|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() ترجمة الإمام الزهري عبدالله بن عبده نعمان العواضي إن موت العلماء الراسخين العاملين المخلصين يعد في الأمة مصيبةً كبيرة، ورزية عظيمة؛ لأن هؤلاء الأخيار هم نجوم المهتدين، وأنوار السائرين، وهم كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن؛ قال عبدالله بن أحمد: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي؛ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟! قال: يا بني، كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلف، أو منهما عوض؟"[1]. وكيف لا يكون مصيبة وفي الحياة إشكالات علمية كثيرة، ومسائل وأحكام عديدة، وشبهات ومعضلات متنوعة، وكلها تحتاج إلى علماء راسخين، وهم في الناس قليل، فكيف إذا ذهب من هذا القليل بعضه؟! إن الناس بخير إذا بقي فيهم العلماء الصادقون، فإذا تولوا عنهم كثُر الجهل والجهَّال، فكثر الشر وقلَّ الخير، وساد الناسَ جهَّالُها فضلُّوا وأضلوا، عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالِمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)[2]. قال عمر رضي الله عنه: "موت ألف عابد صائم النهار قائم الليل، أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه"[3]. وقال علي رضي الله عنه: "إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كف لم تعد"، وقال أيضًا: "إن مات العالم ثلم ثُلمة في الإسلام، ولا يسدها إلا خلف منه"[4]. وقال عبدالله بن مسعود: "موت العالم ثُلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار"، وقال أيضًا: "عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذَهابُ أهله"[5]. وقال سلمان الفارسي: "لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر، فإذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخر، هلك الناس"[6]. وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: "هلاك علمائهم"، وقال علي بن موسى: "أعظم الرزايا موت العلماء"[7]. وقد عبَّر بعض الشعراء عن عِظم البلية بموت العلماء، فقال أحمد بن غزال: الأرض تحيا إذا ما عاش عالِمُها ![]() متى يَمتْ عالم منها يَمُت طرفُ ![]() كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلَّ بها ![]() وإن أبى عاد في أكنافها التلفُ[8] ![]() وقال شاعر: لعمرُك ما الرَّزيَّةُ فقدُ مالٍ ![]() ولا شاةٌ تموتُ ولا بعيرُ ![]() ولكن الرَّزيَّة فقدُ حيٍّ ![]() يموت لموته بشر كثيرُ[9] ![]() وقال الدميري: إِذا مَا مَاتَ ذُو علم وتقوى ![]() فقد ثلمتْ من الْإِسْلَام ثُلمهْ ![]() وَمَوْتُ الْعَادِل الْملك المرجى ![]() حَكِيمِ الْحق منقصةٌ ووصمه ![]() وَمَوْتُ الصَّالح المَرْضِي نقص ![]() فَفِي مرآه لِلْإِسْلَامِ نسمه ![]() وَمَوْت الْفَارِس الضرغام ضعفٌ ![]() فكم شهِدت لَهُ فِي النَّصْر عزمه ![]() وَمَوْت فَتى كثيرِ الْجُود مَحْلٌ ![]() فَإِن بَقَاءَهُ خِصب ونعمه ![]() فحسبك خَمْسَةٌ تبْكي عَلَيْهِمْ ![]() وَمَوْت الْغَيْر تَخْفيف ورحمه[10] ![]() اسمه ونسبه ومولده رحمه الله: هو التابعي الجليل: محمد بن عبدالله بن شهاب بن عبدالله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، الإمام، العَلَم، حافظ زمانه، أبو بكر القرشي الحافظ الفقيه، الزهري، المدني، نزيل الشام، أحد الأئمة الأعلام، كان ثقة كثير الحديث والعلم والرواية فقيهًا جامعًا. ولد في المدينة النبوية سنة: ( 58هـ) [11]. صفته الخِلقية: كان الزهري قصيرًا، قليل اللحية، له شعرات طوال خفيف العارضين، كما كان أحمر الرأس واللحية، في حمرتها انكفاء، كأنه يجعل فيها كتمًا، وكان رجلًا أعيمش، وله جُمة [12]، [13]. تتلمُذه وطلبه للعلم رحمه الله: لقد ولد الإمام الزهري في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونشأ والعلماء فيها متوافرون ممن بقي من الصحابة، ومن التابعين الكبار، فكانت تلك البيئة محفزًا مهمًّا لترغيبه في طلب العلم، فراح ينهل من منابعه، ويستقي من موارده، وساعده على حمل العلم ما وهبه الله تعالى من قوة حافظة وذهن مُتقد؛ فقد ذكر عنه أنه حفظ القرآن في نحو من ثمانية وثمانين يومًا [14]. وكان من توفيق الله له أن الْتَقى ببعض الصحابة وسمع منهم على قلة، ومنهم: ابن عمر، وجابر بن عبدالله، والمسور بن مخرمة، وعبدالله بن جعفر رضي الله عنهم [15]. غير أن طول طلبه كان بين يدي كبار التابعين كسعيد بن المسيب، فقد جالسه ثمان سنين تمس ركبته ركبته [16]، ولقد كابد ابن شهاب المشقة من أجل نيله العلمَ، وصبر حتى بلغ ما يرجو، وكان على أدب جم مع شيوخه، صابرًا على شدة بعضهم، فقد قال الليث بن سعد للزهري: "لو وضعت من علمك عند من ترجو أن يكون خلفًا، قال: والله، ما نشر أحد العلم نشري، ولا صبر عليه صبري، ولقد كنا نجلس إلى ابن المسيب، فما يستطيع أحد منا أن يسأله عن شيء إلا أن يبتدئ الحديث، أو يأتي رجل يسأله عن شيء قد نزل به"[17]. ومن مظاهر عنايته بالعلم في أيام طلبه: أنه كان حريصًا على تدوين العلم وكتابته مع قوة حفظه كما سنوضح قريبًا، وذلك أن الكتابة للعلم يقين، وأما الحفظ فخوَّان؛ إذ قد يعروه النسيان، فلذلك كان لتدوينه ذلك أثرٌ كبير في مستقبله العلمي؛ يقول معمر عن صالح بن كيسان: "كنت أطلب العلم أنا والزهري، فقال: تعال نكتب السُّنن، قال: فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة، قال: فكتب ولم نكتب، فأنجح وضيَّعت"[18]. وكان "يدور على مشايخ الحديث ومعه ألواح يكتب عنهم فيها الحديث، ويكتب عنهم كل ما سمع منهم، حتى صار من أعلم الناس في زمانه، وقد احتاج أهل عصره إليه"[19]. ولم يكن الإمام الزهري يكتب فقط، بل كان يكتب ويحفظ، ويكثر من تَكرار المحفوظ، وذلك وسيلة من وسائل تثبيت المحفوظات، وكان له هذا الموقف مع جاريته، فقد كان يرجع من عند عروة فيقول لجارية عنده فيها لُكنة: ثنا عروة ثنا فلان، ويسرد عليها ما سمعه منه، فتقول له الجارية: والله ما أدري ما تقول، فيقول لها: اسكتي لكاعِ، فإني لا أريدك إنما أريد نفسي"[20]. حفظُه رحمه الله: كان الإمام الزهري رحمه الله آية من آيات الله في الحفظ، وموهبة نادرة في استظهار المعلومات، ولقد كان نعمة من نِعم الله على هذه الأمة في حفظ حديث رسولها صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه قد عرف بالحفظ والإتقان وحُسن سَوق النصوص؛ فلذلك كثُر طلابه والآخذون عنه، ومن قرأ ترجمته في كتب الرجال رأى العدد الكبير من الرواة الذين أخذوا عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن الزهري حافظًا للحديث ومسائل العلم حفظًا مجردًا، وإنما كان يجمع بين الحفظ والفهم وجودة الاستنباط، ومن باب التحدث بنعمة الله كان يحكي عن نفسه ما وهبه الله من قوة الحفظ، فيقول: "ما استودعت قلبي شيئًا قط فنسيته"[21]، ويقول أيضًا: "ما استعدت حديثًا قط، وما شككت في حديث إلا حديثًا واحدًا، فسألت صاحبي، فإذا هو كما حفظت"[22]. ويبدو أن قوة حفظ الزهري قد شهرت عنه حتى أثنى عليه معاصروه من الأئمة بذلك، قال عمر بن عبدالعزيز: "ما ساق الحديث أحد مثل الزهري"[23]، وقال عمرو بن دينار: "ما رأيت أحدًا أنص للحديث من الزهري"[24]. وحينما ساورت الشكوكُ بعضَهم في إتقانه وحفظه أجرى له اختبارًا حتى يتأكد من قوة حفظه التي شهر بها بين الناس، كما جرى للإمام البخاري مع أهل بغداد، فيذكر أن هشام بن عبدالملك سأل الزهري أن يكتب لبنيه شيئًا من حديثه، فأملى على كاتبه أربعمائة حديث، ثم خرج على أهل الحديث فحدَّثهم بها، ثم إن هشامًا قال للزهري: إن ذلك الكتاب ضاع، فقال: لا عليك، فأملي عليهم تلك الأحاديث، فأخرج هشام الكتاب الأول، فإذا هو لم يغادر حرفًا واحدًا، وإنما أراد هشام امتحان حفظه [25]. ولمعرفته بسر المهنة - كما يقال - أوصى من أراد الحفظ بنصيحتين: الأولى: مذاكرة المحفوظ خشية نسيانه، فقال: "إنما يذهب العلم النسيان، وترك المذاكرة"[26]. الثانية: أكل الزبيب، وشرب العسل، والبعد عن أكل التفاح، قال الذهبي: وعن إسماعيل المكي: سمعت الزهري يقول: من سره أن يحفظ الحديث، فليأكل الزبيب. قال الحاكم: لأن زبيب الحجاز حار، حلو، رقيق، فيه يبس مقطع للبلغم [27]. ولما كان الإمام الزهري بهذه الرتبة العالية من الحفظ، كلَّفه أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله بتدوين الحديث، قال الزهري: "أمرنا عمر بن عبدالعزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا"[28]؛ قال العراقي: "وأول من دوَّن الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة الثانية بأمر عمر بن عبدالعزيز، وبعث به إلى كل أرض له عليها سلطان"[29]، ولذلك يقول السيوطي في ألفيته: أَوَّلُ جامِعِ الحديثِ والأَثَرْ *** اِبْنُ شِهابٍ آمِرًا لَهُ عُمَرْ [30]
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |