|
ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() وقفات دعوية ناصر بن محمد الأحمد إن الحمد لله: إن الدعوة إلى الله من خير أعمال المسلم، التي يقوم فيها محتسباً طالباً للأجر من الله فقد جاء في الحديث: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) الدعوة إلى الله من عمل الأنبياء والمرسلين ومن اقتدى بهم من العلماء والمصلحين، والدعاة والمربين، فهي مهمة بالغة الشأن لا يعلم قدرها إلا من تعلق قلبه بها وجعلها محور حياته يفكر فيها ليل نهار، يبحث من خلالها عن نافذة للأمل أو مخرج من هذا الضيق. وإذا كانت الدعوة مؤكدة في كل عصر فهي في هذا العصر آكد، لأن الخبث قد كثر، وابتعاد الناس عن الدين قد ازداد، وأعداء الملة وخصوم الشريعة صاروا يجاهرون بما لم يكونوا يجاهرون به من قبل، ولو نجح الدعاة والمصلحون على تماسك جبهتهم الداخلية رغم ما يوجه لها من ضربات فإنهم يعتبرون قد أنجزوا شيئاً ليس بالقليل. فكرة هذا الدرس والتي أسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بها، وهي عبارة عن نقاط تجمعت من خلال قراءات متفرقة في أوقات متباعدة، تدور كلها حول قضايا الدعوة والتربية تهم الشباب من أمثالكم ممن يهمه أمر هذا الدين، ويهمه أن يغير وأن يصلح الواقع الذي يعيش فيه، وممن له عناية بطلب العلم. فالدرس عبارة عن نقاط، قد لا توجد علاقة بين النقطة وما قبلها وما بعدها، كل نقطة عبارة عن فكرة دعوية أو قضية تربوية، أو لفتة في جانب ينبغي أن يكون منك على بال ولأن النقاط كثيرة فهي قرابة خمسين نقطة، والقضايا متنوعة وغير محصورة فلعلي أقدم ما يسمح به الوقت. فأبدأ مستعيناً بالله وحده: أولاً: إن وجود ثلة ينذرون أنفسهم للدعوة إلى دين الله، أمرٌ مقدرٌ شرعاً وكوناً. إنه موكب لن ينقطع أبداً مضى به القول على لسان النبي صلى الله عليه وسلم حين قال " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ". لذلك كان وجود الدعوة الربانية في هذه الأرض حتماً مقضيا. أرأيت لو زالت الشمس من هذا الكون، أو زالت الجاذبية، كم يكون الاضطراب؟ فكذلك وجود دعوة الحق فإنها والشمس والقمر والجاذبية والماء والهواء من سنن الكون التي يتحتم وجودها، لكنها سنة لن يراها إلاّ صاحب قلب سليم، كما لا يرى الجاذبية إلاّ صاحب درس عليم. فكما أن للشمس ثباتاً وجاذبية وللأرض مداراً ودوراناً، كذلك فإن للبشر هذا الدين: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون) إن فَقَده البشر اختلّت أمورهم. إن إسلامنا نبأٌ عظيم، وهو من مكملات الناموس الكوني الذي يختل بدونه، فلا بد إذن أن يوجد في الأرض وأن يزول غيره قال الله تعالى: (قل هو نبأٌ عظيم أنتم عنه معرضون) لقد جاء هذا النبأ العظيم ليتجاوز قريشاً في مكة، ويتجاوز العرب في الجزيرة، بل ويجاوز الجيل الأول الذي عاصر الدعوة في الأرض ليؤثر في مستقبل البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها منذ ذلك الوقت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولم يمر بالبشرية في تاريخها كله حادث أو نبأ ترك فيها من الآثار ما تركه هذا النبأ العظيم. والمسلمون اليوم يقفون من هذا النبأ كما وقف منه العرب أول الأمر بل الأعجب أنهم اليوم هم سبب عرقلته وهم حجر عثرته، لكن هذا النبأ العظيم كما قلنا حكمه حكم الشمس، إن خفت ضوءه أو قلّت حرارته فإنما هو كسوف لا غروب، والكسوف ساعات ثم ينجلي، وكذلك وجود هذا الدين في الأرض، وعدم بروزه وظهوره في بعض الأوقات أو بعض الأماكن إنما هو كسوف مؤقت، لابد وأن ينجلي، وما استمرار وجود عصبة الحق إلاّ مصدر أمل لعودة الإسلام إلى الحياة كلها، وفي الأرض كلها. روى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله "ألا كل شيء ما خلا الله باطل". رفعت الأقلام وجفت الصحف. ثانياً: شبهة تثبط البعض عن القيام بأمر الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: عدم وجوب الدعوة على جميع المسلمين وأن هذا التكليف مختصٌ بالعلماء. الجواب: لاشك أن الدعوة إلى الله مشروط لها العلم، ولكن هذا العلم ليس شيئاً واحداً لا يتجزأ ولا يتبعض، وإنما هو بطبيعته يتجزأ ويتبعض، فمن علم مسألة وجهل أخرى فهو عالم بالأولى جاهل بالثانية، ومعنى ذلك أنه يُعدّ من جملة العلماء بالمسألة الأولى وبالتالي يتوفر فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما علم دون ما جهل، ولا خلاف بين الفقهاء أن من جهل شيئاً أو جهل حكمه أنه لا يدعو إليه، لأن العلم بصحة ما يدعو إليه الداعي شرط لصحة الدعوة، وعلى هذا فكل مسلم يدعو إلى الله بالقدر الذي يعلمه من هذا الدين ولا أظنك أخي المسلم تعدم خيراً. ثالثاً: لا يخدعنّك الفساد الظاهر ولا الشر المستشري ولا يهولنّك ذكر فلان وفلان من المفسدين، ففي الأمة أخيار أكثر ممن تعدون من الأشرار ولكنها راية رفعت للشر فآوى إليها أشرارها، ونفر منها الأخيار فلم ينحازوا إليها ولم تسمع أصواتهم حولها، ولو رفعت للخير راية لانحاز إليها الأخيار، والتفوا حولها ولسكنت أمة الأشرار وقل جمعهم وخفت ذكرهم. إن في الأمم خيراً وشراً، وفساداً وصلاحاً، ومصلحين ومفسدين، فإن رفعت راية الخير انضوى إليها الأخيار في كل طائفة، وغلب بها الخير في الأنفس التي يغلب شرها خيرها ونبت خير في نفوس لا خير فيها، فإن الإنسان لا يخلو وإن عظم شره واستشرى داؤه من نزعةٍ للحق كامنة، وعاطفة للخير مستترة. فهل من راية للخير ترفعها، أو على أقل تقدير تبحث لك عن راية للخير تكون حولها. ولا أظنك تغفل أنه لما استحكم الشر وعلا أمر الجهمية والمعتزلة أيام المأمون والمعتصم والواثق، رفع راية السنة الإمام أحمد بن حنبل، فكان الثبات والتثبيت وتفرقت جموع المبتدعة فشرد بهم من خلفهم. ولعلي أهمس في أذنك بكلام ابن القيم رحمه الله يشرح لك أمرك حين يقول: ليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة إلى الله، وأكثر الديّانين لا يعبأون منها إلاّ بما شاركهم فيه عموم الناس، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ورسوله وعباده ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه، فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها، وفضلاً عن أن يفعلوها وأقل الناس ديناً وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعها، وقَلّ أن ترى منهم من يحمّر وجهه ويمعره لله ويغضب لحرماته ويبذل عرضه في نصرة دينه. انتهى. [1] رابعاً: لماذا نردد دائماً أنه لابد من الهمّة العالية لدى الشباب الملتزم؟ الجواب: لأن من بدأ أيّ عمل أو أمر بحزم وعزم وجد، ضُمن له الاستمرار ومن بدأ التزامه ودعوته بلين وتراخ لزمه هذا اللين، وظل متأرجحاً وربما لم ينفعه الاستدراك إذا أراد النهوض مهما حاول. إذن هي الأيام الأولى واللحظات الأولى التي تحدد سمت الرجل وقوته وجدّه من لينه وضعفه. وبهذه المناسبة أحذرك من الالتفات، فإذا بدأت طريقك بعزم وجد إيّاك ثم إياك والالتفات، فما تأخّر من تأخر إلا من الالتفات أثناء السير. ذكروا من أخبار الظبي أنه أشد عدواً من الذئب والأسد، لكن الذئب يدركه وذلك لعادةٍ سيئةٍ فيه وهو أنه يلتفت أثناء العدو، فيخف عدوه فيدركه الذئب أو الأسد. قال ابن القيم رحمه الله: لا وقوف في السير، بل إما تقدم وإما تأخر، كما قال تعالى: (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) فلا وقوف في الطريق إنما هو ذهاب وتقدم أو رجوع وتأخر[2]. انتهى. وهذا تاريخ الإسلام يرينا دوماً أن القانع قابع والتوّاق سبّاق. والذي يريد السبق ودخول الجنة فيجب عليه أن يأبى القناعة بالدرجة التي وصل إليها من الخير، ويكون ديدنه أن يتابع السير ويرتقي في درجات الفضل. قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "إن لي نفساً توّاقة، لم تتق إلى منـزلة فنالتها إلا تاقت إلى ما هي أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنـزلة التي ليس بعدها منـزلة، وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة". خامساً: قالوا: إن الداعية: شهّاد أنديةٍ، شدّاد ألويةٍ قتّال طاغيةٍ، فكّاك أقيادِ قوّال محكمةٍ، نقّاض مبرمةٍ رفّاع أبنيةٍ، فتّاح أسدادِ شهاد أندية: يتجول بين الناس يغشاهم في مجالسهم ودواوينهم، لا يرضى لنفسه الانزواء، بل هو الظاهر في المجالس يشهدها وينصح أهلها ويصدع بكلمة الحق فيها. شداد ألوية: لما كان همّة الرجل الدنيوي كسب ريالات الناس، كان همّة الداعية كسب قلوب الناس، يرفع راية الخير، ثم يتفرس في وجوه القوم فما رأى من وجه فيه عزيمة وشجاعة وذكاء إنتقاه، وبقية الوجوه تستظل تحت رايته. قتال طاغية: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وسيوف المسلمين تنصر هذا الشرع وهو الكتاب والسنة كما قال جابر بن عبدالله: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا – يعني السيف – من خرج عن هذا – يعني المصحف – قال الله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) فبين سبحانه – والكلام لا يزال لشيخ الإسلام – فبين سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتاب وأنزل العدل وما به يُعرف العدل ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فمن خرج عن الكتاب والميزان قوتل بالحديد[3]. فكاك أقياد: لأن الناس أسارى الأوهام وتقيدهم المطامع الدنيوية والشهوات الرخيصة، وليس بعد الله غير الداعية المسلم الذي يحرر الناس من رق عبوديتها وفك قيودها وأغلالها. قوال محكمة: ينطق بالحكمة وبالنافع وبالذي يصلح أمر الناس، لا لغو ولا كلام بغير فائدة، وهذه هي البلاغة الحقيقية وإن كانت العبارات سهلة. فكم تغيرت وجهات أنظار، وكم تبدل ميول أناس، وكم حدث انقلاب عقلي وفكري عند كثيرين بسبب كلمات محكمة خرجت من قلب صادق في وقت مناسب فنفعت بإذن الله وآتت أكلها ضعفين. نقاض مبرمة: فأعداء الإسلام يبرمون أمرهم، ويضعون خططهم، ويخفون كيدهم، فيأتي الداعية بعد توفيق الله، فيكشف ما وضعوا، ويفضح ما خططوا، وينقض ما أبرموا. رفاع أبنية: فهو يرفع ويبني أبنية الإسلام المعنوية، ويؤسس مؤسسات الإيمان القلبية، يرفع بناء قال الله وقال رسول الله وبناء قول السلف الصالح ويعمرها ويُعليها لتكون منارت يهتدي بها التائه في ظلام الجاهلية مثلما يساعد في رفع أبنية المساجد والمدارس الشرعية. فتاح أسداد: له مفتاح من الوعي والبصيرة ومفتاح من الاطلاع على الواقع الذي يعيش فيه، يفتح به مغاليق الأمور، وأبواب أسوار الحصار الفكري الذي أحاط بعقول وقلوب كثير من أبناء الأمة من فكر الغرب أو الشرق. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً مفاتيح للخير مغاليق للشر. سادساً: لا توجد قاعدة عامة في الهداية: فقد يخرج الحي من الميت وقد يخرج الميت من الحي، فلا يخطرنّ ببالك أيها المصلح أن تدعو أبناء الفقراء وتدع أبناء المترفين وتقول بأن هؤلاء أكثر نفعاً للدين، أو تهتم بإصلاح أبناء المصلين وتدع أبناء الملاحدة والعلمانيين وتقول إنه لا فائدة منهم، أو لا تفكر أصلاً بدعوة أهل البدع من الباطنية وغيرهم وتقول بأنه لا حيلة والأمر أكثر من المستحيل، فإنه لا قاعدة عامة في الهداية، والله جل وتعالى هو الذي يخرج الحي من الميت وهو الذي يخرج الميت من الحي، فرُبّ أبٍ مصلٍ وبعض أولاده زنادقة، ورُبّ أبٍ فاجرٍ فاسق وبعض أولاده من خير عباد الله. اسمع لهذين الخبرين: الأول خبر جُوان بن عمر بن أبي ربيعة، كان عمر بن أبي ربيعة رجلاً فاسقاً يتغزل بالنساء في شعره بل وصل به الأمر أنه كان يتعرض للنساء في المسجد الحرام، لكن ولده جُوان نشأ على النقيض من أبيه تماماً، فكان فتىً صالحاً عفيفاً متديناً زاهداً من أصحاب العبادة والأمانة، حتى كان أهل مكة يأتونه ليحكم بينهم ويَدَعُون قضاة الدولة. الخبر الثاني في مقابل هذا: الشاعر السفيه المعروف بالأحوص واسمه عبدالله، وهو ابن محمد بن عبدالله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري، جدّه عاصم بن ثابت من الصحابة الذي قتل يوم الرجيع مع خُبيب بن عَديّ، وهو الذي أقسمت امرأة من قريش أن تشرب الخمر بقحف رأسه لأنه قتل جميع أهلها في أحد الغزوات فأقسم هو أن لا يمسه المشركون حياً أو ميتاً، فلما قُتل حماه الله بالزنابير تلدغ من يمد يده إلى جثته حتى أمر الله السماء أن تمطر وجاء السيل وأخذ جثته الزكية فدفنها ولم يعثروا عليها، وكانت زوجة عاصم بن ثابت هي أخت حنظلة غسّيل الملائكة الذي استشهد يوم أحد وهو جنب فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة تغسله. هؤلاء الكرام يخرج من أحفادهم مثل الأحوص الذي كان يوصف بالسفاهة ويُتهم بأمور قبيحة منكرة، وله شعر فخر بأجداده، وتعالى بهم على النبي صلى الله عليه وسلم مما يوجب الكفر والعياذ بالله. فكم من الأمثلة من مثل جوان والأحوص. إنه لا قاعدة عامة في الهداية وإنما توفيق الله عز وجل لعبده. وحّد قس بن ساعدة وما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ونافق ابن سلول وقد صلى معه. دخل الرسول صلى الله عليه وسلم بيت يهودي يعود ابنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أسلم، فنظر الولد إلى أبيه فقال له الأب أطع أبا القاسم، فأسلم الولد وهو ينازع الموت فنجا في آخر لحظة، ومات الناصح له على اليهودية. انقلب عمر بن الخطاب ليفتك بأخته لمّا بلغه الخبر أنها أسلمت هي وزوجها، فلمّا دنا من الصفا صفا. وما خرج من عندها إلا وهو يقول أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. لمّا عمّ نور النبوة الآفاق، رآه سلمان الفارسي رضي الله عنه من خلف الصحاري، وحجب هذا النور عن عمّه وبعض عشيرته وهم في مكة. فسبحان من أعطى ومنع، فإنّ سُلّم التوفيق قريب المراقي، وبئر الخذلان بلا قعر. إنه لا قاعدة عامة في الهداية. سابعاً: العملية التربوية في أوساط المسلمين يمكن أن تأخذ جانبين: الجانب الأول: إصلاح الفسّاق. الجانب الثاني: التربية التكميلية التي تتولى تفقيه العناصر الصافية وتوعيتها وتكميل ما ينقصها من فنون العمل أو صفات الإيمان العالية. وبناءً على هذا التقسيم فيمكن أن نقسّم الترغيب والترهيب الذي هو أحد أدوات العملية الإصلاحية إلى قسمين كل قسم يصلح لنوعية من المسلمين: الأول: أسلوب الترهيب من التقصير بذكر النموذج الإيماني واستمداد الترغيب بذكر نماذج الانحرافات البالغة السوء التي لابد أن يكون المخاطب أحسن حالاً منها. وكيفية ذلك أن يعرض صوراً نموذجية عالية من أفعال الخير الإيمانية كي يقيس الشخص نفسه بها دائماً فيتضح له ما هو فيه من التقصير فترهبه المنـزلة الواطئة المتأخرة فيشمّر للارتقاء، ويعرض المربي صوراً من الإفراط في السوء والشر والغفلة وتحكيم الهوى وتفضيل حظوظ النفس ليشعر الشخص ويربأ بنفسه عن مثلها وأنه على بقية من خير فتأخذه عزة إيمانية ترغبه برحمة الله وبهذا التردد بين الرغبة والرهبة تدوم استقامته بإذن الله تعالى. الطريقة الثانية: يكون الترهيب بذكر آيات النار وأخلاق الكافرين والمنافقين والترغيب بذكر آيات الجنة وأخلاق المؤمنين وتتضمن هذه الطريقة استمداد نوع رهبة من التقصير وحياء عند ذكر أوصاف المؤمنين ونوع رجاء وشعور بالعزة عند ذكر أوصاف الكفر والنفاق. وواضح أن هذا الأسلوب إنما يتبع مع من قوي أصل الايمان في قلبه وأحاطته مجرد الغفلة، وأن الأسلوب الأول إنما يتبع مع من أسرف على نفسه وضمرت معاني الايمان في قلبه. والله هو الهادي إلى سواء السبيل. ثامناً: من أهم المواضيع في قضية الدعوة موضوع القدوة. والشاب الصالح ينظر إليه غيره سواءً ممن هم في أول الطريق أو حتى من عامة الناس على أنه قدوة ولهذا صار مركزه حساساً ودقيقاً جداً، لأنه إمام لمن حوله شاء أم أبى. ولذا لمّا همّ إمام مصر الليث بن سعد بفعل عمل مفضول ينافي العزيمة قال له إمام المدينة يحي بن سعيد الأنصاري: لا تفعل فإنك إمام منظور إليك [4]. ويقول أبو عمرو السلمي: من لم تهذبك رؤيته فاعلم أنه غير مهذب [5]. وقال الشافعي رحمه الله: من وعظ أخاه بفعله كان هادياً [6]. ولهذا فالذي يعض الناس وينصحهم لكن هو لا يسبقهم إلى ذلك العمل فهذا ربما يضر أكثر مما ينفع، ولهذا كان يقول عبدالواحد بن زياد: ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ إلاّ لكونه إذا أمر الناس بشئ يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيئ يكون أبعدهم منه. وقال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا [7]. أي عن الصخرة الملساء. فلا نتساهل أيها الشباب في الأمر، ولا نخدع أنفسنا بأن يقول الواحد لست بقدوة مما يجعله يبرر لنفسه فعل أشياء وأشياء تحت هذه المظلة. إن الموعظة التي تقدمها لا روح فيها ما لم تترجمها حياتك اليومية، وإلاّ فلا تعدو أن تكون منفراً. إن النفوس لا تغيرها إلاّ نفوس حية يتطابق أقوالها وأفعالها. تاسعاً: إن وجود المعصية شأنها خطير في كل وسط، خصوصاً في الأوساط التربوية. إسمع لهذا التحذير من مجرب يقول لك: إن مشاهدة الفسق تهون أمر المعصية على القلب، وتبطل نفرة القلب عنها [8]. كيف نستفيد من هذه النصيحة؟ نستفيد منها بأن نعلم بأن بقاء بعض الفسق بمعناه الشرعي عالقاً ببعض الأشخاص الذين نربيهم، فإن هذا سيؤدي إلى احتمال سريان عدواه إلى العناصر النظيفة، لما في التعايش من المشاهدة ما يؤدي إلى تهوين الأمر شيئاً فشيئاً والذي قد يؤدي إلى التقليد وهذا مكمن الخطر. ولهذا لا غرابة عندما ينصح الناصحون أولئك الذين يتعاملون مع الجماهير العامة والأوساط الضعيفة أنه يجب عليهم وجوباً التردد المستمر على مجتمعهم الصافي ليروا من مناظر الايمان ما يضاد مناظر الفسق الذي يكثر عند العوام مشاهدته، وبمثله ينصح كل من له عناية بتغيير المنكر والذي يكثر تعاملهم مع المنكرات والفسوق العصيان، أن لا يطيلوا البقاء في تلك الأجواء، ولا بد لهم من جرعات مستمرة متقاربة يأخذونها من أوساطهم النقية الصافية. والله جل وتعالى هو الذي يحفظ عباده. عاشراً: الذي يفهم الدعوة أنها نزهة ورحلة ونشاط رياضي وأنس وسمر مع الأحبة فهذا مسكين من جهة ومستريح من جهة أخرى. قال أبوسعيد الواسطي: دخلت على أحمد بن حنبل في الحبس قبل الضرب، فقلت له في بعض كلامي: يا أبا عبدالله: عليك عيال، ولك صبيان، وأنت معذور قال: فقال لي أحمد بن حنبل: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد استرحت.[9] هذا نموذج ممن كان حول أحمد بن حنبل، ممن استفاد منه وحضر بعض دروسه وسمع من فتاويه. خذ النموذج الآخر وهو بشر بن الحارث الحافي يوم جاءه خبر تعذيب الإمام وكان قد ضرب إلى تلك الساعة سبعة عشر سوطاً، فمد بشر رجله وجعل ينظر إلى ساقيه ويقول: ما أقبح هذا الساق أن لا يكون القيد فيه نصرة لهذا الرجل.[10] الحادي عشر: هناك قانون في تعامل الداعية مع الله يختلف كلياً عن قوانين تعاملات الناس اليوم من عقد وبيع وشراء وغيره، فتجارة الدعاة مع الله ليست كتجارة غيرهم. ليس فيها قلق تخفيض سعر الدولار أو نزول مستوى الريال، وليس فيها مخاطر مضاربات البورصة، ولا تعقيدات التحويل الخارجي. سعر أسهم الداعية ثابت، بل يزيد ولا ينقص. والوضوح في معادلات تجارته هو أعظم ضماناً من نظام التأمين الربوي الموجود في معاملات الناس اليوم. لأن معادلة تجارة الداعية تقول: تعب أكبر = رضوان من الله أكبر. بفائدة أدناها 900 % كما في قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها). ولقد فهم ببعض المتقدمين أموراً في تعاملهم مع الله قد نعجب منها نحن اليوم، إليك هذا المثال: المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر، ملك الأندلس في وقته العادل البطل طوال أيام مملكته كان مواصلاً لغزو الروم مفرطاً في ذلك، لا يشغله عنه شيء، بلغ من إفراط حبه للغزو أنه ربما خرج للمصلى يوم العيد فحَدَثَت له نية في ذلك، فلا يرجع إلى قصره، بل يخرج بعد انصرافه من المصلى من فوره إلى الجهاد، فتتبعه عساكره وتلحق به أولاً فأول، فلا يصل إلى أوائل بلاد الروم إلاّ وقد لحقه كل من أراده من العساكر. غزا في أيام مملكته نيفاً وخمسين غزوة ذكرها أبو مروان بن حيان كلها في كتابه الذي سماه بمآثر العامرية، واستقصاها كلها بأوقاتها، ووصل إلى معاقل قد كانت امتنعت على من كان قبله، وملأ الأندلس من الغنائم. وكان في أكثر زمانه لا يخل بأن يغزو غزوتين في السنة. وتسألني أين الفهم الذي فهمه المنصور في تعامله مع الله والذي نعجب منه نحن اليوم؟ كان كلما انصرف من قتال العدو إلى سرادقه يأمر بأن ينفض غبار ثيابه التي حضر فيها معمعة القتال وأن يُجمع ويُحتفظ به، فلما حضرته المنية أمر بما اجتمع من ذلك الغبار أن ينثر على كفنه إذا وضع في قبره. أمر المنصور بهذا لأنه سمع الحديث الذي راوه البخاري في صحيحه "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار". كانت وفاة المنصور بأقصى ثغور المسلمين بموضع يعرف بمدينة سالم، توفي مبطوناً، فصحت له الشهادة، وكان تاريخ وفاته سنة 393هـ. الثاني عشر: هناك أدب عظيم وفقه عزيز ينبغي على المشتغلين بالدعوة أن يفقهوه وهو: أن من قواعد الشرع والحكمة أيضاً أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الاسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، إن بدر منه شيء، فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه لا يحتمل أدنى خبث. وإليك بعض الشواهد على هذا: من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم وهذا هو المانع له صلى الله عليه وسلم من قتل من أباح بسره للمشركين وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهد بدراً، فدل على أن مقتضى عقوبته قائم، لكن منع من ترتب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات. ولما حض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فأخرج عثمان رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة قال عليه الصلاة والسلام: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم. وكذلك حال حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصة الإفك، وكان قد قذف عائشة رضي الله عنها، لكن بقي حبه في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأجيال المسلمين من بعدهم، لما كان له من المنافحة بشعره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الإسلام، حتى أن عائشة رضي الله عنها ردت على ابن أختها عروة بن الزبير بن العوام لما سبه وقالت: يا ابن أختي: دعه، فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. [11] يتبع
