ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1430 - عددالزوار : 141874 )           »          معالجات نبوية لداء الرياء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          التربية بالحوار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          صور من فن معالجة أخطاء الأصدقاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          في صحوةِ الغائب: الذِّكر بوابة الحضور (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          آيات السَّكِينة لطلب الطُّمأنينة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (العليم, العالم. علام الغيوب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          سبل إحياء الدعوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          التساؤلات القلبية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          الحب الذي لا نراه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > ملتقى الحوارات والنقاشات العامة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-04-2019, 08:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,204
الدولة : Egypt
افتراضي ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام

ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام

عبدالستار المرسومي




سلسلة ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام

أولاً: العفوية


حين نتكلَّم عن العفويَّة كمصطلحٍ عرفيٍّ، فإنَّنا نقصد في كلامنا: الابتعاد عن التكلُّف والمَشاهِد التمثيليَّة، التي يتبنَّاها (الكثيرُ منَّا) لسببٍ أو لآخر، وفي كلِّ تفاصيل الحياة، في المأكَل والملبَس والمركبِ، وطريقةِ التعامل، وحتى في الأخلاقِ العامَّة، وربَّما حتى في العبادة أحيانًا، فعلى سبيل المثال وليس الحصر تجد إنسانًا يستحلُّ الكذبَ بلا تردُّد، فتراه يَكذب ومن غير أن يَرمش له جفنٌ في مواضِع معيَّنة، ويحرص على أن يكون صادقًا ويتكلَّم عن النَّواهي الشرعيَّة والعواقب الوخيمة للكذِب في مواضع أخرى.

لقد أدَّى الابتعاد عن العفويَّة إلى ظهور مشكلةٍ لم تكن كَبيرة فحَسْب، بل كانت مركَّبة التَّعقيد، وقد كان لمجالها السَّلبي تأثيرٌ كبير وواضح على اتِّجاه البوصلة، على المستوى الفَردي والجماعيِّ في آنٍ واحد، هذه المشكلة هي تَعدُّد الشخصيَّات، (وهذه الصفة فاقَت الازدواجيَّة في الشخصيَّة)؛ فالازدواجيَّة تعني وجود شخصيَّة أخرى متناقِضة مع شخصيَّة الفرد، تَظهر تحت ظروف أزماتٍ ضاغِطة معيَّنة أو في وقت معيَّن، وهذه المعضِلة هي التي جعلَت الكثيرَ من بيننا يَحمل أكثر من هويَّة (معنويَّة) لشخصِه؛ فهو في البيت إنسانٌ بمواصفات معيَّنة، ومع الأصدقاء شخصٌ آخر، وفي العمل أو مكان الدِّراسة شخصٌ ثالث، ومع مَن لا يعرفهم شخصٌ رابع.

وفي هذه القضيَّة المحوريَّة كان حِرص رسولِ الله محمد صلى الله عليه وسلم واضحًا وكبيرًا باتِّجاه ثبوت الشخصيَّة الواحدة للفَرد، والمحافَظة على عفويَّتها وحقيقتها وتوازنِها، فكان صلَّى الله عليه وسلم يُعلِن ذلك الأمرَ لأصحابه بوضوحٍ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((تجدون النَّاس معادِن، خيارُهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام إذا فَقهوا، وتجدون خيرَ الناس في هذا الشَّأن أشدهم له كراهِية، وتجدون شرَّ النَّاس ذا الوَجهَين الذي يَأتي هؤلاء بوجهٍ، ويأتي هؤلاء بوجهٍ))[1].

ولعلَّ التكلُّف في الحياة هو الوسِيلة البَشِعة لقتل الفِطرة الإنسانيَّة التي فطَر الله جلَّ جلاله الناسَ عليها.

فما هي الفِطرة؟ وكيف نحافِظ عليها من الانحراف؟
الفطرة البشرية فِطرتان:
الأولى: تتعلَّق بالجزء الرُّوحي (المعنوي)، الذي هو الجُزء السَّماوي للإنسان، والمقصود بالسَّماويِّ هو المتمثِّل بنفخَة الرُّوح في الإنسان، قال تعالى في حقِّ أبينا آدم عليه السلام: ï´؟ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ï´¾ [الحجر: ظ¢ظ©]، وهذه الفِطرة إيمانيَّةٌ روحيَّة، وهي التي تقود الإنسانَ نحو الإيمان الفِطري بالخالِق جلَّ جلالُه، وتُلهم النفسَ البشريَّة أسسَ الاستعداد والحاجَة لوجود مَعبودٍ يستحقُّ أن يُعبَد، وهو الله جلَّ جلاله لا إله غيره، وهذه الفِطرة هي التي دَعَت ذلك الأعرابيَّ الذي يَرعى الغنمَ وقد آمن بالله جلَّ جلاله إيمانًا راسخًا، حين سُئل كيف آمن بالله جلَّ جلاله ولم يرَه؟ لأَنْ يقول: "البَعرة تدلُّ على البَعير، والأثَر يدلُّ على المَسير، فسماءٌ ذات أبراجٍ، وأرضٌ ذات فِجاج، ألاَّ تدلُّ على العليم الخبير؟"، لقد عرف الأعرابيُّ اللهَ جلَّ جلاله بفطرته السَّليمة.

والثانية: تتعلَّق بالجانب المادِّي للإنسان (الجزء الأرضي)؛ وهو الطِّين الذي خَلق الله جلَّ جلاله الإنسانَ منه، وهذه الفِطرة هي التي تَدعو الإنسانَ إلى حبِّ الخير وكراهِية الشرِّ، وحبِّ الجميل ونَبْذ القَبيح، والانجذاب إلى الشَّيء الشَّبيه له، وكما يقال في المثَل: "من طينته"، فكما هو مَعروف كم من الخَير يَحتوي هذا الطِّين، وكيف تَنبت فيه من خَيرات وثمرات، وتُستخرَج منه مَعادن ثمِينة.

والفِطرة حين تَشوبها الشَّوائب فإنَّ الفرد يكون قد فَقد السيطرةَ على زِمام النَّفس المجبولة على الارتباط العَفوي (الفِطري) بالخالِق جلَّ جلاله، كما هي مَجبولة على الفَضيلة والخيرِ وحبِّ الجميل، وإنَّ البوصلة في حالَة تشوُّهِ الفِطرة ستشير إلى الاتِّجاه الخَطأ بكلِّ تأكيد، فيجنح الإنسانُ إلى عِبادة غير الله جلَّ جلاله من غيرِ شعورٍ، فربَّما عبَدَ الشجرَ والحجرَ والبقرَ، وربَّما عبَدَ المالَ والجاه، يقول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: ((تَعِس عبدُ الدِّينار، والدِّرهم، والقَطيفة، والخَميصة، إن أُعطِي رَضي، وإن لم يُعط لم يَرض))[2].

وربَّما يَجنح إلى حبِّ الشرِّ والقَبيح لنَفس السَّبب، فيستسِيغ ما لا توافِقه الفِطرة السَّليمة من القَتل وشربِ وأَكل القَبيح الطَّعم الذي حرَّمه الله جلَّ جلالُه، ويأتي بأَفعال من البشاعَة والشناعة ما يَغلب فيها حتى الحيوانات أحيانًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مَولود إلاَّ يولد على الفِطرة، فأبواه يهوِّدانه، وينصِّرانه، أو يمجِّسانه، كما تُنتَجُ البهيمةُ بهيمةً جَمعاء، هل تُحسُّون فيها من جدعاء؟))، ثمَّ يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ï´؟ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ï´¾ [الروم: 30][3].

وحتى نحافِظ على فِطرتنا السَّليمة التي تُدير دفَّة بوصلتنا، علينا العمل بجدٍّ ومثابَرة لكي نكون قرِيبين من الله جلَّ جلاله، والقُرب من الله جلَّ جلاله يَحفظ لنا فِطرتنا، فعن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتيتَ مضجعَك، فتوضَّأ وضوءَك للصَّلاة، ثمَّ اضطجع على شقِّك الأيمن، ثمَّ قل: اللهمَّ أسلمتُ وجهي إليكَ، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورَهبةً إليك، لا مَلجأ ولا مَنجا منك إلاَّ إليك، اللهمَّ آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، وبنبيِّك الذي أرسلتَ؛ فإِن متَّ من لَيلتك، فأنتَ على الفِطرة، واجعلهنَّ آخرَ ما تتكلَّم به))، قال البراء رضي الله عنه: فرددتُها على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا بلغتُ: اللهمَّ آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، قلت: ورسولِك، قال: ((لا، ونبيِّك الذي أرسلتَ))[4].

وما يَنبغي النَّظَر له بعِناية هنا حِرص رسولِ الله محمد صلى الله عليه وسلم في أن يكون الفردُ في حال اتِّصال دائمٍ بخالِقه تبارك وتعالى في كلِّ ساعات يومِه، وبخاصَّة ساعة انتهاء أعمال اليوم والشُّروع في النَّوم؛ حيث سيَبدأ الفردُ بأعمالِ يومٍ ثانٍ، فيُعلِّم رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم الصحابيَّ رضي الله عنه ما يَجعله يحافِظ على فِطرَته السَّليمة التي أَساسُها أن يكون مع الله جلَّ جلاله، ومن اللافِت في هذا الموضوع حِرص النبيِّ محمَّد صلى الله عليه وسلم على نصِّ العِبارة، ولم يفوِّض المتعلِّم بالتصرُّف بالألفاظ، فحين ردَّدها الصحابيُّ رضي الله عنه بعد النبيِّ قال: "رسولِك"، صحَّح له رسولُ الله محمَّد صلى الله عليه وسلم بقوله: ((نبيِّك))، على الرغم من أنَّ المعنى لن يختلَّ، كما أنَّه يبقى صحيحًا، ولكن كان لرسول الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم مرادٌ آخر في الموضوع؛ أن الالتزامَ الدَّقيق بالنصوص والأوامر الشَّرعيَّة لهو من ضَوابط بوصلة الفِطرة السليمة، فأصبَح لزامًا مع هذا الفهم البحث عن دلالاتٍ أو معايير يُقَوِّم الفردُ نفسَه عن طريقها؛ ليعرف نفسَه هل ما زالَت على الفِطرة، أم أنَّها جنحَت بعيدًا؟ فمِن تلك الدلالات والمعايير التي تقوِّم فِطرتَنا حُسن العبادة، فقد رأى حذيفةُ بن اليمان رضي الله عنه رجلاً لا يتم الركوعَ والسُّجود، قال: "ما صلَّيتَ، ولو متَّ متَّ على غير الفِطرة التي فَطَر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم عليها"[5].

العفويَّة المطلوبة في العلاقات أن يبادِر الإنسان بأن يعبِّر عن حَجمه الحقيقي أمام الآخرين؛ فإنَّ إظهار الشَّكل والحَجم الحقيقي بعيدًا عن الزيفِ يُكسب الفردَ المزيدَ من الثِّقة بالنَّفس، فلا يضطر إلى أن يَأتي بأعمالٍ غير حقيقيَّة أو يدَّعيها، كما يكسبه هذا الخُلق الحسَنُ المزيدَ من احترام الآخرين، فالحذَر كل الحذر من ادِّعاء العِلم لمن لا يكون عالمًا، والحذَر من زَعم المهارة في أَمرٍ ما لِمن لا يكون عارفًا حاذقًا به، والكلام عن البُطولة لِمن لا يكون فارسًا، وإنَّ التظاهُر بأشياء أو أخلاق أو قِيَم على أنَّها من صميم شخصيَّتنا والحقيقة أنَّ الأمر ليس كذلك - سيؤدِّي إلى تناقُض بين المهارات المتوفِّرة على أَرض الواقِع وحَجم المهام الملقَاة على عاتِقنا، فتأتي النتائجُ مخيبة للآمَال، ويحصل الإخفاقُ الذي يُظهر صورتَنا الحقيقيَّة أمام الآخرين، فينظرون لصورتنا في النِّهاية على أنَّها مشوَّهة.

وأحيانًا يُخدَع بعضُ الأفراد بأنَّه ربَّما يستطيع أن يعوِّض بعضَ صفات النَّقص في شخصيَّته - وكلُّ إنسانٍ لديه نَقص في بعض الصِّفات - عن طريق بَعض الفعاليَّات المادِّيَّة، ومن أَمثِلة ذلك يعتقد من تَنقصه مهارات التَّفاوض وإقناع الآخرين والجرأَة الأدبيَّة في أنَّه لو لبس بدلةً فاخِرة، ورَبْطَةَ عنقٍ متميزة، وقَيمصًا فريدًا من نَوعه - سيتمكَّن من إِضافة أشياء إيجابيَّة لشخصيَّته تساهِم في إضعاف الآخرين وإمكانيَّة إقناعِهم بأفكاره؛ فإنَّه يقع في خطأ كَبير، ويَخوض في تهوُّر خطِير، ولا يفوتنا أن نَذكر أنَّه قد يُخدع من كان قليل الخِبرة وساذج التَّفكير بهذه الأمور، ولكن هذه الفعاليَّات لا يمكن أن تمرَّ على العاقِل الحاذِق، وإن مرَّت هذه المظاهِر في بعض الأحيان على بعضِ الأفراد، ولكنَّها لن تكون لتمرَّ على جميع الأفراد ولا على طولِ الوقت، وفي هذا المقام يقول رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم: ((ليس على رجلٍ نَذرٌ فيما لا يَملك، ولَعْنُ المؤمن كقَتْلِه، ومَن قتل نفسَه بشيء في الدُّنيا عذِّب به يوم القيامة، ومن ادَّعى دعوى كاذِبة ليتكثَّر بها، لم يزده اللهُ إلاَّ قِلَّة، ومن حلف على يمين صبر فاجرة))[6].

والعفويَّة المطلوبَة من أجل ضَبط البوصلة تكون للكبيرِ قبل الصَّغير، وللقويِّ قبلَ الضَّعيف، وللغنيِّ قبلَ الفقير، ولذي الشَّأن قبل الحقير؛ لأنَّ كِبار القوم وساداتهم هم أَولى النَّاس بها؛ لأنَّهم قدوات يُحتذى بها، فهُم مَن يجب عليهم السَّيطرة والمحافَظة على عفويَّتهم؛ لوجود مسببات وعوارِض كثيرة تُحيط بهم قد تُحرِّف أو تشوِّش وربَّما تَقتل عفويَّتهم؛ فكَثرة المال، وصِيتُ الجاه، وعلوُّ المنصِب الوظيفي، ودَرَجة الشَّهادة الجامعيَّة، ومنصب القِيادة، وكَثرة الأتباع - كلُّها أسبابٌ مؤدِّية إلى فقدان الفرد لعفويَّته.

فحين يتعلَّق الفرد بأحد هذه الأمور الدنيويَّة، ستقوده إلى مجموعةٍ من الأعمال السيِّئة - وربَّما يضطر لها - التي تدمِّر فطرتَه وتقتلها، مثل: "أن لا يَبتغي وجهَ الله في العمل، والرِّياء، والتكبُّر، والعُجب والغرور بنفسِه، وحب الثَّناء والمَدح من الآخرين، والحسَد، وتقديم المفضول على الفاضِل بسبب الشُّهرة، وعدم محاسبة النَّفس"[7].

ومن خِلال مَسيرة الحياة رأينا كَم من رجل متواضِع، بسيط التعامُل، صحيحِ القلب، نقيِّ البدَن من أمراض القلوب، مرهَف الحسِّ، ولكنَّه ما أن يتولَّى أمرَ مجموعة حتى يَسعى من يَعمل معه لإفساد عفويَّته - التي أدَّت به إلى ما هو عليه - وحين يَرفض أن يتحوَّل من إنسانٍ إلى وَحش، يَضغطون عليه بشتَّى الوسائل، وخاصَّة تِلك التي يزينونها له على أنَّها شرعيَّة وتراعي المصالحَ العامَّة، ويبدأ الفرد بالتنازُل شيئًا فشيئًا، حتى يتحوَّل من إنسان عفويٍّ طيِّبٍ إلى وَحش كاسِر يدمِّر كلَّ شيء يقف في طريقه، ولربَّما دمَّر من أوصلوه إلى ما هو عليه، والبعض يَصِل إلى أن يدمِّر نفسَه.

إنَّ الخُلق الحسن مع الآخرين على اختلاف مشاربهم، والتعامل معهم بهدوءٍ ورِقَّة وبشَاشَة - لهو من العفويَّة التي تُعين الفردَ على المحافظة على بوصلته بالاتِّجاه الصَّحيح، فالابتسامةُ مثلاً رسولُ سلامٍ وودٍّ إلى الآخرين، فعن مكحول قال: "الْتقى يحيى بنُ زكريَّا وعيسى ابن مريم عليهما السَّلام، فضحكَ عيسى في وجه يَحيى وصافحَه، فقال له يَحيى: يا بن خالَتي، ما لي أراك ضاحكًا كأنَّك قد أَمِنْتَ؟ فقال له عيسى: يا بن خالَتي، ما لي أراك عابسًا كأنَّك قد يَئِسْتَ؟ فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليهما عليهما السلام: إنَّ أحبَّكما إليَّ أبشُّكما بصاحبه"[8].

ومن العفويَّة الاعتراف بعدَم الكمال؛ فالإنسان مَهما بلغَ عِلمُه، وارتفعَ مقامُه، وكثرَت أموالُه، ومهما تعدَّدَت مهاراتُه، وتميَّز بآرائه الصَّائبة من وجهة نظره - يَبقى يتبنَّى مواقف خاطِئة أحيانًا، وهذا هو حالُ الإنسان؛ يَدور بين الخطأ والصَّواب، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ بَني آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون))[9].

فوجب على كلِّ فردٍ ألا يَقع في العُجب بنفسِه، ويستمرِئ أن يَراها أعلى وأهمَّ من الآخرين، وعليه مراجعَة تَسمية الأخطاء التي يَقع فيها بنفسه، والتقصِير الذي يَصدر عنه، فلا يَنتظر أن يقدِّمه له الآخرون، فقد سُئلَ عبدُالله بن المبارك: ما الكِبر؟ قال: "أن تزدري النَّاسَ"، وسئلَ عن العُجب، قال:" أن ترى أنَّ عندك شيئًا ليس عِند غيرك"، قال: "ولا أَعلَم في المصلِّين شيئًا شرًّا من العُجب"[10].

التزام منمِّيات الفِطرة واجتناب ماحقَاتها: فهناك أمور تنمِّي الفِطرةَ، وبضدِّها أمور تدمِّرها وتَمحَقها، فمن الأمور التي تحافِظ على الفِطرة السَّليمة، وليس ذلك فحسب بل وتنمِّيها:
الصلاة في جَوف الليل (التهجُّد)، فهو شرَف المسلِم وهو عَلامة الإخلاص لله جلَّ جلاله الذي بيده مفاتِيح كلِّ شيء، فعن سَهل بن سَعد رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا محمد، عِش ما شئتَ فإنَّك ميِّت، واعمل ما شِئتَ فإنَّك مجزيٌّ به، وأَحبِب مَن شئتَ فإنَّك مفارِقُه، واعلم أنَّ شرَف المؤمن قيامُ الليل، وعزَّه استغناؤه عن النَّاس))[11].

الإكثار من النَّوافِل: جاء في أساس البلاغة للزَّمحشري: ورجل نوفل: مِعطاء، وتنفَّل على أصحابه: أخذ من النَّفل أكثر ممَّا أخذوا، ويقال: نفِّلوا كُبْرَكم؛ أي: زيدوا أكبركم على حصَّته، فهذا يَعني أنَّ النَّوافل إمَّا أن تكون عطاءً، أو هي التَّقديم (الأخذ) أكثر من الآخرين، أو هي الزِّيادة على الحدِّ الطَّبيعي، وكلُّ هذه المعاني عَظيمة تدلُّ على كرَم صاحبها وعلوِّ قَدرِه ونفسه الأبيَّة، وذلك هو السرُّ في قول الله تعالى في الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافِل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه: كنتُ سمعَه الذي يَسمع به، وبصرَه الذي يبصِر بِه، ويدَه التي يَبطش بها، ورِجلَه التي يَمشي بها، وإن سألَني لأعطينَّه، ولئن استعاذَني لأعيذنَّه))[12].

فمن كان الله جلَّ جلاله معَه إلى هذه الدَّرجة في سمعه وبصرِه ويده ورِجلِه، ويستجيب الله جلَّ جلاله لدعوته، ويُعاذ بخالِق الخَلق والأسباب - سيكون على فِطرة سَليمة.

وأحيانًا يَسعى البعضُ منا لقَتل الفِطرة الربانيَّة السَّليمة في داخِل آخرين؛ وذلك مِن خلال مطالبَتهم بأقوالٍ أو أفعال مخالِفة لأوامر شرعيَّة أو ضوابط عرفيَّة، ومن ذلك دَعوة كِبار القوم لصغارهم بممارَسة الكذب أو النِّفاق الاجتماعي أو السَّعي بالنَّميمة وما إلى ذلك، إنَّ مثل قبول هذه الأفعال تَقتل الفِطرةَ السَّليمة، وتحوِّل ذلك الإنسان إلى وحشٍ كاسِر يطول أذاه أفرادًا مسالِمين، ومع مرور الوقت يَطول حتى من أَفسد فِطرته، لقد استطاع الإمام الشَّافعيُّ أن يختصر الطريقَ للباحِث عن العفويَّة في العلاقات، فهو يقول:
إذا المرءُ لا يرعاك إلاَّ تكلُّفا
فدَعْهُ ولا تكثِرْ عليهِ تأسُّفَا

ففي النَّاس أبدالٌ وفي الترك راحة
وفي القلب صبرٌ للحبيبِ ولو جَفَا

فما كلُّ من تَهواه يهواك قلبُه
ولا كل مَن صافيتَه لك قد صفَا

إذا لم يَكن صفو الوداد طبيعةً
فلا خَير في وُدٍّ يجيء تكلُّفَا

ولا خير في خلٍّ يخون خليلَهُ
ويَلقاه من بعد المودَّة بالجفَا

وينكر عيشًا قد تقادَم عهدُه
ويُظهر سرًّا كان بالأمس في خَفا

سلامٌ على الدُّنيا إذا لم يَكُن بها
صديق صَدوق صادِق الوعدِ منصِفَا



[1] صحيح البخاري - كتاب المناقب.

[2] صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسِّير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله.

[3] صحيح البخاري - كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات.

[4] صحيح البخاري - كتاب الوضوء، باب فَضل من بات على الوضوء.

[5] صحيح البخاري - كتاب الأذان، أبواب صِفة الصلاة.

[6] صحيح مسلم - كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه.

[7] الأتقياء الأخفياء؛ سعيد عبدالعظيم، ص 41.

[8] حلية الأولياء - مكحول الشامي.

[9] سنن الدارمي - كتاب الرقاق؛ باب: في التوبة.

[10] شعب الإيمان للبيهقي - التاسع والثلاثون من شعب الإيمان، فصل في التواضع.

[11] المعجم الأوسط للطبراني - باب العين: مَن اسمه عبدالله.

[12] صحيح البخاري - كتاب الرقاق، باب التواضع.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10-04-2019, 08:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,204
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام

ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام

عبدالستار المرسومي





سلسلة ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام





ثانيًا: الإيجابية












الإيجابية عملٌ عكس السلبية؛ فهي تمنَع الكسل والخمول والجمود، وتبعَث في الإنسان الحيوية والنشاط، وتُكسِبه الهمَّة في إنجاز أعمال الخير لنفسِه ولمَن حوله، إنها تعني العطاء والبذل الذي لا يَنتهي، وهي رقيٌّ لمقام النفس البشرية وسموٌّ بها، وهي تَجاوز لكل النزعات والهواجس النفسية السيئة، والإيجابية دافع مهم للفَرد مِن أجل بذل الجهد اللازم للإنجاز، ولا يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل تَبرز أهميتها في أن يكون الفرد مبادرًا بالأعمال، ويكون فيها في قمَّة التفاؤل بعيدًا عن اليأس والإحباط والقنوط.



ولكي تكون العلاقات الاجتماعية ذات قيمة ومعنى، لا بد لها مِن أن تكون إيجابية، والإيجابية التي هي محل بحثنا هنا تعني تبادل المنفعة مع الآخرين من الوجوه كافة، والمنفعة المتبادَلة لا تقتصر على الجانب المادي، لذلك فهي لا تَعني بالضرورة أنها حكْر للغنيِّ حين يقدم الأمور المادية للفقير، بل يمكن للفقير أن يكون إيجابيًّا فينفع الناس في أمور كثيرة؛ منها: العلم والأخلاق والتربية والمساعدة البدنية وغير ذلك؛ فلقد كان علماء المسلمين ودعاتهم على فَقرِهم يُربُّون ويُعلِّمون ويؤدبون خلفاء المسلمين وأمراءهم على غناهم، والإيجابية تكون من وجوه عديدة منها:

مد يد العون للآخرين وفق الظروف المتاحة وفي الوقت المناسب، وإذا تحقَّقت مُساعدة الآخرين فقد تحقَّقت الإيجابية بمعناها الحقيقي، ولقد اتضحت صورتها بإجابة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لسائله، فلقد سُئل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: مَن خيرُ الناس؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنفعهم للناس))[1].



وقد كانت رؤية السيدة الكريمة خديجة رضي الله عنها لإيجابية رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم - وهو زوجها - في قمَّة الوعي والإدراك والنظرة العملية الواقعية وهي تقوِّم مسيرته صلى الله عليه وسلم التي عاشتها معه، فحين نزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال لخديجة رضي الله عنها: ((لقد خشيت على نفسي))، فقالت خديجة: "كلا والله ما يُخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ [2]، وتكسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق"[3].



ومن هذا الحديث نتوصَّل إلى فهم يَكمن سرُّهُ في أن الله جل جلاله يوفِّق العبد للخير ويمنحه جل جلاله رضاه ويَرزقه السداد والتوفيق، بمقدار ما يُقدِّمه للناس من خدمات.



ولمَن حسَّن مدلولات الحديث المهمة التسلسل في الأهمية لأعمال الخير، وهذه مِن علامات الفِطنة والقوة للأشخاص الذين يؤازِرون الأنبياء عليهم السلام، فلم يكن الطرح جزافًا، فالمرء يبدأ بالخير بذوي الأرحام، ثم لمن انقطع بهم السبيل، فما عندهم أحد يَعرفونه، ثم المحتاجين المعدمين، ثم الضيوف على اختلاف أشكالهم، ثم جاءت بقية نوائب الدهر بشكل عام.



يقول جعفر الصادق رحمه الله: "إني لأسارع إلى قضاء حوائج الإخوان مخافة أن يَستغنوا عني بردِّي إياهم"[4].



يقول الشاعر:

وكُنْ على الدَّهر مِعوانًا لذي أمَلٍ ♦♦♦ يَرجو نَداكَ؛ فإنَّ الحُرَّ مِعْوانُ





التعامل بنُبْل مع الآخرين، وحين يكون الإنسان نبيلاً فسيكون قد بلغ أرقى مقامات الرقي البشري، والعفة من النزعات النفسية الدنيئة، فالنبيل هو من تسقط عنده المراتب المادية الدنيوية ويكون معياره معيارًا إلهيًّا، فمِعياره لتقويم الآخرين قول الله جل جلاله: ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ï´¾ [الحجرات: 13]، والنبل يقتضي الصفح عمن أساء إليك، ومجازاة من أحسن إليك، كما ويَقتضي النظر إلى الناس على أنهم مُتكافئون في الإنسانية ولهم نفس الحقوق التي لك.



لقد كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يرى في أبي هريرة وأنس بن مالك وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهم وغيرهم - ممن كانوا يعانون من الفقر المدقع، والعَوز الشديد - أنهم أصحاب أوفياء وأصدقاء أعزاء، وربما قدَّمهم على غيرهم في المواقف التي تتطلب ذلك، بل كان أبو هريرة رضي الله عنه وهو خادمه الناقل الأمين الحاذق لجزء كبير من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، كما أن النُّبل يعني العطاء غير المحدود ومن غير مقابل، وكان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أنبل إنسان عرفته البشرية؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المُرسَلة"[5].



والنُّبل المنشود ليس مع إفلاس الفرد مِن أي مواصفات أو مهارات، بل مع وجود مؤهلات مادية كبيرة يقاومها الفرد للوصول إلى درجة النُّبل الذي يُشار له بالبنان؛ يقول حافظ إبراهيم:



صحِبتُك حِقبةً فصَحِبتُ حُرًّا

أبِيًّا لا يُهانُ ولا يُهينُ




نبيلَ الطَّبعِ لا يغتابُ خِلاًّ

ولا يُؤذي العشير ولا يمينُ




ولم يَثنِ الوعيدُ لهُ عنانًا

ولم تحنَثْ لهُ أبدًا يمينُ




ولم تنزِل بعزَّته الدَّنايا

ولم يعلَق به ذُلٌّ وهونُ





ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم الناس أن يكونوا نُبلاء في التعامل، فـ "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحدِّث أصحابه إذ جاء رجل من الفقراء فجلس إلى جنب رجل من الأغنياء، فكأنه قبَضَ من ثيابه عنه، فتغيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخشيتَ يا فلان أن يعدو غناك عليه، وأن يعدو فَقره عليك؟)) قال: يا رسول الله، وشرٌّ الغِنَى؟ قال: ((نعم؛ إن غناك يدعوك إلى النار، وإنَّ فقرَه يَدعوه إلى الجنة)) فقال: فما يُنجيني منه؟ قال: ((تواسيه)) قال: إذًا أفعل، فقال الآخر: لا إربَ لي فيه قال: ((فاستغفر، وادعُ لأخيك))[6].



يقول أبو الفتح البستي:

مَنْ سالَمَ النَّاسَ يسلَمْ من غوائِلِهمْ ♦♦♦ وعاشَ وَهْوَ قَريرُ العَينِ جَذْلانُ



عدم احتكار الأعمال، ومِن الآفات التي تدمِّر العلاقات الإنسانية حب البعض الانفراد بالأعمال كافة، فهناك من يعمل مع مجموعة وهو القائد والمسؤول الإداري والمالي والناطق الإعلامي وكل شيء، فهو قد حاز على "الجمل بما حمل" ولم يدَع فرصةً للآخرين لتقديم ما يَملكون من مهارات، ومن أجل تشخيص الخلل هنا، فإننا نجد أنه الغرور الذي تمكَّن من قلب وعقل هذا النوع من البشر؛ فهو يعتقد أنه القادر على إنجاز كل هذه الأعمال؛ لأنه يمتلك المهارات الخارقة، فهو الفارس الذي لا يشق له غبار، وهو القائد الأوحد.



الكفُّ عن إيذاء الآخرين: وإيذاء الآخرين ربما كان عن غير قصْد، فليس شرطًا أن يكون الإيذاء عن سابق قصد وتعمُّد وترصُّد، فالإيذاء المقصود بغير وجه حق ومن غير تخويل مسبق من ولي الأمر جرم سيُحاسب عليه المرء حسابًا شديدًا، فربما أفْلَتَ مِن الحساب في الدنيا، ولكنه بالتأكيد لن يُفلت في الآخرة، فتلك عدالة الله جل جلاله، ومدار حديثنا عن الإيذاء بغير قصد، فهو أمر منكر وجب على فاعله التوبة منه والرجوع عنه وطلب الغفران من المتضرر.



عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مؤمن يُجاهد في سبيل الله بنفسه وماله))، قالوا: ثم مَن؟ قال: ((مؤمن في شِعب مِن الشِّعاب يتقي الله، ويدع الناس من شرِّه))[7].



فالإيجابية تقتضي حين لا يستطيع الإنسان نفع الآخرين أن يبذل الجهد بقدر ما يستطيع إلى عدم الإضرار بهم، وبأي شكل من الأشكال، المادية والمعنوية، وإن اقتضى الأمر أن يَنزوي في شِعْب مِن الشعاب.



والإيجابية تعني الإمكانية المتميزة في إيجاد الحلول عند الأزمات، وليس انتظار الحلول من الآخرين، ومِن هذا الفهم توجب أن يفهم من يضطلع بدور إيجابي في العلاقات معنى الازمات وتأثيراتها، وكيفية إدارتها؛ لأن هذا الأمر اليوم أصبح علمًا وفنًّا ينبغي أن نتعلَّمه ونمتلك أدواته.



ورجال الأزمات لا بد أن تكون لهم بصمة يُعرفون بها، ويفتقدون فيُبحث عنهم في وقتها، ولقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من ذلك النوع من الرجال، فقد بُحث عنه يوم خيبر، وقد كان رجلاً لتلك الأزمة؛ لأنه امتلك مؤهِّلات ذلك؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر: ((لأعطين الراية رجلاً يفتح الله على يديه))، فقاموا يرجون لذلك أيهم يُعطى، فغدوا وكلهم يرجو أن يُعطى، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أين علي؟)) فقيل: يشتكي عينيه، فأمر صلى الله عليه وسلم فدُعي له، فبصق في عينيه، فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شيء، فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: ((على رسلِك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبِرْهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يُهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم))[8]، وتقدم علي بن أبي طالب فكان قائد الأزمة وحقق نصرًا مؤزرًا للمسلمين.



إن رجال الأزمات هم الأقمار التي يُحتاج لضوئها في الليالي الظلماء؛ يقول أبو فراس الحمداني:

سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم ♦♦♦ وَفي الليلَةِ الظَّلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ



ورجال الأزمات من يتصدَّون لها ويَمخرون عبابها، ويَقتحمون صعابها حين يفر الناس منها، ومنهم أنس بن النضْر رضي الله عنه؛ فعن أنس بن مالك بن النضر رضي الله عنه أن عمَّه غابَ عن بدْر، فقال: غبتُ عن أول قِتال النبي صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرينَّ الله ما أجد، فلقي يوم أحد، فهُزم الناس، فقال: "اللهمَّ إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني: المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به المشركون"، فتقدَّم بسيفه فلقيَ سعد بن معاذ، فقال: أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أُحُد، فمضى فقُتل، فما عُرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه، وبه بضْع وثَمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم"[9].



ولأجل التعرُّف على ما ينبغي أن يكون عليه الفرد الإيجابي في الأزمات، نذكر الآتي:

عدم التأثُّر بالضُّغوط: وتحدُث الضغوط من جراء الأزمة؛ سواء من الأشخاص أو مما يُعرف بضغوط العمل، فالفرق بين من يتأثر ومن لا يتأثر هو بقاء الفرد في سيطرة تامة متوازنة على تفكيره وأدائه، ممَّن يكون في حالة ذهنية مرتبكة ومشتَّتة، فينصاع لكل من يعطيه رأيًا ظانًّا أن فيه الحل.



مخاطِر اتِّباع هوى النفس: وهي ظاهرة على عكس التي قبلَها، بل هي تُناقضها تمامًا، فيُسرع من يَحتاج أن يعطي رأيًا أو قرارًا إلى اتخاذه من غير مشورة اعتمادًا على قدراته التي يرى أنها هائلة.



التخلُّص من الخوف: مِن أكثر الأمور التي تجعل صاحب القرار يتَّخذ قرارات خاطئة، هو أن يكون قد اتخذ قرارًا لم يكن صائبًا في مرة أو مرات قبل ذلك، فالخوف من الفشل يجعله سجين خيالاته السلبية، بأنه غير قادر على اتخاذ قرار صحيح مرة أخرى.



تجنُّب الغضب: فالغضب مؤثِّر خطير على اتخاذ القرارات في حالة الأزمات، فالمرء في العادة يأخذ قرارات غير صائبة في حالة كونه غاضبًا، لأن الغضب يؤدي إلى هيجان الحالة العاطفية وتطغى على الحالة العقلية التي ينبغي أن تكون هي المتحكِّمة في تلك الأثناء.



أثر السرعة في اتخاذ القرار: فمن يُطلب منه اتخاذ قرار في وقت أزمة يَنبغي ألا يأخذ كثيرًا من الوقت في التفكير، وأقصد أن يأخذ وقتًا أكثر من الطبيعي، فيُضيِّع على من يعمل معهم الفرصة التي تسنح لهم، فعدم الاهتمام بضرورة سرعة اتخاذ القرار قد يؤدِّي إلى اتخاذ قرارات خاطئة.



الهروب مِن اتخاذ القرار: كثيرٌ ممَّن يخافون من الفشل يُفضِّلون عدم اتخاذ القرار، لذا فأسوأ ما يمكن أن يتَّخذه الفرد وقت الأزمات هو ألا يتخذ قرارًا.



وأخيرًا فإن ظروف الأزمات فرصة مناسبة لمعرفة أنواع الرجال وصقْل شخصياتهم؛ ففي الأزمات إيجابيات لا يَعيها إلا من يقرأ الحياة بشكل صحيح والأزمات بشكل خاص.



العمل بمبدأ الكتف: وهي قاعدة إنسانية رائعة، وقيمة أخلاقية عظيمة، وفائدة اجتماعية لا تقدَّر بثمن، وضع أساسها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهي تربط ما يُقدم من خدمة مِن قِبَل الفرد للآخرين مع الإيمان، وهي تنظِّم العلاقة مع الله جل جلاله ومع الناس، فهي عبادات ومعاملات، فمن أهم نتائجها تعزيز رصيد الفرد في الآخرة مما يعزز موقفه في الدنيا، حيث إن ما يُقدم الإنسان من خدمات مختلفة للناس على تنوع أشكالها، لن تذهب سدىً وستسجل له وتنفعه يوم القيامة؛ فعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، أنهم ذبحوا شاةً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما بقي منها؟)) قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: ((بقي كلُّها غير كتفها))[10].



الشخصية المتميزة: والتميُّز يظهر بشكل لا لَبْسَ فيه حين يقدِّم الفرد للآخرين أمورًا لا يستطيع غيره تقديمها، كمًّا أو نوعًا أو توقيتًا، ولكن الكثير من الناس من يقع في وهم نفسه، وفخِّ الشيطان، عندما يَعتقِد بأن التميز يعني أن يلبس شيئًا يعجز الآخرون عن لبسه أو يركب مركبًا لا يركبه غيره، أو يَقتني أثاثًا لا يستطيعه غيره، هذا التميُّز الشكلي الوهمي تكون نتائجه سلبية في العلاقات؛ لأنه إما أن يعلم الآخرون حقيقتَه فستذهب جهوده وماله هباءً، وتتحطَّم صُورته في نظَرِ الآخرين، وإما أنَّ الآخرين لا يعرفون حقيقتَه فيظنون أنه على الحق، فيقدِّمون له الاحترام والإجلال، ويُقوِّمونه تقويمًا خاطئًا، ويضعونه بمقام لا يستحقه، وسيكون في الأمر خديعة ستنتهي بالفشل الذريع ولا شكَّ، لقد كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في هذا الأمر؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس بين أصحابه لا يميِّزه عنهم ملبس ومجلس، ربما ميزه صلى الله عليه وسلم نور الوجه ووضاءتُه فحسب؛ فقد كان أنس بن مالك رضي الله عنه، يقول: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقَله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متَّكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ"[11]، فلو كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يميزه في المظهر أو المجلس - كأن يكون له عرش كالملوك - لما اضطرَّ هذا الرجل الغريب أن يسأل الأصحاب رضي الله عنهم ليُعلِموه من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.



فالتميز ينبغي أن يكون عمليًّا، ومما فيه خير ومنفعة للآخرين قبل النفْس؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة[12]))[13]، ومِن الضروريِّ الانتباه إلى اللفظ النبوي الشريف لـ(الراحلة) كتعبير عن التميُّز، والراحلة مع الإبل في القافلة في العادة، ولكنها تتميَّز بأنها تحمل الأمتعة والغذاء، وربما الماء، ما يعني معها منافع القوم وحاجاتهم للحياة، وهذا هو المطلوب من المتميز؛ أن يقدِّم للناس أمورَ ديمومة حياتهم وبقائهم، وهذا هو الأمر الإيجابي المهم الذي يجب أن نكون عليه مع الآخرين.



تعزيز الثقة في نفوس الآخرين، فيَعمل الفرد بموجب العلاقة الإيجابية التي تربطه مع الآخرين لتعزيز الثقة في أنفسهم عن طريق تقديم الدعم اللازم لهم، وتتحقَّق هذه القضية بما يأتي:

تعريفه بمسؤوليته في العمل وحدود صلاحياته، وليس تكليفه بالعمل وترك الحبل على الغارب لا يَدري ما الذي له وما الذي عليه، حتى إذا نجَح قلنا له: إنك تؤدي الواجب الذي عليك على أحسن ما يرام، وينال الرضا وربما المكافأة، وإن أخفق أو قصر وبخناه وزجرناه، وربما عاقبناه، والحقيقة أننا نحن السبب في هذا الإخفاق؛ لأننا لم نسمِّ له الأشياء بمُسمياتها.



عن شريح[14]، أنه كتب إلى عمر رضي الله عنه يسأله، فكتب إليه: "أن اقضِ بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقضِ بما قضى به الصالِحون، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقضِ به الصالِحون، فإن شئتَ فتقدَّم، وإن شئتَ فتأخَّر، ولا أرى التأخُّر إلا خيرًا لك، والسلام عليكم"[15].



احترام عقل المقابل ودعم قراراته، وتشجيعه على إعمال عقله وإظهار أفكاره في المواضِع المُناسِبة، وتناولها، وتقديم الدعم المناسِب للصالح منها؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟))، فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة، قال عبدالله: فاستحييتُ، فقالوا: يا رسول الله، أخبرنا بها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي النخلة)) قال عبدالله: فحدثتُ أبي بما وقع في نفسي، فقال: "لأن تكون قلتَها أحب إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا))[16].



عدم الحكم على الشخص بالنوايا غير المُعلَنة، وإنما يكون الحكم على ظاهر أقواله وأفعاله، وذلك معنىً مهمٌّ من معاني العدالة المطلوبة، التي يُفترَض أن تسود في كل أنواع العلاقات البشرية، ولكن بوصلة واقع الحال تُشير إلى الاتجاه الخطأ؛ فالكثير مِن القرارات المهمَّة والخطيرة تؤخذ على أساس تحليل لنوايا الآخرين، أو بناءً على استشرافات لأمور مستقبلية، فتتخذ قرارات خاطئة في هذا الصدد، وقصة الصحابي الذي قتل رجلاً بعدما أعلَنَ إسلامه معروفة، وكيف تعامل معه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فعن أسامة بن زيد قال: بعَثَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سريَّة، فصبَّحْنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله، فطعنتُه، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرتُه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقال: لا إله إلا الله، وقتلته؟)) قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح، قال: ((أفلا شققتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟))، فما زال يكرِّرها عليَّ حتى تمنَّيتُ أني أسلمت يومئذ"[17].



التشجيع على الإنجاز، فالإنجاز المتميِّز حريٌّ أن يُشار له ولصاحبه بالبنان، فإنَّ ذِكْر الإنجاز وحقيقته ومدى إيجابيته في العلاقة بشكل خاص وفي الحياة بشكل عام له تأثيره وصداه في مسيرة العلاقة وديمومتها، وكل صاحب إنجاز يحب أن يُذكَر إنجازُه باسمه، ويعرِّف بحقيقة قيمته أمام الآخرين، وهذه سنة كونية جُبِلَ الإنسان عليها، فيَنبغي ألا تُترك، ولقد كان السلف الصالح أصحاب مبدأ في هذا المجال، ففي معركة اليرموك بين المسلمين والروم، استطاع القائد العربي المسلم زُهرة بن حيوة قتل القائد الرومي المعروف الجالينوس، وعندما جاء بسلبه استكثر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سلب الجالينوس، فكتب فيه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتَبَ عُمر رضي الله عنه إلى سعد: تَعمد إلى مثل زهرة وقد صُلي بمثل ما صُلي به، وقد بقي عليك مِن حَربِك ما بقي تُفسد قلبه، أمضِ له سلَبَه، وفضِّله على أصحابه عند عطائه بخمسمائة.




ولن نستغرب هذا الفهم، فلقد جاءت آيات القرآن الكريم بالثَّناء على مواقف الأنبياء تترى، فمِنهم من مُدح بأنه أوَّاه مُنيب، والآخر: كان صادق الوعد، والآخر كان حنيفًا، ومدح القرآن نبيًّا آخر بأنه كان صِدِّيقًا، وهكذا توالى المدح على الأنبياء وهم يَستحقُّون ذلك.



ومِن عظمة الإسلام وعلوِّ ورقيِّ شأنه، وعجيبِ نِظامه، ودقة تنظيمه: أنه لا ينظِّم ويطور وينمي العلاقات الاجتماعية بين الأحياء فحسب، وإنما ينظمها ويوجه بوصلتَها حتى بين الأحياء والأموات، ويضع في ذلك الخطوط الرئيسة في أسس التعامل الإيجابي فيما بينهم، فلا يَعني أن من يموت تنتهي العلاقة بينه وبين الأحياء، بل وجَّهت الشريعة إلى استمرارها وفق نظام معيَّن، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبُّوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا))[18]، فضلاً عن توجيه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بزيارتهم والسلام عليهم عند المرور بهم.



وقد أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ مِن بني سلمة، وأنا عنده، فقال: يا رسول الله، إن أبويَّ قد هلَكا، فهل بقي لي بعد موتهما من برِّهما شيء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم؛ الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عُهودِهما مِن بعدهما، وإكرام صديقِهما، وصلة رحمهما التي لا رحم لك إلا مِن قِبَلهما))[19].



لقد تجلَّت الإيجابية التي هي مدار بحثِنا بكل معانيها في أعمال أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حين كان برفقة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟)) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: ((فمَن تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: ((فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟)) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: ((فمَن عاد منكم اليوم مريضًا؟)) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمعن في امرئ، إلا دخل الجنة))[20].



وفي الحديث إشارات واضحة للدعوة إلى الإيجابية بمفهومها العام، ومِن قراءة لدلالات الحديث نخرج بمجموعة من المفاهيم التي ينبغي التوقف عندها؛ ومنها:

1- في الإيجابية لا بدَّ مِن التوافُق العمَلي بين الأعمال والأقوال، بمعنى آخر بين النظرية والتطبيق، وبهذا جاء الخطاب القرآني في حدود خمسين موضعًا، فإنَّ القرآن يأتي بالخطاب في قوله تعالى: ï´؟ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ï´¾ [البقرة: 104]، يقول الإمام البخاري رحمه الله: "كتبتُ عن ألف شيخ وثمانين، ليس فيهم إلا صاحب حديث كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل، يَزيد وينقص".



1- الانتِباه إلى أنها متعلِّقة بأعمال تتعلَّق بالخالق جلَّ جلاله وأخرى تتعلق بالمخلوقين، وفي ذلك دلالة على الربط بين الجزء الرُّوحي والجزء المادي للإنسان.



2- إن ما يُثير الدهشة بالفعل أنَّ حقوق المخلوقين في هذا الحديث كانت أكثر، وأُعطيت أهمية كبيرة جدًّا، فالنسبة المئوية للعمل الإيجابي في هذا الحديث لخدمة البشر تعادل 75% من الإيجابية المَطلوبة في مجمل الحديث، وما ذلك إلا لأهمية دور الإنسان الحقيقي في خدمة أخيه الإنسان.



3- نوعية العمل الإيجابي المتعلِّق بالخالق جلَّ جلاله من النوع الذي ليس معه رياء، إنه الصوم الذي أَمرُه بين العبد وربه جلَّ جلاله، فالناس لا تَدري إن كان الفرد صائمًا أم لا! بينما في بقيَّة العبادات فإن العبد لا يُمكن أن يخفيها، لذلك فإنَّ ذلك ربما كان هو السر في قول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن آدم يُضاعَف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عزَّ وجل: إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلي))[21].



4- نوعية الأعمال الإيجابية للبشر متعلِّقة بالنوع الفقير من البشر، أو من النوع الذي لا حولَ له ولا قوة، فتكون إيجابية في ذات الله جل جلاله، ليس فيها مصالح مادية، فالفئة المستهدَفة من البشر لتقديم خدمات لها في هذا الحديث هي: ميت، مسكين، مريض، وهم أضعف حلقات المجتمع في العادة، وهم لا حول ولا قوة لهم إلا بالله جل جلاله.



5- ترتَّب على تلك الإيجابية جزاء كبير؛ ألا وهو دخول الجنة، فلا بدَّ من مراعاة مكافأة الإيجابيِّين في المجتمع بالمكافآت المناسِبة والمُنسجِمة مع حجم العمل المقدَّم مِن قِبَلِهم.



6- الفرص في العمل الإيجابي لا تعدُّ ولا تُحصى، وليس من المستحيل أن يقدم فرد واحد باقة ملونة ومتعدِّدة من الأعمال الإيجابية في وقت واحد، وربما كان هذا الوقت قصيرًا.





[1] المطالب العالية؛ للحافظ ابن حجر العسقلاني - كتاب الزكاة - باب الحث على المعروف وإعانة الملهوف وإغاثته.



[2] جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري: "تحمل الكَلَّ: أي مَن لا يقدر على العمل والكسب، وقال المصنِّف: الكَلُّ العيال، وهو أحد معانيه ويطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى، وأصله من الكلال: وهو الإعياء، ثم استعمل في كل أمر ضائع أو أمر مثقل ومنه قوله: "مَن ترك كلاًّ " أي عيالاً أو دَينًا".



[3] صحيح البخاري - باب بدء الوحي.



[4] آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة، أبو البركات بدر الدين محمد الغزي، ص57.



[5] صحيح البخاري - باب بدء الوحي.



[6] الزهد؛ لأحمد بن حنبل - زهد يونس عليه السلام، (1 / 38).



[7] صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسير - باب: أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله.



[8] صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسير - باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة.



[9] صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب غزوة أحد.



[10] سنن الترمذي (الجامع الصحيح)، باب الذبائح - أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.



[11] صحيح البخاري، كتاب العلم - باب ما جاء في العلم.



[12] الراحلة: الناقة أو البعير القوي في الأسفار الذي يَحمِل الأمتِعَة، والمراد من الحديث: إنَّ القليل من الناس من يتمتَّع بالصفات القيادية والإيجابية واستكمل المحاسن، ممن يصلح لنفع وقيادة الناس.



[13] صحيح البخاري، كتاب الرقاق - باب رفع الأمانة.



[14] شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية الكوفي القاضي، تُوفِّي عام 80 هـ، قال عنه ابن حجر العسقلاني: شريح بن الحارث بن قيس الكوفي النخعي القاضي، أبو أمية، مخضرم ثقة، وقيل: له صُحبة مات قبل الثمانين أو بعدها، وله مائة وثمان سنين أو أكثر، يقال: حكم سبعين سنة؛ "تقريب التهذيب" (1 / 265).



[15] السنن الكبرى للنسائي - كتاب القضاء - الحكم بما اتفق عليه أهل العلم.



[16] صحيح البخاري - كتاب العلم - باب الحياء في العلم.



[17] صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله.



[18] صحيح البخاري، كتاب الجنائز - باب ما ينهى مِن سب الأموات.



[19] صحيح ابن حبان، كتاب البر والإحسان - باب حق الوالدين - ذكر وصف بر الوالدين لمن توفي أبواه في حياته، كما أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه، والإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وابن ماجه وغيرهم، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي.



[20] صحيح مسلم، كتاب الزكاة - باب من جمع الصدقة.



[21] صحيح مسلم، كتاب الصيام - باب فضل الصيام.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10-04-2019, 08:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,204
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام

ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام

عبدالستار المرسومي





سلسلة ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام










ثالثًا: التوازن







لقد سَمَت الشريعةُ الإسلامية بالعلاقات الإنسانية إلى أعلى درجات السُّمُو؛ حين أطلقت عليها اسمًا تجاوز كلَّ الاعتبارات العِرقية، والنزَعات الفئوية، والنعرات الطائفيَّة، فوحَّدتهم تحتَ عنوان جديد، تجتمع فيه كلُّ الروابط الإنسانيَّة الجميلة، والشمائل المحمودة؛ هو: (الأُخوَّة)، فكانت الهُوية الجديدة الواضحة والمشتركة بينهم، والأخوَّة هي الحقيقةُ التي تتلاشى عندها كلُّ الأوهام الشيطانية، والهواجس النفسيَّة التي تحاول أن تضعَ حواجزَ أو عوائقَ في طريق هذه العَلاقة السامية؛ لتجعل منها عَلاقةَ عبد بعبد، وليس شيئًا غير ذلك، فضلاً عن أن التسمية جاءت قرآنيَّة؛ لتعطيَها مزيدًا من التأكيد والأهميَّة، والأحقيَّة والقيمة والمكانة الرفيعة، فيقول تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10].







وبَدَت مظاهر هذه (الأخوَّة) الرائعة على طبيعتِها الحقيقية المتوازنة، حين مارسَها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم شخصيًّا مع أصحابه، فبالرغم من كونه نبيًّا ورسولاً؛ بل سيد الأنبياء والمرسلين، وحبيب الله جل جلاله، وسيد ولد آدم، وقائدًا للأمة والرجل الأول فيها، ومؤيدًا من جبريل عليه السلام، رغم كلِّ ذلك وأكثر - فقد كان حين يكونُ معهم يقول صلى الله عليه وسلم لهم: ((أنتم أصحابي))[1]، ونعلم أن للصاحب على الصاحب حقوقًا، كما كان يخاطب أحدهم أحيانًا بـ (أخي)، وللأخ على أخيه حقوق، فعن ابن عمر رضي الله عنه، أن عمر رضي الله عنه استأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له، فقال صلى الله عليه وسلم: ((يا أخي، أَشرِكْنا في صالح دعائك ولا تنسَنا))، فقال: عمر رضي الله عنه: "ما أحبُّ أن لي بها ما طلعَت عليه الشمس"[2].







وكان رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم بالفعل خيرَ صديق، وخيرَ صاحب، وخير أخ لهم؛ فقد كان يؤدي كاملَ الحقوق المترتِّبة على هذه العَلاقات على أتمِّ الأوجه وزيادة.







ثم ارتقى الإسلامُ بالأخُوَّة كمثالٍ عن أجمل العلاقات الإنسانية، التي تربَّعت بجدارة في قمة مراتب الحب العاطفي، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لو كنتُ متَّخذًا من أمتي خليلاً، لاتخذْتُ أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي))[3]، فالخلة مَرتَبةٌ خاصة منفردة من الحب، ولا ينبغي أن يقسمها فرد بين اثنين، وقد خصَّها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لربِّه ومولاه الله جل جلاله، فلم يَكن لأبي بكر أن يكون خليلَه، ولكنه أخوه وصاحبه، يقول ابن المعتز:





إني رزقتُ من الإخوان جوهرةً

ما إن لها قيمة عندي ولا ثمنُ



فلست معتذرًا من أن أشحَّ بها

ولا يزال لديَّ الدهرُ يختزنُ



فما الخيانةُ من شأني ولا خُلُقي

وليس عندي لها عينٌ ولا أذنُ










ولا بدَّ لأيِّ عَلاقة إنسانيَّة متوازنة أن تتوفَّر فيها مجموعةٌ من القيم، هذه القِيمُ تُمثِّل الأساس الذي تقوم عليه هذه العَلاقة؛ لأن العَلاقات الإنسانيَّة التي لا تُبنَى على قيم (أسس) ستكون وكأنها عائمةٌ في الفضاء، وستتلاعب بها الرياح حيث شاءت، وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله:



ولا خيرَ في ودِّ امرئ متلوِّنٍ ♦♦♦ إذا الريحُ مالَت مالَ حيث تميلُ







وأما القِيمُ التي ينبغي أن تتوفَّر في العَلاقة المتوازنة، فهي:



الهدف المشترك: وحين يكون الهدف محدَّدًا ومشتركًا ينبغي أن يسعى الجميع لأن يصلوا إليه، وربما اختلفَ التوقيتُ الزمنيُّ للوصول للأهداف المشتركة، فقد يَصِلُ البعضُ قبلَ آخرين، أو ربما بعدَهم؛ لضرورة مرحلة، أو لأسباب خارجة عن الإرادة، ولكن العبرةَ في أن يَصِلَ الجميعُ، وهذا هو السرُّ في الرفض القاطع الذي اختاره عثمانُ بنُ عفان رضي الله عنه عندما طلب منه وهو يفاوض قريشًا كممثل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية - أن يطوفَ بالكعبة بمفرده، بعيدًا عن الجماعة التي جاء معها، فلم يكن هدفُ عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يطوفَ وحده، فلقد كان الهدفُ مُحدَّدًا ومشتركًا، وهو يحبُّ ويرغب أن يتحقَّق للجميع، وأولُهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.







وعينُ هدف أيِّ عَلاقة لا بد أن يكون رضا الله جل جلاله، والوصولَ إليه جل جلاله؛ لأن ذلك كما ذكرنا ضابطٌ للبوصلة، والذي يمكن أن يتحقق عبر ممارسات وآليات مختلفة، وكما هو معلوم بالضرورة حين تكون الأهداف كبيرة وراقية وسامية، لا بد أن تكون الوسائلُ والسبل سامية أيضًا، وليس هناك أدنى اعتبار للقول الشائع: (الغاية تبرِّر الوسيلة)، ولكن المصيبةَ أننا اليوم نسمعُ الجميع ينتقدون هذا القول، ويُفنِّدون مُدَّعيه، ويُفسِّقون سالكيه، ويُعنِّفون مروِّجيه، ولكنهم يمارسونه بكل قوة ومع سبق الإصرار والترصُّد، ولا يترددون، بل ولا يغمض لهم جَفنٌ في استخدام أي وسيلة أو طريقة - وإن كانت محرمةً شرعًا، أو منبوذة عرفًا وأخلاقًا - للوصول للهدف.







التعاون والتضحية: والتعاونُ حقيقتُه أن الفرد يحتاج لأخيه، وهذه الحاجة تكون متوازنةً بينهم، فأصحاب القضية - كما وصفهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم - كالجسدِ الواحد الذي تتعاون أعضاؤه من أجل حمايته، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ترى المؤمنين في تراحمِهم وتوادِّهم وتعاطفهم كمَثَل الجسد؛ إذا اشتكى عضوًا، تداعى له سائرُ جسدِه بالسَّهر والحمى))[4].







ويُقدِّمُ الفرد عونَه لأخيه كلٌّ حسب مهاراته واختصاصه، وإن أعلى درجات التعاون هو الوصولُ إلى مرتبة التضحية في سبيل القضية وأصحابها، التي من أجلها يتعاون الأفراد، فقد روى عبدالله بنُ المبارك في كتابه الجهاد: أن بعضَهم مرَّ يومَ الجسرِ - يوم أبي عبيد - برجل قد قُطِعت يداه ورجلاه، وهو يقول: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]، فقال بعضُ مَن مرَّ عليه: مَن أنت؟ فقال: أنا امرُؤ من الأنصار.







والتضحيةُ ينبغي أن تُقدَّم من قِبَل الجميع: من الكبير والصغير، من القائد والجندي، من الغنيِّ والفقير، لا أن يُضحِّيَ الصغار والفقراء وعامَّة القوم من الأتباع، ويبقى عِلْيَةُ القوم وساداتُهم يتفرَّجون؛ بحجة أنهم في القيادة يُقدِّمون الخُطَط والنصائح والأموال وما إلى ذلك، فالردُّ على هؤلاء أن كبارَ الصحابة كأبي بكر الصديق رضي الله عنه وعثمان بن عفان رضي الله عنه كانوا يُقدِّمون الأموال الطائلةَ ولم يمنعهم ذلك من المشاركة في الغزوات بأنفسهم، بل إن رسولَ الله محمدًا صلى الله عليه وسلم لم تَمنعه مكانتُه وأهميته من أن يخوضَ غِمار المعارك مع أصحابه، وأن يُجرَح ويضرب ويُصاب، وكان كبار الصحابة يتقدمون الصفوف في التضحية بالغالي والنَّفيس من أجل دينهم، من هنا كانت التضحيةُ على الغني، والقوي، والكبير، وصاحب الجاه، والمكانة - أكثرَ وجوبًا من غيره.







المساواة: والقصدُ من المساواة في العَلاقة المتوازنة هو في حقوق الإنسانية، فلكل إنسان اعتبارٌ وقيمة معنوية، ينبغي أن تُحترَمَ في كلِّ الأحوال، وهذه القيمة الاعتباريَّة ليس لها عَلاقة بنوع التكليف الذي يُكلَّف به الفرد، فعلى سبيل المثال: في مؤسسة واحدة تتساوَى القِيم الإنسانيَّة لمدير المؤسسة ومَن يعملُ بوظيفة (سائق)، فكلٌّ منهما يؤدي دورًا في إطار خدمة المؤسسة، وكلٌّ منهما له الحق في الحياة الكريمة، فينبغي أن يكون أجرُ مَن يعمل معنا مناسبًا لتوفير مقوِّمات هذه الحياة، فلا معنى لعمل لا يُوفِّرُ حياة كريمة للإنسان، فإن لم يحققها صار ذُلاًّ وعبودية وليس عملاً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((قال الله: ثلاثةٌ أنا خصمُهم يوم القيامة: رجلٌ أعطى بي ثم غَدَر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يُعطِ أجرَه))[5].







وفي وقفةِ تأمُّلٍ مع هذا الحديث القدسي، الذي يؤشر إلى قضية كبيرة، وذنبٍ عظيم، وخصومة غيرِ متكافئةٍ على الإطلاق؛ فمَن يرضى أن يكونَ اللهُ - جل جلاله وتقدَّست أسماؤه - خصمًا له يوم القيامة؟! فقد خاب وخسر، والأمر يقتضي المراجعة لمن يقسم الأرزاقَ والأجور، عليه أن يراجع نفسه آلاف المرَّات.







وكلُّ التُّهم التي سيكون الله جل جلاله خصمًا فيها لأولئك الأفراد، متعلقة بالعَلاقة مع الآخرين، وسلبِهم حقوقَهم؛ فهي تشرحُ شَناعة ثلاثة أفعال مع العباد:



الأول: الذي يغدِرُ بالآخرين بعد إعطاء عهد مُوثَّق بيمين بالله جل جلاله.







الثاني: مَن حوَّل شخصًا من الحرية إلى العبودية، وذلك ببيعه وأَكْلِ ثمنه، وهذه القضية وجوهُها متعددة، فاليوم قد أَذِن الله جل جلاله بأن تكون تجارةُ الرقيق من أخبار الماضي، ولكنها ظهرَت بأشكال وصورة جديدة، فحين يضطر فردٌ ما بالقبول لأن يعمل مع شخص آخر مقابلَ عقدٍ تعسفيٍّ، تنافي بنودُه الجائرة كلَّ القيم والأعراف الشرعيَّة والإنسانية والأخلاقية، من الجانب المالي والوظيفي والاجتماعي والإنساني - فإنه رِقٌّ بشكل جديد، وعبودية العصر الحديث.







الثالث: عدمُ إعطاء أصحاب الحقوق أجورَهم.







الاحترام الشخصي: وهذه القضية أبى الله جل جلاله إلا أن تكونَ بكلامه تعالى (القرآن)، ومع أحبِّ الخلق إليه، ومَن نصَّبه جل جلاله سيدًا على الناس كافَّة؛ هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد "ذكر غيرُ واحدٍ من المُفسِّرين أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يومًا يُخاطِبُ بعضَ عظماء قريش وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يُخاطِبُه ويناجيه إذ أقبَل ابنُ أم مكتومٍ، وكان ممن أسلم قديمًا، فجعل يَسأَلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ ويلحُّ عليه، وودَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كفَّ ساعته تلك؛ ليتمكَّن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعًا ورغبة في هدايته، وعبس صلى الله عليه وسلم في وجه ابن أمِّ مكتوم، وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾ [عبس: 1 - 3]" [6].







فالفقيرُ الضعيف الأعمى احتُرمت شخصيتُه، وعوتب فيه خيرُ البشر وأحبُّهم إلى الله تعالى، وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، في الوقت الذي كانت نيةُ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم طيبةً، وهو صلى الله عليه وسلم من عُرِف بكمال الأخلاق وسموِّ الهدف، ولكن رغم ذلك حدَث الذي حدث.







وعن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه، قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ الذِّكر، ويقلُّ اللَّغْو، ويطيلُ الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنفُ أن يمشي مع الأرملة أو المسكين، فيقضي حاجته"[7].







فضعفُ حال الأرملة والمسكين وأشباهِهم لا ينفي عنهم صفةَ الإنسانيَّة، ولا يُصادِرُ منهم حقوقهم البشرية في الاحترام والتقدير، وهكذا كان يفعلُ رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم معهم.







وكان الخطابُ القرآني يُؤكِّد على ضرورة الاهتمام بالآخرين، دونَ النظر إلى مستواهم المعاشي أو غِناهم، ولكن ينظرُ لهم كبشرٍ مثلُهم مثلُ غيرهم، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: "كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ستة نفرٍ، فقال المشركون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: اطردْ هؤلاء؛ لا يجترئون علينا! قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسمِّيهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقَعَ، فحدَّث نفسه؛ فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الأنعام: 52]"[8].







التقديرُ لنوع العمل الذي يُقدِّمه، وحتى لا تكونَ نوعية العمل سبَّةً لمن يمتهن الأعمال البسيطة، أو التي يراها الناس نقيصةً أو حقيرة؛ فقد جعل الله جل جلاله كلَّ الأنبياء من غير استثناء يعملون برعْيِ الغنم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعَث الله نبيًّا إلا رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنتَ؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريطَ لأهل مكة))[9].







والخطرُ الدَّاهم يكمن في الشعور الذي يتملَّكُ مدير المؤسسة بأن هذا العامل، أو السائق، أو الموظف البسيط يعمل عنده شخصيًّا؛ فيشعر بأنه عليه أن يَخْدُمَه، ويُقدِّم له فروض الطاعة والولاء؛ عندها يختلُّ توازنُ العَلاقة الإنسانيَّة، ويَفقِدُ مدير المؤسسة القابليَّة على العطاء، مثلما يفقد العاملُ الصغير القابلية على حسن الإنجاز وعلى الإبداع، فتشير البوصلة إلى الاتجاه الخطأ.







التوازن العاطفي: المُؤَاخَذُ على العَلاقات السلبيَّة أنها عَلاقات عاطفيَّة، لا يتحقَّقُ فيها التوازن المنشودُ بين العقل والعاطفة، فتبدأ تحت غطاءِ الحبِّ في الله جل جلاله، وتتهيَّجُ المشاعر الجيَّاشة، وتسمو معاني الأخوَّة في ذات الله جل جلاله بشكل رائعٍ، حتى تصلَ إلى آفاقٍ واسعةٍ، وربما تصلُ إلى نقطة التضحيةِ بالنفس، ثم مع مرورِ الوقت ومباشرة أمورِ الحياة الواقعيَّة بشكل طبيعي؛ كالتعاملات المادية، أو التجارية، أو المرافقة في السفر، وأمور حياتيَّة عمليَّة كثيرة التي من شأنها أن تُظهِرَ الإنسان على حقيقته، هنا تخفُتُ العواطف، وتبدأ بالضُّمور شيئًا فشيئًا، ثم تذهب أدراجَ الرياح، وربما تحوَّلت إلى كراهية وعداوة، يَنتُجُ عنها طعنٌ لا مثيلَ له، وسعيٌ جادٌّ لسحقِ الآخر، أو تشويه صورته على الأقلِّ.







إن الاقتصاد والوسطيَّة في التعبير المنطقي للمشاعر العاطفيَّة للآخرين هو الحلُّ المناسب للوصول لحالة التوازن بين العاطفة والعقل في العَلاقات الإنسانيَّة، وأحيانًا فإن صغارَ القوم من أصحاب الفطرة السليمة يمارسون هذا العملَ، فيستثمِرُه الكبارُ بشكل سلبي، وتَحدُثُ خلال ذلك الطبقيَّةُ الاجتماعية المرفوضة، ومن هذا الأساس كان أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول: "أحْبِبْ حبيبَك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضَك يومًا ما، وأبغض بغيضَك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبَك يومًا ما "[10].







المصير المشترك: ومثلما وجب أن تتَّصِفَ العَلاقة المتوازنة بالهدف المشترك، كذلك ينبغي أن يكونَ الفهمُ العميقُ للأخوَّة أو الأصدقاء أن مصيرَهم مشترك، لقد أحبَّ أولئك الذين بايعوا رسولَ الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بيعةَ العقبةِ أن يستوثِقوا من قضية المصير المشترك إن هم بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأكَّدها لهم صلى الله عليه وسلم، حين قال: ((أبايعكُم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءَكم وأبناءَكم))، قال: فأخذ البراءُ بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعنَّك مما نمنَعُ منه أزُرَنا، فبايعْنا يا رسولَ الله، فنحن أهلُ الحروب، وأهلُ الحلقة، وَرِثْناها كابرًا عن كابر، قال: فاعترض القول - والبراءُ يُكلِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبدالأشهل، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنَّا قاطعوها - يعني: العهود - فهل عسيتَ إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك، وتدعنا؟ قال: فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((بل الدمَ الدمَ، والهدمَ الهدمَ، أنا منكم وأنتم مني، أحاربُ من حاربتُم، وأسالمُ مَن سالمتم))[11].







والتوازنُ المنشودُ في العَلاقة هو الذي تتوفَّرُ فيه مجموعةٌ من العناصر، وصولاً للتوازنِ الاجتماعيِّ الذي هو أساسُ التوازن في العَلاقات الاجتماعية، فإن التوازن الاجتماعي هو الذي يُحقِّقُ للآخرين إنسانيَّتَهم على حقيقتِها، مثلما يشعرون بأنهم جزءٌ من مجتمع أو فريق عملٍ محترم له ما لهم وعليه ما عليهم، ويُترجِمُ هذا التوازن الأُخوَّة إلى واقع حقيقي رغم الاختلاف العِرقي أو الوظيفي أو المالي، فلا مانعَ أن يتوافقَ تحتَ هذا المفهوم الإنساني من يتبوَّأ مكانةً وظيفيَّة أو اجتماعية عاليةً مع آخر لا يتمتَّع بهما، وبهذا الإحساس صرَّح صهيبُ بنُ سِنان الرومي رضي الله عنه عما في مكنونات نفسه حين ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فلما أصيب عمر، دخل صهيبٌ يبكي يقول: وا أخاه وا صاحباه!)[12].







لقد تحقَّق المفهومُ الذي نتكلَّمُ عنه، فإن صهيبًا الرومي رضي الله عنه وهو المواطن يشعر بأن أميرَ المؤمنين ورئيس الدولة التي يعيش فيها إنما هو أخوه وصاحبُه ليس أكثر!







هذه هي الأمَّةُ الفائزةُ التي تتوفَّرُ في أفيائها عَلاقاتٌ إنسانيَّة بهذا المستوى من الرُّقيِّ والسمو، بحيث تجعل الفرد الاعتيادي لا يتردَّدُ في أن يُخاطِبَ أعلى قمة في هرم الدولة بعبارة (أخي) أو (صاحبي) بلا تردُّد، وبمشاعرَ حقيقيَّةٍ غير تمثيلية، وبلهجة الواثق من نفسه، الصادق في عباراته.







ومثل هذه الأمة التي تُشيرُ بوصلة علاقات أفرادها إلى الاتجاه الصحيح - يَفتخِرُ الإنسان بالانتساب لها، ويُباشِرُ بلا تردُّدٍ العمل الجاد والبذل لنجاحها وتفوقها.







ومن دلالات التوازن الاجتماعي:



تبادل الزيارات والاتصالات: اعتادَ الناسُ أن يزورَ الفقيرُ الغنيَّ، والضعيف القوي، والصغير الكبير، وأن الأمرَ يبدو للوَهْلة الأولى طبيعيًّا، وهذا ما اعتاد عليه الناس اليوم، ولكنه إن كان بسبب التمايُزِ الطَّبقي أو الاجتماعي، فإن ذلك سيُؤدِّي إلى نتائجَ سلبيَّة، فهو يبعثُ في نفس القويِّ والغني بأنه صاحبُ الحقِّ في أن يُؤتَى ولا يأتي، فيَنصاعُ لهوى نفسِه الأمَّارة، وربما وَقَع في الكِبْر والعجب، وفي ذات الوقت فإن الأمرَ يَبعثُ في نفس الفقير والضعيف ما يُملي عليه أن يأتي الآخرَ، ويُقدِّمَ له فروض الطاعة والولاء، فتقع في نفسه الهزيمة والانكسار.







وتكونُ العَلاقات الاجتماعية متوازنةً حين يتبادَلُ الناسُ الزيارات بشكل متعادل، فإن الغنيَّ إذا زار الفقيرَ فإن الفقير سيَشعُرُ أنه إنسانٌ مُحترَمٌ، لا يقلُّ شأنًا عن الغني، وإن الفارقَ في فضولِ الأموال إنما هو رزقٌ يَسوقُه الله جل جلاله للناس، واللهُ جل جلاله لا يُسأَلُ عمَّا يَفْعَلُ؛ لأن الخيرَ كلَّ الخير للناس فيما يختارُه الله جل جلاله للناس؛ لذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُكثِرُ زيارةَ الأنصار خاصة وعامة، فكان إذا زار خاصَّة أتى الرجلَ في منزله، وإذا زار عامَّة أتى المسجد[13].







ولم تكن زياراتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لنوعيَّة خاصة من الناس، كأصحابه المقربين أو كبار القوم - وهو كان يفعل ذلك - ولكنه يزورُ عامَّةَ الناس وفقراءَهم في بيوتهم أيضًا؛ كجزء مهمٍّ من المجتمع لا يمكن التخلي عنهم أو التفريط فيهم؛ لأهمية وجودِهم ودورهم الفاعل في المجتمع، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قد صار مثلَ الفَرْخ، فقال: ((ما كنت تدعو بشيء أو تسأل؟))، قال: كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبَني به في الآخرة، فعجِّلْه في الدنيا، فقال: ((سبحان الله! لا تستطيعُه، أو لا تطيقُه، قل: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار))[14].







وواضَحٌ من سياق الحديث أن الرجلَ الذي زاره النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن معروفًا، ولو كان صحابيًّا معروفًا لما تردَّد أنس بن مالك رضي الله عنه في أن يذكره باسمه.







وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان غلام يهودي يَخدُمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعودُه، فقَعَد عند رأسه، فقال له: ((أَسْلِمْ))، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أَطِعْ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((الحمدُ لله الذي أنقذه من النار!))[15].







ولنا أن ننظُرَ بعين المنصف لهذه الزيارة، إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقوم بدور المربي والمسؤول، وهو يزور طفلاً صغيرَ السن، ويهوديًّا، وليس بينه وبين الموت إلا هنيهات من الزمن، ولو كان أحدُنا في هذا الموقف، لقدَّمنا الكثير من التساؤلات في أهمية هذه الزيارة، وجدواها! ولكن رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم يُؤدِّي دوره العظيم في تربية الأمة.







وفي موضع آخرَ يستجيب صلواتُ ربي وسلامه عليه لدعوة امرأة عجوز، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن جدَّته مليكة دعَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعَتْه له، فأكل منه، ثم قال: ((قوموا فلأصلِّ لكم))، قال أنس: فقمتُ إلى حصير لنا، قد اسودَّ من طول ما لبس، فنضحتُه بماء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفَفْتُ واليتيمَ وراءَه، والعجوزُ من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتَيْن، ثم انصرف [16].







ولكننا اليوم نرى بأمِّ أعيننا من يتهرَّب من دعوة الضعفاء، ويربأ بنفسه عن طعامهم؛ فهو لا يليق بمقامه، مثلما ينأى بنفسه أن يتكلَّف استقبالهم، وأداء واجباتهم كضيوفٍ، فلا يُجيبُ إلا دعوات كبار القوم وأغنيائهم؛ ففيها ما يرضي غرورَ نفسه.







وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتاه في منزله، فقال: ((أين تحبُّ أن أصلِّي لك من بيتك؟))، قال: فأشرتُ له إلى مكان، فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلم، وصففنا خلفَه، فصلى ركعتين[17].







الالتزام بالعهود: وقد صار هذا الخُلُق الطيِّب اليوم لناسٍ دون آخرين، فكبار القوم ليسوا على استعدادٍ للوفاء بعهودهم التي قطعوها بالأمس القريب للآخرين، ويُبرِّرون ويَعتذِرون بشتَّى الأعذار والذرائع، ثم يتنصَّلون عن عهودِهم، بينما يُلزَمُ الصِّغار والفقراء بأن يوفوا بالعهود، ولا يُسمَحُ لهم بغير ذلك؛ لأن في ذلك خيانةً للأمانة وتفريطًا في مبادئ القضية، في حين أن الله حين أمر بالوفاء بالعهود لم يُصنِّف الناس، وكان الخطاب عامًّا، يقول تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 34].







فرص الكلام: غَلَب على عَلاقات اليوم - وخصوصًا بين كبير المقام ومن أصغر منه - بأن يستلم الكبير أو القوي أو الغني أو ذو الشأن دفَّةَ الحديث، فيُوجِّهه حيث شاء، وليس لصغارِ القوم فرصة في الكلام، وهذا من الأخلاق السيئة التي تجعل الضعيف أو الفقير في مقام لا يُحسَدُ عليه، ويشعر بالعُقد النفسية تجاه الآخرين، وقد لا تظهر نتائجه قريبًا، بل من الممكن أن تكبرَ معه وتنفَجِرَ في أشدِّ الأوقات حرجًا على المجتمع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سَمِع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدِكم يغتسِلُ فيه كلَّ يوم خمسًا، ما تقولُ ذلك يبقي من درنه؟))، قالوا: لا يُبقِي من درنه شيئًا، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله به الخطايا))[18]، ففي هذا الحديث نقرأُ كيفَ كان رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم يُحفِّز مَن يجلس معه بأن يقول رأيَه بعد سؤاله من قِبَل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.







تكافؤ فرص العيش: ولقد صار من أمراض العصرِ الحالي أن يعيش أناسٌ بنعمة، وخير وفير، وعزٍّ منيع، وآخرون معهم بنفس السفينة، ويؤمنون بنفس المبادئ، ويعملون من أجل نفس القضية، ولكنهم يعيشون بحاجة وتعب وذلٍّ، وظهرٍ مكشوف وفقدان الأمن، وقد يطلق عليهم المصطلح المعاصر أنهم (يعيشون تحت مستوى خط الفقر).







لقد دعَت الشريعة الإسلامية إلى توفير الحاجات الحياتية الأساسيَّة في الحياة للإنسان؛ لكي يكون منتجًا ومُفكِّرًا مبدعًا، يقول المستورد بن شدَّاد رضي الله عنه: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن ولي لنا عملاً وليس له منزلٌ، فليتَّخِذْ منزلاً، أو ليست له زوجة فليتزوَّج، أو ليس له خادم فليتخذ خادمًا، أو ليست له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئًا سوى ذلك فهو غالٌّ))[19].







وهذا المقدارُ من فرص العيش في الحياة يُسمَّى: (حدَّ الكفاية)، وليس حدَّ الكفاف، وهو مستوًى راقٍ ومتطورٌ وتنموي في المنظور الاجتماعي والاقتصادي.







وفي الدور التربوي للنبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم لأمته أنه يتعمَّد صلى الله عليه وسلم أن يختار جانبًا اقتصاديًّا يَتعلَّقُ بتكافؤ الفرص في العيش؛ ليعلم رجلاً خلقًا ما، فعن جريرِ بنِ عبدالله البَجلي رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بين يَدَيْه، فاستقبلَتْه رعدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هَوِّنْ عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد[20]))[21].







لقد كان حرصُ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كبيرًا في مَنْح الجميع نفس الفرص، ليس في العيش فحسب، بل في أوجهِ الحياة كافَّة، حتى على مستوى الإناء الواحد، بل على مستوى التمرةِ الواحدة، وقد يبدو الأمر مبالَغًا فيه، ولكن الأمر لأهميته العالية تناوله رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة الرائعة، فعن جَبَلة بن سحيم التيمي قال: كنا بالمدينة في بعض أهل العراق، فأصابنا سنة، فكان ابن الزبير يرزقُنا التمرَ، فكان ابن عمر رضي الله عنهما يمرُّ بنا فيقول: "إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران، إلا أن يَستأذِنَ الرجلُ منكم أخاه"[22].







قبول المخالفين في الرأي: ثقافةُ الاختلاف في الرأي هي إحدى المؤشِّرات المهمة على مدى تطور الشعوب، ومن أجل هذا حَرَصت الشريعةُ الإسلامية على إلزام الفرد قبولَ الرأي الآخر، وعدم إلزامه بالخضوع والانحناء أمام ما نؤمن به بالقوة، وفي أقلِّ الأحوال منحه الفرصَ والبدائل ليختار.







وما يهمُّنا في موضوع بحثِنا أن الأمَّة بدأت تنحَرِفُ عن هذا الفهم الأصيل، الذي هو من صميم توجُّه الفكرِ الإسلاميِّ السليم، فأصبَحَ الناصحُ الذي يُحاوِلُ أن يُقوِّم التقصير أو الأخطاء المرتكبة من قبل الآخرين - يوصف بالعدوِّ الذي يحاول تدمير المسيرة.







لقد شجَّع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الصحابة على أن يقولوا بآرائهم من غير تردُّد ولا تعتعة، فهذا الحُبَابُ بنُ المنذر يُدلي بدلوه يوم معركة بدر الفرقان، فغيَّر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مكانَ الجيش الإسلامي بأكمله؛ بناء على استشارة الحباب رضي الله عنه.







إن أهم الأسباب لعدم قبول الرأي الآخر يكمن في فقدان القدرة على استيعابِ وِجهات نظر الآخرين، وهذا يؤدي إلى الشعور بأن صاحبَ الرأي المخالف ما هو إلا عدوٌّ يُحاوِلُ إفشالَ الطرف الآخر في الوصول إلى ما يطمحون إليه.







لذلك؛ لابد من نبذِ الاختلاف حين يكونُ من أجل فرض رؤية معيَّنة، بعيدًا عن أي مستند علميٍّ، أو واقعي، أو لمجردِ الانتصار للنفس، فالاختلافُ في وجهات النظر أو في الرُّؤى، ولو كانت عَقَديَّةً، إذا كان مبنيًّا على أسس ومبادئ يُؤمِنُ بها كلٌّ وَفْقَ وجهة النظر التي يتبنَّاها - سيُسهِّلُ الأمر لجميع الأطراف للوصول لحلٍّ يُرضيهم.







ومن باب آخر: ينبغي أن يتعلَّم الأفرادُ ثقافةَ الحوار مع المخالفين، وليس شنَّ الحرب واستخدامَ ما يُمكِنُ من الأساليب الهجوميَّة مع أول جملة يتفوَّهُ بها المخالفُ في الرأي.







والحوار: هو النِّقاشُ بين طرفَيْنِ حولَ قضية معيَّنة بحيث يأخُذُ كلُّ طرف من الطرفين فرصتَه الكاملة للتعبير عن وجهة نظره، محاولاً إثباتها، ثم يبادر الآخر ليأخذ نفس الفرصة.







لقد تناولَ القرآن العظيم مصطلحَ الحوار في سورة الكهف؛ نظرًا لأهميته في الحياة؛ لأنه من الطبيعي جدًّا أن يكون للفردِ مخالفون في الرأي، سواء في العقيدة، أو في الفكر، أو في الفهم، أو في أمور الحياة عامة؛ وبذلك توفَّرت مادة للحوار بين الطرفين، قال تعالى: ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ [الكهف: 34]، ثم أعاد الخطاب بعد آيتين فقط، بقوله تعالى: ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾ [الكهف: 37].







ومن أسس الحوار:



أن يستمع طرفٌ حتى ينتهي الطرف الآخر، ثم يَحدُث العكس.







أن يكون ودِّيًّا، فهو ليس حلبةَ مصارعة بين طرفين.







في الغالب يكون هادئًا، بعيدًا عن التشنجات النفسيَّة، والانفعالات العصبية.







يكون في الأمور الفكرية وليس المادية، ففي الماديات والصفقات يكون تفاوضًا.







ينبغي أن يتسلَّح المحاور بالعلم الكافي (في قضية الحوار) الذي يُوفِّرُ له الأدلة والحجج المناسبة لإقناع الطرف الآخر.







يُفضَّل أن تتطابق أعمال المحاور مع أفعاله في القضية التي تكون مدار الحوار.







أن تكون الغايةُ منه الوصولَ للحق، وإلا تحوَّل جدلاً.







وجودُ تكافؤ في الفرص، وحريةٍ لقول الرأي، ما يعني: لا يتحاور وأحدُ الطرفين تحت ضغط ما، سواء كان هذا الضغط مباشرًا أم غير مباشر.







ليس بالضرورة أن يكون هناك طرفٌ رابح وآخر خاسر، فقد ينفضُّ مجلس الحوار ولا يبدي أيُّ الطرفين اقتناعًا بوجهة نظر الآخر، وقد تأتي النتائج لاحقًا.







ويقع الكثير من الناس في خطأ جسيمٍ في الحوار حين يَنظرون إلى الجانب المُظْلمِ أو القاتم في رأي أو شخصية المُخالِفِ، فهو كمَن يُقدِّم التشاؤم في الموضوع، بينما من المفروض أن يَنظُرَ إلى الجانب المُشرق فيه؛ وهو الجانب التفاؤلي في الموضوع، ومِن رحِمِ التفاؤل والنظرة للجزء المملوء وليس الفارغ من القدح - تَنبثِقُ النتائجُ العظيمة.







[1] صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.




[2] مسند أحمد بن حنبل، ومن مسند بني هاشم، مسند عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.




[3] صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلاً".




[4] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم.




[5] صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب: إثم من باع حرًّا.




[6] تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء ابن كثير القرشي الدمشقي، ج4، ص: 568.




[7] صحيح ابن حبان، كتاب التاريخ، ذكر خصال كان يستعملها صلى الله عليه وسلم ويستحب لأمته الاقتداء به فيها.




[8] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب: في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.




[9] صحيح البخاري، كتاب الإجارة، باب: رعي الغنم على قراريط.




[10] المطالب العالية؛ للحافظ ابن حجر العسقلاني، كتاب الأدب، باب الحب.




[11] مسند أحمد بن حنبل، مسند المكيِّين، بقية حديث كعب بن مالك الأنصاري.




[12] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يُعذَّب الميت...".




[13] مسند أحمد بن حنبل، زيارة النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار عامًا وخاصًّا.




[14] صحيح ابن حبان، كتاب الرقائق، باب الأدعية؛ ذكر الأمر بمسألة العبد ربه جل وعلا الحسنة في الدنيا والآخرة.




[15] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات.




[16] صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب: الصلاة على الحصير.




[17] صحيح البخاري، كتاب الصلاة، أبواب استقبال القبلة، باب إذا دخل بيتًا يصلي حيث شاء، أو حيث أمر.




[18] صحيح البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب: الصلوات الخمس كفارة.




[19] مسند أحمد بن حنبل، مسند الشاميين، حديث المستورد بن شداد.




[20] القديد: اللَّحم المملَّح والمجفَّف في الشمس.




[21] المعجم الأوسط؛ للطبراني، باب: الألف؛ من اسمه: أحمد.




[22] صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب: إذا أذن إنسان لآخرَ شيئًا، جاز.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10-04-2019, 08:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,204
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام

ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام

عبدالستار المرسومي





سلسلة ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام



رابعًا: المصداقية



الصدق في التعامل مع الآخرين هو أهمُّ قواعد العَلاقات الإنسانية على الإطلاق، ولعل هذا هو السرُّ وراء تركيز رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم عليه، وضرورة التمسك به، وتعلق الكثير من أمور الحياة به، فعن عبدالله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الصدقَ يهدي إلى البرِّ، وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، وإن الرجلَ ليَصدق حتى يكون صدِّيقًا، وإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجورَ يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذَّابًا))[1].


فالصدق مع الآخرين طريق الجنة، ونتيجته الهداية للأعمال الصالحة في المجتمع، بل وله نتيجة أخرى عظيمة، وهي الحصولُ على شرف مقام رفيعٍ، وهي مرتبة (صدِّيق)، وكما هو معلوم فإن مرتبة الصدِّيق هي دون النبيِّ وفوقَ الشهيد؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]، وكان أبو بكر رضي الله عنه صدِّيقًا، وكانت مريم بنت عمران عليها السلام كذلك صدِّيقةً، وعكس ذلك فإن الكذب سيجرُّ الفرد إلى متاهات الفجور، والفجورُ عواقبُه وخيمة.

وتكون العلاقاتُ مع الآخرين صادقةً عندما تكون في ذات الله جل جلاله، يأخذُ كلُّ فردٍ فيها حيِّزَه ومجالَه الطبيعي، وحقَّه منها، ولا يعني أن تكونَ في ذات الله جل جلاله أنها لا يمكنُ أن تكون هناك علاقات تتضمن تعاملات مادِّية، أو تجارية، أو مصالحَ مشتركة وما إلى ذلك، وتكون في الله جل جلاله، بل يمكن أن تكون كذلك إلى أبعدِ نقطة، ولكن شرطها أن تَنضبِط بضوابطِ شريعة الله جل جلاله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله: أنا ثالثُ الشريكَيْنِ، ما لم يَخُنْ أحدُهما صاحبَه، فإذا خانَ خرجتُ من بينهما))[2]، ولكنَّ رُقيَّ العَلاقة مع الآخرين وسُموَّها عندما تكون خالصة لله جل جلاله، ليس فيها شيء من مصالح الدنيا المادية، فستكونُ أكملَ وأجملَ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصَد الله له على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه، قال: أين تريدُ؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تَربُّها؟ قال: لا، غير أني أحبَبْتُه في الله عز وجل، قال: فإني رسولُ الله إليك، بأن الله قد أحبَّك كما أحبَبْته فيه))[3].

يقول أبو صالح المزي: "المؤمنُ مَن يُعاشرك بالمعروف، ويَدلُّك على صلاح دينك ودنياك، والمنافقُ مَن يُعاشِرك بالمماذعة، ويدلُّك على ما تشتهيه، والمعصومُ مَن فرَّق بين الحالتين"[4]، وكما ذكرنا فإن العَلاقة التي تكونُ في ذات الله جل جلاله ليس فيها مصالحُ دنيويَّة، لها علو الكعب، وهي التي سيُكافِئُ اللهُ جل جلاله مَن سعى لها ومارسها بتجرُّد؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لله عبادًا ليسوا بأنبياءَ ولا شهداء، يَغبِطُهم الشهداء والنبيون يوم القيامة؛ لقُرْبِهم من الله تعالى ومجلسِهم منه))، فجثا أعرابي على ركبتَيْه، فقال: يا رسول الله، صِفْهم لنا، وحلِّهم لنا! قال صلى الله عليه وسلم: ((قومٌ من أقناء الناس، من نزاع القبائل تصادقوا في الله، وتحابُّوا فيه، يضعُ الله عز وجل لهم يوم القيامة منابرَ من نور، يخاف الناس ولا يخافون، هم أولياء الله عز وجل الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون))[5].


وبعد أن تكون العَلاقة ذاتَ المصداقية في الله جل جلاله، فإن لها مجموعة من المواصفات التي ينبغي أن تتَّصف بها؛ لكي تتحقق فيها المصداقية، ومنها:
صدق العمل: ويكونُ فيه الولاءُ للقضيَّة التي يؤمنُ بها جميعُ الأطراف والانتصار لها من أولويات العمل، فكم وكم قال العلماء العاملون من الرعيل الأول: "إذا صحَّ الحديثُ فخذوا به، ودعوا قولي".
من منا لم يسمع بهذا الكلام؟
كلنا سمع، وكلنا نتحدث به، ولكن المصيبةَ في التطبيق.

فحين نتبنَّى فكرةً أو سلوكًا ويأتينا آخرون بالدليل، يبدأ عند تلك النقطة التأويلُ، وتغليب المصلحة الشخصية ولَيُّ أعناق النصوص والأدلة، والتكلم بفلسفة ربما لا نعيها نحن أنفسنا قبلَ الآخرين؛ كل ذلك من أجل الانتصار لتلك النفس الأمارة بالسوء، فمن صدقِ العمل الاعترافُ بضعف الإنسان أمام المغريات، يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف: 53].

الشفافية: وهي أن يتصرَّف الفردُ مع صاحبِه وكأنه كأس من زجاج يُرى السائل الذي فيه من خلاله، وبالمعنى الفكري: هو مساعدةُ الآخرين على فهم واستشراف التوجُّه الذهني والعملي للفردِ، بحيث لا يضطرُّون للتفسير السلبي، أو الفهم السيئ على الأقل لأي تصرُّفٍ يَبدُرُ منه؛ لأن التفسيرَ السيئ سيضرُّ بالنتيجة بالطرفين.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه، فمرَّ به رجل، فدعاه، فجاء، فقال: ((يا فلان، هذه زوجتي فلانة))، فقال: يا رسول الله، من كنت أظن به، فلم أكن أظنُّ بك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرَى الدم))[6].

ولقد عمل السلف الصالحُ بشفافية ليس لها مثيل؛ فلم يعلنوا عنها، بل شهد لهم بها غيرُهم، فولاؤهم لقضيتهم لم يكن يحتاجُ إلى دليلٍ، وهم من يقول الشاعر في أحدهم:
قومٌ إذا غسلوا ثيابَ جمالهم ♦♦♦ لبسوا البيوتَ إلى فراغ الغاسلِ

ومنهم من انشغل بقضيته بمصداقيَّة فاقت حدَّ التصور، حتى نسي كَسْبَه وعيشه، ومنهم من كان يجوعُ حتى يذهب ليَجلسَ قرب الخبَّاز يتقوَّى برائحة الخبز على الجوع!

قَبول النصيحة: فالعَلاقة الحقيقية الصادقة هي التي يُقبل فيها النصيحة، سواء وُجِّهت إلى عظيمِ الشأن، كبيرِ المقام، عليِّ القدر، أم إلى فقيرِ الحال، دنيِّ المنزل، قليلِ الشأن، فقد طلبَ هارون الرشيد وكان أميرًا للمؤمنين أن يقابل الفُضيلَ بنَ عِياض، (فقال لسفيان بن عيينة، أحبُّ أن أرى الفضيل.
قال: أذهب بك إليه إن شئت.
قال: قد شئتُ، فسارا، فلما وقفا بالباب، استأذن سفيانُ على الفُضيل.
قال: مَن هذا؟
قال: سفيان (ابن عُيَيْنة).
قال: يدخل.
قلت: ومن معي؟
فقال: ومن معك.
فلما دخلا قال سفيان: هذا أميرُ المؤمنين هارون الرشيد.
فقال له الفضيل: وإنك لهو يا جميل الوجه! أنت الذي ليس بين الله وبين خلقه أحد غيرك؟ أنت الذي يُسأل يوم القيامة كل إنسان عن نفسه، وتُسأل أنت عن هذه الأمة؟
قال: فبكى هارون الرشيد)[7].

والنصيحة تقدم لكل فرد، كبيرًا كان أم صغيرًا، عالمًا كان أم جاهلاً، فليس هناك أحد في غنًى عن النصيحة، وهذا ما كان يُؤكِّد عليه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم حين يَطلُبُ من الصحابة أن يشيروا عليه في كثير من المواضع، يقول ابن حميدس:
لي صديقٌ محْضُ النصيحة كالمر
آةِ إذ لا تريك منها اختلالاَ

فَتُريكَ اليمينَ منك يمينًا
بالمحاذاةِ والشمالَ شمالاَ


ولا بد لمن يَنصَحُ أن يفهم أصولَ النصيحة؛ فليس كلُّ الناس يقبلون النصيحة بطريقة واحدة، ما يعني: أن نفهمَ طبائع الآخرين، وعلى ضوئها نتصرَّفُ، ويمكن تقسيمُ الناس في ضوء قبولهم للنصيحة إلى:
مَن يَتقبَّلُ النصيحة المباشرة، وباللين، وباللفظ الصريح، وبشكل واضح، ولا يتحرَّجُ من ذلك.

من يحب أن يُنصح تلميحًا وليس تصريحًا.

البعض يستحسن نصيحتهم بشكل غير مباشر؛ كأن نهديَهم كتابًا يتضمَّنُ تفاصيل الموضوع الذي نرغَبُ في الكلام عنه معهم.

منهم مَن يُؤثِّر فيه أسلوب الودِّ والرِّفق، ومنهم مَن لا ينفع معه إلا أسلوب القوة.

بعض الناس لا ينفع أن ينصحهم أشخاص بعينهم؛ بسبب نَزعة نفسية تجاههم، أو قضية شخصية، أو أن الناصح من النوع الذي لا يروقُ لهم؛ لذلك وجب تكليفُ آخرين لنصحهم.

والنصيحة بذاتها ينبغي أن تتوفَّر فيها مجموعة من الصفات؛ لتكون نصيحةً إيجابية ومؤثرة فيمن تقدم لهم، ومنها:
أن تكون لوجه الله جل جلاله: لأنها إن كانت لغير الله جلَّ جلاله، أصبحت (فضيحةً) وليس نصيحةً، فقد يستثمِرُ بعضُ الناس النصيحةَ للتجريح أو التشهير بالمنصوح، لحاجاتٍ نفسيَّة أو شخصية في نفس الناصح تجاه مَن يَنصَحُه، فإن نتائج النصيحة متعلِّقة بمدى صدق نية الناصح، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))[8].

يقول شرفُ الدين البوصيري:
قام لله في الأمور فأرضى ال
لهَ منه تباينٌ ووفاءُ

فعله كله جميل وهل ين
ضَحُ إلا بما حواه الإناءُ؟



استخدام الحكمة في النصيحة: والحكمة هي وضعُ الشيء في محلِّه، والابتعاد عنها سيأتي بالتأكيد بنتائج سلبية؛ لأننا إن وضعنا النصيحةَ في غير محلِّها تحوَّلت إلى ظلم، ونتائج الظلم معروفة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابيٌّ فبال في المسجد، فتناولَه الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوه، وهريقوا على بولِه سَجلاً من ماء، أو ذَنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسِّرين، ولم تُبعثوا معسِّرين))[9].

والحكمةُ تقتضي دراسةَ واقع حال مَن تُقدَّم إليه النصيحة أولاً، ودراسة الظروف المحيطة به، وسبب حاجتِه للنصيحة، والتحضير الجيد لها، والعلم بالموضوع الذي ستُقدَّم النصيحة فيه.

إيمانُ الناصح أنها واجبة: يمارسُ الكثير من الناس النصيحةَ وفق الظرف أو المناسبة أو واقع الحال، فينصحُ في أوقات، ولا يفعل في أوقات أكثر، على الرغم من إيمانهم بأن النصيحة (واجبة)؛ لأنها جوهرُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن العمل بهذه الطريقة ينافي الإيمان بكونها واجبةً، وهكذا كان فعلُ السلف الصالح، فقد"كان رجل ضرير يجالس سفيان الثوري، فإذا كان شهرُ رمضان يَخرُجُ إلى السواد، فيُصلِّي بالناس، فيُكسَى ويعطى، فقال سفيان: إذا كان يومُ القيامة أثيب أهلُ القرآن من قراءتهم، ويقال لمثل هذا: قد تعجَّلت ثوابَك في الدنيا، فقال: يا أبا عبدالله، تقول لي هذا وأنا جليسك؟ قال: أخافُ أن يقال لي يوم القيامة: كان هذا جليسَك، أفلا نصحْتَه؟!"[10].

الرِّفْق زينة النصيحة: ونعني بالرفق استخدامَ أسلوب الوُدِّ واللين ابتداءً، والرفق هو زينةُ العمل وجمالُه الذي يراه فيه الآخرون، وقد نضطرُّ إلى تغيير الأسلوب أحيانًا؛ لضرورة شرعية، ولكن الأصلَ هو الرِّفْقُ.

لذلك؛ لا بد من ترويضِ وتدريب النفس على قَبول خشونة الآخرين وتَعسُّفهم أحيانًا من أجل استخدام الرفق كطريقة مقابلة للنصيحة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الرفق لا يكونُ في شيء إلا زانَه، ولا يُنزَعُ من شيء إلا شانه))[11]، يقول الشاعر:
رفيق نصوح ذو ذمام أكيدة
عطوف على مرءٍ لصحبته ألوى

يميط الأذى مهما استعنت جنابه
ويدفع عن أربابه عارض البلوى



عمل الناصح بمقتضاها: والقصدُ من ذلك أن يكون الناصحُ ممن يعمل بمقتضى الموضوع الذي يَنصحُ فيه؛ فإن (فاقد الشيء لا يُعطيه)،ومما يُذكَرُ في هذا الباب أنه طُلِب من الحسن البصري رحمه الله وكان خطيبًا في أحد مساجدِ البصرة أن ينصح الناسَ في خطبته في قضية (عتق الرقاب) وفضلِه، فتأخَّر جمعة وأخرى، وربما أخرى، ثم تحدَّث بالموضوع، فلما سُئل عن سبب التأخير بيَّن للسائل أنه لم يكن قد أعتق عبدًا سابقًا، ولم يكن عنده المال لِيقومَ بذلك؛ فتأخَّر حتى اشتغل بما وفَّر له المال، فاشترى عبدًا فأعتقه؛ لأنه لم يشأ أن ينصَحَ الناس بشيء لا يفعلُه بنفسه.

الجدية في تطبيق ما يتفق عليه من قوانين: إن القوانين والأنظمة المتَّفق عليها بين الأطراف ليست لأغراض إعلامية أو استعراضية أو تكميلية، إنما يُفترَضُ أن تكون أساسية وحقيقيَّة، ونابعة من حاجة هذه الأطراف إلى قوانين يَحيَوْن بها، وتستقيم عليها حياتُهم، وهذا كان دأبَ رسولِ الله محمد صلى الله عليه وسلم في تعامله مع من يعيش معهم، فعن أُسيد بن حضيرٍ رجل من الأنصار رضي الله عنه قال: بينما هو يُحدِّث القوم، وكان فيه مزاح بينا يضحكُهم، فطعنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعودٍ، فقال: "أصبرني"، قال: ((اصطبر))، قال: "إن عليك قميصًا وليس عليَّ قميص"، فرفَعَ النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه، فاحتضنه، وجعل يُقبِّل كشحه، قال: إنما أردتُ هذا يا رسولَ الله"؛ قوله: "أصبرني" يريد أقدني من نفسك، وقوله: "اصطبر" معناه استقد[12].

وكان رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم جادًّا وحريصًا في السماح لهذا الرجل بأخذ حقِّه الذي يراه مناسبًا، وبقدر ما يرضى مَن وقع عليه الحيف، وجاء حرص رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بأن يكون أولَ مَن يُطبِّقُ أحكام الشريعة ونصوصها، التي هو من جاء بها.

وإن واحدًا من أسباب فقدان الثقة بين الناس هو عدمُ المصداقية في أساليب التعامل على أرض الواقعِ، ومن ذلك عند توزيع الأدوار والمهام والمسؤوليات، تجرى انتخابات شكلية أو (صورية) محسومة النتائج، ربما لأغراض إعلاميَّة أمام الآخرين، أو أنها تعمل على إضفاء الشرعية اللازمة لأولئك الذين يتصدَّرون مهام العمل، ويضطلعون بمسؤولياته.

العفو عن المخطئ: فالإنسانُ الصادق في العَلاقة هو الذي يعفو عمن ُيسيء إليه، لأنه هو شخصيًّا سيُخطئ يومًا ما، وسيحتاج إلى مَن يعفو عنه، والعفو هو لبُّ الإحسان إلى الناس، يقول الشاعر:
أحسِنْ إلى الناس تستعبدْ قلوبَهمُ
فطالما استعبَد الإنسانَ إحسانُ

وإن أساء مسيءٌ فليكن لك في
عروض زلته صفحٌ وغفرانُ


السخاء: وهو معيارُ مهم للمصداقية؛ لأنه ببساطة الضد من المصلحة، ولم أجد بعدَ سخاء رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مع مَن كان معه، بل حتى معنا نحن اليوم سخاء - كموقف الليث بن سعد رحمه الله مع الإمام مالك رحمه الله، فقد كتب مالكٌ إلى الليث بن سعد أن عليه دَيْنًا، فبعث له بخمسمائة دينار، ثم كتب له مرة أخرى أنه يريد أن يزوِّج ابنته، فبعث له بثلاثين جملاً محمَّلة بالعصفر، وكان العصفر غاليًا، فباعه الإمام مالك، فزوَّج ابنته، وبقي له فضلةٌ وفيرة من المال.

وعن أسماء رضي الله عنها، قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا توكي[13] فيوكى عليك))[14].
ويقول الشاعر:
كريم صبيح الوجه سال بشاشةً
وأصبح في بدرِ التهلل محتفَّا

جواد سخيٌّ أريحيٌّ وإنَّه
لبحرُ الندى والجود يولي الندى جزفَا


الكسب غير المشروع: ولا يصحُّ أن يستثمر الفردُ العَلاقة في الحياة بشكل عام أو في العمل بشكل خاص لأغراض شخصية؛ كرفع رصيده الشخصي اجتماعيًّا أو ماليًّا، أو أي صفة من الصفات، فأي إنجازات ينبغي أن تَصبَّ في المصلحة العامة، وليس المصالح الشخصية؛ فعن أبي حُمَيْدٍ الساعديِّ رضي الله عنه، قال: استعمَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد، يقال له: ابن اللُّتْبيَّة، على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدِيَ لي، قال: ((فهلاَّ جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر يُهدَى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدٌ منه شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يَحمِله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر))، ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه: ((اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ - ثلاثًا -))[15].


المصداقية في العلاقة تقتضي رفع مقام الآخرين، فلا بد أن يَعِيَ كلُّ فرد تمامَ الوعي أن إنزال الناس منازلَهم التي يستحقونها - واجبٌ عليه، وأن هذا الأمر سيعودُ بالنفع على الجميع، ولن يقتصر على أحد، وهنا مفترَقٌ ينبغي الانتباهُ له، فرفعُ مَن لا يستحقُّ سيُشكِّلُ خطرًا على مستقبل العَلاقة، وإنما ينبغي رفعُ مَن يَستحقُّ ويُرجَى فيه الأمل في المستقبل، وكان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يُعلِّم الناس أن يرفعوا من قدرهم وقيمتِهم، فلا يكونوا إمَّعات تتقاذفهم أهواء وآراء الغير، فعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكونوا إمعةً، تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تُحسِنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا))[16].

وحين يوجد أحد فيه من الصفات التي ينبغي أن تُحترَم وتصان، فلا نتردَّد في رفع مقامه، وتقديره بالطريقة التي تزيدُه ثقةً بنفسه من أجل المزيد من الإنجازات.

الصبر: العَلاقات الإنسانية جزءٌ من فعاليات الحياة، فلا يتوقَّع أحد أن تكون على وتيرة واحدة،فقد تلثمها اليوم نسمات الود والصفاء والنقاء، ولكن هي غير مضمونة في الغدِ، فربما هبَّت عليها رياح الاختلاف، وعصَفت بها أعاصير الغضب والتشنُّج، وفي كلِّ الأحوال على الفرد الإيجابي أن يَصبِرَ، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم إذا كان يُخالِطُ الناسَ ويصبر على أذاهم، خيرٌ من المسلم الذي لا يُخالِطُ الناس ولا يصبر على أذاهم))[17]، يقول الشاعر:
وقد يحفظ المرءُ الكريم إخاءه
ويلقي عليه الموت والموت أحمرُ

ويصبر للأزْمات صبرَ محافظٍ
وفاءً ليَغْنَى خِدنُه وهْو معسرُ



وتحقيق المصداقيَّة في العلاقات لن يكون سهلاً إلا ببذل الجهد في مجاهدة النفس ورغباتها الكثيرة، ومدافعة الدنيا ومغرياتها المثيرة، وهذا هو السبب في قول عبدالله بن المبارك للسَّرخسي رحمهما الله: (ما أعياني شيءٌ كما أعياني أني لا أجد أخًا في الله عز وجل).

لقد كانت حادثة (المخلَّفين) في غزوة تبوك مثالاً رائعًا وحقيقيًّا لنموذجِ المصداقيَّة الحقَّة في أرفع العَلاقات الإنسانية، ومن جميع الأطراف، سواء من النموذج الذي مثلهم، وهو كعب بن مالك رضي الله عنه، أو من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو من الصحابة رضي الله عنهم، فعلى الرغم من أن المُخلَّفين كانوا كثيرين؛ حيث كانوا بضعة وثمانين رجلاً، إلا أن البيان القرآني للقصة دار حول ثلاثة أشخاص منهم فقط؛ لسبب واحد هو أنهم لم يحاولوا أن يكذبوا، وأصروا أن يعالجوا ما اقترفوا من جريمة بالصدق تحديدًا، لقد روى كعب بن مالك رضي الله عنه بنفسه قصَّته التي نختار نتفًا منها، حيث يقول رضي الله عنه: (فقال لي صلى الله عليه وسلم: ((ما خلَّفك، ألم تكن قد ابتعتَ ظهرَك؟)).

فقلت: بلى، إني والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيتُ أن سأخرج من سخطه بعذرٍ، ولقد أُعطيتُ جدلاً، ولكني والله لقد علمتُ لئن حدَّثتُك اليوم حديثَ كذب ترضى به عني، ليُوشكَنَّ الله أن يُسخطك عليَّ، ولئن حدثتُك حديث صدق، تجد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفوَ الله، لا والله، ما كان لي من عذر، والله ما كنت قطُّ أقوى، ولا أيسر مني حين تخلَّفتُ عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك)).

وعلى الرغم من شدة العقوبات التي فُرضت على هؤلاء الثلاثة ومعاناتهم منها، فقد منع الناس من أن يُكلِّموهم، وأُمروا أن يعتزلوا أهلَهم، حتى شعروا أن الأرض تنكَّرت لهم، وضاقت بهم على رحابتها، وضاقت عليهم أنفسهم، إلا أن ذلك لم يَثنِهم عن أداء واجباتهم على الوجه الأمثل، فيقول كعب رضي الله عنه: (فلما صلَّيْت صلاة الفجر صبحَ خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيتٍ من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رَحُبت، سمعت صوتَ صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخَرَرْتُ ساجدًا، وعرفتُ أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلَّى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشِّروننا).

وتأتي المكافأة على قدر المصداقية، فيقول كعب بن مالك رضي الله عنه: (فلما سلَّمْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: ((أبشر بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذ ولدَتْك أمُّك!))، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: ((لا، بل من عند الله))، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهُه حتى كأنه قطعةُ قمر، وكنا نعرفُ ذلك منه، فلما جلستُ بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلَعَ من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَمسِكْ عليك بعضَ مالك؛ فهو خير لك)).

قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسولَ الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أُحدِّثَ إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت).

وكأن كعب بن مالك رضي الله عنه في ذلك اليوم في ليلة عُرس وهو عريسها، أو كأنه في يوم عيدٍ خاص به، ولنا أن نتخيل أن كلَّ الأنظار تَتَّجه صوبه، ليس ذلك فحسب، بل يُنزل الله جل جلاله قرآنًا يُتْلى بحقِّ كعب بن مالك وصاحبَيْه، فيقول الله جل جلاله: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118]، وسُمِّيت السورة التي اشتملت على هذه الآيات سورة التوبة.


[1] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [التوبة: 119].

[2] المستدرك على الصحيحين؛ للحاكم، كتاب البيوع، حديث معمر بن راشد.

[3] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: في فضل الحب في الله.

[4] آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة؛ أبو البركات محمد الغزي، ص: 22.

[5] المستدرك على الصحيحين؛ للحاكم، كتاب البر والصلة، حديث عبدالله بن عمرو.

[6] صحيح مسلم، كتاب السلام، باب: بيان أنه يستحبُّ لمن رئي خاليًا بامرأة وكانت زوجته أو محرمًا له أن يقول: هذه فلانة؛ ليدفع ظن السوء به.

[7] مقامات العلماء بين يدي الخلفاء والأمراء؛ أبو حامد الغزالي، ص: 35.

[8] صحيح البخاري، باب بدء الوحي.

[9] صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب: صب الماء على البول في المسجد.

[10] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء؛ أبو نعيم الأصفهاني، ج7، ص: 16.

[11] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: فضل الرفق.

[12] السنن الكبرى للبيهقي، كتاب النكاح، جماع أبواب الترغيب في النكاح وغير ذلك، باب: ما جاء في قبلة الجسد.

[13] توكي: تدخري، أي: لا تمسكي وتدخري مالك، ولا تنفقيه في سبيل الله؛ فتحرمي الخير.

[14] صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب: التحريض على الصدقة والشفاعة فيها.

[15] صحيح البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: من لم يقبل الهدية لعلة.

[16] سنن الترمذي الجامع الصحيح، الذبائح، أبواب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في الإحسان والعفو.

[17] سنن الترمذي الجامع الصحيح، كتاب الرقائق، باب فضل مخالطة الناس والصبر عليهم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 174.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 171.33 كيلو بايت... تم توفير 3.05 كيلو بايت...بمعدل (1.75%)]