|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() تيسـير النحـو العربـي بين المحـافظـة والتجـديـد (الأستاذ عباس حسن أنموذجاً) أ.د. حسـن منديـل حسن العكيـلي الخلاصـة: على الرغم من أهمية جهود الأستاذ عباس حسن في تيسير النحو العربي وتجديده، إلا أنَّ الباحثين المعاصرين المعنيين بالتيسير النحوي المعاصر، لم يعدّوه من أصحاب التيسير. حاول هذا البحث تحديد الأسس العامة التي استند اليها في محاولته، فتبين انها كانت من أوسع المحاولات شمولاً للنحو العربي، وأكثرها مقترحات وأدقها تحديدا للمشكلات التي يعاني منها النحو، وأحرصها على معالجة مشكلات النحو في ضوء التراث النحوي الخالد والاستئناس به، تنظيراً وتطبيقاً، شكلاً ومضموناً. فضلاً عن عنايته بالجانب التعليمي والتربوي. المقدمــة: الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإنّ للأستاذ عباس حسن([1]) – رحمه الله – جهودا مخلصة في النحو العربي ومحاولة تيسيره([2]) تجمع بين احترامه للقديم والنزوع الى الجديد، تذكرنا بجهود العباقرة الأفذاذ من النحاة القدامى الذين شيّدوا صرح النحو عالياً، وتركوا بصماتهم فيه، بحيث لم يعد النحو كما كان قبلهم، كالرضي والزمخشري وابن مالك وابن هشام وغيرهم، منطلقين من ايمانهم واخلاصهم للعربية لغة التنزيل العزيز. لذلك عُدَّ الاستاذ عباس حسن أقرب الى هؤلاء النحاة القدامى من النحاة المعاصرين أصحاب محاولات التيسير النحوي المعاصر . ندعوه – تبارك وتعالى – ان يجعلنا نسير في ركابهم ونقتدي بهم، وان يلهمنا صبرهم وعلمهم واخلاصهم وايمانهم العميق بلغة التنزيل الكريم، ويصطفينا كما اصطفاهم، آمين. وللأستاذ عباس حسن نتاج وافرٌ من كتب وبحوث، أهمها كتابان، يمثل الأول الجانب النظري لمحاولاته لتيسير النحو العربي ومعالجة مشكلاته التي يعاني منها، هو "اللغة والنحو بين القديم والحديث". ويمثل الثاني الجانب التطبيقي، وهو "النحو الوافي" الذي يعد من اهم المراجع النحوية الحديثة المعتمدة لدى الطلبة والمتخصصين. ويُعدّ نهضة كبيرة في التأليف النحوي الحديث، على الرغم من اعتماده على الحواشي النحوية – غالبا - لكنه زادَ عليها "العناية – أكمل العناية بلغة الكتاب، وضوحاً واشراقاً، واحكاماً، واسترسالاً، فلا تعقيد ولا غموض، ولا حشو، ولا فضول، ولا توقّف لمناقشة لفظ او ارسال اعتراض، او الإجابة عنه ولا حرص على أساليب القدامى وتعبيراتهم إلا حين تسايرنا في البيان الأوفى والجلاء الأكمل"([3]). مفهوم التيسير النحوي بين المحـافظـة والتجديـد: التيسير النحوي اتجاه ساد في الدراسات النحوية المعاصرة، ولا سيما في الأربعينات والخمسينيات من القرن الماضي، إذ ظهر نوع من التأليف يحمل هذا العنوان او ما يشبهه، وقد حشر مَنْ هبَّ ودبَّ نَفسه فيه، فكثرت الآراء والمقترحات كثرة تكاد تزعزع ثقة غير المتخصصين بالنحو العربي. فقد غالى بعضهم مغالاة تدل على عدم اطلاعه على التراث النحوي والتبحّر فيه، متناسياً فضل أجدادنا النحاة الذين اعترف بفضلهم علماء اللغة الأجانب، وأشادوا ببراعتهم قبل العلماء العرب المعاصرين. وكان عباس حسن من القلة الذين خبروا التراث وعرفوا قدره، لذلك لم يغل غلوهم ولم يتابعهم في حملتهم على التراث النحوي. لم يتفق أصحاب التيسير النحوي المعاصر على مفهوم محدد للتيسير، فقد ذهبوا مذاهب شتى، واختلفوا اختلافات كثيرة فاقت اختلاف القدامى في بعض المسائل النحوية التي عدّها بعض أصحاب التيسير عيباً وإحدى مشكلات النحو. بل لم يتّفقوا على اصطلاح واحد لهذه الحركة التي تفاقمت في العقود الأخيرة، فمنهم من اصطلح عليه بمصطلح : التيسير، ومنهم من سماه إصلاح، واحياء، وتجديد، وتبسيط، وتقريب، وتعريب وغير ذلك. لكنهم أجمعوا على انه محاولة تقريب النحو للناشئة ولغير المتخصصين من المثقفين. او محاولة إعادة النظر في القواعد النحوية القديمة وطرحها باسلوب علمي رصين في ضوء التراث، او تقديم النحو مبرءاً من العلل والتفريعات والتأويلات، سهل المتناول قريب المأخذ من أذهان المتعلمين باستخدام مناهج وطرائق تربوية مختلفة.([4]) ومنهم مَنْ فرّق بين التجديد والتيسير، فالمحافظون يقصرونه على الحذف والاختصار، والتغيرات الشكلية، واعادة ترتيب الأبواب النحوية، وتقريب ما توعّر منها دون المساس بجوهر النحو. اما المجددون فيرون ذلك لا يحل المشكلة ولا يعين على تذليل الصعوبة منه، بل هي مهمة تربوية خالصة لذا اشترطوا ان تسبقه خطوة جريئة تتوخى إحياء النحو واصلاحه او تجديده، ونفخ الروح فيه ثم تيسيره وتقريبه([5]). آما الأستاذ عباس حسن فقد وقف موقفاً وسطاً بين هذه المنازع المختلفة، فهو محافظ ومجدد في آن واحد. محافظ بالتزامه التراث النحوي وانطلاقه مما انتهى اليه النحو عند النحويين المتأخرين، ومجدد لأنه حاول ان يقدّم نحواً معاصراً خالياً من الصعوبات ومما داخله من شوائب أساءت إليه دون المساس بجوهر النحو واللغة كما فعل بعضهم ممن دعا الى حذف بعض أبواب النحو كإلغاء نظرية العامل([6])، وإلغاء الإعرابيين التقديري والمحلي، وإلغاء بابي التنازع والاشتغال([7]) وإلغاء ضمير الشأن وحذف الإعراب جملة وتفصيلاً([8]). أما هو فكان يعين على فهم هذه الأبواب وتقريبها وتوضيحها وعرضها عرضاً سهلاً ميسراً، لا يردّها او يدعو الى إلغائها، ولا يتعجل بإطلاق الاتهامات او المقترحات التي تمسّ جوهر النحو، فمن ذلك تناوله بعض الأسماء الموصولة نحو (أل، وذا، وأي) وغيرها مما تغمض على المبتدئين لأنها غير مألوفة لديهم مثل (الذي ومن وما) وغيرها. فلم يدع الى إلغائها لصعوبتها ولعسر فهمها كما يفعل بعض دعاة التيسير، وانما حاول توضيحها وتقريبها مفرّقاً بينها وبين (ال) التعريف والعهدية، و (ماذا) بكامله في الاستفهام، و (ذا) الإشارية وايّ الاستفهامية والشرطية. معتمداً كتب التراث، مفصلاً إعراب كل نوع منها، وبعد الشرح المبسوط يلّخص الموضوع تلخيصاً مجملاً مستعيناً بجداول يجمل فيها ما سبق([9]). ولا سبيل الى التيسير النحوي لدى الأستاذ عباس حسن ((الا بعد تهذيبه والقضاء على ما داخله من مشكلات رغم اختصاره بحذف الفضول وإدماج بعضه ببعضه الآخر، واختصاره للشادين ثم عرضه عرضاً شائقاً جذاباً بإحدى الطرائق المستحدثة الناجحة))([10]). ورأى ان الذي يقوم بهذا العبء "أولئك الفدائيون ورثة الفدائيين السابقين الذين وهبوا أنفسهم لخدمة العلوم العربية وللسهر عليها، مصابيح العرفان، وهم كثير لا يخلو عصر منهم وفي مقدمتهم علماء الجامعات"([11]) . وكذلك القى هذه المهمة على عاتق المجامع اللغوية والعلمية العربية وسَدَنة اللغة، وبذلك يضيفون الى فضل القدامى فضلاً جديداً لا يجحد([12]). مشـكلات النحو وأسس علاجـها: لقد دَرَجَ المعاصرون من أصحاب التيسير النحوي، ان يقدموا بحوثهم ومقترحاتهم بمقدمات تنال من النحو والنحاة القدامى، ولا سيما المتأخرون منهم، فقد ذكروا عدداً من الملاحظات وسموها بـ :عيوب النحو وهي غالباً ما تكون تُهماً الصقوها بالنحو وهو برئ منها، لقصور بعضهم في إدراك أهمية تراثنا النحوي العظيم. أما الأستاذ عباس حسن فكان أكثرهم إنصافا واحتراماً للتراث النحوي وأشدهم إعجابا به، لذا بدأ جهوده في تيسير النحو بالثناء على النحو العربي والإشادة بالنحاة العباقرة الذين وضعوا قواعده ورفعوا بناءه شامخاً في إخلاص نادر وإيمان عميق وصبر لا ينفذ وحبٍّ للعرب والعربية قلّ نظيره. بعد ذلك ذكر بعض الهنات، ولم يسمها عيوباً وانما سماها شوائب داخلت النحو في أثناء مسيرته الطويلة، ذكرها مقرونة بذكر أسبابها ومحاولة علاجها، قال: "ليس من شك انّ التراث النحوي والصرفي الذي تركه أسلافنا نفيس غاية النفاسة، وان الجهد الناجح الذي بذلوه فيهما خلال الأزمان المتعاقبة، جهد لم يُهيأ لكثير من العلوم المختلفة في عصورها القديمة والحديثة… بيد ان النحو كبقية العلوم، تنشأ ضعيفة، ثم تأخذ طريقها الى النمو والقوة والاستكمال بخطى وئيدة او سريعة على حسب ما يحيط بها من صروف وشؤون. ثم يتناولها الزمان بأحداثه، فيدفعها الى التقدم والنمو والتشكل بما يلائم البيئة، فتظلّ الحاجة اليها شديدة، والرغبة فيها قوية، وقد يشتط في مقاومتها فيرمى بها الى الوراء فتصبح في عداد المهملات او تكاد … فمن هذا المبدأ ألمّ الوهن والضعف على النحو وتمالأت عليه الأحداث، فاظهرت من عيبه ما كان مستوراً، وأثقلت من حمله ما كان خفياً، وزاحمته العلوم العصرية فقهرته وخلّفته وراءها مهجوراً "(1). هكذا نظر الى مشكلة النحو، وبيّن أبعادها، وأسبابها، واعتذر عنها، ثم دعا الى حلّها بـ " ان تمتد اليه الأيدي البارّة القوية متمالئة في تخليصه مما شابهه متعاونة على إنقاذه مما أصابه"([13]) وقد فعل هذا بكتابه (النحو الوافي). لقد حمّل الأستاذ عباس حسن مسؤولية نفور الطلبة من النحو المعاصرين، الذين رموا بالنحو وراءهم، فالعيب فيهم لا في القدامى لانهم "أهملوه ولم يتناولوه تناولاً يبعث الحياة في قديمه و يجمع ما تفرّق منه، واصلاح وتيسير يحببه الى النفوس ويبعد الجفاف عنه" وليتهم اهتموا به كما بذلوا الجهد في غيره لكانت الإفادة منه أعم([14]). قال في آخر كتابه (اللغة والنحو) متألماً، بعد عرضه لمشكلات النحو: "واحسرتاه!! يعجز العاجز عن الرسم والتصوير والموسيقى، فيجاهر بإلغاء قيودها([15])، ويعجز العييّ عن بلاغة القول وفصاحة البيان فينادي بإلغاء (علوم البلاغة) ويصفها بأنها عبء ثقيل ، وتضييق لا خير فيه ويلتوي لسان الجاهل بالكلام الملحون، والضبط الخاطئ والأسلوب المشوّه فيجأر بالشكوى من النحو، وانه تعجيز وإرهاق لا طائل وراءه، ولا ضير في إهماله وإلغائه. وهكذا نجد لكل علم او فن عدواً من جهاله، العاجزين عن تحصيله مع تلهفهم عليه، المقصرين في ميدانه، لا يرون لدائهم بُرءاً إلا في إلغاءه ما عجزوا عنه وتخلفوا فيه. ولو استجاب القدر لصُراخهم لانقضى عهد العلم والفن، وتقوضّت دعائم الحضارة، واختفت مظاهر الإنسانية… وليس هذا من إسراف القول، ولا من المبالغة في شئ وإلا فكيف تتحدد العلوم والفنون وتعدد وتتميز، وبأي شيء تتفاوت أقدار الناس ومنازلهم تفاوتاً لا مناص منه في هذه الحياة"([16]). وبهذا أسكت الضجيج الذي كان يفتعله بعض المغرضين ضد العربية آنذاك بثقة عالية بعلمه بالعربية وبحبه لها. ولكنّ هذا لا يعني انه كان ضد التجديد بل انّ رؤيته للتجديد كانت تختلف عن رؤية هؤلاء الذين وصفهم بالثرثارين، قال: "التجديد الحميد مرغوب فيه في كل أمر، بل مطلوب ممن يحسنه ويقدر عليه بغير عبث و لا إفساد، فلولا التجديد النافع لوقفت مظاهر الحضارة عند حدٍّ لا تتجاوزه… غير ان هذا التجديد لا يكون إلا على يد رجل قادر مكتمل"([17]). أسـس التيسـير لديـه: حدّد الأستاذ عباس حسن مشكلات او شوائب – كما سمّاها – يعاني منها النحو العربي كانت وراء تذمر التلاميذ من النحو، وحاول علاجها. وفيما يأتي اهم الأسس التي استند اليها في معالجة هذه المشكلات: - انتخـاب الآراء النحـويـة الميـّسرة: يرى الأستاذ عباس حسن ان تعدد الآراء النحوية في المسألة الواحدة واختلاف الأحكام فيه، في مقدمة المشكلات التي يعاني منها النحو، فقد تصل الآراء في المسألة الواحدة الى عشرة او تزيد. والذي يطّلع عليها يهوله ما يرى من تشعّب الآراء وكثرتها وتنافرها بحيث تسبب البلبلة والفوضى وتُخرج النحو عن هدفه الذي ينبغي ان يكون عليه، نحو اختلافهم في إعراب الأسماء الستة([18]) ، واختلافهم في إعراب الحال التي تسدّ مسدّ الخبر في مثل (قراءتي النشيد مكتوباً، وأكلي السويق ملتوتاً) موضع جدل عنيف يثير الدهش والأسف لعدم جدواه، مما حدا بالسيوطي ان يفرد لها تأليفاً مستقلاً فزاد الأمر دهشاً وأسفاً([19]). ان سبب ذلك – في نظر الأستاذ عباس حسن – اعتماد النحاة الأوائل على لغات ستّ عالية في وسط الجزيرة، وتركهم اللهجات الأخرى، وهذا ينافي طبيعة اللغة، لذا ندّت كلمات أصيلة وأساليب كثيرة صحيحة عمّا جمعه اللغويون وفاتهم ذخر لغوي وافر. لذلك عدّ اللغويين أصحاب الإساءة الأولى للنحو والنحاة. وعندما عارضت قواعدهم أمثلة مسموعة لجأوا الى تأويلها او وصفها بأنها شاذة او نادرة او قليلة، او ان صاحبها مخطئ([20]). والذي أراه انّ موقف الأستاذ عباس حسن من هذه المشكلة او الشائبة لم يكن واضحاً لسببين: الأول انّ محاولته في جلّها قامت على هذا الخلاف وانتخاب الأنسب والأيسر والأفضل منه بعد دراسته واستخراج الدُرر من الآراء العبقرية القديمة لتيسير وتجديد النحو واحيائه، مما يدل على ان الخلاف ليس عبئاً بل هو دليل حيوية النحو واللغة وطواعيتهما وعدم جمودهما، وانه من محاسنهما ولا سيما ان طبيعة لغتنا العربية المأخوذة من لهجات متعددة متقاربة تتطلب نحواً مرناً هكذا لا قواعد جامدة يحفظها التلميذ حفظاً وهذا ينافي طبيعة اللغة الحيّة الواسعة التي انزل الله تبارك وتعالى كتابه الكريم بها، فأكرم بها من لغة خصّها الله من دون سائر اللغات، ولا سيما ان البحوث اللّغوية الحديثة تتجه الى إثبات ان اللغة العربية هي اللغة الأمّ لجميع اللغات. والثاني ان الأستاذ عباس ومن خلال دراستي لاثاره وجدته كالبصريين يتشدد أحيانا فيأخذ بالكثير الشائع وينبذ الشاذ والنادر كما سنرى – وأحيانا يدعو ألاّ نضعّف لغةً وألا نردّ مسموعاً وان انفرد به عربي واحد، ولم يجز لنا الرفض او التجريح وهو رأي ابن جني ابي عمرو بن العلاء والشافعي وابن فارس وابي حيان وغيرهم من علماء العربية. ومهما يكن من امر فانّ عباس حسن رأى علاج ذلك يأخذ شكلين: 1- التوسع في السماع – كما سنرى – والتسامح في الاستعمال اللغوي، وفتح باب الاجتهاد اللغوي، والبعد عن الإفراط والتفريط والميل الى التيسير في غير إسراف ولا جمود وان نحرم التأويل في كتاب الله بغير حاجة ملّحة تدعو اليه. 2- الاستفادة من الخلاف النحوي([21]) : كان هذا من اهم الأسس التي استند اليها الأستاذ عباس حسن في جهوده في التيسير النحوي. والأمثلة على ذلك كثيرة، إذ لم يعرض لمسألة نحوية إلا وقد انتخب أيسر الآراء وأنسبها وأقربها الى عصرنا. "وكان هذا المنزع – وما زال – ديدن لجنتي الأصول والألفاظ والأساليب في مجمع اللغة العربية المصري [ الذي كان هو احد أعضائها] فيما اتخذتا من قرارات، وهو ان يبحث دارس النحو في إمكان تخريج كلمة او استعمالها على وجه من الوجوه النحوية بحيث لا يخالف مخالفة صريحة الأصول المتعارفة لقواعد العربية"([22]). ويرى بعضهم ذلك – أعني الاستفادة من الخلاف النحوي – يراه سنداً قوياً لما ننشده من مرونة تساعد على التيسير والتوسع والتجديد لما نتطلع اليه من تيسير يعين على فك الأغلال عن كثير من الكلمات والعبارات([23]). لقد سار الأستاذ عباس حسن على هذا المنهج في كتابه (النحو الوافي)، إذ لا تكاد تخلو صفحة من كتابه الكبير من أمثلة على ذلك، ووضع لانتخابه من الآراء النحوية أسساً وأصولاً، لا يسعها هذا البحث الصغير وسأفرد لها بحثاً مستقلاً يجمعها ويدرسها، إنشاء الله. - عنايته بأصـول النحـو: يبدو ان اهتمام عباس حسن بأصول النحو كان سبب نجاحه نحوياً كبيراً في عصرنا، وفي شهرة كتابه (النحو الوافي) شهرة واسعة، إذ جاءت أهميته من انطلاق صاحبه من فهم عميق لأصول النحو الذي هو القاعدة او الأساس الذي استند اليه النحاة، والأداة التي استخدموها في وضع قواعد النحو. نظر فيها نظرات دقيقة فاحصة، ودرسها دراسة واعية حديثة، ودعا الى إعادة النظر فيها وتوسيعها. وهو موضوع واسع سأفرده ببحث خاص إنشاء الله تعالى وسأتناول هنا أمرين مهميّن أولاهما عباس حسن اهتماماً كبيراً. الأول – عصور الاحتجاج والتوثيق: أخذ الأستاذ عباس حسن على اللغويين الأوائل انهم لم يقفوا من هذه المشكلة موقفاً حاسماً، وتابعهم النحاة، لذلك عدّ اللغويين أصحاب الإساءة الأولى للنحو والنحاة، وهي التفاتة لم ينتبه اليها السابقون, ولا سيما انها لم تُعالج حتى يومنا هذا. لقد اتفق القدامى على ان يكون الاستشهاد او الكلام الذي يحتج به هو الكلام العربي الأصيل الناشئ بالبادية ولم تفسده مخالطة الحضر والأعاجم وإلا فقد أصالته فيسمى حينئذٍ: (المولّد) او (المحْدث) ولا يأخذ به أي انهم حددوا حدّاً زمانياً ومكانياً للسماع، ومع ذلك برزت مشكلة خطيرة هي ، (غموض المقياس الذي يرجع اليه في الحكم على فرد بأنه فصيح اللغة، وعلى اهل مدينته انهم أصحاء الكلام)، اختلف القدامى في ذلك وهذا الخلاف له أثاره في مادة اللغة ونحوها وسائر شؤونها إذ يختلفون في القواعد والضوابط لأنها مستنبطة من مادة اختلفوا بها، ونجد آثار ذلك حتى يومنا هذا إذ يخطِّئ كاتبٌ كاتباً آخر، ثم يجد الآخر مخرجاً ويوفق للدفاع عن نفسه حيث يجد لغة وآراء تؤيده فيكرّ على صاحبه هاجماً يقاومه، وبذلك تضيع الحقيقة([24]). وكان أثر ذلك سيئاً ايضاً عند القدامى "إذ يأتي لغوي فيأخذ مادتها من إعرابي دون آخر ويرضى آخر عن الاثنين معاً، وقد يخالف زميله فيما رضى عنه وفيما استنكره من فردٍ او من قبيلة او عصر، وهكذا، فتصدر الأحكام متناقضة متضاربة، وقد يخطّئ بعضهم بعضاً، ويخطئون الكلام العربي الفصيح كإخراج الفرزدق وجرير من الفصحاء الثقات الذين يستشهد بكلامهم في اللغة والنحو بسبب التحديد الزمني وكذلك الكميت والطرمّاح ثم بشار والمتنبي والمعرّي"([25]). يرى الأستاذ عباس انّ النحاة الأوائل قد بنوا قواعدهم على ما جمعه اللغويون مختلطاً او ناقصاً فنشأ التناقض والاضطراب، وأدى الى خلاف واسع وآراء متعددة، لأنهم وجدوا أنفسهم أمام شواهد فصيحة كثيرة تخالف قواعدهم فلجئوا الى التأويل المصنوع المتكلف وقلما نجد قاعدة سلمت من الإساءة والشواذ. وكان عليهم – كما يرى عباس حسن- ان يلجئوا لأحد طريقين: الأول: وضع نحوٍ خاص لكل قبيلة يساير لهجتها فيجيء نحواً صافياً لا بلبلة فيه ولا اضطراب. الثاني: اختيار مثل لغوي بلاغي اسمى ليكون وحده المرجح الذي نستنبط منه القواعد النحوية الموحدة وبعدها يجب على كل الناطقين بالعربية اتباع أحكامه. والأفضل اختيار لغة القرآن الكريم ([26])، كما سنرى. اما الحل الأفضل فهو رأي المجمع اللغوي المصري الذي هو احد أعضائه، لذلك دعا اليه ودافع عنه وردّ المعارضين له ورآه اقرب الآراء الى الصواب واكملها نفعاً وخلاصته "ان العرب الذين يوثق بعربيتهم ويستشهد بكلامهم، هم عرب الأمصار الى نهاية القرن الثاني الهجري واهل البدو من الجزيرة الى آخر القرن الرابع الهجري"([27]). لقد اخذ عباس حسن بهذا الرأي وطبقه في كتابه لذا نراه يستشهد بشعر المولدين كالمتنبي وغيره، بل ذهب الى ابعد من ذلك تسامحاً فاستشهد بشعر المعاصرين كشوقي وحافظ وغيرهما. لكننا نجده يتشدد احياناً باختيار الأكثر الشائع. الثاني: شـواهـده لعباس حسن اهتمام كبير بالشواهد والأمثلة النحوية، فقد تميّز كتابه (النحو الوافي) بشواهد جديدة مميزة هي أقرب الى طبيعة عصرنا الحالي من طبيعة العصور القديمة التي وضعت لها الشواهد النحوية القديمة. لقد جاء الأستاذ عباس حسن بأمثلة جديدة لم يسبقه اليها احد، ولا يخفى أثر ذلك في تيسير النحو، فقد قاس امثلة معاصرة على الشواهد القديمة، وألبسها ثوباً معاصراً، فضلاً عن استشهاده بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، والنثر والشعر القديمين([28]) والمعاصرين، أمثلة معاصرة تعبّر عن حياة التلاميذ والوسط الذي يعيشون فيه، تفيض بالمُثُل العليا والحِكَم وتدعوا الى الأخلاق النبيلة تنال إعجاب التلاميذ مما تساعدهم على فهم المادة وتحببهم إياها وتعينهم على فهم معلومات جديدة نافعة معاصرة يدرسونها مرتبطة بالقواعد النحوية، وهي أنجح وسيلة في جعل العربية الفصحى تساير عصرنا بما فيه من تطور جديد. وأبعد كثيراً من الشواهد النحوية القديمة التي لا تمثل حياتنا المعاصرة. فهو بذلك يفرّق بين المثال المعاصر وبين الشاهد القديم. جاء في دستور كتابه الوافي: "اختيار الأمثلة ناصعة، بارعة في أداء مهمتها، مع توضيح القاعدة، وكشف غامضها في سهولة ويسر، لهذا تركت كثيراً من الشواهد القديمة المرددّة بين اغلب المراجع النحوية، لأنها مليئة بالألفاظ اللغوية الصعبة والمعاني البعيدة التي تتطلب اليوم من المتعلم عناءً وجهوداً لا يطيقها، ولا يتسع وقته للسعي وراءها. فان خلت من هذا العيب ومن الابتذال، وتجملت بالوضوح والطرافة فقد نستبقيها"([29]). على الرغم من علوّها في الفصاحة والأداء والجمال، وروعة الاسلوب والأدب الرفيع، لكنها اختيرت في عصور تُباين عصرنا ولدواعٍ تخالف ما نحن فيه، إذ كان طالب العلم حافظاً للقرآن الكريم والحديث الشريف والنصوص الأدبية. أخذ على المعلمين الذين يتخذون تلك الشواهد مجالاً لما يسمونه بـ: (التطبيق النحوي)، فقال: "وليس هذا من وكدي (قصدي) ولا وكد من آحتشد للمهمة الكبرى، مهمة (النحو الأصيل) وما يتصل به التي تتلخص في اعداد مادته إعداداً وافياً شاملاً وعرضها عرضاً حديثاً شائقاً وكتابتها كتابة مشرقة بهية، وقد فات المعلمين حاجة ذلك الى طويل الوقت وكبير الجهد في تيسير صعوباتها اللغوية والمعنوية، ويرى ان مناقشة نصّ أدبي كامل او صفحة من كتاب مستقيم الأسلوب او مقال أدبي لهي اجدى في التطبيق وأوسع إفادة في النواحي اللغوية المتعددة من أكثر تلك الشواهد المبتورة المعقدة، فضلاً عن انها تمثل لهجات عربية متعارضة تقوم دليلاً على لغات قديمة متباينة وتساق لتأييد أراء نحوية متناقضة، فهي معوان على البلبلة اللغوية ووسيلة للحيرة والشك في استخلاص القواعد وباب للفوضى في التعبير"([30]) . ومع ذلك فقد استخدم بعض الشواهد الغريبة او الشاذة لا لمحاكاتها والأخذ بها ولكن ليتنبّه المتخصصون فيستطيعوا فهم النصوص القديمة الواردة بها حين تصادفهم ولا تصيبهم حيرة او توقف في فهمها(2). وأخذ على النحاة القدامى استخدامهم المبتذل لـ: (زيد وعمرو وبكر) وسخر من كثرة ترديدهم لهؤلاء في امثالهم "حتى صار التمثيل بهذه الأسماء بغيضاً اليوم، لابتذاله – بحق اهل البلاغة والمقدرة الفنية من المعاصرين([31]). لذلك أعرض عن الشواهد القديمة بشواهد جديدة معبرة عن الحياة المعاصرة، فيها من المثل العليا والأخلاق الحميدة الكثير، والمعلومات المعاصرة النافعة ليس فيها زيد ولا عمر ولا بكر نحو ((إذا ضحكت سنّ اليتيم انهالت نعمة الله على أوليائه))([32]) في إلحاق تاء التأنيث لفعل الدلالة على ان فاعله مؤنث. و ((أنفق من المال الحلال))([33]) في تحويل من بالفتح لالتقاء الساكنين. وقد تطول أمثلته ففي (رأى) بمعنى ظنّ: ((يختلف الأطباء في امر القهوة فواحد يراها ضارّة…))([34])، وفي المضاف في الإضافة المحضة اسم جامد: (( لو استعان الناس كعون النمل ما وُجد بينهم شقيّ ولا محروم))([35]). وفي المضاف في الإضافة المحضة المشتقة الشبيهة بالجوامد التي لا تعمل ولا تدل على زمن: ((الفلاح كالنملة الدؤوب النافعة، يغادر مسكنه قبل الشروق، قاصداً مزرعته، يعمل فيها ويكدّ، فلا تراه إلا على محراثه، او منحنيا على فأسه، او حاصداً بمنجله، أو مُذرياً بمذارتهِ، او متعهدا زروعه، ويظل على هذا الحال حتى المغرب فيرجع من حيث آتى، دون ان يُعّرِج على مَلْعَب، او ملهى او مقهى، يسهر فيه، ثم يقضي الليل هادئاً نائماً حتى يوافيه الصباح الجديد))([36]). وغير ذلك من الأمثلة التي تربي النفوس وتعلمها الأخلاق الحميدة والهمم العليا واصلاح النفوس طالما تستوقف القارئ متأملاً فيها المعاني السامية ليتعلم منها، وتنمي شعور المتعلمين بقوميتهم وحبّهم لأوطانهم وكل هذا مرتبط بالنحو. وبهذا يربط بين النحو والأدب والمعاني السامية والحياة المعاصرة وهذا لعمري التيسير الحق بعينه. فمن شواهده في الإضافة المحضة: ((استجب لطالب الحقّ اليوم قبل ان ينتزعه بعامل القوة غداً))([37])، و ((إذا شاهدت غلاماً مشرّد النظرات موزّع الفِكرِ، مسلوب الهدوء فاعلم انه بائس يستحق العطف، او جانٍ يستحق الرزاية))([38]). و(( عظيم القوم مَنْ يهوى عظيمات الأمور)). و ((مَنْ وثِق بأعوان السوء لقي منهم شرّ المصائب)) و (0مَنْ التمَسَ تقويم ما لا يستقيم كان عابثاً وإخفاقه تحققا)) و ((نعم العربي، يُسرِع للنجدة حين يدعوه الداعي))([39]). ويبدو ان هذه الأمثلة التعليمية النحوية من بنات أفكاره، لم يسبقه اليها احد. يدلّنا هذا على الجهد الذي يبذله عباس حسن وعلى مقدرته على الابتكار وقياس أمثلة جديدة على الأمثلة القديمة بحيث تبقى القواعد لتساير لغتنا وحياتنا المعاصرة. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |