أطروحات لتقويم الخطاب الدعوي المعاصر والارتقاء به - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4955 - عددالزوار : 2058315 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4531 - عددالزوار : 1326809 )           »          How can we prepare for the arrival of Ramadaan? (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الأسباب المعينـــــــة على قيام الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          حكم بيع جوزة الطيب واستعمالها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          تريد لبس الحجاب وأهلها يرفضون فهل تطيعهم ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          ما هي سنن الصوم ؟ . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          هل دعا الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين الذين لم يروه ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          حكم قول بحق جاه النبي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          ليلة النصف من شعبان ..... الواجب والممنوع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23-01-2020, 02:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,610
الدولة : Egypt
افتراضي أطروحات لتقويم الخطاب الدعوي المعاصر والارتقاء به

أطروحات لتقويم الخطاب الدعوي المعاصر والارتقاء به


أ. حسام الحفناوي








الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.













وبعد:



فإن اجتياح المد الإسلامي للعالم بأسره، وانسياح نور الشريعة بين الشعوب الإسلامية بخاصة من الأمور المعلومة من الواقع بالضرورة، ولا يفتقر مُتَحَدِّث أو كاتب إلى إثبات هذه المُسَلَّمة، حاشا عند المجادلين في المُسَلَّمات بالباطل، ولا يُرتجى من مثلهم نَفْع، ولا أَعْضَل على الداعي من توضيح واضِحة، أو تبيين مُحْكَمَة.







وقد صَحِب ذَيْنَك الاجتياح والانسياح، وتلاهما بروزُ كثير من وسائط إيصال تلك الدعوة الإلهية المباركة وحواملها، فبات كل طارف حادث من وسائل التقنية المبتكرة مَحَطًا لأنظار القائمين على نشر الدعوة الإسلامية من مُمْتَهِنين ومُتطوعين، ومَرْكبًا يُبْحرون به بين أرجاء العالم الفسيح، الحِسِّي منه والافتراضي[1] دعوة وبلاغًا، هداية وإرشادًا.







ولما كان الخطأ والنقص من سمات البشر التي لا تنفك عنهم، ويُعَدُّ الطالب لانتفائهما بالكلية مصادمًا للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا مُبَدِّل لها، كان للقائمين على نشر الدعوة - ولا بد - نصيب من تلك الصفة البشرية، ولا غرابة؛ لأن تَشَرُّف المسلم بحمل الدعوة إلى الله تعالى لا يرفع عنه نقائص البشر الملازمة لهم، وإنما يُهَذِّبها بحَسَب اجتهاد الداعي في مداواة نفسه بالأدوية الشرعي من أدوائها.







وكثير من المُتَصَيِّدين لأهل الديانة العثرات، والباغين لهم العَنَتْ يُجافون هذه الحقيقة المُقَرَّرة بتضخيمهم لهفوات أهل النُّسك، وتسليطهم الأضواء على زلَّات حاملي الدعوة، بُغْيَة عيبهم وإسقاط مكانتهم من أعين الناس، وليس هذا بشيء.






ومُكَلِّف الأيام غير طباعها

مُتطلبًا في الماء جذوة نار








وترتفع معدلات ورود الأخطاء في الخطاب الدعوي المعاصر مع ما يَتَمَخَّض عن تعدد وسائط البلاغ وحوامله - وتوفرها في ذات الآن - من ولوج ما لا يُحصى من المسلمين إلى مجال حمل الدعوة، واتساع رُقعة المُتَصَدِّرين لهذه المهمة الجليلة، سواء ملكوا الكفاءة والأهلية لذلك، أو افتقدوا ما قَلِّ منها أو كَثُر.







وسوف أسوق بين يدي القارئ الكريم بمشيئة الله تعالى سبع نقاط مِحْوَرِيَّة، تَسْمو الأولى والثانية منها عن الوقوع في دائرة النقاش؛ لعظيم خطرهما في دين الله تعالى، وتعاضُد النصوص الشرعية في بيان مَغَبَّة التفريط فيهما، وما يَتَمَخَّض عن المَسَاس بهما من تحريف للشرع بالتأويلات الباطلة من أهل الأهواء المُضِلَّة، إرضاء للطِّغام، وتزلفًا للعوام، وتمثل خمس نقاط منها أمورًا تحسينيَّة قد ترقى في بعض الأحايين إلى مرتبة الحاجِيَّة، بحسب مقدار التفريط فيها، ومدى احتياج المسلمين إليها في زمن من الأزمان، أو وقت من الأوقات.







