|
ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الأبعاد التربوية للحج د. حمدي شعيب ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنفَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَـــجِّ )) [البقرة: 197].سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الأعمال أفضل؟ قال:إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم جهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال:ثم حج مبرور"(1). تـشـكِّـــل الآية السابقة مع حديث رسولالله صلى الله عليه وسلم ملمحاً يفتح للمسلم باباً عظيماً فـي الفقه نحن في أمسالحاجة إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهو فقه ترتيب العقلية المسلمة، أو (فقهالأولويات)، وهو ما يُعرف بفقه مراتب الأعمال؛ حيث يتعلم منه المسلم أن للأعـمـالمراتب متباينة ومتفاضلة في أهميتها وفي ثوابها وفضلها، وأن لكل عمل وقتاً معيناً،وأولوية متقدمة على سائر الأعمال، وهو ما يُعرف بـ (واجب الوقت).وعلى ضـــــوءذلك يمـكـن إعــادة ترتيب العقل المسلم وصياغته، فيدرك من خلاله أن فقه الأولويات:هو مراعاة النسب بيـن الأعـمــــال والتكاليف الشرعية، والإخلال بها يُحدث ضرراًبليغاً بالدين والحياة. والعقيدة في الإسلام مقدمة على العمل. والأعمال متفاوتةتفاوتاً بعيداً، وهي تتفاضل عند الله ـ سبحانه ـ ولـيـسـت عـلى درجة واحدة؛فالنافلة لا يجوزتقديمها على الفريضة، وفرض العين مقدم على فرض الـكـفـايـــة.ومما ينبغي أن نعرفه: القضايا التي هي أوْلى بالاهتمام فتُعطى الجهد والوقت أكثرمما يُـعـطـى غيرها، وأن نعرف أوْلى الأعداء بتوجيه قوانا الضاربة، وتركيز الهجومعليه، وأي المعارك أوْلى بالبدء؟وأجاب ابن القيم ـ رحمه الله ـ عن أي العباداتأفضل: هل الأفضل مـنـهــــا: الأشق؟ أو الأفضل: المتعدية النفع؟ ثم رجَّح أنه لايوجد أفضل بإطلاق؛ وإنما لكل وقـت عبادة تكون هي الأفضل بالنسبة له (2). ولا نـنـسـى وصـيـتـه صلى الله عليه وسلم عندما رتبأولويات الإنفاق، فقال: "وابدأ بمن تعول" (3). وكذلك عندما قصعلينا صلى الله عليه وسلم أوضح مثال لعاقبة عدم ترتيب الأولويات بما حــدث لجريجالعابد عندما قدَّم الأولوية لعمل صالح مرجوح على عمل صالح آخر أرجح؛ حـيـث قـــدمالاستمرار في صلاته، ولم يلبِّ نداء أمه ثلاثاً، فأغضبها، ودعت عليه دعوة استجاب ـســبـحــانه ـ لها فيها، وهي أن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات، فاتهمته إحدىالبغايا بالزنا والفجور، ولكن الحق ـ سبحانه ـ أنجاه بتوبته وصلاحه (4). والداعية أوْلى الناس بامــتـلاك تـلـك العقلية المرتبة،فيعرف حق الوقت، ويفقه أولوياته، ويربأ بنفسه أن يكون تعامله مع القضايا تعاملاًمختلاً، مثل ذلك السفيه الذي استجار به غريق فاشترط أولاً أن يستر هذا الغريقالمسكين عورته، حتى ينقذه! إشارةنبوية:تـنـمـيـة روح الجـنـديـــةوالانضباط: وتبدأ هذه الرحلة المباركة من أماكن معينة، تعرف بالميقات المكاني للحج،وهــي خمسة حدود مكانية؛ فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال:"وقَّت رسول الله صلىالله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة،ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرنالمنازل، ولأهل اليمن يَلمْلَمْ. قال: "فهن لهن، ولمن أتى عليهن مـن غـيــر أهلهن،لمن كان يريد الحج، أو العمرة. فمن كان دونهن فمَهَلُّه من أهله، وكذلك حتى أهل مكةيهلون منها" (5). ولا يجـوز تجاوزها بغير إحرام إذا نوى العبدالحج أو العمرة، ومن تجاوزها فإنه يجب عليه أن يعود إليها ويحرم منها، وإلا فعليهدم يذبحه ويوزعه على فقراء الحرم.من هذه الـشـعـيـرة الـخـاصـة يمكننا أن نضعأيدينا على مغزى بعيد لها، وبُعْدٍ تربوي تستشعره النفس من خلال تدبرهـــــا،وهــــو أن يتعود المسلم دوماً أن لكل عمل ولكل أمر حدوداً معينة لا يجوز تجاوزها،بل إن تجاوزهـــــــا قد يكون من الخطورة بمكان؛ حيث ينعكس أثره على صحة العملنفسه، وقبوله عند الحق ـ سبحانه ـ.وهذا المغزى الانضباطي التربوي البعيد يكاديكون سـمــة بارزة من سمات المنهج الإسلامي التي يُربَّى المسلم عليها؛ حيث توجدعنده هذه الروح، ويـنـمـيـهـا في حسه، فتعوِّده على حب النظام والانضباط، والطاعةللأوامر، والتزام حدود كل عمل فلا يتجاوزه، وهي كلها جوانب تندرج تحت صفات الجنديةالمنشودة.وكذلك كانت روح كل الشعائر والأعمال الخاصة بركن الحج.وتـدبر كيفأن لهذا الركن العظيم أركاناً أربعة هي: الإحرام، وطواف الإفاضة، والوقوف بعرفة،والسعي بين الصفا والمروة؛ فمن ترك ركناً لم يصح حجه، ولا يتم إلا به.وتدبرأيضاً أن لهذا الركن واجبات؛ فمن ترك واجباً فعليه دم لفقراء الحرم.وهي أيضاًروح كل العبادات والشعائر.ويمكـنـنا أن نأخـذ مثالاً واحـداً وهـو الصلاة، وكيفأن لها شروطاً، وفرائـض، وســنـنـاً معينة، كلها توقيفية لا يجوز الزيادة عليها.والمقام لا يتسع هنا إلى التفصيل أكثر من هذه الإشارات.وكذلك كانت روح علاقاتالمسلم كلها. فسلوكه مع ربه، وسلوكه مع نفسه، ومع أهله له ضوابط محددة، وهي حقوق فيعنقه: "إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقحقه" (6). من هنا نخلص إلى أن الانضباط والتزام حدود الله ـتعالى ـ من صفات المسلم الحق.وعكس هذا هو عدم النظام والتسيب، والمخالفة،والتعدي.بل إن تلك القضية لها آثار خطيرة داخل النفوس وكذلك داخلالصف.ولنتدبر هــــذه النصيحة العظيمة من الحبيب صلى الله عليه وسلم التي تبرزتلك الرابطة بين النظام في الظاهر، والنظام في الداخل؛ فما هي إلا إشارة حمراء تحذرالعاملين، وتبين أن الاخـتلاف الظـاهري ينتج اختلافاً بين القلوب. قال صلى اللهعليه وسلم: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" (7). والداعية أوْلـىبالالـتزام بصفات الجندية، وهو اللبيب الذي بالإشارة يفهم؛ فما بالك إذا كانت تلكالإشارة نبوية واضحة جلية؟ فضل إعلان الهوية: من عند هذهالمواقيت المكانية، وفي أثناء تلك المواقيت الزمانية يُحْرِم المسلم إذا نوى الـحـجأو الـعـمــرة؛ وذلـك بــأن يخلع ثيابه التي يلبسها، ويرتدي ثياب الإحرام، وهيتتكون من رداء وإزار أبيضين نظيفين، أما المرأة فتلبس ما شاءت من الثياب المباحةغير ثياب التبرج والزينة، ويستحب للإحرام الاغتسال والتطيب ونظافة الملبس.وإذاأحرم المسلم كان عليه أن يرفع صوته بالتلبية: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لكلبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".ثم يلتزم باجتناب محظوراتالإحرام المعروفة.وبـتـدبـرنــا لهذا العمل من أعمال الحج والذي يُصنَّف ركناًمن أركانه، وكذلك واجباً من واجباته، وذلـك مـــن الجانب الذي يهمنا هنا وهو البعدالتربوي لهذه الشعيرة، ودورها المهم؛ حيث تستشعر النفس أن هذا العمل يرمز إلى معنىرفيع وهو قضية جهد الإنسان في التغيير وفعاليته في صنع الأحداث، فشرارة البداية فيالتحولات الحضارية، هي محاولة تغيير النفس: ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَابِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)). [الرعد: 11].ومع قناعتنا بأنالتغيير المنشود هو التغيير الداخلي أي تغيير النفـس والجوهـر الإنساني، ورغـميقينـنا بأن الحق ـ سبحانه ـ لا يعامل الناس بظواهرهم: "إن الله لا يـنـظر إلىأجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"(8). ولكن البعد التربــوي للإحرام يوجهنا إلى منحى آخر مهم،وإلى دلالة عظيمة هي: أن من أراد التغيير الداخـلـي فــلا يـهـمـل التغيير الخارجي؛فالإنسان كلٌّ لا يتجزأ، وأي خلل ظاهري له تأثير بعيد داخلياً؛ وذلـك كـمـــا أشرناإلى وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم التحذيرية: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" .(9) وكذلك كما نهتم بتسوية الصفوف، خوفاً من تأثيرها على الداخل: "لَتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم"(10). والإحرام رمز للانسلاخ من مرحلة إلى أخرى، ويعتبر عهداًبين المسلم وربه، وتأكيداً على صدق نية التغيير والالتزام بذلك ظاهرياً بلبسالإحرام، وإعلان ذلك برفع الصوت بالتلبية حتى يعلم الناس جميعاً بهذا الميثاق،وبتوابعه ـ وهي اجتناب محظوراته ـ، بل إن البعد التربوي لهذه التلبية ودلالاتهانستشعرها من تدبر قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من ملبٍّ يلبي إلا لبَّى ما عنيمينه وشـمـالــه من شجر وحجر حتى تنقطع الأرض من هنا وهنا ـ يعني عن يمينه وشمالهـ"(11). وتـدبـر ذلك النداء ورفع الصوت بالتلبية وأثرهالكوني والباطني، وتواصله مع ذلك النداء الذي رفـعه مؤسس هذا المشروع العظيم الخليلـ عليه السلامـ عندما أمره الحق ـ سبحانه ـ أن يؤذن في الناس، فيبلغهم ويدعوهم،ووعده بالإجابة: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىكُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ )) [ الحج: 27] "أي نــادِ فيالناس بالحج داعياً إياهم إلى الحج، إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذُكِر أنهقـال: يـا رب كـيـف أبلغ صوتي ولا ينفذهم؟فـقـال: نـادِ؛ وعـلـيـنـا البلاغ.فقام على مقامه ـ وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس ـ وقـال:يـا أيـهـا الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً، فحجوه. فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغالصوت أرجـــاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجرومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك"(12). وهـو رمـــز لإعلان الهوية، وما يدل عليه من أن هذاالمشروع مشروع كوني يهش ويبش له كل الخلائـق، ويـتـجـاوب معه الوجود كله، ويباركهرب هذه الخلائق ورب هذا الوجود كله ـ سبحانه ـ.وهـــــو رمز التميز الذي يفرقبين أصحاب هذا المشروع الرباني العظيم وأصحاب المشاريع الأرضـيـة الـمـغـايرة؛ يفرقبين المشروع الذي يتجاوب له الوجود وتأنس إليه الفطرة وبين المشاريع الأخـرى الـتيوإن لم تـصـطــــــدم فهي تتنافر مع الوجود، وتأنف منها الفطرة الإنسانية.وهــوأيضاً عنوان التحدي الذي يشمخ به أصحاب هذا المشروع على غيرهم من أصحاب المشاريـعالـمـناوئة؛ التحدي بالركون إلى الحق ـ سبحانه ـ، إلى القوة التي تباركه وتزكيهوتباهي بأصحابه ملائكة السماء؛ حيث روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه خرج على حِلَقٍمن أصحابه، فـقال: "ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هداناللإسلام ومَنَّ به علينا. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلاذاك.قال: أما إني لم أستـحـلـفـكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن اللهيباهي بكم الملائكة"(13). ومن هنا ندرك كم لهذا العملالعظيم من أعمال الحج من آثار كونية!وكـم لـه مـن آثـــار باطنية تأخذ بتلابيبالنفس، ويتراقص لها القلب لهفة وحباً وشوقاً! وذلك استجابة لدعـــــاء الخليل ـعليه السلام ـ الذي رفعه ذات يوم من أيام هذا المشروع العـظـيـــم: ((رَبَّنَاإنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَالمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِتَهْوِي إلَيْهِمْ)) [إبراهيم: 37].لذا فهو إعلان مادي بالالتزام بعهدالانسلاخ، والتحول من الماضي بكل سلبياته والدخول إلى المستقبل المنشود من خلالبوابة الحاضر.والدعاة الـعـامـلــــون يعون جيداً مغزى هذا العمل، ودلالاتهالكثيرة، وأهمية تلك النقلة، والعبور من مرحلة التفلُّت إلى مرحلة العمل من أجلأداء هذه الشعيرة الإسلامية الكبرى. لبنةالتربية:عـنـد هـذه المـواقـيـت المكـانية،وأثناء المواقيت الزمانية للحج يبدأ المسلم رحلته المباركة، ويحدد نيته فيختارأحــد الأنساك الثلاثة: إما التمتع، أو الإفراد، أو القِران.وكذلك عندما ينهيرحلـتــه يكون على أحد الخيارين: إما التعجل في نهاية اليوم الثاني عشر وقبل غروبشمسه، أو أن يتأخر إلى اليوم الثالث عشر.وبتدبر هذه الخيارات سواء فـي بـدايـةالرحلة أو في نهايتها التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها أي منالأئمة، وكـذلـك فـي اخـتـلاف الفـقـهــاء في أفضلية أي من الأنساك على غـيـرهـا،وبتدبر هذه الرحمة الإلهية في قوله ـ سبحانه ـ: ((فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِفَلا إثْمَ عَلَيْهِ ومَـن تَـأَخَّـــرَ فَــلا إثْـمَ عَـلَـيْـهِ لِمَنِ اتَّقَىواتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ)) [البقرة: 203]،وبالنظرة الشمولية العامة، والغوص في المغزى البعيد للنصوص، وعدم قصرها على موضوعالحج، بل بالتوسع في مـعـناها البعيد، ومن هذا المنطلق المنهجي نجد أن هذه النظرةلهذه الركيزة القائمة على تدبر الخـيـــارات في رحلة الحاج تفتح باباً عظيماً فيالمنهج، وتكشف أضواءاً على قضيةٍ طالما شغلت الكثيرين في مختلف العصور؛ ألا وهي(قضية تعدد الصواب)، وهي من أهم جوانب إعادة صـيـاغة العقلية المسلمة وركائزها التيندعو إليها ليزيد رصيدنا من هذه العقليات التي تفقه وتـعـي (فـقـه الموازنات) أوفقه الترجيح، وهو الفقه الذي على أساسه يقوم بنيان (السياسة الشرعية).ولانـنـسـى الفـقـه الآخــر الـمـرتـبـط بهذا الفقه ويلازمه وقد يتداخل معه؛ ألا وهو(فقه الأولويات).فـعـلـى أســاس هذين الفقهين يتم الترجيح والموازنة بينالاختيارات على أساس الأصوب والأوْلى.وفـي الـنـهـايــــة نخلص إلى أن ذلك منعلامات سعة المنهج ومرونة الشريعة، وكذلك من علامات نضج حـامـلي هذا المنهج وثقتهمفي سمو فكرتهم التي يدعون إليها وعلوها، وهي أيضاً دلالة بارزة على سعة أفق دعاةمشروعه الحضاري.وإذا كان لهذه الـقـضـايـــــا أهميتها في الماضي فإن هذهالأهمية تتضاعف في حلقة الصراع والتدافع الحضاري المعاصرة أمام تيارات ومشاريعمناوئة يُلقي حاملوها بالتهم جزافاً على حاملي المشروع الحضاري الإسلامي، ويتهمونهمبالجمود والتحجر وأحادية النظرة. آلامٌ ...وآمال:ضرورة إيجاد محور تغييري واحد: ثميبدأ الحاج طوافه، فيبدؤه باستلام الحجر الأسود بيده اليمنى ويقبِّله، فإن لم يتيسرتقبيله قبَّل يده إن استلمه بها، فإن لم يتيسر ذلك، فإنه يستقـبـلـه ويشير إليهبيده إشارة ولا يقبِّلها، قائلاً: بسم الله والله أكبر.ثم يستلمالركن اليماني بيمناه، ويكمل سبعة أشواط مع مراعاة سُنَّتَيْ الاضطباع والرَّمَل فيالأشواط الثلاثة الأولى.وحول هذا الركن منأركان الحج، ومن خلال تأملاتنا التي تدور من الجانب الذي يعنينا في هذه الدراسة وهوالبعد التربوي له نجد أننا أمام عدة قضايا مهمة:أولها:عـنـدمــــــا يرنو المسلم إلىهذه الأعداد الغفيرة من كل جنس ولون، ومن كل أرض وصقع، ومن كل لـسـان ولغة، وكيفتوحدت في زيها، وفي خطواتها ونداءاتها.لذا فإننا نؤكد أن هــذا الـديـن هــــوالفكرة الموثوق بها والوحيدة المرشحة من قِبَلِ الحق ـ سبحانه ـ ركيزةً لتجميعالأمة كل الأمــة بعد إخفاق الأفكار الأخرى التي استوردت على أيدي حفنة من بنيجلدتنا، فكانت كالنباتات الشيطانية الغريبة على تربتنا.ثانيها:أهمية وجود القضيةالمحورية التي لا بد منها لإيقاظ الأمة كل الأمة لتكون مشعلاً يبث الحماسة، وعاملاًيحرك مشاعر الجميع سواء الفرد أو الأمة.فبرغم توحد اللباس والخطوات والكلـمــاتلهذه الجموع الغفيرة إلا أن المشكلة هي وجود القضية أو الفكرة التي توحد اهتماماتالأمة، وتحرك جماهير الشارع.ولقد حاول المخلصون مراراً أن يوجدوا الـمـشـــروعالذي يجمع شمل الأمة، والذي يشعل حماس أبناء الأمة؛ فإن أمة لا يجمعها قضيةخـطـيــرة ومـصـيـرية مثل ضياع أوَّل قبلتيها ومعراج رسولها الخاتم صلى الله عليهوسلم وموطن مقدسات كل الـرســالات السماوية فلن تجمعها قضايا أخرى.وللأسف يغفلكثير من أبناء الأمة الإسلامية عن هذه القضية التي لا يختلف عليها اثـنـان لتعبئةالأمة حوله، ولتوجيه الأنظار للخطر المحدق بالجميع، ومن أجل مناهضة المشـروعالصهيوني الغـربي الذي يهــدد كـل الأمـة.أمـا بالـنـسـبـة للفرد المسلم فالكليطوف ظاهرياً حول محور واحد، والكل يردد الكلمات نفسها،والكل يسكب عبراته،ولكن كلٌيبكي على ليلاه،حقاً:"إنما الأعمال بالنيات" (14). ثالثها:أهـمــيــة التنظـيـم؛ وهو ما يُعرف بفقه تنسيق الجهودوتوفير الطاقات، وتوظيف الإمكانات. وهذه القضية تـبدو واضـحــــة في كل أعمال الحج؛ففي وقت معين وفي أماكن معينة تسير هذه الجموع المليونية في سلاسة وفي يسر وفي نظامعجيب ومعجز، وما كان هذا ليتأتى إلا بالتنظيم الجيد والدقيق الذي وضـعـه صلى اللهعليه وسلم عندما حج سنة عشر من الهجرة، وتبعه المسلمون حتى يومنا هذا دون تبديل أوتحريف.رابعها:عندما ينظر الداعية إلى هذه الجموع المليونية نظرة ذات بُعد كمي؛ فيملأجوانحه الأمل، ويتذكر مؤسس هـذا المشروع العظيم؛ يـتـذكــر الخـلـيـل ـ عليه السلامـ وهـو يقف وحيداً، ويؤذن بالحج كما أمــره الحــق ـ سبحانه ـ "نادِ وعلـيـناالبلاغ"، فتكون النتيجة هي هذه الجموع التي لا تُحصى، والتي تأتي من كل حدب وصــوب،حتى قيام الساعة، مشاة وراكبين، وكلهم شوق وبقلوب تهوي إلى هذا المكانالطاهر.وهــــــذا ما يؤكد أهمية فقه الدور المطلوب وأجره الموعود؛ فالداعيةعليه البلاغ، والحق ـ سبحانه ـ يرعى النتائج بعد ذلك، ويبارك في الأجر العظيم الذيينتظر الداعية عند القيام بوظيفته البلاغية.وكذلك حَـمَـلَــةُ الفكرة الربانيةالعظيمة، ودعاة هذا المشروع الحضاري، لقد كلفهم الحق ـ سبحانه ـ بوظيفة، أو دورمعين، ووعدهم بالأجر العظيم على حسن أداء تلك الوظيفة.ولا نريد أن نـكـرر هناما أكدنا عليه ووضحناه آنفاً، ولكننا نذكِّر الداعية أن يفقه وظيفته من حيثماهـيـتـهـا، ومنهـجية تنفيذها، والأجر المترتب عليها، وكيفية تلقي التكاليف، وحسنتنفيذها، وحـســـــن عرض البضاعة الربانية العظيمة، وضرورة أن يصل إلى درجة البلاغالمبين للفكرة، ثم ـ وهـــذا هو الأهم ـ عليه أن يستشعر هذا التفاعل والتعاضدالفريد بين دور البشر، ودور المدد الربـاني فـي تنفـيـــذ جمع شمل الأمة المنشود،وكيف أن هذه النقطة هي النبراس الذي يعطي الأمل للعاملين، وهــو الـعـلامـــةالفارقة التي تميزهم عن غيرهم من أصحاب المشاريع المغايرة.خامـسـهـا:عـنـدمــايُتْبِع الداعية هذه النظرة، بنظرة أخرى ذات بُعدٍ نوعي؛ فيملأ قلبه الأسى عندمايتأمل ذلـك الـفــارق الشاسع بين ثقل تلك الأعداد القليلة التي كانت تطوف معه صلىالله عليه وسلم وأثرهــــا في صنع أحداث الكون حولها، ودورها في صنع حركة التاريخ،وبين ثقل هذه الجموع المـعـاصرة، وهم يطوفون الطواف نفسه، ويرددون الكلمات نفسها،ولكن أصابهم مرض العصر، مـــــرض الغثائية، أو الإمَّعية، وكيف تداعت عليهم أرذلالأمم، فشتتت جموعهم، وأصبحوا على هامش الأحداث.وهي مرحلة القصعة التي حذر منهاصلى الله عليه وسلم: "يـوشـــــك أن تـتـداعى الأمم عليكم، كما تتداعى الأكلة إلىقصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟! قـال: بل أنتم يـومـئـذ كــثير، ولكنكمغثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة مـنـكـم، وليقذفن الله فـيقـلـوبـكــــم الوهن. قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهيةالموت" (15). ويـعــــــود الداعية بعد تدبره لهذا الملمحالتربوي، إلى نظرة واقعية يراجع بها منهجيته، فيدرك أهـمـيــة التركيز على التربية،ويهتم بالتقييم النوعي لثماره، ولا يغتر بالتجمعات الغثائيةالقطيعية.سادسها:عندما يستلم المسلم الحجر الأسود، تعاوده السكينة، ويطمع في وعده صلى اللهعليه وسلم: "إن مسحهما يحطَّان الخطايا حطّاً" (16). ســابـعـهـــا:عندما يتأمل الداعيةمشروعية سُنَّة الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى، ويدرك مغزى حرصه صلى الله عليهوسلم أن يكون سلوك المسلمين وحركتهم بمنهجهم عنواناً يرد كيد الأعــــداء، ويطمسالشبهات، ويزيل الإشاعات التي رددتها يهود حول حُمَّى يثرب التي أصابتالمسلمين.ثم يأسى على واقـــــع أمته وكيف أن مجرد تلك الإشاعات حول الوهنالصحي الظاهري الذي زعموا أنه أصــــاب الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ قد استحالتإلى حقيقة مُرَّة وهو إصابة مسلمي عصرنا بـوهـن أخطر، وهو الوهن الباطني، والهزيمةالداخلية النفسية.ومن خلال تلك القضايا التي ذكرنا طرفاً منها يتبين للداعيةمدى أهمية المشاركة في جولة التدافع الحضارية المعاصرة، وذلك بحمل المشروع الحضاريالإسلامي؛ فبه ـ وبه وحده ـ تستطيع أمتنا أن تجابه المشروع الصهيوني الغربي.فهوالمشروع الذي به تتوحــد اهـتـمـامات الأمة وجهودها، فيكون تمحورها وطوافها حولمحور تغييري واحد، وذلك للخروج مــــن مرحلة القصعة؛ فلعل هذه المشاركة تزيل الوهنوالغثائية، وتُري أعداء الأمة من المشاركين معنى القوة والعزة .ساعة ... وساعة:تـنـمـيـة خُـلــق التيسير: بعد إتمام الطواف، وقبل أن يبدأ السعي، يُسنللحاج أن يصلي ركعتين جـاعــلاً مقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ بينه وبين الكعبة ولوبَعُدَ، وإن لم يتيسر له صلَّى في أي مـوضـــــــع، ويُستحب أن يقرأ في الركعةالأولى بعد الفاتحة (الكافرون)، وفي الثانية (الإخلاص).بـعــد ذلك يُستحب له أنيذهب إلى زمزم ويشرب منها، ويصب على رأسه، وإن تيسر له رجع وكبَّر واستلم الحجرالأسود.ولو تدبـرنا نوعية تلك السنن وموضعها لوجدناها تتكرر بصفات أخرى طوالرحلة الحج، ونجدها أيضاً تفصل بين كل عملين شاقين.أو بمعنى آخـــر كأنها لحظاتلالتقاط الأنفاس قبل الشروع في الأعمال التي تتطلب جهداً ومشقة.وتدبر جلساتالاســتـراحـة الإيمانية المتعددة تلك، والتي تأتي على هيئات مختلفة عملاً ووقتاًمثل يوم التروية قبل الـخـــروج إلـى عـرفة، والمبيت بالمزدلفة قبل أعمال يوم النحرالشاقة من رمي ونحر وحلق وطواف.وهـذا الملمح التربوي يفتح باباً عظيماً فيالمنهج، ويدلنا على سمة عظيمة من سمات ذلك الـمـشروع الحضاري، وهو مراعاة الطبيعةالبشرية، ومراعاة قدرات المشاركين في حمله، وكذلك يدل على يسر هذا المنهج وواقعيتهوملاءمته للجميع.وتدبر كيف أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قد راعى قدرات أصحابهـ رضوان الله عليهم ـ، فـجـعـــل ذروة سنام الدين ـ وهو الجهاد ـ درجات ومراتب، فلميُحرَم أحد من شرف القيام به، حـتـى وإن قــصـــرت همته، وضعفت قدراته، بل وإناعترف بها؛ وذلك لأن الجهاد هو سبيل الأمة ومـصدر عزها، ولا بد من أن يشارك الجميعفي الركب؛ لذا صُنِّف الحج على أنه جهاد الضعفاء، فعن الحسن بن علي ـ رضي اللهعنهما ـ قال: "جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني جبان، إني ضعيف،فقال صلى الله عليه وسلم: هَلُمَّ إلى جهادٍ لا شوكة فيه: الحج"(17). وكان منهجه صلى الله عليه وسـلـم هــــو الـوسـطـيـة،بمراعاة الفطرة الإنسانية، وحدود الاستطاعة البشرية: "مَهْ، عليكم بما تُطيقون،فوالله! لا يملُ الله حتى تملوا"(18). وذلك روح الدين،وأساس القاعدة الربانية التي يقوم عليها المنهج الإسلامي: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُاليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ)) [البقرة: 185].ويخرج الداعية من هذهالركيزة،بأن يراعي الطبيعة البشرية، وقدرات المشاركين، ويوظف كلاًّ في مكانه، ولايُشعر أحداً بأفضلية مكانته على الآخر.وإن كان الركب يحتاج إلى طلائع قـويـــة،ودعائم صلبة تتحمل التبعات فإن الصف أيضاً يضم بجانب هؤلاء الرواحل آخرين منأنـصـــاف الـرواحــــــل، والأقل منهم درجة، أو درجــات، ولكل قدراته وطاقته التيتوضع في عين الاعتبار، ولكل دوره الذي لا يستطيع أحد غـيره الـقـيـام بـه، ولكلثغره الذي لا يستطيع أن يحرسه غيره، بل ولكل فضله ومكانته التي لا يمكن لأحدبخسها.وعلى الداعية كذلك ألا يـهـمـل فــتـرات التـرويــــح على النفس، ولكنبشرط أن تنضبط بشرعيتها مع الأهداف والغايات الربانية للمسيرة؛ فـهــــو المجاهدالذي لا ينسى قضيته حتى وإن استراح لبعض الوقت، وكذلك يجب ألا تطول فترات الراحةالمـباحة والاستجمام البريء فتنسيه مهمته.وهو من باب الوسطية؛ أو التوازن والاعتدال، كما في نصيحته صلى الله عليه وسلم: "يا حنظلة! ساعةً وساعةً"(19). يتبع
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الشقائق : دور المرأة في المشروع الحضاري: بعد ذلكيتجه الحاج إلى المسعى، فإذا دنا من الصفا تلا قـــوله ـ سبحانه ـ: ((إنَّ الصَّفَاوالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاجُنَاحَ عَـلَـيْـهِ أَن يَـطَّــوَّفَ بِـهِـمَــــا ومَن تَطَوَّعَ خَيْراًفَإنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)) [ البقـرة: 158]، ثـم يقول: "نبدأ بما بدأ بهالله". ثـم يـبـدأ مــن الـصـفــــا فيرتقي ثم ينظر إلى الكعبة، فيكبر ويوحد، ويدعوثلاثاً من خيري الدنيا والآخرة، ثم يبدأ السعي متجهاً إلى المروة ويذكر الله ـ عزوجل ـ ويدعو وهو يمشي. ويركض هرولة بين الـمـيـلـيـن. ثم يمشي حتى يأتي المروةفيرتقي عليها، ويصنع كما صنع على الصفا. ثم يعود إلى الصفا ويكرر ذلكسبعاً.وعندما نتأمل هذا العمل العظيم من أركان الحج أو واجباته ـ وذلـك منزاويـة بحثنـا الـمتواضع ، ومغزاه التربوي ـ من حيث دلالاته باعتباره ركيزة منركائز المشروع الحضاري فإنـنـــــا نرى بدايةً أنه قد شُرع للأمة كما في قوله صلىالله عليه وسلم: "اسعوا؛ فإن الله كتب عليكم السعي"(20) ، شُرعليربط الأمة بتاريخها الناصع،ويذكر الأمة بجذورها، وأصالتها تذكرة دائمـة حتى يرثالله الأرض ومن عليها، يذكرها بتلك التجربة العظيمة، والجهد الشاق الذي قامت بههاجر الصابرة المؤمنة المثابرة، ـ عليها السلام ـ وهي تبحث عن الماء لرضيعهاولـهـــا بعد أن نفد الماء الذي كان معها، و "عطشت، وعطش ابنها ـ أي انقطع لبنهافعطش ابنها ـ، وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أي يبكي ويتقلب، وفي روايــــة: يتـلـبـط أييتمــرغ ويضرب الأرض برجليه، وفي أخرى: يتلمظ أي يخرج لسانه فيبل به شفتيه وكانتسنه حينئذ سنتين ـ، فانطلقت كراهيةَ أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرضيـلـيـهـا، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر: هل ترى أحداً، فلم ترَ أحداً،فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ـ أي قميصها ـ ثم سعت سعيالإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليه،فنظرت: هل ترى أحداً،فلم ترَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات.قال ابن عـبـاس ـ رضـــي الله عنهما ـ: فذلكسعي الناس بينهما. فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً؛ فقالت: صهٍ ـ تريد نفسها ـ ثمتسمَّعت، فسمعت أيضاً! فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواثٌ، ـ أي سـاعــدني لأنيسمعتك ـ فإذا هي بالمَلَكِ ـ أي جبريل ـ عليه السلام ـ عند ماء زمزم ـ فبحث بعَقبهِـ أي عظم مؤخر القدم ـ أو قال بجناحه، حتى ظهر الماء"(21). وبتدبر هذه التجربة العظيمة نستطيع أن نتلمس بعض الملامحالتربوية حول بعض القضايا الفرعية، ثم حول القضية العظيمة والـمغـزى الرفيع الذينخلص إليه . أ -أما بالنسبة للقضايا الفرعية:فأولها:عندما يتأمل الحاج أنه قد كُتب عـلـيه السعي علىالنهج نفسه وبالخطوات التي قامت بها أم إسماعيل ـ عليهما السلام ـ نرى أن الله ـ عزوجل ـ يريد أن يذكِّر كل مسلم، أن هــذه الأمة واحدة؛ لأنها تملك كل مقومات هذهالوحدة: من جذور تاريخية، وأرض، وأفكار موحدة، وأنها تتجذر في التاريخ عمقاً يربطهابأبي البشر آدم وأبي الأنبياء إبراهيم ـ عليهما السلام ـ أوائل من بنوا البيت،وأنـهـــا كذلك تتجذر في التاريخ عرضاً لتضم كل الأمم وكل أجناس الأرض؛ فهي أمةواحدة ورسالتها واحدة.ثانيها:كيف أن الماء الذي كان في سقاء هاجر ـ علـيـهــا السلام ـقـد نـفـــد لتتعرض هي ووليدها الحبيب لهذه المحنة العظيمة التي تضطرها لهذا السعيوالركض الشاق والمتكرر، وهو الملمح الذي يبين أنه قد كتب على ابن آدم عامة حظه منالكد والـنـصـــب، تحقيقاً لسنته ـ سبحانه ـ أن حياة هذا المخلوق هي سلسلة من الكدوالتعب: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ)) [ البلد: 4]، وأن الإنسانمخلــوق مبتلى: ((إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِفَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً)) [الإنسان: 2].وكتب كذلك على الدعاة وحامليالأفكار النبيلة خاصة تحقيقاً لسنته ـ سبحانه ـ: ((الّـم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنيُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ )) [العنكبوت: 1، 2]. إذن لا بد من الجهد والمحنة من أجل الاختبار والتمحيص، ومن أجل التمييزوالانتقاء: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِحَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)) [آل عمران: 179].وهذا المـبـدأ ـمـبــدأ الابتلاء ـ لم يُستثن منه أحد حتى هاجر الصابرة الممتحنة ووليدها ـ عليهماالسلام ـ بل كل الأنبياء ـ عليهم الـسـلام ـ والصالحون والمصلحون علىدربهم.ثالثها:تدبر وصف الحديث الشريف لحال هاجر ـ عليها السلام ـ: "فانطلقت كراهية أنتنظر إليه" أي كان هـنـالك شـعــور داخلي عارم يدفعها للعمل والبذل إحساساًبالمسؤولية والإيجابية لعمل شيءٍ مَّا لتدفــع به تلك المحنة، ولم تقعد وتولولتواكلاً وكسلاً وأن هذا شيء مقدر؛ بل نستشعر من طريـقـة سـعـيها ـ عليها السلام ـمعنى التصميم والعزم، وهو الشعور الذي يغيب عن بعض الدعاة؛ الشعور الداخليبالمسؤولية لعمل شيء مَّا من أجـــل الفكرة التي يحملونها.رابعاً:كانت هاجر ـ عليهاالسلام ـ تسعى وتركض، ولا تريد أن تعود حتى تحصل على بغيتها حتى إنها كررت سعيهاسبع مرات! أي كان هنالك تصميم وثبات وعدم يأس من تحقيق بغيتها. ولقد كان بإمكانهاأن تعذر إلى الله ـ سبحانه ـ بأن تسعى مرة أو مرتين.وهو الملمح الذي يذكِّرالدعاة بطرْق أبواب الخير مرات ومرات حتى تفتح، وأحــرى لـمـنداوم على قرعالباب أن يُفتح له.فالداعية صاحب قضية، وهو دوماً يتطلع إلى المعالي، ولا تعوقهمغريات الأرض، ولا ثقلة الطين حتى يتحقق هدفه العظيم، كما قال أحمد محمدالصديق:يتعالى عــن أراجـيــف الثــرى نافضـــاً عنــه غـبارَالتهــــــممـــن تكــن عينــاه للأرض فلن يتسامــــــــى أبــداًللأنجــــمخامسها:بعد هذا المجهود المتكرر، والسعي الشاق المضني، والأخذ بكلالأسباب لا يسفر ذلك عن شيء، حتى كان الفرج بيده ـ سبحانه ـ المطَّلع على هذاالأمر، فأرسل جبريل ـ عليــه السلام ـ ليضــرب بعقبـه أو بجناحه الأرض فتتفجرزمزم. وهو الملمح الذي يذكِّر الدعــاة بالفقــه الجيــد لقضية التوكل على الله؛وذلك بأن يسـعـوا في الأسباب ـ وبأفضل الأسباب ـ مع القناعة الداخلية بعدم الركونإليها، ثم مـع الـيـقـين فيما عنده ـ سبحانه ـ: ((مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ومَا عِندَاللَّهِ بَاقٍ)) [النحل: 96]والـفـرج بـيــده ـ سـبـحـانــه ـ وحــده مالكالملك، ومقدِّر الأقدار؛ لذا فإن الجوارح تعملبالأسباب، والقلب يناجي رب هذهالأسباب: ((بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)). [آل عمران: 26]. وثمرة هذه القضية هو الخلوص والتجرد للحق ـ سبحانه ـ ((وظَنُّوا أَن لاَّمَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ)). [التوبة: 118]. ب - أمـا بالـنـسـبة للقضية الكبرى والمغزى العظيم من ركنالسعي: ؛ فإن هذا العمل الذي يقوم به كل حـــاجومعتمر يكاد يكون بكل دقائقه هو ما قامت به هاجر ـ عليها السلام ـ نفسه، وكأنهارســمت الخُطا للاَّحقين في كل عصر وفي كل جيل؛ فلا تتم لهم عمرة ولا حج إلا به، ثملـيـتـدبروا بعض الدروس التربوية منه. ولا يكاد يخلو هذا المكان من ساع ومهرول فيأي لـحـظــــة، من اليوم والنهار، وكأننا بالحق ـ سبحانه ـ يريد أن تظل تلك القضيةودروسها حية دوماً في وجـدان الأمـــة حتى يرث الأرض ومن عليها؛ عرفاناً بدور هاجرـ عليها السلام ـ وتذكيراً للأمة، ورداً على أباطيل أعدائها وشبهاتهم.وعندمانتدبر هذا الركن من خلال زاوية دراستنا نجد أنه رد عملي، وبرهان جلي، حول قضيةطالما أثار حولها المــعـارضــــــــون للمشروع الحضاري الإسلامي الكثير من الشبهاتوالاتهامات؛ بل العجب في الأمر أنه قد يـُـشــارك بـعــض المسلمين في إثارة الغبارحولها بحسن نية، أو بجهل، أو بهما معاً! وهي قــضــيـة مــكـانة المرأة في الإسلام،ودورها في المشروع الحضاري.ويكفينا في هذا المقام أن نقتطف بعض ما جاء فيالــرأي الـشـامـل الجامع والراقي للحركة الإسلامية المعاصرة حول هذه القضية؛فالمرأة (هي الأم التيقدمها الله ـ تعــالى ـ على كل من عداها في حق صحبة الأبناء لها، وأنهن شقائقالرجال. والمرأة هي نصف المجتـمـع ونصف الأمة والقائمة على تنشئة الأجيال. ومسؤوليةالمرأة الإيمانية كالرجل سواءاً بسواء؛ فهي مأمورة ـ كالرجل ـ بالإيمان بالله،وبالعمل بالأركان، وعليها ما على الرجل من واجـــب التفقه في الدين. والحدودُ فيالشريعة واحدة بالنسبة للرجل والمرأة، ونفس المرأة في القصــاص كنفس الرجل. وهي أولمن آمن، وأول من استشــهد في سبيل الله. ولقد شاركت في الجهـاد والغزوات. ولا يصــحزواج في الشـــريعة إلا بموافقتها ورضاها وإجازتها، ولا يجوز شرعاً إجبارهـا علـىالزواج ممن لا ترضاه. وللمــرأة ذمة مالية كاملة لا تنقص شيئاً عن ذمة الرجلالمالية. ونقصها في الدين ليس نقصاً في الإيمان ولا لأنها مخلوق متدنٍّ غير أهلللرقي، بـل لـرفـــع العبادات عنها في أوقات معينة. ونقص الحظ هو في بعض أنصبةالميراث فقط. أما نقص العـقــل فهو مـحـــدد بالشهادة على أمور معينة أهمهاالدَّيْن أي القرض، وعقود البيع والحدود. أمـــا قوامة الـرجــل عليها فلا يجوز أنتُفهَم على أنها مطلقة في كل الأمور ولعامة الرجال، بل إن هذه القوامة خاصة بالأسرةفقط، وفيما يتعلق بالأمور المشتركة بين الزوج والزوجة. (22) ورياسة الرجـــــللـيـسـت ريـاســـة قهر وتحكم واستبداد، ولكنها تراحم وتواد ومعاشرة بالحسنى، وتقومعلى التشاور؛ فالأصل هو المساواة، ولكن الاستثناءات ترد منه ـ سبحانه ـ. وقد وردتالنصوص بأن جسد المــرأة كله عورة، ولا يجوز أن يظهر منه شىء أمام الرجال الأجانب بما في ذلك الوجه والكفين ، وأن خلوة المرأة بالرجل غيـر المحرم لها غير جائزة. وللمرأة وظيفة أساسيةهامة وسامية خصها ـ ســبـحـانـه ـ بهــا وهي وظيفة الحمل والأمومة وتربية الأجيال تربية صالحة، وهي ربة البيتوملكته. وهـكـــذا فــإن ركـــن السعي يفتح أفقاً رحيباً للمشاركينفي المشروع الحضاري حول قضية المشارِكــات ودورهــن، فـلا يـبـخـسـن، ولا يُهـمـلن.ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم سماهن: الشقائق. مع المؤتمرين!فـضـــل الجماعيةوأهميتها: ثم بعد طلوع الشمس من يوم عرفة يتوجه الحاج من منى إلى عــرفــــة، وهويلبي ويرفع بها صوته.ويـكـره له الصيام في هذا اليوم. ومن السنَّة النزول في نمرة إلى الزوال إن أمكن.فإذا زالت الشـمس سُنَّ للإمام أو نائبه أن يخطب خطبة تناسب الحال، ويبين للحاج مايشرع في هذا الـيـوم وبـعده. وبعدها يصلي الظهر والعصر جمع تقديم وقصراً؛ وذلكليطول وقت الوقوف والدعاء بـعـد الـصـــلاة؛ حيث يتفرغ للذكر والدعاء والتضرع إلىالله، ويدعو بما أحب من خيري الدنيا والآخـــرة، وليس لعرفة دعاء مخصوص، ويستحب أنيرفع يديه حال الدعاء، ويستقبل القبلة. والأفضل أن يجعل الجبل بينه وبين القبلة، إنتيسر ذلك.ووقت الوقوف يمتد إلى طلوع الفجر من يوم العيد. وعليه أن يتثبت منكونه داخل عرفة، ولا يخرج من عرفة إلا بعد غروب الشمس.وبتأمل أعمال هذا اليومالعظيم نقـتـطـف بـعـض الـملامح التربوية؛ وذلك من منظور دورهركيزةً من ركائز المشروع الحضاري:أ - "الحـج عـرفـة" (23) بـهـاتـين الكلمتين وضح صلى الله عليه وسلم أهمية هذا الركن منأعمال الحج، ولقد أجمع العلماء على أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم؛ فهو اليومالذي يجتمع فيه كل الحجيج في مكان واحد، وفي يوم واحد، وإن امتد وقتالوقوف.وكأن المقصود هو اجتماع ممثلي الأمـــة من كل جنس ولون، ومن كل أرضوصقع، وكأنه مؤتمر سنوي يناقش هموم الأمة، ويعطي الدليل على كيفيةاجتماعها.وعندما نتدبر مغزى حديثه صلى الله عـلـيـه وسلم أن الحج الصحيح هو منأدرك الوقوف يوم عرفة فإننا نستشعر أن جمع الأمة على هــذه الـصـيـغـة مــن الأهميةالعظيمة بمكان، ويبرهن أيضاً على أن حضور هذا المؤتمر السنوي الكبير يجب ألاَّيتخـلـف عـنه أحد ممن حضر من ممثلي الأمة.وكـم هـــو منهج عظيم عندما يدعو فيكل مناسبة إلى الوحدة، ويشيد بالجماعية وبركتها، وينبذ أفكار التشتتوالتشرذم!ب -في توجه الحجيج إلى عرفات تحت راية التكبير والتوحيد والتهليل يفهم منهأهمية الفكرة الربـانـيـة ودورهــــا أن ركيزة التجميع لهذه الأمة هي كلمة التوحيد؛فهي الفكرة الربانية التي رشحها الحــق ـ سبحانه ـ لأن تجتمع عليها الأمة ـ كلالأمة ـ وهي الراية التي من الممكن أن يتجمع حـولـهـا كــل الـنـاس؛ فـتـنـطلق بهمإلى سيادة الدنيا، وسعادة الآخرة.ونحن في هـذا المقام نضيف دليلاً آخر يؤكد ماقلناه؛ وهو ما أورده (ابن خلدون) في مقدمته ( أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغةدينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجـمـلــــة؛ والسبب في ذلك أنهمـ لخُلُق التوحش الذي فيهم ـ أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض. فإذا كان فيهم النبيأو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم مذمومات الأخــلاق،ويـأخـذهـم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق ـ تم اجتماعهم وحصل لهم التغلبوالملك، وهم مع ذلك أسرع الناس قبولاً للحق والهدى والسلامة) (24). ج-وفي قصر الصلاة وجمعها نسـتـشـعـر مــنـه وكـأن الـمقـصـــودأن يطـول وقت الوقوف والتضـرع إلى الله ـ عز وجل ـ وذلك من شأنه أن يحقق الهدفالثاني من أهــداف ركــــن الـحـج وهو قطف ثمرته الروحية من ذكر ودعاء واستغفار؛فهو فرصة سانحة لا تتكرر إلا كل عـام، ولمن سعدوا بحضورها؛ حيث تبدو سويعات الوقوفوكأنها دورة تربوية روحية مركَّزة قدَّرها ـ سبحانه وتعالى ـ لمعالجة بعض جوانب تلكالحالة الاعتلالية التي تحدثنا عنها في (ظاهرة التآكل الروحي)؛ حيث تتسرب إلى بعضالنفوس.وتدبر كيف أن المربي العظيم صلى الله عليه وسلم قد عمم الترغيب في آثارالحج الروحية عموماً، ثم خصص أهمية يوم عرفة، من ذلك: "من حج هذا البيت؛ فلم يرفث،ولم يفسق رجع كـيـوم ولـدتـــه أمه" (25) ، العمرة إلى العمرةكفارة لم بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"(26)، "مــا مـن يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ـعز وجل ـ ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟" (27). د -في هذا اليوم، وفي أثناء فــرحــة الحـجـيـج بموقفهم،وبمؤتمرهم الجليل، وبينما هذا الجمع الطيب مشغول في دورته الروحية كان مــن الفقهالعميق أن يُعرِّج الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى التحذير من العدو المبين ذلك الذييـتـأذَّى حـسـداً وحقداً من مجرد سجود المؤمن وطاعته لربه، فما بالك بهذا الموقفالعظيم؟!عـن أبـي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما رُئِيَ الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا أدحر ـ أي أذل وأهون ـ ولا أغيظ منه فييوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تَنَزُّل الرحمة، وتجاوُزِ الله عن الذنوبالعظام، إلا ما أري من يوم بدر. قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: أما إنهرأى جبريل يَزَع ـ أي يقود ـ الملائكة" (28). وهو العدو الذيلا ينام، ولا يغفل عن الدس والوسوسة. قال رجل للحسن: يا أبا سعيد! أينام الشيطان؟!فتبسم وقال: لو نام لاسترحنا (29). وهذه اللمحة النبويةالعظيمة تذكرنا بباب عظيم من الفقه ألا وهو علم الشر، وسبل الوقاية منه، وهــــوالباب الذي لا يغني عنه ولا ينفي أهميته أن نفقه علم الخير، وسبل الوصول إليه. يتبع
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() مع السائرين!تـنـمـية الجوانب الأخلاقية: بعد غروب شمس يوم عرفة تبدأالإفاضة، فينطلق الحاج إلى مزدلفـة بهدوء وسكينة، مهللاً ومكبراً وملبياً، ثم يُصليالمغرب والعشاء قصراً وجمعاً بأذان واحد وإقـامـتـيــن. ثـم يوتر ويبيت بمزدلفة.فإذا تبين الفجر صلى مبكراً، ثم قصد المشعر الحرام فوحَّد الله وكــبَّـر واستقـبلالقبلة، ثم دعا بما أحب حتى يُسفر جداً، أو يدعو في مكانه إن لم يتيسر له. ثم يلتقطحـصـيـات مــــن مزدلفة ليرمي جمرة العقبة، ثم بعد ذلك يتجه إلى منى. وإذا وصل إلىوادي محسر ـ وهو بين مزدلفة ومنى ـ استحب له الإسراع.وعندما نتأمل هذه المسيرة من خلال بُعدها التربـــوي وما ترمزإليه نستشعر بعض الوقفات واللمحات التربوية التي تدور حول بعض الأخلاقـياتالـمـنـشـودة للسائرين على درب المشروع الحضاري:أ -كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يوصيبالسكينة والهدوء فيقول: "أيها الناس! عـلـيـكـم بالـسـكـينة؛ فإن البر ليــسبالإيــضاع ـ أي بالإسراع ـ" (30) وكان صلى الله عليه وسلم يسيرالعَنَق ـ أي سيراً رفيقاً ـ فإذا وجد فجوة ـ أي مكاناً متسعاً غير مزدحم ـ نَصَّ ـأي أسرع ـ " (31). والأمــــر بالسـكـيـنـة وصية يُستشعرمنها معانٍ عظيمة منها: الهدوء، والنظام، والطاعة، ومراعاة حقوق الآخــر، ومراعاةجلال الموقف؛ وذلك من خلال سمات المنهج الذي يربي أتباعه على النظام والطاعــة،وعدم التخلق بأخلاقيات الغوغائيين التي تبرز دوماً مع أي تجمعاتكبيرة.ب -كان من هديه صلى الله عليه وسلم أثناء الإفاضة أن يستمر الذِّكر والتهليلوالتكبير والتلبية والاستغفار حتى تُرمى جمرة العقبة.وكـذلك كـانــت توجيهاتالحق ـ سبحانه ـ: (( فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَالمَشْعَرِ الـحَـــــرَامِ واذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وإن كُنتُم مِّن قَبْلِهِلَمِنَ الـــضَّـالِّــيـنَ . ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حـَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُواسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . فَإذَا قَضَيْتُممَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً )). [البقرة: 198 - 200].وهذا الهدي وتلك التوجيهات تـوحــي بـأهـمـية المتابعةوالاستمرار على الحالة الروحية الرفيعة المكتسبة من الدورة الروحية العظيمة أثـناءالوقوف بعرفات، وكذلك نستشعر معها أهمية المحافظة على المكتسبات الربانية،والـثـمـــرة الروحية للحج؛ فلا تذهب مع مشقة المسير. كما نستشعر مدى عمق التحذيرالإلهي من خطر العودة إلى الضلال السابق؛ فالموفق من تذكَّر ماضيه وقارنه بالحالةالربانية التي هو فــيـهـــا، فـشكر الله ـ عز وجل ـ ظاهراً بالمتابعةوالاستمراريـــة، وباطناً بالخوف من خطــر النكــوص والارتكـاس،والانتكـاس.ونـسـأل الله ـ سـبـحـانه ـ العفو والعافية، لا نحصي ثناءاً عليه ـسبحانه ـ، هو كماأثنى على نفسه.ج -في وصـفــه ـ ســبحانه ـ لحالة الذِّكرالمنشودة: ((فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)) [البقرة: 200] نسـتـشـعر مدى أهمية تنقية النية وتصفيتها؛ فإذا كانت الغاية هي اللهـ سبحانه ـ فيجب ألاَّ تختلط بغايات أو رايات أخرى.كذلك يتبين لنا أهمية وجودالعقلية المسلمة المرتبة التي تفقه أولوياتها؛ فمن كان همه رضا خالقه ـ سبحانه ـفينبغي ألاَّ تـعـيـقـه أي اهتمامات أخرى حتى وإن كان الوالد أو الولد؛ ففي تلكالمواقف يصبح الاهتمام بالموروثــــــات القبلية مثل مجد الآباء والأجداد، والفخربالأبناء والأموال من قبيل النزول من القمة إلى السفح، ومن الاهتمام والتمحور حولالأفكار والمبادئ إلى التفاخر بالـوســائل الماديــة كالأرض والطين. والحـق ـسبحانه ـ يحب معالي الأمور.د -ثم يبين الحق ـ سبحانه ـ خلقاً آخر يوصي به السائرين ![]() ولكننا نستشعر هنا المعنى التربوي البعيد للنص؛ حيث يدعوالسائرين في كل درب وفي كل مجال إلى التخلق بخلق المساواة والعــدل والتسوية بينالأفراد وعدم التمايز الذي من شأنه أن يمنع تولد الحقد والبغضاء والحـســـد داخل أيتجمع؛ فما بالك بالسائرين على درب المشروع الحضاري؟!ولقد كان الحبيب صلى اللهعليه وسلم يتتبع هذا الخلق في كل مجال.وتـدبَّـرْ هذا السلوك النبوي التربــويالرفيع؛ فعــن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ "أن أباه أتى رسول الله صلىالله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي.فقال رســـول الله صلىالله عليه وسلم: أكلَّ ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم: فأرجعه". وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفعلت هـــذا بولدككلهم؟ قال: لا، قال: اتقــوا الله واعدلــوا في أولادكــم. فرجـع أبي فـردَّالصدقة". وفـي روايــة: فـقال رســول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بشير! ألك ولدسوى هذا؟ قال: نعم. قال: أكلـهـم وهـبت له مثل هذا؟ قال: لا، قال: فلا تُشهدنيإذاً؛ فإني لا أشهد على جَوْر. ثم قال: أيسرُّك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال:بلى! قال: فلا إذاً" (33). وكــذلـك كان شعور كل فرد منالصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ، وكأنه هو المقرب والمفضل عنده صلى الله عليهوسلم.ويستشعر الداعية أيضاً كيف أن بعضاً من داخل أي مؤسسة ـ خاصة المؤسساتالدعوية ـ قد يصـيـبـه حالة اعتلالية يرى فيها نفسه فوق الآخرين، فينظر إلى موقعهالتنظيمي ويقيِّم الآخرين على أساس تقدمه عليهم، ولا يفيض في الحركة الدعوية من حيثأفاض الناس، وهي (ظاهــرة الغرور التنظيمي)، ولو تدبر قليلاً لوجد الرد الإلهيواضحاً في سورة عبس؛ وهي السورة التي وضعت أساسات وموازين تقييمالناس.هـ -وفي قـولــه ـ سبحانه ـ: ((فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَافِي الدُّنْيَا ومَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . ومِنْهُم مَّن يَقُولُرَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَالنَّارِ . أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا واللَّهُ سَرِيعُالحِسَابِ)) [البقرة: 200 - 202].(إن هناك فريقين: فريقاً همه الدنيا، فهو حريصعليها مشغول بها، ويذكرها حتى حين يتوجه إلى الله بالـدعــــاء؛ لأنها هي التيتشغله، وتملأ فراغ نفسه، وتحيط عالمه وتغلقه عليه. هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبهم فيالدنيا ـ إذا قدر العطاء ـ ولا نصيب لهم في الآخرة على الإطلاق. وفريقاً أفــســــحأفقاً وأكبر نفساً؛ لأنه موصول بالله يريد الحسنة في الدنيا ولكنه لا ينسى نصيبه فيالآخـــرة؛ فهم يطلبون من الله الحسنة في الدارين، ولا يحددون نوع الحسنة، بــليَدَعون اختيارها لله، والله يختار لهم ما يراه حسنة وهم باختياره لهم راضون.وهؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطئ عليهم؛ فالله سريع الحساب)(34). ونـحـن نــدور مــع الـبـعـد التربوي البعيد للنص، وهوالتركيز على علاج (ظاهرة القصور الفكري) التي تصيب بعضاً من اللحظيين ذوي النظرةالمحدودة التقدير القاصرة القريبة من حواسهم ضيقي الأفق؛ فلا يدركون الأبعادالبعيدة للقضايا والأمور.وعلاجها يتم بضرورة تشجيع ذوي النظرة المستقبليةللأمور البعيدة التقدير، والاستشرافية للقضايا.وكم من مكاسب عظيمة أضاعهاالمحدوديون! ولم يكن لهم نصيب في فقه سراقه بن مالك ـ رضـي الله عـنـه ـ عـنـدمــاتـنـاقش مع الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء مطاردته له في الـهـجـرة، ونـظـر إلىالمكاســب العـظـيـمـة البعيدة التي تفوق جائزة قريش، فكسب نعمة الإسلام، والنجاةفي الآخرة، وفوق هذا حصل على الوعد بسواري كسرى بعد سنوات أثناء حكم الفاروق ـرضوان الله عليه ـ. عوائق..وتضحيات:أهـمـيـة مـعـــرفة عوائق الطريق:ثم نأتي إلى اليوم العظيم، يوم النحر؛ يوم العيد؛ حيث ينطلق الحاج قبل طلوع الشمسإلى منى ملبياً وعليه السكينة، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات مـتـعـاقـبـات،ويكبر مع كل حصاة، ويقطع التلبية عندها، ثم يذبح الهدي، ثم يحلق أو يقصر. وبـذلكيـتـحـلل التحلل الأول، فيلبس الثوب ويتطيب، ويحل له جميع محظورات الإحرام إلاالنساء، ثـم يـذهــب إلى مكة لطواف الإفاضة بدون رَمَل. ثم يصلي ركعتي الطواف،ويسعى المتمتع والقارن أو المـفـرد الـذي لـم يـسـع. وبذلك يتحلل التحلل الكامل.ويشرب من زمزم، ويصلي الظهر ـ إن أمكن ـ، ويكبر، ثم يـذهـب للمبيت في منى باقيالليالي.وحول الأبعاد التـربـويـة لأعماليوم النحر نقتطف بعض هذه الملامح التي ترمز إلى معرفة السائر لعوائق الطريق،وتصميمه على الانتصار عليها:أ -عـنـدمـــا يـبتدأ الحاج بالرمي فإنما هو من باب دخول البيوتمن أبوابها؛ حيث إن الرمي هو تحية منى.وكذلك هو من باب الـبـدايــة بالأصلالكبير في كل قضية؛ فبعد سفر طويل وتعبئة كبرى، وشحن داخلي يتجه الحاج إلى العدوالأول، ذلك الذي حذره منه الحبيب صلى الله عليه وسلم فعرَّفه عليه ليتجنبه؛ كـيـفلا وهــو عينه ذلك العدو الذي لم يَرُقْهُ جلال سويعات الوقوف بعرفات، وكان في أغيظمواقفه؟!وعندما يرمي الحاج سبعاً من الحصيات فإنه يبدو كأنه تصميم على جديةالمواجهة ضـــد شبهات الشيطان وشهواته.وفي دعاء الحاج ربه عقيب الرمي يتبينأهمية سلاح الدعاء في كل موقف، وكذلك يتـبـيـن معنى فقر العبد دوماً إليه ـ سبحانهـ؛ فبعونه ـ عز وجل ـ تأتي القوة والمنعة والـنـصـر في معركته ضد عدو اللهوعدوه.وبتدبر البعد التربوي الشامل للرمي نستشعر أن أصل كل معركة أن تعرف من هوالـعــدو الحقيقي، فتواجهه.فمن العوائق الرئيسة عدم معرفة العدو، وعدم معرفةأسلحته، ونقط ضعفه، ومعرفة كيفية التغلب عليه.ب -وفي الـنـحــر دلالات عـظـيـمـةللسائر: فهو يرمز إلى أن السائر الذي يعرف طريقه، ويعرف هدفه، ويعرف أيضاً عدوه،وأن عـلـيه ألاَّ تعيقه أي تضحيات في سبيل تحقيق ما خطط له.يتأمل الداعية ذلكوهو يتذكر رواده على الـطـريـق، يتذكر الخليل ـ عليه السلام ـ وكيف أنه ضحى بولدهالوحيد الحبيب ـ عليه السلام ـ وذلك في سبيل رضاه ـ سبحانه ـ وامتثالأمره.والله ـ عز وجل ـ لا يريد العنت بعباده، وإنما يـريــد لهم تجربة واقعيةتثبت وتبرهن أن الـعـبـــد قد رتب أولوياته جيداً، وعندما يثبت ذلك للعبد نفسه وليسللحق ـ سبحانه ـ الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، عند ذلك فقط يكون النجاحفي الاختبار.كيف لا والحق ـ سـبحانه ـ قد أخبر أن إبراهيم وولده ـ عليهماالسلام ـ قد نجحا بالرغم من عدم ذبح إسماعـيـل ـ عليه السلام ـ؟ فالقضية لم تك هيالذبح، بل هو مجرد اختبار واقعي لجدية الاستعــداد للتضحية: ((ونَادَيْنَاهُ أَنيَا إبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِيالمُحْسِنِينَ)).[ الصافات: 104، 105].والموفق هو من يعرف عـوائق طريقه،فيتـغـلب عليها مضحياً في سبيل هدفه الأسمى، وهذا هو الفيصل والفارق: ((ومِـنَالـنَّـاسِ مَـــن يَـتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّاللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لِّلَّهِ)). [البقرة: 165].فرحم اللهمن أرى أعداء الله مـنـه قـوة، ورحــم الله من أظهر لربه منه جدية وبذلاً وحباًوتضحية، وترتيباً صحيحاً لأولوياته.ج -وفي ذهاب الحاج إلى مكة لطواف الإفــاضــةأبعاد تربوية عظيمة منها أنه تأكيد على أن السائر لم يزل على عهده، ولم تزل القضيةالمحورية التي يدور حولها وبها ومعها هي شغله الشاغل.ومنها أيضاً أنه فوق كونهتجديداً للعهد، فـهـو تجديد للزاد الذي من شأنه أن يقويه على أي عقبة فيالطريق.ومـنـهـا أهـمـيـة تـذكـير الأمة بضرورة توحيد الغاية والهدف والهموملتكون أشبه بمحور تطوف كل فئات الأمة حوله حتى تتجمع القوى حول الأهداف العظام، ولاتتفرق.فمن عوائق الطريق الـتـشرذم تحت رايات متعددة، والتمحور حول أفكار غيرموحدة؛ لأن من أهم ركائز المشروع الحضاري الإسلامي هو الحركة الجماعية المنظمةوالمتوافقة.د -وعندما ينهي الـحـاج أعـمـــال يوم النحر بالحلق أو التقصير، وهو من باباستعداد الحاج لأعمال منى، التي ستكون أشبه باللجان المصغرة التي تعقد ورش عمللمتابعة أعمالالمؤتمر السنوي الذي عقد في عرفة.وعندما يقرر صلى الله عليهوسلم صـحـة كلٍ من الحلق والتقصير، ثم يرتب الحلق ويفضله على التقصير فإنما هو منباب يسر المـنـهج ومرونته، وكذلك له مغزى تربوي آخر وهو من ركائز المشــروع الحضاريألا وهــو قـبـول الآخـــر، أو بمعنى أشمل هو من باب التعددية الـفـكـريــةوالمـذهـبـية؛ وذلك كما بينا ذلك عند الحديث عن أهمية إعادة صياغة العقلية المسلمةعلى أصول منها: قضية تعدد الصواب.فمـن عوائق الطريق وجــود بعض من ذويالاعتلالات التربوية والحــركية بل والفكريــة، فلا يرى إلا رأيه، ولا يستمع للآخر،بل يبلغ به الأمر إلى أن يسفه رأي الآخر، ويتمادى به الاعتلال حتى يسفه الآخرنفسه.وقـديـمـــــاً من وراء السنين أنصفنا المربون عندما حملوا لنا نصيحةالشافعي ـ رحمه الله ـ عندما وضــــع قـاعــدة ذهبية من قواعد حرية الفكر: "رأيناصواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب".بل إن الحق ـ سبحانـه ـ ذمرائد هؤلاء (الدكتاتوريين) عندما وضع قاعة بغيضة من قواعد كبت الفكر: ((قَالَفِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَالرَّشَادِ)) [ غافر:29].مع لجانمنى!:أهمية بث روح المؤسـسـيـة: بعد ذلكتبدأ أيام منى أو أيام التشريق. وأعمالها تتلخص في رمي الجمرات الثلاث، والـمـبـيتبمنى، وهي أيام قال عنها المعلم العظيم صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكلوشرب وذكر لله" (35). وحول أيام منى والأعمال الخاصة بها نقتطف بعض الملامح التربوية؛ وذلك من بابهذه الدراسة وقيمتها وما ترمز إليه:أ -حول لزوم المبيت للحاج بمنى، وأن يبقى أكـثــرالليل في أوله أو آخره. وكأن من فقه المتابعة أن يشارك الحاج في حضور اجتماعات منىالمصغرة والتي هي أشبه بفرق العمل أو اللجان المنبثقة عن مؤتمر عرفات السنويالكبير، وذلك لمدارسة التوصيات.وهذا يبين لنا أهمية المتابعة لكلأمر.ب -ومن أعمال منى رمي الجمرات الثلاث، كل واحـــــدة بسبع من الحصيات، ووقت الرميمسألة خلافية، ولكن المختار أن يبتدئ من الزوال إلى الغروب.والبعد التربويللرمي هو أنه يبدو كأنه تأكيد على أن المجـتـمـعـيـن عليهم ألا يغفلوا عن العدوالمتربص بهم، ومحاربته وصد ما يلقيه من شبهات وشهوات سواء للنفس أو الزوج أو الولد،وألا يغفلوا أيضاً عن العدو الخارجي.ورمي كل جمرة بسبع من الحصيات هو أيضاً منباب التصميم والجدية في المعركة.وفي اختلاف وقت الرمي؛ حيث يبدو الحجيج بينذاكر لله ورام ودارس وطــائــف وآكل وشارب، وفي الوقت نفسه يبدو حالهم كأنه من بابتكامل الجهود وتنوع الأعمال وتوافق الوظائف، وكأنهم في حركة جماعية مؤسسية تقوم علىلجان متوافقة متناسقة ومـتـكاملـة ومـتـعاضدة. وهو من باب أهمية المؤسسية في الحركةالجماعية الهادفة إلى تحقيق المشاريع الحضارية. وهو أيضاً من باب الاعتراف والتقريربل والتقدير لكل عمل سواء قل أو عظم، ما دام يتوافق مع الحركةالمؤسسية.ج -كــان الـقـائـد صـلـى الله عـليه وسلم في هذه الحركة الجماعية أيام منىمثالاً للقيادة الواعية؛ فعن ابن عـبـاس ـ رضــي الله عـنـهـما ـ أن النبي صلى اللهعليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير، فقال: "لا حرج" (36). وأهم سمة قيادية في مثل هذه المواقف ينبغي أن تتمثل فيالمرونة واليسر.وهاتان السمتان ـ سواء المرونة القيادية، أو التخلق بخلقالتيسير ـ إنما تنبثقان وتنبعان من القاعدة الربانية الكبرى للمنهج الإســــلامـي:((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ)) [البقرة: 185]. وهذه السمة القيادية تبدو بارزة عند القادة الربانيين في كلالمواقف.ولـعـلـنـا نـذكـــر ذلك القائد الرباني طالوت الذي كان يتمتع بهذهالمرونة القيادية، فكان رحيماً في تجربـتـه الجهاديةالتغييرية؛ عندما قال لأتباعه:((إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)) [البقرة: 249].والموفق من يكونمتوازناً بين الحزم والمرونة، وبين الشدة والتيسير بشرط أن لا يخل ذلك بروحالانضباط؛ فيحافظ على شعرة معاوية.د -ومن الـسـنـةالـصــلاة فـي مـسجد الخيف أيام التشريق؛ حيث ورد أنه صلى في هذا المسجد سبعوننبياً. وهو من باب استشعار عمق جذور الحركة الدعوية، وأصالتها في عمق التاريخ؛فالمشروع الحضاري لــيــس بـدعـاً؛ بل هو بعث لروح الأمة وتجديد لدينها، أو بالمعنىالأبسط: هو مجرد إزالة للركام المركــب الـذي طـمس معالم المنهج سواء من جانب ضياعالمفاهيم، أو من جانب سوء طريقة عرضه ومعاصرة طرحه.أو بمعنى آخر: هو جولةحضارية تغييرية جديدة تـقــوم عـلـى مـرتـكـز عظيم وهو رصيدالتجربة.هـ -ورد عن الحبيب صلى الله عليه وسلم أن أيام منى أكل وشرب وذكر لله.وهـذا يـشـعـرنـــا بأهـمـية تنمية الجانب الروحي، ومتابعة ذلك عند السائرينعلى درب المشروع الحضاري، حتى في سويعات الراحة المباحة من الأكلوالشرب. وداعٌ .. وأمل:أهـمـيـة الـحـركـــة وبث روح الأمل: ثم نأتي إلى نهاية رحلةالحج المباركة التي تنتهي بذهاب الحاج إلى مكة لطواف الوداع، وذلك قبل غروب شمس يومالثاني عشر للمتعجل، أو يوم الثالث عشر للمتأخر، ثم بعد ذلك يعود إلى بلدهمباشرة.وحول بعض الملامح الـتـربـويـــة للنهاية الجليلة لتلك الرحلة العظيمةنقتطف بعض هذه القطوف التربوية.لمـا كان الهدف هو حضور المؤتمر السنوي العامبعرفات، ومعرفة العدو الواحد، ثم حضور لجـان منى وفرق العمل المنبثقة عن المؤتمرالعام، واستشعار روح المؤسسية، وفوق ذلك كله الـتـزود بــزاد التقوى:((وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) [البقرة: 197]، وبلوغ درجاترفيعة من التربية الروحية ـ كان الأصل أن يعود المؤتمرون إلى بلادهم للقاء منيمثلونهم من الأمة ومتابعتهم.يعودون إلى حـيـث يـنـشــرون فكرتهم في أرجاءالمعمورة، وكأن الانتشار بالفكرة هو الهدف المطلوب، أو أن الحركة بالفكرة هي قضيةالساعة الآن.وكذلك يدل على عالمية الرسالة؛ فهي مشروع لا يعرف حدوداً من جنس أوأرض.ولكن قبل العودة كان لا بد من مِسك الختام فيِ الطوافِ الأخير طوافِالوداع.وتدبر مغزى كلمة وداع وأثرها على النفس.وتدبر كيف كان الختاموكـأنـــــه تأكيد عملي أخير يركز على ضرورة فقه الهدف الواحد والهم الواحد الذيتطوف حوله جموع السائرين، والذي ستحمله القلوب إلى بلادها، تلك القلوب التي هوتشوقاً إلى هذا المكان، فأتت من كل فج عميق.ولكن هذه القلوب لم يمنعها هذاالـربــاط الـروحي ولـن يمنعها من أن تعود فتنشر فكرتها، وتدعو إلى مشروعها الذيتحقق على أرض فـأصـبـح لــه مرتكز ومركز إشعاع ثابت وقاعدة صلبة توضع عليها رايةالتجميع ليؤوبوا إليها كل حين، ثم يعودون للانتشار من جديد.فحركة التاريخوناموسية التغيير الحضاري من سماتها الـتـبـديــل والحركة التي لا تعرف السكون: بينمد وجزر، أو بين امتداد وانحسار.وكذلك الأفكار؛ فالحركة تمنع نمو جراثيمالتأسُّن الفكري في العقليات.وأيـضــــاً بالنسبة للأمم والجماعات والمؤسسات؛فإن الحركة أيضاً تهاجم حشرات التعفن الحضاري عند الأمم.وإن الحركة في كل تلكالمجالات مثلها مثل حركة الكون التي تجري مكوناتها في ديمومة حركية، لا تهدأ حتىالمستقر النهائي الذي يقرر منتهاه ومستقره العزيز العليم ![]() والحركـــة الحضارية من شأنها التداول: ((وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَابَيْنَ النَّاسِ )) [آل عمران: 140].وعندما يفقه الدعاة وكل من يشارك في مسيرةالدعوة إلى المشروع الحضاري تلك الإشكالية، ويدركون مــغـزى السـمـة التداوليةللحركة الحضارية، ويعون الناموسية التغييرية للتاريخ فإن ذلك من شأنه أن يمدهم بزادآخر، زاد ضروري، ألا وهو زاد الأمل.ذلك الزاد الذي يعطي الدفعة العظيمةللسائرين، ويُضاعف روح البذل.وخير ما ورد عن ذلك الزاد تلك البشارات التي كانيطلقها الحبيب صلى الله عليه وسلم أثناء أصعب المواقف؛ عـنـدمـا حوصرت الدعوة وجففتمنابعها، وحوصر الداعية، وذلكأثناء غزوة الأحزاب، وكان هـنـاك مــــن يسجل لناهذا الموقفالاستشرافي العظيم للقيادة الربانية الواعية؛ كان هناك البراء ـ رضـيالله عـنـه ـ فقال: "لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منهاالمعاول، فـاشـتـكـيـنـا ذلك لرسول الله صلى الله عـلـيـه وسلم، فجاء وأخذ المعول،فقال: بسم الله، ثم ضرب ضربــة، وقــال: الله أكـبـر أُعـطـيـتُ مـفـاتـيـحَ الشام،والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة. ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبرأُعطِيتُ فارس، واللهِ إني لأُبصر قصر المدائن الأبيض الآن. ثم ضرب الثالثة، فقال:بسم الله، فقطع بقية الحجر. فقال: الله أكبر أُعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأبصرأبواب صنعاء من مكاني" (37). ومرت الأحداث، وتـعـاقـبـتالأيـام، وتداولت الحركة الحضارية، واسْتَعْلت الدعوة على الحصار الشيطاني، ومكَّنالله لها فـي الأرض، وتحقــق ما بشر به القائد العظيم صلى الله عليهوسلم.وبـعـد:فهذه لمحات متواضعة حول الأبعاد التربوية لتلك الرحلة المباركة وما تمثلهمن ركائز للمشروع الحضاري الإسلامي؛ وهي محاولة نرجو من الله بها القبول؛ فمنه وحدهـ سبحانه ـ التوفيق؛ وإن كان بها من الزلات فهي مني ومن الشيطان.الهوامش: (1) رواه البخاري، 2/ 164. (2) مدارج السالكين: ابن القيم، 1/ 85 ـ 90. (3) رواه البخاري، ح/ 1337. (4) قصة جريج العابد رواها البخاري، ح/ 2302، ومسلم، ح/ 4625.. (5) رواه البخاري، 2/ 164، ومسلم، 4/5. (6) رواه الترمذي، ح/ 2337. (7) رواهمسلم، ح/ 654. (8) رواه مسلم، ح/ 4650. (9) رواه مسلم، ح/ 654. (10) رواه البخاري، ح/ 676. (11) رواه ابن خزيمة، ح/ 2634 بسند صحيح. (12) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 3/ 226. (13) رواه مسلم، ح/ 4869. (14) رواه البخاري حديث رقم 1. (15) رواه أبو داود ، ح/ 3745 . (16) رواه أحمد، ح/ 5442. (17) رواه الطبراني في المعجم الكبير، ح/ 2910 ورواته ثقات. (18) رواه البخاري 1/ 101 باب أحب الدين إلى الله أدومه. (19) رواه مسلم، ح/ 4937. (20) المنهاج فييوميات الحاج: خالد بن عبد الله الناصر، 35. (21) رواهالبخاري، ح/ 3113. (22)رسالة المرأة في المجتمع المسلم، 5/ 29بتصرف. (23) رواه أحمد، ح/ 58220. (24) المقدمة: ابن خلدون بتصرف. (25) رواه البخاري، 2/ 164، ومسلم، 4/ 107. (26) رواه مسلم، 4/ 107. (27) رواه مسلم،ح/ 2402. (28) رواه مالك، ح/ 840. (29) إحياءعلوم الدين: الغزالي، 3/ 147. (30) رواه البخاري،ح/ 1559. (31) رواه البخاري، ح/ 1555. (32) رواه البخاريعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، ح/ 4158. (33) رواه مسلم، ح/ 3509. (34) في ظلال القرآن: سيد قطب، 2/ 201 بتصرف. (35) رواه مسلم، ح/ 1926. (36) رواه البخاري، ح/ 1619. (37) رواه أحمد، ح/ 17946، والنسائي، ح/3125..
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() الأبعاد التربوية للحج 2 - 2 (1) رسالة المرأة في المجتمع المسلم، 5 / 29 بتصرف .د. حمدي شعيب استعرض الكاتب في الحلقة الأولى رحلة الحج مستنبطاً من مسيرتها الدروس والعبر، وإشارات للساري في طريق الملة الحنيفية، وقد ختم الحلقة بدور المرأة في المشروع الحضاري عندما توقف عند ركن السعي والرمل بين الصفا والمروة؛ حيث ذكرنا بهاجر عليها السلام. وفي هذه الحلقة يتابع الكاتب نظراته التربوية في مسيرة الحج وما يستفاد منها في المشروع الحضاري لأمتنا الإسلامية. - البيان - أ - أما بالنسبة للقضايا الفرعية : فأولها : عندما يتأمل الحاج أنه قد كُتب عليه السعي على النهج نفسه وبالخطوات التي قامت بها أم إسماعيل عليهما السلام نرى أن الله عز وجل يريد أن يذكِّر كل مسلم، أن هذه الأمة واحدة؛ لأنها تملك كل مقومات هذه الوحدة : من جذور تاريخية، وأرض، وأفكار موحدة، وأنها تتجذر في التاريخ عمقاً يربطها بأبي البشر آدم وأبي الأنبياء إبراهيم عليهما السلام أوائل من بنوا البيت، وأنها كذلك تتجذر في التاريخ عرضاً لتضم كل الأمم وكل أجناس الأرض؛ فهي أمة واحدة ورسالتها واحدة. ثانيها : كيف أن الماء الذي كان في سقاء هاجر عليها السلام قد نفد لتتعرض والمتكرر، وهو الملمح الذي يبين أنه قد كتب على ابن آدم عامة حظه من الكد والنصب، تحقيقاً لسنته سبحانه أن حياة هذا المخلوق هي سلسلة من الكد والتعب : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ } [ البلد : 4]، وأن الإنسان مخلوق مبتلى : { إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الإنسان : 2]. وكتب كذلك على الدعاة وحاملي الأفكار النبيلة خاصة تحقيقاً لسنته سبحانه : { الّم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 1، 2]. إذن لا بد من الجهد والمحنة من أجل الاختبار والتمحيص، ومن أجل التمييز والانتقاء : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [آل عمران : 179]. وهذا المبدأ مبدأ الابتلاء لم يُستثن منه أحد حتى هاجر الصابرة الممتحنة ووليدها عليهما السلام بل كل الأنبياء عليهم السلام والصالحون والمصلحون على دربهم. ثالثها : تدبر وصف الحديث الشريف لحال هاجر عليها السلام : ( فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ) أي كان هنالك شعور داخلي عارم يدفعها للعمل والبذل إحساساً بالمسؤولية والإيجابية لعمل شيءٍ مَّا لتدفع به تلك المحنة، ولم تقعد وتولول تواكلاً وكسلاً وأن هذا شيء مقدر؛ بل نستشعر من طريقة سعيها عليها السلام معنى التصميم والعزم، وهو الشعور الذي يغيب عن بعض الدعاة؛ الشعور الداخلي بالمسؤولية لعمل شيء مَّا من أجل الفكرة التي يحملونها. رابعاً : كانت هاجر عليها السلام تسعى وتركض، ولا تريد أن تعود حتى تحصل على بغيتها حتى إنها كررت سعيها سبع مرات ! أي كان هنالك تصميم وثبات وعدم يأس من تحقيق بغيتها. ولقد كان بإمكانها أن تعذر إلى الله سبحانه بأن تسعى مرة أو مرتين. وهو الملمح الذي يذكِّر الدعاة بطرْق أبواب الخير مرات ومرات حتى تفتح، وأحرى لمن داوم على قرع الباب أن يُفتح له. فالداعية صاحب قضية، وهو دوماً يتطلع إلى المعالي، ولا تعوقه مغريات الأرض، ولا ثقلة الطين حتى يتحقق هدفه العظيم، كما قال أحمد محمد الصديق : يتعالى عن أراجيف الثرى نافضاً عنه غبارَ التهم من تكن عيناه للأرض فلن يتسامى أبداً للأنجم خامسها : بعد هذا المجهود المتكرر، والسعي الشاق المضني، والأخذ بكل الأسباب لا يسفر ذلك عن شيء، حتى كان الفرج بيده سبحانه المطَّلع على هذا الأمر، فأرسل جبريل عليه السلام ليضرب بعقبه أو بجناحه الأرض فتتفجر زمزم. وهو الملمح الذي يذكِّر الدعاة بالفقه الجيد لقضية التوكل على الله؛ وذلك بأن يسعوا في الأسباب وبأفضل الأسباب مع القناعة الداخلية بعدم الركون إليها، ثم مع اليقين فيما عنده سبحانه : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ومَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ } [النحل : 96] والفرج بيده سبحانه وحده مالك الملك، ومقدِّر الأقدار؛ لذا فإن الجوارح تعمل بالأسباب، والقلب يناجي رب هذه الأسباب : { بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلّ ِشَيْءٍ قَدِيرٌ }. [آل عمران : 26]. وثمرة هذه القضية هو الخلوص والتجرد للحق سبحانه { وظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ }. [التوبة : 118]. ب - أما بالنسبة للقضية الكبرى والمغزى العظيم من ركن السعي؛ فإن هذا العمل الذي يقوم به كل حاج ومعتمر يكاد يكون بكل دقائقه هو ما قامت به هاجر عليها السلام نفسه، وكأنها رسمت الخُطا للاَّحقين في كل عصر وفي كل جيل؛ فلا تتم لهم عمرة ولا حج إلا به، ثم ليتدبروا بعض الدروس التربوية منه. ولا يكاد يخلو هذا المكان من ساع ومهرول في أي لحظة، من اليوم والنهار، وكأننا بالحق سبحانه يريد أن تظل تلك القضية ودروسها حية دوماً في وجدان الأمة حتى يرث الأرض ومن عليها؛ عرفاناً بدور هاجر عليها السلام وتذكيراً للأمة، ورداً على أباطيل أعدائها وشبهاتهم. وعندما نتدبر هذا الركن من خلال زاوية دراستنا نجد أنه رد عملي، وبرهان جلي، حول قضية طالما أثار حولها المعارضون للمشروع الحضاري الإسلامي الكثير من الشبهات والاتهامات؛ بل العجب في الأمر أنه قد يُشارك بعض المسلمين في إثارة الغبار حولها بحسن نية، أو بجهل، أو بهما معاً ! وهي قضية مكانة المرأة في الإسلام، ودورها في المشروع الحضاري. ويكفينا في هذا المقام أن نقتطف بعض ما جاء في الرأي الشامل الجامع والراقي للحركة الإسلامية المعاصرة حول هذه القضية؛ فالمرأة (هي الأم التي ورد في شأنها الأثر الكريم : أن الجنة تحت أقدامها، والتي قدمها الله تعالى على كل من عداها في حق صحبة الأبناء لها، وأنهن شقائق الرجال. والمرأة هي نصف المجتمع ونصف الأمة والقائمة على تنشئة الأجيال. ومسؤولية المرأة الإيمانية كالرجل سواءاً بسواء؛ فهي مأمورة كالرجل بالإيمان بالله، وبالعمل بالأركان، وعليها ما على الرجل من واجب التفقه في الدين. والحدودُ في الشريعة واحدة بالنسبة للرجل والمرأة، ونفس المرأة في القصاص كنفس الرجل. وهي أول من آمن، وأول من استشهد في سبيل الله. ولقد شاركت في الجهاد والغزوات. ولا يصح زواج في الشريعة إلا بموافقتها ورضاها وإجازتها، ولا يجوز شرعاً إجبارها على الزواج ممن لا ترضاه. وللمرأة ذمة مالية كاملة لا تنقص شيئاً عن ذمة الرجل المالية. ونقصها في الدين ليس نقصاً في الإيمان ولا لأنها مخلوق متدنٍّ غير أهل للرقي، بل لرفع العبادات عنها في أوقات معينة. ونقص الحظ هو في بعض أنصبة الميراث فقط. أما نقص العقل فهو محدد بالشهادة على أمور معينة أهمها الدَّيْن أي القرض، وعقود البيع والحدود. أما قوامة الرجل عليها فلا يجوز أن تُفهَم على أنها مطلقة في كل الأمور ولعامة الرجال، بل إن هذه القوامة خاصة بالأسرة فقط، وفيما يتعلق بالأمور المشتركة بين الزوج والزوجة. ورياسة الرجل ليست رياسة قهر وتحكم واستبداد، ولكنها تراحم وتواد ومعاشرة بالحسنى، وتقوم على التشاور؛ فالأصل هو المساواة، ولكن الاستثناءات ترد منه سبحانه. وقد وردت النصوص بأن جسد المرأة كله عورة، ولا يجوز أن يظهر منه لغير محارمها سوى الوجه والكفين، وأن خلوة المرأة بالرجل غير المحرم لها غير جائزة. وللمرأة وظيفة أساسية هامة وسامية خصها سبحانه بها وهي وظيفة الحمل والأمومة، وهي ربة البيت وملكته. وللمرأة حق المشاركة في انتخاب أعضاء المجالس النيابية وما ماثلها. ولها الحق في تولي مهام عضوية المجالس النيابية وما يماثلها. والوظيفة المتفق على عدم جوازها لها هي الولاية العامة، أي رئاسة الدولة. أما القضاء فقد اختلف الفقهاء بشأن توليها له، وهذا يحكمه فقه الموازنات والترجيح. أما ما عدا ذلك من الوظائف فمادام أن للمرأة شرعاً أن تعمل فيما هو حلال لم يرد فيه نص بتحريمه. وهذه الحقوق وكيفية استعمالها تحكمها ظروف وأخلاقيات كل مجتمع) [1] . وهكذا فإن ركن السعي يفتح أفقاً رحيباً للمشاركين في المشروع الحضاري حول قضية المشارِكات ودورهن، فلا يبخسن، ولا يُهملن. ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم سماهن : الشقائق. مع المؤتمرين ! فضل الجماعية وأهميتها : ثم بعد طلوع الشمس من يوم عرفة يتوجه الحاج من منى إلى عرفة، وهو يلبي ويكبر : ( الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد ). ويرفع بها صوته. ويكره له الصيام في هذا اليوم. ومن السنَّة النزول في نمرة إلى الزوال إن أمكن. فإذا زالت الشمس سُنَّ للإمام أو نائبه أن يخطب خطبة تناسب الحال، ويبين للحاج ما يشرع في هذا اليوم وبعده. وبعدها يصلي الظهر والعصر جمع تقديم وقصراً؛ وذلك ليطول وقت الوقوف والدعاء بعد الصلاة؛ حيث يتفرغ للذكر والدعاء والتضرع إلى الله، ويدعو بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، وليس لعرفة دعاء مخصوص، ويستحب أن يرفع يديه حال الدعاء، ويستقبل القبلة. والأفضل أن يجعل الجبل بينه وبين القبلة، إن تيسر ذلك. ووقت الوقوف يمتد إلى طلوع الفجر من يوم العيد. وعليه أن يتثبت من كونه داخل عرفة، ولا يخرج من عرفة إلا بعد غروب الشمس. وبتأمل أعمال هذا اليوم العظيم نقتطف بعض الملامح التربوية؛ وذلك من منظور دوره ركيزةً من ركائز المشروع الحضاري : أ - ( الحج عرفة ) [2] بهاتين الكلمتين وضح صلى الله عليه وسلم أهمية هذا الركن من أعمال الحج، ولقد أجمع العلماء على أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم؛ فهو اليوم الذي يجتمع فيه كل الحجيج في مكان واحد، وفي يوم واحد، وإن امتد وقت الوقوف. وكأن المقصود هو اجتماع ممثلي الأمة من كل جنس ولون، ومن كل أرض وصقع، وكأنه مؤتمر سنوي يناقش هموم الأمة، ويعطي الدليل على كيفية اجتماعها. وعندما نتدبر مغزى حديثه صلى الله عليه وسلم أن الحج الصحيح هو من أدرك الوقوف يوم عرفة فإننا نستشعر أن جمع الأمة على هذه الصيغة من الأهمية العظيمة بمكان، ويبرهن أيضاً على أن حضور هذا المؤتمر السنوي الكبير يجب ألاَّ يتخلف عنه أحد ممن حضر من ممثلي الأمة. وكم هو منهج عظيم عندما يدعو في كل مناسبة إلى الوحدة، ويشيد بالجماعية وبركتها، وينبذ أفكار التشتت والتشرذم ! ب - في توجه الحجيج إلى عرفات تحت راية التكبير والتوحيد والتهليل يفهم منه أهمية الفكرة الربانية ودورها أن ركيزة التجميع لهذه الأمة هي كلمة التوحيد؛ فهي الفكرة الربانية التي رشحها الحق سبحانه لأن تجتمع عليها الأمة كل الأمة وهي الراية التي من الممكن أن يتجمع حولها كل الناس؛ فتنطلق بهم إلى سيادة الدنيا، وسعادة الآخرة. ونحن في هذا المقام نضيف دليلاً آخر يؤكد ما قلناه؛ وهو ما أورده (ابن خلدون) في مقدمته (أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة؛ والسبب في ذلك أنهم لخُلُق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض. فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الناس قبولاً للحق والهدى والسلامة) [3]. ج - وفي قصر الصلاة وجمعها نستشعر منه وكأن المقصود أن يطول وقت الوقوف والتضرع إلى الله عز وجل وذلك من شأنه أن يحقق الهدف الثاني من أهـداف ركن الحج وهو قطف ثمرته الروحية من ذكر ودعاء واستغفار؛ فهو فرصة سانحة لا تتكرر إلا كل عام، ولمن سعدوا بحضورها؛ حيث تبدو سويعات الوقوف وكأنها دورة تربوية روحية مركَّزة قدَّرها سبحانه وتعالى لمعالجة بعض جوانب تلك الحالة الاعتلالية التي تحدثنا عنها في (ظاهرة التآكل الروحي)؛ حيث تتسرب إلى بعض النفوس. وتدبر كيف أن المربي العظيم صلى الله عليه وسلم قد عمم الترغيب في آثار الحج الروحية عموماً، ثم خصص أهمية يوم عرفة، من ذلك : ( من حج هذا البيت؛ فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) [4]، ( العمرة إلى العمرة كفارة لم بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) [5]، ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ ) [6] . د - في هذا اليوم، وفي أثناء فرحة الحجيج بموقفهم، وبمؤتمرهم الجليل، وبينما هذا الجمع الطيب مشغول في دورته الروحية كان من الفقه العميق أن يُعرِّج الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى التحذير من العدو المبين ذلك الذي يتأذَّى حسداً وحقداً من مجرد سجود المؤمن وطاعته لربه، فما بالك بهذا الموقف العظيم ؟ ! عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما رُئِيَ الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا أدحر أي أذل وأهون ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تَنَزُّل الرحمة، وتجاوُزِ الله عن الذنوب العظام، إلا ما أري من يوم بدر. قيل : وما رأى يوم بدر يا رسول الله ؟ قال : أما إنه رأى جبريل يَزَع أي يقود الملائكة ) [7] . وهو العدو الذي لا ينام، ولا يغفل عن الدس والوسوسة. قال رجل للحسن : يا أبا سعيد ! أينام الشيطان ؟ ! فتبسم وقال : لو نام لاسترحنا [8]. وهذه اللمحة النبوية العظيمة تذكرنا بباب عظيم من الفقه ألا وهو علم الشر، وسبل الوقاية منه، وهو الباب الذي لا يغني عنه ولا ينفي أهميته أن نفقه علم الخير، وسبل الوصول إليه. مع السائرين ! تنمية الجوانب الأخلاقية : بعد غروب شمس يوم عرفة تبدأ الإفاضة، فينطلق الحاج إلى مزدلفة بهدوء وسكينة، مهللاً ومكبراً وملبياً، ثم يُصلي المغرب والعشاء قصراً وجمعاً بأذان واحد وإقامتين. ثم يوتر ويبيت بمزدلفة. فإذا تبين الفجر صلى مبكراً، ثم قصد المشعر الحرام فوحَّد الله وكبَّر واستقبل القبلة، ثم دعا بما أحب حتى يُسفر جداً، أو يدعو في مكانه إن لم يتيسر له. ثم يلتقط حصيات من مزدلفة ليرمي جمرة العقبة، ثم بعد ذلك يتجه إلى منى. وإذا وصل إلى وادي محسر وهو بين مزدلفة ومنى استحب له الإسراع. وعندما نتأمل هذه المسيرة من خلال بُعدها التربوي وما ترمز إليه نستشعر بعض الوقفات واللمحات التربوية التي تدور حول بعض الأخلاقيات المنشودة للسائرين على درب المشروع الحضاري : أ - كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يوصي بالسكينة والهدوء فيقول : ( أيها الناس ! عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع أي بالإسراع ) [9] وكان صلى الله عليه وسلم يسير العَنَق أي سيراً رفيقاً فإذا وجد فجوة أي مكاناً متسعاً غير مزدحم نَصَّ أي أسرع ) [10] . والأمر بالسكينة وصية يُستشعر منها معانٍ عظيمة منها : الهدوء، والنظام، والطاعة، ومراعاة حقوق الآخر، ومراعاة جلال الموقف؛ وذلك من خلال سمات المنهج الذي يربي أتباعه على النظام والطاعة، وعدم التخلق بأخلاقيات الغوغائيين التي تبرز دوماً مع أي تجمعات كبيرة. ب - كان من هديه صلى الله عليه وسلم أثناء الإفاضة أن يستمر الذِّكر والتهليل والتكبير والتلبية والاستغفار حتى تُرمى جمرة العقبة. وكذلك كانت توجيهات الحق سبحانه : { فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ واذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وإن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. فَإذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً }. [البقرة : 198 - 200]. وهذا الهدي وتلك التوجيهات توحي بأهمية المتابعة والاستمرار على الحالة الروحية الرفيعة المكتسبة من الدورة الروحية العظيمة أثناء الوقوف بعرفات، وكذلك نستشعر معها أهمية المحافظة على المكتسبات الربانية، والثمرة الروحية للحج؛ فلا تذهب مع مشقة المسير. كما نستشعر مدى عمق التحذير الإلهي من خطر العودة إلى الضلال السابق؛ فالموفق من تذكَّر ماضيه وقارنه بالحالة الربانية التي هو فيها، فشكر الله عز وجل ظاهراً بالمتابعة والاستمرارية، وباطناً بالخوف من خطر النكوص والارتكاس، والانتكاس. ونسأل الله سبحانه العفو والعافية، لا نحصي ثناءاً عليه سبحانه، هو كما أثنى على نفسه. ج - في وصفه سبحانه لحالة الذِّكر المنشودة : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } [البقرة : 200] نستشعر مدى أهمية تنقية النية وتصفيتها؛ فإذا كانت الغاية هي الله سبحانه فيجب ألاَّ تختلط بغايات أو رايات أخرى. كذلك يتبين لنا أهمية وجود العقلية المسلمة المرتبة التي تفقه أولوياتها؛ فمن كان همه رضا خالقه سبحانه فينبغي ألاَّ تعيقه أي اهتمامات أخرى حتى وإن كان الوالد أو الولد؛ ففي تلك المواقف يصبح الاهتمام بالموروثات القبلية مثل مجد الآباء والأجداد، والفخر بالأبناء والأموال من قبيل النزول من القمة إلى السفح، ومن الاهتمام والتمحور حول الأفكار والمبادئ إلى التفاخر بالوسائل المادية كالأرض والطين. والحق سبحانه يحب معالي الأمور. د - ثم يبين الحق سبحانه خلقاً آخر يوصي به السائرين : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } [البقرة : 199]. هذا وإن كانت هذه وصيته سبحانه بأن تلتزم قريش بالوقوف مع الناس، وعدم التمايز المكاني؛ فقد كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يُسَمَّوْن : الحُمْس وسائر العرب يقفون بعرفات؛ فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها؛ ثم يفيض منها؛ فذلك قوله : { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } ) [11] . ولكننا نستشعر هنا المعنى التربوي البعيد للنص؛ حيث يدعو السائرين في كل درب وفي كل مجال إلى التخلق بخلق المساواة والعدل والتسوية بين الأفراد وعدم التمايز الذي من شأنه أن يمنع تولد الحقد والبغضاء والحسد داخل أي تجمع؛ فما بالك بالسائرين على درب المشروع الحضاري ؟ ! ولقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يتتبع هذا الخلق في كل مجال. وتدبَّرْ هذا السلوك النبوي التربوي الرفيع؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ( أن أباه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكلَّ ولدك نحلته مثل هذا ؟ فقال : لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأرجعه ). وفي رواية : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفعلت هذا بولدك كلهم ؟ قال : لا، قال : اتقوا الله واعدلوا في أولادكم. فرجع أبي فردَّ الصدقة ). وفي رواية : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا بشير ! ألك ولد سوى هذا ؟ قال : نعم. قال : أكلهم وهبت له مثل هذا ؟ قال : لا، قال : فلا تُشهدني إذاً؛ فإني لا أشهد على جَوْر. ثم قال : أيسرُّك أن يكونوا لك في البر سواء ؟ قال : بلى ! قال : فلا إذاً ) [12]. وكذلك كان شعور كل فرد من الصحابة رضوان الله عليهم، وكأنه هو المقرب والمفضل عنده صلى الله عليه وسلم. ويستشعر الداعية أيضاً كيف أن بعضاً من داخل أي مؤسسة خاصة المؤسسات الدعوية قد يصيبه حالة اعتلالية يرى فيها نفسه فوق الآخرين، فينظر إلى موقعه التنظيمي ويقيِّم الآخرين على أساس تقدمه عليهم، ولا يفيض في الحركة الدعوية من حيث أفاض الناس، وهي (ظاهرة الغرور التنظيمي)، ولو تدبر قليلاً لوجد الرد الإلهي واضحاً في سورة عبس؛ وهي السورة التي وضعت أساسات وموازين تقييم الناس. هـ - وفي قوله سبحانه : { فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ومَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. ومِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّارِ. أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا واللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ } [البقرة : 200 - 202]. (إن هناك فريقين : فريقاً همه الدنيا، فهو حريص عليها مشغول بها، ويذكرها حتى حين يتوجه إلى الله بالدعاء؛ لأنها هي التي تشغله، وتملأ فراغ نفسه، وتحيط عالمه وتغلقه عليه. هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبهم في الدنيا إذا قدر العطاء ولا نصيب لهم في الآخرة على الإطلاق. وفريقاً أفسح أفقاً وأكبر نفساً؛ لأنه موصول بالله يريد الحسنة في الدنيا ولكنه لا ينسى نصيبه في الآخرة؛ فهم يطلبون من الله الحسنة في الدارين، ولا يحددون نوع الحسنة، بل يَدَعون اختيارها لله، والله يختار لهم ما يراه حسنة وهم باختياره لهم راضون. وهؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطئ عليهم؛ فالله سريع الحساب) [13] . ونحن ندور مع البعد التربوي البعيد للنص، وهو التركيز على علاج (ظاهرة القصور الفكري) التي تصيب بعضاً من اللحظيين ذوي النظرة المحدودة التقدير القاصرة القريبة من حواسهم ضيقي الأفق؛ فلا يدركون الأبعاد البعيدة للقضايا والأمور. وعلاجها يتم بضرورة تشجيع ذوي النظرة المستقبلية للأمور البعيدة التقدير، والاستشرافية للقضايا. وكم من مكاسب عظيمة أضاعها المحدوديون ! ولم يكن لهم نصيب في فقه سراقه بن مالك رضي الله عنه عندما تناقش مع الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء مطاردته له في الهجرة، ونظر إلى المكاسب العظيمة البعيدة التي تفوق جائزة قريش، فكسب نعمة الإسلام، والنجاة في الآخرة، وفوق هذا حصل على الوعد بسواري كسرى بعد سنوات أثناء حكم الفاروق رضوان الله عليه. عوائق.. وتضحيات : أهمية معرفة عوائق الطريق : ثم نأتي إلى اليوم العظيم، يوم النحر؛ يوم العيد؛ حيث ينطلق الحاج قبل طلوع الشمس إلى منى ملبياً وعليه السكينة، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات، ويكبر مع كل حصاة، ويقطع التلبية عندها، ثم يذبح الهدي، ثم يحلق أو يقصر. وبذلك يتحلل التحلل الأول، فيلبس الثوب ويتطيب، ويحل له جميع محظورات الإحرام إلا النساء، ثم يذهب إلى مكة لطواف الإفاضة بدون رَمَل. ثم يصلي ركعتي الطواف، ويسعى المتمتع والقارن أو المفرد الذي لم يسع. وبذلك يتحلل التحلل الكامل. ويشرب من زمزم، يصلي الظهر إن أمكن، ويكبر، ثم يذهب للمبيت في منى باقي الليالي. وحول الأبعاد التربوية لأعمال يوم النحر نقتطف بعض هذه الملامح التي ترمز إلى معرفة السائر لعوائق الطريق، وتصميمه على الانتصار عليها : أ - عندما يبتدأ الحاج بالرمي فإنما هو من باب دخول البيوت من أبوابها؛ حيث إن الرمي هو تحية منى. وكذلك هو من باب البداية بالأصل الكبير في كل قضية؛ فبعد سفر طويل وتعبئة كبرى، وشحن داخلي يتجه الحاج إلى العدو الأول، ذلك الذي حذره منه الحبيب صلى الله عليه وسلم فعرَّفه عليه ليتجنبه؛ كيف لا وهو عينه ذلك العدو الذي لم يَرُقْهُ جلال سويعات الوقوف بعرفات، وكان في أغيظ مواقفه ؟ ! وعندما يرمي الحاج سبعاً من الحصيات فإنه يبدو كأنه تصميم على جدية المواجهة ضد شبهات الشيطان وشهواته. وفي دعاء الحاج ربه عقيب الرمي يتبين أهمية سلاح الدعاء في كل موقف، وكذلك يتبين معنى فقر العبد دوماً إليه سبحانه؛ فبعونه عز وجل تأتي القوة والمنعة والنصر في معركته ضد عدو الله وعدوه. وبتدبر البعد التربوي الشامل للرمي نستشعر أن أصل كل معركة أن تعرف من هو العدو الحقيقي، فتواجهه. فمن العوائق الرئيسة عدم معرفة العدو، وعدم معرفة أسلحته، ونقط ضعفه، ومعرفة كيفية التغلب عليه. ب - وفي النحر دلالات عظيمة للسائر : فهو يرمز إلى أن السائر الذي يعرف طريقه، ويعرف هدفه، ويعرف أيضاً عدوه، وأن عليه ألاَّ تعيقه أي تضحيات في سبيل تحقيق ما خطط له. يتأمل الداعية ذلك وهو يتذكر رواده على الطريق، يتذكر الخليل عليه السلام وكيف أنه ضحى بولده الوحيد الحبيب عليه السلام وذلك في سبيل رضاه سبحانه وامتثال أمره. والله عز وجل لا يريد العنت بعباده، وإنما يريد لهم تجربة واقعية تثبت وتبرهن أن العبد قد رتب أولوياته جيداً، وعندما يثبت ذلك للعبد نفسه وليس للحق سبحانه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، عند ذلك فقط يكون النجاح في الاختبار. كيف لا والحق سبحانه قد أخبر أن إبراهيم وولده عليهما السلام قد نجحا بالرغم من عدم ذبح إسماعيل عليه السلام ؟ فالقضية لم تك هي الذبح، بل هو مجرد اختبار واقعي لجدية الاستعداد للتضحية : { وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ }. [ الصافات : 104، 105]. والموفق هو من يعرف عوائق طريقه، فيتغلب عليها مضحياً في سبيل هدفه الأسمى، وهذا هو الفيصل والفارق : { ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لِّلَّهِ }. [البقرة : 165]. فرحم الله من أرى أعداء الله منه قوة، ورحم الله من أظهر لربه منه جدية وبذلاً وحباً وتضحية، وترتيباً صحيحاً لأولوياته. ج - وفي ذهاب الحاج إلى مكة لطواف الإفاضة أبعاد تربوية عظيمة منها أنه تأكيد على أن السائر لم يزل على عهده، ولم تزل القضية المحورية التي يدور حولها وبها ومعها هي شغله الشاغل. ومنها أيضاً أنه فوق كونه تجديداً للعهد، فهو تجديد للزاد الذي من شأنه أن يقويه على أي عقبة في الطريق. ومنها أهـمية تذكير الأمة بضرورة توحيد الغاية والهدف والهموم لتكون أشبه بمحور تطوف كل فئات الأمة حوله حتى تتجمع القوى حول الأهداف العظام، ولا تتفرق. فمن عوائق الطريق التشرذم تحت رايات متعددة، والتمحور حول أفكار غير موحدة؛ لأن من أهم ركائز المشروع الحضاري الإسلامي هو الحركة الجماعية المنظمة والمتوافقة. د - وعندما ينهي الحاج أعمال يوم النحر بالحلق أو التقصير، وهو من باب استعداد الحاج لأعمال منى، التي ستكون أشبه باللجان المصغرة التي تعقد ورش عمل لمتابعة أعمال المؤتمر السنوي الذي عقد في عرفة. وعندما يقرر صلى الله عليه وسلم صحة كلٍ من الحلق والتقصير، ثم يرتب الحلق ويفضله على التقصير فإنما هو من باب يسر المنهج ومرونته، وكذلك له مغزى تربوي آخر وهو من ركائز المشروع الحضاري ألا وهو قبول الآخر، أو بمعنى أشمل هو من باب التعددية الفكرية والمذهبية؛ وذلك كما بينا ذلك عند الحديث عن أهمية إعادة صياغة العقلية المسلمة على أصول منها : قضية تعدد الصواب. فمن عوائق الطريق وجود بعض من ذوي الاعتلالات التربوية والحركية بل والفكرية، فلا يرى إلا رأيه، ولا يستمع للآخر، بل يبلغ به الأمر إلى أن يسفه رأي الآخر، ويتمادى به الاعتلال حتى يسفه الآخر نفسه. وقديماً من وراء السنين أنصفنا المربون عندما حملوا لنا نصيحة الشافعي رحمه الله عندما وضع قاعدة ذهبية من قواعد حرية الفكر : ( رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب ). بل إن الحق سبحانه ذم رائد هؤلاء (الدكتاتوريين) عندما وضع قاعة بغيضة من قواعد كبت الفكر : { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ } [ غافر : 29]. مع لجان منى ! : أهمية بث روح المؤسسية : بعد ذلك تبدأ أيام منى أو أيام التشريق. وأعمالها تتلخص في رمي الجمرات الثلاث، والمبيت بمنى، وهي أيام قال عنها المعلم العظيم صلى الله عليه وسلم : ( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله ) [14]. وحول أيام منى والأعمال الخاصة بها نقتطف بعض الملامح التربوية؛ وذلك من باب هذه الدراسة وقيمتها وما ترمز إليه : أ - حول لزوم المبيت للحاج بمنى، وأن يبقى أكثر الليل في أوله أو آخره. وكأن من فقه المتابعة أن يشارك الحاج في حضور اجتماعات منى المصغرة والتي هي أشبه بفرق العمل أو اللجان المنبثقة عن مؤتمر عرفات السنوي الكبير، وذلك لمدارسة التوصيات. وهذا يبين لنا أهمية المتابعة لكل أمر. ب - ومن أعمال منى رمي الجمرات الثلاث، كل واحدة بسبع من لحصيات، ووقت الرمي مسألة خلافية، ولكن المختار أن يبتدئ من الزوال إلى الغروب. والبعد التربوي للرمي هو أنه يبدو كأنه تأكيد على أن المجتمعين عليهم ألا يغفلوا عن العدو المتربص بهم، ومحاربته وصد ما يلقيه من شبهات وشهوات سواء للنفس أو الزوج أو الولد، وألا يغفلوا أيضاً عن العدو الخارجي. ورمي كل جمرة بسبع من الحصيات هو أيضاً من باب التصميم والجدية في المعركة. وفي اختلاف وقت الرمي؛ حيث يبدو الحجيج بين ذاكر لله ورام ودارس وطائف وآكل وشارب، وفي الوقت نفسه يبدو حالهم كأنه من باب تكامل الجهود وتنوع الأعمال وتوافق الوظائف، وكأنهم في حركة جماعية مؤسسية تقوم على لجان متوافقة متناسقة ومتكاملة ومتعاضدة. وهو من باب أهمية المؤسسية في الحركة الجماعية الهادفة إلى تحقيق المشاريع الحضارية. وهو أيضاً من باب الاعتراف والتقرير بل والتقدير لكل عمل سواء قل أو عظم، مادام يتوافق مع الحركة المؤسسية. ج - كان القائد صلى الله عليه وسلم في هذه الحركة الجماعية أيام منى مثالاً للقيادة الواعية؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير، فقال : ( لا حرج ) [15]. وأهم سمة قيادية في مثل هذه المواقف ينبغي أن تتمثل في المرونة واليسر. وهاتان السمتان سواء المرونة القيادية، أو التخلق بخلق التيسير إنما تنبثقان وتنبعان من القاعدة الربانية الكبرى للمنهج الإسلامي : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } [البقرة : 185]. وهذه السمة القيادية تبدو بارزة عند القادة الربانيين في كل المواقف. ولعلنا نذكر ذلك القائد الرباني طالوت الذي كان يتمتع بهذه المرونة القيادية، فكان رحيماً في تجربته الجهاديةالتغييرية؛ عندما قال لأتباعه : { إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } [البقرة : 249]. والموفق من يكون متوازناً بين الحزم والمرونة، وبين الشدة والتيسير بشرط أن لا يخل ذلك بروح الانضباط؛ فيحافظ على شعرة معاوية. د - ومن السنة الصلاة في مسجد الخيف أيام التشريق؛ حيث ورد أنه صلى في هذا المسجد سبعون نبياً. وهو من باب استشعار عمق جذور الحركة الدعوية، وأصالتها في عمق التاريخ؛ فالمشروع الحضاري ليس بدعاً؛ بل هو بعث لروح الأمة وتجديد لدينها، أو بالمعنى الأبسط : هو مجرد إزالة للركام المركب الذي طمس معالم المنهج سواء من جانب ضياع المفاهيم، أو من جانب سوء طريقة عرضه ومعاصرة طرحه. أو بمعنى آخر : هو جولة حضارية تغييرية جديدة تقوم على مرتكز عظيم وهو رصيد التجربة. هـ - ورد عن الحبيب صلى الله عليه وسلم أن أيام منى أكل وشرب وذكر لله. وهذا يشعرنا بأهمية تنمية الجانب الروحي، ومتابعة ذلك عند السائرين على درب المشروع الحضاري، حتى في سويعات الراحة المباحة من الأكل والشرب. وداعٌ.. وأمل : أهمية الحركة وبث روح الأمل : ثم نأتي إلى نهاية رحلة الحج المباركة التي تنتهي بذهاب الحاج إلى مكة لطواف الوداع، وذلك قبل غروب شمس يوم الثاني عشر للمتعجل، أو يوم الثالث عشر للمتأخر، ثم بعد ذلك يعود إلى بلده مباشرة. وحول بعض الملامح التربوية للنهاية الجليلة لتلك الرحلة العظيمة نقتطف بعض هذه القطوف التربوية. لما كان الهدف هو حضور المؤتمر السنوي العام بعرفات، ومعرفة العدو الواحد، ثم حضور لجان منى وفرق العمل المنبثقة عن المؤتمر العام، واستشعار روح المؤسسية، وفوق ذلك كله التزود بزاد التقوى : { وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة : 197]، وبلوغ درجات رفيعة من التربية الروحية كان الأصل أن يعود المؤتمرون إلى بلادهم للقاء من يمثلونهم من الأمة ومتابعتهم. يعودون إلى حيث ينشرون فكرتهم في أرجاء المعمورة، وكأن الانتشار بالفكرة هو الهدف المطلوب، أو أن الحركة بالفكرة هي قضية الساعة الآن. وكذلك يدل على عالمية الرسالة؛ فهي مشروع لا يعرف حدوداً من جنس أو أرض. ولكن قبل العودة كان لا بد من مِسك الختام فيِ الطوافِ الأخير طوافِ الوداع. وتدبر مغزى كلمة وداع وأثرها على النفس. وتدبر كيف كان الختام وكأنه تأكيد عملي أخير يركز على ضرورة فقه الهدف الواحد والهم الواحد الذي تطوف حوله جموع السائرين، والذي ستحمله القلوب إلى بلادها، تلك القلوب التي هوت شوقاً إلى هذا المكان، فأتت من كل فج عميق. ولكن هذه القلوب لم يمنعها هذا الرباط الروحي ولن يمنعها من أن تعود فتنشر فكرتها، وتدعو إلى مشروعها الذي تحقق على أرض فأصبح له مرتكز ومركز إشعاع ثابت وقاعدة صلبة توضع عليها راية التجميع ليؤوبوا إليها كل حين، ثم يعودون للانتشار من جديد. فحركة التاريخ وناموسية التغيير الحضاري من سماتها التبديل والحركة التي لا تعرف السكون : بين مد وجزر، أو بين امتداد وانحسار. وكذلك الأفكار؛ فالحركة تمنع نمو جراثيم التأسُّن الفكري في العقليات. وأيضاً بالنسبة للأمم والجماعات والمؤسسات؛ فإن الحركة أيضاً تهاجم حشرات التعفن الحضاري عند الأمم. وإن الحركة في كل تلك المجالات مثلها مثل حركة الكون التي تجري مكوناتها في ديمومة حركية، لا تهدأ حتى المستقر النهائي الذي يقرر منتهاه ومستقره العزيز العليم : { والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ } [يس : 38]. والحركة الحضارية من شأنها التداول : { وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [آل عمران : 140]. وعندما يفقه الدعاة وكل من يشارك في مسيرة الدعوة إلى المشروع الحضاري تلك الإشكالية، ويدركون مغزى السمة التداولية للحركة الحضارية، ويعون الناموسية التغييرية للتاريخ فإن ذلك من شأنه أن يمدهم بزاد آخر، زاد ضروري، ألا وهو زاد الأمل. ذلك الزاد الذي يعطي الدفعة العظيمة للسائرين، ويُضاعف روح البذل. وخير ما ورد عن ذلك الزاد تلك البشارات التي كان يطلقها الحبيب صلى الله عليه وسلم أثناء أصعب المواقف؛ عندما حوصرت الدعوة وجففت منابعها، وحوصر الداعية، وذلك أثناء غزوة الأحزاب، وكان هناك من يسجل لنا هذا الموقف الاستشرافي العظيم للقيادة الربانية الواعية؛ كان هناك البراء رضي الله عنه فقال : ( لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول، فقال : بسم الله، ثم ضرب ضربة، وقال : الله أكبر أُعطيتُ مفاتيحَ الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة. ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال : الله أكبر أُعطِيتُ فارس، واللهِ إني لأُبصر قصر المدائن الأبيض الآن. ثم ضرب الثالثة، فقال : بسم الله، فقطع بقية الحجر. فقال : الله أكبر أُعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني ) [16] . ومرت الأحداث، وتعاقبت الأيام، وتداولت الحركة الحضارية، واسْتَعْلت الدعوة على الحصار الشيطاني، ومكَّن الله لها في الأرض، وتحقق ما بشر به القائد العظيم صلى الله عليه وسلم. وبعد : فهذه لمحات متواضعة حول الأبعاد التربوية لتلك الرحلة المباركة وما تمثله من ركائز للمشروع الحضاري الإسلامي؛ وهي محاولة نرجو من الله بها القبول؛ فمنه وحده سبحانه التوفيق؛ وإن كان بها من الزلات فهي مني ومن الشيطان. (2) رواه أحمد، ح / 58220 . (3) المقدمة : ابن خلدون بتصرف . (4) رواه البخاري، 2 / 164، ومسلم، 4 / 107 . (5) رواه مسلم، 4 / 107 . (6) رواه مسلم، ح / 2402 . (7) رواه مالك، ح / 840 . (8) إحياء علوم الدين : الغزالي، 3 / 147 . (9) رواه البخاري، ح / 1559 . (10) رواه البخاري، ح / 1555 . (11) رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، ح / 4158 . (12) رواه مسلم، ح / 3509 . (13) في ظلال القرآن : سيد قطب، 2 / 201 بتصرف . (14) رواه مسلم، ح / 1926 . (15) رواه البخاري، ح / 1619 . (16) رواه أحمد، ح / 17946، والنسائي، ح / 3125 .
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |