علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         طريقة عمل كريمة الشوكولاتة المنزلية.. طعم غني بلمسة طبيعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          5 أسباب لظهور فقاعات في طلاء الحائط ونصائح لتجنبها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          وصفات طبيعية لتوريد الشفاه وترطيبها في المنزل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          5 خطوات لحماية شعرك في المصيف من المياه المالحة.. استمتعي بأمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          طريقة عمل مسقعة بالبشاميل والدجاج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          5 أكلات غنية بالكولاجين الطبيعى لنضارة البشرة وترطيبها من الداخل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          وصفات طبيعية لتهدئة الحبوب الملتهبة في الحر.. بدون مواد كيميائية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          5 تقنيات وحيل للحصول على مكياج احترافى على الطريقة الكورية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          مشكلة إجازة الصيف.. 5 خطوات تساعد أولادك يناموا بدري ويقللوا السهر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          طريقة عمل مشروب الخيار والنعناع للترطيب عشان يهون موجة الحر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-04-2019, 12:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(1-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس


حمدًا لله على آلائه، والشكر له على نعمائه، وصلاة وسلامًا تامين دائبين على خاتم أنبيائه وأفضل أصفيائه وسيد أوليائه نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه وخلفائه وحزبه وجنده وحلفائه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم لقائه.

أما بعد:
فإن أجل المنن والآلاء وأسبغ الخيرات والنعماء ما هدى الله إليه عباده من هذا الدين القويم والشريعة الغراء، التي امتازت كمالاً وشمولاً ووسعت الأعصار والأمصار، تأصيلاً وتفصيلا وانتظمت مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد، وزخرت بالعلوم النافعة والمعارف الجامعة في قضايا الدين والدنيا معًا، وحوت نصوصًا ومقاصدًا، وحكمًا وقواعدًا، ملأت البسيطة عدلاً وحكمة وتيسيرًا ورحمة، واستوعبت قضايا الاجتهاد والنوازل، فأبانت أحكامها، وأوضحت حلالها وحرامها عبر ميزان دقيق، ومعيار وثيق، وأصول محكمة، سار عليها علماء الإسلام، ومفتوا الأنام، مما كان له الأثر البالغ في تحقيق الخير للأفراد والمجتمعات، وإصابة الحق في الاجتهادات والمستجدات.
وبين يديك ـ أخي القارئ الكريم ـ بحث ينتظم هذه المعاني العظيمة، عبر ثلاث قضايا رئيسة هي:
أولاً: علم أصول الفقه. ثانيها: الفتوى. ثالثها: العلاقة بينهما والأثر الإيجابي من تلازمهما، في منظومة علمية متألقة، ونسيج معرفي متميز، وعقد وضاء مزدان بثلاث درر متلألأة، لا تستقل إحداها عن الأخرى، ولا يقل بعضها إشراقًا وجمالاً عن نظيره، كما لا غنى للأمة عنها كلها.
أما أولها: فهو عقد واسطة علوم الشريعة، وقطب رحى الفقه في الدين به يُعرف الحلال والحرام ، ويتبين الخاص والعام، ويعرف المطلق والمقيد، والمجمل والمبين ونحوها، ذلكم هو علم أصول الفقه.
ولا غرو فإنَّه من أشرف العلوم قدراً وأعظمها أجراً، وأتمِّها عائدة، وأعمِّها فائدة، وأعلاها مرتبة، وأسناها منقبة، يملأ العيون نوراً، والقلوب سروراً، والصدور انشراحاً، ويفيد الأمور اتساعاً وانفتاحاً، هذا لأن ما بالخاص والعام من الاستقرار على نهج الانتظام، والاستمرار على سنن الاجتماع والالتئام، إنما هو بمعرفة الحلال من الحرام، والتمييز بين الجائز والفاسد في وجوه الأحكام، بحوره زاخرة، ورياضه ناضرة، ونجومه زاهرة، وأصوله ثابتة، وفروعه نابتة، لا يفنى بكثرة الإنفاق كن*زه، ولا يُبلى على طول الزمان عزّه.
أهله قِوام الدَّين وقُوَّامه، وبهم ائتلافه وانتظامه، وهم المرجع في التدريس والفتوى، ومحل الصدر عند النوازل والبلوى.
وإذا كان هذا الوصف لواسطة عقد علوم الشريعة فقهاً وأصولاً فإن علم أصول الفقه يحظى بالقسط الأكبر والنصيب الأوفر وما ذاك إلاّ لأنه يمكّن المجتهدين من النظر في أصول الشريعة ومقاصدها، وقواعد الدين ونصوصه، واستنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية بإتقان وبصيرة، فهو مأوى الأئمة، وملجأ المجتهدين، ومورد المفتين عند تحقيق المسائل وتحرير الأقوال، وتقرير الأدلة والتأصيل والتقعيد للحكم في النوازل، وما يجدُّ في حياة المسلمين، مسائله مبنية على أسس متينة، وقواعد راسخة تربط بين المنقول والمعقول.
ومن ذا الذي يعرف القواعد التي تضبط وصول المرء إلى معرفة حكم الشرع في كل فعل وترك؛ ومن الذي يعرف ما في الكتاب والسنة من مجمل ومبين، وعام وخاص، ومطلق ومقيد، ومحكم ومتشابه، ومنطوق ومفهوم، وناسخ ومنسوخ، وأمر ونهي، وقواعد ذلك؟
فمن الذي يدرأ التعارض بين نصوص الكتاب والسنة، ويكشف ذلك، ويرجح الأصوب، ويعلم الأحكام التكليفية والوضعية، وتفصيلاتها، والأدلة ومسائلها، والدلالات وغوامضها، وأحكام الاجتهاد، والنظر والاستنباط، ومقاصد الشريعة، والحكم على ما يجدُّ للناس من أقضية؟ غير الأصولي يعرف مصادر الأمور ومواردها، ويضع كل شيء في محله، عبر ميزان دقيق، يضبط المجتهد، ويعصمه ـ بتوفيق الله ـ من الخطأ في الاستنباط، والزلل في الاستدلال، إذ به يتبيَّن الصحيح وغيره من الاستنباطات الشرعية، والاستدلالات النقلية والعقلية .
تلك شذرة عن القضية الأولى في هذا البحث المهم.
ثانيها: مقام التوقيع عن رب العالمين الفتوى:
فمما لا شك فيه أن لعلماء الشريعة القدح المعلّى من المنازل، والدور المجلّى في الأمة لاسيما في المستجدات والنوازل، خاصّة إذا بلغ العالم مرتبة الفتوى، لما للفتوى من مكانة عظمى ومنزلة كبرى في هذا الدِّين، ويكفي أنّ مقام المفتين هو التوقيع عن ربِّ العالمين، وفي ذلك من التشريف والتكليف ما لا يخفى، يقول الإمام العلامة ابن قيم الجوزية: «إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحلِّ الذي لاينكر فضله ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيّات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات»[1].
ومما يدل على عظم مكانتها أن الله سبحانه وتعالى تولاها بنفسه، قال- عزّ من قائل- :
{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ } (النساء:176)، كما كان الرسول المصطفى- صلى الله عليه وسلم- يتولى هذا المنصب في حياته، وكان ذلك من مقتضى رسالته - عليه الصلاة والسلام[2]، ثم تولّى زمام ذلك بعده صحابته الأخيار؛ فقد كان جملة منهم ممن توارد على هذا المنصب العظيم لاسيما الخلفاء الأربعة وغيرهم ممن اشتهر بالعلم، وقد عدّ العلامة ابن القيم[3] منهم عدداً كبيراً، رضي الله عنهم وأرضاهم[4]، ومع اهتمام السلف بالفتوى فقد كانوا رضي الله عنهم ورحمهم يتهيبونها، ويودّون أن لو كفوا مؤونتها، كما قال عبدالرحمن بن أبي ليلى[5]: «أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ما منهم من محدث إلاّ ودّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلاّ ودّ أن أخاه كفاه الفتوى»[6]، ولعل هذا التورع المحمود المتمشي مع الضوابط الشرعية للفتوى، هو الذي جعل الفتوى الصادرة عن علماء الشريعة عبر عصور الإسلام الزاهرة متميزة بمزايا عديدة، تظهر بجلاء كمال هذه الشريعة وشمولها ومحاسنها، وصلاحيتها لكل الأزمنة والأمكنة.

وأما ثالث القضايا وواسطة عقد البحث فهو: الأثر الإيجابي الذي يترتب على العلاقة الحميمة بين علم الأصول ومقام الفتوى:
فمما لاشك فيه أن المفتي موقّعٌ عن رب العالمين، وهذه مكانة عظيمة القدر لا يمكن تبوؤها إلاّ بالتبحّر في علوم الشريعة والغوص في أعماقها، ومن أهم ما يحتاجه المفتي من العلوم ليصل إلى الفتوى الصحيحة، علم أصول الفقه وما يشتمل عليه من أحكام وأدلة شرعية، ودلالات مرعية، ومسائل جليلة القدر بالغة الأهمية؛ إذ كيف يتأتى للمفتي أن يصدر فتواه مبنية على دليل وهو لا يعلم هل هذا الدليل منسوخ، أو مخصوص أو مقيد بدليل آخر؟ وهل وقع عليه الإجماع؟ وإذا كان من النوازل، فهل يستطيع أن يقيسه على حكم ثابت؟
وهل يكون موافقًا لمقاصد الشريعة؟ وهل اعتبر في فتواه ما تؤول إليه من مصالح، وتدرأ من مفاسد وقبائح؟ كل ذلك يثبت بما لا يدع مجالاً للشك حاجة المفتي النبيل، الماسّة إلى هذا العلم الجليل.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله:"لا يحل لأحد يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشعر، وما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي"[7].
ويقول إمام الحرمين رحمه الله:"وعلم الأصول أصل الباب حتى لا يقدم مؤخرًا ولا يؤخر مقدمًا، ويستبين مراتب الأدلة والحجج"[8].
وقد أوضح الغزالي9[9] رحمه الله أهمية معرفة أصول الفقه للمفتي في معرض حديثه عن المعارف التي يحتاج إليها قائلاً:"إنما يكون متمكنا من الفتوى بعد أن يعرف المدارك المثمرة للأحكام، وأن يعرف كيفية الاستثمار والمدارك المثمرة للأحكام كما فصلناها أربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل"[10].
وبهذا يتبين أهمية علم أصول الفقه للمفتي، والأثر البالغ للعلاقة الحميمة بينهما، مما يحقق صحة الفتوى والتزامها المنهج الصحيح، المتمشي مع نصوص الشريعة وأصولها ومقاصدها.
لذلك وانطلاقًا من الحرص على مقام التوقيع عن رب العالمين، إذ هو أعلى مراتب العلم كما لا يخفى، ولخطورة التجرؤ على الفتوى بغير علم راسخ، تأتي أهمية هذا البحث، وإن المتأمل في واقع الفتوى المعاصرة، لتتأكد له أهمية هذا الموضوع وطرحه والتذكير به، فكم يرى الناظر نزلاء في حلائب العلم والمعرفة، وهم ليسوا منهما في شيء؟! ديدنهم الجرأة على الفتوى، والتجاسر على التحليل والتحريم[11]، يتكلمون بما لا يعلمون، ويجملون ولا يفصلون، ويهرفون[12] ويسفسطون[13]، وهم من قليلي البضاعة في أحكام الشريعة، إذا سمعت أحدهم يتكلم، فكأنما ينزل عليه وحي، من جزمه فيما يقول وعدم تورعه، ولربما نسب ما يراه إلى الإسلام، ترى أحدهم يجيب في عظيم المسائل، مما لو عرض على عمر، لجمع له أهل بدر، وكم يتملكك العجب وأنت تسمع عبارات التعظيم لذواتهم، والتعالي في نفوسهم، قاموسهم: رأينا كذا، ترجيحنا، اختيارنا، والذي نراه، ونحن، وهلم جرا.
يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟!
وما علم هؤلاء أن الجرأة على الفتوى جرأة على النار، وأن التجاسر عليها اقتحام لجراثيمها،والعي اذ بالله! بل لقد وصل الحال ببعض العوام إلى أن يفتي بعضهم بعضا، وأصبح الحديث في علوم الشريعة بضاعة كل متعالم مأفون[14]، حتى ساموا باعة البقول عددا، وتكلم بعض الرويبضة[15]، واستطالوا على منازل العلماء، ومقامات العظماء والفقهاء، وعمدوا إلى أمور من الثوابت والمبادئ، وجعلوها عرضة للتغيير والتبديل، بدعوى تغير الفتوى بتغير الزمان، ووجد من يتنصل[16] من الفتوى بأمور جاء تحريمها مما علم من الدين بالضرورة، وكثر التحايل على الشريعة.
وطالب بعض مثقفي العصر بالترخيص؛ ليتفلت من الأحكام، فطالب بعضهم بإعادة النظر في حرمة الربا، أو بعض صوره، وآخرون بالتجاسر على حجاب المرأة المسلمة، وهكذا في سيل من التلاعب بأمور الشريعة، وعمدت بعض وسائل الإعلام، وقنواته المسموعة والمقروءة والمرئية، إلى إثارة قضايا كلية من الدين مع بعض المتعالمين ممن:
يمدون للإفتاء باعًا قصيرة وأكثرهم عند الفتاوى يكذلك[17]
ومما زاد الطين بلة والداء علّة، ما انتشر في هذا العصر من الفضائيات وشبكات المعلومات الانترنت، وما يطلق عليه فضائيات الفتوى، أو شبكات ومواقع الفتوى على الشبكة العنكبوتية، وما تعيشه من فوضى الفتاوى، وما تسببه من إثارة البلبلة والتشويه المتعمد، فهي بحق حوانيت في ناصية الجهل والقول على الله بغير علم، فبضاعتها الجرأة، وعملتها الإثارة، وأساطينها نكرات مجاهيل، يزينون سفك الدماء وتناثر الأشلاء، وأعمال العنف والإرهاب، وبعضها تعمد إلى مفتين من نوع خاص، همّها المتاجرة والتكسب بالفتوى دون اكتراث إلى حاجة الناس إلى فتاوى منضبطة بالضوابط الشرعية، ومبنية على الأسس العلمية والمقاصدية والقواعد الأصولية، مما كان له كبير الأثر، وخطيرهُ على الوعي الإسلامي الصحيح لدى عامة المسلمين، كل ذلك يؤكد أهمية طرح هذا الموضوع وتتابع الأبحاث والدراسات فيه؛ ليضع الغيورون على مقام التوقيع عن رب العالمين حلاً لهذه الفوضى العارمة، والإسهاب غير المنضبط في هذا المجال العظيم.
لذا فإن الواجب ـ حماية لبيضة الإسلام، ودفاعًا عن أحكامه وتشريعاته ـ أن يحجر على كل متكلم في الشريعة ـ تحليلاً وتحريما ـ وهو لا يحسن؛ فالحجر[18] لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأموال والأبدان، والغيرة على الشريعة من المكارم؛ وهي أولى من الغيرة على المحارم، ووالله إنه ليحرم على من لا يهتدي لدلالة القرآن، ولا يعرف السنة والآثار، أن يتسنّم سدة العلم، ويتصدر في مجال الإفتاء، وقد قيل لسفيان الثوري ~ في ذلك؟ فقال:«إذا كثر الملاحون[19]، غرقت السفينة»[20].
وقد تناسى هؤلاء أنهم بكلامهم في الشريعة إنما يوقعون عن رب العالمين سبحانه، وأن الفتاوى نار تضطرم، فكم تسمع من فتاوى سردية إنشائية لا زمام لها ولا خطام، لا تنور بنور النص، ولا تزدان ببيان حكم الشريعة ومقاصدها وأصولها، تبنى على التجري لا على التحري[21]، لا تقوم على قدم الحق، فتعنت الخلق، وتشجي الحلق[22]، وحق لهؤلاء أن تسلم الأمة من لأوائهم[23]، وتحذر من غلوائهم[24].
وإن رغمت أنوف من أناس فقل يا رب لا ترغم سواها[25]
فالواجب أن يقوم بهذا العمل المؤهلون دون المتعالمين، والأصلاء دون الدخلاء؛ حفظًا لدين الأمة، وتوحيدًا لكلمتها، وضبطًا لمسالكها ومناهجها؛ لتكون مبنية على الكتاب والسنة؛ بفهم سلف الأمة ـ رحمهم الله ـ وبذلك تسلم الأمة من غوائل[26] المحن، وبواعث الفتن، وتوجد العواصم ـ بإذن الله ـ من قواصم الجريمة الشنيعة، وهي القول على الله بغير علم.
ومن مجموع ما سبق، وخاصة في واقع الفتوى، وما تحتاجه من البناء المحكم على هذا العلم المهم، ونظرًا لحاجة المكتبة الإسلامية لبحوث في هذا المجال، ولما منّ الله به عليّ من التخصص الدقيق في فنّ الأصول، وبعد استخارة الله عزوجل، واستشارة عدد من أهل العلم، أردت أن أدلي بدلوي لعلّي أن أوفق في إنارة الطريق للسالكين الباحثين عن الحق، في مثل هذه القضايا المهمة، والله الموفق والهادي سواء السبيل.
وبعد هذه الإلماحة اليسيرة عن أهمية الموضوع، أبين لك ـ أخي القارئ الكريم ـ الخطة المرسومة لهذا البحث:
خطة البحث

يشتمل البحث على: مقدمة، وتمهيد، وأربعة فصول، وخاتمة.
أولاً: المقدمة. وفيها: أهمية الموضوع، وخطته، ومنهجه.
ثانيًا: التمهيد: ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: التعريف بعلم أصول الفقه ومكانته وأهميته.
المطلب الثاني: التعريف بالفتوى ومكانتها وخطورتها.
ثالثًا: الفصل الأول: الأحكام وأثرها في صحة الفتوى.
ويشتمل على تمهيد وثلاثة مباحث هي:
المبحث الأول: الأحكام التكليفية.
المبحث الثاني: الأحكام الوضعية.
المبحث الثالث: ما لابد منه لتصور الأحكام التكليف.
الفصل الثاني: الأدلة وأثرها في صحة الفتوى.
ويشتمل على تمهيد وخمسة مباحث هي:
التمهيد: ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: مراعاة ما فهمه السلف الصالح من أجل أن تؤثر "أدلة الفقه" في صحة الفتوى.
المطلب الثاني: اعتبار العلاقة الجدلية بين النص والمقصد.
المبحث الأول: الكتاب القرآن.
المبحث الثاني: السنة.
المبحث الثالث: الإجماع.
المبحث الرابع: القياس.
المبحث الخامس: الاستدلال وأثره في صحة الفتوى:وفيه تمهيد وخمسة مطالب:
المطلب الأول: الاستدلال بالاستصحاب.
المطلب الثاني: الاستدلال بالمصلحة المرسلة.
المطلب الثالث: الاستدلال بالاستحسان.
المطلب الرابع: الاستدلال بسد الذرائع وبإبطال الحيل.
المطلب الخامس: الاستدلال بالعرف والعادة.
الفصل الثالث: الدلالات وأثرها في صحة الفتوى.
ويشتمل على تمهيد وثلاثة مباحث هي:
التمهيد: وفيه التعريف والأهمية.
المبحث الأول: أنواع الدلالات من حيث الاستعمال في المعنى الحقيقة والمجاز.
المبحث الثاني: أنواع الدلالات: باعتبار منطوقها ومفهومها.
وفيه مطلبان: المطلب الأول: دلالة المنطوق.
المطلب الثاني: دلالة المفهوم.
المبحث الثالث: منطوقات الدلالات باعتبارات أخرى.
وفيه مطلبان: المطلب الأول: النص، والظاهر، والتأويل، والمجمل، والمبيَّن.
المطلب الثاني: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد.
الفصل الرابع: الاجتهاد والتقليد، والتعارض والترجيح وأثرها في صحة الفتوى.
وفيه ثلاثة مباحث هي:
المبحث الأول: الاجتهاد، وفيه تمهيد وخمسة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الاجتهاد، والفرق بين الاجتهاد والفتوى والقضاء.
المطلب الثاني: المجتهد، وشروطه.
المطلب الثالث: مجالات الاجتهاد المجتهَد فيه.
المطلب الرابع: تجزؤ الاجتهاد.
المطلب الخامس: الاجتهاد الجماعي وأثره في صحة الفتوى في هذا العصر.
المبحث الثاني: التقليد، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريفه ومجاله.
المطلب الثاني: مراتب المقلِّدين.
المطلب الثالث: المقلَّد بفتح اللام.
المبحث الثالث: التعارض والترجيح.
رابعًا: الخاتمة.
وفيها: أهم النتائج والتوصيات.

التمهيـــــد

ويشتمل على مطلبين:

المطلب الأول: التعريف بعلم أصول الفقه ومكانته وأهميته.
المطلب الثاني: التعريف بالفتوى ومكانتها وخطورتها.
المطلب الأول: تعريف علم أصول الفقه، ومكانته وأهميته:

وهو اصطلاحًا: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلة[27]. والمراد بالعلم بالأحكام: العلم بمعنى الصلاحية والتهيؤ لذلك بأن تكون له ملكة يقدر بها على إدراك جزيئات الأحكام، وقد اشتهر عرفًا إطلاق العلم على هذه الملكة[28]. ويمكن تعريف علم أصول الفقه باعتباره علما على هذا الفن بأنه: معرفة دلائل الفقه إجمالا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد، قوله معرفة هي كالجنس في التعريف فيشمل أصول الفقه وغيره، قوله دلائل الفقه جمع مضاف يفيد العموم فيعم الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها، قوله إجمالاً لأن المعتبر في حق الأصولي إنما هو معرفة الأدلة من حيث الإجمال ككون الإجماع حجة وكون الأمر للوجوب، وقوله وكيفية الاستفادة منها أي معرفة كيفية استفادة الفقه من تلك الدلائل أي: استنباط الأحكام الشرعية منها، قوله وحال المستفيد أي معرفة حال طالب حكم الله تعالى من الدليل وهو المجتهد فلا يدخل فيه المقلد[29].
وتتجلى مكانة علم أصول الفقه وأهميته في الأمور الآتية:
1- إذا كان الله - تبارك وتعالى - قد تكفل بحفظ القرآن الكريم مصدر هذه الشريعة الإسلامية الغراء حيث قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، فإنَّ استنباط التشريع منه يستلزم وضع قواعد وضوابط محددة وهي التي أطلق عليها "علم أصول الفقه ". يقول الإمام القرافي[30]: « لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة لا قليل ولا كثير، فإن كل حكم شرعي لا بد له من سبب موضوع، ودليل يدل عليه وعلى سببه، فإذا ألغينا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة لا قليل و لا كثير، فإذا ألغينا أصول الفقه ألغينا الأدلة فلا يبقى لنا حكم ولا سبب، فإن إثبات الشرع بغير أدلته وقواعده بمجرد الهوى خلاف الإجماع، ولعلهم لا يعبؤون بالإجماع، فإنه من جملة أصول الفقه، أو ما علموا أنه أول مراتب المجتهدين، فلو عدمه مجتهد لم يكن مجتهدًا قطعًا »[31].
2- علم أصول الفقه وتطبيق قواعده ومفاهيمه المختلفة يحقق القضية التي لا خلاف عليها بين المسلمين، من أن الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع كلها مما يؤكد صلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فما من قضية تعرض للمسلمين - خاصة النوازل والمستجدات - على المستوى الفردي أو الجماعي، إلا ويمكن تكييفها، وإعطاؤها الحكم الشرعي المستنبط من الأدلة بواسطة قواعد الأصول، وبذلك تتهاوى دعوى " سد باب الاجتهاد ".
3- هذا العلم من أكبر الوسائل لحفظ هذا الدين، والدفاع عن أدلته أمام الملحدين والمتشككين، فإن فارس هذا الميدان بحق هو الأصولي المتسلح بالمنهج العلمي المتمثل في الاستدلال لرأيه بالبراهين الدامغة التي لا تقبل التشكيك ونقد الرأي المخالف بالموضوعية المصطبغة بمقاصد الشريعة من العدل والإنصاف.
4- حاجة علماء الفقه المقارن إلى هذه المادة من الأهمية بمكان، فإن المقارنة تحتاج إلى تقوية بعض الأدلة على البعض الآخر، حتى يعمل أو يفتي بالمذهب الراجح. ولا يتحقق ذلك إلا بالاحتكام إلى القواعد الأصولية، كمعرفة دلالة المنطوق والمفهوم، وحجية كل منهما، وحكم التعارض بينهما، وأيهما المقدم.
5- هذا العلم يعين على فهم العلوم الأخرى، فالمفسر لا يستطيع أن يفسر آيات الأحكام في القرآن الكريم إلا في ضوء معرفة قواعد المفاهيم الأصولية، وكذلك الشارح لأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم- المتعلقة بالأحكام.
6- هذا العلم يفيد المتوسطين من أهل العلم الذين لم يصلوا إلى درجة المجتهدين، ولم ينزلوا إلى درجة العوام، حيث يعملون أدوات الترجيح بين أقوال المجتهدين في مسائل الخلاف، كما يفيدهم الاطمئنان إلى أن الأحكام قد بنيت على منهج سليم في النظر والاستدلال.
7- وفي العصر الحاضر حيث أفرزت المدنية الحديثة كثيرًا من المستجدات، وتتابعت النوازل والمتغيرات، الأمر الذي يجعل الحاجة إلى علم أصول الفقه من الأهمية بمكان بالنسبة للمجتهدين؛ مما يؤهلهم للحكم على هذه القضايا والمستجدات.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12-04-2019, 12:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(1-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس


المطلب الثاني: التعريف بالفتوى ومكانتها وخطورتها.

هي اصطلاحاً: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه[32].
والمفتي هو: المستقل بأحكام الشرع نصًا واستنباطًا[33].
وتتجلى مكانتها وخطورتها فيما يلي:
1- أن الله - تعالى-أفتى عباده، قال - تعالى-:{وَيَسْتَفْتُونَ كَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} النساء: 127، وقال - سبحانه -:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} (النساء: 176).
2- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يتولى هذا المنصب في حياته، وكان ذلك من مقتضى رسالته، وقد كلّفه الله - تعالى - وشرفه بذلك حيث قال- عزّ من قائل -:{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(النحل: 44).
فالمفتي خليفة النبي - صلى الله عليه وسلم- في أداء وظيفة البيان، وقد تولى هذه الخلافة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم-: أصحابه الكرام - رضوان الله عنهم -، ثم أهل العلم بعدهم.
3- أن موضع الفتوى هو بيان أحكام الله - تعالى - وتطبيقها على أفعال الناس.
وقد ذكر النووي34[34] وغيره أن المفتي موقع عن الله – تعالى[35].
وهذا يدل على مكانة الفتوى، كما يدل أيضاً على خطورتها ؛ لذلك كان السلف - رضوان الله عليهم - يتهيبون الإفتاء، فما منهم من أحد يُستفتى عن شيء إلاّ ودّ أن أخاه كفاه الفتيا ؛ لأنهم كانوا يدركون مكانة الفتوى وخطورتها في دين الله - تعالى - فالإفتاء بغير علم حرام ؛ لأنه يتضمن الكذب على الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم- ، ويتضمن إضلال الناس وهو من الكبائر لقوله - تعالى -:{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) فقرنه - سبحانه - بالفواحش والبغي والشرك بالله عزوجل[36]، وقوله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} (الزخرف: 19).
ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لايقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»[37].
لذلك كان السلف - رضوان الله عليهم - إذا سئل أحدهم عما لايعلم يقول للسائل: لا أدري.
وهذه بعض أقوال السلف في الحذر من الإقدام على الفتوى وعدم الجرأة عليها:
* عن زبيد[38] قال: ما سألت إبراهيم[39] عن شيء إلاّ عرفت الكراهية في وجهه[40].
* وعن عمر بن أبي زائدة[41] قال: ما رأيت أحداً أكثر أن يقول إذا سئل عن شيء: لا علم لي به من الشعبي[42][43].
* وعن داود قال: سألت الشعبي: كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم، قال: على الخبير وقعت كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه: أفتهم، فلا يزال حتى يرجع إلى الأول[44].
* عن جعفر بن إياس[45] قال: قلت لسعيد بن جبير[46]: مالك لاتقول في الطلاق شيئاً، قال: ما منه شيء إلاّ قد سألت عنه، ولكني أكره أن أحلَّ حراماً أو أحرّم حلالاً[47].
* وعن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار، وما منهم من أحد يحدِّث بحديث إلاّ ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولايسأل عن فُتيا إلاّ ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا[48].
وسئل القاسم بن محمد[49] عن شيء، فقال: إني لا أحسنه، فقال له السائل: إني جئتك لا أعرف غيرك فقال له القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها فو الله ما رأيناك في مجلس أنبل منك اليوم، فقال القاسم: والله لأن يُقطع لساني أحبَّ إلي من أن أتكلمَ بما لا علمَ لي به[50].
وقال ابن الصلاح الشهرزوري[51]:
«هاب الفتيا من هابها من أكابر العلماء العاملين وأفاضل السالفين والخالفين، وكان أحدهم لا تمنعه شهرته بالأمانة، واضطلاعه بمعرفة المعضلات في اعتقاد من يسأله من العامة من أن يدافع بالجواب، أو يقول: لا أدري، أو يؤخر الجواب إلى حين يدري» [52].
وجاء عن سحنون[53]:
أنه قال: «أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره».
قال: ففكرت فيمن باع آخرته بدنيا غيره، فوجدته المفتي يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقه، فيقول له: لا شيء عليك، فيذهب الحانث فيتمتع بامرأته ورقيقه. وقد باع دينه بدنيا هذا[54].
ولابد لمن يتصدّى للفتوى من توافر عدد من الشروط لتكون فتواه صحيحة مقبولة هي:
1- الإسلام: فلا تصح فتيا الكافر.
2- العقل: فلا تصح فتيا المجنون.
3- البلوغ: فلا تصح فتيا الصغير.
4- العدالة: فلا تصح فتيا الفاسق عند جمهور العلماء؛ لأن الإفتاء الإخبار عن الحكم الشرعي، وخبر الفاسق لايقبل[55].
وقال ابن القيم: تصح فتيا الفاسق إلاّ أن يكون معلناً بفسقه وداعياً إلى بدعته، وذلك إذا عمَّ الفسوق وغلب؛ لئلا تتعطل الأحكام، والواجب اعتبار الأصلح فالأصلح [56].
وأما المبتدعة، فإن كانت بدعتهم مكفرة أو مفسقة لم تصح فتواهم، وإلاّ صحَّتْ فيما لا يدعون فيه إلى بدعهم.
قال الخطيب البغدادي[57]:
تجوز فتاوى أهل الأهواء ومن لا نكفره ببدعته ولا نفسقه، وأما الشراة والرافضة الذين يشتمون الصحابة ويسبون السلف فإن فتاويهم مرذولة، وأقاويلهم غير مقبولة [58].
5- بلوغ رتبة المجتهد: وهو في اصطلاح الأصوليين: الفقيه المؤهل؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}(الأعراف:33).
قال ابن عابدين[59] [60] نقلاً عن ابن الهمام[61] :
وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، فأما غير المجتهد من يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد على وجه الحكاية.
قال ابن الصلاح الشهرزوري[62]:
إنما يُشترط اجتماع العلوم المذكورة في المفتي المطلق في جميع أبواب الشرع، أما المفتي في باب خاص من العلم، نحو علم المناسك، أو علم الفرائض، أو غيرهما. فلا يشترط فيه جميع ذلك، ومن الجائز أن ينال الإنسان منصب الفتوى والاجتهاد في بعض الأبواب دون بعض، فمن عرف القياس وطرقه وليس عالماً بالحديث، فله أن يفتي في مسائل قياسية يعلم أن لا تعلق لها بالحديث. ومن عرف أحوال المواريث وأحكامها جاز أن يفتي فيها، وإن لم يكن عالماً بأحاديث النكاح، ولا عارفاً بما يجوَّز له الفتوى في غير ذلك من أبواب الفقه.
قطع بجواز هذا الغزالي وابن بَرهان[63] وغيرهما.
6- جودة القريحة: وهذه ملكة فطرية، وتنمي بالتمرّس.
قال النووي[64]:
شرط المفتي كونه: فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح النظر والاستنباط. أهـ.
وهذا يصحح فتياه من جهتين:
الأولى: صحة أخذه للحكم من أدلته.
الثانية: صحة تطبيقه للحكم على الواقعة المسؤول عنها، فلا يغفل عن أي من الأوصاف المؤثرة في الحكم، ولا يعتقد تأثير ما لا أثر له.
7- الفطانة والتيقظ:
قال ابن عابدين[65]: شرط بعضهم تيقظ المفتي، قال: وهذا شرط في زماننا، فلابد أن يكون المفتي متيقظاً يعلم حيل الناس ودسائسهم، فإن لبعضهم مهارة في الحيل والتزوير، وقلب الكلام وتصوير الباطل في صورة الحق، فغفلة المفتي يلزم منها ضرر كبير في هذا الزمان.
وقال ابن القيم[66]:
بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم ... وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم؟ فالغرّ ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها؛ فالأول يروج عليه زَغَل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زَغَل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زغل النقود، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه في صورة حق؟.. بل هذا أغلب أحوال الناس.
ومما يتعلق بهذا ما نبه إليه بعض العلماء من أنه يشترط في المفتي أن يكون على علم بالأعراف اللفظية للمستفتي، لئلا يفهم كلامه على غير وجهه ، وهذا إن كان إفتاؤه في ما يتعلق بالألفاظ كالأيمان والإقرار ونحوها[67].
ومن هذه الشروط نعلم أنه:
* لا يشترط في المفتي الحرية والذكورية والنطق اتفاقاً، فتصح فتيا العبد والمرأة والأخرس ويفتي بالكتابة أو بالإشارة المفهمة[68].
* وكذا الأعمى تصح فتياه كما صرّح بذلك المالكية[69].
* وأما السمع، فقد قال ابن عابدين[70]:لاشك أنه إذا كتب له السؤال وأجاب عنه جاز العمل بفتواه.
قال ابن الصلاح الشهرزوري[71]:
لا يُشترط في المفتي الحريَّةُ، والذكورة، كما في الراوي، وينبغي أن يكون كالراوي أيضاً في انه لا تؤثر فيه القرابة والعداوة، وجرُّ النفع، ودفع الضرر؛ لأن المفتي في حكم من يخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص، فكان في ذلك كالراوي، لا كالشاهد، وفتواهُ لا يرتبط بها إلزام، بخلاف القاضي.
ووجدت عن القاضي الماوردي[72]،فيما جاوب به القاضي أبا الطيب الطبري[73] عن رده عليه في فتواه: بالمنع عن التلقيب بملك الملوك. ما معناه: إن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصاً معيناً صار خصماً معانداً تردُّ فتواه على من عاداه، كما تردُّ شهادته.
ولا بأس بأن يكونَ المفتي أعمى، أو أخرس مفهوم الإشارة أو كاتباً، والله أعلم.
وينبغي لمن نصب للفتوى أن يعتمد أصولاً محددة للفتوى يستند إليها في إصدار فتاويه؛ لأن الفتوى اجتهاد في بيان الأحكام، ولابد أن يكون الاجتهاد مبنيًا على أصول، وهذا هو المنهج الذي سار عليه العلماء الأعلام، ومثال ذلك ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله عن أصول الفتوى عند الإمام أحمد رحمه الله حيث يقول:
«الأصل الأول: النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان، ولهذا لم يُلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس[74]، ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر[75]، ولا خلافه في استدامة المحرم الطيب الذي تطيب به قبل إحرامه لصحة حديث عائشة[76] في ذلك، ولا خلافه في منع المفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع لصحة أحاديث الفسخ[77]، وكذلك لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب في ترك الغسل من الإكسال لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي ورسول - صلى الله عليه وسلم- فاغتسلا [78]، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن علي أن عدة المتوفى عنها الحامل أقصى الأجلين لصحة حديث سُبيعة الأسلمية[79]، ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما[80]، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصرف لصحة الحديث بخلافه[81]، ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحمر كذلك[82]، وهذا كثير جدا، ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذّب أحمد من ادعى هذا الإجماع ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت، وكذلك الشافعي أيضا نص في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له إجماع، ولفظه ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب من ادعى الإجماع، فهو كاذب لعل الناس اختلفوا ما يدريه ولم ينته إليه، فليقل لا نعلم الناس اختلفوا هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكنه يقول: «لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغني ذلك»، هذا لفظه.

ونصوص رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف، ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص، فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده.
الأصل الثاني: من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها، ولم يقل إن ذلك إجماع، بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئا يدفعه، أو نحو هذا، كما قال في رواية أبي طالب: لا أعلم شيئا يدفع قول ابن عباس وابن عمر وأحد عشر من التابعين عطاء ومجاهد وأهل المدينة على تسري العبد، وهكذا قال أنس بن مالك: لا أعلم أحدا رد شهادة العبد، حكاه عنه الإمام أحمد، وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة لم يقدم عليه عملاً ولا رأيًا ولا قياسًا.
الأصل الثالث من أصوله: إذا اختلف الصحابة، تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكي الخلاف فيها ولم يجزم بقول.
قال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء في "مسائله": «قيل لأبي عبد الله يكون الرجل في قومه فيسأل عن الشيء فيه اختلاف، قال يفتي بما وافق الكتاب والسنة، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه، قيل له: أفيجاب عليه، قيل: لا».
الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث والضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم، بحيث لا يسوغ الذهاب إليه، فالعمل به بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماعا على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس.
وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة، فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدّم الحديث الضعيف على القياس.
فقدّم أبو حنيفة حديث القهقهة[83]في الصلاة على محض القياس، وأجمع أهل الحديث على ضعفه، وقدّم حديث الوضوء بنبيذ التمر على القياس[84]، وأكثر أهل الحديث يضعّفه، وقدّم حديث أكثر الحيض عشرة أيام[85]، وهو ضعيف باتفاقهم على محض القياس، فإن الذي تراه في اليوم الثالث عشر مساو في الحد والحقيقة والصفة لدم اليوم العاشر، وقدّم حديث «لا مهر أقل من عشرة دراهم»[86]، وأجمعوا على ضعفه بل بطلانه على محض القياس، فإن بذل الصداق معاوضة في مقابلة بذل البضع فما تراضيا عليه جاز قليلا كان أو كثيرا.
وقدم الشافعي خبر تحريم صيد وج[87] مع ضعفه على القياس، وقدّم خبر جواز الصلاة بمكة في وقت النهي[88] مع ضعفه ومخالفته لقياس غيرها من البلاد، وقدّم في أحد قوليه حديث من قاء أو رعف: فليتوضأ وليبن على صلاته[89] على القياس مع ضعف الخبر وإرساله.
وأما مالك فإنه يقدم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابى على القياس.
الأصل الخامس: القياس للضرورة:
فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص ولا قول الصحابة أو واحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى الأصل الخامس وهو القياس، فاستعمله للضرورة، وقد قال في كتاب الخلاّل: «سألت الشافعي عن القياس، فقال: إنما يصار إليه عند الضرورة»، أو ما هذا معناه.
فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاويه وعليها مدارها، وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين.
وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف، كما قال لبعض أصحابه: «إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام»[90].
وبعد: فقد كانت تلك إلماحة تعريفية في علم الأصول ومقام الفتوى، أوردتها تمهيدًا للدخول في صلب البحث، مبتدءًا بالفصل الأول المتعلق بالأحكام وأثرها في صحة الفتوى.
نشر هذا البحث في العدد 81 من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة.
إعداد الدكتور : عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة أم القرى وإمام الحرم المكي.




[1] "إعلام الموقعين" 1/10 .

[2] "إعلام الموقعين" 1/11 .

[3] هو: الإمام أبو عبد الله، شمس الدين بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي، المعروف بابن قيم الجوزية، قال القاضي الزرعي: ما تحت أديم السماء أوسع منه علمًا. له مؤلفات كثيرة منها ما هو مطبوع، ومنها ما هو في خزائن المخطوطات، ومن أشهرها وأنشرها :"زاد المعاد في هدي خير العباد"، و"إعلام الموقعين"، توفي في ليلة الخميس ثالث عشر رجب وقت أذان العشاء وصُلِّيَ عليه بعد صلاة الظهر من الغد بالجامع الأموي. ينظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر العسقلاني 3/400، و"البداية والنهاية" لإسماعيل بن كثير 14/234، و"شذرات الذهب" لابن العماد الحنبلي 6/168.

[4] ينظر : "المصدر السابق" 1/12-14 .

[5] هو: عبدالرحمن بن أبي ليلى أبوعيسى الكوفي والد محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى القاضي ولد لست بقين من خلافة عمر بن الخطاب > مات سنة ثلاث وثمانين . ينظر : "الطبقات" لابن سعد 6/109 ، "تهذيب الكمال" 17/372 .

[6] أخرجه الدارمي في "السنن" في باب "من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع" برقم 135 .

[7] ينظر: "الرسالة" للإمام الشافعي 1/509.

[8] "البرهان في أصول الفقه" 2/870.

[9] هو: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الإمام الجليل أبو حامد الغزالي حجّة الإسلام، ولد بطوس سنة 450هـ، توفي في مصر سنة 505هـ، له نحو مئتي مصنف من كتبه: "إحياء علوم الدين"، و"تهافت الفلاسفة"، و"الاقتصاد في الاعتقاد"، و"المستصفى من علم الأصول"، وغير ذلك. ينظر: "وفيات الأعيان" 1/463، و"طبقات الشافعية" للسبكي 4/101.

[10] "المستصفى" 1/342.

[11] أي: الجراءة في الإقدام عليهما. "اللسان" جسر.

[12] يهرفون، أي: يمدحون بلا خبرة، ومنه المثل:"لا تهرف، بما لا تعرف" أي: لا تمدح قبل التجربة. ينظر:"النهاية" و"اللسان" هرف.

[13] يسفسطون، أي: يستعملون السفسطة في كلامهم، والسفسطة: قياس مركب من الوهميات، والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته. "التعريفات".

[14] رجل أفين، ومأفون، أي: ناقص العقل. "اللسان" أفن.

[15] الرويبضة: تصغير الرابضة، وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها، وزيادة التاء للمبالغة. "النهاية" ربض.

[16] تنصل فلان من كذا، أي: تبرأ منه. "اللسان" نصل.

[17] البيت ذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين"، ويكذلك، أي: يقول: كذلك قال فلان، بدون دليل من كتاب أوسنة. ينظر:"إعلام الموقعين" 4/208.

[18] الحجر: المنع من التصرف. "النهاية" حجر.

[19] الملاحون: جمع ملاح، وهو السفان الذي يوجه السفينة. "تاج العروس" ملح.

[20] "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" ص560.

[21] أي: أن أصحابها من المتجرئين على الحق، لا من المتحرين له.

[22] أشجاه الشيء: أغصه، وأشجاه العظم: إذا عرض في حلقه. "اللسان" شجو.

[23] اللأواء: المشقة والشدة. "اللسان" لأي.

[24] الغلواء بالضم، وفتح اللام: الغلو. "اللسان" غلو.

[25] البيت ذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين" 4/208.

[26] الغوائل: جمع غائلة، وهي الداهية. "اللسان" غول.

[27] "نفائس الأصول في شرح المحصول" للقرافي 1/22، و"نهاية السول" للأسنوي 1/16، و"روضة الناظر" لابن قدامة 1/59.

[28] ينظر: "نثر الورود على مراقي السعود" للشنقيطي ص 36، 37.

[29] "الوجيز في أصول الفقه" للكراماستي ص2، "التقريب والإرشاد الصغير" للقاضي الباقلاني 1/172، "الإبهاج في شرح المنهاج" للسبكي 1/19، "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب" للسبكي 1/242، و"أصول الفقه نشأته وتطوره" لشعبان محمد إسماعيل 10-12.

[30] هو: أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن أبو العباس، شهاب الدين الصنهاجي القرافي: من علماء المالكية. وهو مصري المولد والمنشأ والوفاة. له مصنفات جليلة في الفقه والأصول منها: "أنوار البروق في أنواع الفروق"، و"الإحكام في تمييز الفتاوى عن الإحكام"، و"الذخيرة" في فقه المالكية توفي عام 684هـ. ينظر: "الديباج المذهب" لابن فرحون 62-67، و"حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" للسيوطي 1/316، و"الأعلام" للزركلي 1/94.

[31] "نفائس الأصول في شرح المحصول" للقرافي 1/18.

[32] ينظر: "صفة الفتوى والمستفتي" لابن حمدان ص4.

[33] ينظر: "المنخول" للغزالي 1/463.

[34] هو: يحيى بن شرف بن مِري بن حسن الحزامي الحوراني النووي الشافعي، أبوزكريا محي الدين، علامة بالفقه والحديث إماماً بارعاً حافظاً متقناً، من تصانيفه:"شرح مسلم"، و"الروضة"، و"شرح المهذب"، و"المنهاج"، و"التحقيق"، و"الأذكار" وغير ذلك. مات في سنة 676هـ. ينظر:"طبقات الشافعية" للسبكي 5/165، و"طبقات الحفاظ" ص539، و"شذرات الذهب" 5/345.

[35] ينظر: "آداب الفتوى والمفتي والمستفتي" للنووي ص13، 14، 16، و"المجموع شرح المهذب" 1/73، و"إعلام الموقعين" 1/10 وما بعدها.

[36] ينظر في تفسير هذه الآية: "تفسير ابن كثير" 3/250.

[37] أخرجه البخاري في باب "كيف يقبض العلم" برقم 100، ومسلم في "باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان" برقم 2673.

[38] هو: زُبيد بن الحارث بن عبدالكريم بن عمرو بن كعب الياميّ ويقال الإياميُّ أيضاً أبوعبدالرحمن ويقال: أبوعبدالله الكوفي، مات سنة اثنتين وعشرين ومائة وقيل أربع وعشرين ومئة. ينظر: "الطبقات" لابن سعد 6/309، "تهذيب الكمال" للمزي 9/289.

[39] هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي أبو عمران الكوفي، فقيه أهل الكوفة، مات وهو مختفٍ من الحجاج سنة ست وتسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك بالكوفة. ينظر: "الطبقات" لابن سعد 6/270، "تهذيب الكمال" للمزي 2/233.

[40] أخرجه الدارمي في "السنن" في باب "من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع" برقم 131.

[41] هو: عمر زكريا بن أبي زائدة الهمداني الوادعي الكوفي، مولى عمرو بن عبد الله الوادعي، ينظر: "تهذيب الكمال" للمزي 21/348، و"تاريخ الإسلام" للذهبي 6/255.

[42] هو: عامر بن شراحيل وقيل ابن عبدالله بن شراحيل الشعبي أبوعمرو الكوفي ولد لست سنين خلت من خلافة عمر بن الخطاب على المشهور، مات سنة ثلاث أو أربع أو خمس ومئة. ينظر: "الطبقات" لابن سعد 6/246، و"تهذيب الكمال" للمزي 14/28.

[43] أخرجه الدارمي في "السنن" في باب "من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع" برقم 132.

[44] أخرجه الدارمي في "السنن" في باب "من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع" برقم 136.

[45] هو: ابن أبي وحشيّة اليشكري، أبو بشر الواسطي، بصري الأصل وكان ينزل بني ثعلبة، مات سنة أربع وعشرين و مئة، وقيل غير ذلك، وكان ساجداً خلف المقام حين مات وقيل ثلاث وقيل خمس وقيل ست وعشرين و مئة. ينظر: "الطبقات" لابن سعد 7/253، و"تهذيب الكمال" 5/5.

[46] هو: سعيد بن جبير الأسدي بالولاء الكوفي، أبو عبد الله: من خيار التابعين، كان أعلمهم على الإطلاق، قتله الحجاج سنة 95هـ قال الإمام أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيداً وما على وجه الأرض أحد إلاّ وهو مفتقر إلى علمه. ينظر: "طبقات ابن سعد" 6/178، و"تهذيب التهذيب" 4/11.

[47] أخرجه الدارمي في "السنن" في باب "من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع" برقم 134.

[48] أخرجه الدارمي في "السنن" في باب "من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع" برقم 135.

[49] هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي، أبومحمد ويقال: أبوعبدالرحمن المدني الفقيه المعروف، من خيار التابعين، مات في ولاية يزيد بن عبدالملك سنة إحدى واثنتين ومئة وقيل غير ذلك. ينظر: "طبقات بن سعد" 5/187، و "تهذيب الكمال" 23/427.

[50] ينظر: "إعلام الموقعين" 4/219.

[51] هو: عثمان بن عبدالرحمن صلاح الدين بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري الشافعي أحد أئمة المسلمين علماً وديناً. ولد في شرخان قرب شهرزور، وتوفي سنة 643هـ. له كتاب: "معرفة أنواع علم الحديث" يعرف بمقدمة ابن الصلاح، و"الأمالي"، و"الفتاوى"، و"فوائد الرحلة"، و "أدب المفتي والمستفتي"، و"طبقات الفقهاء الشافعية". ينظر: "وفيات الأعيان" 1/312، و"طبقات الشافعية" للسبكي 5/137.

[52] ينظر: "أدب المفتي والمستفتي" ص74 وما بعدها باختصار.

[53] هو: عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، الملقب بسحنون، قاض، فقيه، انتهت إليه رئاسة العلم في المغرب. روى "المدونة" في فروع المالكية عن عبد الرحمن بن قاسم عن الإمام مالك، ولد سنة 160هـ.
وتوفي في رجب سنة 240هـ. ينظر: "وفيات الأعيان" 1/291، و"هدية العارفين" 1/569، و "الأعلام" للزركلي 4/5.


[54] ينظر: "صفة الفتوى" ص10.

[55] ينظر: "صفة الفتوى" لابن حمدان ص29، و "المجموع" 1/41.

[56] ينظر: "إعلام الموقعين" 4/220 .

[57] هو: أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، أبوبكر المعروف بالخطيب، الحافظ الكبير محدث الشام والعراق، صاحب التصانيف. ومن مصنفاته: "تاريخ بغداد" أربعة عشر مجلدا، و"الكفاية في علم الرواية" في مصطلح الحديث، و"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"، و"شرف أصحاب الحديث"، وغير ذلك. مات سنة 463هـ. ينظر: "وفيات الأعيان" 1/92، و"طبقات الشافعية" للسبكي 3/12، و"طبقات الحفاظ" ص453.

[58] ينظر: "الفقيه والمتفقه" ص202.

[59] هو: محمد أمين بن عمر بن عبدالعزيز عابدين الدمشقي، فقيه الديار الشامية، وإمام الحنفية في عصره، مولده ووفاته في دمشق، له: "رد المحتار على الدر المختار" يعرف بحاشية ابن عابدين، و"العقود الدرية"، و"نسمات الأسحار على شرح المنار" في الأصول، توفي سنة 1252هـ. ينظر: "روض البِشر" 220، و"الأعلام" 6/42.

[60] ينظر: "حاشية ابن عابدين" 1/47.

[61] هو: محمد بن عبدالواحد بن عبدالحميد بن مسعود السيواسي ثم الإسكندري، كمال الدين المعروف بابن الهمام، إمام من علماء الحنفية عارف بأصول الديانات والتفسير والفرائض والفقه واللغة والمنطق، ولد بالاسكندرية، ونبغ في القاهرة وأقام بحلب مدة، وجاور بالحرمين، وكان معظماً عند الملوك، توفي بالقاهرة سنة 861هـ من كتبه: "فتح القدير" في شرح الهداية، و"التحرير" في أصول الفقه، و"زاد الفقير" مختصر فروع الحنفية. ينظر: "الضوء اللامع" 8/127، "شذرات الذهب" 7/289، و"الأعلام" للزركلي 6/255.

[62] ينظر : "أدب المفتي والمستفتي" ص90.

[63] هو: أحمد بن علي بن محمد الوكيل، أبو الفتح المعروف بابن بَرهَان، فقيه بغدادي غلب عليه علم الأصول، وكان على مذهب الإمام أحمد، وصحب أبا الوفاء علي بن عقيل ثم انتقل إلى مذهب الشافعي وتفقه على الشاشي والغزالي. توفي سنة 518هـ عن عمر يناهز الأربعين تقريباً. ينظر: "طبقات الشافعية" للسبكي 4/42، و "شذرات الذهب" 4/60.

[64] ينظر: "المجموع شرح المهذب" 1/41.

[65] ينظر: "حاشية ابن عابدين" 4/301.

[66] ينظر: "إعلام الموقعين" 4/229.

[67] ينظر: "المجموع شرح المهذب" 1/46.

[68] ينظر: "شرح منتهى الإرادات" 3/457، و"إعلام الموقعين" 4/220، وحاشية ابن عابدين 4/302، و"صفة الفتوى" لابن حمدان ص13، و"المجموع شرح المهذب" 1/75.

[69] ينظر: "حاشية الدسوقي" 4/130.

[70] ينظر: "حاشية ابن عابدين" 4/302.

[71] ينظر: "أدب المفتي والمستفتي" ص106-107.

[72] هو: علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن الماوردي: أقضى قضاة عصره. من العلماء الباحثين. أصحاب التصانيف الكثيرة النافعة، ولد في البصرة وانتقل إلى بغداد، وولي القضاء في بلدان كثيرة ثم جعل "أقضى القضاة" في أيام القائم بأمر الله العباسي. من كتبه: "أدب الدنيا والدين"، و"الأحكام السلطانية"، و"الحاوي" في فقه الشافعية، وغير ذلك كثير. توفي سنة 450هـ، ينظر: "طبقات الشافعية الكبرى" 3/303، و"وفيات الأعيان" 3/282، و"شذرات الذهب" 3/285.

[73] هو: طاهر بن عبدالله بن طاهر الطبري أبو الطيب، قاضي من أعيان الشافعية، ولد في آمُل طبرستان، واستوطن بغداد، وولي القضاء بربع الكرخ، وتوفي ببغداد سنة 450هـ، له: "شرح مختصر المزني"، و"التعليقة الكبرى". ينظر: "طبقات الشافعية" 3/176، و"الأعلام" للزركلي 3/222.

[74] الذي أخرجه مسلم في باب "المطلقة ثلاثا لا نفقة لها" برقم 1480.

[75] الذي أخرجه البخاري في باب "المتيمم هل ينفخ فيهما" برقم 331.

[76] الذي أخرجه البخاري في باب "غسل المذي والوضوء منه" برقم 267.

[77] الذي أخرجه البخاري في باب "تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت وإذا سعى على غير وضوء بين الصفا والمروة" برقم 1568.

[78] الذي أخرجه الترمذي في باب "ماجاء : إذا التقى الختانان وجب الغسل" برقم 108، وقال " حسن صحيح".

[79] الذي أخرجه البخاري في باب "فضل من شهد بدرا" برقم 3770.

[80] الذي أخرجه البخاري في باب "أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح" برقم 4032.

[81] الذي أخرجه البخاري في باب "بيع الفضة بالفضة" برقم 2067.

[82] الذي أخرجه البخاري في باب "كسر الصليب وقتل الخنزير" برقم 2345.

[83] الذي أخرجه الدارقطني في باب "أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها" برقم 11.

[84] الذي أخرجه أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار في باب "الرجل لا يجد إلا نبيذ التمر هل يتوضأ به أو يتيمم" برقم 572.

[85] الذي أخرجه الدارمي في باب "ما جاء في أكثر الحيض" برقم 832.

[86] الذي أخرجه الدارقطني في باب "المهر" برقم 16.

[87] الذي أخرجه أبو داود في باب رقم "97" برقم 2032.

[88] الذي أخرجه أبو داود في باب "الطواف بعد العصر" برقم 1894.

[89] الذي أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" في باب "ترك الوضوء من خروج الدم من غير مخرج الحدث" برقم 652.


[90] ينظر: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" 1/29-32.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 12-04-2019, 12:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(2-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس



الفصل الأول

الأحكام وأثرها في صحة الفتوى

تمهيد:

إن الأحكام الشرعية لا تؤخذ إلا عن الله تعالى وإلا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ الحكم لله وحده، فالحلال ما أحلّ، والحرام ما حرّم، ولا يجوز إثبات حكم شرعي بغير الأدلة الشرعية التي نصبها الله ورسوله لمعرفة الحلال والحرام، والأمر والنهي، والإيجاب والتحريم. وهذا أصل عظيم من أصول هذا الدين القيِّم، قال تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُون} [الجاثـية: 18].
يقول الشوكاني رحمه الله:[1] " اعلم أنه لا خلاف في كون الحاكم الشرع بعد البعثة وبعد بلوغ الدعوة" [2].
والأحكام الشرعية لا تكون مخالفة للعقول الصحيحة، والفطر السليمة، وكل خبر يُظَن أن العقل يحيله، فلا يخلو من أن يكون غير صحيح، أو يكون الاستدلال به غير صحيح، أو يكون هذا العقل فاسدًا ناقصًا. والشرع لا يأتي بمحالات العقول، ولكن يأتي بمحاراتها! [3].
هذا، والأحكام الشرعية إما أحكام تكليفية، وإما أحكام وضعية. ومتى أطلقت الأحكام انصرفت إلى الأحكام التكليفية؛ لأن تسمية الحكم الوضعي خطاب الشارع فيها تجوّز؛ ولأن الحكم الوضعي كون الشيء سببًا وشرطًا ومانعًا ونحو ذلك.
ومن الأصوليين من يرى أنه مندرج تحت الحكم التكليفي، ولا مشاحة في الاصطلاح. . [4].
هذا، وسأجمل هذا الفصل بعد هذا التمهيد في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الأحكام التكليفية.
المبحث الثاني: الأحكام الوضعية.
المبحث الثالث: ما لابد منه لتصور الأحكام التكليف.
المبحث الأول: الأحكام التكليفية

ومفردها: الحكم التكليفي، وهو: "خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير". [5] ومتى أطلق الحكم الشرعي انصرف إلى التكليفي، وإن لمعرفة هذه الأحكام أثرًا من الأهمية بمكان في صحة الفتوى، كما أن الجهل بها تترتب عليه آثار سلبية تنعكس على صحة الفتوى.
وللحكم التكليفي خمسة أقسام[6] هي: الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح.
وهذه الأقسام إنما تُحَدُّ وتنضبط بشرع الله، إذ الحكم لله وحده، ولا يجوز إثبات حكم شرعي - تكليفي أو وضعي - بغير الأدلة الشرعية التي جعلها الله طريقًا لمعرفة أحكامه، وهذا أصلٌ عظيم من أصول الدين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ... فلهذا كان دين المؤمنين بالله ورسوله أن الأحكام الخمسة: الإيجاب، والاستحباب، والتحليل، والكراهية، والتحريم، لا تؤخذ إلا عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرّمه الله ورسوله..." [7].
والقول على الله بغير علم، وبغير سند شرعي محرمٌ، وهو من كبائر الذنوب، كما قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}[النحل: 116].
ومن أجل هذا؛ عُني الأصوليون ببيان هذه الأحكام التكليفية، ومسائلها، والقواعد التي تنتج عنها، كما سألخصه فيما يلي إن شاء الله:
1- الواجب، وتعريفه: ما طلب الشارع فعله طلبا جازما، ويلحق الذم تاركه، ويرادفه الفرض عند الجمهور خلافًا للحنفية[8].
والذم الذي يلحق تاركه لا يثبت إلا بالشرع خلافا لما قالته المعتزلة [9]، من أن الذم بترك الواجب إنما بحسب العقل [10].
ويستفاد الوجوب بالأمر الذي لا صارف له، وبالتصريح بلفظ الإيجاب، والفرض، والكتْب، والحتْم، واللزوم، وبترتيب العقاب على الترك، وبإحباط العمل على الترك، ونحو ذلك [11].
وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والأمر بالشيء أمر بلوازمه، وتحت هاتين القاعدتين مسائل وفروع ليس هذا مجال بسطها [12].
وينقسم الواجب باعتبارات متعددة إلى تقسيمات متنوعة أهمها:
- باعتبار ذاته ينقسم إلى معيَّن لا يقوم غيره مقامه، كالصلاة، وإلى مخير يقوم غيره مقامه، كواحدة في خصال الكفارة.
- وباعتبار وقته إلى مضيق لا يسع وقته أكثر من فعل مثله، كصوم رمضان، وإلى موسَّع يسع وقته لأكثر من فعله، كالصلوات الخمس.
- وباعتبار فاعله إلى عينيّ، وهو ما وجب على كل شخص بعينه لا يقوم غيره فيه مقامه، وإلى كفائيّ، وهو ما إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، كالصلاة على الجنازة؛ وإلا أثم الجميع.
- وباعتبار زمن أدائه إلى مطلق، ومقيد بزمن معين [13].
2- المندوب، وهو: ما طلب الشارع فعله طلبًا غير جازم.
وهو تكليف ومأمور به حقيقةً [14]، لدخوله في حدِّ الأمر من حيث الإيجاب والندب؛ ولأنه مستدعى، ومطلوبٌ، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى...} [النحل: 90].
ويسمى المندوب سنّةً، ومستحبًّا، وتطوُّعًا، وطاعةً، ونفلاً، وقربةً، ومُرغبا فيه، وإحسانا، وفضيلة. وبعض المندوبات آكد [15].
والمندوب وما في معناه لا يثبت إلا بالأحاديث المقبولة دون المردودة الضعيفة. هذا هو الصحيح الراجح [16].
ولا يلزم المندوب بالشروع فيه إلا فيما استثني ووقع الإجماع في الحج والعمرة [17].
3- الحرام، وهو: ما طلب الشارع الكف عنه على سبيل الجزم بحيث يتعلق بفاعله الذّم.
ويسمى محظورًا، وممنوعًا، ومزجورًا، ومعصية، وذنبًا، وقبيحًا، وسيئة، وفاحشة، وإثمًا، وحرجًا، وتحريجًا، وعقوبة.
ويستفاد التحريم من: النهي الذي لا صارف له، والتصريح بالتحريم، والحظر، والوعيد على الفعل، وذم الفاعل، ونحو ذلك [18].
4- المكروه، وهو:ما طلب الشارع الكف عنه طلبًا غير جازم بأن كان منهيا عنه، واقترن النهي بما يدل على عدم قصد التحريم. وقد يطلق خاصة في كلام السلف على المحرم. وقد يطلق على مكروه كراهة تنزيه، وعلى ترك الأولى، وهو ترك ما فعله راجح، أو فعل ما تركه راجح، ويطلق أيضًا على فعل ما فيه شبهة وتردّد.
وهو تكليف ومنهي عنه حقيقة؛ لدخوله في حدِّ النهي من حيث التحريم والكراهية [19].
5- المباح، وهو: فعلٌ مأذون فيه من الشارع خلا من مدح أو ذَمّ [20].
قال الشاطبي [21] في "الموافقات": »المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل، ولا مطلوب الاجتناب. . . « [22].
وعليه؛ فإدخاله في الأحكام التكليفية من باب المسامحة والتغليب. ومذهب الجمهور أن المباح من حيث هو مباح - أي دون انضمام مقاصد أخرى إليه - غير مأمور به، ولا منهي عنه [23].
والمباح إباحته تكون شرعية، وهي المستفادة من خطاب الشرع بنحو لفظ الإحلال، ورفع الجناح، والإذن، والعفو، والتخيير، ونحو ذلك. وتكون عقلية، وهي المصطلح عليها بالبراءة الأصلية والاستصحاب.
ومن أسماء المباح الذي إباحته شرعية الحلال، والمطلق، والطلق، والجائز. وربما أطلق المباح على غير الحرام، والمكروه، أي في أنه غير مطلوب الترك من حيث هو مباح [24].
هذه شذرة مقتضبة في بيان الأحكام التكليفية:
ولعل مما يؤكد أهمية معرفة الأحكام التكليفية للمفتي، ما يراه المتأمل من خلط بين هذه الأحكام، وتنزيلها على أفعال المكلفين، ففي أحكام الواجب يقع الخلط بين الواجب العيني والواجب الكفائي، ومثله بين الموسّع والمضيّق، والمعيّن والمخير، وأحيانًا بين الواجب والمندوب، فيشدد في المندوب كما لو أنه واجب، ومثله ما نستطيع أن نطلق عليه: شيوع ثقافة التحريم، ويقابلها: الغلو في التسهيل وتتبع الرخص، وكذا الخلط بين الحرام والمكروه، وكذا عدم التفريق بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه، والتشديد في بعض المباحات، ومعاملتها معاملة المكروه أو المحرم.
كل ذلك وغيره يدل على أهمية معرفة هذا الباب للمفتي، حتى يصيب مراد الشارع، ولا تلتبس عليه الأحكام بعدم وقوعها الموقع الصحيح على المكلفين، قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59].
المبحث الثاني: الأحكام الوضعية

قد عُرّف الحكم الوضعي بتعريفات لعلّ أحسنها وأبعدها عن الإيرادات تعريف ابن النجار الفتوحي[25]، حيث عرفه بقوله: «خبر استفيد من نصب الشارع علَمًا معرِّفا لحكمه«[26].
والمعنى: أن الشرع وضع - أي شرع - أمورًا سميت أسبابًا وشروطًا، وموانع، ونحوها، يعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات أو نفي، فالشرع بوضع هذه الأمور، أخبرنا بوجود أحكامه وانتفائها.
وإنما اختير هذا التعريف؛ لتعذر معرفة خطاب الشارع في كل حال، وفي كل واقعة بعد انقطاع الوحي، وحذرًا من تعطيل أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية اهـ[27].
وهناك فروق بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي، أهمها:
- أنه يشترط في الحكم التكليفي علم المكلف وقدرته على الفعل المكلف به وكونه من كسبه. ولا يشترط ذلك ولا شيء من شروط التكليف إلا فيما استثني في الحكم الوضعي. فالصبي وإن لم يكن مكلفًا؛ فإنه يضمن غرم المتلفات؛ لأن الضمان حكم وضع لسبب هو الإتلاف.
- أن الحكم التكليفي أمر وطلب، والحكم الوضعي إخبارٌ [28].
ولمعرفة الأحكام الوضعية أهمية كبرى لدى المفتي، حتى لا يخلط بين السبب والشرط والمانع والصحة والفساد، وحتى لا يجعل الرخصة في محل العزيمة، والعزيمة في محل الرخصة، بل يجعل لكل حكمه وقدره؛ ليصيب مراد الشارع في وضع هذه الأحكام للمكلفين.

وفيما يلي نبذٌ يسيرة عن أهم أقسام الحكم الوضعي، وهي:
السبب، والشرط، والمانع، والصحة والفساد، والعزيمة والرخصة:
فالسبب : ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته.
والشرط : ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.
والمانع: ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته.
فلابد في وجود الحكم الشرعي من توفر هذه الثلاثة؛ وإلا انتفى الحكم الشرعي بانتفاء أحدها. وذلك كوجوب الزكاة. فسببه ملك النصاب، وشرطه حولان الحول، والمانع منه وجود الدَّين على صاحب المال الذي لا يبلغ المال النصاب لو أُدِّي وسُدِّد.
فإذا وجد النصاب، والحول، وانتفى الدين؛ وجب أداء الزكاة [29].
والصحة في العبادات عند المتكلمين [30] هي: موافقة أمر الشارع، ولو لم تسقط الإعادة. وعند الفقهاء[31] هي: سقوط الإعادة، بحيث لا يحتاج إلى فعلها مرة ثانية. فصلاة من ظن الطهارة صحيحة على قول المتكلمين، فاسدة على قول الفقهاء؛ لأنهم نظروا لما في نفس الأمر، وهذا الخلاف من قبيل الخلاف اللفظي - كما يرى كثير من الأصوليين -؛ لأن القضاء - بمعنى الإعادة - واجبٌ عند الطائفتين [32].
قال القرافي رحمه الله: »اتفقوا على أنه لا يجب القضاء ـ أي الإعادة ـ إذا لم يطلع على الحدث، وأنه يجب عليه إذا اطلع« [33].
والإجزاء في العبادات بمعنى الصحة؛ إلا أن الإجزاء وصف للعبادات فقط، بينما الصحة وصف لها وللمعاملات معًا. فالإجزاء أخص مطلقًا من الصحة [34].
والصحة في المعاملات يراد بها : ترتّب الأثر المطلوب من العقود، وذلك بالتمكن من التصرف فيما هو له، كالبيع إذا صح العقد ترتب أثره من ملك، وجواز التصرف فيه من هبة، ووقف، وأكل، ولبس، وانتفاع وغير ذلك [35].
وأما الفساد - ويراد منه البطلان عند الجمهور - فيقابلان الصحة في العبادات وفي المعاملات [36].
أما العزيمة والرخصة:
فالعزيمة هي:»ما شرع من الأحكام الكلية ابتداءً«[37]. فمعنى كونها "كلية" أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون، ولا ببعض الأحوال دون بعض. ويدخل تحت هذا ما شرع بسبب مصلحيٍّ في الأصل.
ومعنى "شرعيتها ابتداء" أن يكون قصد الشارع بها إنشاء الأحكام التكليفية على العباد من أوّل الأمر، والناسخ كالحكم الابتدائي.
ولا يخرج عن هذا ما كان من الكليات واردًا على سبب؛ فإن الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك، فإذا وجدت؛ اقتضت أحكامًا.
قال: »وأما الرخصة؛ فما شرع لعذر شاق، استثناءً من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه« [38].
وفي شرح الكوكب المنير: أن الرخصة ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح[39].
وقد تكون الرخصة واجبةً كأكل الميتة للمضطر، أو مندوبةً كقصر المسافر الصلاة، أو مباحة كالجمع بين الصلاتين في غير عرفة ومزدلفة، خلافًا للحنفية الذين يمنعون الجمع في غير عرفة ومزدلفة. ولا تكون محرمة ولا مكروهة [40].
وبعد هذه المقتطفات في بيان الأحكام الوضعية، أسوق لك - أخي القارئ الكريم - المنهج الصحيح في الفتوى، مع مراعاة هذه الأحكام في أفعال المكلفين:
فالمنهج الصحيح في الفتوى أن يتوسط المفتي فيها دون تشدد أو تساهل.
يقول الشاطبي رحمه الله: «المفتي البالغ ذروة الدرجة، هو: الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين.
وأيضا فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل، وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: «يا معاذ أفتان أنت»[41] وقال صلى الله عليه وسلم: «إن منكم منفرين»[42] وقال صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا"[43] وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا"[44] وقال صلى الله عليه وسلم: "أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل"[45] ورد عليهم الوصال وكثير من هذا وأيضا فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا؛ لأن المستفتى إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد، وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى واتباع الهوى مهلك والأدلة كثيرة.
فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضادا للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا، وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد فلا يجعل بينهما وسطا، وهذا غلط، والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك، وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذى يوافق هوى المستفتي بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى وليس بين التشديد والتخفيف واسطة، وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة، وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها، وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى، وأن الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف، وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى ولا على مطلق التشديد، فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره، فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه.
ومن معالم المنهج الصحيح في الفتوى في هذا الباب: أخذ المفتي نفسه بالعزيمة:
فيجوز للمفتي أن يأخذ نفسه بالعزائم، يقول الشاطبي:«قد يسوغ للمجتهد أن يحمل نفسه من التكليف ما هو فرق الوسط بناء على ما تقدم في أحكام الرخص ولما كان مفتيا بقوله وفعله كان له أن يخفى ما لعله يقتدي به فيه، فربما اقتدى به فيه من لا طاقة له بذلك العمل فينقطع، وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، إذ كان قد فاق الناس عبادة وخلقا، وكان عليه الصلاة والسلام قدوة، فربما اتبع لظهور عمله، فكان ينهى عنه في مواضع: كنهيه عن الوصال، ومراجعته لعمرو بن العاص في سرد الصوم، وقد قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:7]، وأمر بحل الحبل الممدود بين الساريتين، وأنكر على الحولاء بنت تويت قيامها الليل، وربما ترك العمل خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، ولهذا ـ والله أعلم ـ أخفى السلف الصالح أعمالهم لئلا يتخذوا قدوة مع ما كانوا يخافون عليه أيضا من رياء أو غيره، وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه»[46].
كما ينبغي أن يعلم أن التساهل في طلب الرخص قادح في الفتوى.
فينبغي على المفتي أن لا يتساهل في طلب الرخص، وكان العلماء لا يأخذون الفتوى عن من دأبه التساهل في طلب الرخص.
وقد حدد السمعاني[47] حالتين للتساهل في الرخص، فقال:
«إحداهما: أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ بمبادئ النظر وأوائل الفكر، فهذا مقصر في حق الاجتهاد، فلا يحل له أن يفتي، ولا يجوز أن يُستفتَى، وإن جاز أن يكون ما أجاب به حقا؛ لأنه غير مستوف لشروط الاجتهاد لجواز أن يكون الصواب من استيفاء النظر في غير ما اختلف فيه.
والحالة الثانية: أن يتساهل في طلب الرخص وتأويل الشبه ومعنى النظر ليتوصل إليها وتعليق بأضعفها، وهذا متجوز في دينه متعد في حق الله تعالى، أو غار لمستفتيه عادل عما أمر الله سبحانه به في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، وهو في هذه الحالة أعظم مأثما منه في الأولى؛ لأنه في الحالة الأولى مقصر وفي الثانية متعد، وإن كان في الحالتين آثمًا متجوزًا لكن الثاني أعظم، وكما لايجوز أن يطلب الرخص والشبه كذلك، لا يجوز أن يطلب التغليظ والتشديد، وليعدل في الجواب إلى ما يوجبه صحة النظر من الحكم الذي تقتضيه الأدلة الصحيحة، فإن دلت على التغليظ أصاب، وإن دلت على الترخيص أصاب، وإن كان للتغليظ وجه في الاجتهاد أمسك عن ذكره»[48].
كما يستحب إعلام المستفتي بمذهب غيره إن كان أهلا للرخصة .
ذكر القاضي أبو الحسين[49] في فروعه في كتاب "الطهارة" عن أحمد : «أنهم جاءوه بفتوى ، فلم تكن على مذهبه. فقال : عليكم بحلقة المدنيين»[50]، ففي هذا دليل على أن المفتي إذا جاءه المستفتي ، ولم يكن عنده رخصة له : أن يدله على مذهب من له فيه رخصة [51].
يقول ابن القيم: «من فقه المفتى ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه، وكانت حاجته تدعوه اليه أن يدله على ما هو عوض له منه، فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح، وهذا لا يتأتى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر الله وعامله بعلمه.
فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الاطباء يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم»[52].
وهذا شأن خلق الرسل وورثتهم من بعدهم، ورأيت شيخنا قدس الله روحه يتحرى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرا فيها، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يشتري صاعًا من التمر الجيد بصاعين من الرديء، ثم دله على الطريق المباح فقال: «لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا»[53] فمنعه من الطريق المحرم وأرشده إلى الطريق المباح»[54].
كانت تلك إضاءات عن الأحكام الوضعية وأثرها في صحة الفتوى، وبها ينتهي المبحث الثاني في هذا الفصل.


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 12-04-2019, 12:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(2-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس


المبحث الثالث:مالا بد منه لتصور الأحكام التكليف

إن الأحكام الشرعية بنوعيها التكليفية والوضعية لابد لتصورها من تحقق شروط التكليف الذي هو: "إلزام مقتضى خطاب الشارع" أي: بالأمر والنهي والإباحة [55].
وشروط التكليف إما شروط عائدة إلى الفعل المكلَّفِ به المحكوم فيه وإما شروط عائدة إلى المكلَّفِ نفسه المحكوم عليه.
فشروط الفعل المكلّف به عائدة إلى القدرة والاستطاعة، وهي:
- أن يكون الفعل معدومًا؛ لأن التكليف بتحصيل الموجود محال؛ لأن الموجود لا يصح التكليف به. كمن صلى الظهر من كل جهاتها فلا يمكنه تحصيلها بعينها.
- أن يكون الفعل معلومًا معروفًا عند المكلَّف؛ ليتصور قصده إليه. فالمأمور بالصلاة يجب أن يعلم أولاً حقيقتها، وكيفية تأديتها؛ وإلا كان أمره بها تكليفًا بما لا يطاق.
- أن يكون الفعل ممكنًا مقدورًا عليه؛ لأنه لا يمكن حصول الفعل المطلوب إلا بأن يكون متصور الوقوع، ولا يتصور وقوع المحال [56].
والتكليف بالمحال أو بما لا يطاق قسمان:
الأول: المستحيل لذاته: كالجمع بين الضدين، فلا يجوز التكليف به إجماعًا، وهو غير واقع في الشريعة لقوله تعالى: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَ وُسْعَهَا} [البقرة: 233].
الثاني: المستحيل لا لذاته؛ بل لتعلق علم الله الأزلي بأنه لا يوجد، وذلك كإيمان أبي لهب، ومثل هذا يجوز التكليف به شرعًا وواقع بإجماع المسلمين [57].
والقدرة والاستطاعة التي تشترط في التكليف هي الشرعية المصحِّحة للفعل وهي مناط الأمر والنهي، وهي التي تتقدم الفعل، كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].
وأما القدرة والاستطاعة القدرية المقترنة بالفعل المحققة له، فهي مناط القضاء والقدر، ولا تشترط في التكليف. وذلك مثل العصاة والكفار، فهم مكلفون بما فرض عليهم ومعاقبون بعدم الامتثال؛ لحصول القدرة والاستطاعة الشرعية لهم [58].
ويشترط للمكلَّفِ نفسه المحكوم عليه شرطان: العقل، وفهم الخطاب، مع ارتفاع الموانع التي تمنع من سلامة العقل، والمخلة بالفهم.
فالصبيّ، والمجنون غير مكلفين إجماعًا، ووجوب الزكاة عليهما كوجوبها على غيرهما، وكذا قيم المتلفات، والجنايات. كل ذلك ليس من باب التكليف، وإنما من باب ربط الأحكام بأسبابها؛ لتعلق الوجوب بالمال، أو بالذمة الإنسانية.
فهذه هي أهلية الوجوب، ولا تعرض لها عوارض تمنعها؛ لأنها من خطاب الوضع، ولا يشترط فيه التكليف. وأما أهلية الأداء؛ فهي التي يناط بها التكليف، وقد يعرض للمكلّف بعدها عوارض سماوية ليست بسببه، أو عوارض بفعله أو بفعل آخر تمنع من سلامة العقل أو تخل بفهم الخطاب. فالعوارض السماوية هي: الجنون، والعته، والنسيان، والنوم، والإغماء.
وغير السماوية هي: السفه، والسكر، والجهل، والخطأ، والإكراه، والإغلاق وهو شدة الغضب.
وعوارض أهلية الأداء-بقسميها - لا تمنع كلها أصل الخطاب من حيث الجملة، ولا يلزم من تحقق بعضها إسقاط أهلية الأداء بالكلية؛ ولكن قد يؤثر هذا في صلاحية المتصف بها للإلزام والالتزام [59] وفي مقدار تحمل التبعات.
وبالجملة فهي تختلف بحسب أحوال، واعتبارات، وضوابط. والخلاف جارٍ بين الفقهاء في بعض تفاصيل ذلك.
فالسفيه مثلا يحجر عليه عند الجمهور[60] في التصرفات المالية خلافًا لأبي حنيفة
وزفر [61]. والناسي والمخطئ والنائم الأظهر أن العفو عنهم بمعنى رفع الإثم؛ لأنه مرتب على المقاصد والنيات. والسكر، والإكراه تختلف أحوالهما باعتبارات. . . [62].

وبعد ذكر الأمور التي لابد منها لتصور الأحكام، أبين ما ينبغي للمفتي معرفته في ذلك: حيث يشترط في المفتي أن يكون عالمًا بطرق الأحكام، قال الشيرازي[63] رحمه الله: «وينبغي أن يكون المفتي عارفا بطرق الأحكام، وهي الكتاب والذي يجب أن يعرف من ذاك ما يتعلق بذكر الأحكام والحلال والحرام، دون ما فيه من القصص والأمثال والمواعظ والأخبار، ويحيط بالسنن المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الأحكام، ويعرف الطرق التي يعرف بها ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة من أحكام الخطاب وموارد الكلام، ومصادره من الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمجمل والمفصل، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، ويعرف من اللغة والنحو ما يعرف به مراد الله تعالى، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في خطابهما، ويعرف أحكام أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تقتضيه، ويعرف الناسخ من ذلك من المنسوخ، وأحكام النسخ وما يتعلق به»[64].
وبانتهاء هذا النقل يتم الكلام في باب الأحكام وأهميته للمفتي، وأثره على الفتوى.
أنتقل بعده إلى الفصل الثاني في الأدلة وأثرها في صحة الفتوى.
نشر هذا البحث في العدد 81 من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة.
إعداد الدكتور : عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة أم القرى وإمام الحرم المكي.






[1] هو: أبو علي بدر الدين محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ولد سنة 1173هـ، في بلدة "هجرة شوكان"، مفسر ومحدث وأصولي وفقيه مجتهد، له المؤلفات الجليلة النافعة في أغلب العلوم منها: "نيل الأوطار" و"إرشاد الفحول"، توفي يوم الأربعاء السادس والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1250هـ بصنعاء رحمه الله. ينظر: "البدر الطالع" للشوكاني 2/214، و"التاج المكلل" للصديق خان 305-317.

[2] "إرشاد الفحول" 1/62.

[3] ينظر: "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز الحنفي ص227-228.

[4] ينظر: "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب" لابن السبكي 1/482-484، و"روضة الناظر" لابن قدامة 1/134، مع "نزهة الخاطر العاطر" لابن بدران، و"شرح الكوكب المنير" لابن النجار الفتوحي 1/434-435.

[5] فالاقتضاء طلب الفعل، أو الكف عنه، فإن كان طلبًا باللزوم كان واجبا، وإن كان طلبًا غير ملزم كان مندوبا. والكف عنه إن كان ملزمًا فهو الحرام، وإن كان غير ملزم فهو المكروه. والتخيير موضوعه المباح. ينظر: "مختصر ابن الحاجب مع رفع الحاجب" لابن السبكي 1/482-488.

[6] هكذا عند الجمهور، وعند الحنفية سبعة أقسام بزيادة الفرض، والمكروه تحريمًا. ينظر: "فواتح الرحموت" لابن نظام الدين الأنصاري، و"شرح مسلم الثبوت" لمحب الدين عبد الشكور 1/58.

[7] "مجموع الفتاوى" 22/226، "الفتاوى الكبرى" 2/87.

[8] ينظر خلاف الجمهور والحنفية في: "أصول السرخسي" 1/110، و"كشف الأسرار عن أصول البزدوي" 2/303، و"روضة الناظر" 1/101، و"شرح الكوكب المنير" 1/351.

[9] المعتزلة: أتباعُ واصلِ بن عطاءٍ، الذي اعتزل مجلس الحسنَ البصريَّ ، وقرّر أن الفاسق في منزلة بين منزلتين، لا مؤمنٌ ولا كافرٌ، وهو مخلَّد في النار، ومذهبهم في الصفات التعطيل ، كالجهميّة ، وفي القدر ، كالقدريّة ينكرون تعلق قضاء الله وقدره بأفعال العبد ، وهم فرق شتّى . لهم عقائد فاسدة مخالفة لمنهج السلف -رحمهم الله- ينظر 1/43 من "الملل والنحل" للشهرستاني ، وينظر ص15،93 من "كتاب الفصل" لابن حزم.

[10] ينظر: "البحر المحيط" للزركشي 1/175-178، و"مختصر ابن الحاجب مع رفع الحاجب" لابن السبكي 1/491-492.

[11] ينظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار الفتوحي 1/354-356.

[12] ينظر: المصدر نفسه 1/357-362، و"البحر المحيط" للزركشي 1/223-231، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 20/161، و"جمع الجوامع مع التشنيف" 1/267-279.

[13] ينظر: "شرح المنهاج للبيضاوي" لشمس الدين الأصفهاني 1/86-99 تحقيق/د. عبد الكريم النملة، و"جمع الجوامع" لابن السبكي مع شرحه "تشنيف المسامع" للزركشي 1/243-248، 251، 258، و"البحر المحيط" للزركشي 1/179-222.

[14] خلافا للكرخي، والرازي، والجصّاص من الحنفية،فعندهم أنه غير مأمور به حقيقة، وإن كان يتناوله الأمر مجازًا. ينظر: "أصول السرخسي" 1/33، و"كشف الأسرار عن أصول البزدوي" للبخاري 1/179-181، و"المحصول" 2/299 مع"نفائس الأصول".

[15] ينظر: "المحصول" للرازي 1/83-84 مع "نفائس الأصول" للقرافي، و"جمع الجوامع" 1/100 مع "البدر الطالع" لجلال الدين المحلي، و"شرح الكوكب المنير" 1/403-405.

[16] ينظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 18/65، وما بعدها، و"الاعتصام" للشاطبي 1/163-167، و"صحيح الترغيب والترهيب" للألباني 1/65-66، 47-48 وذكر رحمه الله أن المقولة الشائعة المعروفة بين جمهور أهل العلم وطلابه ـ من أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، ويعتبرون ذلك قاعدة علمية لا جدال فيها عندهم ـ غير مسلمة على إطلاقها عند المحققين من العلماء. المصدر نفسه 1/47.

[17] وعند أبي حنيفة يجب المندوب مطلقًا بالشروع؛ لقوله تعالى: ]وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ[ [محمد: من الآية33]. ينظر: "المغني في أصول الفقه" للخبازي ص85، و"جمع الجوامع" 1/101-102 مع "البدر الطالع" للمحلي، و"البحر المحيط" 1/289-290، و"شرح الكوكب المنير" 1/407-412.

[18] ينظر: "المحصول" 1/82 مع "نفائس الأصول" للقرافي، و"شرح الكوكب المنير" 1/386-387، و"بدائع الفوائد" لابن القيم 4/3-4، و"إرشاد الفحول" 1/59.

[19] ينظر: "الإحكام" للآمدي 1/122، و"مختصر ابن الحاجب" 1/562-563 مع "رفع الحاجب"، و"جمع الجوامع" 1/95-96 مع "البدر الطالع" لجلال الدين المحلي، و"شرح الكوكب المنير" 1/413-421.

[20] "شرح الكوكب المنير" 1/422، وينظر: " نفائس الأصول شرح المحصول" 1/83.

[21] هو: الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، الشهير بالشاطبي، النظار الأصولي، المفسر الفقيه، من أئمة المالكية، توفي سنة790هـ، له تآليف نفيسة، من أهمها:"الموافقات في أصول الفقه"، و"الاعتصام". ينظر:"نيل الابتهاج على هامش الديباج"ص 46-50، و"الأعلام" للزركلي 1/75 .

[22] 1/171 تعليق/ أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان.

[23] ينظر: "فواتح الرحموت" 1/113، و"مختصر ابن الحاجب" بشروح عدة 2/222، و"الإحكام" للآمدي 1/64، و"المسودة" ص65.

[24] ينظر: "الإحكام" للآمدي 1/124-125، و"الموافقات" 1/172- 212، و"البحر المحيط" 1/275-283، و"شرح الكوكب المنير" 1/424، 427- 428.

[25] هو: محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي، تقي الدين أبو البقاء، الشهير بابن النجار، ولد في عام 898هـ، فقيه حنبلي وقاض مصري، له "منتهى الإرادات" و"شرح الكوكب المنير"، توفي عام 982هـ رحمه الله. ينظر:"النعت الأكمل" للغزي ص141، و"شذرات الذهب" 10/571، و"الأعلام" 6/6.

[26] "شرح الكوكب المنير" 1/434.

[27] 1/434-435، وينظر: "مختصر ابن الحاجب" 2/11 مع "رفع الحاجب".

[28] ينظر: المصدر نفسه، 1/435-438، وذكر رحمه الله أنه تستثنى قاعدتان يشترط فيهما في الحكم الوضعي العلم والقدرة. الأول: سبب عقوبة كالقصاص، وحد الزنا. الثانية: نقل ملك، كالبيع، والهبة، والوصية، ونحوها. اهـ. بتصريف، وينظر: "روضة الناظر" 137-138 مع "نزهة الخاطر العاطر" لابن بدران.

[29] ينظر: "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب" 2/13-17، و"شرح الكوكب المنير" 1/438-458، و"إرشاد الفحول" 59-61.

[30] المتكلمون هنا: جمهور الأصوليين من المالكية والشافعية والحنابلة.

[31] الفقهاء هنا: هم أصوليو الحنفية حيث إن لهم منهجًا خاصًا في الأصول. ينظر فيهما معًا: "المستصفى" للغزالي 1/94.

[32] ينظر: "مختصر ابن الحاجب" 2/18-20 مع "رفع الحاجب"."شرح الكوكب المنير" 1/465-468. وابن الحاجب ممن يرى أن الصحة والفساد أمران عقليان غير داخلين في الحكم الشرعي. وعقب عليه تاج الدين ابن السبكي بقوله: "والصواب عندنا أن الصحة والبطلان والحكم بهما أمور شرعية". اهـ. من "رفع الحاجب". الموضع نفسه. و"شرح المنهاج للبيضاوي" لشمس الدين الأصفهاني 1/70-72، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص76-77.

[33] "شرح تنقيح الفصول" ص76.

[34] ينظر: "شرح تنقيح الفصول" ص77-78، و"الإحكام" للآمدي 1/131، و"المنهاج للبيضاوي" 1/69، 73-74 مع شرحه للأصفهاني.

[35] ينظر: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص76-77، و"رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب" 2/18-19، "شرح الكوكب المنير" 1/467-468 بتصرف.

[36] وفرق الحنفية في المعاملات بين الفاسد والباطل، فالفاسد: هو المشروع بأصله الممنوع بوصفه، كبيع درهم بدرهمين، فإن العوضين قابلان للبيع؛ ولكن جاء فساد البيع من وصفه بالزيادة. والباطل عندهم: ما لم يشرع بأصله ولا وصفه، كبيع الميتة بالدّم فإنهما غير قابلين للبيع أصلا ووصفا، وكذلك فرق الجمهور بسبب الدليل لا كما عند الحنفية بين الفاسد والباطل في مسائل كثيرة، كالحج، والنكاح، والوكالة، والخلع، والإجارة. وغالب المسائل التي حكموا عليها بالفساد إذا كانت مختلفًا فيها بين العلماء، والتي حكموا عليها بالبطلان إذا كانت مجتمعًا عليها، أو الخلاف فيها شاذ. ينظر: "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب" 2/19-24، و"شرح الكوكب المنير" 1/473-474، و"جمع الجوامع" 1/107 مع "البدر الطالع" لجلال الدين المحلي، و"تشنيف المسامع" للزركشي على "جمع الجوامع" 2/185-186، و"البحر المحيط" للزركشي 1/321-324، و"الفروق" للقرافي 2/82، و"القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللحام ص111-112.

[37] "الموافقات" 1/464-467.

[38] المصدر نفسه.

[39] 1/478-479، وينظر: "مختصر ابن الحاجب" 2/25-26 مع "رفع الحاجب"، و"جمع الجوامع" 1/113-114 مع "البدر الطالع" لجلال الدين المحلي.

[40] ينظر: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص85-87، و"مختصر ابن الحاجب" 2/25-31 مع "رفع الحاجب" لابن السبكي، و"شرح الكوكب المنير" 1/479-480.

[41] أخرجه البخاري في باب "من شكا إمامه إذا طول" برقم 673.

[42] أخرجه البخاري في باب "تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود" برقم 670.

[43] أخرجه البخاري في باب "القصد والمداومة على العمل" برقم 6098.

[44] أخرجه البخاري في باب "صوم شعبان" برقم 1869، ومسلم في باب "فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره" برقم 215.

[45] أخرجه البخاري في باب "أحب الدين إلى الله أدومه" برقم 43، ومسلم في باب "صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان واستحباب أن لا يخلى شهرا عن صوم" برقم 177.

[46] " الموافقات" 4/258-260.

[47] هو: الإمام منصور بن محمد بن عبدالجبار بن أحمد بن محمد بن جعفر بن أحمد بن عبدالجبار بن الفضل بن الربيع بن مسلم التميمي المروزي السمعان*ي ، ولد في مدينة مرو الشاهجان سنة 426هـ، ومن مصنفاته: "التفسير" و"القواطع في أصول الفقه"، و"الرد على القدرية" وغيرها، توفي سنة 489هـ. ينظر ترج*مته في: "الأنساب" 3/299؛ و"اللباب" 2/138-139؛ و"طبقات المفسرين" 2/339-340.

[48] "قواطع الأدلة في الأصول" للسمعاني 3/439.

[49]هو: محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفرّاء، أبو الحسين بن أبي يعلى، ولد في بغداد سنة 451هـ، نشأ في وسط علمي، فوالده القاضي أبو يعلى إمام الحنابلة، كان فقيهًا مناظرًا متشددًا في السنة، من مؤلفاته:"طبقات الحنابلة"، و"المفردات في أصول الفقه"، و"المجموع في الفروع"، توفي رحمه الله مقتولاً عام 526هـ. ينظر:"طبقات الحنابلة" بتحقيق العثيمين 1/13، و"المنتظيم" 10/29، و"سير أعلام النبلاء" 19/602.

[50] ينظر: "المسودة" 1/412، و"روضة الناظر" 1/386.

[51] ينظر: المصادر السابقة، و"شرح الكوكب المنير" 3/103.

[52] أخرجه مسلم في باب "وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول" برقم 1844.

[53] أخرجه البخاري في باب "إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه" برقم 2089.

[54] "إعلام الموقعين عن رب العالمين" 4/491.

[55] ينظر: "روضة الناظر" 1/136 مع "نزهة الخاطر العاطر" لابن بدران، و"شرح الكوكب المنير" 1/483،.

[56] ينظر: "المستصفى" للغزالي 1/65-90، و"روضة الناظر" 1/150-154مع "نزهة الخاطر العاطر"، و"شرح الكوكب المنير" 1/484-494.

[57] ينظر: "الإحكام" للآمدي 1/134 وما بعدها، و"جمع الجوامع" 1/156-158 مع البدر الطالع لجلال الدين المحلي، و"شرح الكوكب المنير" 1/485-490، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 8/295، 301، 479.

[58] ينظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 8/290-291، 372-373، 130، 441، و"شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز الحنفي ص488، 429.

[59] بمعنى أن يكون الشخص صالحًا لأن تلزمه حقوق لغيره، وتثبت له حقوق قِبَلَ غيره، وصالحًا لأن يلتزم بهذه الحقوق ويتحمل التبعات. "أصول الفقه" لمحمد أبو زهرة ص307.

[60] ينظر:"أصول السرخسي" 1/43، و"المغني" لابن قدامة 4/550.

[61] هو: زفر مولى مسلمة بن عبد الملك وهو أبو راشد بن زفر زفر بن الهذيل العنبري الفقيه صاحب أبي حنيفة . مولده سنة ست عشرة ووفاته سنة ثمان وخمسين ومائة . روى عن الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد وابن إسحاق وحجاج بن أرطاة وأبي حنيفة وجماعة . ومات كهلاً. ينظر: "الوافي في الوفيات" 1/1979.

[62] ينظر فيما يشترط للمكلّف وفي أهلية الوجوب والأداء وعوارض أهلية الأداء: "أصول السرخسي" 2/305-323 تحقيق/ د: رفيق العجم، و"كشف الأسرار عن أصول البزدوي" للبخاري 4/324-569، و"المستصفى" للغزالي 1/83 وما بعدها، و"الإحكام" للآمدي 1/49 وما بعدها، و"البحر المحيط" 1/349-367، 434-438، و"شرح الكوكب المنير" 1/499-514، و"أصول الفقه" للشيخ محمد أبو زهرة ص294-341.

[63] هو: إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبدالله، أبوإسحاق جمال الدين، الفقيه الشافعي، الأصولي المؤرخ الأديب، ولد سنة 393هـ، وتوفي سنة 476هـ. من مصنفاته: "التبصرة في أصول الفقه"، و"اللمع وشرحه". ينظر:"وفيات الأعيان" 1/29، و"طبقات الشافعية الكبرى" 3/88.

[64] "اللمع" 1/350.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 12-04-2019, 12:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(3-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس

الفصل الثاني


الأدلة وأثرها في صحة الفتوى

ويشتمل على تمهيد، وخمسة مباحث:


التمهيد: ويشتمل على مطلبين:

المطلب الأول : مراعاة ما فهمه السلف الصالح من أجل أن تؤثر "أدلة الفقه" في صحة الفتوى .

المطلب الثاني: اعتبار العلاقة الجدلية بين النص والمقصد .

المبحث الأول: الكتاب القرآن.


المبحث الثاني : السنة.


المبحث الثالث: الإجماع.


المبحث الرابع: القياس.


المبحث الخامس: الاستدلال وأثره في صحة الفتوى :

وفيه تمهيد وخمسة مطالب:

المطلب الأول: الاستدلال بالاستصحاب.

المطلب الثاني: الاستدلال بالمصلحة المرسلة.

المطلب الثالث: الاستدلال بالاستحسان.

المطلب الرابع: الاستدلال بسد الذرائع وبإبطال الحيل.

المطلب الخامس: الاستدلال بالعرف والعادة.

التمهيد:


ويشتمل على مطلبين:

المطلب الأول: مراعاة ما فهمه السلف الصالح من أجل أن تؤثر "أدلة الفقه" في صحة الفتوى:


ويُعنى بالسلف الصالح : القرون المفضلة الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان، واللفظ للبخاري من حديث عمران بن حصين[1] رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين، أو ثلاثة [2].

قال الحافظ ابن حجر[3] في "الفتح" عند شرحه هذا الحديث: «واتفقوا على أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين. وفي هذا الموقف ظهرت البدع ظهورًا فاشيًا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرًا شديدًا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن» اهـ [4].

وإن مراعاة ما فهمه السلف الصالح في الأصول والثوابت - وفي مقدمتهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم - لهو السياج المنيع من تحريف معاني نصوص الكتاب والسنة، وإخراجها عن دلالاتها السليمة الصحيحة بأنواع من التأويل الفاسد، وطرق الفهم المنحرفة عن الجادّة الصحيحة.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن الكلام في أصول الفقه وتقسيم أدلته إلى: الكتاب، والسنة، والإجماع، واجتهاد الرأي، والكلام في وجه دلالة الأدلة على الأحكام أمر معروف من زمن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، ومن بعدهم من أئمة المسلمين. وهم كانوا أقعد بهذا الفن وغيره من فنون العلم الدينية ممن بعدهم... »[5].

وأصل الاستدلال وعماده عند السلف الصالح والأئمة المحققين المجددين، وجوب اتباع الدليل. وأصل الأدلة كلها كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فمن عرف قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعرف مراد الألفاظ، ودلالاتها التي استعملها الشارع وفهمها السلف الصالح، فهو أحرى بأن يحكم مسائل الأصول، وقواعده على الوجه السليم الذي به تصح الفتوى.

ومما هو بسبيل هذا أن يُعنى هنا بتقرير أن الحجة في الحديث المقبول دون المردود.

ولعلك ترى أن هذه المسألة لها أثر كبير، وخطر عظيم في استنباط الأحكام من السنة النبوية التي هي ثاني أدلة الفقه الإجمالية؛ لأنه إذا لم يكن الحديث مقبولاً سقط كل ما بني عليه من الأحكام، وما ظنك بفتاوى مستندة إلى أخبار مردودة!![6]

وإذا تقرر هذا؛ فإن أمر التصحيح والتضعيف موكول إلى المحدثين دون غيرهم، وإلا أهدر عملهم الذي بذلوا فيه مهجهم، وأفنوا فيه أعمارهم. . . [7].

وقد صرح بهذا الإمام أبو المظفر السمعاني [8] - وهو من الأئمة في أصول الفقه - حيث قال: «واعلم أن عندنا الخبر الصحيح ما حكم أهل الحديث بصحته... ورب خبر اشتهر عند الفقهاء وأهل الحديث لا يحكمون بصحته... ورب خبر كان غريبًا عند الفقهاء وقد حكم أهل الصنعة بصحته... »[9].

ولا يرد على ما قيل في مراعاة ما فهمهُ السلف الصالح اختلاف الصحابة ومن بعدهم من المجتهدين؛ فإنه اختلاف في اجتهاداتهم، واستنباطاتهم، واختلاف في المآخذ وفي الفهوم... [10].

وآراء التابعين المخالفة لقول أحد الصحابة كثيرة معلومة مشهورة، وهذا لا يتنافى مع اتباعهم للصحابة، وسلوك مسلكهم ومنهجهم ومراعاة ما فهموه [11].

المطلب الثاني: اعتبار العلاقة الجدلية بين النص والمقصد:


إن النصوص الشرعية في الأصل متضمنة للمقاصد الشرعية المرادة منها من حيث تعليل الأحكام، والحكم، والأسباب، والغايات، واعتبار المآلات.

قال الإمام الشاطبي في هذا السياق: «وإذا دلّ الاستقراء على هذا... فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة. ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد... »[12].

ولا يخفاك إن القول بنفي تعليل الأحكام تعليلاً أصوليا فقهيا - لا على غرار التعليل الفلسفي الكلامي، ولا غرار المقولات والإلزامات الاعتزالية - قولٌ سقيم، وقد دلّ الاستقراء على اطراحه، وعدم الاتكاء عليه[13].

هذا، وإن مقتضى الاجتهاد، ومقتضى النظر الصحيح للنصوص والمقاصد من أجل عدم تناقضها عند الفتوى؛ يقتضي «اعتبار خصوص الجزئيات الأدلة الشرعية التفصيلية وما أخذ عنها من القواعد مع اعتبار كلياتها وبالعكس، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق، وإليه ينتهي طَلَقُهم[14] في مرامي الاجتهاد»[15].

فالذي يقتصر في الفتوى على مجرد ما فهمه من دليل جزئي، كآية، أو حديث، أو قياس، أو مصلحة مرسلة، أو استحسان، فهو مقصر، كالذي يقتصر في الفتوى وفق المقاصد فحسب، دون رجوع للأدلة الجزئية في كل مسألة.

وقليل من النظر هنا يفضح دعاوى بعض من لا علم له بطبيعة العلاقة بين النصوص والمقاصد، ويخرج بفتاوى غير منضبطة بالضوابط الأصولية!!

ومن الأمثلة على ذلك: - ما طار به البعض من النظر إلى الدليل الخاص في مسألة قيادة المرأة للسيارة، حيث لا يمنعها من ذلك دليل معيَّن، وأن الأصل في المسألة الحل. في حين أن الفتوى بمنعها[16] من قيادة السيارة، قد ضم إلى هذا الأصل اعتبار كلية ومقصد شرعي في حفظ الأعراض وسدّ ذرائع الفساد، كما لا يخفى.

لذا؛ فإن من المهم جدًا أن نفهم طبيعة العلاقة بين النص والمقاصد المختزنة في مضمونه؛ لأن إساءة فهم هذه المسألة كثيرًا ما تسبب اضطرابًا في التصورات والنتائج، وتجر إلى أنواع من الشطط، والانحراف، والمبالغة، إما في الاعتداد بالمصالح والمقاصد حتى لا تبقى أدنى حرمة وظيفية للنصوص الشرعية، وإما في إهدار تلك المقاصد إمعانًا في التمسك بظواهر النصوص [17].

فيجب الحذر كل الحذر من الشطط في التعويل على المقاصد، بحيث تخرج من أحكام الشريعة، ونصوصها، ورسومها.

وأين صنيع الإمام الشاطبي - إمام المقاصديين - ممن يريدون أن يقلبوا الشريعة رأسًا على عقب بحجة الاستناد إلى المقاصد؟ وأن المقصود ليس هو هيئة العبادة، وإنما العبرة بروح الشريعة ومقصودها؛ ليحلوا حراما، ويحرموا حلالا؛ وللتحلل من أحكام الشريعة... [18].

وإليك - أخي القارئ الكريم - أنواع الأدلة التي ينبغي على المفتي معرفتها في الجملة:

قال الإمام الغزالي رحمه الله: «الأدلة ثلاثة: عقلية تدل لذاتها، وشرعية صارت أدلة بوضع الشرع، ووضعية، وهي العبارات اللغوية، ويحصل تمام المعرفة فيه بما ذكرناه في مقدمة الأصول من مدارك العقول لا بأقل منه، فإن من لم يعرف شروط الأدلة لم يعرف حقيقة الحكم ولا حقيقة الشرع ولم يعرف مقدمة الشارع ولا عرف من أرسل الشارع، ثم قالوا: لا بد أن يعرف حدوث العالم وافتقاره إلى محدث موصوف بما يجب، له من الصفات منزه عما يستحيل عليه، وأنه متعبد عباده ببعثة الرسل، وتصديقهم بالمعجزات، وليكن عارفا بصدق الرسول والنظر في معجزته، والتخفيف في هذا عندي أن القدر الواجب من هذه الجملة اعتقاد جازم، إذ به يصير مسلما، والإسلام شرط المفتي لا محالة، فأما معرفته بطرق الكلام والأدلة المحررة على عادتهم فليس بشرط إذ لم يكن في الصحابة والتابعين من يحسن صنعة الكلام»[19].

ومما يؤكد أهمية معرفة الأدلة، ما يراه الناظر في قنوات الفتوى وساحات المفتين، ومن تقصير بعضهم في معرفة الأدلة، بل إنك لواجدٌ من لا يتقن آيات الأحكام، ومن يكثر الخطأ في كتاب الله، فضلاً عن الفهم عن الله سبحانه، وقل مثل ذلك في السنة، روايةً ودراية، فما الظن بفتوىً تُعدّ توقيعًا عن رب العالمين، وهي مبنية على حديث لا يصح، وكذلك في الإجماع، والناس فيه بين طرفين ووسط: إما من يخالفه بفتاوى شاذة تخالف الإجماع، فيقع في التفريط، أو من يجزم بحكاية الإجماع على مسائل خلافية فيقع في الإفراط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، أما في مجال الأقيسة فحدّث ولا حرج، عن أقيسة تورد بلا زمام ولا خطام، إن تحقق أصلها وفرعها فلا تتحقق علّتها؛ لوجود أحد قوادح العلة المعروفة [20]، وهلم جرا.

وفي مجال الاستدلال ترى الخلط في باب المصالح بين المعتبرة والملغاة، والضرورة والحاجة، والذرائع بين سدها وفتحها، والعرف والعادة بين الغلو فيها أو اطراحها، والاستحسانات بين النص والهوى، ونحو ذلك مما يجعل الإلمام بهذه الأدلة ومسائلها وتنزيلها على أفعال المكلفين أمرًا لا غنى للمفتي عنه حتى تقع فتواه موقعها الصحيح.

وهذه نبذة يسيرة عن الأدلة المهمة في مقام الفتوى أوردها مفصلةً، وأبدؤها بأصلها وهو الكتاب الكريم:

المبحث الأول: الكتاب القرآن


إن الكتاب متى أطلق في عرف أهل الشرع هكذا معرفا؛ فالمراد به القرآن الكريم. وعليه؛ فالألف واللام فيه للغلبة.

قال ابن قدامة رحمه الله [21] : "وكتاب الله سبحانه هو كلامه، وهو القرآن الذي نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم... وهو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلا متواترًا. وقيدناه بالمصاحف؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم بالغوا في نقله وتجريده عما سواه حتى كرهوا التعاشير، والنقط كيلا يختلط بغيره فنعلم أن المكتوب في المصحف هو القرآن وما خرج منه فليس منه" [22].

وتواتر القرآن الكريم ليس كأيِّ تواتر..!! إنه تواتر في الصدور وفي السطور [23]... تواتر يتجدد بتجدد القرون، والعصور، والأجيال.

وهو - القرآن الكريم - كلام الله حقيقة، ليس بمخلوق [24] "منه بدأ وإليه يعود" [25]. فهو - كما يقول الإمام الشاطبي -: "كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار، والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه.وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة " [26].

ومالم يتواتر فهو قراءة شاذة [27] عند الأصوليين.

واختلف في الاحتجاج بها في الأحكام، وتنزيلها منزلة خبر الواحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا على أنها قرآن؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، كقراءة ابن مسعود رضي الله عنه في صيام المتمتع: "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات"بزيادة "متتابعات"، وهذه المسألة اجتهادية مبسوطة في مظانها [28].

ومما لاشك فيه أن كتاب الله تعالى هو الأصل للأدلة كلها.

لذا فإنه يشترط في المفتي أن يكون عالمًا بالقرآن، فإنه أصل الأحكام، ومنبع تفاصيل الإسلام، ولا ينبغي أن يقنع فيه بما يفهمه من لغته، فإن معظم التفاسير يعتمد النقل، وليس له أن يعتمد في نقله على الكتب والتصانيف، فينبغي أن يحصل لنفسه علما بحقيقته، وكذا معرفة الناسخ والمنسوخ فإنه أمر لابد منه للمفتي حتى لا يفتي بحكم منسوخ، وعلم الأصول أصل في هذا الباب، حتى لا يقدم مؤخرًا ولا يؤخر مقدمًا، ويستبين مراتب الأدلة والحجج[29].

يقول الإمام الشافعي رحمه الله: " لا يحل لأحد يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشعر، وما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي"[30].

وسيأتي بيان جهات دلالات آيات الكتاب، وكذا السنة ومقتضيات ألفاظهما وطرق دلالاتهما على الأحكام في الفصل الثالث: "الدلالات وأثرها في صحة الفتوى".

وبعد تمام القول في الدليل الأول، فهذا أوان الشروع في الدليل الثاني وهو السنة.

المبحث الثاني: السنة


وتعريفها عند الأصوليين أنها: "قول النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن،وفعله، وإقراره،وزاد الشافعية وهمه" صلى الله عليه وسلم.[31]

والسنة النبوية هي الأصل الثاني للتشريع، والعمل بكتاب الله متوقف عليها؛ لأنها بيان وتفسيرٌ له. وعلى هذا يدل كلام بعض الأئمة، كقول الأوزاعي[32] :" الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب "، وكقول يحيى ابن أبي كثير[33] :"السنة قاضية على الكتاب، ليس الكتاب بقاض على السنة" لكن الإمام أحمد لما سئل عن هذا كرهه، وقال: "ما أجسُرُ على هذا أن أقوله، ولكن السنة تفسر الكتاب، وتبينه" [34]، والكتاب والسنة أصل واحد باعتبار أنهما وحي من الله، وباعتبار الحجية، ووجوب الاتباع "إذ هما ملاك الدين وقوام الإسلام" [35].

ولتوقف حجية السنة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وقع الاتفاق على عصمته صلى الله عليه وسلم بعد النبوة مطلقًا فيما دلت عليه المعجزة، وفي دعوى الرسالة، وفي أمر التبليغ عن الله تعالى، وفي الأحكام والفتوى، ولو في حال الغضب، بل يستدل على شدة غضبه صلى الله عليه وسلم على التحريم، وفي الكبائر والصغائر المزرية[36]. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر: 7، وقال صلى الله عليه وسلم: » ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه«[37]، وقال: »وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله«[38].

والأحاديث في هذا المعنى معلومة مشهورة [39]. وهي بيان لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ~ إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى} النجم: 3-4. قال العلامة صديق القنوجي البخاري[40] :"والآية - يعني آية النجم هذه - دليل كون السنة المطهرة وحيًا يوحى" [41].

وتنقسم السنة باعتبارات:

أولاً: باعتبار ذاتها إلى قولية، وفعلية، وتقريرية [42].

ثانيًا: باعتبار منزلتها من القرآن الكريم تنقسم إلى:

أ – السنة المؤكدة المقررة لما في القرآن الكريم كوجوب الصلاة، فإنه ثابت بالكتاب والسنة[43].

ب – السنة المبيِّنة المفسرة لما في القرآن الكريم، من حيث بيان مجمله، وتخصيص عمومه، وتقييد مطلقه، ومن حيث نسخه؛ لأن النسخ من أوجه البيان؛ لكونه بيان انتهاء مدة الحكم.

ومن الأصوليين من يسمى النسخ بيان التبديل [44].

ج – السنة الاستقلالية، أي الزائدة على ما في القرآن الكريم، وهي التي تكون موجبة لحكم لم يأت إيجابه في القرآن أو محرِّمة لما لم يأت تحريمه في القرآن، كأحكام الشفعة، وميراث الجدة [45]، وفي هذا يقول الشافعي رحمه الله: "ومنه ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نصّ حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى حكمه. فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبِل" [46].

وقد وقع الاتفاق على إثبات أحكام شرعية بالسنة ليست في كتاب الله. ولا يرد على هذا ما جاء عن الإمام الشافعي في حكايته الخلاف في هذا القسم من السنة [47] فليس مراده رحمه الله وجود خلاف في هذا، بل في مخرجه وتوجيهه، هل هو على الاستقلال بالتشريع، أو بدخوله ضمنا في نصوص القرآن [48]. وبمثل هذه التوجيه الأخير يوجه ما قرره الإمام الشاطبي في "الموافقات" من عدم استقلال السنة بالتشريع حيث قال: "فلا تجد في السنة أمرًا إلا والقرآن قد دلّ على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية... " [49].

ولهذا قال العلماء إن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي في التسمية فقط، لاتفاق الجميع على أن في السنة أحكامًا كثيرة ليست في القرآن الكريم [50].

وعليه؛ فلا يصح حديث في عرض السنة على الكتاب البتة [51]، وكل ما جاء في هذا؛ فضعيف أو منكر أو موضوع مختلف. كما قاله الإمام عبد الرحمن بن مهدي [52] - فيما نقله عنه ابن عبد البر رحمه الله.

وذكر - ابن عبد البر - ما محصله : أن قوما من أهل العلم عرضوا هذا الحديث على كتاب الله، فوجدوه مخالفًا له، إذ في كتاب الله مطلق الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم، والتأسي به، والتحذير من مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم جملة على كل حال... [53].


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 12-04-2019, 12:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(3-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس


ثالثا: وتنقسم السنة باعتبار نقلها ورواتها إلى متواترة وآحاد:

فالسنة المتواترة : هي التي نقلها عدد كثير يستحيل تواطؤهم على الكذب عن مثلهم في جميع طبقات السند، ويكون مستند خبرهم الحس، كمشاهدة، أو سماع، لا لمجرد إدراك العقل. وهذا مفيد للعلم القطعي الضروري بدون حاجة إلى البحث عن أحوال الرواة[54].

والتواتر يكون لفظيا، وهو ما تواتر لفظه ومعناه كحديث «من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوأ مقعده من النار» فإنه نقله جم غفير عن جم غفير إلى منتهاه [55].

ويكون معنويا، وهو ما تواتر معناه دون لفظه، كأحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث في كل منها أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الدعاء [56].

وذكر الشاطبي في مقدمات "الموافقات" ما قال: إنه شبيه بالمتواتر المعنوي: وهو المستقرأ من جملة أدلة ظنية تظافرت على معنى واحدٍ حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق [57].

وما قصر عن التواتر هو الآحاد، ويتنوع إلى مشهور وعزيز وغريب، وعند الحنفية أن المشهور - وهو المستفيض على رأي - نوع متوسط بين المتواتر والآحاد. وهو: ما فقد شرط التواتر في طبقة الصحابة فقط، فهو في أصله آحاد، لكن انتشر، وصار ينقله قوم ثقات لا يتوهم تواطؤهم على الكذب، فصار بذلك بمنزلة المتواتر.

والآحاد بأنواعه منه مقبول. وهو الصحيح لذاته، أو لغيره، والحسن لذاته أو لغيره [58].

قال في جمع الجوامع: "يجب العمل به أي بخبر الآحاد في الفتوى والشهادة إجماعًا، وكذا سائر الأمور الدينية... " واستثنيت في ذلك أمور ومسائل لدى بعض أرباب المذاهب لأسباب اجتهادية يرون الاستدلال بها أقوى، وأحوط[59].

وقد عقد الإمام الشافعي رحمه الله في "الرسالة" بابًا كاملا في حجية الآحاد فقال: "الحجة في تثبيت خبر الواحد". وذكر تحت هذه الترجمة أدلة كثيرة ووقائع على ذلك، من عهده صلى الله عليه وسلم ، وعهد صحابته الكرام، وعهد التابعين لهم. وذكر الإجماع على ذلك من محدثي الناس، وأعلامهم بالأمصار [60].

وإذا وجد المفتي خبر الواحد أفتى به ولو عارضه القياس، وجاء في "غاية الوصول في شرح لب الأصول": «وجب العمل به أي بخبر الواحد في الفتوى والشهادة أي ما يفتي به المفتي ويشهد به الشاهد بشرطه، وفي معنى الفتوى الحكم إجماعًا.وفي باقي الأمور الدينية والدنيوية في الأصح وإن عارضه قياس»[61].

وقال الشوكاني رحمه الله : "وعلى الجملة فلم يأت من خالف في العمل بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به، ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم، وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة، وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال؛ فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحدٍ من ريبة في الصحة، أو تهمة للراوي، أو وجود معارض راجح، أو نحو ذلك" [62].

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ما مفاده: أن أحدًا من الأئمة لم يجوز إثبات حكم شرعي كاستحباب، أو كراهة بحديث ضعيف. وإنما غاية ما يقوله العلماء في الأخذ بالحديث الضعيف أن يكون العمل بمقتضاه مما قد ثبت أنه مما يحبه الله، أو مما يكرهه بنص أو إجماع. بمعنى أن النفس ترجوا ذلك الثواب، أو تخاف ذلك العقاب، كالترغيب والترهيب بالمنامات، وكلمات السلف والعلماء.. ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي، كتقييد المطلقات التي أطلقها الشارع بنوع من التقدير والتحديد؛ لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي مقبول[63].

ولا يرد على هذا اختلاف أنظار المجتهدين في نفس التصحيح والتحسين والتضعيف، فهو شيء آخر؛ لأنه من موارد الاجتهاد، كما قال الحافظ الذهبي[64] رحمه الله : "ثم لا تطمع بأن للحسن قاعدةً تندرج كل الأحاديث الحسان فيها، فأنا على إياس من ذلك. فكم من حديث تردد فيه الحفاظ، هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح؟ بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد. وهذا حق... إذ الحسن لا ينفك عن ضعف ما، ولو انفك عن ذلك لصح باتفاق"[65].

ولا شك أن القول بالعمل بالأحاديث الضعيفة في الفضائل ونحوها قد يترتب عليه ترك البحث عن الأحاديث المقبولة لدى كثيرٍ من المنتسبين إلى العلم، بله العامة، والاكتفاء بالأحاديث الضعيفة بدعوى أن في العمل بها مندوحة. وفي هذا مخالفة صريحة للأحاديث الصحيحة التي تحذر من التحديث إلا بعد التثبت والتحري.

لذا؛ فإن كثيرًا من المحققين يرون أنه لا يصح العمل بالحديث الضعيف، إلا في مجال التراجيح لأحد المعاني [66].

ومن مجموع ما سبق، يتبين ما يجب معرفته في مقام الفتوى من مسائل السنة، وأهمية معرفة الرواية والدراية للمفتي، قال الإمام الغزالي رحمه الله: " يتوجب على المفتي فيما يخص السنة أن يكون على معرفة بالرواية، وتمييز الصحيح منها عن الفاسد، والمقبول عن المردود، فإن ما لا ينقله العدل عن العدل فلا حجة فيه والتخفيف فيه أن كل حديث يفتى به مما قبلته الأمة فلا حاجة به إلى النظر في إسناده، وإن خالفه بعض العلماء، فينبغي أن يعرف رواته وعدالتهم، فإن كانوا مشهورين عنده، كما يرويه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثلا اعتمد عليه، فهؤلاء قد تواتر عند الناس عدالتهم وأحوالهم، والعدالة إنما تعرف بالخبرة والمشاهدة أو بتواتر الخبر، فما نزل عنه فهو تقليد، وذلك بأن يقلد البخاري ومسلما في أخبار الصحيحين، وإنهما ما رووها إلا عمن عرفوا عدالته، فهذا مجرد تقليد، وإنما يزول التقليد بأن يعرف أحوال الرواة بتسامع أحوالهم وسيرهم، ثم ينظر في سيرهم أنها تقتضي العدالة أم لا، وذلك طويل وهو في زماننا مع كثرة الوسائط عسير، والتخفيف فيه أن يكتفي بتعديل الإمام العدل بعد أن عرفنا أن مذهبه في التعديل مذهب صحيح، فإن المذاهب مختلفة فيما يعدل به ويجرح، فإن من مات قبلنا بزمان امتنعت الخبرة والمشاهدة في حقه، ولو شرط أن تتواتر سيرته فذلك لا يصادف إلا في الأئمة المشهورين، فيقلد في معرفة سيرته عدلا فيما يخبر، فنقلده في تعديله بعد أن عرفنا صحة مذهبه في التعديل، فإن جوزنا للمفتي الاعتماد على الكتب الصحيحة التي ارتضى الأئمة رواتها قصر الطريق على المفتي، وإلا طال الأمر وعسر الخطب في هذا الزمان مع كثرة الوسائط، ولا يزال الأمر يزداد شدة بتعاقب الأعصار"[67].

المبحث الثالث: الإجماع


وعرفه الأصوليون بتعريفات لعل أشهرها أنه: "اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، في عصر من الأعصار، على أمر من الأمور" [68].

وقد اتفقوا على أن الأمة لا تجتمع على حكم أو على أمر إلا عن مأخذ ومستند يوجب الاجتماع [69].

وقد دلّ الكتاب والسنة على أن الإجماع حجةٌ يجب اتباعها والمصير إليها، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} النساء: 115 وهي أقوى الأدلة من الكتاب [70].

وقال أبو المظفر السمعاني: "والاستدلال بهذه الآية أي على حجية الإجماع في نهاية الاعتماد، وقد احتج الشافعي رحمه الله عليه بهذه الآية" [71].

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب: "من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة" [72]. واستدل به الإمام الشافعي على حجية الإجماع [73].

وقوله صلى الله عليه وسلم:" إن أمتي لا تجتمع على ضلالة" [74].

وقد روى هذا المعنى جمع من الصحابة بألفاظ متعددة مع أن طرقها كلها لا تخلو من نظر [75] ولمعنى هذا الحديث شواهد في الصحيحين وفي غيرهما "من الأحاديث التي لا تحصى كثرة، ولم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة معمولاً بها، ولم ينكرها منكر، ولا دفعها دافع" [76].

واتفق على أنه لابد أن يستند الإجماع إلى نص من كتاب أو سنة، واختلف في استناده إلى اجتهاد أو قياس، وجوزه الأكثرون؛ لإجماع الصحابة على خلافة أبي بكر الصديق من طريق الاجتهاد، وإجماعهم على تحريم شحم الخنزير قياسًا على لحمه [77]، ولعل هذا من قبيل الخلاف اللفظي؛ لأن جميع المسائل المجمع عليها من هذا القبيل يمكن استنادها إلى النصوص العامة فتكون من قبيل المنصوص عليه. كما يقرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: "فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس... وقد استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وقد لا يعلم كثير من العلماء أنها منصوصة...كالمضار� �ة فإن مستندها السنة التقريرية" اهـ بتصرف [78].

وأما عن وقوع الإجماع، فقد وقع الاتفاق عليه في عصر الصحابة [79]، وتنوزع في إجماع من بعدهم[80].

والذي تدل عليه الروايات عن الإمام أحمد بلا خلاف أنه يأخذ بإجماع الصحابة عند اتفاقهم، ولا يخرج عن أقوالهم عند اختلافهم. وفي اعتباره إجماع التابعين والاعتداد به خلاف مشهور. وعلى هذا حمل بعضهم قوله المشهور:"من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا. "[81].

وقصارى القول هنا: أنه لم يتفق العلماء ولم يجمعوا على وقوع إجماع كلي عام قطعي إلا إجماع الصحابة، فإن إجماعهم ثبت وقوعه بالتواتر.فلم تكن ثَمَّتَ عوائق، ولا موانع تمنعه، ولم يتعذر الاطلاع عليه. أما بعد عصر الصحابة فمن العسير القطع بوقوع الإجماع الكلي العام القطعي، وأقصى ما يستطاع قوله أن أحكامًا اجتهادية اشتهرت، ولم يعرف لها مخالف... [82].

ولا نزاع بين العلماء في وقوع الإجماع القطعي على ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالإجماع على وجوب الصلوات الخمس، وعلى بقية أركان الإسلام، وكالإجماع على حرمة الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والربا، وللإجماعات التي من هذا القبيل مراتب وأنواع معلومة مشهورة وهي حجة مقطوع بها لا ينازع فيها منازع [83].

ومما يجري مجرى هذا إجماع أهل المدينة فيما سبيله النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم كنقلهم لمقدار الصاع، والمدّ. فهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية حجة بالاتفاق؛ ولهذا رجع أبو يوسف [84] إلى مالك فيه، وقال: لو رأى صاحبي أي أبو حنيفة كما رأيت لرجع كما رجعت. ورجع إليه في الخضروات لما قال له: هذه مباقيل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر... [85].

وإذا تقرر هذا؛ فيجب التأكد من صحة حكاية الإجماعات، والتفريق بين ما هو منها كلي عام مطلق مقطوع به يجب المصير إليه بلا خلاف، وبين ما هو منها ظني سكوتي، أو مذهبي، أو إضافي، أو إقليمي. هذا أمر في غاية الأهمية...!! [86]

ومما هو بسبيل هذا قول بعض الأئمة "لا أعلم خلافا بين أهل العلم في كذا"، كقول الإمام الشافعي في زكاة البقر: "لا أعلم خلافا في أنه ليس في أقل من ثلاثين منها تبيع" والخلاف في ذلك مشهور [87].

وبعد ذكر أهم مسائل الإجماع، أذكر أهمية معرفته في مقام الفتوى، إذ يتوجب على المفتي أن يعرف ما أجمع عليه العلماء، ولا يفتي بخلافه، قال الإمام الغزالي رحمه الله: "ينبغي أن تتميز عنده مواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلاف الإجماع، كما يلزمه معرفة النصوص حتى لا يفتي بخلافها، والتخفيف في هذا الأصل أنه لا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف، بل كل مسألة يفتي فيها، فينبغي أن يعلم أن فتواه ليست مخالفًا للإجماع، إما بأن يعلم أنه موافق مذهبًا من مذاهب العلماء أيهم كان، أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض فهذا القدر فيه كفاية"[88].

وإذا كان من العسير القطع بوقوع الإجماع الكلي العام القطعي الذي صوره علماء الأصول بعد عصر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن عدم إمكان وقوعه في هذا العصر - على فرض التسليم بأنه حجة ماضية في كل عصر كما هو عند الجمهور - من باب أولى.

وتصور ذلك تصوّر لحالة نظرية مثالية غير واقعية البتة...!! ما لم تتواص الأمة الإسلامية بالحق وتتعاون على البر والتقوى، وتتناد بالاعتصام بالكتاب والسنة، عقيدة، ومنهجًا، وسلوكًا، وفكرًا...!!؛ لأنه بذلك يُهيَّأ للشورى الجماعية الحرة النزيهة التي عليها يتكئ الإجماع وينبني مناخٌ ملائمٌ للنظر، والتناظر، وتبادل الآراء على الجادّة الصحيحة، سيما في النوازل المدلهمات ذات الصلة بقضايا "الأمة" ومصالحها العامة...

ولاشك أن قرارات المجامع الفقهية المعاصرة، والهيئات واللجان العلمية من قبيل الشورى الجماعية المباركة، وتؤدي دورًا ذا أهمية عظمى في هذا الشأن، وهي أولى بالقبول من الفتاوى الفردية؛ لمعنى الاتفاق الأغلبي عبر الاجتهاد الجماعي فيها. ولا يصح اعتبارها إجماعًا كالذي اصطلح عليه الأصوليون، وإن تكلف ذلك البعض [89].

والذي يتعين قوله هنا ويقلِّل من جدوى تكلف الإجماع واعتسافه في هذا العصر: أن الواجب على جميع المسلمين رد الاعتبار للكتاب والسنة وإثبات صلاحيتهما، واعتقاد وفائهما بجميع الأحكام، والتحاكم إليها مع الرضى والتسليم بذلك، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}النساء: 65.

فلا يوجد مسألة قط مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس. فالشأن كلَّ الشأن في رد الاعتبار إلى سند الإجماع. كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. وهو تحقيق في المسألة نفيس أنيس... [90].

ولهذا فإنه ينبغي على المفتي اعتبار فتوى المجامع الفقهية والاهتمام بها، فضلاً عن الاستئناس بها، وجعلها محور إفتائه في النوازل والمستجدات، والله أعلم.

المبحث الرابع: القياس


وهو في اصطلاح الأصوليين: "حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما"[91]، وعُرِّف بتعريفات أخرى متقاربة [92].

ومحصل جميع هذه التعريفات: أنه لابد للقياس الذي هو رابع الأدلة المتفق عليها من أركان أربعة يتألف منها، وهي: أصل، وفرع، وعلة، وحكم [93].

فالركن الأول الأصل: والراجح فيه أنه محل حكم النص، كالخمر والبر، كما قال الآمدي رحمه الله : "والأشبه أن يكون الأصل هو المحل، على ما قاله الفقهاء؛ لافتقار الحكم والنص إليه ضرورة من غير عكس، فإن المحل غير مفتقر إلى النص ولا إلى الحكم" [94].

والركن الثاني الفرع: والمرجَّح قول الفقهاء إنه: المحلّ المشبَّه. فالنبيذ بعينه فرع في إلحاقه بالخمر [95].

والركن الثالث العلة: "وهي الوصف، أو المعنى الجامع المشترك بين الأصل والفرع الذي باعتباره صحت تعدية الحكم" [96].

وللعلة مسالك وهي: الأدلة أو الطرق التي تدل على أن الوصف المعيَّن علّة للحكم المعيَّن، وهي:

النص، والإجماع، والإيماء، والسبر والتقسيم، والمناسبة، والشبه، والدوران، والطرد، وتنقيح المناط، وإلغاء الفارق، ونحوها [97].

والركن الرابع حكم الأصل: وهو الحكم المقصود حمل الفرع عليه، وعُرف بأنه: "قضاء الشرع المستفاد من خطابه، أو إخباره الوضعي بوجوب، أو ندب، أو كراهة، أو حظر، أو إباحة، أو صحة، أو فساد، أو غير ذلك من أنواع قضائه" [98].

وتكتنف كلَّ واحد من هذه الأركان الأربعة شروطٌ ذكرها الأصوليون [99].

ولعلك ترى – أخي القارئ اللبيب – أن في اعتبار هذه الشروط وتحققها صونا وحمايةً لصورة القياس الشرعي الصحيح، الذي يهدي إليه اعتبار أولي الأبصار، واستدلال المستدل، وفكرة المجتهد المستنبط. . .

ويدل هذا على أن معقولات النصوص ومستنبطاتها إن كانت صحيحة صريحة فهي والمنقولات الصحيحة الصريحة على جادّة تشريعية أصلية... ذلك؛ لأن الشريعة جاءت بالجمع بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات، وكذلك القياس الشرعي الصحيح، فإنه تسوية بين المتماثلين، وتفريق بين المختلفين، ودلالته توافق دلالة النص، وكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد لا يخلو من قوادح؛ ولأن النصوص الشرعية - بمعقولاتها وعللها، ومقاصدها، وغاياتها، وحكمها، وأسرارها - دالة على جمهور الحوادث، وعلى النوازل المستجدات بمقتضى شمول الشريعة وإحاطتها بأفعال المكلفين، وصلاحيتها لكل زمان ومكان [100].

وهذا القياس الشرعي حجة عند الجمهور، وعُدَّ عندهم رابع الأدلة الشرعية المتفق عليها [101].

قال الغزالي رحمه الله: "والذي ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم، وجماهير الفقهاء، والمتكلمين بعدهم ـ رحمهم الله ـ وقوع التعبد به شرعًا... ".

وذكر أن تواتر إجماع الصحابة على الحكم بالقياس والتعبد به ناشئ "عن مستندات كثيرة خارجة عن الحصر، وعن دلالات، وقرائن أحوال، وتكريرات، وتنبيهات تفيد علمًا ضروريًا بالتعبد بالقياس، وربط الحكم بما غلب على الظن كونه مناطًا للحكم... إلى أن قال: فيكفينا مؤنة البحث عن المستند لما علمناه على التواتر من إجماعهم" [102].

والأدلة على القياس كثيرة [103]، فمن القرآن قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} الحشر: 2.

وأما في السنة، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى القياس في مواطن، وعلل الأحكام، وبين الأوصاف المؤثرة فيها.

من ذلك: حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: هششت يومًا فقبلت وأنا صائم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمرًا عظيما، فقبلت وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو تمضمضت بماءٍ وأنت صائم" قلت لا بأس بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ففيم؟" [104].

ومنها حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخل عليّ قائف، والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد، وأسامة ابن زيد، وزيد بن حارثة مضطجعان، فقال: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض"، قال: فسرّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأعجبه، فأخبر به عائشة. اهـ[105].

ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمِّي نذرت أن تحج، فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟" قالت: نعم، قال: "فاقضوا الله الذي له، فإن الله أحق بالوفاء" [106].

ولا يخفى أن إنكار القياس الشرعي الصحيح الذي ذكر الأصوليون أركانه، وما يشترط لكل ركن، وذكروا قوادحه والاعتراضات عليه مكابرة يقع في مخالفتها أصحابها، ولعلهم أرادوا القياس الفاسد والرأي المذموم [107].

وثمت مسائل اختلف فيها هل هي من باب القياس، أو من باب دلالة الألفاظ؟ مع اتفاق الجميع على العمل بها، والخطب فيها يسير إذا روعيت الحقائق، كالعلة المنصوصة، قال الشوكاني رحمه الله: "واعلم أنه لا خلاف في الأخذ بالعلة إذا كانت منصوصة، وإنما اختلفوا هل الأخذ بها من باب القياس، أم من العمل بالنص؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وإلى الثاني النافون للقياس... "[108].

هذا ومن أجل اجتناب الأقيسة الفاسدة التي اشتهر ذمها عند الأئمة، وشنعوا على القائلين بها؛ عُني الأصوليون بضبط القياس الشرعي الصحيح - الذي يصار إليه عند الحاجة، ولا تعارض به نصوص الكتاب والسنة - وتحريره، فجعلوا له أركانا، ولهذه الأركان شروطًا وضوابط واعتبارات، وبينوا قوادح العلة ومبطلاتها [109]، التي يعترض بها على صحة القياس وصلاحيته، بما فيه من الجدلية الأصولية، وفي ذلك ما يوقع في الاعتساف، والتكلف، والشطط، ويبعد عن ميزان الحق والعدل، مما يؤكد أهمية القياس الصحيح، المستجمع للأركان، المستوفي للشروط المنتفية عنه الموانع، وبهذا يظهر تأدية القياس أثرًا واضحًا في صحة الفتوى، فمثلاً حينما يفتي المفتي بتحريم النبيذ قياسًا على الخمر؛ لعلة الإسكار، وحرمة الربا في غير الأصناف الستة المعروفة؛ لعلة الكيل أو الوزن أو الطعم أو الثمنية يعد قياسه صحيحًا وفتواه سليمة، وعلى المفتي الحذر من الأقيسة التي يختل فيها شرط من الشروط المعتبرة، ولهذا فإذا كان دليل الفتوى قياسًا غير جلي وليس نصًا واضحًا صريحًا، فلا ينبغي للمفتي ذكره للمستفتي.

يقول الشيخ أحمد بن حمدان رحمه الله: "يجوز أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصا واضحا مختصرا، وأما الأقيسة وشبهها فلا ينبغي له أن يذكر شيئا منها، ولم تجر العادة أن يذكر المفتي طريق الاجتهاد، ولا وجه القياس والاستدلال، إلا أن تكون الفتوى تتعلق بنظر قاض، فيوميء فيها على طريق الاجتهاد، ويلوح بالنكتة التي عليها بني الجواب، أو يكون غيره قد أفتى فيها بفتوى غلط فيها عنده، فيلوح بالنكتة التي أوجبت خلافه ليقيم عذره في مخالفته، وكذا لو كان فيما لقي به غموض فحسن أن يلوح بحجته، وهذا التفصيل أولى مما سبق من إطلاق المنع من تعرضه للاحتجاج ... ولا بنبغي لعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أفتاه به، ولا يقول له لم ولا كيف، فإن أحب أن يسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك سأل عنها في مجلس آخر، أوفي ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة عن الحجة، وقيل له أن يطالب المفتي بالدليل لأجل احتياطه لنفسه، وإنه يلزمه أن يذكر الدليل إن كان قطعيًا، ولا يلزمه ذلك إن كان ظنيا، لافتقاره إلى اجتهاد يقصر عنه العامي"[110].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 12-04-2019, 12:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(3-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس




المبحث الخامس:الاستدلال وأثره في صحة الفتوى


وفيه تمهيد وخمسة مطالب:

تمهيد:

للاستدلال في إطلاق الفقهاء إطلاقان، عام وهو: إقامة الدليل مطلقا، وخاص وهو المراد هنا، وهو: نوع خاص من الأدلة غير الأربعة المتفق عليها، الكتاب والسنة والإجماع والقياس، على خلاف في تقييد القياس وإطلاقه [111].

والكلام فيه بهذا الاعتبار الأخير - كمنهج مسلوك للاستنباط والبحث عن الدليل والاهتداء إليه - يشمل الكلام عن الأدلة المختلف فيها؛ لأنها أنواع وأفراد من الاستدلال، وقد عنون غير واحد من الأصوليين لغير المتفق عليه من الأدلة "بالاستدلال" [112]، وهو بهذا الإطلاق الخاص اصطلاح حادث لدى متأخري الأصوليين [113]... وقد أخذ هذا المصطلح في التقدم وفي التطور الدلالي، وأطال متأخروا الأصوليين البحث في حقيقته، وبيان معناه، وأنواعه، وطبيعته باعتباره دليلاً مستقلاً [114]... الأمر الذي يتضمن توضيحًا لتلك الاختلافات حوله، وهي اختلافات تحركها اختيارات ومآخذ مذهبية، أو اعتبارات منطقية استدلالية... ويحركها كونها منتزعة من موارد ومشارب متعددة من الشريعة في منقولها ومعقولها، ومقاصدها، وفي كلياتها المأخوذة منها بالاستقراء والتتبع...

لذا؛كان الاستدلال أحد المظاهر التي تتجلى فيها خصوصية الاجتهاد، وتتجلى في تشخيصه مع تحري موافقة ما تقتضيه مقاصد الشريعة صحةُ الفتوى.

يقول تاج الدين ابن السبكي: "واعلم أن علماء الأمة أجمعوا على أنَّ الاستدلال دليلٌ شرعي غير ما تقدم يعني الأربعة الأدلة المتفق عليها واختلفوا في تشخيصه... وهو يعني الاستدلال شيء قاله كل إمام بمقتضى تأدية اجتهاده، فكأنّه اتّخده دليلا، وهذا معنى مليح في سبب تسميته بالاستدلال... " [115] ومهما يكن من الاختلاف في تشخيص "الاستدلال"؛ فإن مراعاة معقولات النصوص، ومستنبطاتها، ومعانيها، وعللها، وما ترمي إليه المقاصد والكليات الشرعية أمورٌ هي محل اتفاق، سيما إذا حرر محل النزاع. وعند ذلك؛ فالخلاف في المسميات لا يضر إذا روعيت الحقائق...! وبهذا يظهر أثر "الاستدلال" وتشخيصه في صحة الفتوى.

وللاستدلال أنواع كثيرة [116] لكن مسائل بعضها متداخلة.

لذا فسأقتصر في هذا المبحث على خمسة منها في المطالب الآتية:

المطلب الأول: الاستدلال بالاستصحاب.

المطلب الثاني: الاستدلال بالمصلحة المرسلة.

المطلب الثالث: الاستدلال بالاستحسان.

المطلب الرابع: الاستدلال بسد الذرائع وبإبطال الحيل.

المطب الخامس: الاستدلال بالعرف والعادة.

المطلب الأول: الاستدلال بالاستصحاب:


ومعناه: أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل [117]، وهو معنى قولهم: الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل، فمن ادعاه فعليه البيان، كما في الحسيّات أن الجوهر إذا شَغَل المكان يبقى شاغلاً إلى أن يوجد المزيل، مأخوذ من المصاحبة، وهو ملازمة ذلك الحكم ما لم يوجد مغيِّر، فيقال الحكم الفلانيّ قد كان، فلم نظنّ عدمه، وكل ما كان كذلك، فهو مظنون البقاء[118].

وللاستصحاب أنواع:

النوع الأول: استصحاب البراءة الأصلية، أو العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية قبل ورود السمع، فالأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعية والحقوق المالية حتى يدل دليل شرعي على شغلها، كالحكم بعدم وجوب صلاة سادسة، وكالحكم بعدم الدين على من ادعى عليه ذلك.

وهذا النوع لا خلاف في اعتباره بشروط معينة[119].

بل عده ابن قدامة رحمه الله رابع الأدلة المتفق عليها[120].

النوع الثاني: استصحاب دليل الشرع، وله فرعان:

الأول: استصحاب عموم النص حتى يرد تخصيص.

الثاني: استصحاب العمل بالنص حتى يرد ناسخ.

واختلف في تسمية هذا "استصحابا"، ولا نزاع في صحته[121].

النوع الثالث: استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع.

قال ابن قدامة رحمه الله: «ليس بحجة في قول الأكثرين»[122]، مثاله: أن يقول في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة: الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها، فنحن نستصحب ذلك حتى يأتينا دليل يزيلنا عنه[123].

وهناك قواعد مبنية على الاستصحاب يستعان بها في صحة الفتوى، وهي:

1- أن الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره.

2- أن الأصل في الأشياء الإباحة.

3- أن الأصل في الذمة البراءة من التكاليف والحقوق.

4- أن اليقين لا يزول بالشك[124].

ولمعرفة الاستصحاب والرجوع إليه عند عدم الدليل أهمية كبرى للمفتي، حتى يصيب الحكم الصحيح.

وفي رجوع المفتي إلى الاستصحاب والبراءة الأصلية عند عدم الدليل، يقول الآمدي رحمه الله: "لو لم يظفر المفتي في الواقعة بدليل ولا خبر الواحد، فإنه لا يمتنع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي والمصير إلى البراءة الأصلية"[125].

ويقول الشوكاني: "وهو آخر مدار الفتوى: فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب ثم في السنة ثم في الإجماع ثم في القياس، فإن لم يجده، فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان التردد في زواله، فالأصل بقاؤه وإن كان التردد في ثبوته، فالأصل عدم ثبوته" انتهى[126].

وجاء في المسودة: "معرفة المفتي الأصل ينبني عليه استصحاب الحال من حظر أو إباحة أو وقف. عندما لا يجد المفتي دليلاً ويأخذ باستصحاب الحال، فينبغي أن يعرف الأصل الذي ينبني عليه استصحاب الحال من حظر أو إباحة أو وقف، قال ابن عقيل: من شروط المفتي أن يعرف ما الأصل الذي ينبني عليه استصحاب الحال، هل هو الحظر أو الإباحة أو الوقف؛ ليكون عند عدم الأدلة متمسكًا بالأصل إلى أن تقوم دلالة تخرجه عن أصله"[127].

وقال القاضي [128]: "واعلم أنه لا يجوز إطلاق هذه العبارة؛ لأن من الأشياء ما لا يجوز أن يقال أنها على الحظر، كمعرفة الله تعالى ومعرفة وحدانيته، ومنها مالا يجوز أن يقال أنها على الإباحة: كالكفر بالله والجحد له، والقول بنفي التوحيد، وإنما يتكلم في الأشياء التي يجوز في العقول حظرها وإباحتها: كتحريم لحم الخنزير وإباحة لحم الأنعام، وتتصور هذه المسألة في شخص خلقه الله فى برية لا يعرف شيئا من الشرعيات، وهناك فواكه وأطعمة، هل تكون الأشياء فى حقه على الإباحة؟ أو على الحظر حتى يرد شرع "[129].

وفي المسودة أيضًا: مسألة استصحاب أصل براءة الذمة من الواجبات، حتى يوجد الموجب الشرعى دليل صحيح، ذكره أصحابنا: "وله مأخذان أحدهما: أن عدم الدليل، دليل على أن الله ما أوجبه علينا؛ لأن الإيجاب من غير دليل محال، والثاني: البقاء على حكم العقل المقتضى لبراءة الذمة، أو دليل الشرع لمن قبلنا، ومن هذا الوجه يلزم بالمناظرة" قال القاضى: "استصحاب براءة الذمه من الواجب، حتى يدل دليل شرعي عليه، هو صحيح بإجماع أهل العلم كما فى الوتر"[130].

وجاء فيها أيضًا: "قوله استصحاب في نفي الواجب احتراز من استصحاب نفي التحريم أو الإباحة، فإن فيه خلافا مبنيا على مسألة الأعيان قبل الشرع، وأما دعوى الإجماع على نفي الواجبات بالاستصحاب، ففيه نظر، فإن من يقول بالإيجاب العقلي من أصحابنا وغيرهم لا يقف الوجوب على دليل شرعي، اللهم إلا أن يراد به في الأحكام التي لا مجال للعقل فيها بالاتفاق، كوجوب الصلاة، والأضحية، ونحو ذلك"[131].

المطلب الثاني: الاستدلال بالمصلحة المرسلة:


المصلحة المرسلة هي: ما لم يشهد الشرع لاعتباره ولا لإلغائه بدليل خاص، فخرج بهذا المصلحة المعتبرة شرعًا التي جاءت الأدلة من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس باعتبارها. وكذا الملغاة شرعًا التي جاءت هذه الأدلة نفسها بمنعها، وإلغائها.

وتسمى - المصلحة المرسلة - الاستدلال المرسل، والمناسب المرسل، والاستصلاح [132].

ويشترط للاستدلال بالمصلحة المرسلة أمور منها:

1- ملاءَمتها لتصرفات الشرع ومقاصده، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين.

2- أن لا تنافي أصلا من أصول الشرع، ولا دليلاً من أدلته.

3- أنه لا مدخل للمصلحة المرسلة في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية؛ لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل، كالطهارات بأنواعها، وكعدد ركعات الصلوات الخمس، فإن شيئا من التعبدات لم يكله الشارع إلى آراء العباد، فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده، دون ابتداع زيادة أو نقصًا.


4- أن يكون حاصل المصلحة المرسلة يرجع إلى رفع حرج في الدين، والتخفيف على المكلفين، فهي من الوسائل لا من المقاصد [133].

5- ألاّ تعارضها مصلحة أرجح أو مساوية لها، وألاّ يستلزم العمل بها مفسدة أرجح منها، أو مساوية لها، وألاّ يتوصل بها إلى الذرائع والحيل المحرمة [134].

وقد ذكر الشاطبي رحمه الله أمثلة للمصالح المرسلة الملائمة لتصرفات الشرع، كاتفاق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على جمع المصحف. فإنه راجع إلى حفظ الشريعة، وإلى منع الذريعة للاختلاف في القرآن الكريم.

وكقضاء الخلفاء الراشدين بتضمين الصّنّاع؛ لأنه لا يصلح الناس إلا ذلك. فلولا تضمينهم ـ مع مسيس الحاجة إليهم ـ لادعوا هلاك الأموال وضياعها، ولقلّ الاحتراز، وتطرقت الخيانة، فكانت المصلحة في تضمينهم [135].

وبالجملة فالضابط في تحديد المصلحة المرسلة هو الشرع نفسه، وما نصبه من مقاصد وأحكام وعلل وغايات، لا مجرد العقول والآراء، هذا وإنّ قصر المصلحة على المنافع الدنيوية الحسية فقط اختزال لمفهومها الشرعي. فإن ذلك يحصل للحيوانات العجماوات فلها إحساس يميز بين الشعير والتراب، وبين الماء والنار...!! بل منافع العباد الدينية الأخروية - وإن لم يدركها البعض، أو عدت مضارًا - أولى بالاعتبار، وأحرى بالاهتمام [136]. ومصداق ذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} البقرة: 216.

والفتوى بالمصالح المرسلة وفق الشروط والضوابط المعتبرة محل وفاق بين المذاهب الأربعة من حيث الجملة. ومن تتبع فروع المذاهب علم صحة ذلك. قال ابن دقيق العيد[137]: "الذي لاشك فيه أن لمالكٍ ترجيحًا على غيره من الفقهاء، في هذا النوع يعني المصالح المرسلة ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة... " [138].

وقال القرافي رحمه الله: "قد تقدم أن المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق؛ لأنهم يقيسون، ويفرقون بالمناسبات، ولا يطلبون شاهدًا بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك..".[139].

وبما تقدم يتقرر أهمية مراعاة المفتي للمصالح الشرعية، غير أنه لا مجال للفتوى بالمصالح عند وجود النصوص إطلاقًا، والعلماء الذين خالفوا في الاستدلال بالمصالح المرسلة، وردوا الفتوى بها، إنما فعلوا ذلك خشيةً من إهدار النصوص ومدلولاتها، كما ينبغي على المفتي الحذر من المصالح الموهومة، حتى لا يوقع المكلفين بما يخالف الشريعة [140].

وفي وجوب مراعاة المفتي للمصلحة وأنه ثابت بفعل الصحابة رصي الله عنهم ، يقول الخطيب البغدادي رحمه الله: "إذا رأى المفتي من المصلحة عندما تسأله عامة أو سوقة أن يفتي بما له فيه تأول، وإن كان لا يعتقد ذلك، بل لردع السائل، وكفه، فعل، فقد روي عن ابن عباس أن رجلاً سأله عن توبة القاتل، فقال: لا توبة له، وسأله آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول: فرأيت في عينيه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني: فجاء مستكينا، وقد قتل فلم أؤيسه"[141].

المطلب الثالث: الاستدلال بالاستحسان:


وقد اختلف الأصوليون في حده وحجيته.

والحقيقة أن أقوال المانعين والمجوزين له لم تتوارد على شيء واحد، فالمانعون - وفي مقدمتهم الإمام الشافعي رحمه الله - منعوا الاستحسان بمعنى ما يستحسنه المجتهد بمجرد عقله، وما ينقدح في ذهنه، وفي هذا من الفتوى بالتلذذ والتشهي، واتباع الهوى ما لا يخفى، ولاشك أن هذا منكر، وضلال مبين ولم يقل به أحدٌ من الأئمة، والمجوزون له يقصدون به العدول بالمسألة عن نظائرها لوجه هو أقوى، أو لدليل معتبر من أدلة الشرع، أو ترجيح دليل على دليل يعارضه بمرجح معتبر شرعا؛ لقصد التخفيف ورفع الحرج.

وبالجملة فهو غير خارج عن مقتضى الأدلة ومآلاتها [142]. كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "فهذا كله يوضح لك أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة، إلا أنه نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها" [143]، وقال في السياق نفسه: "ولا يرد الشافعي مثل هذا أصلاً" [144]. وبهذا يتبين أن الخلاف في الاستدلال بالاستحسان يكاد يكون لفظيا، ولا مشاحة في التسمية متى روعيت الحقائق[145]. وقد جاء عن الإمام الشافعي نفسه أنه قال: "أستحسن" في أشياء... [146].

ويُمثَّل للعدول بالمسألة عن نظائرها بدليل الكتاب قوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}التوبة: 103 فظاهر العموم في جميع ما يُتَموَّل به، وهو مخصوص بالأموال الزكوية خاصة.

ومن الاستحسان بالعرف: جواز دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا مدة اللبث، ولا الماء المستعمل والأصل في هذا المنع، ولكن تقتضيه قواعد فقهية في أبواب المعاملات. ومن الاستحسان ترك مقتضى الدليل في اليسير لرفع الحرج والمشقة، كجواز التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة [147].

ومن ضروب الاستحسان عند المالكية قاعدة "مراعاة الخلاف" وهو: إعطاء كل واحد من الدليلين ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه. كقولهم في النكاح المختلف في فساده إنه يفسخ بطلاق وفيه الميراث؛ لما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليِّها، فنكاحها باطل باطل باطل" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فإن دخل بها، فلها المهر بما أصاب منها" [148] قال الشاطبي رحمه الله: "وهذا تصحيح للمنهي عنه من وجه، ولذلك يقع فيه الميراث، ويثبت النسب للولد، وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى الصحيح في هذه الأحكام، وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة، وإلا كان في حكم الزنى، وليس في حكمه اتفاقًا، فالنكاح المختلف فيه قد يُراعى فيه الخلاف، فلا يقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول، مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح جانب التصحيح. وهذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة النهي أو تزيد " اهـ [149].

المطلب الرابع: الاستدلال بسد الذرائع وبإبطال الحيل:


والمراد به كما قال القرافي رحمه الله :"حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة لها منع من ذلك الفعل .."[150]، والمشهور عن الإمام مالك وأحمد أنهما يستدلان بسد الذرائع ويكثران من الفتوى بمقتضاه؛ لأنه متفرع عن النظر في المآلات[151]. وفي هذا يقول الشاطبي رحمه الله:" وهذا الأصل ينبني عليه قواعد منها: قاعدة سد الذرائع التي حكّمها مالك في أكثر أبواب الفقه؛ لأن حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى ما هو مفسدة" [152]، وإن المحافظة على الشريعة في أحكامها ومقاصدها، وعللها وغاياتها، يقتضي منع الوسائل إلى المحرمات، ومنع التوسل بالمشروعات إلى الممنوعات. فقاعدة سد الذرائع من القواعد التشريعية التطبيقية التي توائم بين الوسائل والمقاصد، وأثر هذا في صحة الفتوى واضح بيِّن، إذ المفتي إذا عرضت عليه مسألة تؤدي إلى حرام، فينبغي عليه أن يفتي بتحريمها، والعكس بالعكس.

ويرى الشاطبي وآخرون "أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر" [153] ومراده رحمه الله أن الخلاف في المناط الذي يتحقق فيه التذرع، وهو من تحقيق المناط في الأنواع [154]، أو هو خلاف في بعض أقسام الذرائع؛ لأن من الذرائع ما سده محل إجماع، كالمنع من حفر الآبار في الطرق، ومنها ما سده ملغى إجماعًا كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر، ومنها ما هو مختلف فيه، كبيوع الآجال. وفي هذا المختلف فيه مراتب متفاوتة باعتبار إفضائها إلى المفسدة، وباعتبار نوع نتائجها، ويختلف الترجيح فيها بحسب تفاوتها [155].

وقد أبدع ابن القيم رحمه الله في سرد الأدلة في حجية سد الذرائع والمنع من فعل ما يؤدي إلى الحرام ولو كان جائزًا في نفسه، فبلغت تسعة وتسعين دليلا، وقال: "إن سد الذرائع ربع التكليف"[156].

وإبطال الحيل مشابه لسد الذرائع، فهما استدلالان متشابهان متداخلان، وقد يلتقيان، وقد يفترقان أحيانًا. ومن تكلم من الأصوليين على أحدهما؛ تكلم على الآخر تباعًا، والذرائع أعم، والحيل أخص. ويشترط القصد فيها لا في الذرائع [157]. وهما متفرعان عن النظر في مآلات الأفعال، وأنه معتبر مقصود شرعًا [158].

ولذلك يتوجب على المفتي أن ينظر إلى ما يؤول إليه الفعل، فقد يكون الفعل مباحا، ولكنه يؤول إلى محرم مثلا، قال الشاطبي رحمه الله: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام، إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول فى الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد، صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغبّ، جار على مقاصد الشريعة"[159].

وحقيقة الحيل: تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارًا من الزكاة[160].

فإذا فرض أن الحيل لا تهدم أصلا شرعيا، ولا تناقض مصلحة، شهد الشرع باعتبارها؛ فغير داخلة في النهي ولا هي باطلة.

والحيل ثلاثة أقسام: ما لا خلاف في بطلانه كحيل المنافقين والمرائين، وما لا خلاف في جوازه، كالنطق بكلمة الكفر للمكره، قال الشاطبي: "وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع"، وما لم يتبين بدليل قاطع موافقته أو مخالفته لمقصد الشارع، وهذا محل خلاف بين العلماء، فمن رأى أنه غير مخالف لمقصد الشارع أجاز الحيلة فيه، ومن رآه مخالفا منع الحيلة فيه، لا أن أحدًا من الأئمة يجيز مخالفة قصد الشارع اهـ [161]. وقد ناقش ابن القيم من يقول بالحيل المحرمة، أو ينسب شيئا منها لأحد من الأئمة، وأفاض في ذلك [162].

ولا يصح إطلاق القول بأن أحدًا من الأئمة يجوز الحيل لإبطال الأحكام، ولهدم أصل من أصول الشريعة، ومن نسب شيئًا من الحيل المحرمة لواحد منهم؛ فهو جاهل بأصوله. أما إنفاذ بعض الحيل إذا فعلت عند بعض الأئمة؛ فشيءٌ آخر، ولا يعني هذا إذنه فيها ابتداءًا [163].

ولذا فإن على المفتي أن يُعنى بسد الذرائع والحيل المفضية إلى محرم، فيتعين على المفتي النظر فيما إذا كان الفعل وسيلة أو حيلة تفضي إلى فعل محرم فيمنعه، ولو كان هذا الفعل في أصله مباحا، انطلاقًا من أن الوسيلة تأخذ حكم المقصد، كما دلت الأدلة والاستقراء على ذلك، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منا بحسب إفضائها الى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها، والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئا، وله طرق ووسائل تفضي اليه، فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية اليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به وحكمته تعالى، وعلمه يأبي ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح له الطرق والأسباب والذرائع الموصلة اليه لعد متناقضا، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء، منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، والا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال، ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية الى المحارم، بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة ما كان وسيلة وطريقا الى الشيء"[164].

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 12-04-2019, 12:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(3-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس




المطلب الخامس: الاستدلال بالعرف والعادة:


إن مما هو بسبيل رفع الحرج في الشريعة؛ إناطة أحكام وابتناؤها على ما عرفته النفوس السليمة واستقرّ فيها من أعراف وعوائد مطّردة غير فاسدة شرعا [165].

قال ابن عابدين الحنفيفي أرجوزته "عقود رسم المفتي":

والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يُدار [166]

ومن العلماء من اعتبر العرف والعادة مترادفين كالإمام الشاطبي حيث سمى كل ذلك "عوائد"[167]. وكابن عابدين حيث قال: "فالعادة والعرف بمعنى واحد" [168].

والضابط في اعتبار الأعراف في الأحكام الشرعية هو: كل فعل - وكل قول [169] - رتِّب عليه الحكم، ولا ضابط له في الشرع، ولا في اللغة، كإحياء الموات، والحرز في السرقة، والأكل من بيت الصديق، وما يُعَدّ قبضا، وإيداعًا، وإعطاءً، وهبةً، وهدية، وغصبا، والمعروف في المعاشرة، وانتفاع المستأجر بما جرت به العادة، وأمثال هذه كثيرة لا تنحصر [170].

قال القرافي رحمه الله: "...أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها... " [171]، ويجد المتتبع لتعليلات الأصوليين ولمآخذهم؛ شيوع ذلك بالعرف والعادة في كتبهم، فقد شاع بينهم أن العادة محكمة، وأن الممتنع عادة كالممتنع حقيقة، ولا ينكر تغير الأحكام - المنوطة بالعرف والعادة - بتغير الأزمان والأحوال، وأن الحقيقة تترك بدلالة العرف، وأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، وأن المعروف بين التجار كالمشروط بينهم، وأن التعيين بالعرف كالتعيين بالوصف... وكل ذلك يشعر بأن الاستدلال والفتوى بالعرف والعادة محل اتفاق بين جميع المذاهب الفقهية. ..أما النطاق الذي يعتبران فيه؛ فهو ما يختلف بين مذهب وآخر، ولعل الفقه المالكي هو أكثر المذاهب استدلالاً وإفتاءً بالعرف والعادة،ويليه الفقه الحنفي، ثم الشافعي،والحنبل ي. ..[172].

وللعرف والعادة أثر في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات بمقتضى مراعاة الشريعة لمصالح العباد في المعاش والمعاد، يقول ابن القيم رحمه الله: "هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها ...إلخ "[173].

ويمثل ابن القيم لتغير الفتوى بمسألة إيقاع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة قائلاً: "إذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفتوى بها بحسب الأزمنة كما عرفت لما رأته الصحابة من المصلحة؛ لأنهم رأوا مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم، فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع"[174].

نشر هذا البحث في العدد 81 من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة.

إعداد الدكتور : عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة أم القرى وإمام الحرم المكي.






[1] هو: عمران بن حصين عبيد الخزاعي، ويكنى: أبا نجيد، كان إسلامه عام خيبر، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، وغزا معه صلى الله عليه وسلم عدة غزوات، وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح، توفي رضي الله عنه بالبصرة، روى عنه ابنه نجيد، وأبو الأسود الدؤلي وأبو رجاء العطاردي. ينظر:"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/705، و"تهذيب التهذيب" 8/111.




[2] أخرجه البخاري في باب "لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد" برقم 2508، ومسلم في باب "فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" برقم 2533.




[3] هو: أحمد بن علي بن محمد الكنان*ي العسقلان*ي الشافعي شهاب الدين أبوالفضل ، حافظ إمام بارع بمعرفة الحديث وعلله ورجاله ، ومن أشهر كتبه : "فتح الباري" و"تلخيص الحبير" و"الإصابة" ، و"الدرر الكامنة" ، وغيرها ، توفي سنة 852هـ . ينظر ترجمته في : "البدر الطالع" 1/87 ؛ و"شذرات الذهب" 7/270 .




[4] 7/6.




[5] "مجموع الفتاوى" 20/401.




[6] وسيأتي لهذا مزيد إيضاح عند الكلام عن دليل السنة ص49 من هذا البحث.




[7] ينظر: "قواطع الأدلة في الأصول" لأبي المظفر السمعاني 1/397-398، و"تلبيس إبليس" لابن الجوزي ص120، و"الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي ص212.




[8] هو : الإمام منصور بن محمد بن عبدالجبار بن أحمد بن محمد بن جعفر بن أحمد بن عبدالجبار بن الفضل بن الربيع بن مسلم التميمي المروزي السمعان*ي ، ولد في مدينة مرو الشاهجان سنة 426هـ ، ومن مصنفاته : "التفسير" و"القواطع في أصول الفقه" و"الرد على القدرية" ، وغيرها ، توفي سنة 489هـ . ينظر ترج*مته في : "الأنساب" 3/299 ؛ و"اللباب" 2/138-139 ؛ و"طبقات المفسرين" 2/339-340 .




[9] "قواطع الأدلة في الأصول" 1/397-398.




[10] ينظر: "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 9/196-200، و"الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف" للدهلوي 29-30، و"الاجتهاد المقاصدي" للدكتور/ نور الدين الخادمي 1/72-82.




[11] ينظر: "كشف الأسرار عن أصول البزدوي" 3/945 وما بعدها، و"إعلام الموقعين" 2/178، 222.




[12] "الموافقات" 2/13، وينظر: ما قبلها.




[13] "شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص408-411، و"الموافقات" 2/9-12 مع هوامشها، و"شرح الكوكب المنير" 1/312-322.




[14] طَلَقُهم، أي: سيرهم. ينظر: "لسان العرب" لابن منظور مادة طلق.




[15] "الموافقات" 3/180.




[16] ينظر:"مجموع فتاوى ابن باز" 3/351-353، و"فتاوى المرأة" ص194-195.




[17] ينظر: "الموافقات" 3/78-79، و"مقاصد الشريعة" لابن عاشور ص28-39، و"اعتبار المآلات، ومراعاة نتائج التصرفات" لعبد الرحمن بن معمر السنوسي ص403.




[18] ينظر: "الموافقات" للشاطبي 1/42-53، في الهامش تعقيب الشيخ/ أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان على المقاصديين العصريين!!، و"الاجتهاد المقاصدي" للدكتور/ نور الدين الخادمي 2/197-198، و"التجديد والمجددون في أصول الفقه" للدكتور/ أبي الفضل عبد السلام بن محمد بن عبد الكريم ص408، و"التجديد في الفكر الإسلامي" للدكتور/ عدنان محمد أمامة ص435، 440-458.




[19] "المستصفى" 1/342-344.




[20] ينظر:"تيسير التحرير" 4/114، و"مختصر ابن الحاجب مع شرحه" 2/257، و"جمع الجوامع بحاشية البناني" 2/330، و"شرح الكوكب المنير" 4/229، و"إرشاد الفحول" ص229.




[21] هو: عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي ، أبومحمد موفق الدين ، الفقيه الحنبلي الزاهد ، شيخ الإٍسلام وأحد الأئمة ، ولد سنة 541هـ ، وتوفي سنة 620هـ ، من مؤلفاته : "المغن*ي" في الفقه ، و"الروضة" في الأصول وغيرهما. ينظر ترجمته في : "المقصد الأرشد" 2/15 ، "شذرات الذهب" 7/155 .




[22] "روضة الناظر" 1/179-180 مع "نزهة الخاطر العاطر" لابن بدران.




[23] قال تعالى: ]بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ[ [العنكبوت: 49]، أما في السطور فهذه المصاحف التي عند جميع المسلمين. ينظر في تفسير هذه الآية: "فتح البيان في مقاصد القرآن" للعلامة/ صديق القنوجي البخاري 10/205.




[24] ينظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 12/35-36، 117-162، و"شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز الحنفي ص172-190.




[25] "كنز العمال" برقم 2300.




[26] "الموافقات" 4/144.




[27] قال الإمام ابن الجزري في كتابه "النشر في القراءات العشر" ما مفاده: كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يحل لمسلم أن ينكرها سواء كانت عن السبعة، أو عن العشرة، أو عن غيرهم من الأئمة المقبولين. ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أو عمّن هو أكبر منهم. هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه. اهـ. وينظر: "النشر في القراءات العشر" 1/9، و"شرح الكوكب المنير" 2/134-136.




[28] ينظر: "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب" 2/83-85، 95-97، و"جمع الجوامع مع التشنيف" 1/313-322، و"البحر المحيط" 1/474-480، و"روضة الناظر مع نزهة الخاطر العاطر" 1/181، و"شرح الكوكب المنير" 2/136-140.




[29] ينظر: "البرهان في أصول الفقه" 2/870.




[30] ينظر: "الرسالة" للإمام الشافعي 1/509.




[31] ينظر: "الإحكام" للآمدي 1/169، و"البحر المحيط" 4/164، و"شرح الكوكب المنير" 2/160-161، 166.




[32] هو: عبد الرحمن بن عمرو بن يُحْمِد الأوزاعي، من قبيلة الأوزاع، أبو عمرو: إمام الديار الشامية في الفقه والزهد، وأحد الكتاب المترسلين. ولد في بعلبك عام 88هـ، ونشأ في البقاع، وسكن بيروت، وتوفي بها عام 157هـ، وله كتاب "السنن" في الفقه، و"المسائل". ينظر:"الوفيات" 1/275، و"حلية الأولياء" 6/135،= =و"الشذرات" 1/241.




[33] هو: يحيى بن أبي كثير واسمه صالح بن المتوكل الطائي، مولاهم أبو نصر اليمامي، روى عن أنس وعكرمة، وعنه ابنه عبد الله والأوزاعي وأيوب السختياني ويحيى الأنصاري، مات سنة 129هـ. ينظر:"تذكرة الحفاظ" 1/127، و"طبقات ابن سعد" 5/404، و"العبر" 1/169، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي ص58.




[34] هذه الآثار في: "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر 2/1192-1194، تحقيق/ أبي الأشبال الزهيري.




[35] المصدر نفسه: 2/1110.




[36] ينظر: "الإحكام" للآمدي 1/170، و"جمع الجوامع مع البدر الطالع" 2/7-8 مع الهوامش، و"البحر المحيط" 4/169-170، و"شرح الكوكب المنير" 2/167-170.




[37] أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم 17213، وصححه العجلوني في"كشف الخفاء" 2/423.




[38] أخرجه الترمذي في"سننه"بابما نُهي عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلمبرقم [2664] وقال: حسن غريب من هذا الوجه.




[39] ينظر: "جامع بيان العلم وفضله"، و"كتاب الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي 1/266-273، وينظر: "تفسير ابن كثير" 7/443 تحقيق/ سامي بن محمد السلامة.




[40] هو: الإمام العلامة المحقق أبو الطيب محمد صديق بن حسن بن علي بن لطف الله القِنَّوجِي البخاري، ولد في بلدة " بريلي " موطن جده من جهة الأم عام 1248 هـ ونشأ في بلدة " قِنَّوْج " موطن آبائه بالهند في حجر أمه يتيمًا على العفاف والطهارة، توفي عام 1357هـ. ينظر: "قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر"، للقنوجي 1/7، و"أبجد العلوم" 3 / 271 - 282 ، و"مشاهير علماء نجد وغيرهم" ص 451 - 457.




[41] "فتح البيان في مقاصد القرآن" 13/245.




[42] ينظر: "الرسالة" ص93-102، و"الإحكام" للآمدي 1/169-191، و"جمع الجوامع مع البدر الطالع" 2/7-15، و"شرح الكوكب المنير" 160-167.




[43] ينظر: "الرسالة" للشافعي 91-92.




[44] ينظر: "أصول البزدوي مع كشف الأسرار" للبخاري 3/232-243، و"الرسالة" 91-92، و"منهاج الوصول" للبيضاوي مع "نهاية السول" للإسنوي 2/23.




[45] ينظر: "الرسالة" ص92-93.




[46] المصدر نفسه: ص22.




[47] المصدر نفسه: ص92.




[48] ينظر: "إعلام الموقعين" 1/29-31، و"السنة ومكانتها في التشريع" ص385، و"أصول مذهب الإمام أحمد" للدكتور/ عبد الله التركي ص239-240، و"أصول الفقه الميسر" للدكتور/ شعبان محمد إسماعيل 1/333-334.




[49] 4/316 وينظر: 4/309، 214 وما بعدها.




[50] ينظر: "إعلام الموقعين" 1/29-31، و"السنة ومكانتها في التشريع" ص385، و"أصول مذهب الإمام أحمد" ص391-240، و"أصول الفقه الميسر" للدكتور/ شعبان محمد إسماعيل 1/333-334.




[51] ينظر: "الرسالة" للشافعي ص224-225، و"جامع بيان العلم وفضله" 2/1190-1191، و"الموافقات" 4/329-330.




[52] هو: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري و قيل الأزدى مولاهم ، أبو سعيد البصري اللؤلؤي، ولد عام 135 هـ، من الطبقة التاسعة من صغار أتباع التابعين، روى له البخاري ومسلم، توفي عام 198 هـ بالبصرة. ينظر:"تذكرة الحفاظ" 1/329، و"طبقات الحنابلة" 1/207، و"شذرات الذهب" 1/255.




[53] "جامع بيان العلم وفضله" 2/1190-1191.




[54] ينظر: "كتاب الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي ص20-21، و"نخبة الفكر شرح نزهة النظر" للحافظ ابن حجر، مع "حاشية الكمال ابن أبي شريف" ص28-34، تحقيق د/ إبراهيم بن ناصر الناصر، و"تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي للسيوطي 2/626-631.




[55] أخرجه البخاري في باب "إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم " برقم 110.




[56] جمعها السيوطي في جزء سماه "فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين". ينظر: "تدريب الراوي شرح تقريب النواوي" للسيوطي 2/31-32، و"تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للعلامة المباركفوري 2/197-202.




[57] في المقدمة الثالثة 1/28-29.




[58] ينظر: "تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي" للسيوطي 2/621-637، و"نخبة الفكر شرح نزهة النظر" مع "حاشية الكمال بن أبي شريف" ص36-40، 50، 61، و"أصول السرخسي" 1/291-295، و"كشف الأسرار عن أصول البزدوي" للبخاري 2/534-537.




[59] 2/55-65 مع "البدر الطالع"، وينظر: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص356-378، و"مختصر ابن الحاجب مع رفع الحاجب" 2/333-351، 442-461، و"شرح الكوكب المنير" 2/358-364، 2367-376.




[60] ينظر: ص401-470 تحقيق/ أحمد محمد شاكر، و"كتاب الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي ص32-39.




[61] 1/91.




[62] "إرشاد الفحول" 1/211 تحقيق د/ شعبان محمد إسماعيل.




[63] ينظر: "مجموع الفتاوى" 18/65-68، و"الاعتصام" للشاطبي 1/227-231، 345-346، 2/11-12.




[64] هو: الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، حافظ مؤرخ علامة محقق، تركماني الأصل، ولد في سنة 73هـ، صاحب التصانيف المشهورة، توفي رحمه الله ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة سنة 748هـ. ينظر:"فوات الوفيات" 2/183، و"طبقات السبكي" 5/216، و"الشذرات" 6/153.




[65] "الموقظة في علم الحديث" ص8.




[66] وهذا هو مذهب المحققين من أئمة الحديث كيحيى بن معين، والإمام البخاري، والإمام مسلم، والحافظ أبي زكريا النيسابوري، وأبي زرعة الرازي، وأبي حاتم الرازي، وابن حبان، والإمام أبي سليمان الخطابي، وابن حزم، وابن العربي المالكي، والشوكاني، وآخرين. ينظر: "تحفة المودود في أحكام المولود" لابن القيم ص17، و"سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" له 1/456، ومقدمة "صحيح الترغيب والترهيب" له 1/38-39، 53-54.




[67] "المستصفى" 1/342-344.




[68] كذا قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" 1/286، وينظر: "كشف الأسرار عن أصول البزدوي" للبخاري 3/337-338، و"الإحكام" للآمدي 1/196، و"جمع الجوامع مع البدر الطالع" 2/131-132، و"شرح الكوكب المنير" 2/211-212.




[69] حكاه الآمدي في "الإحكام" 1/261 وينظر: "شرح الكوكب المنير" 2/259.




[70] كما قاله الآمدي في "الإحكام" 1/200.




[71] "قواطع الأدلة" 1/466.




[72] أخرجه الترمذي في "جامعه" في باب "ما جاء في لزوم الجماعة" برقم 2165، وقال حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وأحمد في "المسند" برقم 177.




[73] "الرسالة" ص473-474.




[74] أخرجه أبو داود في باب "ذكر الفتن ودلائلها" برقم 4253، والترمذي في باب "ما جاء في لزوم الجماعة" برقم 2167 وقال: حديث غريب من هذا الوجه، وابن ماجه في باب "السواد الأعظم" برقم 3950.




[75] ينظر: "تخريج أحاديث مختصر المنهاج" للحافظ العراقي برقم 49 ص33، و"تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب" لابن كثير ص145 وما بعدها.




[76] كذا قال الآمدي في "الإحكام" 1/129، وينظر: "كتاب الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي 1/407-427 تحقيق/ عادل بن يوسف الغزازي.




[77] ينظر: "الإحكام" للآمدي 1/264-267، و"جمع الجوامع مع البدر الطالع" 2/143-144، و"روضة الناظر مع نزهة الخاطر العاطر" 1/385، و"شرح الكوكب المنير" 2/261-262.




[78] "الفتاوى" 19/195-196.




[79] ينظر: "الإحكام" لابن حزم 1/553 وما بعدها.




[80] ينظر: "مجموع الفتاوى" 11/341، و"جمع الجوامع مع التشنيف" 3/94-95، و"البحر المحيط" 4/482-483، و"روضة الناظر مع نزهة الخاطر" 1/332-335، و"شرح الكوكب المنير" 2/213-214، و"إرشاد الفحول" 1/288-291.




[81] ينظر: "شرح مختصر الروضة" للطوفي 3/12-13، و"إرشاد الفحول" 72، و"أصول مذهب الإمام أحمد" للدكتور/ عبد الله التركي ص369-376.




[82] ينظر: المصادر نفسها.




[83] ينظر في هذا: "مراتب الإجماع" لابن حزم، مع نقد شيخ الإسلام ابن تيمية له. مطبوعات مكتبة القدسي 1357هـ.




[84] هو: الإمام يعقوب بن إبراهيم بن حبيب، أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة، الفقيه المجتهد، له من المؤلفات: "الخراج" و"الأمالي"، و"النوادر"، توفي سنة 182هـ. ينظر: "الفوائد البهية" ص225، و"وفيات الأعيان" 5/421، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي ص134.




[85] ينظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 20/303-308، و"إحكام الفصول في أحكام الأصول" لأبي الوليد الباجي ص480-482 برقم 511 تحقيق/ عبد المجيد تركي، و"مذكرة أصول الفقه" للشيخ/ محمد الأمين الشنقيطي ص151.




[86] ينظر: "البحر المحيط" 4/490-509، و"أصول الفقه الإسلامي" للدكتور/ وهبة الزحيلي 1/505-519، و"أصول الفقه الميسر" للدكتور/ شعبان محمد إسماعيل 1/549-566.




[87] ينظر: "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم 2/529-559، و"البحر المحيط" 4/517-518، و"إرشاد الفحول" 1/343-345، ومن ذلك سياق ابن عبد البر وابن المنذر الإجماع، ينظر:"الإجماع" لابن المنذر.




[88] "المستصفى" 1/342-344.




[89] ينظر: "مزالق الأصوليين" للعلامة/ محمد بن إسماعيل الصنعاني ص63-68، و"منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة" للدكتور/ مسفر بن علي القحطاني ص231-232، و"فقه النوازل" للدكتور/ محمد بن حسين الجيزاني 1/76، و"الاجتهاد فيما لا نص فيه" للدكتور/ الطيب خضري السيد 1/83-84.




[90] ينظر: "مجموع الفتاوى" 19/176-177، 195-196.




[91] وهو تعريف ابن قدامة 2/227 من الروضة مع شرحها لابن بدران.




[92] ينظر: "الإحكام" للآمدي 3/190، و"الإبهاج في شرح المنهاج" للسبكي 3/1417-1419 تحقيق الدكتور/ شعبان محمد إسماعيل، و"شرح الكوكب المنير" 4/7.




[93] "المستصفى" للغزالي 2/228، و"شرح الكوكب المنير" 4/12.




[94] " الإحكام" 3/192، وينظر: "شرح الكوكب المنير" 4/14، و"إرشاد الفحول" 2/150.




[95] ينظر: "شرح مختصر الروضة" 3/230، و"شرح الكوكب المنير" 4/15، و"إرشاد الفحول" 2/150-151.




[96] ينظر: "الإحكام" للآمدي 3/193، و"شرح مختصر الروضة" للطوفي 3/232 وما بعدها.




[97] ينظر: "مختصر ابن الحاجب مع رفع الحاجب" 4/312-355، و"الإبهاج في شرح المنهاج" للسبكي 3/1499-1571، و"جمع الجوامع مع البدر الطالع" 2/222-256.




[98] "شرح مختصر الروضة" 3/230، وينظر: "شرح الكوكب المنير" 4/16.




[99] ينظر: "مختصر ابن الحاجب مع رفع الحاجب" 4/158-311، و"جمع الجوامع مع البدر الطالع" 2/178-221، و"شرح الكوكب المنير" 4/17-114.




[100] ينظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية 19/176، 280، 288، 289 20/504-505.




[101] "المستصفى" 2/234، 253، 254.




[102] ينظر: "الإحكام" للآمدي 4/5، و"مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية 11/341، و"شرح الكوكب المنير" 4/215-218، و"إرشاد الفحول" 2/129-148.




[103] يقرر هذا ابن القيم في "إعلام الموقعين" 1/130 وما بعدها عند شرحه كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء حيث يقول: "وقد أرشد الله عباده إليه - أي إلى القياس- في غير موضع من كتابه... وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلاً تتضمن تشبيه الشيء بنظيره، والتسوية بينهما في الحكم... ".




[104] أخرجه أحمد في "مسنده" برقم 138، وقال: "إسناده صحيح".




[105] أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري "صحيح البخاري مع الفتح" في كتاب "فضائل الصحابة"، باب 17 حديث رقم 3362، ومسلم في "كتاب الرضاع"، باب 11 حديث رقم 38-1459.




[106] أخرجه البخاري باب 112 برقم 1754، وقد ترجم له البخاري في "كتاب الاعتصام" بالكتاب والسنة باب من شبه أصلاً معلومًا بأصل مبيّن.




[107] كما ذهب إليه الظاهرية، وفي مقدمتهم الإمام أبو محمد بن حزم في كتابه "الإحكام" 2/929-1166.




[108] "إرشاد الفحول" 2/170.




[109] ينظر هذه القوادح في: "جمع الجوامع مع البدر الطالع" 2/260-306، و"شرح الكوكب المنير" 4/229-358.




[110] "صفة الفتوى" 1/66، 84.




[111] ينظر: "الإحكام" للآمدي 4/118، و"جمع الجوامع" لابن السبكي 2/313 مع "البدر الطالع" لجلال الدين المحلي، و"شرح الكوكب المنير" 4/397.




[112] كالآمدي في "الإحكام" وابن السبكي في "جمع الجوامع"، والزركشي في "البحر المحيط"، وابن النجار الفتوحي في "شرح الكوكب المنير"، والشوكاني في "إرشاد الفحول" وغيرهم.




[113] كما يقول الزركشي في "تشنيف المسامع بجمع الجوامع" 3/409.




[114] ينظر: "البرهان في أصول الفقه" لإمام الحرمين 2/721 وما بعدها، و"تشنيف المسامع بجمع الجوامع" للزركشي 3/409، و"البحر المحيط" 7/13.




[115] "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب" 4/481-483 بتصرف.




[116] ينظر: "أصول الشاشي" ص114، و"شرح العضد على مختصر ابن الحاجب" 2/280 وما بعدها، "الإحكام" للآمدي 3/119، و"إرشاد الفحول" ص207.




[117] ينظر:"البحر المحيط" 6/17، و"الروضة" مع شرحها لابن بدران 2/320، و"شرح الكوكب المنير" 4/405، و"إرشاد الفحول" 2/251.




[118] "البحر المحيط" للزركشي 6/17.




[119] ينظر: "إرشاد الفحول" 2/251.




[120] ينظر: "روضة الناظر" 2/320-321، مع "نزهة الخاطر" لابن بدران.




[121] ينظر: المصدر نفسه 2/322، و"شرح الكوكب المنير" 4/405.




[122] "روضة الناظر" 2/323، مع نزهة الخاطر.




[123] المصدر نفسه.




[124] ينظر في هذه القواعد: "أصول السرخسي" 2/116-117 وما بعدها، و"الأشباه والنظائر" لابن نجيم ص56 وما بعدها، "جمع الجوامع" 2/356 وما بعدها، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي ص50 وما بعدها، و"تقرير القواعد وتحرير الفوائد" لابن رجب، و"مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد" لأحمد القاري، و"شرح القواعد الفقهية" للزرقا، و"أصول الفقه الإسلامي" للدكتور/ وهبة الزحيلي 2/900-901.




[125] "الإحكام" للآمدي 2/68.




[126] "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول" 1/87.




[127] ص428.




[128] هو: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، القاضي، الفقيه الحنبلي، الأصولي المحدث، ولد سنة 380هـ، له كتاب "العدة"، وتوفي سنة 458هـ. ينظر: "طبقات الحنابلة" 3/361، "شذرات الذهب" 5/252.




[129] "العدة" للقاضي أبي يعلى 4/1243.




[130] المصدران نفسيهما 428، 4/1243.




[131] ينظر: "المسودة" 1/428-430.




[132] ينظر: "البحر المحيط" 6/76، و"الاعتصام" للشاطبي 2/354، و"روضة الناظر" 1/340-341، مع "نزهة الخاطر العاطر" لابن بدران.




[133] "الاعتصام" 2/364-368 بتصرف.




[134] ينظر: "المصالح المرسلة" للشنقيطي ص21.




[135] ينظر: "الاعتصام" 2/354، 356.




[136] ينظر: "الموافقات" للشاطبي 1/532-537، 3/180-183، 5/225-226، 128 وما بعدها.




[137] هو: محمد بن علي بن وهب تقي الدين أبوالفتح القشيري المصري المالكي ثم الشافعي ، عالم زاهد ورع ، له تصانيف كثيرة منها : "الإمام" ، و"الإلمام" ، و"شرح العمدة" ، وشرح بعض مختصر ابن الحاجب وغيرها ، توفي سنة 702هـ . ينظر:"شذرات الذهب" 6/5، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي 9/207، و"طبقات الحفاظ" ص513.




[138] ينظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 11/343، و"إرشاد الفحول" للشوكاني 2/265.




[139] "شرح تنقيح الفصول" ص446.




[140] ينظر: "الموافقات" 2/27، و"الإحكام" 4/168، و"الإبهاج" 3/185، و"نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي" للدكتور/ حسين حامد حسّان ص535-546، و"المصلحة في التشريع الإسلامي" للدكتور/ مصطفى زيد ص211، 235، 238، و"أصول مذهب الإمام أحمد" للدكتور/ عبد الله بن عبد المحسن التركي ص482-493، و"رفع الحرج" للدكتور/ يعقوب الباحسين ص263، و"أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها" للدكتور/ عبد العزيز بن عبد الرحمن الربيعة ص196-215.




[141] "الفقيه والمتفقه" 2/83.




[142] ينظر: "الموافقات" 5/196-197، و"الاعتصام" للشاطبي 2/370-371، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص451-452، و"تشنيف المسامع بجمع الجوامع" للزركشي 3/436-441، و"قواطع الأدلة" 2/268-271، و"البحر المحيط" للزركشي 6/87-94، و"نزهة الخاطر العاطر" لابن بدران 1/336-338، و"شرح الكوكب المنير" 4/431-432.




[143] "الموافقات" 5/198-199.




[144] "الاعتصام" 2/371.




[145] ينظر: "قواطع الأدلة" 2/270، و"تشنيف المسامع" 3/439-440.




[146] ينظر: "تشنيف المسامع" 3/439-441، و"البحر المحيط" 6/95-98.




[147] ينظر: "الاعتصام" للشاطبي 2/371-374، وينظر: "تشنيف المسامع" 3/439.




[148] أخرجه أبو داود باب "في الولي"برقم[2083]،والترمذي في باب"ما جاء لا نكاح إلا بولي"برقم[1102]وقال حديث حسن.




[149] ينظر: "الموافقات" 5/106-108، 191-192، و"الاعتصام" للشاطبي 2/375، و"مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها" لعلال الفاسي ص136.




[150] "الفروق" 2/451، وينظر:"الموافقات " 4/199، و"مجموع الفتاوى" 23/186-187، و"إعلام الموقعين" 2/147.




[151] ينظر: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص448-449، و"شرح الكوكب المنير" 4/434-436، و"أصول مذهب الإمام أحمد" ص513 عن "المدخل إلى مذهب أحمد" لابن بدران.




[152] 5/177، 182- 183، 185.




[153] "الموافقات" 5/158، وينظر: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص448، و"البحر المحيط" 6/83-86.




[154] كذا قال الشيخ عبد الله دراز في تعليقه على قول الشاطبي السابق، "الموافقات" 5/185-186.




[155] ينظر: "الموافقات" 184-186، و"شرح تنقيح الفصول" ص448-449، و"البحر المحيط" 6/84-86، و"أصول مذهب الإمام أحمد" ص509-512.




[156] "إعلام الموقعين" 3/147-171.




[157] ينظر: "الموافقات" 4/201، و"مجموع الفتاوى" 3/146، و"إعلام الموقعين" 3/124، 346، و"مقاصد الشريعة الإسلامية" لمحمد طاهر بن عاشور ص268، و"أصول مذهب الإمام أحمد" للدكتور/ عبد الله التركي ص500-503.




[158] ينظر: "الموافقات" 5/177، 182، 187.




[159] "الموافقات" 4/194.




[160] المصدر نفسه: 5/187، وينظر: "مقاصد الشريعة الإسلامية" لابن عاشور ص259-260.




[161] المصدر نفسه: 3/124-125.




[162] ينظر: "إعلام الموقعين" 3/171-415.




[163]"الفتاوى الكبرى" لابن تيمية 3/170، وينظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم 3/190-200، و"أصول مذهب الإمام أحمد" ص527.




[164] "إعلام الموقعين" 3/135.




[165] ينظر: "الموافقات" 2/494-496، و"تشنيف المسامع" 3/471-472، و"شرح الكوكب المنير" 4/448-452.




[166] "رسائل ابن عابدين" 1/44.




[167] ينظر: "الموافقات" 2/488، 509.




[168] "نشر العرف في بناء الأحكام على العرف" له، ص3.




[169] وهو أن يتعارف القوم على إطلاق لفظ على معنى غير الذي وضع له أصلا، بحيث يكون هو المتبادر إلى الأذهان عند الإطلاق، كتعارف الناس على إطلاق لفظ الولد على الذكر دون الأنثى، وعلى إطلاق لفظ اللحم على غير السمك، وعلى إطلاق الدابة على ذات الحافر. ينظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم ص93، و"الموافقات" 2/220، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي ص89، و"المسودة" ص123 وما بعدها، "رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" للدكتور/ يعقوب الباحسين ص344، و"أصول مذهب الإمام أحمد" ص585.




[170] "شرح الكوكب المنير" 4/452-453.




[171] "شرح تنقيح الفصول" ص448.




[172] ينظر: "نشر العرف في بناء الأحكام على العرف" لابن عابدين ص4 وما بعدها، و"تقرير القوعد وتحرير الفوائد" لابن رجب 2/555-570، و"إعلام الموقعين" لابن القيم 3/66-67، و"شرح القواعد الفقهية" للزرقا ص219، و"أصول مذهب الإمام أحمد" ص591-600، و"رفع الحرج في الشريعة الإسلامية" للدكتور/ يعقوب الباحسين ص371-372.





[173] "إعلام الموقعين" 3/3.




[174] "إعلام الموقعين" 3/41.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 12-04-2019, 12:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(4-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس




الفصل الثالث


الدلالات وأثرها في صحة الفتوى

وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:




التمهيد: وفيه التعريف والأهمية.

المبحث الأول:أنواع الدلالات من حيث الاستعمال في المعنى الحقيقة والمجاز.

المبحث الثاني:أنواع الدلالات باعتبار منطوقها ومفهومها.

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: دلالة المنطوق.

المطلب الثاني: دلالة المفهوم.

المبحث الثالث: منطوقات الدلالات باعتبارات أخرى.

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: النص، والظاهر، والتأويل، والمجمل، والمبيَّن.

المطلب الثاني: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد.



تمهيد:وفيه التعريف والأهمية:


تعريف الدلالات: هي في اللغة: جمع دلالة بفتح الدال وكسرها، وتطلق على معان أقربها هو "الإرشاد" [1] وعُرِّفت في الاصطلاح بأنها: "كون الشيء يلزم من فهمه فهم شيء آخر" [2].

والدلالات التي عُقِد لها هذا الفصل هي دلالات ألفاظ الكتاب والسنة من حيث استعمالها في المعاني، وباعتبار منطوقاتها ومفهوماتها، وباعتبار مدلولاتها، ومقتضيات أحوالها، وما ترمي إليه من استنباط الأحكام الشرعية، وكيفيات استثمار هذه الأحكام، واقتباسها من أصولها، واجتنائها من أغصانها. وهذا على حد تعبير الإمام الغزالي "عمدة أصول الفقه" [3]؛ لأنه مهمة المجتهدين، وميدان سباقهم واستبحارهم، ذلك؛ لأن تفسير نصوص الكتاب والسنة والاستدلال بمقتضيات ألفاظهما في الأحكام الشرعية متوقف على فقه هذه "الدلالات". فلها - من أجل هذا - أثرٌ بارز في صحة الفتوى. ككون هذا اللفظ في هذا السياق أريد به أيٌّ من استعمالاته؟ وككون الأمر متى أطلق انصرفت دلالته إلى الوجوب، ما لم تدل مقتضيات القرائن على غيره، ولا يُفتى بدليل عام له مخصص، وهكذا...

وهذه الدلالات اللفظية بمختلف أنواعها من أهم مباحث علم الأصول التي تعتمد على معرفة أساليب البيان في اللغة العربية. وفي هذا المعنى يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "فإنما خاطب اللهُ بكتابه العربَ بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها... إلخ"، وذكر رحمه الله في هذا السياق أحوال العام، والخاص، والظاهر، وأن العرب " تُسمِّي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمِّي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة"... وأن كل ذلك هو ما ألفته العرب من كلامها [4].

وهذه الدلالات لابد من معرفتها لكل متصدرٍ للفتوى، حتى لا يخلط بين العمومٍ والخصوص، والمطلقٍ والمقيد، والأوامر والنواهي، وحتى لا يفتي في أمرٍ يدل على الاستحباب فيوقعه موقع الواجب، ولا في نهي يدل على الكراهة فيوقعه موقع التحريم، وكذلك في المنطوقات والمفاهيم بأنواعها، مثل مفهوم الصفة في قوله صلى الله عليه وسلم:"وفي صدقة الغنم في سائمتها"[5] يخرج بمفهومه المعلوفة، ومثله المجمل والمبين كما في قوله تعالى:﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام:141]، ونحو ذلك مما يؤكد أهمية معرفة هذه الدلالات، حتى لا يقع اللبس في الأحكام[6].

وبعد هذا التمهيد وأهمية معرفة الدلالات للمفتي أوجز الحديث عنها في ثلاثة مباحث، هي:

المبحث الأول: أنواع الدلالات من حيث الاستعمال في المعنى الحقيقة والمجاز.

المبحث الثاني: أنواع الدلالات باعتبار منطوقها ومفهومها، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: دلالة المنطوق.

المطلب الثاني: دلالة المفهوم.

المبحث الثالث: منطوقات الدلالات باعتبارات أخرى، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: النص، والظاهر، والتأويل، والمجمل، والمبيَّن.

المطلب الثاني: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيّد.

المبحث الأول


أنواع الدلالات من حيث الاستعمال في المعنى الحقيقة والمجاز


فالحقيقة اصطلاحًا هي: استعمال اللفظ في معناه الأصلي الذي وضع له [7]. وللحقيقة أقسام ثلاثة: لغوية وشرعية وعرفية، فإن بقي استعمال اللفظ على وضعه اللغوي؛ فحقيقته وضعية لغوية، كلفظ الدابة في كل ما يدب على الأرض. وإن غير استعمال اللفظ من قبل الشرع؛ فحقيقته شرعية، كلفظ الصلاة، والصيام، والحج، فيراد بها عند إطلاقها تلك العبادات المعروفة، لا أصل وضعها اللغوي. وإن غير استعمال اللفظ بموجب العرف؛ فحقيقته عرفية كاستعمال لفظ الدابة في العرف لذوات الأربع فقط. وألفاظ الكتاب والسنة تحمل على الحقيقة الشرعية، فإن تعذر ذلك فعلى الحقيقة العرفية، فإن تعذر ذلك فعلى الحقيقة اللغوية [8]. والمجاز هو: استعمال اللفظ في غير ما وضع له أصلا؛ لقرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، كقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: 24]. وقد اختلف العلماء في وقوعه، فذهب الجمهور إلى أنه واقع في اللغة العربية التي بها نزل القرآن الكريم، وبها تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الكرام.

قال ابن قدامة: " والقرآن يشتمل على الحقيقة والمجاز، وهو اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي على وجه يصح... " [9]. ومع ذلك؛ فإن فحولا من العلماء قالوا بمنع وقوع المجاز في اللغة العربية، ومنهم من منعه في القرآن الكريم، أو في الأسماء والصفات خاصة، والظاهر أن هذا خلاف في الاصطلاح والتسمية، ولا مشاحة في هذا؛ لأن من منع من وقوع المجاز سماه أسلوبًا من أساليب العرب. ويظهر أن المانعين له في القرآن الكريم أو في الأسماء والصفات خاصة إنما منعوه سدًّا للذريعة حتى لا يتجرأ الناس على التأويل في الأسماء والصفات بدعوى المجاز[10].

وقصارى القول: أن يُعلم أن بيان الشرع لألفاظ الكتاب والسنة مقدم على كل بيان، فالواجب الرجوع إلى بيان الشرع وحدوده لهذه الألفاظ، وحملها على بيانه صلى الله عليه وسلم ، وعلى بيان صحابته الكرام وعلى عادات عصره صلى الله عليه وسلم ، وعلى اللغة، والعرف السائدين وقت نزول الخطاب، ولا يصح حملها على ألفاظ حدثت فيما بعد أو اصطلاحات وضعها المتأخرون من أهل الفنون، كما أن الواجب مع ذلك مراعاة السياق، ومقتضيات الأحوال، والنظر في قرائن الكلام [11]. وبهذا يظهر أثر الاستعمال الصحيح لألفاظ الكتاب والسنة من حيث الحقيقة والمجاز في صحة الفتوى.

ولما لتغير الألفاظ والاصطلاحات من أثر عليها، ومن هنا فإن على المفتي معرفة الألفاظ من حيث حقيقتها ومجازها وربط الفتوى بذلك، حتى يصيب الحكم الشرعي الصحيح.

المبحث الثاني


أنواع الدلالات باعتبار منطوقها ومفهومها.




وفيه مطلبان:



المطلب الأول: دلالة المنطوق.


دلالة المنطوق هي: ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق به [12].

والمنطوق نوعان:

أ ـ صريح، وهو: دلالة اللفظ على الحكم بطريق المطابقة، أي على تمام ما وضع له، أو بطريق التضمن، أي على جزء ما وضع له.

وهو ما يعرف عند الحنفية بـعبارة النص. كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275]، حيث دلّ هذا النص بمنطوقه الصريح على جواز البيع وتحريم الربا دلالة مطابقة.

ولدلالة الإنسان على الحيوان فقط، أو على الناطق فقط دلالة تضمن [13].

ب ـ غير صريح، وهو: دلالة اللفظ على لازم معناه بطريق الالتزام، فهذه هي الدلالة الالتزامية، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- دلالة الاقتضاء، وهي: عبارة عن ورود اللفظ على صفة يتوقف في صدقه، أو صحته على إضمار.

كقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان"[14]فإن الخطأ والنسيان لا يرتفعان بحكم الواقع.

وكلامه صلى الله عليه وسلم يجل عن الخلف، فيتعيَّن هاهنا إضمار "حكم" أو "إثم" أي: رفع حكم الخطأ، أو إثمه.

2- دلالة الإشارة، وهي: أن يدل اللفظ على ما ليس مقصودًا به في الأصل؛ ولكنه لازم للمقصود. كدلالة قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] على صوم من أصبح جنبا.

3- دلالة الإيماء والتنبيه، وهي: أن يقترن بالحكم وصف لو لم يكن تعليلاً لهذا الحكم؛ لكان في ذكره حشوٌ لا فائدة فيه، وذلك ما تُنزه عنه ألفاظ الشارع. كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فلو لم تكن السرقة تعليلاً للقطع؛ لكان الكلام معيبًا عند العقلاء.

وقد أدرج بعضهم الدلالة الالتزامية بأقسامها في المفهوم [15].

المطلب الثاني: دلالة المفهوم.


وهي: المستفادة من اللفظ لا من حيث النطق به [16].

وتنقسم إلى قسمين: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة.

فدلالة مفهوم الموافقة هي: دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق للمسكوت عنه نفيًا وإثباتا. وهي "دلالة النص" عند الحنفية [17]. فإن كان المفهوم المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، فتسمى فحوى الخطاب. كدلالة {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] على أن حرمة ضربهما أولى بالتحريم. وإن كان مساويا للحكم المنطوق، فتسمى لحن الخطاب. كدلالة {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء: 10] على تحريم إحراق أموالهم؛ لأنه مساوٍ للأكل المنطوق في التحريم.

وذهب بعض الأصوليين إلى أن دلالة مفهوم الموافقة قياسًا جليًا فتكون دلالته قياسية [18].

وقد أجمع العلماء على الاحتجاج بدلالة مفهوم الموافقة والفتوى بمقتضاها. وإنكار بعضهم لها - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -: "من بدعهم التي لم يسبقهم بها أحدٌ من السلف" [19].

ودلالة مفهوم المخالفة هي: دلالة اللفظ على ثبوت حكم للمسكوت عنه مخالف لما دل عليه المنطوق؛ لانتفاء ما يعتبر في الحكم من القيود، ويسمى - عند الجمهور القائلين به - دليل الخطاب؛ لأن الخطاب دالٌّ عليه، وتنبيه الخطاب[20]. واعتبر الحنفية التمسك به من التمسكات بالنصوص بوجوه فاسدة [21].

ويتنوع مفهوم المخالفة إلى أنواع متعددة أذكرها حسب ترتيبها في القوة: فأقواها مفهوم الحصر بأداة النفي والإثبات، نحو: لا إله إلا الله، إذ قيل: إنه منطوق صراحة، فمفهوم الحصر بإنما ومفهوم الغاية، حيث قيل: إنهما منطوقان بالإشارة، وهو قول ضعيف، فمفهوم الشرط، فمفهوم الوصف المناسب للحكم، فمفهوم الوصف الذي لم تظهر له مناسبة، فمفهوم العدد، وأنكره قومٌ من القائلين بمفهوم "الوصف" الذي قبله، فتقديم المعمول؛ لأنه يفهم منه الحصر، وأضعفها مفهوم اللقب، وجمهور العلماء على أن اللقب لا مفهوم له [22]، وفائدة سردها حسب قوتها تقديم الأقوى عند التعارض [23].

وقد ذهب الجمهور إلى الأخذ بدلالة مفهوم المخالفة والفتوى بمقتضاها من حيث الجملة؛ لكن بشروط منها: ألا يكون القيد خرِّج للغالب، وألا يكون لبيان الواقع، وألا يكون للامتنان، وألا يكون للتوكيد، وألا يكون جوابًا على سؤال مقيد به، أو حادثة تتعلق به، وألا يكون القيد بسبب الخوف أو نحوه كالجهل[24]. والضابط لهذه الشروط وما في معناها ألا يظهر لتخصيص المنطوق فائدة غير نفي الحكم عن المسكوت عنه[25].

المبحث الثالث


منطوقات الدلالات باعتبارات أخرى




وفيه مطلبان موجزان:



المطلب الأول: النص، والظاهر، والتأويل، والمجمل، والمبيَّن.


فالنص في اصطلاح الأصوليين: ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا فقط، ولا يتطرق إليه تأويل، كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]. والنص هنا هو الذي في مقابلة الظاهر والمجمل[26]. ودلالته على معناه دلالة قطعية وتتعين الفتوى بها، ولا يجوز العدول عنها إلا بناسخ[27].

والظاهر في اصطلاحهم هو: اللفظ الذي يحتمل معنيين أو أكثر، أحدهما أو أحدها أرجح مع تجويز غيره [28].

ودلالته على معناه دلالة ظنية راجحة، سواء أكانت هذه الدلالة ناشئة عن الوضع اللغوي، كدلالة العام على جميع أفراده، كالأسد فإنه موضوع للحيوان المفترس، أم عن العرف الشرعي الخاص، كالصلاة في عرف الشرع فإن الظاهر أنها المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، أم عن العرف العام، كلفظ الدابة، فإن الظاهر أنها ما يمشي على أربع. ودلالة الظاهر عند الجمهور يجب الفتوى بمقتضاها، ولا يعدل عنها إلا بدليل مرجِّح، أو بتأويل صحيح [29].

والإمام الشافعي رحمه الله قد يسمي الظاهر نصًا في مجاري كلامه؛ لأن النص من الظهور، وهذا باعتبار الوضع اللغوي، لا باعتبار "الاصطلاح" [30].

والتأويل في الاصطلاح المشهور عند الأصوليين: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح بدليل يصيِّره راجحًا [31]. فهذا هو حدّ التأويل الصحيح الذي تكون دلالته معتبرة، فإن قرُب التأويل لقرينة تدل عليه، كفى أدنى مرجِّح، نحو قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]، أي إذا أردتم القيام إليها، وإن بعُد لعدم قرينة تدل عليه افتقر إلى مرجِّح أقوى، وإن عُدِم الدليل المرجِّح، أو كان متخيَّلا وجب ردّ التأويل؛ لأنه حينئذٍ فاسدٌ متخيَّلٌ مظنون؛ لما فيه من تعطيل النصوص عن ظواهرها بلا حجة قائمة. كتأويل قوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في زكاة الغنم "في كل أربعين شاةً شاةٌ"[32] على إرادة قيمتها [33].

المجمل والمبيَّن - بفتح الياء -:

فالمجمل في اصطلاح الأصوليين : "ما تردّد بين مُحْتَمَلَيْنِ فأكثر على السواء" [34].

والمجمل واقع في الكتاب والسنة [35].

ويكون الإجمال في حرف كالواو المترددة بين العطف والاستئناف في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُون� � فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، وفي اسم كالقرء المتردد بين الحيض والطهر، وفي مركّب كقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، فإنه متردد بين الوليّ، والزوج، ويكون الإجمال لأسباب أخرى.

ودلالة المجمل دلالة غير واضحة؛ لعدم تَعيُّن المراد منه، فلا تجوز الفتوى ولا العمل بأحد محتملاته إلا بدليل خارجٍ عن لفظه مُبيِّنٍ للمراد به [36].

والمبيَّن - بفتح التحتية المثناة -: إخراج الشيء من حيِّز الإشكال والغموض إلى حيِّز التجلِّي والوضوح.

فهو بهذا التعريف المشهور عند الأصوليين خاص بما يقابل المجمل [37].

ويكون بيان المجمل بقول الله تعالى، أو بقول رسوله صلى الله عليه وسلم. وبفعله صلى الله عليه وسلم ، وبكتابته، وإشارته، وإقراره، وسكوته، وتركه. ويدخل في هذا تخصيص العموم، وتقييد المطلق [38].

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله [39] في مقدمة "أضواء البيان": "واعلم أن التحقيق جواز بيان المتواتر من كتاب أو سنة بأخبار الآحاد، وكذلك يجوز بيان المنطوق بالمفهوم... " [40] والله أعلم.

المطلب الثاني: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد.


1- الأمر والنهي:

فالأمر هو: "استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء" [41].

وله أربع صيغ دالة عليه:

الأولى: فعل الأمر، نحو: {أَقِمِ الصَّلاةَ} [الإسراء: 78].

الثانية: الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، نحو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

الثالثة: اسم فعل الأمر، نحو: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105].

الرابعة: المصدر النائب عن فعله، نحو: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4].

فالكلام النفسي، ونحوه كالإشارة لا تصح دلالته على الأمر بمقتضى الكتاب، والسنة، واللغة، والصرف [42].

وصيغ الأمر المطلقة المتجردة عن القرائن دلالتها تقتضي الوجوب عند السلف، وجمهور الأمة. وتحقيق هذا -كما تدل عليه ظواهر النصوص- يقتضي الفورية والمبادرة. فإذا اقترنت بها قرائن حملت - أي صيغ الأمر - على ما تقتضيه هذه القرائن من وجوب، أو ندب، أو إباحة، أو فورية، أو تراخٍ، أو غير ذلك بلا نزاع [43].

والذي يظهر - والله أعلم - أن دلالة الأمر - المجرد من القرائن الحالية والمقالية الصارفة عن الوجوب - على الوجوب قطعية، وقد تزداد هذه القطعية بالقرائن المؤيِّدة للوجوب [44].

وأما النهي: فعلى وزان الأمر على العكس، فلا حاجة إلى التكرار إلا في اليسير. كما قال ابن قدامة في "روضة الناظر" [45].

ويكون بصيغة "لا تفعل" [46] نحو: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا} [آل عمران: 130] أو بما يجري مجراها [47].

ودلالة النهي على التحريم حقيقية ظاهرة إلا مع القرائن والمعاني الصارفة.

فإن تجرد النهي عن المعاني والقرائن فهو للتحريم حقيقة عند الأئمة الأربعة وغيرهم [48].

ومع القرائن تحمل دلالة النهي على مقتضى هذه القرائن، ككراهة، ونحوها .

والمشهور عند الجمهور أن دلالة النهي تقتضي التكرار والفورية عند
انعدام القرائن [49]. والظاهر أن دلالة النهي المجرد على التحريم قطعية، وهذا لا ينافيه مجرد الاحتمال. وتزداد هذه القطعية بالقرائن المقويِّة للتحريم. وهذا يقابل ما تقدم في نوع
دلالة الأمر [50].


والنهي يقتضي الفساد بلا خلاف، إن كانت له جهة واحدة كالزنا، وشرب الخمر. وإن كانت له جهتان هو من إحداهما مأمور به، ومن الأخرى منهي عنه، فإن انفكت جهة الأمر عن جهة النهي لم يقتض الفساد اتفاقًا، وإن لم تنفك عنها اقتضاه؛ ولكن اختُلِف في انفكاك الجهة ما هو؟ ومن ثَمَّ وقع الخلاف في تصويره، كالخلاف في الصلاة بثوب حرير، وفي الأرض المغصوبة [51].

2- العام والخاص:

فالعام في اصطلاح الأصوليين هو: "اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له، بحسب وضع واحدٍ، دفعة، بلا حصر" [52]. ويخرج المشترك، والمطلق.

وللعموم ألفاظ دالة عليه وهي:

1- كل، وجميع.

2- الأسماء الموصولة، وأسماء الشرط، وأسماء الاستفهام. من المبهمات، وما تعتبر فيه "أل" من الموصولات الاسمية نحو: {وَالسَّارِقُ... }[المائدة: 38].

3- النكرة في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط.

4- الجمع المعرّف "بأل" غير العهدية، ويشمل كل ما هو من باب الجمع، واسم الجمع، واسم الجنس الجمعي.

5- المفرد المحلى "بأل" التي لاستغراق الجنس، نحو: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2].

6- المضاف إلى المعرفة.

فهذه الألفاظ كلها موضوعة للعموم عند الجمهور، وخلاف المخالف في هذا ضعيف لا يعول عليه؛ لإجماع الصحابة على ذلك، حيث كانوا يأخذون عمومات الكتاب والسنة بدون طلب دليل على العموم، إنما يطلبون دليل الخصوص؛ ولأن هذا هو مقتضى استعمال اللغة العربية التي بها نزل القرآن الكريم [53].

والعام ثلاثة أنواع، فهو إما: عام يراد به العموم قطعًا، فدلالة هذا على جميع أفراده دلالة قطعية؛ لأن معه قرينة تنفي احتمال تخصيصه، كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. فالمراد كل دابة دون استثناء، فهو عام لا خاصٌّ فيه البتة. وإما عام يراد به الخصوص قطعًا، فدلالته على بعض أفراده دلالة قطعية، وتسميته عامًا من باب المجاز، حيث دلّت قرينة تنفي بقاءه على عمومه، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، فهذا عام مخصوص بالمكلفين، حيث دلَّت قرينة شرعية على عدم إرادة الصبيان والمجانين. وإما عام مطلق لم تصحبه قرينة تدل على عمومه أو خصوصه. ودلالة هذا على أفراده عند أكثر الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة دلالة ظنية. ومذهب جمهور الأصوليين [54] في هذا النوع وجوب حمل ألفاظه على عمومها، ووجوب اعتقاد ذلك، والعمل به من غير توقف على البحث عن المخصص، فإن اطلع على مخصص عمل به. ويجب العمل فيما بقي من أفراد لفظ هذا العام بعد التخصيص[55].

والخاص : "قصر العام على بعض أفراده" [56].

واتفق الجمهور على جواز تخصيص العام بدليل مقبول يجب الرجوع إليه.وأدلة التخصيص عند الجمهور هي المخصصات المتصلة والمنفصلة. فالمتصلة هي: الاستثناء، والشرط، والصفة، والبدل، والغاية. والمنفصلة هي: الحس، والعقل، والإجماع، والنص من كتاب أو سنة، وقول الصحابي إن كان له حكم الرفع، والعرف القولي، والمفهوم، والقياس.هذا من حيث الجملة، وثَمَّت أحكامٌ وتفاصيل وتقاسيم لهذه المخصصات... [57].

وحيث إن التخصيص بيان؛ فلا يشترط في أدلته أن تكون مساوية أو أقوى. فالتحقيق أن المتواتر قرآنًا أو سنة يخصص بالآحاد، وأن القطعي الدلالة يخصص بظنيِّها[58].

قال العلامة الأصولي سيدي عبد الله بن الحاج العلوي [59] في منظومة "مراقي السعود":

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 12-04-2019, 12:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة : Egypt
افتراضي رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

  1. علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(5-5)
    د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس



    الفصل الرابع


    الاجتهاد والتقليد، والتعارض والترجيح وأثرها في صحة الفتوى

    وفيه ثلاثة مباحث:

    المبحث الأول: الاجتهاد، وفيه تمهيد وخمسة مطالب:
    المطلب الأول:تعريف الاجتهاد والفرق بين الاجتهاد والفتوى والقضاء.
    المطلب الثاني: المجتهد، وشروطه.
    المطلب الثالث: مجالات الاجتهاد المجتهَد فيه.
    المطلب الرابع: تجزؤ الاجتهاد.
    المطلب الخامس: الاجتهاد الجماعي وأثره في صحة الفتوى في هذا العصر.
    المبحث الثاني: التقليد، وفيه ثلاثة مطالب:
    المطلب الأول: تعريفه ومجاله.
    المطلب الثاني: مراتب المقلِّدين.
    المطلب الثالث: المقلَّد بفتح اللام.
    المبحث الثالث: التعارض والترجيح.
    المبحث الأول

    الاجتهاد

    وفيه تمهيد وخمسة مطالب:
    تمهيد:
    إن الاجتهاد في درك أحكام العمليات الشرعية الظنية مظهرٌ يقتضيه وجوب الاتباع {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا. . . } [الجاثـية: 18]، ويقتضيه عموم الشريعة، وشمولها، وكمالها، ودلالة نصوصها على جمهور الحوادث ومستجداتها. فلا يلزم إذاً؛ أن يكون الحديث عن الاجتهاد مجرد ردة فعل للتقليد... فالصحابة وتابعوهم فيهم مجتهدون. والأئمة الأربعة مجتهدون، وكذلك بعض أصحابهم، وبعض أتباع مذاهبهم.
    والقول بسد باب الاجتهاد في القرن الرابع الهجري [1]؛ وإن كان موجعًا، وتكتنفه ظروف وملابسات؛ إلا أن التأريخ قد حفظ - عبر عصوره - أعلاما مجتهدين مجددين تجلَّت فيهم مظاهر الاجتهاد وتمثلت... [2].
    ويحسن هنا التأكيد على أن الاجتهاد هو ساحة المفتي وميدانه الفسيح وأرضه الخصبة وحديقته الفيحاء وروضته الغناء، فمنها يصدر، وعليها يرد لدرك الأحكام الشرعية الصحيحة - ولكي يؤدي الاجتهاد أثرًا فعَّالاً يوظف في صحة الفتوى - لابد من ملاحظة عدم الإفراط في بعض المواضيع ذات الصلة بالاجتهاد، مع الاستفادة منها كمواضيع حيّة عصرية مهمة بلا شك. كالإفراط في رفع رايات وألوية "للمصلحة"، دون مراعاة لضوابطها [3].
    وكالإسراف في "فقه الواقع" [4]. وقل مثل ذلك في "الاجتهاد المقاصدي"، ونحوها من المصطلحات التي ينادي بها بعض المعاصرين، ويستفاد من بواعثها المحمودة بلا شك، مع الحذر كل الحذر ممّا في طيّاتها من الشطط، والمبالغة، والإسراف إلى حدّ ربما خرج عن أحكام الشريعة ورسومها أحيانًا[5] مما يؤكد أهمية معرفة هذا الباب للمفتي حتى يقع اجتهاده موقعه الصحيح.
    ومن المعلوم أن الاجتهاد متى أطلق انصرف إلى "الاجتهاد المطلق" المستقل أو المنتسب؛ لأنه بذلك تتحقق فيه ضوابطه، وشروطه التي اعتبرها الأصوليون[6]، ولأنه بذلك يؤثر في صحة الفتوى... إذ كيف يتأدى هذا ببعض مراتب الاجتهاد المستندة في التأصيل، والتصحيح، والتخريج على نصوص الأئمة، وأقوالهم، وقواعدهم بدلاً من النصوص الشرعية، بل كيف يتأدى هذا ببعض المراتب المنسوبة إلى الاجتهاد، وهي في التحقيق من ضروب التقليد المحض...!!! [7]
    المطلب الأول: تعريف الاجتهاد، والفرق بين الاجتهاد والفتوى والقضاء.

    جاء في لسان العرب لابن منظور [8]: ـ "الاجتهاد والتجاهد": بذل الوسع والمجهود، وهو افتعال من الجهد، وهو الطاقة. اهـ[9].
    وفي الاصطلاح: عرفه علماء الأصول بتعريفات متقاربة [10] ولعل أجمعها هو أن: الاجتهاد استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم [11].
    والمراد بالاستفراغ: بذل تمام الطاقة بحيث تحس النفس بالعجز عن المزيد، والفقيه المجتهد[12] احتراز عن المقلد، وأفاد قوله: لتحصيل ظن أنه لا اجتهاد في القطعيات، ولم يحتج لتقييد الحكم بالشرعي، كما فعل غيره؛ لأنه قد دلّ عليه الفقيه، وإلا لم يكن لذكر الفقيه في الحدّ معنى[13].
    وذهب بعض الأصوليين إلى أن الاجتهاد هو: القياس [14].
    وصرح الإمام الشافعي في "الرسالة" بأن القياس والاجتهاد "اسمان لمعنى واحد" [15]. مراده بذلك – والله أعلم –: " أن كلاً منهما يُتوصل به إلى حكم غير منصوص عليه" [16].
    والتحقيق: أن القياس نوع من الاجتهاد[17]، فكل قياس اجتهاد وليس العكس، والله أعلم.
    الفرق بين الاجتهاد، والفتوى، والقضاء:
    ذهب كثير من الأصوليين إلى الجمع بين حقيقة الفتوى [18]، والاجتهاد، وعدهما من المترادفات لمعنى واحدٍ دون تفريق بينهما [19].
    ومن فرّق بينهما؛ اشترط أن تكون الفتوى ثمرة الاجتهاد [20].
    وأما القضاء فهو الإفتاء على وجه الإلزام وفصل الخصومات، وبينهما فروق، منها:
    - أن القضاء يكون في مصالح الدنيا، كالعقود، والأملاك، والرهون، والإفتاء في مصالح الدنيا والآخرة، كالعقود، والعبادات.
    - أن الإفتاء أوسع من القضاء من حيث جواز إفتاء القريب، والمرأة، والحاضر، والغائب، بخلاف القضاء فلا يقضى لمن تربطه به قرابة قوية، ولا على غائب، فالإفتاء أعم موقعا، وأخص لزوما بعكس القضاء.
    - أن قضاء القاضي يقضي على الخلاف في المسائل المختلف فيها، ولا ينقض باجتهاد مثله، بخلاف الإفتاء فلا يقضي على الخلاف في مسائل الخلاف، ولمفت آخر أن ينظر فيما أفتاه فيه غيره، ويفتي بخلافه [21].
    المطلب الثاني: المجتهد، وشروطه:

    وهو في اصطلاح الأصوليين: الفقيه المستفرغ وسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي [22]، ويشترط فيه أن يكون ذا ملكة يقتدر بها على استنتاج واستخراج الأحكام من مآخذِها، وذا إشراف على نصوص الكتاب والسنة، ويكفيه معرفة آيات وأحاديث الأحكام، وأن يكون عارفًا بمواقع الإجماع، والاختلاف ومسائلهما، عالمًا بلسان العرب، وبالناسخ والمنسوخ، ذا دراية بعلم الجرح والتعديل، وبأحوال الرواة، عالمًا بعلم أصول الفقه على نحو يؤهله للاجتهاد لا على نحو يعوقه عن ذلك [23]، عالمًا بمقاصد الشريعة، عالمًا بواقعه، ويختلف الواقع باختلاف الأزمنة، والظروف، والأحوال، والمناسبات.
    فهذه هي جماع الشروط المعتبرة للمجتهد [24]، وهي راجعة إلى طبيعة الاجتهاد نفسه، وكونه تخصصًا دقيقًا ينطبق على المجتهد.
    إذ المجتهد الحق هو من يكتنفه مع هذه الشروط الورعُ، والتقوى، ومراقبةُ الله، وملازمةُ الأولى، ومن لا يخاف في الحق لومة لائم؛ لأنه قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، من حيث الوراثة [25]، ومن حيث البلاغ، والتعليم، والإنذار، والإفتاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [26].
    أنواع المجتهدين: هناك أنواع من المجتهدين ذكرها الأصوليون، فمنهم: المجتهد المطلق، والمجتهد في المذهب، والمجتهد في باب من الأبواب، والمجتهد في مسألة من المسائل، ونحو ذلك، والمجتهد المطلق، إما مستقل، وإما منتسب [27]، فالمستقل: كالأئمة الأربعة، ونحوهم، كالليث بن سعد [28]، والأوزاعي.
    فكل واحدٍ من هؤلاء استقل بنفسه بإدراك وترتيب أصوله، ومناهج استنباطه باجتهاد منه المستقل، دون تقليد، أو انتساب لأحد.
    والمجتهد المنتسب: هو الذي وصل إلى ما وصل إليه المجتهد المستقل من غير أن يكون قد أسس لنفسه قواعد ومناهج للاستنباط ورتبها؛ بل سلك في ذلك طريق مجتهد مطلق مستقل، إلا أنه ليس مقلدا لإمامه في الدليل والحكم، غير أنه يستعين بكلامه في تتبع الأدلة، والتنبيه للمآخذ كثيرًا[29].
    ومن كان دون المجتهد المنتسب؛ ففي بعضهم نوع اجتهاد، كمجتهدي التخريج، ومثلهم مجتهدو المذهب، وأصحاب الوجوه والطرق، ومن كان دونهم؛ فمعدود من مراتب المقلِّدين [30]. والله أعلم.
    المطلب الثالث: مجالات الاجتهاد المجتهَد فيه:

    المراد بالمجتهد فيه: كل حكم شرعي عملي أو علميّ يقصد به العلم ليس فيه دليل قطعي[31].
    ويخرج بقيد "الشرعي العملي" الأحكام اللغوية، والعقلية، والحسية، وكذلك العلمية الاعتقادية، فإنه - أي الحكم العلمي الاعتقادي - لا يسمى اجتهادًا عند الفقهاء، وإن كان يسمى اجتهادًا عند الأصوليين.
    ويخرج بذلك ما لا مجال للاجتهاد فيه: وهو ما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع التي ثبتت بالأدلة القطعية في ثبوتها ودلالتها[32].
    وعليه؛ فالأحكام الشرعية العملية بالنسبة للاجتهاد نوعان: نوع يجوز الاجتهاد فيه أي: هو مجال للاجتهاد، ونوع لا يجوز الاجتهاد فيه.
    فيجوز الاجتهاد في الظنيات لا في القطعيات [33]، وهذا يشمل:
    أولاً: بذل الوسع لتحصيل حكم شرعي عملي من الأدلة الظنية في ثبوتها وفي دلالتها.
    فمجال الاجتهاد هنا في البحث في السند، وفي طريق وصوله إلينا، ودرجة رواته من العدالة، والضبط، والسلامة من الشذوذ والعلة القادحة - كما هو معلوم في علوم الحديث - لمعرفة صحة الحديث سندا ومتنا هذا من حيث ظنية الثبوت، وأما من حيث ظنية الدلالة؛ فمجال الاجتهاد فيه في فهم المعنى المراد من النص، وقوة دلالته على المراد.
    والدلالة تكون لفظية، ومعنوية، ويدخل في هذا دلائل النص وأماراته [34].
    ثانيًا: بذل الوسع لتحصيل حكم شرعي عملي من دليل قطعي الثبوت لكنه ظني الدلالة.
    ثالثا: بذل الوسع فيما هو قطعي الدلالة لكنه ظني الثبوت.
    رابعًا: بذل الوسع لتحصيل حكم شرعي عملي فيما لا نص فيه أصلاً [35]، كأحد أنواع "الاستدلال" من قياس، أو مصلحة مرسلة ونحوها [36].
    خامسًا: ويدخل في ذلك نظر المجتهد في الأدلة المتعارضة والجمع أو الترجيح بينهما بالمسالك المعروفة لدى الأصوليين [37].
    المطلب الرابع: تجزؤ الاجتهاد:

    والمراد به: أن يكون العالم قد تحصل له في بعض الأبواب الفقهية، أو في بعض مسائلها ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة دون غيرها [38]، فإذا حصل له ذلك فهل له أن يجتهد فيها؟ على قولين: أصحها: القول بالجواز، وهو مذهب الأكثرين [39].
    وقال ابن دقيق العيد: وهو المختار [40].
    وبه قال الأكثرون من مذاهب الأئمة الأربعة، وأيد ذلك الغزالي [41]، والآمدي [42]،
    وابن الحاجب [43]، وابن السبكي [44]، وابن النجار الفتوحي [45]، وابن الهمام الحنفي [46]، والقرافي[47]، والزركشي في "البحر المحيط" [48]، وآخرون.

    ولتجزئة الاجتهاد صورتان:
    إحداهما: أن تكون في باب أو أكثر من الأبواب الفقهية.
    والأخرى: في مسألة أو مسائل باب أو أكثر من الأبواب الفقهية.
    قال الزركشي رحمه الله: "قيل: وكلامهم يقتضي تخصيص الخلاف إذا عرف بابًا دون باب. أما مسألة دون مسألة فلا يتجزأ قطعًا. والظاهر جريان الخلاف في الصورتين"[49].
    والقول بالجواز هو الأولى بالاعتبار مطلقا من حيث الجملة [50]، مع ملاحظة قول العلامة ابن القيم رحمه الله: "وكلما كانت الصلة بين بعض أبواب الفقه وبعضها منقطعة كالفرائض، والبيوع، والزكاة كان حصول قدرة الاجتهاد في بعضها دون بعضها الآخر جائزًا... " [51].
    ويؤكد القول بالجواز في عصرنا هذا أمورٌ:
    الأول: أنه تقتضيه ظروف العصر، وقضاياه، ومستجداته.
    الثاني: أن فيه من رفع الحرج والتيسير ما لا يخفى.
    الثالث: أنه ضرورة للنهوض "بالاجتهاد الجماعي" وفق ضوابط ومعايير تضعها المجمعات العلمية، أو المؤتمرات الفقهية ونحوها.
    الرابع: أنه إذا كانت التخصصات الدقيقة في شتى العلوم الإسلامية والعربية بمثابة تجزئةٍ للاجتهاد بين هؤلاء المتخصصين، فما المانع من القول بالجواز الآن؟!!
    المطلب الخامس: الاجتهاد الجماعي وأثره في صحة الفتوى في هذا العصر:

    إن تاريخ الاجتهاد الجماعي أو الفتوى الجماعية يرجع إلى عصر الصحابة، فكانوا رضوان الله عليهم يتذاكرون في القضايا المشكلة [52].
    جرى هذا في عهد أبي بكر الصديق، ثم في عهد عمر بن الخطاب [53].
    ونظرًا لما تقتضيه ظروف هذا العصر الذي تتوالى فيه الوقائع والنوازل المستجدات في كل ماله صلة بحياة الناس، جاءت نداءات كثيرة من العلماء المعاصرين بضرورة الاجتهاد الجماعي في النوازل، وبضرر الاجتهاد الفردي فيها، وإنشاء مجامع فقهية عالمية؛ لتحقيق ذلك [54].
    ويرى كثير من العلماء المعاصرين أن الاجتهاد الجماعي هو من قبيل التشاور بين الفقهاء حول حكم مسألة معينة، فيكون اتفاقهم حول نتيجة هذا الحكم اتفاقًا أغلبيًا، وليس هو "الإجماع الأصولي"؛ لما علم من تعذر الإجماع بالمعنى المصطلح عليه لدى الأصوليين؛ ولأن بين الاجتهاد الجماعي، وبين الإجماع فروقًا. بينما يرى قليل منهم أنه من قبيل "الإجماع الأصولي" [55].
    ولا يخفاك – أيها القارئ الكريم – أن الرأي الأول هو الصحيح الجدير بالاعتبار، وأن بين الاجتهاد الجماعي، وبين "الإجماع الأصولي" مفاوز تنقطع دونها أعناق المطيّ، فتأمل.
    ومن مظاهر أثر صحة الفتوى من خلال تنظيم الاجتهاد الجماعي عبر مجامع فقهية عالمية متحررة، ما يأتي:
    الأول: التأكيد على دلالة النصوص على جمهور الحوادث وتفويت الفرصة على الأخذ بالقوانين الوضعية. الأمر الذي يُكمِّمُ أفواه من يتهمون الشريعة بالقصور، والجمود، والعجز عن توصيف الحلول للمشكلات المعاصرة، بدعوى أنها نصوص محدودة ولم تعالج إلا قضايا ظرفية تجاوزها الزمن [56].
    الثاني: إعمال أهم القواعد - لمراعاة مصالح العباد - التي يتأسس عليها فقه المقاصد، وهي: اعتبار المآلات [57].
    الثالث: أن ذلك يُلجئ إلى التجديد المحمود المشروع للفقه الإسلامي وأصوله، والقول بتأدية هذا التجديد بتقنين الشريعة ـ وإن قال به بعض العلماء المعاصرين ـ لا يتجه، بل في "التقنين" سلبيات، ومفاسد كبيرة [58].
    الرابع: ويلجئ أيضًا إلى التناظر بين العلماء من أجل طلب إصابة الحق في المسائل المختلف فيها كما نقل الزركشي عن المزني [59] قوله: إذا اختلف الأئمة وادعت كل فرقة بأن قولها هو الموافق للكتاب والسنة؛ وجب الاقتداء بالصحابة وطلبهم الحق بالشورى الموروثة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيحضر الإمام أهل زمانه من العلماء فيناظرهم فيما مضى وحدث من الخلاف، ويسأل كل فرقة عما اختارت، ويمنعهم من الغلبة والمفاخرة، ويأمرهم بالإنصاف والمناصحة، ويحضهم على القصد به إلى الله، فإن الله يقول { إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، فبذلك يتبين لهم النظر للكتاب والسنة. اهـ. بتصرف [60].
    وبعد عرض أهم مسائل الاجتهاد التي يذكرها الأصوليون يحسن أن أبين ضرورة أهلية المفتي للاجتهاد، ومعرفته بقضاياه، وبعض المسائل المتعلقة بذلك، حيث يشترط في المفتي أن يكون مؤهلاً للاجتهاد، يقول الإمام الآمدي: "فلابد وأن يكون المفتي من أهل الاجتهاد، وإنما يكون كذلك بأن يكون عارفًا بالأدلة العقلية، كأدلة حدوث العالم، وأن له صانعا، وأنه واحد متصف بما يجب له من صفات الكمال والجلال، منزه عن صفات النقص والخلل، وأنه أرسل محمدًا النبي صلى الله عليه وسلم وأيده بالمعجزات الدالة على صدقه في رسالته، وتبليغه للأحكام الشرعية، وأن يكون مع ذلك عارفا بالأدلة السمعية وأنواعها، واختلاف مراتبها في جهات دلالاتها، والناسخ والمنسوخ منها، والمتعارضات، وجهات الترجيح فيها، وكيفية استثمار الأحكام منها على ما سبق تعريفه، وأن يكون عدلا ثقة، حتى يوثق به فيما يخبر عنه من الأحكام الشرعية، ويستحب له أن يكون قاصدا للإرشاد وهداية العامة إلى معرفة الأحكام الشرعية، لا بجهة الرياء والسمعة، متصفا بالسكينة والوقار؛ ليرغب المستمع في قبول ما يقول، كافًا نفسه عما في أيدي الناس، حذرًا من التنفير عنه"[61].
    وقد فرق الخطيب البغدادي في أهلية المفتي للاجتهاد بين قسمين من المجتهدين: مستقل وغير مستقل، فذكر أن القسم الأول: المفتي المستقل، وشرطه أن يكون قيما بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما التحق بها على التفصيل في الأدلة، ووجوه دلالاتها، ويكفيه اقتباس الأحكام منها، وذلك يستفاد من علم أصول الفقه، عارفًا من علم القرآن وعلم الحديث، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلمي النحو واللغة، واختلاف العلماء وإنفاقهم بالقدر الذي يتمكن به من الوفاء بشروط الأدلة، والاقتباس منها ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك، عالمًا بالفقه، ضابطًا لأمهات مسائله وتفاريعه المفروغ من تمهيدها، فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية، وأن يكون مجتهدًا مستقلاً.
    والمجتهد المستقل: هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتقيد بمذهب أحد [62].
    والقسم الثاني: المفتي الذي ليس بمستقل.
    فمنذ دهر طويل طوي بساط المفتي المستقل المطلق والمجتهد المستقل، وأفضى أمر الفتوى إلى الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة، وللمفتي المنتسب أحوال أربع:
    الأولى: أن لا يكون مقلدًا لإمامه، لا في المذهب ولا في دليله؛ لكونه قد جمع الأوصاف والعلوم المشترطة في المستقل، وإنما ينسب إليه؛ لكونه سلك طريقه في الاجتهاد ودعا إلى سبيله.
    ففتوى المستفتين في هذه الحالة في حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق يعمل بها، ويعتد بها في الإجماع والخلاف.
    الحالة الثانية: أن يكون في مذهب إمامه مجتهدا مقيدا، فيستقل بتقرير مذاهبه بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده، ومن شأنه أن يكون عالما بالفقه، خبيرا بأصول الفقه، عارفا بأدلة الأحكام، تفصيلا بصيرا بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الارتياض في التخريج والاستنباط قيما بإلحاق ما ليس بمنصوص عليه في مذهب إمامه بأصول مذهبه وقواعده، ولا يعرى عن شوب من التقليد له لإخلاله ببعض العلوم والأدوات المعتبرة في المستقل، مثل أن يخل بعلم الحديث، أو بعلم اللغة العربية، وكثيرا ما وقع الإخلال بهذين العلمين في أهل الاجتهاد المقيد، ويتخذ أصول نصوص إمامه أصولا يستنبط منها نحو ما يفعله المستقل بنصوص الشارع، وربما مريه الحكم، وقد ذكره إمامه بدليله، فيكتفي بذلك، ولا يبحث: هل لذلك الدليل من معارض؟ ولا يستوفي النظر في شروطه كما يفعله المستقل، وهذه صفة أصحاب الوجوه والطرق في المذهب، وعلى هذه الصفة كان أئمة أصحابنا أو أكثرهم ومن كان هذا شأنه، فالعامل بفتياه مقلد لإمامة لاله معوله على صحة إضافة ما يقوله إلى إمامه، لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إلى الشارع. وذكر ~ بقية الحالات [63].
    ثم أورد رحمه الله ثلاثة تنبيهات مهمة في هذا الباب فقال:
    "الأول: الذي رأيته من كلام الأئمة يشعر بأن من كانت هذه حالته ففرض الكفاية لا يتأدى به، ووجهه أن ما فيه من التقليد نقص وخلل في المقصود، والذي يظهر أنه يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأد به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى؛ لأنه قد قام في فتواه مقام إمام مطلق، فهو يؤدي عنه ما كان يتأدى به الفرض حين كان حيا قائما بالفرض فيها والتفريع على الصحيح في أن تقليد الميت جائز.
    الثاني: قد يؤخذ من المجتهد المقيد الاستقلال بالاجتهاد والفتوى في مسألة خاصة، أو في باب خاص، كما تقدم في النوع الذي قبله.
    الثالث: يجوز له أن يفتي فيما لا يجده من أحكام الوقائع منصوصا عليه لإمامه بما يخرجها على مذهبه، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل، وإليه مفزع المفتين من مدد مديدة.
    فالمجتهد في مذهب الشافعي مثلا المحيط بقواعد مذهبه، المتدرب في مقاييسه وسبل متفرقاته، وتنزل كما قدمنا ذكره في الإلحاق بمنصوصاته وقواعد مذهبه، منزلة المجتهد المستقل في إلحاقه ما لم ينص عليه الشارع بما نص عليه، وهذا أقدر على هذا من ذاك على ذاك، فإن هذا يجد في مذهب إمامه من القواعد الممهدة والضوابط المهذبة ما لا يجده المستقل في أصول الشرع ونصوصه، ثم إن المستفتي فيما يفتيه به من تخريجه هذا مقلد لإمامه، لا له"[64].
    وقد صنف ابن القيم من تجوز لهم الفتوى إلى أربعة أقسام:
    أحدهم: العالم بكتاب الله، وسنة رسوله، وأقوال الصحابة، فهو المجتهد في أحكام النوازل، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت، ولا ينافي اجتهاده تقليده لغيره أحيانًا. فلا تجد أحدًا من الأئمة إلا هو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام.
    النوع الثاني: مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها، وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه، من غير أن يكون مقلدًا لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه، ورتبه، وقرره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معا.
    النوع الثالث: من مجتهد في مذهب من انتسب إليه، مقرر له بالدليل، متقن لفتاويه، عالم بها، لكن لا يتعدى أقواله وفتاويه، ولا يخالفها إذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البته.
    النوع الرابع: طائفة تفقهت في مذهب من انتسبت إليه، وحفظت فتاويه وفروعه، وأقرت على أنفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه، فإن ذكروا الكتاب والسنة يومًا في مسألة، فعلى وجه التبرك والفضيلة، لا على وجه الاحتجاج والعمل، وإذا رأوا حديثًا صحيحا مخالفًا لقول من انتسبوا إليه، أخذوا بقوله، وتركوا الحديث وتركوا الحديث، وإذا رأوا أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قد أفتوا بفتيا ووجدوا لإمامهم فتيا تخالفها أخذوا بفتيا إمامهم، وتركوا فتاوى الصحابة، قائلين: "الإمام أعلم بذلك منا ونحن قد قلدناه فلا نتعداه ولا نتخطاه، بل هو أعلم بما ذهب إليه منا، ومن عدا هؤلاء فمتكلف متخلف قد دنا بنفسه عن رتبة المشتغلين، وقصر عن درجة المحصلين، فهو مكذلك مع المكذلكين"، وإن ساعده القدر واستقل بالجواب، قال: "يجوز بشرطه، ويصح بشرطه، ويجوز ما لم يمنع منه مانع شرعي" ويرجع في ذلك إلى رأي الحاكم، ونحو ذلك من الأجوبة التي يستحسنها كل جاهل، ويستحي منها كل فاضل[65].
    وهناك مسائل مهمة في هذا المجال، منها: فتوى المفتي غير المجتهد بمذهب غيره من المجتهدين.
    فقد اختلفوا في من ليس بمجتهد، هل تجوز له الفتوى بمذهب غيره من المجتهدين؟
    فذهب جماعة من الأصوليين إلى المنع من ذلك؛ لأنه إنما يسأل عما عنده لا عما عند غيره؛ ولأنه لو جازت الفتوى بطريق الحكاية عن مذهب الغير لجاز ذلك للعامي، وهو محال، مخالف للإجماع.
    ومنهم من جوزه إذا ثبت ذلك عنده بنقل من يوثق بقوله.
    والمختار: أنه إذا كان مجتهدًا في المذهب بحيث يكون مطلعًا على مأخذ المجتهد المطلق الذي يقلده، وهو قادر على التفريع على قواعد إمامه وأقواله، متمكن من الفرق والجمع، والنظر والمناظرة في ذلك، كان له الفتوى[66].
    ومنها مسألة: تعدد المفتين في البلد الواحد.
    فإذا حدثت للعامي حادثة، وأراد الاستفتاء عن حكمها، فإما أن يكون في البلد مفت واحد، أو أكثر: فإن كان الأول وجب عليه الرجوع إليه والأخذ بقوله، وإن كان الثاني فقد اختلف الأصوليون، فمنهم من قال: لا يتخير بينهم حتى يأخذ بقول من شاء منهم، بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأورع والأدين والأعلم، وهو مذهب الإمام أحمد وعدد من أصحاب الشافعي وجماعة من الفقهاء والأصوليين [67]، مصيرا منهم إلى أن قول المفتيين في حق العامي ينزل منزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد، وكما يجب على المجتهد الترجيح بين الدليلين، فيجب على العامي الترجيح بين المفتيين، إما بأن يتحفظ من كل باب من الفقه مسائل ويتعرف أجوبتها ويسأل عنها، فمن أجابه أو كان أكثر إصابة اتبعه، أو بأن يظهر له ذلك بالشهرة والتسامع، ولأن طريق معرفة هذه الأحكام إنما هو الظن، والظن في تقليد الأعلم والأدين أقوى، فكان المصير إليه أولى.
    وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين والفقهاء إلى التخيير والسؤال لمن شاء من العلماء، وسواء تساووا أو تفاضلوا، وهو المختار [68].
    ويدل على ذلك أن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين، فإن الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم، ولهذا قال عليه السلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وعضوا عليها بالنواجذ»[69] وقال عليه السلام: «أقضاهم علي ... وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد.. »[70] وكان فيهم العوام، ومن فرضه الاتباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لا غير.
    ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولا أنكر أحد منهم اتباع المفضول والاستفتاء له مع وجود الأفضل، ولو كان ذلك غير جائز لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره والمنع منه، ولولا إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم أولى[71].
    ومن المسائل المهمة في هذا الباب: مسألة التمكن من الفتوى.
    وقد أوضح الغزالي رحمه الله أن التمكن من الفتوى يتطلب الإلمام بمصادر الأحكام، وكيفية استنباط الأحكام منها، فقال: "إنما يكون متمكنًا من الفتوى بعد أن يعرف المدارك المثمرة للأحكام، وأن يعرف كيفية الاستثمار"[72].
    ويرى ابن القيم رحمه الله أنه لا يتمكن المفتي من الفتوى بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجر، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله [73].
    ومنها: إخبار المفتي مستفتيه بتغير اجتهاده.
    فإذا لم يعمل المقلد بفتوى من قلده حتى تغير اجتهاد مفتيه لزم المفتي إعلام المقلد له، ولو مات المفتي قبل إعلام العامي بتغير اجتهاده استمر على ما أفتى به في الأصح[74].
    ولكن إذا كان المستفتي قد عمل بما أفتاه المفتي ثم تغير اجتهاده، فإنه لا يلزمه تعريف المستفتي بتغير اجتهاده[75].
    وختام مسك هذه المسائل ونهاية عقد نظمها مسألة: تكرار مراجعة المفتي لاحتمال تغير اجتهاده.
    وقد اختلف العلماء في وجوب تكرار مراجعة المفتي لاحتمال تغير الاجتهاد، فأوجبه قوم لاحتمال تغير الاجتهاد، ومنعه آخرون؛ لأن احتماله كاحتمال النسخ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا لا يكررون المراجعة.
    والذي يظهر – والله أعلم – التفصيل، فإن كانت المسافة بينهما شاسعة، والواقعة تكرر في كل يوم كالصلاة والكفارة فلا يراجع قطعا، لعلمه بأن المقلدة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يفعلون ذلك، وإن كانت الواقعة لا يكثر تكررها فالظاهر أيضا أنه لا يراجع، لأنا نستدل بعدم مراجعتهم في تلك الصور مثله في هذه الصورة، ثم يخرج على هذا الاختلاف وجوب الإخبار على المفتي إذا تغير اجتهاده [76].
    المبحث الثاني

    التقليد

    وفيه ثلاثة مطالب:
    المطلب الأول: تعريفه ومجاله:

    أما تعريفه فهو: أخذ قول الغير من غير معرفة دليله [77].
    فالرجوع إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إلى الإجماع، ورجوع القاضي إلى العدول ليس تقليدًا[78].
    واختار تاج الدين ابن السبكي أن رجوع العامي إلى قول المفتي يسمى تقليدًا. قال وعليه جرى المصنف - يعني ابن الحاجب في المختصر - فيما بعد، حيث يقول: "غير المجتهد يلزمه التقليد، وإن كان عالمًا" [79].
    ومن قيّد تعريف التقليد بقوله: "بغير حجة" لم يجعل رجوع العامي إلى المجتهد تقليدًا؛ لأن ذلك بحجة، هي اتباع المجتهد المفتي، وقد أمره الله في كتابه باتباعه[80].
    وقريب من هذا، قول الإمام الشاطبي رحمه الله:
    "فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام، كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين" [81]، ولا يُخرَّجُ كلامه هذا على أن أقوالهم حجة على العوام في ذاتها كأقوال الرسل - عليهم الصلاة والسلام - بل لأنه لابد أن تستند إلى مأخذ شرعي عام، أو خاص وإن لم يذكروه؛ لعدالتهم، وسعة اطلاعهم، واستقامة أفهامهم، وعنايتهم بضبط الشريعة، وحفظ نصوصها [82].
    وجمهور الأصوليين على حرمة التقليد في "أصول الدين"، وعلى وجوب النظر، والاستدلال الموجب للعلم والمعرفة أولا، أي في نحو معرفة الله تعالى، وفي التوحيد، والرسالة [83].
    قال ابن النجار الفتوحي رحمه الله:" قال ابن مفلح رحمه الله [84]: وأجازه بعض الشافعية؛ لإجماع السلف على قبول الشهادتين من غير أن يقال لقائلهما: هل نظرت؟" [85].
    ولعل هذا هو الأظهر، فإيمان المقلِّد صحيح معتبر[86] قال ابن أبي العز الحنفي[87]: "ولهذا كان الصحيح أنَّ أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك... بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان..."[88].
    ونوقش قول الجمهور: بأن فيه تكليفًا بما ليس في الوسع، وبغير المستطاع وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يكلف الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد، ولا قاربوها بالنظر، والاستدلال، ولا بالحجج العقلية [89].
    قال أبو المظفر السمعاني: "وأما إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون فبعيدٌ جدًا عن الصواب ومتى يوجد في العوام من يعرف ذلك.. بل إن أكثر العوام لو عرضت عليهم تلك الدلائل النظرية العقلية الاستدلالية لم يفهموها أصلا، وإنما غايتهم تلقى أمور الإيمان، وأصول الدين من العلماء بالكتاب والسنة،... فهنيئًا لهم السلامة والبعد عن الشبهات الداخلة على أهل الكلام والورطات التي تورطوا فيها، حتى أدت بهم إلى المهاوي والمهالك، ودخلت عليهم الشبهات العظيمة، وصاروا في الآخرة متحيرين عمين... " اهـ. بتصرف [90].
    وأما التقليد في الفروع فجائز. قال ابن قدامة رحمه الله: "وأما التقليد في الفروع فهو جائزٌ إجماعًا، فكانت الحجة فيه الإجماع... بل وجب على العامِّي ذلك" [91].
    وبذلك يظهر أن دعوى الإمام ابن حزم حكاية الإجماع على عدم جواز التقليد مطلقا، وأنه مذهب جمهور الأصوليين وتبعه الشوكاني في ذلك [92] دعوى غير صحيحة، مُعَارضَة بما في كتب الأصول المعتمدة، والله أعلم.

  2. يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 346.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 340.94 كيلو بايت... تم توفير 5.86 كيلو بايت...بمعدل (1.69%)]