النقطة الأولى: الخطاب الدعوي بين الواقعية والعصرانية.



فلا يخفى على مُشتغل بالدعوة، مُتَمَرِّس فيها ما لفهم واقع المسلمين من أهمية، وما ينتج عن تجاهل متابعة تطوراته من:



أ- تغييب للمرء عن فهم الموقف الشرعي الواجب إزاء كثير من النوازل والمُلِمَّات.



ب- معرفة أسلوب الخطاب الموائم لعقول المُخاطَبين من أهل بلده وحِقْبته، فضلًا عن غيرهم.



جـ- تقديم ما قد يلزم تأخيره، وتأخير ما قد يلزم تقديمه، يستوي في هذا القَلْب ما كان متعلقًا بالبيان والتبليغ، وما كان مناطًا للترجيح بين المصالح والمفاسد.







إلى غير ذلك من العواقب الوخيمة، والآثار الذميمة.







بيد أن صنفًا من المنتسبين للعلم الشريف في عصرنا - وقبله بيسير - قد غالَوا في ادِّعاء فهم الواقع، ووجوب مراعاته، حتى طَوَّعوا أحكام الشرع لأهواء الأمم وأعرافها، فأحَلُّوا لقوم ما حَرَّموه على آخرين، وحَرَّموا على أهل زماننا ما كان مباحًا طِيْلة القرون التي سبقت ظهور بدعتهم، ونُشوء فرقتهم.







فلم يكتفوا بفهم ما يدور حولهم من مُسْتَجَدَّات، وما يعايشونه حولهم من مواقف وأزمات، وما يكتنف محيطهم من تطورات ومخترعات، بل جعلوا ما فهموه وأدركوه - وقد لا يفمونه حق الفهم - مما تقدم ذكره ميزانًا للترجيح بين أقوال الفقهاء حينًا، ونبراسًا لاستنباط أحكام جديدة من الكتاب والسنة أحيانًا، ومُقَيِّدًا لأحكامهما - وربما ناسخًا لها بالكلية - في بعض الأحايين الأخرى، حتى صارت الأحكام الشرعية بين يدي هؤلاء كدُمْية طفل يعبثون بها كيف شاؤوا، ويطرحونها متى شاؤوا، ويُقَبِّلونها ويلتزمونها إن اشتهوا ذلك.







وكل من هذه الأفعال الصِّبيانية له موضعه الذي لا يخفى على أمثالهم من أساطين العَصْرَنة، والصيرفي أعرف بديناره!!!







النقطة الثانية: الخطاب الدعوي بين المُداراة والمُداهَنة.



فمُداراة المُتَرَبِّصين من الكفار والمنافقين والظالمين - إن قويت شَوْكَتُهم أو خِيف من مكرهم - لايتناطح في مشروعيتها - بل ووجوبها أحيانًا - كَبْشان، ولا يجهل مَسيس الحاجة إليها عند بعض الشدائد من اشْتَمَّ رائحة العلم، وشارك - ولو بنَزْر يسير - في حقل الدعوة.







لكن العِتاب على بعض المُتَصَدِّرين للدعوة في زماننا لا ينشأ من مداراتهم لمن ذكرنا إن احتيج إليها، ولم يَؤلْ أمرها إلى كتمان حق وَجَب إظهارُه، أو إثارة حِزْمَة من الضَّباب حول أمر يَلْزَم الداعي إعلام الناس به ناصعًا بَرَّاقًا، خاليًا من كل ما يؤثر على وضوح الرؤية وجلائها.







وإنما نشأ العِتاب وتَرَعْرَع من جَرَّاء مُداهنة المذكورين، وتَلَمُّس رضاهم، وتحاشي مواضع سخطهم، سواء سَمَّاها المُداهِن مُداراة، أو علَّلها بإكراه، أو اتَّكَأ على دعوى المصلحة، أو غير ذلك من خيوط العنكبوت التي يتخذها المُتَمَلِّقون جُنَّة يستترون بها من سهام الناقدين لمداهنتهم، ورماح الكاشفين لزيف خَلْطهم بين مفهومي المداراة والمداهنة.







وهم أبصر بنفوسهم، ولو ألقوا معاذيرهم، وحاججوا بالباطل خصومهم ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 9].







النقطة الثالثة: الخطاب الدعوي بين الإبداع والابتداع.



ما فَتِأ علماء المسلمين يُبْدِعون في طَرْح الموضوعات العلمية ومناقشتها، مع الحفاظ على مضمونها من المساس، وصيانة محتواها من العبث، والضرب على يَدَي مَنْ تُسَوِّل له نفسه شيئًا من ذلك، ودَحْض مفترياته.







ومن تأمل تاريخ التصنيف في العلوم والمراحل التي مر بها، عَلِم الكثير من ذلك، فإن قَوِيَتْ بالتراث صِلَتُه، تَكَشَّفَت له من جوانب الإبداع عند علمائنا الكرام ما يُذْهِل العقول، ويُحَيِّر الألباب، ودونك هذا المثال الذي يجد الباحث في تراث علماء المسلمين آلاف النظائر والأشباه له في الإبداع والابتكار:



صَنَّف الإمام الزَّرْكَشي الشافعي رحمه الله تعالى كتابًا وَسَمَه بخَبايا الزوايا، جمع مادته من المسائل الفقهية المبحوثة في غير مَظانِّها في كتابي الوجيز والرَّوْضة من كتب فقهاء الشافعية، ورَتَّبها على الأبواب.







فإن تكلم الرافعي مثلًا في كتاب الصلاة عن مسألة من مسائل الحج، ولم يُعِدها في كتاب الحج، اسْتَلَّها الزركشي ووضعها في كتاب الحج من الخبايا، وهكذا، حتى غدا كتابه عجيبة من العجائب، وغريبة من الغرائب، وكان مقصوده من ذلك ألا يُظَنَّ إهمال الإمامين لمُباحَثة المسألة المذكورة في غير مَظانِّها.







وما زال العلماء وطلبة العلم يتعاهدون التصنيف في العلم ومباحثة مسائله بالإبداع، ويُدْلي كل منهم بدلو يُغاير سابقيه في الوعظ والإرشاد، مع تواصيهم فيما بينهم بالحرص على حفظ المضمون الشرعي من أن تَشُوبه الشَّوائب، أو تُعَكِّر صَفْوَه المُعَكِّرات، حتى غدا الجمع بين التَّجَدُّد والصيانة شنشنة لهم.







لكن أقوامًا من مُحِبِّي الظهور، ومُتعمدي التحريف، ومُتَقَصِدي الإغراب، ومُتَزَلِّفي أصحاب الجاه قد أحدثوا في دين الله تعالى ما ليس منه، وبَدَّلوا أحكامًا إلهية بحُثالات أذهان بشرية؛ بدعوى الإبداع في الطَرْح، وتحت ذريعة استحداث عوامل مُبْتَكَرة لجَذْب مَدْعُوِّين جُدد لا يَروق لهم أساليب الطَرْح المعهودة في ظنهم.







فلا تَعْجَب من جَمْعِهم الرجال والنساء في مجلس واحد، ولا يَرُعْكَ دعوتهم للتصويت على الثوابت الشرعية، ولا تفزع لاستضافتهم أكابر مجرمي اللادينيين لمناقشة ما عُلِم بالضرورة من دين الإسلام مناقشة تتسم بالموضوعية التامة، دون تَحَيُّز أو محاباة، للإسلام ولا للكفر!!!







فالتَّحَيُّز - ولو لدين الله تعالى - من نواقض دين المُبْدِعين الجُدُد!!!







النقطة الرابعة: الخطاب الدعوي بين المبادرة الهجومية والانحياز الدفاعي.



(الهجوم خير وسيلة للدفاع) مَبْدَأ مُقَرَّر عند أرباب الحرب، وكذا عند أرباب الكُرَة!!!







فكيف عجز بعض المشتغلين بالدعوة عن إدراك فاعليته في حفظ حصون الأمة الداخلية؟







لقد أرهق المدافعون أنفسهم في صَدِّ سهام الحاقدين عن المِلَّة الغَرَّاء، ولم يُكَلَّف بعضهم نفسه مؤنة غزو معاقل الأعداء، ومُنازلتهم على أرضهم، والمُصاوَلَة بين ظهرانيهم.







إذًا لوجده مَرتعًا خصيبًا، وواحة هنيئة، وجَنَى من ثمار غزوه ما لم يَجْنِ عُشْر مِعْشاره من حصاد دفاعه، فامتلاك زِمام المُبادَرَة مَطْلَب لكل فارس ناجح، سواء كان من فرسان السِّنان، أو من فرسان اللسان.







ولا تقف خطورة الانكماش الدفاعي عند فُقدان زمام المبادرة فحَسْب، بل تتخطاه إلى لَيِّ أعناق بعض النصوص احترازًا من ضربات المهاجمين وطعناتهم، وهذا ما رأيناه عيانًا من كثير من أئمة المنهج الدفاعي وأساطينه.







فسَعْيُهم الحثيث لإثبات براءة الإسلام من إكراه الناس على الدخول فيه ألجأهم إلى قصر مفهوم الجهاد في الإسلام على الدفاع عن أراضي المسلمين فحسب، بل جعلوا القتال لطَرْد المُحْتَلِّ الغازي خيارًا من الخيارات، يلجأ إليها أهل البلد الواقع تحت نير الاحتلال إن فشلت الطرق السِّلْمية في إخراجه!!!







وحِرْصهم الشديد على إظهار مكانة المرأة في الإسلام أوصلهم إلى جعل تعدد الزوجات من الضرورات القُصوى التي لا يسوغ للرجل اللجوء إليها إلا في حالات معينة، وبشروط مُعْجِزة، بل وصل الشَّطَط ببعضهم إلى تسويغ إصدار التشريعات التي تُحَرِّم تعدد الزوجات، وتعاقب من تُسَوِّل له نفسه أن يفعل ذلك.







ورغبتهم المَحْمومة في تأكيد عدالة الإسلام في التعامل مع أهل الديانات الأخرى جعلهم يُعَلِّلون فَرْض الجزية بالدفاع عن أهل الذِّمَّة، ويُسْقِطونها عنهم بمشاركتهم في جيوش المسلمين لانتفاء العِلَّة.







إلى غير ذلك من مظاهر الهزيمة النفسية الناجمة عن ملازمتهم للموقف الدفاعي.







النقطة الخامسة: الخطاب الدعوي بين الإغراب والسُّوقية.



يُعَدُّ الشَّغَف بالتَّفاصح من الظواهر المَرَضية المنتشرة بين حَمَلَة العلم وطَلَبَته على مر العصور، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الدَّاء الوَخيم فقال: "إن الله يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة"[2].







ولا يقتصر الإغراب عند مُحِبِّي الظهور على التفاصُح فحسب، بل يشمل التعلق بالمصطلحات المُتَكَلَّفة، والعبارات المُسْتَغْرَبة، والذي يصل عند بعضهم إلى حد الهَوَس بتوليد مصطلحات يَعْسُر فَهْمُها، تُوهِم المُسْتَمِع بلباقة المتحدث، وعمق تفكيره، وحِدَّة ذكائه، في الوقت الذي يكاد المُسْتَمِع أن يجزم بالحكم على نفسه بالغباء والجهل؛ لأنه لم يفهم خطاب المتحدث لقصورٍ في إمكاناته العقلية والمعرفية كما يظن، وليس ظنه بشيء؛ فما هي إلا قَعَاقِع وشَقْشَقات تُشبه شَعْوَذة الدَّجاجلة من المُتَكَلِّمين قديمًا، تلك التي كانوا يَرومون من ورائها الغاية النفسية التي تقدم ذكرها قريبًا؛ وما ذاك إلا لضعف حُجَجهم النقلية والعقلية.







وعلى النقيض من صنيع أهل الإغراب نجد استرواح بعض المشتغلين بالدعوة إلى التَّفَوُّه بالألفاظ العامّيّة، والعبارات السُّوقية، والتي قد تَسْفُل بالبعض أحيانًا إلى استعذاب البذيء من الكلام، والمُبْتَذَل من التَّعابير.







والحُجَّة التي يركنون إليها، ويُعَوِّلون عليها: هي التيسير على العوام، وتأليف قلوب العُصاة، لا سيما أرباب الحِرَف والصنائع وأشباههم، ممن يَغْلُب عليهم قِلَّة المَحْصول الثقافي عامَّة، والشرعي خاصة.







لكن حُجَّتهم الآنفة مَدْحوضة، وصنيعهم المذكور غير محمود؛ إذ المطلوب من الدعاة إلى الله تعالى رَفْعُ المُسْتَمعين إلى مستوى فَهْمهم، لا النزول إلى فَهْم مُسْتَمِعِيهم.







فإن تَعَذَّر فَهْمُ المُخاطَبين للغة الضَّاد - وهو مُتَعَذِّر على كثير من الناس لضعف الصلة بالعربية - فلا بأس بمخاطَبَتهم بعامّيّة غير مَمْجوجة، وبمُفْرَدات غير رَقيعة.







وإذا كان الشرع الشريف قد نفى الفُحْش والبَذَاء عن أهل الإيمان عامَّة، فينبغي الحرص على انتفائه عن دُعاة الخير، والمُوَقِّعِين عن رب العالمين من بابٍ أولى.







النقطة السادسة: الخطاب الدعوي بين الدوران في فَلَك النُّخبة والإغراق في مُعالجة قضايا العوام.



لقد أحيا الله تبارك وتعالى التَّشَوُّف إلى تحصيل العلم الشرعي في قلوب كثير من شباب المسلمين وشِيْبهم، فنَفَضوا عنهم غُبار الزهد في تحصيله، وانطلقوا يَثْنون الرُّكب عند أهله، يَبْغون شُرْبَه وعَبَّه، فانتشر الطَّلَبة في الأمصار، وعَجَّت بمُحِبِّي الطَّلَب الحِلَق والمنتديات، وغَصَّت المكتبات بالتصانيف والتحقيقات العلمية.







وكان من آثار ذلك الوَهَج المَعْرِفي - مع ما عليه من مَلاحيظ كثيرة ليس المقام آهلًا لذكرها - أن صار الخطاب الدعوي لدى طائفة من الدعاة خطابا نُخْبَويًا، يُعْنَى بحاجات طُلَّاب العلم، دون الرعاية بمطاليب عُموم المسلمين الذين لم يتشرفوا بالطَّلَب.







فمِحْوَر حديثهم ولُبابُه الشُّروح والمختصرات، وأُسُّ كتاباتهم وأساسها المطبوعات والمخطوطات، وما أطيبه من حديث لو مازجوه بقضايا الأمة الكبرى، وما أعْذَبها من كتابة لو خالطوها بهموم المسلمين وآلامهم.







ولا يَفْهَمَنَّ قارئٌ تَقَصُّد الكاتب التقليل من شأن البحث العلمي المُتَخَصِّص، والمُدارَسَة الشرعية المُتَفَحِصَّة؛ إذ السَّعْيُ في حَلِّ قضايا الأمة وهموم المسلمين دون دَرْكِهِما، والغَوص فيهما ضَرْبٌ من العَبَث، وصِنْفٌ من التَّعَنِّي.







ولكن، ألا يؤلم القلب فُتور ردود الأفعال لدى بعض المُتَصَدِّرين للدعوة إزاء غارات التنصير، وصَولات الزَّنْدَقة، ومذابح الشعوب المسلمة على أيدي جَحافل الأعداء، وغليانها - على الضِّد - عند تضعيف حديث صحيح، أو الطعن في عالم جليل، مع فَداحة هذين الأخيرين، ووجوب التَّصَدِّي لمُثِيرِهما؟







ونرى في الجانب الآخر طائفة غالَت في مُعالجة ما يقع لعموم المسلمين من نوازل ومُلِمَّات، غير مُكْتَرِثة بتسهيل العلم الشرعي الواجب لهم، ووضع أقدام من كانت لديه الأهلية منهم على بداية الطَّلَب؛ بُغْيَة إلحاقه برَكْب العلم الشريف، الحارس لثُغُور المسلمين العِلْمية، والمُقَوِّم لثُغُورهم العسكرية.







النقطة السابعة: الخطاب الدعوي بين إغفال مراعاة المصالح والمفاسد والمغالاة فيها.



تضافرت النصوص الشرعية على مراعاة مصالح العباد في المعاش والمعاد، ودفع المفاسد والمَضَارِّ عنهم، وليس من العسير على كثير من المشتغلين بالعلم الشرعي الشريف أن يميز المصلحة من المفسدة، لكن إدراك أرجح المصلحتين للميل إليها عند تعارضهما، أو أَضَرَّ المفسدتين لتحاشيها عند تَعَذُّر التَّحَرُّز منهما جميعًا، ومعرفة مواضع تقديم جَلْب المصالح على دَرْء المفاسد، والعكس[3] هو مَحَكُّ التمييز بين العلماء وأشباههم.







وقد أَوْلى علماء المسلمين هذا الفن الدقيق عناية كبرى، حتى أفرده بعضهم بالتصنيف؛ وما ذاك إلا لعظيم أهميته، والتباس مسائله وتشابكها.







ونظرًا لكثرة ما نزل بالمسلمين من نوازل ومُلِمَّات من جهة، وتناقص العلماء الراسخين بقَبْضِهم من جهة أخرى، فقد كَثُر النِّزاع والشِّقاق بين العاملين في حقل الدعوة حول التطبيق العملي للقواعد النظرية المُدَوَّنة في تصانيف أهل العلم بشأن المصالح والمفاسد، وصار كل قوم يَسِمون أعمالهم بمراعاة المصالح الشرعية، وحُسْن الترجيح فيما وقع من تعارض بينها، وتحصيل المصلحة الأكبر، وتفويت المَفْسَدة الأدنى، حتى صار الفعل عند قوم مصلحة، وعند آخرين مَفْسدة، وفَشَى هذا التناقض في فهم قواعد المصالح والمفاسد في الناس، فإلى الله المشتكى.







ومن عجبٍ أن قومًا يقعون في مَفْسَدة الشرك القطعية بدعوى تحقيق مصلحة ظَنِّية يمكن تحصيلها من أبواب أُخَر، وآخرون يَعُدُّون الجَهْر بالحق إذا أدى إلى إغلاق مَنْفَذ من منافذ الدعوة مصلحة يجب تفويتها حفظًا لمصلحة أكبر في ظنهم، وهي حفظ المنفذ الدعوي، حتى لو فَقَد حيويته، وبركة تفاعله مع قضايا المسلمين أمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، وصدعًا بالحق المُرِّ.







والأعجب من هذا أن احتكار فهم المصالح والمفاسد صار سِمَة بارزة في مجال الدعوة، تَدَّعي كل طائفة فَهْمَه ومراعاته، وترمي الآخرين بالجهل به وإهماله.







ولا ريب أن بعض النزاع الدائر حول الترجيح بين المصالح والمفاسد في الساحة الدعوية خارج عن الخلاف العلمي المُعْتَبَر؛ لافتقار المخالفين للحق فيه إلى تأصيل علمي صحيح؛ وذلك نابع من الجهل تارة، ومن اتباع الأهواء تارات.







لكن أمرًا ما نريد إلقاء الضوء عليه قبل خَتْم هذه النقطة، وهو اتِّسام الترجيح في كثير من النوازل والوقائع بالوصف الظَّنِّي، مما يتعذر معه زَعْم الاحتكار المذكور آنفًا، فليُتَأَمَّل هذا جيدًا؛ فإنه من أنفع ما يَرْأَب الصَّدْع، ويُلَمْلِم الشَّمْل بين الفُرَقاء المُخْتَصِمين في فهم المصالح والمفاسد، ممن جمعتهم أصول نظرية واحدة، وفَرَّقهم فهم كل منهم للراجح والمرجوح من المصالح، والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين،وأن يأخذ بنواصيهم إلى الخير، وأن يجمعهم على الحق، إنه جَوَاد كريم، والحمد لله رب العالمين.



ــــــــــــــــــــــ


[1] يطلق مصطلح الفضاء الافتراضي على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) ويسمونها كذلك بالشبكة الافتراضية.




[2] أخرجه أبو داود، والترمذي، وحَسَّنَه، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (2853) ومعنى "يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة" أي يُبالغ في إظهار الفصاحة، كما تُحَرِّك البقرة لسانها في فمها وخلال أسنانها كما في النهاية لابن الأثير.




[3] القاعدة المشهورة (درء المفاسد مُقَدَّم على جلب المصالح) قاعدة أغلبية لا كلية، والمعيار لذلك هو مقاصد التشريع، فإن كانت المصلحة مثلًا لحفظ ضروري والمفسدة لإهدار حاجي قُدِّمت المصلحة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 66.61 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 64.94 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.50%)]