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() وقريب من ذلك شهادة أخرى لعائشة في أمر أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، فإنه كان بينهما ما يكون بين الضرائر، وكان في زينب من بعض الطباع ما يؤخذ عليها، كانت رضي الله عنها معروفة بالحدة، لكنها سرعان ما كانت تهدء ويذهب عنها الغضب، ومع هذا كله لم يمنع عائشة من إنصافها والثناء على فعالها الإيمانية، فقالت: هي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في المنـزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب وأتقى لله عز وجل وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به، ما عدا سَورة من حدة كانت فيها، تسرع منها الفيئة.[12] أي سريعة البرود بعد احتداد غضبها. فهذه همستان في أذن الدعاة والمربين نقتطفها من موقف عائشة رضي الله عنها: الأولى: همسة في أذن بعض إخواننا ممن نشهد لهم بالدين وصدق الحديث وابتذال أنفسهم في أعمال الدعوة والخير، لكن تعتريهم أحياناً فورات غضب وحدة في الألفاظ، يقل أو ينعدم الانتفاع بهم حينها، فهل لهم أن يكونوا كزينب، تسرع منها الفيئة. ويغلقوا هذا الباب على الشيطان. الهمسة الثانية: نموذج عائشة نفسها ونخاطب بمناسبته بعض إخواننا المبالغين في الشدة مما يدفعهم أحياناً إلى عدم الاعتراف بفضل ذي فضل واسع إذا زل به القدم. قال سعيد بن المسيب رحمه الله: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه، وهب نقصه لفضله. [13] الثالث عشر: إن المستحيل درجات، فمنه ما هو مطلق ومنه ما هو نسبي، وما من معضلة إلا وهي قابلة للتغلب عليها كلياً أو جزئياً وفي النهاية فإن الشاب يستطيع أن يعايشها ويتكيف معها وبذلك يكون أقوى منها، وبمثل هذه الروح ينبغي أن يشحن المربون أتباعهم ولا بأس أن يقال لهم بأن أعظم الكتب لم يؤلف بعد، وأن أهم المحاضرات لم تقدم بعد، وأن مهمات الأعمال الدعوية لم تنجز بعد، وكل هذا ينتظركم. حار كثير من المفكرين في تفسير ظاهرة العبقرية والتميز، فقيل بأن العبقري ليس الذي له ذكاء حاد ولكن العبقري من تميز على أقرانه بالمثابرة الدؤوبة، وهو الذي لا يعرف الملل واليأس. وعندما سأل أديسون عن العبقرية وهو الذي سجل أكبر عدد من المخترعات في العصر الحديث قال: إنها 1% إلهام و 99% عرق جبين. إن الصحابة رضوان الله عليهم ومن تلاهم من بناة حضارة الاسلام العريقة قد تحملوا من المشاق وشظف العيش في مجاهدتهم لنشر هذا الدين ما لا يوصف، مع قلة عتادهم ومحدودية إمكاناتهم وتفوق أعدائهم، وإن علينا أن نعلم الناشئة كيف يستخلصون الروح والمثل من ذلك. الرابع عشر: إن الفاضل قد يقع منه خلاف الأولى. روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ وَقَالَ إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا لَا فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. الشاهد أن الصدّيق وهو الأفضل بلا خلاف لكن وقع منه شيء – إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت – ومثله ما حصل بين أبوبكر وربيعة بن جعفر، أخرج الإمام أحمد من حديث ربيعة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه أرضاً وأعطى أبابكر أرضاً، قال فاختلفا في عذق نخلة، فقلت أنا – أي ربيعة – هي في حدّي، وقال أبوبكر: هي في حدّي، فكان بيننا كلام فقال أبوبكر كلمة ثم ندم فقال: رد عليّ مثلها حتى يكون قصاصاً، فأبيت، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مالك والصدّيق – فذكر القصة – فقال: أجل فلا ترد عليه، ولكن قل غفر الله لك يا أبابكر، فقلت، فولى أبوبكر وهو يبكي[14]. لا نقاش أن أبوبكر هو الأفضل والأكمل، لكن لا ننسى أنه بشر فببشريته يقع منه أحياناً خلاف الأولى الذي ينبغي أن لا يقع من مثله لكن في جميع المواقف تجد أن الصدّيق كان رجّاعاً إلى الحق، بل وبسرعة لماذا؟ لأنه كان هو الأكمل ديناً، فصاحب الدين هو الذي يسرع في الرجوع إلى الأولى، فهاهنا أهمس في أذنك بإشارتين: الأولى: قد يقع ممن تتعامل معهم وترى أنهم قدوات لك، أقول قد يقع منهم خلاف الأولى في بعض المواقف، فلا ينقص ذلك من قيمتهم، ولا تنظر إليهم نظرة دنوّ، فإنهم بشر وما حصل منهم إنما هو بسبب بشريتهم الثانية: قد تقع أنت في خلاف الأولى ويحصل منك مواقف لا ينبغي لمثلك أن يقع فيها، فلا سبيل إلى رجوعك للحق بسرعة إلا أن تكون صاحب دين متين فاحرص على تقوية دينك، فكلما كان الشخص أقوى ديناً كان أسرع رجوعاً قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعد أن ذكر حديث ربيعة: وفي الحديث من الفوائد: - فضل أبي بكر على جميع الصحابة. - وأن الفاضل لا ينبغي له أن يغاضب من هو أفضل منه. - وفيه ما طبع عليه الإنسان من البشرية حتى يحمله الغضب على ارتكاب خلاف الأولى، لكن الفاضل في الدين يسرع الرجوع إلى الأولى كقوله تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا). - وفيه أن غير النبي صلى الله عليه وسلم ولو بلغ من الفضل الغاية ليس بمعصوم وذكر فوائد أخرى جميلة يمكن لمن أرادها أن يرجع إليها في الفتح. الخامس عشر: التنافس في الخيرات بين الصالحين مشروع ولا حرج فيه لكن الأكمل هو عدم الالتفات إلى الخلق وهذا هو كمال التوحيد. اشتهر أنه كان بين أبوبكر وعمر من التنافس في الخير، وأن كل واحد منهما كان حريصاً على أن يسبق الآخر في أعمال الخير والبر، وهذا الكلام يوافق عليه وأيضاً لا يوافق عليه، وقد أجاد شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في تجلية هذه القضية بكلام لا مزيد عليه في المجلد العاشر من مجموع الفتاوى في فصل تكلم فيه عن الحسد كمرض من أمراض القلوب، ثم تكلم بعد ذلك عن الغبطة المباحة وعن التنافس المشروع في أعمال الخير، ملخص كلامه أن التنافس كان من جهة واحدة، وهو من جهة عمر رضي الله عنه فقط، وهذا هو الجانب الذي يوافق عليه، والذي لا يوافق عليه أن التنافس كان من الطرفين فالصديق رضي الله عنه لم يكن أصلاً يفكر في أن ينافس عمر، وإنما كان يسبقه دائماً بطبيعة حاله وسجيته، فلم يكن يتكلف المواقف، وإنما هذه هي أعماله وهذا هو حاله، ولذا كان هو الأكمل، وإن كان فعل عمر مشروعاً لكن حال الصديق أكمل وأولى. قال شيخ الاسلام[15]: هذا وعمر بن الخطاب نافس أبابكر رضي الله عنه الإنفاق كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي فقلت اليوم أسبق أبابكر إن سبقته يوماً قال: فجئت بنصف مالي قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قلت مثله، وأتى أبوبكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر لا أسابقك إلى شيء أبداً" قال شيخ الإسلام معلقاً على هذا الحديث: فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة، لكن حال الصديق رضي الله عنه أفضل منه، وهو أنه خال من المنافسة مطلقاً لا ينظر إلى حال غيره. ثم ضرب شيخ الإسلام مثالاً جميلاً على صحة ما ذهب إليه فقال: وكذلك موسى صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج، حصل له منافسة وغبطة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى لما تجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي" قال شيخ الإسلام: وعمر رضي الله عنه كان مشبهاً بموسى، ونبينا حاله أفضل من حال موسى فانه لم يكن عنده شيئ من ذلك. ثم أتى شيخ الإسلام بمثال آخر فقال: وكذلك كان في الصحابة أبوعبيدة بن الجراح ونحوه كانوا سالمين من جميع هذه الأمور، فكانوا أرفع درجة ممن عنده منافسة وغبطة، وإن كان ذلك مباحاً، ولهذا استحق أبوعبيدة رضي الله عنه أن يكون أمين هذه الأمة، فإن المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيئ مما اؤتمن عليه كان أحق بالأمانة ممن يخاف مزاحمته، ولهذا يؤتمن على النساء والصبيان، ويؤتمن على الولاية الصغرى من يعرف أنه لا يزاحم على الكبرى، ويؤتمن على المال من يعرف أنه ليس له غرض في أخذ شيئ منه، وإذا اؤتمن من في نفسه خيانة شبّه بالذئب المؤتمن على الغنم، فلا يقدر أن يؤدي الأمانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه. انتهى كلامه النفيس رحمه الله. هل عرفت يا أخي لماذا كان الصديق أكمل، لأنه لم يكن يلتفت إلى الخلق أبداً بل كان يعمل لله، وهذا هو التوحيد الذي صعب على كثير من الخلق الوصول إليه، اسمع لهذا الحديث الذي راوه الإمام أحمد في مسنده في نفس ما نحن بصدد الحديث عنه، عن قَيْسِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّهُ أَتَى عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْه فَقَالَ جِئْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكُوفَةِ وَتَرَكْتُ بِهَا رَجُلًا يُمْلِيَ الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ فَغَضِبَ وَانْتَفَخَ حَتَّى كَادَ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ شُعْبَتَيِ الرَّحْلِ فَقَالَ وَمَنْ هُوَ وَيْحَكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَمَا زَالَ يُطْفَأُ وَيُسَرَّى عَنْهُ الْغَضَبُ حَتَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ وَيْحَكَ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ هُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْه اللَّيْلَةَ كَذَاكَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّهُ سَمَرَ عِنْدَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا مَعَهُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ فَلَمَّا كِدْنَا أَنْ نَعْرِفَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ قَالَ ثُمَّ جَلَسَ الرَّجُلُ يَدْعُو فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ، قَالَ عُمَرُ رَضِي اللَّه عَنْه قُلْتُ وَاللَّهِ لَأَغْدُوَنَّ إِلَيْهِ فَلَأُبَشِّرَنَّهُ قَالَ فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ لِأُبَشِّرَهُ فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ وَلَا وَاللَّهِ مَا سَبَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا وَسَبَقَنِي إِلَيْهِ. واضح حرص عمر رضي الله عنه على سبق الصديق، لكن أبوبكر لم تكن المسألة في حسابه أصلاً، فانه لا يلتفت إلى عمر ولا إلى غيره. وبمناسبة هذا الحديث الجميل لعلي أهمس في أذنك هنا، حرص أولئك القوم على إدخال السرور إلى قلوب إخوانهم ولو بالبشارة الطيبة، فبمجرد ما سمع أبوبكر وعمر تأمين الرسول صلى الله عليه وسلم على دعاء ابن مسعود، ومعلوم أن الرسول مستجاب الدعوة، صار كل واحد منهم يرقب الصبح ليسرع إلى بشارة أخيه، فما إن انطلق عمر ووصل إلى بيت ابن مسعود، حتى وجد الصديق قد خرج، فعلم أن البشارة قد وصلت. السادس عشر: من أوجب واجبات المصلحين، غرس الثقة بالنفس في أبناء الأمة، ومحاولة رفع مستوى احترام النفس، إن هذه الأمة لو عرفت مكانتها، وشعرت بحجمها، واعتزت بنفسها، لتغيّر شيء كثير وهذا مهمة المصلح. خذ هذا المثال: كان الطب في كوريا يدرّس باللغة الإنجليزية، فأصدر رئيس الدولة قراراً بتدريس الطب باللغة الكورية، فهاج الأساتذة وماجوا، محتجين بأن أضراراً بالغة سوف تلحق بالطلاب إذا تم ذلك، فالكورية ليست لغة حية، والمراجع الطبية المكتوبة بالكورية صفر. وكان موقف رئيس الدولة هو أنه بعد عام سوف يكون التدريس بالكورية وإلا فإن الدولة سوف تغلق الكلية، إلى أن يجد الأساتذة في أنفسهم الكفاءة لذلك. فماذا كانت النتيجة؟ خلال عام تهيأ الأساتذة لذلك وفتحت الكلية أبوابها، وسار كل شيء على ما يرام، وانتهى تدريس الطب هناك بالانجليزية إلى غير رجعة. فهل إمكانات الكورية في استيعاب العلوم أكبر من إمكانات العربية، الجواب معروف. إذن، كيف حصل ذلك عندهم ولم يحصل في السواد الأعظم من جامعات العالم الإسلامي، الجواب أن العزيمة الحرة هناك، اكتشفت الإمكان الحضاري أما نحن فيحصل ذلك عندنا حين نشعر بضرورة احترامنا لأنفسنا. فنحن بحاجة قبل ذلك إلى معاهد ودورات وبرامج في اكتشاف النفس، ومعرفة الذات والاعتزاز بها، ولتحقيق هذا، جهد ضخم نسأل الله أن يعين المصلحين للقيام به. السابع عشر: ربما سمعت مراراً عبارة "سلفية المنهج وعصرية المواجهة" فماذا تعني هذه العبارة؟ إن السلفية المنشودة، هي العودة بأصول الفهم إلى الكتاب والسنة وقواعد تفسير النصوص لدى القرون الثلاثة الأولى. أما عصرية المواجهة المقصودة، فهو أن يدرك جيداً أولئك المصلحون الذين يهمهم أمر الساحة، أن يدركوا جيداً أن محاور المعارك القائمة بينهم وبين خصومهم وأعدائهم، ويدركوا كذلك الفلسفات والنظم العلمانية والمادية التي تغزوهم صباح مساء، ومهم جداً وهذا مطلب ملح وهو استثمار الطاقات التي بأيديهم واستغلالها أتم استغلال، فكم من الجداول والله المستعان، يذهب ماءها في صحراء قاحلة. إنه ليس من عصرية المواجهة في شيء، أن ينتقل الداعية على دابة، وينتقل منافسة المبشر في نفس الموقع في حوّامة، وليس من المعاصرة أن نواجه هذا الغزو الإعلامي الرهيب، بالشجب والاستنكار، دون أن يملك المصلحون قنوات وشبكات إعلامية، تنشر الهدي الرباني في أنحاء المعمورة. إن عدداً من المصلحين يجاهد في غير عدو، تجده ينشغل بمهاجمة وأفكار ومعتقدات، لا رصيد لها في ساحته، وفي الوقت نفسه، لا يملك أية خبرة في الأفكار الهدامة التي تستأصله وهو نائم، وتُجهض من حيويته، وتحرفه عن الطريق، فضلاً عن أن يمتلك الوسائل لمقاومتها. خذ هذا المثال لتدرك المقصود: كم كتاباً صدر، يتحدث عن اليهود في الكتاب والسنة، وهذا بحد ذاته طيب، لكن أين ذلك الكتاب الذي يبحث في بنية التنظيم اليهودي العالمي المعاصر، وأين ذلك الكتاب الذي يكشف عن الآليات المستخدمة عند اليهود في اختراق الدول والمؤسسات أو في الأفكار السائدة لديهم، أو في المشكلات التي تجابههم، لكي نشعل فتيلها أكثر بطريقة أو بأخرى. الثامن عشر: كثيراً من الشباب يخلط في قضية مهمة ينبغي التنبه لها وهو أنهم يطلبون من المفكر أن يكون فقيهاً ومن الفقيه أن يكون خطيباً ومن الواعظ أن يكون عالماً، ويستغربون إذا سألوا واعظاً وقال لا أدري هذا إذا تورع وقال لا أدري، وقد يُسأل المتفقه أو المشتغل بعلم الحديث عن أدق الأمور السياسية فإذا أجاب أتى بالعظائم، ويُسأل الواعظ أو الخطيب عن أدق الأمور في العقيدة أو الفقه فيجيب بإجابات غير صحيحة أو غير دقيقة، وكأن المفترض في هؤلاء أن الواحد منهم إذا أتقن علماً معيناً أن يتقن باقي العلوم؟ وبالجملة فبعض شباب الصحوة يريدون أمة في رجل، وينسون أن المواهب والقدرات موزعة بين الناس، وقد لا تجتمع عدة مواهب إلا في الآحاد من الناس وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله جل وتعالى قد يفتح على البعض بالخطابة المؤثرة التي تلبي حاجة العاطفة والوجدان، وعلى آخر بالحديث المشوق الهادئ، وعلى ثالث بالكتابة، والناس في هذا ما بين عالم ومتعلم، وكل يستفاد منه حسب طاقته وحسب اختصاصه. يروى أن الخليفة العباسي المأمون أراد من المؤرخ الواقدي حفظ سورة من أواسط المفصل فلم يقدر فقال المأمون: هذا رجل فتح الله عليه في التاريخ وقد وصف أحد نقّاد العلم علماء عصره وقدراتهم ومكانتهم فقال: سفيان الثوري عالم بالحديث، والأوزاعي عالم بالسنة، والامام مالك عالم بهما جميعاً. فالأمر كان واضحاً عند ذلك الجيل حول قدرات الناس ومكانتهم العلمية فلا يرفعون أحداً فوق مكانته، ولا يبخسون أحداً حقه بينما قد تلحظ اليوم أن أي متكلم أو خطيب مفوه يقال له: العالم الشيخ الداعية، وهذا خلط مرفوض وقد يؤدي إلى جعل الناس يسألون ويستفتون من لا يصلح للفتيا والسؤال. فالواجب على شباب الصحوة أن يعلموا بأن هناك علماء، وأن هناك طلبة علم وأن هناك خطباء، وأن هناك كتّاب، فتوضع الأمور في مواضعها وترجع إلى نصابها ويستفاد من الطاقات كل في موضعه. فالشخصية المحببة للناس الذي يتقن فن العلاقات العامة يصلح للتصدي لإرشاد الناس والتحدث إليهم، والمفكر الإسلامي قد يكون بعيداً عن هذه الأجواء، ولكن يستفاد منه في عمق الملاحظة ودراسة تطورات المجتمع وعلله وخفاياه، وقد يطلب من العالم أكثر مما يطلب من غيره، فالأصل فيه أن يكون "ربانياً" يربي الأمة ويسوسها، فإذا لم يوجد فلنستفد من كلٍّ ومقدرته وما فتح الله عليه به. التاسع عشر: من الظواهر اللافتة للنظر في حياتنا الثقافية هذه الأيام مزاحمة الشريط المسموع للكتاب المقروء، وخاصة عند جيل الشباب الذي ضاق وقته في زحمة الدراسة وزحمة العمل. وهذا العصر هو عصر السرعة، فهو يستمع للشريط في غدوه ورواحه، وربما في المنـزل وهو يقوم بأعمال أخرى. والسماع أسهل من القراءة فالقراءة بحاجة إلى صفاء في الذهن واستجماع طاقة التركيز، ولهذا بدا وكأن الكتاب وبخاصة إذا كان من الحجم المتوسط أو الكبير ثقيل الظل على هؤلاء الشباب. وقبل أن نتكلم على أهمية الكتاب لا بد من القول بأن الشريط الإسلامي الذي يتضمن المحاضرات والدروس القيمة والخطب المؤثرة الصادقة، قد ساهم مساهمة كبيرة في نشر الوعي بين صفوف طبقات كثيرة من الناس وأعطاهم ثقافة لا بأس بها، وهو وسيلة فعالة لأسباب كثيرة منها: سهولة التلقي، وسهولة الشراء، وسرعة الانتقال، ولكن هل يغني هذا كله عن الكتاب خاصة للشباب المسلم الذي يُؤهِل نفسه ليكون داعية؟ الجواب: لا. ذلك لأن الشريط وإن كان يتضمن علماً مثل الكتاب أحياناً، ولكن طريقة السماع لا تعطي العمق الذي يعطيه القراءة، والمعلومات التي في الكتاب لا يستطيع الشريط استيعابها، وفي الكتاب تعيش مع المؤلف ومع الكلمات فتعطيك روحاً من روحها، وعندما نتكلم عن الكتاب المعاصر الذي لا يوجد في شريط والذي يتحدث عن قضايا مهمة جداً من قضايا العصر، فهل يهمل لأن حجمه فوق المتوسط فكيف إذا انتقلنا إلى كتب الأمهات والأصول مما كتبه الأجداد، وهو ذخيرة وأي ذخيرة في فهم الكتاب والسنة؟ ولا بد من الرجوع إليها وخاصة تلك التي تعتبر وحيدة في فنها، ولا نتكلم عن الكتيبات التي زاحمت الكتب أيضاً، وهي وإن كانت وسيلة ناجحة لطبقات معينة، لكن يخشى أن تصبح هي الأصل ويستسهل الناس أمثالها وينفرون من الكتاب حتى ولو كان من الحجم المتوسط. إن ثقافتك أيها الداعية وعلمك لا يمكنك أن تبنيه إلا إذا عشت مع الكتاب، وليس مع أي كتاب، لكن مع الكتاب النافع المهم، وقبل ذلك وبعده، اعلم بأن أي شريط جيد مؤثر أعجبت به كانت هناك قراءة وكتابة من صاحب الشريط، وذلك العالم أو الداعية الذي تستمع له في الشريط قد أفنى حياته في القراءة قبل أن يقدم الشريط الجيد، وأما الاعتذار بضيق الوقت فهو حجة واهية لأن الذي ينظم وقته لا بد أن يجد وقتاً كافياً يعيش فيه مع الكتاب، وأخيراً: إن القراءة متعة بحد ذاتها وأول ما نزل من القرآن: (اقرأ باسم ربك الذي خلق). الواحد والعشرون: إن أولئك الذين يزعجهم واقع مجتمعات الأمة الحالي ويتحمسون للتغيير قد يجهلون بعض السنن الربانية في التغيير التي أودعها الله سبحانه وتعالى في كتابه أو أجراها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. من هذه السنن أن الدعوات الصادقة إذا أريد لها النجاح والتمكين كان لا بد لها من قوى تؤيدها وتنصرها، قوى من التكتل الجماهيري الذي يلتف حول هدف واضح محدد. أو بمصطلح ابن خلدون: لا بد من "العصبية" التي تعني الالتحام والتعاضد والتنافر لتحقيق هدف معين، وليس المعنى المذموم لكلمة - عصبية - وإذا كان التكتل سابقاً يعتمد على القبائل والعشائر فإنه في العصر الحديث يعتمد على جميع شرائح المجتمع الذين يلتفون حول العلماء والفقهاء، الذين يعلمون بفقههم وتفكيرهم سنن التغيير وتحويل المجتمعات والتأثير فيها، وخاصة ما نحن فيه من تعقيدات العصر. هذه القوة والمنعة هي التي افتقدها نبي الله لوط عليه السلام حين قال: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد، وما بعث الله بعده نبياً إلا وهو في ثروة من قومه". يقول الإمام الجويني رحمه الله: "ما ابتعث الله نبياً في الأمم السالفة حتى أيّده وعضّده بسلطان ذي عدة ونجدة، ومن الرسل عليهم السلام من اجتمعت له النبوة والأيد والقوة كداود وموسى وسليمان صلوات الله عليهم أجمعين". فإذا كان الأنبياء يؤيدون "بثروة من قومهم" وهم مع ذلك مؤيدون بالمعجزات وخوارق العادات فكيف بغيرهم الذين يرومون التغيير بالعشرات أو المئات ويقولون نحن نتوكل على الله؟! لا شك أن المسلم يطلب العون من الله ويتوكل عليه، والله سبحانه وعد المسلمين بالنصر ولكن لا بد من الأخذ بالأسباب الشرعية ومن أهمها تجميع القوى التي تناصر وتعاضد. فهل درس هذا الموضوع بعمق وأناة أم أن مقولة: "نعمل والنتائج على الله" لا تزال هي الشائعة والأكثر قبولاً ورواجاً، مع أنها ظاهرياً صحيحة، فهي كلمة حق تستخدم في غير محلها فالقول بأننا نعمل يجب أن يمحص، إذ ما يدريك أن عملك صواب وقد أخذت فيه بالأسباب؟. نعم إذا بذل الجهد الصحيح فالنتائج على الله، أما أن يُعمل أي عمل ثم يقال: "النتائج على الله". فهذا ضرب من حب السهولة وهروب من النقد وحتى نستريح نفسياً من اللوم والتقريع، وحتى مع توفر عنصر الإخلاص في هذا العمل فهذا لا يكفي فلا بد من معرفة سنن الله في التغيير. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. الثاني والعشرون: إن هذا الدين من جملة ما حثنا عليه المثابرة والاستمرار في العمل وأن يكون نفسنا طويلاً فلا ننقطع لأيّ عارض، ولا شك أن هذا الخلق وهذه العادة من أكبر أسباب نجاح الأمم والأفراد. والذي يؤسف له هو فقدان هذا الخلق في الأزمنة المتأخرة عند حملة هذا الدين، ممن يهمهم أمر الإصلاح والتغيير، وليعلموا بأنه لا إصلاح ولا تغيير دون نفس طويل. ما أن نبدأ بعمل أو مشروع ما حتى ننقطع، وما أن نسير خطوات حتى نمل ونتعب، وكم من مشاريع علمية أو اقتصادية بدئ بها ثم انقطعت، سواء كانت مشاريع فردية أم جماعية، وبعد الانقطاع تتغير الوجهة من جديد، والسبب في هذا هو أن الطبع ملول، ولم نتربى بعد على الصبر والمصابرة والمثابرة. كم مرة تحمست أنك ستبدأ في حضور درس ثم قطعت بعض خطوات ثم انقطعت، كم مرة عزمت على قراءة بعض أمهات الكتب وبعد قراءة عشرات الصفحات انقطعت. ولو تصفحنا التاريخ لوجدنا أن كبار العلماء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلاّ بالمثابرة والمصابرة، وكم عانى علماء الحديث من الترحل ومشقة الأسفار، وغيرهم من العلماء ما تسنموا هذه المنازل إلاّ بعد أن جثوا على الركب سنين، وكان أحدهم يسهر أكثر الليل يفكر بالمسألة ويقلب فيها وجهات النظر. وإذا جاز لنا التعلم من أعدائنا، فإن هذا الخلق موجود عند الغربيين، يستقرّ المبشر بالنصرانية في قرية منقطعة في غابات آسيا أو أدغال أفريقيا سنوات وهو يدعو إلى باطله، وتكون النتائج غالباً ضئيلة، فلا يخرج إلا بالآحاد الذين تنصروا ومع ذلك لا يسأم ولا يمل. وقد يتعجب المرء إذا علم أن بعض الصحف والمجلات الغربية لا تزال تصدر من أكثر من مئة سنة وبالاسم نفسه ودون انقطاع، وبعض مؤسساتهم عمرها مئات السنين لم تتغير حتى في شكلها فمقر رئاسة الوزراء في بريطانيا عمره 250 سنة ولم يفكروا بالانتقال إلى مكان أوسع وأرحب. وأما مشاريعهم العلمية الطويلة الأمد فيعرفها كل طالب علم، فالمعجم المفهرس لألفاظ الحديث، وكتاب المستشرق "دوزي" لتاريخ المسلمين في الأندلس استغرقت عشرين سنة. إن هذا الاستمرار الطويل يعطي رسوخاً وتجربة، ويخرّج أجيالاً تربت من خلال هذه الاستمرارية. أما عادة الانقطاع فإنه لا ينتج عنه إلاّ الخيبة والندامة وقد نهانا الله سبحانه وتعالى أن نكون (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً) والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. _________________________________ [1] عدة الصابرين 121 [2] اغاثة اللهفان 1/145 [3] مجموع الفتاوى 35/365 [4] تهذيب التهذيب 8/463 [5] طبقات الشعراني 1/103 [6] طبقات الشعراني 1/44 [7] حلية الأولياء 6/288 [8] احياء علوم الدين 2/172 [9] طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1/43 [10] مناقب أحمد لابن الجوزي ص 119 [11] صحيح مسلم 7/163 [12] سنن النسائي 7/65 [13] طبقات الشعراني 1/26 [14] الفتح 7/26 [15] الفتاوى 10/116
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |