قواعد في منهج الدعوة إلى الخير - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 859 - عددالزوار : 118731 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 56 - عددالزوار : 40182 )           »          التكبير لسجود التلاوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          زكاة التمر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          صيام التطوع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          كيف تترك التدخين؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          حين تربت الآيات على القلوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3096 - عددالزوار : 366962 )           »          تحريم الاستعانة بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          فوائد ترك التنشيف بعد الغسل والوضوء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 06-04-2019, 02:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي قواعد في منهج الدعوة إلى الخير

قواعد في منهج الدعوة إلى الخير [*]

د. فريد الأنصاري [**]



مقدمة:
العمل الإسلامي أو الإصلاحي، أو الدعوي، في كل زمان وفي كل مكان، يقوم على أصل كلي في الإسلام، وكليته استقرائية ترجع إلى عدد كثير من النصوص القرآنية والسنية. ومن هنا قلَّما تجد حركة إسلامية، سواء في التاريخ القديم أو المعاصر، إلا وهي ترجع إليه، وتؤصل لوجودها به، وذلك هو «أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، إلا أن النظر في تحقيق مناط هذا الأصل، في ظروف الزمان والمكان، يجعلنا ملزمين بضبط توقيعه بقواعد منهجية، مشهورة عند العلماء، إن لم يحترمها الداعية صار إلى عكس المآل الذي وُضِع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجله. وهي:
القاعدة الأولى: في أن (الدعوية) صفة لازمة عن الإسلامية:
وهي قاعدة مبدئية؛ ولذلك فإننا ننطلق ابتداء من المقولة التالية: «أنت مسلم إذن أنت داعية».
وبيان ذلك كما يلي:
ألست مسلماً؟ إن كنت كذلك حقاً؛ فقد تعلقت بك أهم صفات ما انتسبت إليه من الإسلام: الرسالية. قال صلى الله عليه وسلم في أمر مطلق لكل الأمة:
«بلِّغوا عني ولو آية» [1]. ومن هنا كان المجتمع الإسلامي حركة دعوية بطبيعته، وجماعة إصلاحية بفطرته. إنه منذ أعلن أن محمدًا رسول الله؛ تقلد بمقتضى عقيدة الاتباع مهمة الدعوة إلى الله، فليس عبثاً أن يحض النبي صلى الله عليه وسلم بكل وسائل التحريض والتشجيع على الدعوة إلى الخير والهدى، كما في قوله: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» [2].
ومن هنا شهادة الله بالخيرية لهذه الأمة، في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110) إنها صفة عامة في كل من أسلم لله الواحد القهار. ومن هنا كان حديث تغيير المنكر دالاً على العموم، وليس له ما يقيده في المأمورين به إلا شرط الاستطاعة ورتبتها؛ وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [3]. وقد بينا في كتيب (الفجور السياسي) مراتب التغيير، وطبيعة كل رتبة منها بما يغني عن تفصيله هنا، فكان أن بينا إلزامية ذلك على كل مسلم على قدر مرتبته من الاستطاعة [4]. بل قد عزم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك عزمة شديدة على المسلم؛ هي أن يتجرد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلما حضره. قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى ليسأل العبد يوم القيامة؛ حتى يسأله: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله العبد حجته قال: يا رب! رجوتك وفرقت من الناس» [5].
فالمسلم المستقيم لا يمكن إلا أن يكون داعية إلى الخير. تلك صفته فرداً، وجماعة؛ إذ الرابط الاجتماعي القائم على الشهادتين في الإسلام يقتضي ذلك بداهة. قال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُو� �َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71)، فجاءت صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المؤمنين، مقرونة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله، وكل ذلك جاء نتيجة الموالاة في الله.
تلك صفتهم قبل التمكين في الأرض، وتلك صفتهم بعد التمكين؛ إذ الدعوة إلى الخير هي غاية ووسيلة في الوقت نفسه، تماماً كما تحدثنا عن الصلاة، فالمجتمع المسلم لا يقوم إلا بالدعوة إلى الله، قال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ} (النحل: 125). وإذا قام كان من أهم خصائصه الدعوة إلى الله، إلى جانب الصلاة والزكاة على سبيل التلازم، فتدبر قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41)، ومن هنا رسم الله سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم صراطاً مستقيماً، يتبعه عليه كل المسلمين، قوامه الدعوة إلى الله على بصيرة؛ وهي سبيل ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، مستقرة كذلك أبداً، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} (يوسف: 108).
فقوله تعالى: {هَذِهِ سَبِيلِي} (يوسف: 108) جملة اسمية دالة كما هو معروف عند النحاة على الثبات، وثباتها هو على ما جاء بعد لتفسير السياق: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) الآية. وجاء تفسيرها جملة فعلية للدلالة على الحركة، وفي ذلك إشارة إلى ما ذكرناه من خصيصة الدعوة اللازمة للجماعة الإسلامية، قبل التمكين وبعده، وأنها صفة تابعة لإسلام المسلم متى تفاعل مع إسلامه واستقام عليه.
ومن هنا جاء أمر الدعوة والإصلاح مقروناً بالأمر بالصلاة، في غير ما آية من القرآن الكريم؛ وذلك على نحو ما في وصية لقمان الحكيم لابنه، في حكاية الله عنه من قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان: 17)، وقال جل جلاله في وصف جميل لمؤمني أهل الكتاب، تناسق فيه جمال تلاوة القرآن قياماً بالليل، مع جمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة في الخيرات: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } (آل عمران: 113-115).
وجعل من سننه تعالى في الخلق أن كان أمنهم الوجودي والنفسي والاجتماعي مرتبطاً باستقامة أحوالهم، وذلك الثبات على الصلاة، والصبر عليها، وحفظ البيئة الدينية الموفرة لظروفها؛ بالإصلاح والنهي عن الفساد. فإذا اختلت تلك الشروط اختل الأمن الوجودي للأمة، قال تعالى يعرض صورة شاملة لإحسان التدين: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 114-117).
القاعدة الثانية:في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعوة إلى الخير أولاً:
والخير كل الخير هو معرفة الله، فكل معروف إنما كان كذلك من حيث هو يؤدي إلى معرفة الله أو هو عين معرفة الله، وكل منكر إنما كان كذلك من حيث هو جهل بالله. فإذا اتفق أن كان أمر بمعروف ما ينتج عنه منكر أكبر منه؛ توجه حينئذ وجوب ترك الأمر بذلك المعروف. وكذلك إذا كان نهي عن منكر ما يؤدي إلى ما هو أفظع منه؛ توجه وجوب ترك ذلك النهي إلى حين، كما قرره الإمام ابن تيمية رحمه الله في قوله: «وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة: فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها... فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر؛ لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته» [6]. وربما كانت الوسائل المستعملة في ذلك سيئة، أو اختيار العبارات غير موفق، أو نحو ذلك من وسائل تحقيق المناط الفاشلة ابتداء؛ مما لم يراع فيه الزمان وأهله، فيؤدي إلى عكس النتائج المرجوة.
ومن هنا كانت الآية المشهورة على ألسنة الدعاة: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) من ألطف الإشارات إلى هذا المعنى العجيب الذي يجعل المرء يضع نصب عينيه تحقيق مفهوم (الخير) أولاً. فلا عبرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن تحقق الداعي من أنه يخطئ به الوصول إلى الخير. وإنما الخير كما قلنا هو التعريف بالله. هذا معنى عظيم من أسرار كتاب الله.
ولذلك فقد جاءت الآية في سياق امتنان الله على المؤمنين بنعمة الإسلام، والتأليف بين قلوبهم، وإنقاذهم من النار، وإرجاع الفضل في كل ذلك إلى الله. فاقرأ السياق كله وتدبر، ثم أنصت إلى قلبك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 102-105).
إنها آيات تُشَدُّ إليها رحال المصلحين الربانيين.. فتدبر! ألا ما أبعد واقعنا المنحط عن سمائها العالي الرفيع! فالدعوة إن لم تراع أصل الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق عنه، ولم تنضبط بقصد النجاة من النار، للداعي والمدعو سواء؛ كانت منحرفة عن (الخير)، وإن كانت في ظاهرها أمراً بمعروف ونهياً عن منكر، فلا قيمة لهذا إلا إذا صار إلى خير. فتدبر!
القاعدة الثالثة:في أن اتباع السنة تزكية وتعلماً وتحلماً هو مفتاح دعوة الخير:
لا سبيل إلى كل ما ذكر من بلاغات قرآنية إلا عن طريق اتباع المبلغ: محمد بن عبد الله، رسول الله إلى العالمين. هذه عقيدة، بل أصل من أصولها الكبرى، وكلي من كلياتها العظمى، لا استقامة لشيء من ذلك كله إلا به. وإن شئت فقل: هذا هو البلاغ القرآني الجامع، والضابط الكلي المانع. قال الله عز وجل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الحشر: 7)، وقال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ} (آل عمران: 31- 32). والنصوص القطعية في هذا المعنى كثيرة، فهو أمر لا يماري فيه إلا جاهل بحقيقة الإسلام، أو من لا إيمان له به أصلاً.
فإذن؛ كل حديثنا مما كان قبلُ لا يمكن تحقيق مناطه، وتصور تطبيقه إلا من خلال السنة النبوية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا واضح وضوح الآيات: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [7]. لا نقاش في هذا، وما هو بحاجة منا إلى تقرير أو تحرير، وإنما الحاجة في بيان طبيعة الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم: كيف؟ هذا الذي تخبط فيه كثير من الناس.
وهذا هو مربط الفرس، وبيت القصيد: كيف نتبع السنة؟ وكيف نتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ ذلك أن كثيراً من المتدينين اليوم يسيء للسنة من حيث هو يزعم أنه متبع للسنة، ويحارب السنة من حيث هو يظن أنه ينافح عن السنة. وتلك أم المصائب؛ إذ يصنع الإنسان عكس ما يعتقد أنه يصنعه. لقد اقتصر كثير منهم في السنّة على منهج التعلم دون التزكية، والتحلم. فضلوا وأضلوا.. تدبر قول الله عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: 164)، وقوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2). فهو صلى الله عليه وسلم بتلاوته القرآن على المؤمنين، ومدارسته معهم؛ يقوم بعمليتين اثنتين لا واحدة: التزكية والتعليم، فاقرأ الآيتين وتدبر.. فعجباً، كيف فهم بعضهم من اتباع السنة والتأسي بها مجرد استظهار بعض الأحاديث دون الرحيل إلى أخلاقها، والتزكي بمقاصدها، والانتقال إلى منازلها؟!
أما التعليم: فهو للحلال والحرام وسائر أحكام القرآن وفقه السنة. وأما تعلم ما تحصل به الكفاية من ذلك لعبادة الله والالتزام بحدوده؛ فهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة، في كل ما يهمه من شؤون العبادات والمعاملات.
وأما التزكية: فهي التطهير للنفس والتربية لها، {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9-10)، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على تطهير صحابته من الأهواء، والارتقاء بهم عبر مدارج الإيمان إلى ما هو (أحسن عملاً)، من مثل قوله لعبد الله بن عمر: «نِعْم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل» [8].
وانظر رحمك الله كيف ذكر (التزكية) قبل (التعليم) في الآيتين، مع أنه لا تزكية بغير تعليم ابتداء، على ما ترجم له الإمام البخاري رحمه الله في كتاب العلم من صحيحه قال: «باب العلم قبل القول والعمل». وقد تقدم ذكر التعليم على التزكية بناء على الأصل في قوله تعالى من سورة البقرة: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (البقرة: 129).
صحيح أن العطف بالواو في الآيات كما هو في العربية لا يفيد الترتيب، لكن التقديم والتأخير في البلاغة يفيد الأهمية؛ ومن هنا جاءت التزكية في الآيتين الأوليين مقدمة على التعليم؛ من باب ذكر المقاصد قبل الوسائل؛ لشرف الغاية وعلوها، وحتى لا يفتتن السائر بالوسيلة عن الغاية؛ فيضل عنها، ويكون من الخاسرين.
تقول لي: وما بال التحلم؟ أقول: ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما عَلَّم ولا زَكَّى إلا بحِلْم؛ فهو الخاصية العظمى لمنهج التعليم والتزكية لديه صلى الله عليه وسلم، كما سترى بحول الله.
والحِلْمُ: الرزانة، والكياسة، والرحمة، والأناة. وهو ضد الجهالة والسفه. والتَّحَلُّمُ: تخلق الحلم وتكلفه حتى يصير لك خلقاً، ومعنى (اتباع السنة تحلماً): التخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم في ذلك. أي في حلمه، وصبره على جهالة الناس، وسفههم. قال صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم. ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه» [9].
إن الاتباع العام للرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء، إنما مفتاحه في التحلم بحلمه. وهذا من حيث المعنى في كتاب الله، ألم تقل عائشة رضي الله عنها: «كان خُلقه القرآن» [10]، فالعود إذن للقرآن نبحث فيه عن معنى الاتباع ومفهوم التأسي. الآية واضحة ظاهرة لكل ذي قلب شهيد، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21)، وإنها لآية عظيمة، وحكمة بالغة، وصراط مستقيم؛ تدبر هذه العبارة الربانية: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)؛ فأما الأسوة: فهي التَّخَلُّقُ. فالتأسي: اتباع السيرة والتخلق بما كان عليه المتأسَّى به من خلق عام. والخلق هنا هو كل الأوصاف التي كان يوصف بها في سلوكه وعمله، عدا الأوصاف الجبلِّية التي لا يمكن اكتسابها بالتأسي ولا بغيره. ووصف الأسوة بـ (الحسنة) دليل على علو شأن الخلق النبوي، وكمال سيرته وسلوكه العام والخاص، فهو لذلك كان أرقى نموذج بشري للتأسي والتخلق. أليس هو (رسول الله) المصنوع على عين الله، والمتأدب بأدب الله؟ بلى والله! فإذن من ها هنا يبدأ التأسي والاتباع، ومن أخطأ هذا المدخل للسنة النبوية فقد أخطأها كلها؛ إذ أتى البيوت من غير أبوابها. وتلك شهادة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، تلك هي الأسوة الحسنة؛ ولذلك قال بعد ذلك: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21)؛ إذ الخلق الحسن هو باب العمل الصالح، وسبب قبوله؛ فليس عبثاً أن يصرح الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله العجيب: «ليس شيء أثقل في الميزان من الخلق الحسن» [11]، وقوله في نحو هذا أيضاً: «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة» [12]؛ ولذلك فإنه: «لا يكون المؤمن لعاناً» كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم [13]، وقال لعائشة أم المؤمنين إذ استغربَتْ منه أنه دارى أحد الناس ممن يكره: «يا عائشة! متى عهدتني فحاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره» [14]. والقصة كما في صحيح البخاري أنه «استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. قلت: يا رسول الله، قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام؟» فقال لها صلى الله عليه وسلم ما قال.
قلت: هذا حديث تشد إليه رحال القلوب، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37)، وإنه والله سر حُسْنِ الأسوة، وجمالها في رسول الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة» [15]؛ ذلك خلق رسول الله، ذلك خلق القرآن، وهو قول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِين َ} (آل عمران: 159)، وقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128). ألا ما أحوج الناس اليوم عامة، والدعاة منهم خاصة إلى استيعاب هذا البلاغ القرآني العظيم. فتعلم من السنة أخي الداعية أخلاق النبوة تكن من الراشدين.
ذلك خلقه الجامع المانع؛ ومن هنا جعلنا عنوان هذا البلاغ الضابط لكل ما قبله: «اتباع السنة تزكية وتعلماً وتحلماً هو مفتاح دعوة الخير»؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث معلماً ومزكياً، وكان كل ذلك منه على منهج الحلم والرأفة والرحمة والأناة. فما أعظمه صلى الله عليه وسلم من نبي حليم، ورسول كريم!
القاعدة الرابعة:في أن الصلوات وحفظ الأوقات عمود الدعوة إلى الخير:
لو أدرك المسلمون اليوم ما معنى (الصلاة)؟ ما تركها واحد منهم إلا من أصر على ضلاله وعماه، أو كزّ على كفره وزندقته!
أما أنت أيها الداعية إلى الله؛ فاعلم أن السير الدعوي من غير مسلك الصلاة ضرب في التيه!
كل أعمالك في الجهاد، والدعوة إلى الله، وما تستكثره من حركات وسياسات راجع إلى مدى سلامة هذا الأصل عندك؛ قصداً، ووقتاً، وأداء. وإلا فعلى دينك السلام! {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (النور: 39).
إنك يا صاح! لن تذوق ما الإيمان وما الإسلام؛ حتى ترحل إلى الصلاة تكتشف أسرارها الممتدة إلى بحر الغيب المطلق؛ فترى عجباً.. فهي نتيجة فعلية لكل من تلا القرآن حق تلاوته، إنها أول ما يبادر إليه المحب أول ما يتذوق معنى المحبة؛ إذ يتعرف على جمال الله من خلال القرآن الكريم؛ ومن هنا أمره عز وجل بالصلاة؛ مباشرة بعد أمره تعالى بالتلاوة، على سبيل العطف المباشر المشعر بالتساوي بين الفعلين؛ مما يوحي بانعدام الفرق بينهما لما بين الاستجابتين من ارتباط وثيق. إن من تعرف على القرآن الكريم حقاً لا يملك إلا أن يصلي. قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45).
اعلم أن العلماء يجمعون على أن الوظيفة الوحيدة للإنسان في الكون هي عبادة الله. فكل حظوظه الدنيوية إنما هي منجرة بالتبع مع أصل العبادة، وإنما أتيح له أن ينال من حظه ما يعينه على وظيفته الأساس؛ وأصل ذلك ومستنده قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56).
إن خلاصة دين الإسلام عقيدةً وشريعةً: هي إخلاص العبادة لله الواحد القهار، والصلاة منه هي مفتاح كل شعيرة من شعائره، وروحها، وغايتها؛ زكاةً، وصياماً، وحجاً، وجهاداً... إلى آخر ما تفرع عن هذه وتلك من سائر أعمال البر. ولذلك كانت الصلوات الخمس بعد الشهادتين هي العنوان الجامع المانع لكل أعمال الإسلام؛ إذ كل ما سواها داخل في معناها، وليس عبثاً أن يعدَّها الرسول صلى الله عليه وسلم خير أعمال المسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا ـ وفي رواية: «استقيموا ولن تحصوا» ـ واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة. ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن » [16].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 123.39 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 121.68 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.39%)]