل هذا إلا من التبليغ عن الله وعن رسوله، وجزى الله من أعان الإسلام ولو بشطر كلمةٍ خيراً، ومنع هذا من الإفتاء بما علم خطأ محض، وبالله التوفيق "[29]. بين مراتب الاجتهاد والدعوة: بالنظر إلى الدعاة العاملين في حقل الدعوة إلى الله، فإنه يتقرر لنا أن الداعية من حيث نوعه لا يخرج من إحدى الصور الآتية: الأولى: صورة المجتهد في إحدى مراتب الاجتهاد المتقدمة، وبناء على ذلك وجب أن تتحقق فيه الشروط والقيود والأوصاف التي وضعها العلماء لكل مرتبة من مراتب الاجتهاد. الثانية: صورة طالب العلم الذي يتمتع بمكنة البحث والنظر في المسائل والاطلاع على الأدلة وترجيح الصحيح من الضعيف مع إدراكه لوجوه الاستنباط بشكل عام.وهذا يحق له الاجتهاد في المسألة الدعوية إذا استفرغ فيها الوسع.وهذا النوع يدخل في إطار الاجتهاد الجزئي، وقد أقره جمهور العلماء كما سبق بيانه. الثالثة: أن يكون الداعية من غير طلبة العلم المتمكنين، ولكنه يمتلك معرفة عامة بالأحكام الشرعية، واطلاع على نصوص الشرع وأدلته مع ثقافة متنوعة حول معاني الإسلام المختلفة، فهؤلاء لهم أن يجتهدوا في تحقيق المناط العام أو الخاص. مجال الاجتهاد بناء على الصور الثلاثة: أما بالنسبة للمجتهد المطلق فقد حدد ابن القيم مجاله فقال: " ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً. فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دُبُرٍ إلى معرفة براءته وصدقه وكما توصل سليمان - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما)) إلى معرفة عين الأم. وكما توصل أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب لما أنكرته: "لتخرجن الكتاب أو لنجردنك" إلى استخراج الكتاب منها، وكما توصل الزبير بن العوام بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دلهم على كنز حيي لما ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله: ((المال كثير، والعهد أقرب من ذلك))، وكما توصل النعمان بن بشير بضرب المتهمين بالسرقة إلى ظهور المال المسروق عندهم، فإن ظهر وإلا ضرب من اتهمهم كما ضربهم، وأخبر أن هذا حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم. ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها ورسوله "[30]. وأما الصورة الثانية: المتعلقة بطلبة العلم المتمكنين ذوي الاجتهاد الجزئي فيقول فيهم الدكتور يوسف القرضاوي حيث يوضح بعض المجالات والوسائل المعاصرة التي تحقق هذا النوع من الاجتهاد، فيقول: "والمجال الثالث للاجتهاد هو: مجال البحث والدراسة، وهو يشمل ما يؤلف من كتب علمية أصيلة لذوي الاختصاص والمقدرة من العلماء، وما يقدم من بحوث ودراسات جادة في المؤتمرات العلمية المتخصصة، وما يقدم من رسائل وأطروحات في أقسام الدراسات العليا بالجامعات للحصول على درجة الماجستير أو الدكتوراه، وما يقدمه أساتذة الجامعات من إنتاج علمي للترقي في سلم الدرجات العلمية، وما ينشر من بحوث مخدومة في المجلات العلمية الرصينة. وهذه كلها مظنة الاجتهاد إذا توافر لها من أوتي الملكة، واستوفى الشروط العلمية وبخاصة ما كان من قبيل الاجتهاد الجزئي الذي لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الاجتهاد المطلق من النظر في كل أبواب الفقه ومسائله"[31]. وهذا معناه: أن لهم النظر في بعض أبواب العلم والفقه دون البعض بما أوتوا من ملكات ومؤهلات تخصصية تجعلهم قادرين على الغوص في باب دون غيره، هذا بالإضافة إلى قدرتهم على الاجتهاد الذي يضطلع من دونهم من الدعاة ويتناسب مع قدراتهم وملكاتهم العلمية؛ لأن هذا من باب أولى. وأما الصورة الثالثة: وهم الدعاة من غير طلبة العلم المتمكنين، فهؤلاء كما قدمنا لهم أن يجتهدوا في تحقيق المناط الخاص أو العام، بمعنى أنهم: أولاً: يجتهدون في تنزيل أحكام الشرع على واقعهم، وثانياً: يجتهدون في مدى مناسبة تقديم الأولى منها بحسب ظروف الزمان والمكان وتغير أحوال الناس والعوائد، وثالثاً: قد يكون لهم اجتهاد في مسائل الأمر والنهي عن المنكر، ومدى مناسبة تغيير هذه المنكرات وبأي الوسائل يحصل التغيير، ورابعاً: يجتهدون في اختيار أي من وسائل الدعوة أجدى وأنفع في تبيين أحكام الإسلام لمختلف أصناف المدعوين من الناس. وللموضوع بقية
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() نحو رؤية أصولية للواقع الدعوي المعاصر (1) د. فارس العزاوي ![]() لكن ما هو المقصود بتحقيق المناط؟ وللجواب على هذا التساؤل يلزمنا أن نقف على أقسام الاجتهاد من حيث علة الحكم وتعلقه به بحكم كون تحقيق المناط من أقسامه. والاجتهاد من هذه الحيثية ثلاثة أقسام: الأول: تخريج المناط: يقصد بتخريج المناط استخراج وصف مناسب يحكم عليه بأنه علة ذلك الحكم[32]، قال الطوفي في شرح مختصر الروضة: " التخريج: هو الاستخراج والاستنباط، وهو إضافة حكم لم يتعرض الشرع لعلته إلى وصف مناسب في نظر المجتهد بالسبر والتقسيم.. نحو: حرمت الخمر لإسكارها؛ لأنه الوصف المناسب لتحريمها، فالنبيذ حرام؛ لوجود الإسكار فيه، وحرم الربا في البر؛ لأنه مكيل جنس أو مطعوم جنس، فالأرز مثله، ويسمى تخريج المناط؛ لما ذكرناه من أنه استخراج علة الحكم بالاجتهاد.. وتحرير الكلام هاهنا أنا إذا رأينا الشارع قد نص على حكم ولم يتعرض لعلته، قلنا: هذا حكم حادث لا بد له بحق الأصل من سبب حادث، فيجتهد المجتهد في استخراج ذلك السبب من محل الحكم، فإذا ظفر بوصف مناسب له، واجتهد ولم يجد غيره، غلب على ظنه أن ذلك الوصف هو سبب ذلك الحكم "[33]. الثاني: تنقيح المناط: يراد بتنقيح المناط عند الأصوليين تهذيب علة الحكم، وقد ذهب الأصوليون في بيانه تعريفات متعددة، وهي وإن اختلفت في ألفاظها إلا أن مؤداها واحد، فالبيضاوي يرى أن تنقيح المناط عبارة عن إلغاء الفارق، والإسنوي يرى أن تنقيح مناط العلة أن يبين المستدل إلغاء الفارق بين الأصل والفرع، وحينئذ يلزم اشتراكهما في الحكم، وهذا المسلك ذهب إليه كثير من الأصوليين. وأما المسلك الآخر فقد ذهب الآمدي إلى أن تنقيح المناط هو النظر والاجتهاد في تعيين ما دل النص على كونه علة من غير تعيين بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف كل واحد بطريقة، وهذا يعني أن حاصل تنقيح المناط بمسلكيه المذكورين يرجع إلى الاجتهاد في حذف بعض الأوصاف وعدم اعتبارها، وتعيين البعض الآخر المستفاد ممن نص على الحذف في تعريفه لتنقيح المناط[34]. ومثاله الذي اعتاد الأصوليون التمثيل به ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قوله: بينما نحن جلوس عند - صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: ((ما لك)). قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تجد رقبة تعتقها؟)). قال: لا. قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)). قال: لا. فقال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟)). قال: لا. قال: فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر، والعرق المكتل، قال: ((أين السائل؟)). فقال: أنا. قال: ((خذ هذا فتصدق به)). فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها، يريد الحرتين، أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه ثم قال: ((أطعمه أهلك))[35]. والطريقة التي يسلكها الأصوليون في هذا المثال هي أن المجتهد قد عرف من خلال علمه بالشريعة أن مناط الحكم - أي علة وجوب الكفارة على ذلك الأعرابي - هو وقاع مكلف في نهار رمضان، وعرف أن الحكم مضاف إلى هذه العلة - أي سبب وجوب الكفارة، واقترن بذلك بعض الأوصاف، وقد عرف المجتهد باجتهاده أنها لا مدخل لها في العلية؛ لعدم صلاحيتها للتعليل، وهي: أولاً: كون الآتي موصوفاً بأنها أعرابي. ثانياً: كونه قد وطأ في رمضان من الرمضانات التي عاشها النبي - صلى الله عليه وسلم -.ثالثاً: كونه قد وطأ امرأته.وبناء على أن مناط الحكم هو وقاع مكلف في نهار رمضان، ظهر للمجتهد أن هذه الأوصاف لا أثر لها في الحكم؛ لعدم مناسبتها للتعليل بها[36]. الثالث: تحقيق المناط: يعرف تحقيق المناط تعريفين، الأول: أن تكون القاعدة الكلية متفقاً عليها أو منصوصاً عليها، ويجتهد في تحقيقها في الفرع، وهذا لا خلاف فيه، والثاني: ما عرف علة الحكم فيه بنص أو إجماع، فيبين المجتهد وجودها في الفرع باجتهاده وهذا يتعلق بباب القياس، أما الأول فلا دخل له بباب القياس؛ لأنه متفق عليه، وهذا من ضرورة كل شريعة، وأما القياس فإنه مختلف فيه[37]. ويزيد الشاطبي هذا الأمر وضوحاً فيقول: "الاجتهاد على ضربين: أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة.والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا.فأما الأول: فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله، وذلك أن الشارع إذا قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [38]. وثبت عندنا معنى العدالة شرعاً افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة، وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء، بل ذلك يختلف اختلافاً متبايناً، فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة: طرف أعلى من العدالة لا إشكال فيه، كأبي بكر الصديق.وطرف آخر: وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف، كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام، فضلاً عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها، وبينهما مراتب لا تنحصر، وهذا الوسط غامض، لا بد فيه من بلوغ حد الوسع، وهو الاجتهاد "[39]. وتحقيق المناط بهذا المعنى عند النظر المحقق إليه يظهر لنا أنه لا يخص العلماء المجتهدين بل يشارك فيه غير المجتهد من بقية الأصناف كطالب العلم والداعية بل نص الشاطبي على أن العامي له اجتهاده في هذا النوع، والمثال الذي ضربه يظهر لنا حقيقة ذلك، ووجهه أن العدالة بعد أن قررت النصوص الشرعية أوصافها احتيج إلى تنزيلها على الواقع بين المعينين، وهذا التنزيل لا يحتاج إلى نظر شرعي واجتهاد وقياس، بل يكفي التحقق من وجود هذه الأوصاف في المعين، ألا ترى أن المرء يسأل عن غيره ممن يعرفه في شأن ما فإنه يستطيع توصيفه بما يثبت عدالته أو نفيها دون أن تكون لدية الملكة الفقهية أو الشرعية، ولذلك يقول الشاطبي في هذا السياق بعد أن بين حاجة كل ناظر وحاكم ومفت إلى هذا النوع من الاجتهاد: "بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه، فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهواً من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة، وإن كانت كثيرة فلا، فوقعت له في صلاته زيادة، فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين، ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر، فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه.وكذلك سائر تكليفاته..وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون، وكله اجتهاد"[40]. فثبت أن هذا الاجتهاد يشترك فيه المجتهد وغيره بحسب حاله من جهة العلم وبحسب الواقعة المجتهد فيها، ولعل من الأمثلة التي تدل على تحقيق المناط بهذا المعنى بالإضافة إلى ما تقدم الحديث عنه حول عدالة الشهود: الاجتهاد في استقبال القبلة بالدلائل فهذا ليس محصوراً بمراتب المجتهدين ممن تقدمت أوصافهم بل يشاركهم في ذلك أيضاً من هو دونهم في مرتبة العلم والدعوة، فيستطيع التحقق من القبلة وإن كان يوصف بكونه مقلداً، ومثل ذلك الوصية للفقراء، فالوصية بعد معرفة عوارضها الشرعية وأحكامها التكليفية ينظر في الواقع لتحقق وصف الفقر في المعينين، وهذا شأن من يعرف التمييز بين الغني والفقير، ويعتبر العرف حاكماً في هذه القضية، فينظر المجتهد أياً كان وصفه في تحقيق مناطه. ومن أجل الاقتراب أكثر من موضوع بحثنا فإن الاجتهاد في هذا الإطار يظهر جلياً في وسائل الدعوة إلى الله وأساليبها، حيث يسع المجتهدين وغيرهم الاجتهاد في الابتكار والاختراع لكل وسيلة وسبيل يصب في مصلحة الدعوة؛ ذلك أن وسائل الدعوة على الراجح توفيقية اجتهادية وليست توقيفية، طالما أنها كانت منضبطة بالضوابط الشرعية التي وضعها العلماء[41]. وهي داخلة من حيث الجملة في قاعدة: الوسائل لها أحكام المقاصد، والحق أن فتح المجال أمام الاجتهاد الدعوي يفضي إلى تحقيق مصالح عظيمة، إذ يمثل هذا الاجتهاد الطريق لتجديد الفقه، والسبيل لعلاج المستجدات الدعوية، من خلال النظر في القواعد الفقهية والأصولية مثل: قاعدة لا ضرر ولا ضرار، والمشقة تجلب التيسير، وقاعدة سد الذرائع، واعتبار المآلات، وغيرها، لكن يبقى النظر فيما قلنا سابقاً إن أرباب الصورة الثالثة لهم أن يجتهدوا في تحقيق المناط العام أو الخاص، وهو تقرير مشكل لدى قارئه أو المطلع عليه، ولنا أن نقف في هذا السياق على ما قرره الشاطبي في موافقاته إذ يقول: " تحقيق المناط على قسمين: تحقيق عام، وهو ما ذكر، وتحقيق خاص من ذلك العام. وذلك أن الأول نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما، فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلاً ووجد هذا الشخص متصفاً بها على حسب ما ظهر له، أوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول، من الشهادات والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة، وهكذا إذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية، والأمور الإباحية، ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة، أوقع عليهم أحكام تلك النصوص، كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء، غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة، فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر.أما الثاني: وهو النظر الخاص فأعلى من هذا وأدق، وهو في الحقيقة ناشئ عن نتيجة التقوى.. وعلى الجملة: فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل..."[42]. ـــــــــــــــــ [1] ص، آية 29. [2] النساء، آية 83. [3] تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، ج5ص140. [4] الأنبياء، آية 7. [5] التوبة، آية 122. [6] الأنفال، آية 46. [7] تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ج10ص28. [8] ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة مذهب مالك، القاضي عياض، ج1ص95. [9] يوسف، آية 108. [10] فصلت، آية 33. [11] تفسير القاسمي، محمد جمال الدين القاسمي، ج8ص338. [12] مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د.عبد الكريم بكار، ص7. [13] كيف ندعو الناس؟، محمد قطب، ص5. [14] أخرجه أبو داود، أول كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على أهل الإسلام، رقم 4297. [15] أساليب الدعوة الإسلامية المعاصرة، حمد بن ناصر العمار، ص7. [16] البحر المحيط في أصول الفقه، بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي، ج6ص197. [17] المستصفى من علم الأصول، أبو حامد الغزالي، ج4ص5. [18] الإحكام في أصول الأحكام، علي بن محمد الآمدي، ج4ص198.وقريب منها في كتابه: منتهى السول في علم الأصول، ص246. [19] الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، ص734. [20] المستصفى، مرجع سابق، ج4ص6، المحصول في علم أصول الفقه، فخر الدين الرازي، ج6ص24، البحر المحيط في أصول الفقه، مرجع سابق، ج6ص199، روضة الناظر وجنة المناظر، ابن قدامة المقدسي، ص352، الجامع لمسائل أصول الفقه، د.عبد الكريم بن علي النملة، ص399. [21] أصول الفقه الإسلامي، د.وهبة الزحيلي، ص1079. [22] الفتوى: نشأتها وتطورها ـ أصولها وتطبيقاتها، د.حسين محمد الملاح، ج1ص340-342. [23] أصول الفقه الإسلامي، د.وهبة الزحيلي، مرجع سابق، ص1079 فما بعدها، الاجتهاد وأنواع المجتهدين، د.محمد حسن هيتو، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الكويت، العدد الرابع، 1406هـ/1985م.وانظر تقسيماً لمراتب المجتهدين كذلك في المجموع للنووي ج1ص642، وإعلام الموقعين لابن القيم ج4ص212، وقد جعلها مراتب للمفتين. [24] فقه النفس هو أن يبلغ الإنسان مرحلة من الفهم للنصوص، ودفة الاستنباط منها، وحضور البديهة فيها، والقدرة على التمييز بين المتشابه من الفروع، بإبداء الفروق والموانع، والجمع بينها بالعلل والأشباه والنظائر، بحيث تصبح هذه الأمور ملكة قائمة في نفسه، لا يحتاج معها إلى جهد في الوصول إليها. انظر: الاجتهاد وأنواع المجتهدين، مرجع سابق، ص229. [25] المجموع شرح المهذب، محي الدين النووي، ج1ص646. [26] المرجع السابق، ج1ص647. [27] إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر، د.عبد الكريم بن علي النملة، ج8ص30. [28] شرح الكوكب المنير، ابن النجار الفتوحي، ج4ص473. [29] إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق، ج4ص216. [30] إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق، ج1ص87-88. [31] الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مع نظرات تحليلية في الاجتهاد المعاصر، د.يوسف القرضاوي، ص137. [32] شرح الكوكب المنير، مرجع سابق، ج4ص202. [33] شرح مختصر الروضة، نجم الدين الطوفي، ج3ص242. [34] مباحث العلة في القياس عند الأصوليين، د.عبد الحكيم عبد الرحمن السعدي، ص508. [35] أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر، رقم 1834. [36] إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر، مرجع سابق، ج7ص53. [37] روضة الناظر، مرجع سابق، ص277. [38] الطلاق، آية 2. [39] الموافقات، مرجع سابق، ص725. [40] المرجع السابق، ص726. [41] الوسائل وأحكامها في الشريعة الإسلامية، د.عبد الله التهامي، مجلة البيان، العدد 106، 1417هـ/1996م، ص8. [42] الموافقات، مرجع سابق، ص727. ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() نحو رؤية أصولية للواقع الدعوي المعاصر (2) د. فارس العزاوي ![]() المبحث الثاني ارتباط الدعوة بالمصلحة الشرعية الأصل الذي يمثل منطلقًا لارتباط الدعوة بالمصلحة الشرعية هي أن الشريعة إنما وضعت كما يقول الشاطبي: "لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا "[1]. وكما يقول ابن القيم: "الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل"[2]. وبحكم كون الدعوة من جنس أحكام الشريعة كما أسلفنا لذلك هي مرتبطة بتحقيق مصالح العباد جلبًا لها ودرءًا للمفاسد عنهم.وحري بنا ونحن في سياق تأصيل للمفاهيم أن نؤصل لمفهوم المصلحة؛ لنقف على حقيقة الارتباط بينه وبين مفهوم الدعوة. مفهوم المصلحة: يدور لفظ المصلحة حول إقامة الشيء بعد فساده، والإحسان، وتعهد الشيء، والسلم، والكثرة[3]، ولو نظرنا إلى هذه المعاني التي دل عليها لفظ المصلحة نظرة فاحصة لوجدنا أن الجامع لها هو النفع. وأما في الاصطلاح فقد حاول الكثير من العلماء تعريف المصلحة تعريفًا جامعًا مانعًا، ومن أبرزهم الغزالي - رحمه الله - إذ عرفها بقوله: "أما المصلحة فهي عبارة - في الأصل - عن جلب منفعة أو دفع مضرة.ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع. ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم.فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة "[4]. وعرفها ابن قدامة بمثل تعريف الغزالي بقوله: "المصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة"[5]. وعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية بأنها: "أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة"[6]. وهذه المنفعة التي قصد الشارع جلبها إما أن تكون نفس مقصود الشارع أو ما كان سببًا مؤديًا إليه، ودفع ما يفوت هذه الأصول أو يخل بها، أو ما كان سببًا مؤديًا إلى دفع ذلك[7]. وقد عاب بعض الباحثين على تعريف الغزالي قصره المصلحة على حفظ المقاصد الضرورية[8] مع أن وسائل مقصود الشارع ليست مقصورة عليها، بل هناك وسائل مؤدية للمقصود غير الضروري[9]، قاصدًا الحاجي والتحسيني، ويظهر للباحث أن هذا النقد لا يسلم؛ وسبب ذلك أن حفظ الضروري يستلزم حفظ الحاجي[10] والتحسيني[11] كما هو معلوم من قواعد المقاصد[12]. وقد عرف المصلحة بعضُ المعاصرين تعريفًا جيدًا يشمل الضروري وغيره بقوله: "المصلحة هي الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلب منفعة أو درء مفسدة عنهم"[13]. وعرَّفها الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بقوله: "والمصلحة فيما اصطلح عليه علماء الشريعة الإسلامية يمكن أن تعرف بما يلي (المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم، وأموالهم، طبق ترتيب معين فيما بينها)"[14]. أقسام المصالح بحسب الاعتبار وعدمه[15]: المصالح من حيث شهادة الشرع لها بالاعتبار[16] أو الإلغاء أو السكوت عن الاعتبار والإلغاء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: المصلحة المعتبرة: وهي المصلحة التي اعتبرها الشارع وجاءت الأدلة بطلبها من الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس، ورتب عليها أحكامًا لتحقيقها ومراعاتها من أجل المحافظة على مقصود الشرع في جلب المصالح أو دفع المفاسد والمضار، وهذا القسم حجة لا إشكال في صحته، ويرجع حاصله إلى القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص أو الإجماع. ![]() ومثالها[17]: حفظ العقل، فإنه مصلحة اعتبرها الشارع، فرتب عليها تحريم الخمر حفظًا لها، فيقاس على الخمر في التحريم كل ما أسكر من مشروب أو مأكول، حفظًا لهذه المصلحة.وكذلك حفظ النفس، فإنه مصلحة اعتبرها الشارع، فرتب عليها وجوب القصاص في القتل بالمحدد، وجعل لانضباط ذلك أوصافًا، وهو أن يكون القتل عمدًا عدوانًا، فيقاس على القتل بالمحدد في وجوب القصاص، القتل بالمثقل، بجامع القتل العمد العدوان، حفظًا لمصلحة حفظ النفس. الثاني: المصلحة الملغاة: وهي المصلحة التي ألغاها الشارع فلم يعتبرها، وإن رآها العبد مصلحة في نظره، لأنها مصالح من حيث الظاهر، وتخفي وراءها أضرارًا ومفاسد ومخاطر دينية واجتماعية وغيرها، وهذا القسم ليس بحجة؛ بل إن هذا النوع من المصلحة مما اتفق على إبطاله وامتناع التمسك به؛ إذ المصلحة لا تقتضي الحكم بنفسها على وجه يستقل العقل باعتبارها مصلحة مجردة عن عرضها على الشرع ليشهد لها أو يردها. فإذا كان الشرع يشهد بإلغائها فلا شك في إبطالها؛ لأن في اعتبارها مخالفة لنصوص الشرع بالمصلحة، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها. ومثالها: ما حكاه الشاطبي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين. فلما خرج راجعه الفقهاء وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم، والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيدًا غير محصورين؟ فقال لهم: لو قلت له: عليك إعتاق رقبة لاستحقر ذلك وأعتق عبيدًا مرارًا، فلا يزجره إعتاقُ الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين. فهذا المعنى مناسب؛ لأن الكفارة، مقصود الشارع منها: الزجر، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام. وهذه الفُتيا باطلة؛ لأن العلماء بين قائلَيْن: قائلٌ بالتخيير، وقائلٌ بالترتيب، فيُقدَّم العتق على الصيام، فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغنيِّ لا قائل به[18]. ![]() ومثالها أيضًا: الربا فإن فيه مصلحة ظاهرية آنية للمقرض بالفائدة وللمستقرض بالاستفادة من المال، ومثل قتل المريض اليائس من الشفاء، وشرب المسكرات للنشوة، أو المخدرات للتأمل الخيالي والهرب من الواقع، ففي كل منها مصلحة، ولكنها تنطوي على الشر والفساد، وتخفي في طياتها الضرر والخراب، فنص الشارع على إلغاء المصلحة فيها وعدم اعتبارها[19]. ومثالها أيضًا: ما يظن البعض من أن المصلحة تقضي بمساواة الأنثى للذكر في الميراث، إذا كانا أخوين شقيقين، فهذه مصلحة متوهمة ألغى الشارع اعتبارها بما شرعه من أن للذكر مثل حظ الأنثيين، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}[20]، ولا خلاف بين الفقهاء أن المصالح الملغاة لا يصح بناء الأحكام عليها[21]. الثالث: المصلحة المرسلة: وهي المصلحة المسكوت عنها؛ حيث لم يشهد لها الشارع بالاعتبار ولا بالإلغاء. وقد وردت فيها عدة تعريفات عند العلماء: فعرفها الغزالي بقوله: "ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين"[22]. وعرفها الشاطبي بقوله: "ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه"[23]. وعرفها الشنقيطي بقوله: "أن لا يشهد الشرع لاعتبار تلك المصلحة بدليل خاص ولا لإلغائها بدليل خاص"[24]. وهي تعريفات عند التحقيق نجدها متقاربة ومتفقة من حيث المعنى. والصحيح الذي عليه جماهير العلماء: أن المصلحة المرسلة حجة معتبرة، وهي في حقيقتها مندرجة ضمن مقاصد الشريعة، وهي وإن لم ينص على اعتبارها دليل خاص، إلا أن الاستقراء التام لنصوص الشرع يدل على قيام الشريعة كلها على جلب المصالح واعتبارها، ودرء المفاسد وإلغائها أو تخفيفها. وقد قرَّر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الشريعة: "جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما"[25]. ويُعضِّد هذا فعل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث جروا على رعاية المصالح وبناء الأحكام عليها، قال الشنقيطي: "فالحاصل أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يتعلقون بالمصالح المرسلة التي لم يدل دليل على إلغائها، ولم تعارضها مفسدة راجحة أو مساوية.وأن جميع المذاهب يتعلق أهلها بالمصالح المرسلة، وإن زعموا التباعد منها.ومن تتبع وقائع الصحابة وفروع المذاهب علم صحة ذلك"[26]. وقد أبرز العلماءُ الأمثلة التي تدل على مشروعية الأخذ بهذا النوع من المصالح، ومنها: جمع صحف القرآن في مصحف واحد وجمع المسلمين عليه، وتضمين الصناع، وقتل الجماعة بالواحد، وتعريف الإبل الضالة، ومنع صرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم، وحد شارب الخمر ثمانين، وغير ذلك. ![]() ولو تأملنا المصالح الدعوية ونحن في سياق ربطها بالمصلحة الشرعية، فإننا نجد أن المصلحة الدعوية لها تعلق بأنواع المصالح الثلاثة، لذلك يسري عليها الحكم الذي يسري على تلكم المصالح من حيث الاعتبار وعدمه، والمصلحة الدعوية المرتبطة بالمصلحة المعتبرة التي شهد لها الشارع بالاعتبار لا إشكال فيها من حيث اعتبارها فإنها مجمع عليها؛ كونها منصوصًا عليها أو مستندة على القياس المعتبر الذي يكون اقتباس الحكم فيه من معقول النص أو الإجماع. أما بالنسبة للمصلحة الدعوية ذات الارتباط بالمصالح المرسلة فالواقع أن المصالح الدعوية ألصق بالمصالح المرسلة منها بغيرها. ووجه هذا التقرير: أن تلكم المصالح تحتاج إلى استحداث الوسائل المعينة على تبليغ الدعوة ونشرها طالما أنها تصب في المصلحة المقصودة، واعتبار مثل هذه المصالح الدعوية يؤكد مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان. ولذلك يقول الآمدي في إحكامه: "لو لم تكن المصلحة المرسلة حجة أفضى ذلك أيضًا إلى خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية لعدم وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها"[27]. وبناء على ذلك نعرف أن المصلحة الدعوية إذا لم يشهد لها الشارع باعتبار أو بإلغاء فهي من قبيل المصلحة المرسلة شرعًا، واعتبارها حجة أمر مقرر عند العلماء، وذلك لقيام الشريعة كلها على جلب المصالح ودرء المفاسد، فما يراه الدعاة من أمور الدعوة وقضاياها فيه مصلحة كان حكمه الاعتبار، وما رأوا فيه مفسدة كان حكمه الإلغاء والرد. وهذه الحكم يحتاج إلى الوقوف على ضوابط هذا النوع المصالح خشية تلبُّسه بالأهواء، ومداخل النفس الأمارة بالسوء، لذلك نظر الدعاة في هذه المصالح لا بُدَّ أن يكون نظرًا شرعيًا، وهذا مرجعُهُ نوعيةُ الداعية، فإن كان من المجتهدين استندَ على اجتهاده في انضباطِ المصلحة بالشرع وقواعده، وإن كان من غيرهم استعان بالعلماء في معرفة المصلحة المعتبرة من غيرها من خلال ضوابطها الشرعية. ![]() ضوابط المصلحة الدعوية: يكتسب الحديث عن ضوابط المصلحة الدعوية والقيود الواجب استحضارها في مراعاتها واعتبارها أهمية بالغة كون الضوابط في منزلة المصلحة من حيث الأهمية؛ إذ يشكل افتقار المصلحة إلى ضوابطها وشروطها في حكم انعدامها واختلالها واضطرابها، وهو يؤدي إلى عكس المقصود ونقيض المراد، فالمصلحة تتلازم مع ضابطها وشرطها فتوجد بوجوده، وتنتفي بانتفائه، فهما يدوران معًا من حيث البقاء والانتهاء[28]. ولذلك كان لزامًا بيان تلكم الضوابط، وتحديدها وتعيينها؛ لتكون إطارًا محدَّدًا للمصلحة الدعوية: أولاً: اندراجها في مقاصد الشريعة: ومقاصد الشريعة المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها؛ بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضًا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها[29]. أو هي المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، والمترتبة عليها، سواء أكانت تلك المعاني حكمًا جزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية، وهي تتجمَّع ضمن هدف واحد، هو: تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين[30]. ومعنى أن تكون مندرجة في مقاصد الشرع: أن تكون حافظة ومحققة لمقاصد الشارع الخمسة وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة[31]. والأدلة على هذا الضابط متعددة متوافرة، من ذلك: قوله - تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[32]، وقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[33]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[34]، وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[35]. ![]() ثانيًا: عدم معارضتها لنصوص الوحي: ومقتضى ذلك: ألا تكون المصلحة المُتوخَّاة مصلحة موهومة، كأن تعارض نصًّا قاطعًا، أو ظاهرًا جليًّا أو غير جليٍّ، أما إذا كان النص قطعي الدلالة، فلا وجه لمعارضة المصلحة له؛ لأنها تكون عند ذلك مظنونة محتملة. ومعلوم مما هو ثابت في أصول الاستدلال والتعارض والترجيح أن الاجتهاد في الترجيح إنما هو فرع لصحة التعارض بين دليلين، والدليل الظني لا يعارض القطعي بحال[36]. وأما إذا كان الدليل ظنيًا دالاًّ على أكثر من معنى، فإن المتعين في الترجيح إنما يكون بتعيين إحدى دلالاته إذا كانت مناسبة لمقصود الخطاب، وهنا لا تكون المصلحة معارضة للنص إذا كان مدخل في ترجيح إحدى دلالات النص، وإنما المعارضة للنص الظني تكمن في جعل المصلحة معارضة لكل دلالات النص الظني، وعند ذلك تصبح معارضة المصلحة للنص الظني بهذه الصورة كمعارضتها للنص القطعي[37]. وقد تضافرت لهذا الضابط جملة من الأدلة الشرعية الصريحة والظاهرة، منها: قوله - تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[38]، وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[39]. ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام: ((إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسَّكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدًا))[40]. ثالثًا: عدم معارضتها للإجماع: الإجماع يعتبر حجة شرعية في إثبات الأحكام، وهو دليل يلي النصوص في القوة والاحتجاج؛ لأنه يستند إلى دليل شرعي وإن لم يصلنا هذا الدليل، وإنما وصلنا الحكم المستنبط منه، لذلك ذهب جمهور العلماء إلى أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل بها[41]. قال الخطيب البغدادي: "إجماعُ أهل الاجتهاد في كل عصر، حجة من حجج الشرع ودليل من أدلة الأحكام، مقطوع على مغيبه، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ "[42]. وهذا ما دلت عليه أدلة الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم المعتبرين، والإجماع إما أن يكون قطعيًا، وإما أن يكون ظنيًا، فالقطعي كالإجماع على العبادات والمقدرات، وعلى نحو تحريم الجدة كالأم، وتحريم الجمع بين المرأة وخالتها، وتحريم شحم الخنزير، وتوريث الجدة للأب مع الجدة للام وغيرها. فهذا النوع من الإجماع لا يتغير بالمصلحة حتى وإن ظهرت مشروعيتها، فالمصلحة المعارضة للإجماع القطعي ليست مصلحة معتبرة، ولا يمكن وصفها بأنها قطعية؛ لأن هذا التوصيف يفضي بنا إلى التعارض بين القطعيات وهذا محال، فلا يعدو الأمر كونه دعوى القطع لمصلحة موهومة. أما الإجماع الظني الذي يكون مقتضاه أحكامًا متغيرة بتغير الزمان والمكان والحال، فهذا يمكن أن تتغير صورته بموجب المصلحة الحادثة؛ كونه في أصله قائمًا على مصلحة ظرفية ناسبت إنشائه، أما مع تغيرها فلا وجه لثباته، والواقع أن التعارض هنا بين الإجماع المبني على المصلحة الظرفية وبين المصلحة الحادثة هو في حقيقته تعارض بين مصلحتين، فينظر عند ذلك أيهما أرجح[43]. ![]() رابعًا: عدم معارضتها للقياس: القياس: هو مراعاة مصلحة في فرع، بناءً على مساواته لأصل في علة حكمه المنصوص عليه، فالقياس إذًا فيه مراعاة لمطلق المصلحة، ويزيد عليها ذكر العلة التي بنى عليها الحكم وتمت تعديتها إلى الفرع[44]. والعلة حتى تكون صحيحة يمكن الاستناد عليها في تعدية الحكم وتسوية الفرع بالأصل في حكمه، لا بد أن تكون مناسبة للحكم، والمناسبة يقصد بها أن يكون الحكم مقترنًا بوصف مناسب لبناء الحكم عليه، فيجعل هذا الوصف علة لهذا الحكم؛ لاشتمال هذا الوصف على علة مصلحة معتبرة[45]. والمناسب تختلف درجاته ومراتبه باختلاف اعتباره أو إلغائه شرعًا، إذ هناك وصف اعتبره الشارع، ووصف ألغاه، ووصف لم يعتبره ولم يلغه، وفي الحالة التي يكون فيها الوصف معتبرًا عند الشارع، فإن التعبير عنه يكون متعدد الوجوه، فتارة يكون الوصف المناسب منصوصًا عليه تصريحًا أو إيماء، وتارة يكون بالوصف المناسب بالتنصيص على جنسه أو نوعه. والمقصد من بيان هذه التقسيمات للمناسب معرفة المقبول من غيره، وإجراء القياس، والترجيح بين الأقيسة والمصالح عند تعارضها، وإبراز تفاوت المصالح في منظور الشارع بتفاوت الاعتبار الشرعي لها قوة وضعفًا[46]. ولذلك إذا كانت المصلحة على سبيل المثال ذات الوصف المرسل معارضة لقياس مبني على وصف مؤثر أو ملائم، فتكون المصلحة هنا مطروحة لتعارضها مع قياس صحيح. خامسًا: عدم تفويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها: يقول ابن عاشور: "الشريعة تسعى إلى تحقيق المقاصد في عموم طبقات الأمة بدون حرج ولا مشقة، فتجمع بين مناحي مقاصدها في التكاليف والقوانين مهما تيسر الجمع. فهي تترقَّى بالأمة من الأدون من نواحي تلك المقاصد إلى الأعلى، بمقدار ما تسمح به الأحوال ويتيسر حصوله، وإلا فهي تتنازل من الأصعب إلى الذي يليه مما فيه تعليق الأهم من المقاصد "[47]. من هنا فإن الشريعة راعت بما وضعته من أوامر ونواهي حفظ مقاصد الخلق ومصالحهم، وهي متنوعة ومتعددة بحسب اعتباراتها المصلحية، فباعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى الكليات الخمس المشهورة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ويتفرع من كل كلية ما هو ضروري وحاجي وتحسيني، وما مكمل لها، وباعتبار عمومها وخصوصها تكون المصلحة خاصة أو عامة، وباعتبار القطع والظن تكون حقيقية أو وهمية، وتكون قطعية أو ظنية، وباعتبار شهادة الشارع وعدمها تكون معتبرة وملغاة ومرسلة. وبهذه الاعتبارات تتحدد المصالح وتترجح عند التعارض إذا تعلقت بمحل واحد، فيقدم حفظ الدين على النفس، وحفظ النفس على حفظ العقل وهكذا، ويقدم ما هو ضروري على ما هو حاجي، وما هو حاجي على ما هو تحسيني، ويقدم ما هو عام على ما هو خاص، وما هو قطعي على ما هو ظني، وما هو ظني على ما هو وهمي[48]. ولا شك أن هذا الباب من أكثر أبواب الشريعة أهمية، فقد ذكر ابن تيمية أنه فصلٌ عظيمٌ ينبغي الاهتمام به؛ لأن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، فعند اجتماع المصالح والمفاسد والمنافع والمضار وتعارضها، يحتاج إلى الفرقان[49]. ويقول: "الحكيم هو الذي يُقدِّمُ أعلى المصلحتين، ويدفع أعظم المفسدتين"[50]. وبناءً على ذلك فإن اعتبار المصالح والنظر إليها لا يكون إلا إذا روعي عدم معارضتها لمصلحة أهم منها أو مساويًا لها. ![]() سادسًا: النظر في المصالح من حيث الأصل إنما وهو وظيفة العلماء والفقهاء: يقول ابن عاشور: "ليس كل مُكلَّفٍ بحاجةٍ إلى معرفة مقاصد الشريعة، فحقُّ العامِّيِّ أن يتلقَّى الشريعة بدون معرفة المقصد؛ لأنه لا يحسن ضبطه ولا تنزيله، وإذا كانت بعض معاني الشريعة ظاهرة بينة، والمصلحة فيها قطعية لا خلاف فيها بين العلماء مهما اختلفت الظروف والأحوال والأزمنة والأمكنة - كسائر القطعيات في الشريعة. فإن هناك من المعاني ما يتردد بين كونه صلاحًا تارة وفسادًا تارة أخرى، فهذه لا تصلح لاعتبارها مقاصد شرعية على الإطلاق، ولا لعدم اعتبارها كذلك، بل المقصد الشرعي أن توكل إلى نظر علماء الأمة وولاة الأمور الأمناء على مصالحها من أهل الحل والعقد، لتعيين الوصف الجدير بالاعتبار في أحد الأحوال دون غيره صلاحًا أو فسادًا "[51]. وقد كان هذا النهج سبيلاً لكبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث كان أبو بكر - رضي الله عنه - يجمع رؤوس الناس ويستشيرهم فإذا اجتمع أمرهم على أمر قضى به، ومثله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي إذا أعياه إيجاد الحكم في الكتاب والسنة سأل: هل كان أبو بكر قد قضى به قضاء، فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به، وإلا جمع علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به. ــــــــــــــــ [1] المرجع السابق، ص200. [2] إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق، ج3ص3. [3] تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي، ج6ص547. [4] المستصفى من علم الأصول، مرجع سابق، ج2ص481. [5] روضة الناظر، مرجع سابق، ص169. [6] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج11ص342. [7] العمل بالمصلحة، د.عبد العزيز بن عبد الرحمن الربيعة، بحث منشور في مجلة أضواء الشريعة، كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد 10، 1399هـ، ص91. [8] وهي المقاصد التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا اختلت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين. انظر: الموافقات، مرجع سابق، ص202. [9] السياسة الشرعية ومفهوم السياسة الحديث، د.محي الدين محمد قاسم، ص135. [10] الحاجيات يعرفها الشاطبي بقوله: " فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع، دخل على المكلفين ـ على الجملة ـ الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة ". انظر: الموافقات، مرجع سابق، ص203. [11] التحسينيات هي الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق. انظر: الموافقات، مرجع سابق، ص203. [12] الموافقات، مرجع سابق، ص206، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، د.عبد الرحمن إبراهيم الكيلاني، ص230. [13] أصول مذهب الإمام أحمد د.عبد الله بن عبد المحسن التركي، ص459. [14] ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، د.محمد سعيد رمضان البوطي، ص27. [15] انظر: الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، مرجع سابق، ج3 ص311، روضة الناظر، مرجع سابق، ص169، المستصفى، مرجع سابق، ج2ص478، البحر المحيط، مرجع سابق، ج5ص213، المحصول في أصول الفقه، مرجع سابق، ج5ص163، الاعتصام، الشاطبي، ج2 ص113، ضوابط المصلحة، مرجع سابق، ص194، الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، د.محمد مصطفى الزحيلي، ص253، الجامع لمسائل أصول الفقه، مرجع سابق، ص388، معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، محمد بن حسين الجيزاني، ص242، مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، يوسف البدوي، ص351، السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د.يوسف القرضاوي، ص77، أضواء على الأصول العشرين للإمام حسن البنا، عصام أحمد البشير، ص96، العمل بالمصلحة، د.عبد العزيز الربيعة، مرجع سابق، ص86، المصلحة عند الحنابلة، سعد بن ناصر الشثري، ص275، بحث منشور في مجلة البحوث الإسلامية، إصدار رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، العدد 47. [16] ذهب بعض أهل العلم إلى أن استخدام لفظ ( اعتبار ) يعد خطأ شائعًا من أخطاء الكتابة في عهد الآمدي، وصوابه لفظ ( عدّ )، إذ ليس من معاني ( اعتبر ) لفظ: عدّ، وهو ما جعل المعجم الوسيط يعدها مولدة.انظر: كل بدعة ضلالة، محمد المنتصر الريسوني، ص232. [17] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص92، المصلحة عند الحنابلة، مرجع سابق، ص293. [18] الاعتصام، مرجع سابق، ج2ص113. [19] الوجيز في أصول الفقه، د.وهبة الزحيلي، ص254. [20] النساء، آية 11. [21] نظرات في الشريعة، عبد الكريم زيدان، ص274. [22] المستصفى، مرجع سابق، ج2ص481. [23] الاعتصام، مرجع سابق، ج2ص114. [24] مذكرة في أصول الفقه، الشنقيطي، ص202. [25] مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج20ص48. [26] المصالح المرسلة، الشنقيطي، ص21. [27] الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، مرجع سابق، ج4ص36. [28] الاجتهاد المقاصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته، د.نور الدين بن مختار الخادمي، ج2ص19. [29] مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، ص165. [30] علم المقاصد الشرعية، د.نور الدين مختار الخادمي، ص17. [31] ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص110. [32] الذاريات، آية 56. [33] القصص، آية 77. [34] الأنبياء، آية 107. [35] البقرة، آية 179. [36] ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص120. [37] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ج2ص38. [38] النساء، آية 59. [39] المائدة، آية 49. [40] أخرجه ابن حبان في كتاب العلم، رقم 122، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، رقم 34. [41] الفتوى: نشأتها وتطورها، أصولها وتطبيقاتها، مرجع سابق، ص435. [42] كتاب الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، ج1ص397. [43] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ج2ص40- 42. [44] ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص190. [45] معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، مرجع سابق، ص210. [46] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ج2ص43. [47] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص228. [48] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ج2ص45. [49] مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج10ص619. [50] مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، مرجع سابق، ص300، نقلاً عن منهاج السنة، ج3ص191. [51] مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، ص168. ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |