
16-11-2019, 03:57 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,245
الدولة :
|
|
الفتوى في الحج والاجتهاد الفردي
الفتوى في الحج والاجتهاد الفردي
فهد بن سعد الجهني
إن "الحج" من شعائر الله العظمى التي أمر الله بتعظيمها، وإن من تعظيمها -والله أعلم- بيان أحكامه للناس، وتبصير الأمة بسنة نبيهم وإمامهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وليس هناك شعيرة تجمع المسلمين في مكان واحد وزمان واحد -بل وتلزمهم بذلك - مثل الحج، لذلك والله - تعالى - أعلم ختم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه شعائر الدين العظمى بالحج، ختم به وختم فيه، ختم به: بأن كان آخر الشعائر والأركان التي يبينها للناس عمليا "لتأخذوا مناسككم" مسلم (1297)، وختم فيه: بأن جمع له الناس من كل مكان في المدينة ومن حولها من هجر الإسلام وقراه، حتى بلغوا مائة ألف أو يزيدون!! فخطبهم في مواضع متعددة وسمع الناس صوته على كثرتهم حتى سمعه أهل البيوت في بيوتهم! ولا عجب فهو نبي الله!! لذلك والله أعلم- لما فرض الحج عليه في السنة التاسعة لم يحج إلا في العاشرة تحصيلاً لمصلحة اجتماع الناس ليسمعوا منه قواعد الدين وأحكام الإسلام وليأخذوا عنه مناسكهم، وأمرٌ آخر عظيم وجليل أن يتحصل لكثيرٍ منهم فضل وشرف الصحبة!! وأعظم به من شرف وفضل، وهو فضل الله يؤتيه من يشاء.
لذلك أقول: أن الحج ومناسكه ومسائله مما يتعلق بمجموع الأمة وأفرادها، ولا يختص به أحدٌ دون أحد، وقد كثر الحديث بل ويتكرر في كل موسم عن الكثير من مسائل الحج، ومع مجالسة الناس ومخالطتهم بمختلف تخصصاتهم ومشاربهم ومستوياتهم العلمية والاجتماعية تسمع آراء كثيرة، تصدر من توجهات ومنازع مختلفة منها الغث ومن السمين ومنها المتشدد ومنها المتساهل ومنها ما يستحق الوقوف والتأمل ومنها ما يستوجب البيان والنصح، ولكل وجهة ومع كل -فيما يظن - دليل، والصد عن هذا كله من قبل المعنيين على مختلف مستوى المسؤلية (الشرعية والرسمية) مما لا ينبغي؟ بل لا يجوز لأن الأمر يتعلق بشعائر الله ودينه، ومن خلال استقراء غير تام وهو محقق لغلبة الظن لكثير من هذه الأراء أستطيع إلى حدٍ ما تلخيصها أو تقسيمها وباعتبارات مختلفة إلى عدد من الأقسام المعينة على ضبط الموضوع بحول الله وما توفيقي إلا به:
أولاً: من حيث نظرة المختصين الشرعيين وغيرهم إلى مسائل الحج من خلال النظر الفقهي وجانب الفتوى فهي على ثلاث توجهات في الجملة:
التوجه الأول: الذي ينظر إلى جانب الأدلة والنصوص ويغلب جانب الاحتياط، وينصح باتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج كما جاءت، ولا يترخص إلا في ما ورد فيه نص، ولا يتعدى بالرخصة مواضعها، بمعنى أنه لا يعمل القياس أو يعمم مناط الترخص ليشمل شريحةً أكبر من المكلفين.
التوجه الثاني: من يغلب جانب النظر إلى مقاصد الشريعة والقواعد العامة في الفقه الإسلامي من حيث نظرتها لرفع الحرج ودفع الضرر والتيسير، ويحكم على النصوص من خلال هذه النظرة العامة.
التوجه الثالث: من يعمل الأمرين معا: النظر الفاحص في النصوص الواردة في المناسك، مع عدم عزلها عن مقاصد الشرع وقواعده العامة، والاجتهاد في تلمس مناط الحكم بدقة وحسن تصور.
ولاشك أن الوسط بين الطرفين هو المطلوب، وهو الجادة التي ينبغي العض عليها، فالنظرة الأولى فيها احتياط وحملٌ للناس على الأكمل والأفضل ولا شك، ولكن نحن نتحدث اليوم في واقعٍ مختلف، وظروف تفرض نفسها، ومن عايش مناسك الحج فعلياً واختلط بالضعفاء وكبار السن والجهلة وأهل الآفاق البعيدة، علم مدى الصعوبة في حمل هؤلاء ومن ارتبط بهم ممن ليس في حكمهم حقيقة ولكنه لا يستطيع أن ينفك عنهم أو يتركهم، على التقيد بالسنة كما جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والفتوى لابد لها كما قرر أهل الاختصاص من مقدمتين لازمتين: العلم بالواقع من خلال المشاهدة والمعايشة وسؤال أهل الشأن والجلوس معهم، ومن ثم العلم بما يجب شرعاً في هذا الواقع، عندها فقط تنزل الفتوى منزلتها الصحيحة وتقترب بإذن الله من إصابة الحق ونفع الخلق، مما لا يؤدي بهم إلى الحرج والضيق، والمشقة تجلب التيسير.
أما التوجه الثاني فهو مع وجاهته إلا أن الحديث عن مقاصد الشريعة وقواعدها العامة وطلب أن تصدر الفتوى أو أن يوجه الناس بناءً على هذا التصور، مهيع واسع ومظنة التخليط وعدم الدقة، ويحتاج فيه الأمر إلى نوعية متميزة من أهل العلم المختصين الذين وهبهم الله ملكة الاستناط وحسن التصور وكثرة النظر والبحث في مقاصد الشارع، وسبر العلل، ومعرفة شروط القياس وضوابطه، مع دراية كافية بالنصوص من الكتاب والسنة وفتاوى الصحابة وعلماء الأمة، وهذا ليس لأي أحدٍ أن يخوض فيه، سواء كان من طلاب العلم أو غيرهم ممن لا يحسنه وليس من أهله!! ويجب مع ذلك كله لكل فقيه أو مفت أن يضع مقاصد الشارع نصب عينيه لتضيء له الطريق، وتضبط له المسائل وتقربه من الحق والعدل، فهذه المقاصد والمصالح المعتبرة بمثابة المحكمات التي ترد إليها المتشابهات والكليات التي ترد إليها الجزئيات.
ومن هنا يعرف التوجه والنظرة الصحيحة للمسائل الفقهية في الحج وغيره، والتي تتلخص في تعظيم النصوص الشرعية وعدم عزلها عن مقاصدها العامة وفق المنهج العلمي الدقيق الذي توافر على وضعه وسبره علماء الملة الراسخين في العلم الذين أفنوا أعمارهم في طلبه من أصوليين وفقهاء وغيرهم رحم الله الجميع.
وأما التقسيم الثاني للآراء باعتبار نظرة البعض لجهة الفتوى ومصدرها بالضم أو الفتح!
وهم على ضربين:
الضرب الأول: من يرى- وهم قلة فيما أحسب - الإكتفاء بفتاوى علماء البلد الذي تقام الشعائر على أرضه، سواء كانت الفتوى بالمذهب السائد أو بالاجتهاد.
الضرب الثاني: وهم الكثرة يرى أن الحج شعيرة تهم المسلمين عموماً، ومتعلقة بهم جميعاً، وأنه ليس من الصحيح علمياً ولا شرعياً أن يستقل بهذه الأمور التي تعم بها البلوى علماء بلدٍ معين مهما أوتوا من علم وفضل ودراية.
وهذا هو الحق بلا ريب، لعدة أمور منها ما هو ظاهر ومنها ما هو أقل ظهوراً، ومن ذلك: أن العلم ليس له بلد أو نسب، بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن تأهل للنظر والبحث أو وصل مرتبة الفتوى وحصل القدر الكافي من شروطها واتقى الله - عز وجل -، فهو من أهل الذكر الذين أمرنا الله بسؤالهم!
كذلك فإن الفتوى الفردية في الأمور الكلية ومما يعم به البلوى، غير صحيح أيضاً، وهو مظنة للخطأ ومثار للنزاع والاختلاف، وتشتيت للناس.
لهذا أقول وأسجل هذا الاقتراح لعله يجد القبول والحظ من النظر والتأمل من قبل المختصين والمعنيين على كافة المستويات: ويتلخص في (إنشاء هيئة شرعية مختصة بكل ما يتعلق بمسائل الحج وفتاويه) وتكون.
1. هيئةً عالمية موسعة ينتخب في عضويتها علماء من بلدان مختلفة، لتتمثل فيها المذاهب الفقهية الأربعة.
2. يختار لعضويتها المؤهلين من العلماء وأساتذة الجامعات المعروفين بالبحث والتدقيق والنصح للأمة.
3. من الممكن اقتراح أن تنبثق هذه الهيئة عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، توحيداً للجهود وتوفيراً للوقت.
4. ضمن آلية معينة: تفتح هذه الهيئة جسور التعاون المستمر والمنظم، مع الجهات المعنية بأمور الحج، حتى تتحقق المقدمة الأولى التي سبق ذكرها "العلم بالواقع" ومن أبرز هذه الجهات: الجهات الأمنية، ومعهد خادم الحرمين لأبحاث الحج، وهذا المعهد على وجه الخصوص ومن خلال مشاهدة مباشرة، فيه من البحوث والدراسات الشيء العظيم والتي توافرت عليها نخبة متميزة من الباحثين الجادين، وصرفت عليها أموال طائلة، فهذه البحوث وهؤلاء الباحثين خير معين لأهل الفتوى والاجتهاد على تلمس الحكم الصحيح والمناسب لظروف المكان والزمان بحول الله. ومن غير المعقول أن تكون هذه البحوث حبيسة الأدراج وفي معزلٍ عن تنزيلها على أرض الواقع، بل إن الاستفادة منها مطلب ملح وأمر متعين لا ينبغي تجاهله أو التقليل من أهميته.
5. بعد الدراسة والتمحيص الذي يقتضيه النظر الفقهي في مثل هذه الأمور العامة والكلية تصدر الفتوى وتعلن على عموم المسلمين، وتبلغ بها بعثات الحج، حتى يحصل البيان وتقوم الحجة.
المصالح المترتبة على هذا الإقتراح:
أولاً: أنه من باب البيان الذي أمر به القادرون، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ثانياً: أن في تشكيل هذه الهيئة تضييق لدائرة الاختلاف، وجمع لكلمة الأمة، وكون الفتوى تصدر بصورةٍ جماعية ومن هيئة تمثل فقهاء الأمة فهي أدعى للقبول، وفيه قطع لتذرع البعض من أنه لا يقتنع بالفتوى الآحادية !! وكأن الحق يعرف بكثرة القائلين!! وإنما يعرف الحق بعرضه على الكتاب والسنة، ولكن صدور الفتوى العامة من هيئة يشارك فيها قدر كبير من المتخصصين أدعى للقبول وأقوى في الحجة والله
أعلم.
ثالثاً: أن تخصيص هذه الهيئة بمسائل الحج والمناسك، يعطي المشاركين قدراً أكبر من التركيز والبحث والتأمل، والسماع من أهل الخبرة والاختصاص في أمور الحج. وكما تنشئ الدولة مشكورة لجانا وهيئات مستقلة تتخصص في أمور معينة، فإن أحكام المناسك هي قطب الرحى الذي تدور حوله كل هذه الجهود.
وإن هناك العديد من المسائل الفقهية ما زالت معلقة، أو يفتي فيها بصورة فردية، والناس بحاجةٍ ماسة لبيان القول الصحيح فيها.
رابعاً: ضبط الفتوى من الأمور المهمة، والفقه الرخصة من ثقة، فإعمال المقاصد والنظر في المصلحة أو الضرورة أو رفع الحرج كل ذلك قواعد شرعية علمية دقيقة لا يحسنها كل أحد وليست من السطحية بالقدر التي يظنه البعض، ومن تعلم عرف! وإني مع كثرة ما أسمع من الحديث حول هذه القواعد ووجوب الفتوى من خلالها أصبحت أخشى أن يأتي على الناس يوم يحجون فيه وقد إندثرت بينهم سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وكأنه لم يقل لأمته في كل زمان" لتأخذوا مناسككم" (سبق تخريجه)!! وأخشى أن يأتي يوم يتجاوز فيه النقاش السنن والواجبات إلى الأركان!
لذلك فإن الفقهاء لابد أن يتدخلوا ويجتمعوا ويبينوا للناس، ولا يكفي موقف النقد والحوقلة والاستغراب! فهي لا تحل إشكالاً ولا تنفع سائلاً يريد أن يكون حجه مبروراً لأنه يريد وعد الله: جنة عرضها السماوات والأرض!!
ختاماً أقول والله المعين-: إن الله - تعالى - أمر عباده بالحج، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حج في مائة ألف، وقال: "لتأخذوا مناسككم" وهو أمر والأمر عند الجمهور يقتضي الوجوب إلا بقرينةٍ تصرفه، وفي رأيي المتواضع- أن مسائل الحج تدور حول هذا الأصل، وقد اختلف الأصوليون قديماً في مسألة "البيان بالفعل المجرد عن القرينة" على ما ذا يحمل على الأمر أو غيره؟ كذلك القياس في الرخص الواردة في النصوص يحتاج إلى تحرير وضبط لمناط الحكم، حتى لا نرخص على الحاج ما لا يجوز الترخص فيه، أو نلزمه بما لا يلزم ثم نفتيه بإراقة الدماء!! وقد تحدث الأصوليون قديماً في آداب وشروط الفتوى ومنها: مسألة"ضمان المفتي" إذا غرم المستفتي مالاً بغير دليل أو استفراغ الوسع في الاجتهاد، هل يضمن أم لا؟ قال اللقاني المالكي في "منار أصول الفتوى"ص295(قال علماؤنا: من أفتى رجلاً فأتلف بفتواه مالاً، فإن كان مجتهداً فلا شيء عليه، وإلا فقال المازري، يضمن ما تلف بسبب فتواه..)، وإيجاب ما لم يجب على العباد كتحريم ما لم يحرم، بل قد يكون أشد! لإشغال ذمة العبد بما لم يوجبه الله عليه بغير دليلٍ بين.
فهذه دعوة لدراسة هذا الاقتراح من قبل الإخوة المختصين وطلبة العلم، لعل الله ينفع بما قلت، وما توفيقي إلا بالله، ولكن لا يظن ظان أن ما يحتاجه موسم الحج من حلول لبعض القضايا متوقف على الفتوى الشرعية فقط! فهناك أمور أخرى مساندة ومساعدة كثيرة تعنى بها جهات أخرى كثيرة، ولله الحمد فإن جهود الدولة جبارة في هذا المجال ولا ينكرها إلا جاحد أو غير منصف، ولكن هذا لا يمنع من المشورة أولاً ثم إعطاء كل رأي جيد حقه من التقدير والنظر، لنصل بحول الله إلى ما يحقق أكبر قدرٍ من النجاح الذي ينعكس أثره الحميد على حجاج بيت الله ويعينهم على طاعة ربهم، وتحقيق الحج المبرور بإذن الله.
----------------------------------------
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|