|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() هدايات سورة الإسراء أحمد ذو النورين بطاقة التعريف المختصرة: اسمها: (الإسراء، بني إسرائيل، سبحان)، وهي من العتاق الأُوَل كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-[1]، وذلك ما يبين أنها سورة مكية. عدد آياتها: 111 آية. ما اختلف من الآيات عن السورة في نزولها: قال الإمام السيوطي: "استثني منها: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية لِـمَا جاء في قول ابن مسعود - رضي الله عنه- أنها نزلت بالمدينة في جواب سؤال اليهود عن الروح. واستثني منها أيضاً: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) إلى قوله: (إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً)، وقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإنْسُ وَالْجِنُّ) الآية، وقوله: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا)الآية، و (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ)"[2]. ترتيبها نزولاً: نزلت بعد القصص وقبل يونس. فضلها: قالت عائشة - رضي الله عنها -: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل"[3]؛ (أي سورة الإسراء)، وهي من المئين التي ورد في فضلها حديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- الذي قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وأُعطِيت مكان الزبور المئين))[4]. ظروف نزولها: نزلت هذه السورة في العهد المكي، حين بلغ عناد وجدال المشركين أَوْجَه لمواجهة حامل الرسالة - صلى الله عليه وسلم -، ووصلت معارضة الرسالة نفسِها حدَّ المصادمة والاقتتال. ذلك أن هذه السورة نزلت بعد سورة القصص التي جاءت فيها أخبار موسى وفرعون؛ وكيف كانت نهاية الأخير نذير شؤم لكل طاغية أثيم. فحمي فيها الجدل مع المشركين حول هذا القرآن، وصدق الوحي الذي واجههم بتسفيه عقائدهم، والتنديد بجاهليتهم، فسارعوا إلى تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتشكيك في أصل مصداقية النبوة وصحة الرسالة، وحاولوا النيل من جنابه والتنقيص من شأنه؛ فرموه بالسحر والكهانة والجنون، وطفقوا يطلبون منه الآيات والخوارق، زاعمين أن الهدف إنما هو التثبُّت من الدعوى. المقدمة: بدأت سورة الإسراء بتنزيه الله -تعالى- واختُتمَت بحمده وتعظيمه، وتضمنت الحديث عن حادثتي الإسراء والمعراج، وتناولت معجزة القرآن الخالدة بشكل مركَّز؛ حيث ورد ذكر كلمة القرآن في طيَّاتها (11) مرة، كما عرضت موقف المشركين ومؤمني أهل الكتاب من هذا القرآن، وأصَّلت كونه مصدراً للخيرية بشتى أصنافها، وكغيرها من السور المكية كان التركيز فيها كبيراً على شؤون العقيدة؛ فتكلمت عن التوحيد ومخاطر الشرك ومآل المشركين، وأدرجت جانباً من ذلك في تفصيلها للوصايا العشر الكبرى التي ورد ذكرها بنوع من الإجمال في سورة الأنعام؛ بدءاً من الآية (151) إلى الآية (153)؛ حيث وردت تلك الوصايا هنا بنوع من التفصيل؛ وقد بدأ ذلك من الآية (22) إلى الآية (39)، وأردفته بطَرَف من قصة آدم -عليه السلام- وإبليس، مشيرة إلى جانب من التكريم الإلهي للبشر، وأَتْبَعَته بأمثلة من صنوف الخروج عن ذلك التكريم، جلَّتها في المحاولات اليائسة والعروض الرخيصة التي سلكها الكفار طمعاً في إغراء محمد -صلى الله عليه وسلم- لثنيه عن تبليغ رسالة ربه والحيلولة دون صدعه بالحق، وكذلك لجوؤهم بعد القنوط من تغيير مسار الدعوة إلى ضروب التعجيز المادي السافل، وقد بينت السورة ما مُنُوا به إثر ذلك من الفشل والتخبط، كما ذكرت طرفاً من تاريخ إفساد بني صهيون وجِبِلَّتهم العنادية الماكرة كما وردت في مقدمة السورة، لتعود قبل خاتمتها بآيات إلى سرد جانب من تاريخهم، معطية خلاصة قصة موسى وفرعون، ثم ختمت بتعظيم الله - تعالى - وتنزيهه عن الشريك والولد وسائر صفات النقص ومشابهة الخلق. أهم محاور السورة: • بعد الاستهزاء بشخص النبي -صلى الله عليه وسلم- والمعارضة الواسعة لرسالته، وتعريضه لحملات مغرضة، وبعد ما لاقاه من الأذية المفرطة من قِبَل المشركين جاء الأمر الرباني بتكريمه، والقضاءُ الإلهي بتوشيحه؛ فكانت معجزتا الإسراء والمعراج في رحلة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، كان منطلقهما بيت الله الحرام في اتجاه المسجد الأقصى لتحيي الوشائج العميقة بين المسجدين المباركين. يقول ابن عاشور: "والمسجد الأقصى هو ثاني مسجد بناه إبراهيم - عليه السلام - كما ورد ذلك في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: (قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام». قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى" قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة"[5]، فهذا الخبر قد بيَّن أن المسجد الأقصى مَنْ بِنَاء إبراهيم؛ لأنه حدد بمدة هي من مدة حياة - إبراهيم -عليه السلام- وقد قرن ذكره بذكر المسجد الحرام"[6]. • في رحاب المسجد الأقصى يؤم النبي -صلى الله عليه وسلم- جموع أنبياء الله من آدم إلى عيسى -عليهم الصلاة والسلام جميعاً- إيذاناً بانتقال الرسالة الخاتمة إلى هذه الأمة الخاتمة على يد رسولها الخاتم - صلى الله عليه وسلم -: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ إلَى الْـمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الإسراء: 1]، ليتوج تكريمه - صلى الله عليه وسلم - فيعرَج به بعد ذلك إلى سدرة المنتهى. • في هذا الدين الجديد يكون التوحيد هو الأساس الذي تنبني عليه الحياة وتقوم عليه أسس التشريع وقيم الأخلاق ومبادئ التعامل: (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً)[الإسراء: 22]، وفي هذه السورة يستبين هدي القرآن العقدي في أقوم الطرق وأعدلها؛ إذ هدى إلى توحيد الله -تعالى- في ربوبيته، وهدى إلى توحيده -تعالى- في عبادته وألوهيته، وهدى إلى توحيده -تعالى- في أسمائه وصفاته، حماية لهذا الإنسان المسكين الذي كثيراً ما اجتاله الشياطين وأغوته نفسه الأمارة بالسوء وأحاطت به غفلته؛ فأعرض عن ربه وكفر به وأَمِن أخذه وعقوبته، فلا يذكره إلا ساعة الشدة، فإذا خرج من الكرب عاد إلى غفلته وطغيانه[7]، (وَإذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلاَّ إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ)[الإسراء: 76]؛ أَوَلا يذكر المسكين أن الذي أدخله الكرب وفرَّجه عنه حاضر لا يغيب؟ • تتهاوى ضلالات الجاهلية أمام سلطان الحق، وتسقط العقائد الفاسدة التي اعتنقها أهل الشرك أمام نور الهدى، وتختفي أوهام الوثنية أمام سطوع الحقيقة، وتُفتضَح أقوالٌ: مثل نسبة البنات إلى قيوم السماوات والأرض: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْـمَلائِكَةِ إنَاثًا إنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا)[الإسراء: 40]، وكالإعراض عن القرآن ومعارضته بالأكاذيب والأضاليل كذلك، وقد أقامت السورة الأدلة على تهافت تلك الدعاوى كلها، ونصبت البراهين على عقيدة التوحيد؛ بما تحويه من يقينية البعث والنشور والمعاد والجزاء، وذكرت سجود الملائكة لآدم وتعنُّت إبليس وعداوته لآدم ولذريته، ثم أعلنت دعوة الله - تعالى - للمؤمنين بالترفُّع عن غوغائية الدهماء وسفه الجاهلية، وأن يُمَرِّنوا أنفسهم على الاعتصام بالقول بالتي هي أحسن تحصناً من الوقيعة وغوائل الشيطان: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُوًّا مُّبيِنًا)[الإسراء: 53]. • من لطف الله -تعالى- بهذه الأمة المباركة أن نبيها -صلى الله عليه وسلم-: وإن أيدت رسالته ببعض الخوارق إلا أن إعجازها لم يكن معتمداً على تلك الخوارق حتى لا تكذِّب بها أمته فتهلك، كما هلك الأولون حين اعترضوا على الآيات وواجهوها بالعتو والاستكبار والتكذيب، بل جاءت هذه الرسالة المباركة بالعواصم التي يحفظ الله -تعالى- بها معتنقيها من عواقب التكذيب ومآلات الطغيان، فكان استحضار أنباء منازل الآخرة على نتائج امتحان الدنيا: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)[الإسراء: 71 - 72]. • لم يترك المشركون وسيلة إلا استخدموها لصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن مواصلة دعوته وصده عن سبيل الله -تعالى-، وفي إطار ذلك عملوا على إخراجه من مكة المكرمة من خلال ما عاملوه به من صنوف المضايقة بعد ما يئسوا من رجوعه عن دينه، وقنطوا من تخليه عن دعوته، وقد صرَّح القرآن بأنهم لو أخرجوه قسراً لحاق بهم غضب الله -تعالى- ولعاجلتهم نقمته؛ كما هي سنة الله في سلفهم من الطغاة والمعاندين، وفي غمرة ذلك يضرب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في الثبات على المحجة وإقامة الحجة تالياً كتاب ربه، داعياً إلى سبيله، مقيماً لعبادته، متوكلاً عليه لاهجاً بذكره لاظاً بدعائه: (وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا * وَقُلْ جَاءَ الْـحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[الإسراء: 80 - 81]، هكذا تكلؤه حماية الله -تعالى- بهذا القرآن من أذاهم، وتحفظه به من طيشهم؛ فلا يقرؤه إلا ولَّوا عنه هاربين مدبرين: (وَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا)[الإسراء: 45 - 46]. • في إطار تفنن المشركين في محاولاتهم تعجيزَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمر إصرارهم على مطالبته بالخوارق المادية؛ كتفجير الأنهار في أزقة مكة وتحويل جبالها إلى جنات وارفة الظلال ورمضائها إلى بساتين دانية القطوف...إلخ، تلك المطالب التي ظلوا يراوحون بينها عتواً منهم واستكباراً وإعراضاً عن الإعجاز القائم بهذا القرآن عقيدة ومنهجاً وأسلوباً ومحتوى؛ ذلك أنه لو كان طلب الحق حاديَهم، واستظهار الصحيح محركَهم لاكتفوا بمعجزة القرآن الذي تضمن كافة أنماط الإعجاز ووسائله[8]، ولاهتدوا بما علموه وعايشوه وعرفوه عن شخصه - صلى الله عليه وسلم -؛ لكنهم ظلوا يصدفون عن الحقيقة: (وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْـمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً)[الإسراء: 90 - 93]، ومن المعلوم أن كثرة الخوارق لم تكن لتوَلِّد الهداية في النفوس المتمردة على سلطان الوحي، ولم تكن لتنشئ الإيمان في القلوب المنكرة، ولم تكن لتزرع التقوى في النواصي الجاحدة؛ إذ لو كانت تثمر شيئاً من ذلك في نفوس مريضة بالاستكبار، مائرة بالشهوات والشبهات كتلك، لكان بنو إسرائيل أهدى الخلق على الإطلاق؛ فقد ابتلاهم موسى -عليه السلام- وحدَه بما لا مزيد عليه من الخوارق والآيات والنُّذُر؛ فهل آمنوا أو استجابوا أو صدقوا؟ وبالجملة فإن السورة قد تمحورت بشكل عام حول شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - و ما حباه الله - تعالى - به من التكريم والتثبيت والعصمة، وما أيده به من المعجزات، كما أفاضت في تعظيم شأن القرآن بوصفه مصدر الهداية والنجاة، وقد نوَّهت بقضايا العقيدة وبيَّنت أسس التوحيد، وأعلت شأن فضل حُسْن التعامل وقيمة مكارم الأخلاق. هدايات السورة: تحدثت الآية الأولى من هذه السورة - بعد تنزيه الله -تعالى- عن حادثة الإسراء بالمصطفى -صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ حيث كان الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل إلى عيسى -عليهم السلام- مجتمعين في موكب ابتهاجي مَهيب في تلك البقعة المباركة لاستقبال المكرَّم الخاتم صاحب الرسالة الناسخة المهيمنة؛ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد أمَّهم - صلى الله عليه وسلم - ليلتهم تلك إعلاناً من قيوم السماوات والأرض عن توليته الإمامة المطلَقة لأهل الأرض. في مستهل السورة كان التعريج على بني إسرائيل وما نشروه عبر تاريخهم من الفساد والظلم والطغيان، وهو ما أدَّى إلى زوال سلطانهم وإنزال العقوبة بهم، كما هي سُنة الله في كل طاغية ظالم، وعلى الرغم من أنهم كلما استعلَوا واستكبروا وتجبروا سلط الله عليهم من عباده من يقهرُهم ويذلُّهم ويدمرهم ويستبيح حرماتهم؛ فإن ذلك لم يثنهم عن جبلَّتهـم العنجهيـة؛ ولهـذا توعـدهم بالعقـوبة الدائمة. قال - تعالى -: (وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) [الأعراف: 167]. لقد تكررت كلمة القرآن إحدى عشرة (11) مرة في هذه السورة دون غيرها من سور القرآن الكريم؛ فجاء أول ذكر للقرآن في قوله -تعالى-: (إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[الإسراء: 9] تأكيداً على أنه يحمل مطلق الهداية لمطلق الخلق في مطلق الظروف الزمانية والمكانية؛ فهو يهدي إلى عقيدة لا لَبْس فيها ولا غموض، عقيدةٍ تخلِّص معتنقَها من كل أدران الشرك وأوهام الخرافة وأثقال الهوى والشعوذة؛ فهدايته تعني التطابق المطلق بين المظهر والمخبر، والاتساق الكامل بين الشعور والسلوك، والالتحام الكلي بين الاعتقاد والعمل، والتواؤم التامَّ بين الفطرة والنواميس الكونية، والتوازن البصير بين العبادة والاستطاعة؛ بل تعني الاستسلام في عبودية والتناسق في حياة واطمئنان في علاقة العبد بخالقه، وترابطاً رصيناً وانسجاماً واثقاً في علاقته بالمخلوقين، في إطار من الانقياد والثبات والسكينة تعظيماً للخالق جلَّ شأنه، والعدل والاستقامة والإنصاف للمخلوقين. في هذه السورة جاء النكير صارخاً على المشركين، وقدَّم البيان جلياً عن سوء عاقبتهم، وكان الحض شديداً على بر الوالدين ولزوم أداء حقوق ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل، وجاء التنفير صريحاً من الشح والتبذير ومهاوي الرذيلة والعدوان والدنس الخُلُقي؛ ليتم قطع الطريق على عادات الجاهلية: كالوأد والزنا والثارات والقتل، وكان الإعلان عالياً بوجوب رعاية أموال اليتامى والوفاء بالعهود والعناية بالمواثيق والتزام توفية المكاييل والموازين، كما تم التأكيد على ضرورة التبيُّن والثبت، ووجوب مجافاة الخيلاء والكِبْر[9]: (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً)[الإسراء: 22] إلى قوله - تعالى -: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْـحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا)[الإسراء: 39]. وبذلك جمعت السورة باقة من معالم التوحيد وأسس التعامل ومحاسن الأخلاق، تجسيداً لتكريم الله - تعالى - لبني آدم وتطهيراً له من أدران البهيمية وتحريره من أغلال الحيوانية. لقد جاءت السورة بكل المواعظ والحجج للزجر عن الشرك، وأسدت البراهين والبينات الكافية لسد طرائق الظلم ومنع الإفك، وقررت التوحيد بكافة السبل، ونصبت الأدلة على انسجامه مع منطق الفطرة، بل أكدت أنه هو الفطرة نفسُها، وبيَّنت أن المشركين لم يوفَّقوا للاهتداء إلى نور هذا التوحيد لتخفِّيهم وراء الإعـراض عن الحـق، وتشبُّثهم ببـاطل عقائدهم الشركية وترَّهاتهم الوهمية: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلاَّ نُفُورًا)[الإسراء: 41]، فكانوا يجاهدون فِطَرَهم حتى لا تركن إلى الانتفاع بالقرآن حين يلامسها، ويصـرفون عنـه قلوبَهم حتى لا يمازج بشاشتها، فتحولوا أكوازاً مجخية يعلوها الرين ويغشاها ظلام الشرك وترفض الانقياد للحق: (وَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا)[الإسراء: 45 - 6]. لم تكن معجزة هذه الأمة إلا القرآن من غير اتكاء على الخوارق التي صاحبت الرسالات ذات التوجيه المحدود زماناً ومكاناً، في حين اتسمت هذه الرسالة بالخلود والأبدية لكمالها وشموليتها وتمامها؛ ذلك أنها موجَّهة إلى كل الأعراق والأجناس في كافة الأعصر والبيئات؛ وعليه فإن حادثتي الإسراء والمعراج وما تضمنتاه من خوارق لم تكونا إلا امتحاناً وابتلاءً ليزداد الذين آمنوا ثباتاً وإيماناً ويرتاب المهزوزون والمنافقون: (وَإذْ قُلْنَا لَكَ إنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْـمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا)[الإسراء: 60]. إن استمداد العون من الله -تعالى- والتوكُّل عليه واللَّجأ إليه والمحافظةَ على عبادته وإقامة شعائر دينه في أوقاتها المحددة، كلها وسائل لاستحقاق نصر الله -تعالى- وإعلاء الحق وزهوق الباطل، فالمستعين بالله -تعالى- لا يخيب أَمَلُه، واللاجئ إليه لا تُرَد دعوته، والمتوكل عليه لا يخاف هواناً، والمحافظ على طاعته لا يناله خسران، والتالي لكتابه يتفيأ ظلال الرحمة: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُّحْمُودًا * وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا * وَقُلْ جَاءَ الْـحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا * وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِـمِينَ إلاَّ خَسَارًا)[الإسراء: 78 - 82]؛ إنها الربانية في التوجيه والسداد في الأوامر والاتساق في التشريع. إن هذا القرآن من الله - تعالى - فلا يملك الخلق أن يضاهوه، ولو تظاهر إنسهم وجنهم ما استطاعوا محاكاته؛ فالتحدي به قائم إلى قيام الساعة؛ فهو المنهج الحيوي الذي تتكامل فيه قوانين الفطرة لتتناغم معها نواميس الكون، فتقف البشرية مشدوهة أمام آفاق إعجازه، فتسد الطريق على المتعنتين فلا يجدون سوى الجنوح إلى طلب الخوارق المادية سبيلاً، ضاربين بأمثاله الرائعة وحقائقه القائمة وأساليبه المعجزة عرض الحائط في تبجح وغطرسة واستكبار[10]: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ وَالْـجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلاَّ كُفُورًا * وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا 90 أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْـمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً)[الإسراء: 88 - 93]. إن سُنة الله -تعالى- في المكذبين للرسل -عليهم الصلاة والسلام- أن تحل بهم نقمته، ويحيق بهم إهلاكه؛ حين يُعرِضون عن آيات الله -جل شأنه- ويستهزئون برسله، ويستهينون بنُذُره، ولقد كان من رحمة الله -تعالى- ولطفه بهذه الأمة أنه في الوقت الذي جعل فيه معجزات الرسل المستقدِمين خوارق آنية جعلها مع النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - آية القرآن الدائمة، التي نزلت بالحق لتربية أمم وصناعة أجيال تعيش بها ضمائرهم، وتحيا بها مشاعرهم، ويستقيم بها سلوكهم، وتتزكى بها نفوسهم، وتُساس بها أنشطتهم؛ ذلك هو القرآن منهج حياة لا يعتوره نقص ولا تنتابه زلة ولا يتقادم بطول الزمن[11]: (وَبِالْـحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْـحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً)[الإسراء: 105 - 106] يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |