|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() أصول الأخلاق الإسلامية قصة يوسف عليه السلام أنموذجا أ.د. وليد بن محمد بن عبد الله العلي[(*) ] ملخص البحث: إنَّ النَّاظر في قصص الأنبياء والمُرسلين عليهم الصّلاة والسَّلام: يجد عظيم تخلُّقهم مع الرَّبَّ تعالى ومع النَّفس ومع سائر الأنام. وقد أودع الله تعالى في أنبيائه من الخِصَال الشَّريفة ما بوَّأهم في أُممهم رُتبة الأُسوة الحسنة، كما غرس حلَّ جلاله في رُسُله من الخِلال المنيفة ما جعلهم لمن بعدهم القُدوة المستحسنة، ومن تصفَّح ديوان النُّبوَّة نهل من معين الأخلاق الصَّافي؛ ومن تتبَّع قصصهم وجد في صريح سُؤْلِه الجواب الكافي. وبين أيدينا قصَّة نبيٍّ قد جعله الرَّبُّ سُبحانه من أكرم النَّاس، حيث تدثَّر من الأخلاق العظيمة والطِّباع الكريمة بخير لباسٍ. والمؤمن إنَّما يَكْرُم على الله تعالى بقدر ما يسير إليه سَيْر الحاثِّ، ويتخلَّق بالأخلاق الإسلاميَّة التي مردُّ جميعها للقواعد الثَّلاث: الأدب مع الله تعالى، والأدب النَّفس والأب مع عُموم البريَّة، فهذه الثَّلاثة هي أُصول الآداب الشَّرعيَّة، وقواعد الأخلاق المرعيَّة. وقد جُمعت هذه الأُصول الشَّرعيَّة الثَّلاثة الجامعة لآداب الإسلام: في وصيَّة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم التي هي من جوامع الكلام: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسنٍ). وقد انتظمت هذه الأخلاق الثَّلاثة أتمَّ انتظامٍ؛ في تفاصيل قصَّة يُوسف الصِّديق عليه السَّلام، فجمعها الله كُلَّها بجُملة واحدةٍ بأوجز الكلام، {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}. وسأرفع في هذا البحث النِّقاب وأكتشف اللِّثام؛ عن أخلاق النَّبيِّ يُوسف الصَّدِّيق عليه السَّلام، حيث تجلَّت في سُورته الكريمة أخلاقه العظيمة حال البلاء؛ سواءٌ ما كان منها في الضَّرَّاء؛ أو ما كان منها في السَّرَّاء. المقدمة: إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا؛ ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له. وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[1]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[2]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[3]. أما بعد: فقد بعث الرَّبُّ سُبحانه في كُلِّ أُمَّةٍ من الأُمم الأنبياء المرسلين؛ وأيَّدهُم جلّ جلاله بالآيات البيِّنات، وأوحى إليهُم الكُتب المنزلة، فهدى بهم من الضَّلالة، وعلَّم بهم من الجهالة، وجمَّلهم بالأخلاق العظيمة التي تُبوِّؤهُم منزلة الأُسوة الحسنة، وكمَّلهم بالصِّفات الكريمة التي تُنزلهُم درجة القُدوة المستحسنة. وإنَّ النَّاظر في قصص الأنبياء والمرسلين عليهم الصَّلاة والسَّلام: يجد عظيم تخلُّفهم مع الرَّبِّ تعالى، ومع النَّفس، مع سائر الأنام. وسأرفع في هذا البحث النِّقاب وأكشف اللِّثام؛ عن أخلاق النَّبيِّ يُوسف الصِّدِّيق عليه السَّلام، حيث تجلَّت في سُورته الكريمة أخلاقه العظيمة حال البلاء؛ سواءٌ ما كان منها في الضَّرَّاء؛ أو ما كان منها في السَّرَّاء. وكُلُّ خُلُقٍ من أخلاق يُوسف الصِّدِّيق أنموذجٌ قويمٌ، وفيه من العبر والفوائد والحِكَم: ما يُعزِّز في نُفوس المتأمِّلين الثِّقة بدينهم الإسلامِّي، ويستنهض للتخلُّق بآدابه الهِمَم. ولازالت تستوقفني عبارةٌ يشعُّ منها النُّور والضِّياء؛ وهي قول الإمام ابن قيِّم الجوزَّية في قصَّة يُوسُف عليه السَّلام[4]: (وفي هذه القصَّة من العبر والفوائد والحِكَم: ما يزيد على ألف فائدةٍ، لعلَّنا إن وفَّق الله أن نُفردها في مُصنَّفٍ مُستقلٍّ)[5]. كيف لا؛ وقد وُصف سُورة يُوسف في ألأوَّلها بأنَّها: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ}[6]، كما نُعتت قصته في آخر السُّورة بأنَّها: {عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[7]. فوَصْفُها بأنَّها {أَحْسَنَ الْقَصَصِ}: (لما فيها من أنواع التنقلات من حال إلى حال، ومن محنةٍ إلى محنةٍ، ومن محنةٍ إلى محنةٍ ومنةٍ، ومن ذلٍّ إلى عزٍّ، ومن رقٍّ إلى ملكٍ، ومن فرقةٍ وشتاتٍ إلى اجتماع وائتلافٍ، ومن حزنٍ إلى سرورٍ، ومن رخاءٍ إلى جدبٍ، ومن جدبٍ إلى رخاءٍ، ومن ضيقٍ إلى سعةٍ، ومن إنكارٍ إلى إقرارٍ، فتبارك من قصها فأحسنها ووضحها وبينها)[8]. ونعتها بأنها {عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}: (لما فيها من العبر والحكم والنُّكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا، من سير الملوك والمماليك والعلماء، ومكر النساء، والصبر على أذى الأعداء، وحسن التجاوز عنهم بعد الالتقاء، وغير ذلك من الفوائد)[9]. وقد قسمت البحث إلى: مقدمةٍ وتمهيدٍ وثلاثة مباحث وخاتمةٍ، وتفاصيل ذلك على النحو الآتي: أولاً: مُقدمة البحث، وتتناول: فاتحة البحث؛ وخُطّته. ثانيًا: التمهيد، ويتناول: أُصول الأخلاق الثلاثة التي تخلق بها يوسف عليه السلام. ثالثًا: المبحث الأول: (نماذج من تخلُّق يُوسف عليه السلام مع ربه تعالى)، وبيان هذا المبحث في المطالب الثلاثة الآتية: المطلب الأول: الإحسان في العبودية؛ والإخلاص لرب البرية. المطلب الثاني: الاستعانة بالله والالتجاء؛ والإلحاح عليه في الدعاء. المطلب الثالث: شُكر الله على أياديه؛ ونسبه الفضل لمبتديه. رابعًا: المبحث الثاني: (نماذج من تخلُّق يُوسف عليه السلام مع نفسه)، وبيان هذا المبحث في المطالب الثلاثة الآتية: المطلب الأول: الاستقامة في الصغر؛ والاستعصام في الكبر. المطلب الثاني: صدق البيان؛ وعفة اللسان. المطلب الثالث: ضبط النفس ساعة العتب؛ وكظم الغيظ عند الغضب. خامسًا: المبحث الثالث (نماذج من تخلُّق يُوسف عليه السلام مع الناس)، وبيان هذا المبحث في المطالب الثلاثة الآتية: المطلب الأول: التقدير للأبوين؛ والتوقير للوالدين. المطلب الثاني: الصفح عن الأخوة؛ وإن عظمت الهفوة. المطلب الثالث: التخلق مع جميع الناس؛ أبهى الحلل وأزهى اللباس. سادسًا: خاتمة البحث، وتتناول: أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث، وملحقٌ بها: فهرس المراجع والمصادر العلمية التي تم الاستفادة منها، وفهرس الموضوعات. وقد التزمت في هذا البحث- الذي انتهجت فيه منهج البحث الاستقرائي الاستنباطي:- بعزو الآيات الكريمة؛ وتخريج الأحاديث الشريفة؛ وتوثيق النقول من مصادرها؛ وإحالة الاقتباسات إلى مراجعها، ونظرًا لشهرة من ورد ذكرهم من أئمة الإسلام: فإني لم ألتزم ببحثي بالترجمة والتعريف بالإعلام. وفي نهاية هذه المقدمة العامة؛ أقول: ألا ما أحوج هذه الأمة- لاسيما في وقتنا المعاصر- وقد غشيتها أمواج التغريب: أن تأخذ من هذه النماذج المباركة التي في هذه القصة أوفر الحظ والنصيب[10]. والله سبحانه وتعالى أسأل؛ وبأسمائه الحُسنى أتوسل: أن يجعل أعمالنا كُلها صالحة، ولوجهه الكريم خالصة، وأن يجعل هذا البحث تعاونًا على البر والتقوى؛ وأن يجعل الدراسة تواصيًا بالحق وتواصيًا بالصبر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خاتم النبيين، وعلى آله وأزواجه وأصحابه أجمعين. التمهيد: إن الله تعالى قد أودع في أنبيائه من الخصال الشريفة ما بوأهم في أممهم رتبة الأسوة الحسنة، كما غرس جل جلاله في رسله من الخلال المنيفة ما جعلهم لمن بعدهم القدوة المستحسنة، ومن تصفح ديوان النبوة نهل من معين الأخلاق الصافي؛ ومن تتبع قصصهم وجد في صريح سُؤله الجواب الكافي. وبين أيدينا قصة نبيٍّ قد جعله الرب سبحانه من أكرم الناس، حيث تدثر من الأخلاق العظيمة والطباع الكريمة بخير لباسٍ، مصداق ذلك: ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: من أكرم الناس؟ قال: أكرمهم أتقاهم قالوا: يا نبي الله؛ ليس عن هذا نسألك. قال: فأكرم الناس يوسف؛ نبي الله؛ ابن نبي الله؛ ابن نبي الله؛ ابن خليل الله. قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: أفعن معادن العرب تسألونني؟ قالوا: نعم. قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا)[11]. والمؤمن إنما يكرم على الله تعالى بقدر ما يسير إليه سير الحاث، ويتخلق بالأخلاق الإسلامية التي مرد جميعها للقواعد الثلاث: الأدب مع الله تعالى، والأدب مع النفس والأدب مع عموم البرية، فهذه الثلاثة هي أصول الآداب الشرعية وقواعد الأخلاق المرعية. وقد جمعت هذه الأصول الشرعية الثلاثة الجامعة لآداب الإسلام: في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي من جوامع الكلام، كما قال أبو ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسنٍ) أخرجه أحمد والترمذي[12]. وقد انتظمت هذه الأخلاق الثلاثة أتم انتظامٍ؛ في تفاصيل قصة يُوسف الصديق عليه السلام، فجمعها الله كلها بجملة واحدةٍ بأوجز الكلام {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[13]. قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى مبينًا جملة ما تضمنه قول يوسف عليه السلام: (أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح؛ لأنه مما يسخط الله ويبعد عنه، ولأنه خيانةٌ في حق سيدي الذي أكرم مثواي فلا يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلةٍ، وهذا من أعظم الظلم؛ والظالم لا يفلح. والحاصل: أنه جعل الموانع له من هذا الفعل: تقوى الله، ومراعاة حق سيده الذي أكرمه، وصيانة نفسه عن الظلم الذي لا يفلح من تعاطاه)[14]. فحسن يُوسف الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة عُرج به إلى السماوات الطباق: يتناول حسن الصديق عليه السلام في الباطن وفي الظاهر وحُسنه أيضًا في الخلق وفي الأخلاق، حيث قال: (فإذا أنا بيُوسف صلى الله عليه وسلم؛ إذا هو قد أُعطي شطر الحُسن، فرحب ودعا لي بخيرٍ)[15]. ومصداق ذلك قول امرأة العزيز: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ}[16]، (فوصف ظاهره بالجمال، وباطنه بالعفة، فوصفته بجمال الظاهر والباطن، فكأنها قالت هذا ظاهره، وباطنه أحسن من ظاهره)[17]. ولما كانت أصول الأخلاق المرعية؛ لا يتوصل إليها إلا بالعلوم الشرعية: كان العلم (أفضل من الصورة الظاهرة؛ ولو بلغت في الحسن جمال يوسف، فإن يوسف بسبب جماله حصلت له تلك المحنة والسجن، وبسبب علمه حصل له العزُّ والرفعة والتمكين في الأرض، فإن كل خيرٍ في الدنيا والآخرة من آثار العلم وموجباته)[18]. ومن تأمل قصة يوسف الصديق عليه السلام ثم تخلق بأخلاقه فقد تبوأ نزل الكرامة، ويرجى أن يأخذ بحظ وافرٍ من صفات الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم القيامة، فيوسف قد نشأ في شبابه بعبادة الله واستعصم من امرأة العزيز وعدل في الإمامة، (فهو سيد السادة النجباء السبعة الأتقياء؛ المذكورين في الصحيحين[19] عن خاتم الأنبياء؛ في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الأرض والسماء)[20]: (سبعةٌ يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشابٌّ نشأ بعبادة الله، ورجلٌ قلبه معلقٌ في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها؛ حتى لا تعلم يمينه ما تُنفق شماله، ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه). هذا ولأشرع الآن في ذكر نماذج من أخلاق يُوسف الصديق، مستلهمًا من الرب سبحانه وتعالى السداد والرشاد والتوفيق: المبحث الأول نماذج من تخلق يوسف عليه السلام مع ربه تعالى إن هذه السورة الكريمة قد تجلت في آياتها الحسان أخلاق يُوسف عليه السلام، وإن أرفع مقامات التخلق هو تخلق العبد مع ربه ومولاه الملك القدوس السلام، وبيان ذلك في المطالب الثلاثة الآتية: المطلب الأول الإحسان في العبودية؛ والإخلاص لرب البرية: إن من النماذج الأخلاقية المستوحاة من قصة نبي الله يوسف الصديق عليه أفضل الصلاة والسلام: أن يعبد المرء كأنه يراه، وهي مرتبة الإحسان التي لا يبلغها إلا من اختصهم الله تعالى من الأنام، قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[21]. فقد أخبر الله سبحانه (أنه يجزي المحسنين أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون، وأخبر سُبحانه أنه يجزي على الإحسان بالعلم، وهذا يدل على أنه من أحسن الجزاء. أما المقام الأول: ففي قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}[22]. وهذا يتناول الجزاءين الدنيوي والأخروي. وأما المقام الثاني: ففي قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}. قال الحسن: من أحسن عبادة الله في شبيبته لقاه الله في الحكمة في شيبته، وذلك قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[23]. ومن هذا قول بعض العلماء: تقول الحكمة: من التمسني فلم يجدني فليعمل بأحسن ما يعلم؛ وليترك أقبح ما يعلم، فإذا فعل ذلك فأنا معه؛ وإن لم يعرفني)[24]. وقد تكرر وصف يوسف الصديق عليه السلام بالإحسان؛ في تضاعيف هذه السورة الكريمة في خمس آيات حسانٍ، هذه أولها. وثانيها في قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[25]. وثالثها في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[26]. ورابعها في قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[27]. وخامسها في قوله تعالى: {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[28]. فكان من آثار هذا الإحسان في عبادة رب العالمين: ظهور الإحسان في معاملته- كما سيأتي- للمخلوقين. ومن دلائل الإحسان في العمل: الإخلاص المنافي للزلل والخطل، فالعبد إنما يعصم- بفضل المولى سبحانه- من تزيين الشيطان؛ على قدر إخلاصه الوجه والعمل الذي هو دلالة الإحسان، فهو قد أيس من إغواء عباد الله المخلصين، إنما سلطانه على الذين يتولونه من الغاوين، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّ هُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}[29]. والله تعالى، إنما صرف عن يوسف عليه السلام ما دعي إليه من الزنا ومقدماته بالإخلاص، فإذا تعرى العبد من ثوب الإخلاص وتعرض للسوء والفحشاء غوى ولات حين مناص؛ لأن (من دخل الإيمان قلبه؛ وكان مخلصًا لله في جميع أموره: فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه وصدق إخلاصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاءٌ لإيمانه وإخلاصه، لقوله: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[30], على قراءة من قرأها بكسر اللام. ومن قرأ بالفتح[31]: فإنه من إخلاص الله إياه، وهو متضمنٌ لإخلاصه هو بنفسه، فلما أخلص عمله لله: أخلصه الله؛ وخلصه من السوء والفحشاء)[32]. المطلب الثاني الاستعانة بالله والالتجاء؛ والإلحاح عليه في الدعاء: إن من النماذج الإخلاقية المستوحاة من قصة نبي الله يوسف عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: الاستعانة بالله سبحانه والالتجاء إليه والاعتقاد بأنه لدعاء السائلين مجيبٌ، وأنه هو السميع العليم، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[33]. وقد تجلى الإلحاح في الدعاء؛ كما ظهر الصدق في الالتجاء، (فاختار السجن على الفاحشة، ثم تبرأ إلى الله من حوله وقوته، وأخبر أن ذلك ليس إلا بمعونة الله له وتوفيقه وتأييده لا من نفسه، فقال: {إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}[34]. وهكذا ينبغي للعبد أن يلح في الدعاء، وأن يطرح على أعتاب الرب، و(أن يلتجئ إلى الله ويحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية[35]والذنب، (وهذا فزعٌ منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى، جريًا على سنن الأنبياء والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله عز وجل، وسلب القوى والقدر عن أنفسهم، ومبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة، كقول المستغيث: أدركني؛ وإلا هلكت)[36]. فيوسف عليه السلام لما التجأ إلى الله تعالى: أجاب الرب سبحانه (له دعاءه، {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ}، أي: أيده بالتأييد القدسي، فصرفه إلى جناب القدس، ودفع عنه بذلك كيدهن، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي: لدعاء المتضرعين إليه {الْعَلِيمُ} أي: بما يصلحهم[37]. وهذا من تضرع يوسف عليه السلام لمولاه في الضراء، وقد جاء عنه كذلك الالتجاء إلى الله تعالى في السراء، ومن ثم فقد صدق في الدعاء في حال الشدة وحال الرخاء، فقال: {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }[38]. وهكذا (ينبغي للعبد أن يتملك إلى الله دائمًا في تثبيت إيمانه، ويعمل الأسباب الموجبة لذلك، ويسأل الله حسن الخاتمة، وتمام النعمة)[39]. وإن المتدبر في دعوة يوسف وتضرعه؛ والمتبصر في مناجاة الصديق وتضوعه: يجدها قد جمعت: (الإقرار بالتوحيد، والاستسلام للرب، وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة غير سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات العبد، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد، وطلب مرافقة السعداء)[40]، فما أجله من التجاءٍ؛ وما أعظمه من دعاءٍ. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |