|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() خطورة البدع على الدين من خلال مدارسة آية سورة الحديد عواطف حمود العميري في كتاب الله تعالى نقرأ بعض أخبار بني إسرائيل وما وقعوا فيه من انحرافات، حتى بدلوا الدين واندرست تعاليم الشريعة لديهم، وعموا وصمُّوا كثير منهم، وهذا القصص منه جل جلاله لأجل الاعتبار والعظة، فنتعلم لنحذر ونتقيَ ذلك الزلل عن صراطه المستقيم، ودينه القويم الموصل لجنة النعيم، والذي يصير لمن أقامه رحمة، رحمة يرحم بها عباده في الدنيا قبل الآخرة، فإن شرعه حنيفية سمحة، موافقة للفطرة، يسيرة التكاليف، مراعية لتقلب الظروف والأحوال، حميدة العواقب، ولا تظهر الآصار والأغلال والتعاسة إلا بغياب الشريعة كلها أو بعضها. ولما كان الدين الصحيح رحمة للعباد، بيَّن فيه وفصَّل؛ فإن تفصيل ما يحتاجه الناس أكثر من احتياجهم الماء والهواء من الرحمة، حتى تركنا رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال: ((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبدًا حبشيًّا؛ فإنما المؤمن كالجمل الأنِفِ حيثما قِيد انقاد))[1]، فالدين واضح صالح، لن تحتاج معه لغيره، والمؤمن متبِعٌ منقاد، وإذا كان الطريق معبَّدًا والسالك مهتديًا، يُرجى الوصول للبغية، ومع كل هذا البيان والوضوح حذَّر الله عز وجل من البدع والتغيير تحذيرًا بالغًا، وأحاط الدين بسياج من الأمر بالاتباع، والحذر والحيطة من الابتداع، وشدد في هذا الأمر وأنذر؛ رأفة بالعباد. وبيَّن لنا ملامح تلك البدع وفصَّلها في كتابه الكريم، البدع التي منها بدعة الرهبانية التي ذكرها الله عز وجل في آية سورة الحديد، ونحن نتدارسها بإذن الله، ونتبين منها خطورة البدع وكيف تفسد الدنيا والدين، وتوقع العباد بالحرج والمشاق والخسران. ما هي بدعة الرهبانية؟ الرهبانية هي الانفراد للعبادة، والانقطاع عن الناس في الصوامع، ورفض النساء وترك الدنيا، ويتسبب عن ذلك حملُ النفس على المشاق المضادة للفطرة والغرائز الإنسانية. ملامح البدع من آية الحديد: قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 27]. الملمح الأول: البدعة نبتة طفيلية: البدعة شيء زائد متطفل لا حاجة إليها؛ لكمال الدين وتمام التبليغ، وذلك من تتابع الرسل وكمال الإعلام والتبليغ، وهذا مفهوم التقفية في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾؛ أي: "لا ننشئ آثار الأول منهم حتى نرسل الذي بعده في قفاه، فكل رسول بين يدي الذي بعده، والذين بعده في قفاه، فهو مقفٍّ له؛ لأن الأول ذاهب إلى الله والثاني تابع له، فنبينا صلى الله عليه وسلم أعرق الناس في هذا الوصف؛ لأنه لا نبي بعده؛ ولهذا كان الوصف أحد أسمائه"[2]. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفيتم، وكل بدعة ضلالة". ولأن الحديث عن بدعة الرهبانية عند النصارى؛ قال الله عز وجل: ﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ ﴾، فذكر نبيهم عليه الصلاة والسلام وكتابه الإنجيل، والإنجيل وصفه الله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 46][3]؛ فلم يكن من حاجة لابتداع الرهبانية. وكما هي الحجة عليهم من القرآن، فإن الحجة عليهم أيضًا من كتاباتهم، فهم يعترفون ببدعيتها؛ ذكر القاسمي رحمه الله: "رأيت في كثير من مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين ذم بدعة الرهبنة، وما كان لتأثيرها في النفوس والأخلاق من المفاسد والأضرار؛ فقد قال صاحب (ريحانة النفوس) منهم، في الباب السابع عشر، في الرهبنة: إن الرهبنة قد نشأت من التوهم بأن الانفراد عن معاشرة الناس، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية - هي ذات شأن عظيم، ولكن لا يوجد سندٌ لهذا الوهم في الكتب المقدسة؛ لأن مثال المسيح، ومثال رسله يضادانه باستقامة؛ فإنهم لم يعتزلوا عن الاختلاط بالناس لكي يعيشوا بالانفراد، بل إنما كانوا دائمًا مختلطين بالعالم، يعلمون وينصحون، ونحن نقول بكل جراءة: إنه لا يوجد في جميع الكتاب المقدس مثال للرهبنة، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها، بل العكس؛ فإن روح الكتاب وفحواه يضاد كل دعوى مبنية على العيشة المنفردة المقرونة بالتقشفات، ولكن مع أن الكتاب المقدس لا يمدح العيشة الانفرادية، فقد ظهر الميل الشديد إليها في الكنيسة في أواخر الجيل الثاني وأوائل الجيل الثالث، وأيَّد بعض الباحثين المقاومين لها وقتئذٍ أنها عادة سَرَتْ للمسيحيين من الهنود الوثنيين السمانيين؛ فإن لهم أنواعًا كثيرةً من عبادات تأمر كهنتها بالبتولية، والامتناع عن أكل اللحم، وأمور أخرى مقرونة بخرافات"[4]؛ ا.هـ. وهذا الملمح يدلنا على أهمية بيان كفاية الدين وضرورة الاتباع. الملمح الثاني: البدعة تنمو وتترعرع في بيئة الجهل والتخلف: فإن التقصير في التعلم والفقه في الدين يهيئ بيئة خصبة للبدع، فهي إما تنشأ مع الجهل أو اتباع الهوى أو من كليهما، وكلما خفيت السنن ظهرت البدع؛ لأن التدين والتعبد فطرة في النفوس البشرية، فإن لم يتعبدوا بالسنن تعبدوا بالبدع، وأعظم سلاح في مواجهتها تتبع آثار الرسول؛ ولذلك تجد أكثر الناس بعدًا عنها أهل الحديث، وإن كانت آثار الأنبياء قد مُحيت، فإن آثاره صلى الله عليه وسلم لم تُمحَ وهو المقفي، "والمقفي"؛ أي: هو المتبع للأنبياء[5]. هذا الملمح يبرز أهمية التعلم والتعليم في مقاومة البدع. الملمح الثالث: الاستعداد الشخصي والميل: قد يكون لأناس ميلٌ إلى نوع من البدع أكثر من غيرهم، فالنصارى المتبعون لعيسى عليه السلام لمَّا جعل الله عز وجل لهم من اللين في قلوبهم؛ كما قال جل شأنه: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ﴾ [الحديد: 27]- كان فيهم ميل للتبتل الزائد والخوف، والرهبانية قيل: هي من الرهب. واليهود لِما في قلوبهم من القسوة والمادية وحب الرئاسة والكبر، كان فيهم ميل لما يشاكل قلوبهم، فظهرت فيهم الخيانات والقلاقل أينما ولوا. ومثل الكريم يميل للكرم حتى يفرط فيترك أهله عالة، والشجاع قد يفرط حتى يلقي بنفسه للتهلكة، فلذلك يعالج كل استعداد نفسه وميوله بما يناسب الشرع ومقاصده ولا ينحرف، فيميل كل الميل. الملمح الرابع: الغلو: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ﴾، فالبدعة تجنح للإفراط والغلو، بل إن البدعة ما هي إلا مظهر من مظاهر الغلو في الدين، وقد جاءت الرهبانية بالغلو، "وذلك لأنهم غلَوا في العبادة، وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح والملبس، وتعلقوا بالكهوف والصوامع والغيران والديرة"[6]؛ ا.ه. بينما الشريعة تأمر بالقصد الذي يُرجى معه الدوام؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه))، والدوام يرجى معه الوصول؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والقصدَ القصدَ تبلغوا))[7]، وقال الحسن البصري رحمه الله: "إن العبد إذا ركب بنفسه العنف وكلف نفسه ما لا يطيق، أوشك أن يسيب ذلك كله، حتى لعله لا يقيم الفريضة، وإذا ركب نفسه التيسير والتخفيف وكلف نفسه ما تطيق، كان أكيس وأمنعها من هذا العدو"[8]؛ ا.ه. فإذًا علاج الغلو هو بالرجوع إلى القصد الذي أمرت به الشريعة. الملمح الخامس: مخالفة مقاصد الشارع: قال تعالى: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِم ﴾، فلم تُفرض عليهم الرهبانية؛ لأن فيها مخالفة مقاصد الشرع العظيمة، وإذا كان الشارع عليمًا حكيمًا، كان فيما يكتبه على المكلفين غايات نبيلة لا يستطيع إحاطة الإدراك بجميع جوانبها المكلفون؛ فكان الالتزام بالشرع والانقياد أصوب وأرحم وأسعد، ولما كان الإنسان ظلومًا جهولًا، كان فيما يبتدعه ولا بد شرٌّ وفساد؛ قال ابن تيمية رحمه الله: "لأن جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير؛ إذ لو كان خيرها راجحًا لما أهملتها الشريعة"[9]، وكذلك هي الرهبانية، فعلى الرغم من المقصد النبيل الذي أراده أوائلهم، إلا أنها أفسدت الدين بمخالفتها لمقاصد الشرع؛ ففيها اعتزال الناس خصوصًا من الفئة المتدينة الصالحة وهم العباد؛ فتغيب القدوة الصالحة عن المجتمع، وتتعطل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فيسرع الفساد في المجتمع، ومن يترهبن في الصوامع والأديرة، ينعزل عن واقع الناس ونفعهم وإصلاح أحوالهم، والله المستعان. نعم، إذا فسد الزمان وكثرت الفتن وخاف المرء على دينه، تُشرع له العزلة، وأما في غير ذلك، فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم. الملمح السادس: قد يُخدع صاحبها بحسن نيته: قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله: ﴿ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ﴾ فيه قولان؛ أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قاله سعيد بن جبير وقتادة"[10][11]؛ ا.ه. فهم ابتغَوا رضوان الله ولكن ضلوا الطريق، "فلا يُشترط في البدعة أن يتصف فاعلها بسوء المقصد وفساد النية، بل قد يكون المبتدع مريدًا للخير، ومع ذلك فعمله يوصف بأنه بدعة ضلالة؛ كما ورد ذلك في أثر ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه"[12] [13]؛ ا.ه. ولذلك يصعب الرجوع عنها؛ لاعتقاد صاحبها بصواب عمله وحاله، وعلاج هذه النقطة بعرض الأعمال على ميزان الشرع، فما وافقه فاتبعْهُ، وما لا يوافقه فانتهِ عنه، والله الموفق الهادي. الملمح السابع: البدعة طريقة محدثة لا أصل لها في الدين أو لها أصل انحرفت عنه: ويؤخذ الأول من قوله تعالى: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾؛ قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم"[14]، فلم تكن الرهبانية في أصل دين النصارى؛ قال ابن عاشور رحمه الله: "قال الله تعالى: ﴿ ابْتَدَعُوهَا ﴾؛ أي: أحدثوها، فإن الابتداع: الإتيان بالبدعة والبدع وهو ما لم يكن معروفًا؛ أي: أحدثوها بعد رسولهم، فإن البدعة ما كان محدثًا بعد صاحب الشريعة"[15]. ويؤخذ الثاني - وهو كون لها أصل انحرفت عنه - من قوله تعالى: ﴿ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ﴾؛ أي: ما كتبنا عليهم ذلك، إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله[16]، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله تعالى[17]. فالأصل هو ابتغاء رضوان الله، والانحراف في الرهبانية كان في الطريقة التي يُبتغى بها رضاه جل جلاله، فينبغي مراعاة الشرع في كل شيء: المقاصد والنيات والأعمال، والله تعالى أعلم. الملمح الثامن: مشقة رعايتها: لمخالفتها للفطرة القويمة والطبيعة الإنسانية ولذلك يصعب الالتزام بها؛ قال الله تعالى: ﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾؛ قال ابن كثير رحمه الله: "أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذمٌّ لهم من وجهين؛ أحدهما: في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله، والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل"[18]؛ ا.ه. قال ابن عاشور: "قد فرع على قوله: ﴿ ابْتَدَعُوهَا ﴾، و﴿ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾، وما بعده قولُه: ﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾؛ أي: فترتب على التزامهم الرهبانية أنهم - أي: الملتزمين للرهبانية - ما رعوها حق رعايتها، وظاهر الآية أن جميعهم قصروا تقصيرًا متفاوتًا، قصروا في أداء حقها، وفيه إشعار بأن ما يكتبه الله على العباد من التكاليف لا يشق على الناس العمل به"[19]؛ ا.ه. فلم يفوا بها؛ لأن متطلبات الرهبانية ضد الفطرة ولذلك تشق؛ ولذلك يحسن في الشرع ألَّا يحملَ العبد نفسه ما لم يكلفه الله به، مثل النذر بالطاعات وغيره؛ فإنه لا يدري ما يعرض له وما قد يتغير من همة نفسه فيما بعد، وهو في غنًى عن ذلك يتقلب في سعة الشرع. إضافة لذلك، فإن الآثار العظيمة من الفلاح والتوفيق وانشراح الصدر وغيرها من البركات - لا تأتي إلا من الأعمال الصالحة، وهذا أدعى للاستمرار عليها والاستبشار بها، وأما الأعمال المبتدعة فالخير فيها قليل منقطع ولا يأتي بالثمرة المرجوة؛ لذلك يكثر الإلحاد والمروق من الدين فيهم، وانظر حال المتصوفة الآن. والتعرف على هذا الملمح يجعلك ترى يسر الشريعة وسماحتها ومحبتها والثناء على الله بها، والحمد لله رب العالمين. الملمح التاسع: البدعة درجات: ذكر الله عز وجل منهم طائفة ناجية؛ قال الله تعالى: ﴿ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ﴾؛ قال ابن عاشور رحمه الله: "وهذا ثناء على المؤمنين الصادقين ممن مضَوا من النصارى قبل البعثة المحمدية وبلوغ دعوتها إلى النصارى"؛ ا.ه. وهذا يدل على أن الولوغ في البدع درجات، فمنهم من يسلم له إيمانه وخصوصا أوائلهم، لكن يُخشى من الاستمرار على البدعة محو هذا الإيمان، فإن العمل الصالح يغذي شجرة الإيمان في القلب، فإن ضلَّ العمل توشك شجرة الإيمان أن تموت؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 66 - 68]، فالعمل الصالح موصل للهداية. ويدل قوله تعالى: ﴿ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ﴾ على عظمة شأن الإيمان؛ وفي حديث أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أي العمل أفضل، فقال: إيمان بالله ورسوله))، فمن استمرَّ على الإيمان منهم بما يجب عليه من الإيمان به، وما يستتبع ذلك مما يقوم في قلب العبد من القول والعمل من التصديق والتعظيم، والخوف والرجاء، والمحبة واليقين، وغير ذلك من أعمال الباطن - آتاه الله عز وجل أجره. وأجر الإيمان والتوحيد عظيم؛ حيث يغفر الله بالتوحيد الذنوب ويكفر به السيئات؛ ففي الحديث القدسي عن أنس رضي الله عنه يرفعه: ((يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقُرابِ الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا - لأتيتُك بقرابها مغفرة))[20]، وفي حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة))[21]، فيغفر الله عز وجل للموحد ما لا يغفره الله عز وجل للمشركين. والبدعة قد يقارنها من الأحوال ما يعذر به صاحبها فيكون معفوًّا عنه؛ قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "لا ريب أن من فعلها - أي: البدعة - متأولًا مجتهدًا أو مقلدًا، كان له أجر على حسن قصده وعلى عمله من حيث ما فيه من المشروع، وكان ما فيه من المبتدع مغفورًا له إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين"[22]؛ ا.هـ. والضلال في النصرانية وقع من جهتين؛ جهة العقيدة: لما قالوا بالتثليث ونسبة الولد للرب جل جلاله، ومن جهة العمل: لما ابتدعوا الرهبانية، ولا شك أن الابتداع بالعمل قد يكون أهون من الابتداع في العقيدة مع انحرافه وخطورته في ذاته، فلا يُحكم على كل مبتدع بالهلاك، بل بحسب نوع البدعة ودرجتها، والله تعالى أعلم. الملمح العاشر: قابليتها للتمدد والانتشار: قال الله تعالى: ﴿ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾، فقد ذكر الحق جل جلاله الكثرة، وهذه هي طبيعة البدعة أنها تبدأ بعدد قليل ثم تنتشر وتمدد، فإن لم تُبتَر سريعًا بسيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فسيكثر أتباعها ومناصروها، والمدافعون عنها والمؤولون لها، فيصعب بعد ذلك إزالتها، "فتنتقل من شخص إلى شخص، ومن جماعة إلى جماعة، ومن بلد إلى بلد، على سبيل العدوى والتقليد"[23]؛ ا.ه. وهذا مشاهَدٌ اليوم في كثير من البدع حتى امتدت فشملت أقطارًا إسلامية، وقد حصل قبلُ في رهبانية النصارى؛ ذكر القاسمي في تفسيره نقلًا عن بعض كتب النصارى: "ومع أن الرهبنة حصل عليها مقاومة من العقلاء، امتدت وانتشرت في المسكونة، وكان ابتداؤها في مصر في الجيل الرابع، على أثر اشتهار أحد الرهبان وممارسته التقشفات، بسبب الاضطهاد الذي أصابه، وآثر لأجله الطواف في البراري؛ فرارًا من أيادي مضطهديه، ثم عكف على الوحدة وعاش بها، وذلك في الجيل الثالث، ثم امتدت من مصر إلى فلسطين وسورية إلى أكثر الجهات؛ توهمًا بأن رسم المسيحية الكاملة لا يوجد إلا في المعيشة الضيقة القشفة، فدعا ذلك كثيرين إلى ترك المعيشة المألوفة بالاعتزال في الأديرة مع أن ذلك الوهم باطل، ومضاد للكتب المقدسة"[24]؛ ا.هـ. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |