المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


الصفحات : 1 2 [3]

ابوالوليد المسلم
19-07-2020, 07:32 PM
الحلقة (500)
تفسير السعدى
(سورة فصلت)
من (19)الى (27)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة قصلت


" ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون " (19)


ويوم نحشر أعداء الله إلى نار جهنم, ترد زبانية العذاب أولهم على آخرهم,

" حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون " (20)


حتى إذا ما جاؤوا النار, وأنكروا جرائمهم شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون في الدنيا من الذنوب والآثام.


" وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون " (21)


وقال هؤلاء الذين يحشرون إلى النار من أعداء الله لجلودهم معاتبين: لم شهدتم علينا؟ فأجابتهم جلودهم: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء, وهو الذي خلقكم أول مرة ولم تكونوا شيئا, وإليه مصيركم بعد الموت للحساب والجزاء.

" وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون " (22)


وما كنتم تستخفون عند ارتكابكم المعاصي؟ خوفا من أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم يوم القيامة, ولكن ظننتم بارتكابكم المعاصي أن الله لا يعلم كثيرا من أعمالكم التي تعصون الله بها.


" وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين " (23)


وذلكم ظنكم السيء الذي ظننتموه بربكم أهلككم, فأوردكم النار, فأصبحتم اليوم من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.


" فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين " (24)


فإن يصبروا على العذاب فالنار مأواهم, وإن يسألوا الرجوع إلى الدنيا؟ ليستأنفوا العمل الصالح لا يجابوا إلى ذلك, ولا تقبل لهم أعذار.

" وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين " (25)


وهيأنا لهؤلاء الظالمين الجاحدين قرناء فاسدين من شياطين الإنس والجن, فزينوا لهم قبائح أعمالهم في الدنيا, ودعوهم إلى لذاتها وشهواتها المحرمة, وزينوا لهم ما خلفهم من أمور الآخرة, فأنسوهم ذكرها, ودعوهم إلى التكذيب بالمعاد, وبذلك وجب عليهم دخول النار في جملة أمم سابقة من كفرة الجن والإنس, إنهم كانوا خاسرين أعمالهم في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة.


" وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون " (26)


وقال الكافرون بعضهم لبعض متواصين فيما بينهم: لا تسمعوا لهذا القرآن, ولا تطيعوه ولا تنقادوا لأوامره, وارفعوا أصواتكم بالصياح والصفير والتخليط على محمد إذا قرأ القرآن؟ لعلكم تغلبونه, فيترك القراءة, وننتصر عليه.

" فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون " (27)


فلنذيقن الذين قالوا هذا القول عذابا شديدا في الدنيا والآخرة, ولنجزينهم أسوأ ما كانوا يعملون من السيئات.

ابوالوليد المسلم
27-07-2020, 06:18 PM
الحلقة (501)
تفسير السعدى
(سورة فصلت)
من (28)الى (36)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة قصلت



" ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون "(28)


هذا الجزاء الذي يجزى به هؤلاء الذين كفروا جزاء أعداء الله النار, لهم فيها دار الخلود الدائم؟ جزاء بما كانوا بحججنا وأدلتنا يجحدون في الدنيا.
والآية دالة على عظم جريمه من صرف الناس عن القرآن العظيم, وصدهم عن تدبره وهدايته بأي وسيلة كانت.

" وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين " (29)


وقال الذين كفروا بالله ورسوله, وهم في النار: ربنا أرنا اللذين أضلانا من خلقك من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا؟ ليكونا في الدرك الأسفل من النار.


" إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون " (30)


إن الذين قالوا ربنا الله تعالى, وحده لا شريك له, ثم استقاموا على شريعته, تتنزل عليهم الملائكة عند الموت قائلين لهم: لا تخافوا من الموت وما بعده, ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم من أمور الدنيا, وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون بها.

" نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون " (31)


وتقول لهم الملائكة: نحن أنصاركم في الحياة الدنيا؟ نسددكم ونحفظكم بأمر الله, وكذلك نكون معكم في الآخرة, ولكم في الجنة كل ما تثشهيه أنفسكم مما تختارونه, وتقر به أعينكم,

" نزلا من غفور رحيم " (32)


ومهما طلبتم من شيء وجدتموه بين أيديكم ضيافة وإنعاما لكم من غفور لذنوبكم, رحيم بكم.


" ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين " (33)


لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى توحيد الله وعبادته وحده وعمل صالحا وقال: إنني من المسلمين المنقادين لأمر الله وشرعه وفي الآية حث على الدعوة إلى الله سبحانه, وبيان فضل العلماء الداعين إليه على بصيرة, وفق ما جاء عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

" ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " (34)


ولا تستوي حسنة الذين آمنوا بالله, واستقاموا على شرعه, وأحسنوا إلى خلقه, وسيئة الذين كفروا به وخالفوا أمره, وأساؤوا إلى خلقه.
ادفع بعفوك وحلمك وإحسانك من أساء إليك, وقابل إساءته لك بالإحسان إليه, فبذلك يصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة كأنه قريب لك شفيق عليك.

" وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " (35)


وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة إلا الذين صبروا أنفسهم على ما تكره, وأجبروها على ما يحبه الله, وما يوفق لها إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة.

" وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم " (36)


وإما يلقين الشيطان في نفسك وسوسة من حديث النفس لحملك على مجازاة المسيء بالإساءة, فاستجر بالله واعتصم به, إن الله هو السميع لاستعاذتك به, العليم بأمور خلقه جميعها.

ابوالوليد المسلم
27-07-2020, 06:20 PM
الحلقة (502)
تفسير السعدى
(سورة فصلت)
من (37)الى (45)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة قصلت



" ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون " (37)


ومن حجج الله على خلقه, ودلائله على وحدانيته وكمال قدرته اختلاف الليل والنهار, وتعاقبهما, واختلاف الشمس والقمر وتعاقبهما, كل ذلك تحت تسخيره وقهره.
لا تجدوا للشمس ولا للقمر- فإنهما مدبران مخلوقان- واسجدوا لله الذي خلقهن, إن كنتم تعبدونه وحده لا شريك له.


" فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون " (38)


فإن استكبر هؤلاء المشركون عن السجود لله, فإن الملائكة الذين عند ربك لا يستكبرون عن ذلك, بل يسبحون له, وينزهونه عن كل نقص بالليل والنهار, وهم لا يفترون عن ذلك, ولا يملون.

" ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير " (39)


ومن علامات وحدانية الله وقدرته؟ أنك ترى الأرض يابسة لا نبات فيها؟ فإذا أنزلنا عليها المطر دبت فيها الحياة, وتحركت بالنبات, وانتفخت وعلت, إن الذي أحيا هذه الأرض بعد همودها, قادر على إحياء الخلق بعد موتهم, إنه على كل شيء قدير, فكما لا تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها, فكذلك لا تعجز عن إحياء الموتى.


" إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير " (40)


إن الذين يميلون عن الحق, فيكفرون بالقرآن ويحرفونه, لا يخفون علينا, بل نحن مطلعون عليهم.
أفهذا الملحد في آيات الله الذي يلقى في النار خير, أم الذي يأتي يوم القيامة آمنا من عذاب الله, مستحقا لثوابه; لإيمانه به وتصديقه بآياته؟ اعملوا- أيها الملحدون- ما شئتم, فإن الله تعالى بأعمالكم بصير, لا يخفى عليه شيء منها, وسيجازلكم على ذلك.
وفي هذا وعيد وتهديد لهم.


" إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز " (41)


إن الذين جحدوا هذا القرآن حين جاءهم هالكون ومعذبون, وإن هذا القرآن لكتاب عزيز بإعزاز الله إياه وحفظه له من كل تغيير أو تبديل,


" لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " (42)


لا يأتيه الباطل من أي ناحية من نواحيه ولا يبطله شيء, فهو محفوظ من أي نقص منه, أو يزاد فيه, تنزيل من حكيم بتدير أمور عاده, محمود على ما له من صفات الكمال.

" ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم " (43)


ما يقول لك هؤلاء المشركون- يا محمد- إلا ما قد قاله من قبلهم من الأمم لرسلهم, فاصبر على ما ينالك في سبيل الدعوة إلى الله.
إن ربك لذو مغفرة لذنوب التائبين, وذو عقاب لمن أصر على كفره وتكذيبه.


" ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد " (44)


ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزلناه عليك- يا محمد- أعجميا, لقال المشركون: هلا بينت آياته, فنفقهه ونعلمه, لأعجمي هذا القرآن, ولسان الذي أنزل عليه عربي؟ هذا لا يكون قل لهم- يا محمد-: هذا القرآن للذين آمنوا بالله ورسوله هدى من الضلالة, وشفاء لما في الصدور من الشكوك والأمراض, والذين لا يؤمنون بالقرآن في آذانهم صمم من سماعه وتدبره, وهو على قلوبهم عمى, فلا يهتدون به, أولئك المشركون كمن ينادي, وهو في مكان بعيد لا يسمع داعيا, ولا يجيب مناديا.


" ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب "(45)


ولقد آتينا موسى التوراة كما آتيناك القرآن- يا محمد- فاختلف فيها قومه: فمنهم من آمن, ومنهم من كذب ولولا كلمة سبقت من ربك بتأجيل العذاب عن قومك لفصل بينهم لإهلاك الكافرين في الحال, وإن المشركين لفي شك من القرآن شديد الريبة.

ابوالوليد المسلم
27-07-2020, 06:22 PM
الحلقة (503)
تفسير السعدى
(سورة فصلت)
من (46)الى (54)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة قصلت


" من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد " (46)


من عمل صالحا فأطاع الله ورسوله فلنفسه ثواب عمله, ومن أساء فعصى الله ورسوله فعلى نفسه وزر عمله.
وما ربك بظلام للعبيد, بنقص حسنة أو زيادة سيئة


" إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد " (47)


إلى الله تعالى وحده لا شريك له يرتجع علم الساعة, فإنه لا يعلم أحد متى قيامها غيره, وما تخرج من ثمرات من أوعيتها, وما تحمل من أنثى ولا تضع حملها إلا بعلم من الله, لا يخفى عليه شيء من ذلك ويوم ينادي الله تعالى المشركين يوم القيامة توبيخا لهم وإظهارا لكذبهم: أين شركائي الذين كنتم تشركونهم في عبادتي؟ قالوا: أعلمناك الآن ما منا من أحد يشهد اليوم أن معك شريكا,

" وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص " (48)


وذهب عن هؤلاء المشركين شركاؤهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله, فلم ينفعوهم, وأيقنوا أن لا ملجأ لهم من عذاب الله, ولا محيد عنه.

" لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط " (49)


لا يمل الإنسان من دعاء ربه طالبا الخير الدنيوي, وإن أصابه فقر وشدة فهو يؤوس من رحمة الله, قنوط بسوء الظن بربه.

" ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ " (50)


ولئن أذقنا الإنسان نعمة منا من بعد شدة وبلاء لم يشكر الله تعالى, بل يطغى ويقول: أتاني هذا؟ لأني مستحق له, وما أعتقد أن الساعة آتية, وذلك إنكار منه للبعث, وعلى تقدير إتيان الساعة وأني سأرجع إلى ربي, فإن لي عنده الجنة, فلنخبرن الذين كفروا يوم القيامة بما عملوا من سيئات, ولنذيقنهم من العذاب الشديد.

" وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض " (51)


وإذا أنعمنا على الإنسان بصحة أو رزق أو غيرهما أعرض وترفع عن الانقياد إلى الحق؟ فإن أصابه ضر فهو ذو دعاء كثير بأن يكشف الله ضره, فهو يعرف ربه في الشدة, ولا يعرفه في الرخاء.

" قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد " (52)


قل- يا محمد- لهؤلاء المكذبين: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله ثم جحدتم به, لا أحد أضل منكم؟ لأنكم في خلاف بعيد عن الحق بكفركم بالقرآن وتكذيبكم به.

" سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " (53)


سنري هؤلاء المكذبين أياتنا في أقطار السموات والأرض, وما يحدثه الله فيهما من الحوادث العظيمة, وفي أنفسهم وما اشتملت عليه من بديع آيات الله وعجائب صنعه, حتى يتبين لهم من تلك الآيات بيان لا يقبل الشك أن القرآن الكريم هو الحق الموحى به من رب العالمين.
أو لم يكفهم دليلا على أن القرآن حق, ومن جاء به صادق, شهادة الله تعالى؟ فإنه قد شهد له بالتصديق, وهو على كل شيء شهيد, ولا شيء أكبر شهادة من شهادته سبحانه وتعالى.


" ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط " (54)


ألا إن هؤلاء الكافرين في شك عظيم من البعث بعد الممات.
ألا إن الله- جل وعلا- بكل شيء محيط علما وقدرة وعزة, لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

ابوالوليد المسلم
27-07-2020, 06:26 PM
الحلقة (504)
تفسير السعدى
(سورة الشورى)
من (1)الى (9)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الشورى

{ حـمۤ } (1) { عۤسۤقۤ } (2) { كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } (3) { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلعَظِيمُ } (4) { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَٱلْمَلاَئِكَة ُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُو نَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } (5) { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } (6) { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } (7) { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } (8) { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }(9)


يخبر تعالى أنه أوحى هذا القرآن العظيم إلى النبي الكريم، كما أوحى إلى مَنْ قبله من الأنبياء والمرسلين، ففيه بيان فضله، بإنزال الكتب، وإرسال الرسل، سابقاً ولاحقاً، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل، وأن طريقته طريقة مَنْ قبله، وأحواله تناسب أحوال مَنْ قبله من المرسلين. وما جاء به يشابه ما جاؤوا به، لأن الجميع حق وصدق، وهو تنزيل من اتصف بالألوهية والعزة العظيمة والحكمة البالغة، وأن جميع العالم العلوي والسفلي ملكه وتحت تدبيره القدري والشرعي. وأنه { ٱلْعَلِيُّ } بذاته، وقدره، وقهره.
{ ٱلعَظِيمُ } الذي من عظمته { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } على عظمها وكونها جماداً، { وَٱلْمَلاَئِكَة ُ } الكرام المقربون خاضعون لعظمته، مستكينون لعزته، مذعنون بربوبيته.
{ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } ويعظمونه عن كل نقص، ويصفونه بكل كمال، { وَيَسْتَغْفِرُو نَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } عمّا يصدر منهم، مما لا يليق بعظمة ربهم وكبريائه، مع أنه تعالى هو { ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } الذي لولا مغفرته ورحمته، لعاجل الخلق بالعقوبة المستأصلة.
وفي وصفه تعالى بهذه الأوصاف، بعد أن ذكر أنه أوحى إلى الرسل كلهم عموماً، وإلى محمد - صلى الله عليهم أجمعين - خصوصاً، إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم، فيه من الأدلة والبراهين، والآيات الدالة على كمال الباري تعالى، ووصفه بهذه الأسماء العظيمة الموجبة لامتلاء القلوب من معرفته ومحبته وتعظيمه وإجلاله وإكرامه، وصرف جميع أنواع العبودية الظاهرة والباطنة له تعالى، وأن من أكبر الظلم وأفحش القول، اتخاذ أنداد للّه من دونه، ليس بيدهم نفع ولا ضرر، بل هم مخلوقون مفتقرون إلى الله في جميع أحوالهم، ولهذا عقبه بقوله: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } يتولونهم بالعبادة والطاعة، كما يعبدون الله ويطيعونه، فإنما اتخذوا الباطل، وليسوا بأولياء على الحقيقة. { ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } يحفظ عليهم أعمالهم، فيجازيهم بخيرها وشرها.
{ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } فتسأل عن أعمالهم، وإنما أنت مبلغ أديت وظيفتك.
ثم ذكر منته على رسوله وعلى الناس، حيث أنزل الله { قُرْآناً عَرَبِيّاً } بين الألفاظ والمعاني { لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ } وهي مكة المكرمة { وَمَنْ حَوْلَهَا } من قرى العرب، ثم يسري هذا الإنذار إلى سائر الخلق.
{ وَتُنذِرَ } الناس { يَوْمَ ٱلْجَمْعِ } الذي يجمع الله به الأولين والآخرين، وتخبرهم أنه { لاَ رَيْبَ فِيهِ } وأن الخلق ينقسمون فيه فريقين { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ } وهم الذين آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، { وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } وهم أصناف الكفرة المكذبين.
{ وَ } مع هذا { لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ } لجعل الناس، أي: جعل الناس { أُمَّةً وَاحِدَةً } على الهدى، لأنه القادر الذي لا يمتنع عليه شيء، ولكنه أراد أن يدخل في رحمته مَنْ شاء من خواص خلقه. وأما الظالمون الذين لا يصلحون لصالح، فإنهم محرومون من الرحمة، فـ { مَا لَهُمْ } من دون الله { مِّن وَلِيٍّ } يتولاهم، فيحصل لهم المحبوب { وَلاَ نَصِيرٍ } يدفع عنهم المكروه.
والذين { ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } يتولونهم بعبادتهم إياهم، فقد غلطوا أقبح غلط.
فالله هو الولي الذي يتولاه عبده بعبادته وطاعته، والتقرب إليه بما أمكن من أنواع التقربات، ويتولى عباده عموماً بتدبيره ونفوذ القدر فيهم، ويتولى عباده المؤمنين خصوصاً، بإخراجهم من الظلمات إلى النور، وتربيتهم بلطفه، وإعانتهم في جميع أمورهم.
{ وَهُوَ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: هو المتصرف بالإحياء والإماتة، ونفوذ المشيئة والقدرة، فهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له.

ابوالوليد المسلم
27-07-2020, 06:30 PM
الحلقة (505)
تفسير السعدى
(سورة الشورى)
من (10)الى (12)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الشورى



{ وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } 10 { فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } 11 { لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }12


يقول تعالى: { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ } من أصول دينكم وفروعه، مما لم تتفقوا عليه { فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } يرد إلى كتابه، وإلى سُنّة رسوله، فما حكما به فهو الحق، وما خالف ذلك فباطل.
{ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي } أي: فكما أنه تعالى الرب الخالق الرازق المدبر، فهو تعالى الحاكم بين عباده بشرعه في جميع أمورهم. ومفهوم الآية الكريمة، أن اتفاق الأمة حجة قاطعة، لأن اللّه تعالى لم يأمرنا أن نرد إليه إلا ما اختلفنا فيه، فما اتفقنا عليه، يكفي اتفاق الأمة عليه، لأنها معصومة عن الخطأ، ولا بد أن يكون اتفاقها موافقاً لما في كتاب اللّه وسُنّة رسوله.
وقوله: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي: اعتمدت بقلبي عليه في جلب المنافع ودفع المضار، واثقاً به تعالى في الإسعاف بذلك. { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي: أتوجه بقلبي وبدني إليه، وإلى طاعته وعبادته.
وهذان الأصلان، كثيراً ما يذكرهما اللّه في كتابه، لأنهما يحصل بمجموعهما كمال العبد، ويفوته الكمال بفوتهما أو فوت أحدهما، كقوله تعالى:{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] وقوله:{ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: 123].
{ فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: خالقهما بقدرته ومشيئته وحكمته.
{ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } لتسكنوا إليها، وتنتشر منكم الذرية، ويحصل لكم من النفع ما يحصل.
{ وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً } أي: ومن جميع أصنافها نوعين، ذكراً وأُنثى، لتبقى وتنمو لمنافعكم الكثيرة، ولهذا عداها باللام الدالة على التعليل، أي: جعل ذلك لأجلكم، ولأجل النعمة عليكم، ولهذا قال: { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي: يبثكم ويكثركم ويكثر مواشيكم، بسبب أن جعل لكم من أنفسكم، وجعل لكم من الأنعام أزواجاً.
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأن أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفة كمال وعظمة، وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك، فليس كمثله شيء، لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه.
{ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ } لجميع الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات. { ٱلْبَصِيرُ } يرى دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، ويرى سريان القوت في أعضاء الحيوانات الصغيرة جداً، وسريان الماء في الأغصان الدقيقة. وهذه الآية ونحوها، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، من إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات. وفيها رد على المشبهة في قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وعلى المعطلة في قوله: { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ }.
وقوله: { لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: له ملك السماوات والأرض، وبيده مفاتيح الرحمة والأرزاق، والنعم الظاهرة والباطنة. فكل الخلق مفتقرون إلى اللّه، في جلب مصالحهم، ودفع المضار عنهم، في كل الأحوال، ليس بيد أحد من الأمر شيء.
واللّه تعالى هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي ما بالعباد من نعمة إلاّ منه، ولا يدفع الشر إلا هو، و{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [فاطر: 2].
ولهذا قال هنا: { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ } أي: يوسعه ويعطيه من أصناف الرزق ما شاء، { وَيَقْدِرُ } أي: يضيق على مَنْ يشاء، حتى يكون بقدر حاجته، لا يزيد عنها، وكل هذا تابع لعلمه وحكمته، فلهذا قال: { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فيعلم أحوال عباده، فيعطي كلاًّ ما يليق بحكمته وتقتضيه مشيئته.

ابوالوليد المسلم
27-07-2020, 06:33 PM
الحلقة (506)
تفسير السعدى
(سورة الشورى)
من (13)الى (/)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الشورى


{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }(13)


هذه أكبر منة أنعم الله بها على عباده، أن شرع لهم من الدين خير الأديان وأفضلها، وأزكاها وأطهرها، دين الإسلام، الذي شرعه الله للمصطفين المختارين من عباده، بل شرعه الله لخيار الخيار، وصفوة الصفوة، وهم أولو العزم من المرسلين المذكورون في هذه الآية، أعلى الخلق درجة، وأكملهم من كل وجه، فالدين الذي شرعه الله لهم، لا بد أن يكون مناسباً لأحوالهم، موافقاً لكمالهم، بل إنما كملهم الله واصطفاهم، بسبب قيامهم به، فلولا الدين الإسلامي، ما ارتفع أحد من الخلق، فهو روح السعادة، وقطب رحى الكمال، وهو ما تضمنه هذا الكتاب الكريم، ودعا إليه من التوحيد والأعمال والأخلاق والآداب.
ولهذا قال: { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ } أي: أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أُصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتعاونون على البر والتقوى ولا تعاونون على الإثم والعدوان.
{ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } أي: ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه، واحرصوا على أن لا تفرقكم المسائل وتحزبكم أحزاباً، وتكونون شيعاً يعادي بعضكم بعضاً مع اتفاقكم على أصل دينكم.
ومن أنواع الاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه، ما أمر به الشارع من الاجتماعات العامة، كاجتماع الحج والأعياد، والجُمَع والصلوات الخمس والجهاد، وغير ذلك من العبادات التي لا تتم ولا تكمل إلاّ بالاجتماع لها وعدم التفرق.
{ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي: شق عليهم غاية المشقة، حيث دعوتهم إلى الإخلاص للّه وحده، كما قال عنهم:{ وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الزمر: 45] وقولهم:{ أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص: 5].
{ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ } أي: يختار من خليقته مَنْ يعلم أنه يصلح للاجتباء لرسالته وولايته ومنه أن اجتبى هذه الأُمة وفضلها على سائر الأُمم، واختار لها أفضل الأديان وخيرها.
{ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } هذا السبب الذي من العبد، يتوصل به إلى هداية الله تعالى، وهو إنابته لربه، وانجذاب دواعي قلبه إليه، وكونه قاصداً وجهه، فحسن مقصد العبد مع اجتهاده في طلب الهداية، من أسباب التيسير لها، كما قال تعالى:{ يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ } [المائدة: 16].
وفي هذه الآية، أن الله { يَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } مع قوله:{ وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [لقمان: 15] مع العلم بأحوال الصحابة رضي الله عنهم، وشدة إنابتهم، دليل على أنَّ قولهم حجة، خصوصاً الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم أجمعين.

ابوالوليد المسلم
27-07-2020, 06:36 PM
الحلقة (507)
تفسير السعدى
(سورة الشورى)
من (14)الى (15)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الشورى
{ وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } (14) { فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ }(15)


لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم، ونهاهم عن التفرق، أخبرهم أنكم لا تغتروا بما أنزل الله عليكم من الكتاب، فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل الله عليهم الكتاب الموجب للاجتماع، ففعلوا ضد ما يأمر به كتابهم، وذلك كله بغياً وعدواناً منهم، فإنهم تباغضوا وتحاسدوا، وحصلت بينهم المشاحنة والعداوة، فوقع الاختلاف، فاحذروا أيها المسلمون أن تكونوا مثلهم. { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } أي: بتأخير العذاب القاضي { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ } ولكن حكمته وحلمه، اقتضى تأخير ذلك عنهم. { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ } أي: الذين ورثوهم وصاروا خلفاً لهم ممن ينتسب إلى العلم منهم { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أي: لفي اشتباه كثير يوقع في الاختلاف، حيث اختلف سلفهم بغياً وعناداً، فإن خلفهم اختلفوا شكاً وارتياباً، والجميع مشتركون في الاختلاف المذموم. { فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ } أي: فللدين القويم والصراط المستقيم، الذي أنزل الله به كتبه وأرسل رسله، فادع إليه أمتك وحضهم عليه، وجاهد عليه مَنْ لم يقبله، { وَٱسْتَقِمْ } بنفسك { كَمَآ أُمِرْتَ } أي: استقامة موافقة لأمر الله، لا تفريط ولا إفراط، بل امتثالاً لأوامر الله واجتناباً لنواهيه، على وجه الاستمرار على ذلك، فأمره بتكميل نفسه بلزوم الاستقامة، وبتكميل غيره بالدعوة إلى ذلك.
ومن المعلوم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمر لأمته إذا لم يرد تخصيص له.
{ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } أي: أهواء المنحرفين عن الدين، من الكفرة والمنافقين إما باتباعهم على بعض دينهم، أو بترك الدعوة إلى الله، أو بترك الاستقامة، فإنك إن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين، ولم يقل: " ولا تتبع دينهم " لأن حقيقة دينهم الذي شرعه الله لهم، هو دين الرسل كلهم، ولكنهم لم يتبعوه، بل اتبعوا أهواءهم، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً.
{ وَقُلْ } لهم عند جدالهم ومناظرتهم: { آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَابٍ } أي: لتكن مناظرتك لهم مبنية على هذا الأصل العظيم، الدال على شرف الإسلام وجلالته وهيمنته على سائر الأديان، وأن الدين الذي يزعم أهل الكتاب أنهم عليه جزء من الإسلام، وفي هذا إرشاد إلى أن أهل الكتاب إن ناظروا مناظرة مبنية على الإيمان ببعض الكتب، أو ببعض الرسل دون غيره، فلا يسلم لهم ذلك، لأن الكتاب الذي يدعون إليه، والرسول الذي ينتسبون إليه، من شرطه أن يكون مصدقاً بهذا القرآن وبمن جاء به، فكتابنا ورسولنا لم يأمرنا إلاّ بالإيمان بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل، التي أخبر بها وصدق بها، وأخبر أنها مصدقة له ومقرة بصحته.
وأما مجرد التوراة والإنجيل، وموسى وعيسى، الذين لم يوصفوا لنا، ولم يوافقوا لكتابنا، فلم يأمرنا بالإيمان بهم.
وقوله: { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي: في الحكم فيما اختلفتم فيه، فلا تمنعني عداوتكم وبغضكم، يا أهل الكتاب من العدل بينكم، ومن العدل في الحكم، بين أهل الأقوال المختلفة، من أهل الكتاب وغيرهم، أن يقبل ما معهم من الحق، ويرد ما معهم من الباطل، { ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي: هو رب الجميع، لستم بأحق به منّا.
{ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } من خيرٍ وشر { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي: بعد ما تبينت الحقائق، واتضح الحق من الباطل، والهدى من الضلال، لم يبق للجدال والمنازعة محل، لأن المقصود من الجدال، إنما هو بيان الحق من الباطل، ليهتدي الراشد، ولتقوم الحجة على الغاوي، وليس المراد بهذا أن أهل الكتاب لا يجادلون، كيف والله يقول:{ وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [العنكبوت: 46] وإنما المراد ما ذكرنا.
{ ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } يوم القيامة، فيجزي كلا بعمله، ويتبين حينئذ الصادق من الكاذب.

ابوالوليد المسلم
27-07-2020, 06:39 PM
الحلقة (508)
تفسير السعدى
(سورة الشورى)
من (16)الى (20)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الشورى



{ وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ }(16)

وهذا تقرير لقوله: لا حجة بيننا وبينكم، فأخبر هنا أن { ٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي ٱللَّهِ } بالحجج الباطلة، والشبه المتناقضة { مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ } أي: من بعد ما استجاب للّه أولو الألباب والعقول، لما بيّن لهم من الآيات القاطعة، والبراهين الساطعة، فهؤلاء المجادلون للحق من بعد ما تبين { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } أي: باطلة مدفوعة { عِندَ رَبِّهِمْ } لأنها مشتملة على رد الحق وكل ما خالف الحق، فهو باطل.
{ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } لعصيانهم وإعراضهم عن حجج اللّه وبيناته وتكذيبها.
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } هو أثر غضب اللّه عليهم، فهذه عقوبة كل مجادل للحق بالباطل.
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } (17) { يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ أَلاَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فَي ٱلسَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ }(18)

لما ذكر تعالى أن حججه واضحة بيّنة، بحيث استجاب لها كل مَنْ فيه خير، ذكر أصلها وقاعدتها، بل جميع الحجج التي أوصلها إلى العباد، فقال: { ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ } فالكتاب هو هذا القرآن العظيم، نزل بالحق، واشتمل على الحق والصدق واليقين، وكله آيات بيّنات، وأدلة واضحات، على جميع المطالب الإلهية والعقائد الدينية، فجاء بأحسن المسائل وأوضح الدلائل. وأما الميزان، فهو العدل والاعتبار بالقياس الصحيح والعقل الرجيح، فكل الدلائل العقلية، من الآيات الآفاقية والنفسية، والاعتبارات الشرعية، والمناسبات والعلل، والأحكام والحكم، داخلة في الميزان الذي أنزله الله تعالى ووضعه بين عباده، ليزنوا به ما اشتبه من الأمور، ويعرفوا به صدق ما أخبر به وأخبرت رسله، مما خرج عن هذين الأمرين عن الكتاب والميزان مما قيل إنه حجة أو برهان أو دليل أو نحو ذلك من العبارات، فإنه باطل متناقض، قد فسدت أصوله، وانهدمت مبانيه وفروعه، يعرف ذلك من خبر المسائل ومآخذها، وعرف التمييز بين راجح الأدلة من مرجوحها، والفرق بين الحجج والشبه، وأما من اغتر بالعبارات المزخرفة، والألفاظ المموهة، ولم تنفذ بصيرته إلى المعنى المراد، فإنه ليس من أهل هذا الشأن، ولا من فرسان هذا الميدان، فوفاقه وخلافه سيان.
ثم قال تعالى مخوفاً للمستعجلين لقيام الساعة المنكرين لها، فقال: { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } أي: ليس بمعلوم بعدها، ولا متى تقوم، فهي في كل وقت متوقع وقوعها، مخوف وجبتها. { يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } عناداً وتكذيباً، وتعجيزاً لربهم.
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } أي: خائفون، لإيمانهم بها، وعلمهم بما تشتمل عليه من الجزاء بالأعمال، وخوفهم، لمعرفتهم بربهم، أن لا تكون أعمالهم منجية لهم ولا مسعدة، ولهذا قال: { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ } الذي لا مرية فيه، ولا شك يعتريه { أَلاَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فَي ٱلسَّاعَةِ } أي: بعد ما امتروا فيها، ماروا الرسل وأتباعهم بإثباتها فهم في شقاق بعيد، أي: معاندة ومخاصمة غير قريبة من الصواب، بل في غاية البُعد عن الحق، وأيُّ بعد أبعد ممن كذّب بالدار التي هي الدار على الحقيقة، وهي الدار التي خلقت للبقاء الدائم والخلود السرمد، وهي دار الجزاء التي يظهر الله فيها عدله وفضله وإنما هذه الدار بالنسبة إليها، كراكب قال في ظل شجرة ثم رحل وتركها، وهي دار عبور وممر، لا محل استقرار.
فصدقوا بالدار المضمحلة الفانية، حيث رأوها وشاهدوها، وكذبوا بالدار الآخرة، التي تواترت بالإخبار عنها الكتب الإلهية، والرسل الكرام وأتباعهم، الذين هم أكمل الخلق عقولاً، وأغزرهم علماً، وأعظمهم فطنة وفهماً.
{ ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ } (19) { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }(20)

يخبر تعالى بلطفه بعباده ليعرفوه ويحبوه، ويتعرضوا للطفه وكرمه، واللطف من أوصافه تعالى معناه: الذي يدرك الضمائر والسرائر، الذي يوصل عباده - وخصوصاً المؤمنين - إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون. فمن لطفه بعبده المؤمن، أن هداه إلى الخير هداية لا تخطر بباله، بما يسر له من الأسباب الداعية إلى ذلك، من فطرته على محبة الحق والانقياد له وإيزاعه تعالى لملائكته الكرام، أن يثبتوا عباده المؤمنين، ويحثوهم على الخير، ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق ما يكون داعياً لاتباعه. ومن لطفه أن أمر المؤمنين بالعبادات الاجتماعية، التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم، ويحصل منهم التنافس على الخير والرغبة فيه، واقتداء بعضهم ببعض. ومن لطفه، أن قيض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي، حتى إنه تعالى إذا علم أن الدنيا والمال والرياسة ونحوها مما يتنافس فيه أهل الدنيا، تقطع عبده عن طاعته، أو تحمله على الغفلة عنه، أو على معصية صرفها عنه، وقدر عليه رزقه، ولهذا قال هنا: { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } بحسب اقتضاء حكمته ولطفه { وَهُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ } الذي له القوة كلها، فلا حول ولا قوة لأحد من المخلوقين إلاّ به، الذي دانت له جميع الأشياء. ثم قال تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ } أي: أجرها وثوابها، فآمن بها وصدق، وسعى لها سعيها { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } بأن نضاعف عمله وجزاءه أضعافاً كثيرة، كما قال تعالى:{ وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [الإسراء: 19] ومع ذلك، فنصيبه من الدنيا لا بد أن يأتيه. { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا } بأن: كانت الدنيا هي مقصوده وغاية مطلوبه، فلم يقدم لآخرته، ولا رجا ثوابها، ولم يخش عقابها. { نُؤْتِهِ مِنْهَا } نصيبه الذي قسم له، { وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } قد حرم الجنة ونعيمها، واستحق النار وجحيمها. وهذه الآية، شبيهة بقوله تعالى:{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [هود: 15] إلى آخر الآيات.

ابوالوليد المسلم
27-07-2020, 06:41 PM
الحلقة (509)
تفسير السعدى
(سورة الشورى)
من (21)الى (24)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الشورى



{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 21 { تَرَى ٱلظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } 22 { ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ }(23)

يخبر تعالى أن المشركين اتخذوا شركاء يوالونهم ويشتركون هم وإياهم في الكفر وأعماله، من شياطين الإنس، الدعاة إلى الكفر { شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ } من الشرك والبدع، وتحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرّم الله ونحو ذلك مما اقتضته أهواؤهم.
مع أن الدين لا يكون إلاّ ما شرعه الله تعالى، ليدين به العباد ويتقربوا به إليه، فالأصل الحجر على كل أحد أن يشرع شيئاً ما جاء عن الله وعن رسوله، فكيف بهؤلاء الفسقة المشتركين هم وآباؤهم على الكفر.
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي: لولا الأجل المسمى الذي ضربه الله فاصلاً بين الطوائف المختلفة، وأنه سيؤخرهم إليه، لقضي بينهم في الوقت الحاضر بسعادة المحق وإهلاك المبطل، لأن المقتضي للإهلاك موجود، ولكن أمامهم العذاب الأليم في الآخرة، هؤلاء وكل ظالم.
وفي ذلك اليوم { تَرَى ٱلظَّالِمِينَ } أنفسهم بالكفر والمعاصي { مُشْفِقِينَ } أي: خائفين وجلين { مِمَّا كَسَبُواْ } أن يعاقبوا عليه.
ولما كان الخائف قد يقع به ما أشفق منه وخافه، وقد لا يقع، أخبر أنه { وَاقِعٌ بِهِمْ } العقاب الذي خافوه، لأنهم أتوا بالسبب التام الموجب للعقاب، من غير معارض، من توبة ولا غيرها، ووصلوا موضعاً فات فيه الإنظار والإمهال. { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بقلوبهم بالله وبكتبه ورسله وما جاءوا به، { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } يشمل كل عمل صالح من أعمال القلوب، وأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات، فهؤلاء { فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ } أي: الروضات المضافة إلى الجنات، والمضاف يكون بحسب المضاف إليه، فلا تسأل عن بهجة تلك الرياض المونقة، وما فيها من الأنهار المتدفقة، والفياض المعشبة، والمناظر الحسنة، والأشجار المثمرة، والطيور المغردة، والأصوات الشجية المطربة، والاجتماع بكل حبيب، والأخذ من المعاشرة والمنادمة بأكمل نصيب، رياض لا تزداد على طول المدى إلاّ حسناً وبهاءً، ولا يزداد أهلها إلا اشتياقاً إلى لذاتها ووداداً، { لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ } فيها، أي: في الجنات، فمهما أرادوا فهو حاصل، ومهما طلبوا حصل، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
{ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } وهل فوز أكبر من الفوز برضا الله تعالى، والتنعم بقربه في دار كرامته؟ { ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي: هذه البشارة العظيمة، التي هي أكبر البشائر على الإطلاق، بشّر بها الرحيم الرحمن، على يد أفضل خلقه لأهل الإيمان والعمل الصالح، فهي أجلُّ الغايات، والوسيلة الموصلة إليها أفضل الوسائل. { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي: على تبليغي إياكم هذا القرآن ودعوتكم إلى أحكامه.
{ أَجْراً } فلست أريد أخذ أموالكم، ولا التولي عليكم والترأس، ولا غير ذلك من الأغراض { إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ }. يحتمل أن المراد: لا أسألكم عليه أجراً إلا أجراً واحداً هو لكم، وعائد نفعه إليكم، وهو أن تودوني وتحبوني في القرابة، أي: لأجل القرابة.
ويكون على هذا المودة الزائدة على مودة الإيمان، فإن مودة الإيمان بالرسول، وتقديم محبته على جميع المحاب بعد محبة الله، فرض على كل مسلم، وهؤلاء طلب منهم زيادة على ذلك أن يحبوه لأجل القرابة، لأنه صلى الله عليه وسلم، قد باشر بدعوته أقرب الناس إليه، حتى إنه قيل: إنه ليس في بطون قريش أحد، إلاّ ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه قرابة.
ويحتمل أن المراد إلاّ مودة الله تعالى الصادقة، وهي التي يصحبها التقرب إلى الله، والتوسل بطاعته الدالة على صحتها وصدقها، ولهذا قال: { إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } أي: في التقرب إلى الله، وعلى كلا القولين، فهذا الاستثناء دليل على أنه لا يسألهم عليه أجراً بالكلية، إلا أن يكون شيئاً يعود نفعه إليهم، فهذا ليس من الأجر في شيء، بل هو من الأجر منه لهم صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى:{ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } [البروج: 8] وقولهم: " ما لفلان ذنب عندك، إلا أنه محسن إليك ".
{ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً } من صلاة، أو صوم، أو حج، أو إحسان إلى الخلق { نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } بأن يشرح الله صدره، وييسر أمره، وتكون سببا للتوفيق لعمل آخر، ويزداد بها عمل المؤمن، ويرتفع عند الله وعند خلقه، ويحصل له الثواب العاجل والآجل.
{ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } يغفر الذنوب العظيمة ولو بلغت ما بلغت عند التوبة منها، ويشكر على العمل القليل بالأجر الكثير، فبمغفرته يغفر الذنوب ويستر العيوب، وبشكره يتقبل الحسنات ويضاعفها أضعافاً كثيرة.
{ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ وَيُحِقُّ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }(24)


يعني أم يقول المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم جرأةً منهم وكذباً: { ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } فرموك بأشنع الأمور وأقبحها، وهو الافتراء على الله بادعاء النبوة والنسبة إلى الله ما هو بريء منه، وهم يعلمون صدقك وأمانتك، فكيف يتجرؤون على هذا الكذب الصراح؟ بل تجرؤوا بذلك على الله تعالى، فإنه قدح في الله، حيث مكّنك من هذه الدعوة العظيمة، المتضمنة - على موجب زعمهم - أكبر الفساد في الأرض، حيث مكنه الله من التصريح بالدعوة، ثم بنسبتها إليه، ثم يؤيده بالمعجزات الظاهرات، والأدلة القاهرات، والنصر المبين، والاستيلاء على مَنْ خالفه، وهو تعالى قادر على حسم هذه الدعوة من أصلها ومادتها، وهو أن يختم على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يعي شيئاً ولا يدخل إليه خير، وإذا ختم على قلبه انحسم الأمر كله وانقطع.
فهذا دليل قاطع على صحة ما جاء به الرسول، وأقوى شهادة من الله له على ما قال، ولا يوجد شهادة أعظم منها ولا أكبر، ولهذا من حكمته ورحمته، وسُنته الجارية، أنه يمحو الباطل ويزيله، وإن كان له صولة في بعض الأوقات، فإن عاقبته الاضمحلال.
{ وَيُحِقُّ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } الكونية، التي لا تغير ولا تبدل، ووعده الصادق، وكلماته الدينية التي تحقق ما شرعه من الحق، وتثبته في القلوب، وتبصر أولي الألباب، حتى إن من جملة إحقاقه تعالى الحق، أن يُقَيِّض له الباطل ليقاومه، فإذا قاومه، صال عليه الحق ببراهينه وبيناته، فظهر من نوره وهداه ما به يضمحل الباطل وينقمع، ويتبين بطلانه لكل أحد، ويظهر الحق كل الظهور لكل أحد.
{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي: بما فيها، وما اتصفت به من خير وشر، وما أكنته ولم تبده.

ابوالوليد المسلم
27-07-2020, 06:43 PM
الحلقة (510)
تفسير السعدى
(سورة الشورى)
من (25)الى (29)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الشورى

{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } (25) { وَيَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَٱلْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } (26) { وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } (27) { وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ٱلْوَلِيُّ ٱلْحَمِيدُ }(28)


هذا بيان لكمال كرم الله تعالى وسعة جوده وتمام لطفه، بقبول التوبة الصادرة من عباده حين يقلعون عن ذنوبهم ويندمون عليها، ويعزمون على أن لا يعاودوها إذا قصدوا بذلك وجه ربهم، فإن الله يقبلها بعد ما انعقدت سبباً للهلاك، ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية.
{ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّئَاتِ } ويمحوها، ويمحو أثرها من العيوب، وما اقتضته من العقوبات، ويعود التائب عنده كريماً، كأنه ما عمل سوءاً قط، ويحبه ويوفقه لما يقرّبه إليه. ولما كانت التوبة من الأعمال العظيمة، التي قد تكون كاملة بسبب تمام الإخلاص والصدق فيها، وقد تكون ناقصة عند نقصهما، وقد تكون فاسدة إذا كان القصد منها بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية، وكان محل ذلك القلب الذي لا يعلمه إلاّ الله، ختم هذه الآية بقوله: { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } فالله تعالى دعا جميع العباد إلى الإنابة إليه والتوبة من التقصير، فانقسموا - بحسب الاستجابة له - إلى قسمين: مستجيبين وصفهم بقوله { وَيَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي: يستجيبون لربهم لما دعاهم إليه وينقادون له ويلبون دعوته، لأن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح يحملهم على ذلك، فإذا استجابوا له، شكر الله لهم، وهو الغفور الشكور. وزادهم من فضله توفيقاً ونشاطاً على العمل، وزادهم مضاعفة في الأجر زيادة عن ما تستحقه أعمالهم من الثواب والفوز العظيم. وأما غير المستجيبين للّه وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله، فـ { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الدنيا والآخرة، ثم ذكر أن من لطفه بعباده، أنه لا يوسع عليهم الدنيا سعة، تضر بأديانهم فقال: { وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ } أي: لغفلوا عن طاعة الله، وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا، فأوجبت لهم الإكباب على ما تشتهيه نفوسهم، ولو كان معصية وظلماً.
{ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } كما في بعض الآثار أن الله تعالى يقول: " إن من عبادي مَنْ لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي مَنْ لا يصلح إيمانه إلاّ الصحة، ولو أمرضته لأفسده ذلك، وإن من عبادي مَنْ لا يصلح إيمانه إلا المرض ولو عافيته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني خبير بصير ". { وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ } أي: المطر الغزير الذي به يغيث البلاد والعباد، { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } وانقطع عنهم مدة ظنوا أنه لا يأتيهم، وأيسوا وعملوا لذلك الجدب أعمالاً، فينزل الله الغيث { وَيَنشُرُ } به { رَحْمَتَهُ } من إخراج الأقوات للآدميين وبهائمهم، فيقع عندهم موقعاً عظيماً، ويستبشرون بذلك ويفرحون.
{ وَهُوَ ٱلْوَلِيُّ } الذي يتولى عباده بأنواع التدبير، ويتولى القيام بمصالح دينهم ودنياهم. { ٱلْحَمِيدُ } في ولايته وتدبيره، الحميد على ما له من الكمال، وما أوصله إلى خلقه من أنواع الإفضال.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ }(29)


أي: ومن أدلة قدرته العظيمة، وأنه سيحيي الموتى بعد موتهم، { خَلْقُ } هذه { ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } على عظمهما وسعتهما، الدال على قدرته وسعة سلطانه، وما فيهما من الإتقان والإحكام دال على حكمته وما فيهما من المنافع والمصالح دال على رحمته، وذلك يدل على أنه المستحق لأنواع العبادة كلها، وأن إلهية ما سواه باطلة.
{ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا } أي: نشر في السماوات والأرض من أصناف الدواب التي جعلها اللّه مصالح ومنافع لعباده.
{ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ } أي: جمع الخلق بعد موتهم لموقف القيامة { إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } فقدرته ومشيئته صالحان لذلك، ويتوقف وقوعه على وجود الخبر الصادق، وقد علم أنه قد تواترت أخبار المرسلين وكتبهم بوقوعه.

ابوالوليد المسلم
31-07-2020, 03:17 AM
الحلقة (511)
تفسير السعدى
(سورة الشورى)
من (30)الى (39)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الشورى
{ وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } (30) { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }(31)


يخبر تعالى، أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون ويكون عزيزاً عليهم، إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات، وأن ما يعفو اللّه عنه أكثر، فإن اللّه لا يظلم العباد، ولكن أنفسهم يظلمون{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [فاطر: 45].
وليس إهمالاً منه تعالى تأخير العقوبات ولا عجزاً. { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } أي: معجزين قدرة اللّه عليكم، بل أنتم عاجزون في الأرض، ليس عندكم امتناع عمّا ينفذه اللّه فيكم.
{ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ } يتولاكم، فيحصل لكم المنافع { وَلاَ نَصِيرٍ } يدفع عنكم المضار.

{ وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } (32) { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } (33) { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } (34) { وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ }(35)


أي: ومن أدلة رحمته وعنايته بعباده { ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ } من السفن، والمراكب النارية والشراعية، التي من عظمها { كَٱلأَعْلاَمِ } وهي الجبال الكبار، التي سخر لها البحر العجاج، وحفظها من التطام الأمواج، وجعلها تحملكم وتحمل أمتعتكم الكثيرة، إلى البلدان والأقطار البعيدة، وسخر لها من الأسباب ما كان معونة على ذلك. ثم نبه على هذه الأسباب بقوله: { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ } التي جعلها الله سبباً لمشيها، { فَيَظْلَلْنَ } أي: الجوارِ { رَوَاكِدَ } على ظهر البحر، لا تتقدم ولا تتأخر، ولا ينتقض هذا بالمراكب النارية، فإن من شرط مشيها وجود الريح. وإن شاء الله تعالى أوبق الجوارِ بما كسب أهلها، أي: أغرقها في البحر وأتلفها، ولكنه يحلم ويعفو عن كثير. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي: كثير الصبر على ما تكرهه نفسه ويشق عليها، فيكرهها عليه، من مشقة طاعة، أو ردع داع إلى معصية، أو ردع نفسه عند المصائب عن التسخط، { شَكُورٍ } في الرخاء وعند النعم، يعترف بنعمة ربه ويخضع له، ويصرفها في مرضاته، فهذا الذي ينتفع بآيات الله. وأما الذي لا صبر عنده، ولا شكر له على نِعَم الله، فإنه مُعْرض أو معاند لا ينتفع بالآيات. ثم قال تعالى: { وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِنَا } ليبطلوها بباطلهم. { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } أي: لا ينقذهم منقذ مما حل بهم من العقوبة.
{ فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } (36) { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } (37) { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } (38) { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ }(39)


هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة، وذكر الأعمال الموصلة إليها فقال: { فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ } من ملك ورياسة، وأموال وبنين، وصحة وعافية بدنية.
{ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } لذة منغصة منقطعة.
{ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ } من الثواب الجزيل، والأجر الجليل، والنعيم المقيم { خَيْرٌ } من لذات الدنيا، خيرية لا نسبة بينهما { وَأَبْقَىٰ } لأنه نعيم لا منغص فيه ولا كدر، ولا انتقال. ثم ذكر لمن هذا الثواب فقال: { لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي: جمعوا بين الإيمان الصحيح، المستلزم لأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة، وبين التوكل، الذي هو الآلة لكل عمل، فكل عمل لا يصحبه التوكل فغير تام، وهو الاعتماد بالقلب على الله في جلب ما يحبه العبد، ودفع ما يكرهه مع الثقة به تعالى. { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ } والفرق بين الكبائر والفواحش - مع أن جميعهما كبائر - أن الفواحش هي الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها، كالزنا ونحوه، والكبائر ما ليس كذلك، هذا عند الاقتران، وأما مع إفراد كل منهما عن الآخر فإن الآخر يدخل فيه. { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } أي: قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله، كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه، بل غفروه، ولم يقابلوا المسيء إلاّ بالإحسان والعفو والصفح.
فترتب على هذا العفو والصفح، من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير، كما قال تعالى:{ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت: 34-35].
{ وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ } أي: انقادوا لطاعته، ولبَّوْا دعوته، وصار قصدهم رضوانه، وغايتهم الفوز بقربه. ومن الاستجابة للّه، إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلذلك عطفهما على ذلك، من باب عطف العام على الخاص، الدال على شرفه وفضله فقال: { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } أي: ظاهرها وباطنها، فرضها ونفلها.
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } من النفقات الواجبة، كالزكاة والنفقة على الأقارب ونحوهم، والمستحبة، كالصدقات على عموم الخلق.
{ وَأَمْرُهُمْ } الديني والدنيوي { شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } أي: لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعاً عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمراً من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها وتشاوروا وبحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها، وذلك كالرأي في الغزو والجهاد، وتولية الموظفين لإمارة أو قضاء، أو غيره، وكالبحث في المسائل الدينية عموماً، فإنها من الأمور المشتركة، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله، وهو داخل في هذه الآية.
{ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ } أي: وصل إليهم من أعدائهم { هُمْ يَنتَصِرُونَ } لقوتهم وعزتهم، ولم يكونوا أذلاء عاجزين عن الانتصار. فوصفهم بالإيمان، والتوكل على الله، واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفر به الصغائر، والانقياد التام، والاستجابة لربهم، وإقامة الصلاة، والإنفاق في وجوه الإحسان، والمشاورة في أمورهم، والقوة والانتصار على أعدائهم، فهذه خصال الكمال قد جمعوها، ويلزم من قيامها فيهم، فعل ما هو دونها، وانتفاء ضدها.

ابوالوليد المسلم
31-07-2020, 03:20 AM
الحلقة (512)
تفسير السعدى
(سورة الشورى)
من (40)الى (48)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الشورى



{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } (40) { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } (41) { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (42) { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ }(43)


ذكر الله في هذه الآية، مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم. فمرتبة العدل، جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله. ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ } يجزيه أجراً عظيماً، وثواباً كثيراً، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأموراً به.
وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل.
وأما مرتبة الظلم فقد ذكرها بقوله: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم. { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أي: انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه { فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } أي: لا حرج عليهم في ذلك. ودلَّ قوله: { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ } وقوله: { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أنه لا بد من إصابة البغي والظلم ووقوعه.
وأما إرادة البغي على الغير، وإرادة ظلمه من غير أن يقع منه شيء، فهذا لا يجازى بمثله، وإنما يؤدب تأديباً يردعه عن قولٍ أو فعل صدر منه. { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ } أي: إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية { عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } وهذا شامل للظلم والبغي على الناس، في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
{ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: موجع للقلوب والأبدان، بحسب ظلمهم وبغيهم. { وَلَمَن صَبَرَ } على ما يناله من أذى الخلق { وَغَفَرَ } لهم، بأن سمح لهم عمّا يصدرُ منهم، { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } أي: لمن الأمور التي حث الله عليها وأكدها، وأخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة، ومن الأمور التي لا يوفق لها إلا أولو العزائم والهمم، وذوو الألباب والبصائر.
فإن ترك الانتصار للنفس بالقول أو الفعل، من أشق شيء عليها، والصبر على الأذى، والصفح عنه، ومغفرته، ومقابلته بالإحسان، أشق وأشق، ولكنه يسير على مَنْ يسره الله عليه، وجاهد نفسه على الاتصاف به، واستعان الله على ذلك، ثم إذا ذاق العبد حلاوته، ووجد آثاره، تلقاه برحب الصدر، وسعة الخلق، والتلذذ فيه.

{ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى ٱلظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } (44) { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ } (45) { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ }(46)


يخبر تعالى أنه المنفرد بالهداية والإضلال، وأنه { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ } بسبب ظلمه { فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ } يتولى أمره ويهديه.
{ وَتَرَى ٱلظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } مرأى ومنظراً فظيعاً، صعباً شنيعاً، يظهرون الندم العظيم، والحزن على ما سلف منهم، و { يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } أي: هل لنا طريق أو حيلة إلى رجوعنا إلى الدنيا، لنعمل غير الذي كنا نعمل، وهذا طلب للأمر المحال الذي لا يمكن.
{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } أي: على النار { خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ } أي: ترى أجسامهم خاشعة للذل الذي في قلوبهم، { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } أي: ينظرون إلى النار مسارقة وشزراً، من هيبتها وخوفها.
{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } حيث ظهرت عواقب الخلق، وتبين أهل الصدق من غيرهم: { إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ } على الحقيقة { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ } حيث فوتوا أنفسهم جزيل الثواب، وحصلوا على أليم العقاب وفرَّق بينهم وبين أهليهم، فلم يجتمعوا بهم، آخر ما عليهم.
{ أَلاَ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ } أنفسهم بالكفر والمعاصي { فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ } أي: في سوائه ووسطه، منغمرين لا يخرجون منه أبداً، ولا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ } كما كانوا في الدنيا يمنون بذلك أنفسهم، ففي القيامة يتبين لهم ولغيرهم أن أسبابهم التي أملوها تقطعت، وأنه حين جاءهم عذاب الله لم يدفع عنهم.
{ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } تحصل به هدايته، فهؤلاء ضلوا حيث زعموا في شركائهم النفع ودفع الضر، فتبين حينئذ ضلالهم.
{ ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ } (47) { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ }(48)


يأمر تعالى عباده بالاستجابة له، بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، وبالمبادرة بذلك وعدم التسويف، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْم القيامة الذي إذا جاء لا يمكن رده واستدراك الفائت، وليس للعبد في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه، فيفوت ربه، ويهرب منه.
بل قد أحاطت الملائكة بالخليقة من خلفهم، ونودوا{ يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } [الرحمن: 33] وليس للعبد في ذلك اليوم نكير لما اقترفه وأجرمه، بل لو أنكر لشهدت عليه جوارحه. وهذه الآية ونحوها، فيها ذم الأمل، والأمر بانتهاز الفرصة في كل عمل يعرض للعبد، فإن للتأخير آفات.
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ } عمّا جئتهم به بعد البيان التام { فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } تحفظ أعمالهم وتسأل عنها، { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } فإذا أديت ما عليك، فقد وجب أجرك على اللّه، سواء استجابوا أم أعرضوا، وحسابهم على اللّه الذي يحفظ عليهم صغير أعمالهم وكبيرها، وظاهرها وباطنها.
ثم ذكر تعالى حالة الإنسان، وأنه إذا أذاقه الله رحمة، من صحة بدن، ورزق رغد، وجاه ونحوه { فَرِحَ بِهَا } أي: فرح فرحاً مقصوراً عليها، لا يتعداها، ويلزم من ذلك طمأنينته بها، وإعراضه عن المُنْعِم. { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي: مرض أو فقر، أو نحوهما { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ } أي: طبيعته كفران النعمة السابقة، والتسخط لما أصابه من السيئة.

ابوالوليد المسلم
31-07-2020, 03:22 AM
الحلقة (513)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الشورىhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(49)الى الأية(53)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الشورى
{ لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ } (49) { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ }(50)


هذه الآية فيها الإخبار عن سعة ملكه تعالى، ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء، والتدبير لجميع الأمور، حتى إن تدبيره تعالى، من عمومه، أنه يتناول المخلوقة عن الأسباب التي يباشرها العباد، فإن النكاح من الأسباب لولادة الأولاد، فاللّه تعالى هو الذي يعطيهم من الأولاد ما يشاء. فمن الخلق مَنْ يهب له إناثاً، ومنهم مَنْ يهب له ذكوراً، ومنهم مَنْ يزوجه، أي: يجمع له ذكوراً وإناثاً، ومنهم مَنْ يجعله عقيماً لا يولد له.
{ إِنَّهُ عَلِيمٌ } بكل شيء { قَدِيرٌ } على كل شيء، فيتصرف بعلمه وإتقانه الأشياء، وبقدرته في مخلوقاته.
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } (51) { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (52) { صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ }(53)


لما قال المكذبون لرسل الله، الكافرون بالله:{ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ } [البقرة: 118] من كبرهم وتجبرهم، رد الله عليهم بهذه الآية الكريمة، وأن تكليمه تعالى لا يكون إلا لخواص خلقه، للأنبياء والمرسلين، وصفوته من العالمين، وأنه يكون على أحد هذه الأوجه.
إما { أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً } بأن يلقي الوحي في قلب الرسول، من غير إرسال ملك، ولا مخاطبة منه شفاها.
{ أَوْ } يكلمه منه شفاها، لكن { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } كما حصل لموسى بن عمران، كليم الرحمن. { أَوْ } يكلمه الله بواسطة الرسول الملكي، فـ { يُرْسِلَ رَسُولاً } كجبريل أو غيره من الملائكة. { فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ } أي: بإذن ربه، لا بمجرد هواه، { إِنَّهُ } تعالى علي الذات، علي الأوصاف، عظيمها، علي الأفعال، قد قهر كل شيء، ودانت له المخلوقات. حكيم في وضعه كل شيء في موضعه، من المخلوقات والشرائع. { وَكَذَلِكَ } حين أوحينا إلى الرسل قبلك { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } وهو هذا القرآن الكريم، سماه روحاً، لأن الروح يحيا به الجسد، والقرآن تحيا به القلوب والأرواح، وتحيا به مصالح الدنيا والدين، لما فيه من الخير الكثير والعلم الغزير.
وهو محض منّة الله على رسوله وعباده المؤمنين، من غير سبب منهم، ولهذا قال: { مَا كُنتَ تَدْرِي } أي: قبل نزوله عليك { مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } أي: ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة، ولا إيمان وعمل بالشرائع الإلهية، بل كنت أمياً لا تخط ولا تقرأ، فجاءك هذا الكتاب الذي { جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } يستضيئون به في ظلمات الكفر والبِدع، والأهواء المردية، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم.
{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي: تبينه لهم وتوضحه، وتنيره وترغبهم فيه، وتنهاهم عن ضده، وترهبهم منه، ثم فسَّر الصراط المستقيم فقال: { صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي: الصراط الذي نصبه الله لعباده، وأخبرهم أنه موصل إليه وإلى دار كرامته، { أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ } أي: ترجع جميع أمور الخير والشر، فيجازي كُلاً بحسب عمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

ابوالوليد المسلم
31-07-2020, 03:23 AM
الحلقة (514)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الزخرفhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)الى الأية(14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الزخرف
{ حـمۤ } (1) { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } (2) { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (3) { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } (4) { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ }(5)


هذا قسم بالقرآن على القرآن، فأقسم بالكتاب المبين وأطلق، ولم يذكر المتعلق، ليدل على أنه مبين لكل ما يحتاج إليه العباد من أمور الدنيا والدين والآخرة.
{ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } هذا المقسم عليه، أنه جُعِل بأفصح اللغات وأوضحها وأبينها، وهذا من بيانه. وذكر الحكمة في ذلك فقال: { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ألفاظه ومعانيه لتيسرها وقربها من الأذهان.
{ وَإِنَّهُ } أي: هذا الكتاب { لَدَيْنَا } في الملأ الأعلى في أعلى الرتب وأفضلها { لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } أي: لعليٌّ في قدره وشرفه ومحله، حكيم فيما يشتمل عليه من الأوامر والنواهي والأخبار، فليس فيه حكم مخالف للحكمة والعدل والميزان.
ثم أخبر تعالى أن حكمته وفضله يقتضي أن لا يترك عباده هملاً، لا يرسل إليهم رسولاً، ولا ينزل عليهم كتاباً، ولو كانوا مسرفين ظالمين فقال: { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً } أي: أفنعرض عنكم، ونترك إنزال الذكر إليكم، ونضرب عنكم صفحاً، لأجل إعراضكم، وعدم انقيادكم له؟ بل ننزل عليكم الكتاب، ونوضح لكم فيه كل شيء، فإن آمنتم به واهتديتم، فهو من توفيقكم، وإلا قامت عليكم الحجة، وكنتم على بيّنة من أمركم.
{ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي ٱلأَوَّلِينَ } (6) { وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } (7) { فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ }(8)


يقول تعالى: إن هذه سنتنا في الخلق، أن لا نتركهم هملاً، فكم { أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي ٱلأَوَّلِينَ } يأمرونهم بعبادة اللّه وحده لا شريك له، ولم يزل التكذيب موجوداً في الأمم.
{ وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } جحداً لما جاء به، وتكبراً على الحق.
{ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ } من هؤلاء { بَطْشاً } أي: قوة وأفعالاً، وآثاراً في الأرض، { وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: مضت أمثالهم وأخبارهم، وبيّنا لكم منها ما فيه عبرة ومزدجر عن التكذيب والإنكار.
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ } (9) { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (10) { وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } (11) { وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } (12) { لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } (13) { وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ }(14)


يخبر تعالى عن المشركين، أنك لو { سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ } الله وحده لا شريك له، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات، العليم بظواهر الأمور وبواطنها، وأوائلها وأواخرها، فإذا كانوا مقرين بذلك، فكيف يجعلون له الولد والصاحبة والشريك؟! وكيف يشركون به مَنْ لا يخلق ولا يرزق، ولا يُميت ولا يُحيي؟! ثم ذكر أيضاً من الأدلة الدالة على كمال نعمته واقتداره، بما خلقه لعباده من الأرض التي مهدها وجعلها قراراً للعباد، يتمكنون فيها من كل ما يريدون. { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي: جعل منافذ بين سلاسل الجبال المتصلة، تنفذون منها إلى ما وراءها من الأقطار.
{ لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } في السير في الطرق ولا تضيعون، ولعلكم تهتدون أيضاً في الاعتبار بذلك والادكار فيه. { وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ } لا يزيد ولا ينقص، ويكون أيضاً بمقدار الحاجة، لا ينقص بحيث لا يكون فيه نفع، ولا يزيد بحيث يضر العباد والبلاد، بل أغاث به العباد، وأنقذ به البلاد من الشدة، ولهذا قال: { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } أي: أحييناها بعد موتها، { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أي: فكما أحيا الأرض الميتة الهامدة بالماء، كذلك يحييكم بعد ما تستكملون في البرزخ، ليجازيكم بأعمالكم.
{ وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا } أي: الأصناف جميعها، مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون، من ليل ونهار، وحر وبرد، وذكر وأنثى، وغير ذلك. { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ } أي: السفن البحرية، الشراعية والنارية، مَا تَرْكَبُونَ { وَ } من { ٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ } وهذا شامل لظهور الفلك ولظهور الأنعام، أي: لتستقروا عليها، { ثُمَ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } بالاعتراف بالنعمة لمن سخرها، والثناء عليه تعالى بذلك، ولهذا قال: { وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي: لولا تسخيره لنا ما سخّر من الفلك، والأنعام، ما كنا مطيقين لذلك وقادرين عليه، ولكن من لطفه وكرمه تعالى، سخرها وذللها ويسر أسبابها.
والمقصود من هذا، بيان أن الرب الموصوف بما ذكره، من إفاضة النعم على العباد، هو الذي يستحق أن يعبد، ويصلى له ويسجد.

ابوالوليد المسلم
31-07-2020, 03:23 AM
الحلقة (515)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الزخرفhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(15)الى الأية(25)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الزخرف

{ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ ٱلإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } (15) { أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِٱلْبَنِينَ } (16) { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } (17) { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } (18) { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } (19) { وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } (20) { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } (21) { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } (22) { وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } (23) { قَٰلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } (24) { فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ }(25)


يخبر تعالى عن شناعة قول المشركين، الذين جعلوا للّه تعالى ولداً، وهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له كفواً أحد، وإن ذلك باطل من عدة أوجه: منها: أن الخلق كلهم عباده، والعبودية تنافي الولادة. ومنها: أن الولد جزء من والده، واللّه تعالى بائن من خلقه، مباين لهم في صفاته ونعوت جلاله، والولد جزء من الوالد، فمحال أن يكون للّه تعالى ولد.
ومنها: أنهم يزعمون أن الملائكة بنات اللّه، ومن المعلوم أن البنات أدون الصنفين، فكيف يكون لله البنات، ويصطفيهم بالبنين، ويفضلهم بها؟! فإذا يكونون أفضل من اللّه، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
ومنها: أن الصنف الذي نسبوه للّه، وهو البنات، أدون الصنفين، وأكرههما لهم، حتى إنهم من كراهتهم لذلك { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } من كراهته وشدة بغضه، فكيف يجعلون للّه ما يكرهون؟ ومنها: أن الأنثى ناقصة في وصفها، وفي منطقها وبيانها، ولهذا قال تعالى: { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ } أي: يجمل فيها، لنقص جماله، فيجمل بأمر خارج عنه؟ { وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ } أي: عند الخصام الموجب لإظهار ما عند الشخص من الكلام، { غَيْرُ مُبِينٍ } أي: غير مبين لحجته، ولا مفصح عمّا احتوى عليه ضميره، فكيف ينسبونهن للّه تعالى؟ ومنها: أنهم جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الله إِنَاثاً، فتجرؤوا على الملائكة، العباد المقربين، ورقوهم عن مرتبة العبادة والذل، إلى مرتبة المشاركة للّه، في شيء من خواصه، ثم نزلوا بهم عن مرتبة الذكورية إلى مرتبة الأنوثية، فسبحان مَنْ أظهر تناقض مَنْ كذب عليه وعاند رسله. ومنها: أن اللّه رد عليهم بأنهم لم يشهدوا خلق اللّه لملائكته، فكيف يتكلمون بأمر من المعلوم عند كل أحد، أنه ليس لهم به علم؟! ولكن لا بد أن يسألوا عن هذه الشهادة، وستكتب عليهم، ويعاقبون عليها.
وقوله تعالى: { وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } فاحتجوا على عبادتهم الملائكة بالمشيئة، وهي حجة لم يزل المشركون يطرقونها، وهي حجة باطلة في نفسها، عقلاً وشرعاً. فكل عاقل لا يقبل الاحتجاج بالقدر، ولو سلكه في حالة من أحواله لم يثبت عليها قدمه.
وأما شرعاً، فإن اللّه تعالى أبطل الاحتجاج به، ولم يذكره عن غير المشركين به المكذبين لرسله، فإن اللّه تعالى قد أقام الحجة على العباد، فلم يبق لأحد عليه حجة أصلاً، ولهذا قال هنا: { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } أي: يتخرصون تخرصاً لا دليل عليه، ويتخبطون خبط عشواء.
ثم قال: { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } يخبرهم بصحة أفعالهم، وصدق أقوالهم؟ ليس الأمر كذلك، فإن اللّه أرسل محمداً نذيراً إليهم، وهم لم يأتهم نذير غيره، أي: فلا عقل ولا نقل، وإذا انتفى الأمران، فلا ثَمَّ إلاّ الباطل.
نعم، لهم شبهة من أوهى الشُّبَه، وهي تقليد آبائهم الضالين، الذين ما زال الكفرة يردون بتقليدهم دعوة الرسل، ولهذا قال هنا: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ } أي: على دين وملة { وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } أي: فلا نتبع ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم.
{ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } أي: منعموها، وملؤها الذين أطغتهم الدنيا، وغرتهم الأموال، واستكبروا على الحق.
{ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } أي: فهؤلاء ليسوا ببدع منهم، وليسوا بأول مَنْ قال هذه المقالة. وهذا الاحتجاج من هؤلاء المشركين الضالين، بتقليدهم لآبائهم الضالين، ليس المقصود به اتباع الحق والهدى، وإنما هو تعصب محض، يراد به نصرة ما معهم من الباطل.
ولهذا كل رسول يقول لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة: { أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ } أي: فهل تتبعوني لأجل الهدى؟ { قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } فعلم بهذا، أنهم ما أرادوا اتباع الحق والهدى، وإنما قصدهم اتباع الباطل والهوى. { فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } بتكذيبهم الحق، وردهم إياه بهذه الشبهة الباطلة.
{ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } فليحذر هؤلاء أن يستمروا على تكذيبهم، فيصيبهم ما أصابهم.

ابوالوليد المسلم
31-07-2020, 03:25 AM
الحلقة (516)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الزخرفhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(26)الى الأية(32)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الزخرف
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ } (26) { إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } (27) { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (28) { بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } (29) { وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } (30) { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } (31) { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }(32)


يخبر تعالى عن ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي ينتسب إليه أهل الكتاب والمشركون، وكلهم يزعم أنه على طريقته، فأخبر عن دينه الذي ورثه في ذريته فقال: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ } الذين اتخذوا من دون اللّه آلهة يعبدونهم ويتقربون إليهم: { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ } أي: مبغضٌ له، مجتنبٌ معادٍ لأهله، { إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } فإني أتولاه، وأرجو أن يهديني للعلم بالحق والعمل به، فكما فطرني ودبرني بما يصلح بدني ودنياي، فـ { سَيَهْدِينِ } لما يصلح ديني وآخرتي. { وَجَعَلَهَا } أي: هذه الخصلة الحميدة، التي هي أم الخصال وأساسها، وهي إخلاص العبادة للّه وحده، والتبرِّي من عبادة ما سواه.
{ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } أي: ذريته { لَعَلَّهُمْ } إليها { يَرْجِعُونَ } لشهرتها عنه، وتوصيته لذريته، وتوصية بعض بنيه - كإسحاق ويعقوب - لبعض، كما قال تعالى:{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } إلى آخر الآيات [البقرة: 130].
فلم تزل هذه الكلمة موجودة في ذريته عليه السلام حتى دخلهم الترف والطغيان.
فقال تعالى: { بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ } بأنواع الشهوات، حتى صارت هي غايتهم ونهاية مقصودهم، فلم تزل يتربى حبها في قلوبهم، حتى صارت صفات راسخة، وعقائد متأصلة. { حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } الذي لا شك فيه ولا مرية ولا اشتباه. { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } أي: بين الرسالة، قامت أدلة رسالته قياماً باهراً، بأخلاقه ومعجزاته، وبما جاء به، وبما صدق به المرسلين، وبنفس دعوته صلى اللّه عليه وسلم. { وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } الذي يوجب على مَنْ له أدنى دين ومعقول أن يقبله وينقاد له. { قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } وهذا من أعظم المعاندة والمشاقة، فإنهم لم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه، بل ولا جحده، فلم يرضوا حتى قدحوا به قدحاً شنيعاً، وجعلوه بمنزلة السحر الباطل، الذي لا يأتي به إلاّ أخبث الخلق وأعظمهم افتراء، والذي حملهم على ذلك، طغيانهم بما متعهم اللّه به وآباءهم. { وَقَالُواْ } مقترحين على اللّه بعقولهم الفاسدة: { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } أي: معظَّم عندهم، مبجّل من أهل مكة، أو أهل الطائف، كالوليد بن المغيرة ونحوه، ممن هو عندهم عظيم. قال اللّه رداً لاقتراحهم: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } أي: أهم الخزان لرحمة اللّه، وبيدهم تدبيرها، فيعطون النبوة والرسالة مَنْ يشاؤون، ويمنعونها ممن يشاؤون؟ { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أي: في الحياة الدنيا، { وَ } الحال أن رَحْمَةَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الدنيا. فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد اللّه تعالى، وهو الذي يقسمها بين عباده، فيبسط الرزق على من يشاء، ويضيقه على من يشاء، بحسب حكمته، فرحمته الدينية، التي أعلاها النبوة والرسالة، أولى وأحرى أن تكون بيد اللّه تعالى، فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته.
فعلم أن اقتراحهم ساقط لاغ، وأن التدبير للأمور كلها، دينيها ودنيويها، بيد اللّه وحده.
هذا إقناع لهم، من جهة غلطهم في الاقتراح، الذي ليس في أيديهم منه شيء، إن هو إلا ظلم منهم ورد للحق. وقولهم: { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } لو عرفوا حقائق الرجال، والصفات التي بها يعرف علو قدر الرجل، وعظم منزلته عند اللّه وعند خلقه، لعلموا أن محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب صلى اللّه عليه وسلم، هو أعظم الرجال قدراً، وأعلاهم فخراً، وأكملهم عقلاً، وأغزرهم علماً، وأجلهم رأياً وعزماً وحزماً، وأكملهم خلقاً، وأوسعهم رحمةً، وأشدهم شفقةً، وأهداهم وأتقاهم. وهو قطب دائرة الكمال، وإليه المنتهى في أوصاف الرجال، ألا وهو رجل العالم على الإطلاق، يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه، فكيف يفضل عليه المشركون مَنْ لم يشم مثقال ذرة من كماله؟!، ومن جرمه ومنتهى حمقه، أن جعل إلهه الذي يعبده ويدعوه ويتقرب إليه، صنماً، أو شجراً، أو حجراً، لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، وهو كلٍّ على مولاه، يحتاج لمن يقوم بمصالحه، فهل هذا إلا من فعل السفهاء والمجانين؟ فكيف يجعل مثل هذا عظيماً؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم صلى اللّه عليه وسلم؟ ولكن الذين كفروا لا يعقلون. وفي هذه الآية تنبيه على حكمة اللّه تعالى في تفضيل اللّه بعض العباد على بعض في الدنيا { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } أي: ليسخر بعضهم بعضاً، في الأعمال والحرف والصنائع.
فلو تساوى الناس في الغنى، ولم يحتج بعضهم إلى بعض، لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم. وفيها دليل على أن نعمته الدينية خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في الآية الأخرى:{ قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس: 58].

ابوالوليد المسلم
31-07-2020, 03:25 AM
الحلقة (517)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الزخرفhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(33)الى الأية(40)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الزخرف
{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } (34) { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } (35) { وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ }(36)


يخبر تعالى بأن الدنيا لا تسوى عنده شيئاً، وأنه لولا لطفه ورحمته بعباده، التي لا يقدم عليها شيئاً، لوسَّع الدنيا على الذين كفروا توسيعاً عظيماً، ولجعل { لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ } أي: درجاً من فضة { عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } على سطوحهم. { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } من فضة، ولجعل لهم { زُخْرُفاً } أي: لزخرف لهم دنياهم بأنواع الزخارف، وأعطاهم ما يشتهون، ولكن منعه من ذلك رحمته بعباده خوفاً عليهم من التسارع في الكفر وكثرة المعاصي بسبب حب الدنيا، ففي هذا دليل على أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعاً عاماً أو خاصاً لمصالحهم، وأن الدنيا لا تزن عند اللّه جناح بعوضة، وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا، منغصة، مكدرة، فانية، وأن الآخرة عند اللّه تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، لأن نعيمها تام كامل من كل وجه، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون، فما أشد الفرق بين الدارين!!
{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } (37) { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُم ْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } (38) { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } (39) { وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ }(40)


يخبر تعالى عن عقوبته البليغة، لمن أعرض عن ذكره، فقال: { وَمَن يَعْشُ } أي: يعرض ويصد { عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } الذي هو القرآن العظيم، الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عباده، فمَنْ قبلها، فقد قبل خير المواهب، وفاز بأعظم المطالب والرغائب، ومَنْ أعرض عنها وردها، فقد خاب وخسر خسارة لا يسعد بعدها أبداً، وقيَّض له الرحمن شيطاناً مريداً، يقارنه ويصاحبه، ويعده ويمنيه، ويؤزه إلى المعاصي أزا، { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُم ْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ } أي: الصراط المستقيم، والدين القويم.
{ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } بسبب تزيين الشيطان للباطل وتحسينه له، وإعراضهم عن الحق، فاجتمع هذا وهذا.
فإن قيل: فهل لهذا من عذر، من حيث إنه ظن أنه مهتد، وليس كذلك؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله، الذين مصدر جهلهم الإعراض عن ذكر اللّه، مع تمكنهم على الاهتداء، فزهدوا في الهدى مع القدرة عليه، ورغبوا في الباطل، فالذنب ذنبهم، والجرم جرمهم.
فهذه حالة هذا المُعْرِض عن ذكر اللّه في الدنيا، مع قرينه، وهو الضلال والغيّ، وانقلاب الحقائق.
وأما حاله، إذا جاء ربه في الآخرة، فهو شر الأحوال، وهو: إظهار الندم والتحسر، والحزن الذي لا يجبر مصابه، والتبرِّي من قرينه، ولهذا قال تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ }. كما في قوله تعالى:{ وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً * يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً } [الفرقان: 27-29].
وقوله تعالى: { وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } أي: ولا ينفعكم يوم القيامة اشتراككم في العذاب، أنتم وقرناؤكم وأخلاؤكم، وذلك لأنكم اشتركتم في الظلم، فاشتركتم في عقابه وعذابه.
ولن ينفعكم أيضاً، روح التسلي في المصيبة، فإن المصيبة إذا وقعت في الدنيا، واشترك فيها المعاقبون، هان عليهم بعض الهون، وتسلَّى بعضهم ببعض، وأما مصيبة الآخرة، فإنها جمعت كل عقاب، ما فيه أدنى راحة، حتى ولا هذه الراحة. نسألك يا ربنا العافية، وأن تريحنا برحمتك.

ابوالوليد المسلم
31-07-2020, 03:27 AM
الحلقة (518)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الزخرفhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(41)الى الأية(56)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الزخرف

{ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } (41) { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } (42) { أَوْ نُرِيَنَّكَ ٱلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } (42) { فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِيۤ أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (43) { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } (44) { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ }(45)


يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، مسلياً له عن امتناع المكذبين عن الاستجابة له، وأنهم لا خير فيهم، ولا فيهم زكاء يدعوهم إلى الهدى: { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ } أي: الذين لا يسمعون { أَوْ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ } الذين لا يبصرون، أو تهدي { وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي: بَيِّنٌ واضح، لعلمه بضلاله، ورضاه به.
فكما أن الأصم لا يسمع الأصوات، والأعمى لا يبصر، والضال ضلالاً مبيناً لا يهتدي، فهؤلاء قد فسدت فطرهم وعقولهم، بإعراضهم عن الذكر، واستحدثوا عقائد فاسدة، وصفات خبيثة، تمنعهم وتحول بينهم وبين الهدى، وتوجب لهم الازدياد من الردى، فهؤلاء لم يبق إلا عذابهم ونكالهم، إما في الدنيا، أو في الآخرة، ولهذا قال تعالى: { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } أي: فإن ذهبنا بك قبل أن نريك ما نعدهم من العذاب، فاعلم بخبرنا الصادق أنَّا منهم منتقمون.
{ أَوْ نُرِيَنَّكَ ٱلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ } من العذاب { فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } ولكن ذلك متوقف على اقتضاء الحكمة لتعجيله أو تأخيره، فهذه حالك وحال هؤلاء المكذبين.
وأما أنت { فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِيۤ أُوحِيَ إِلَيْكَ } فعلاً واتصافاً، بما يأمر بالاتصاف به ودعوة إليه، وحرصاً على تنفيذه في نفسك وفي غيرك. { إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } موصل إلى الله وإلى دار كرامته، وهذا مما يوجب عليك زيادة التمسك به، والاهتداء إذا علمت أنه حق وعدل وصدق، تكون بانياً على أصل أصيل، إذا بنى غيرك على الشكوك والأوهام، والظلم والجور.
{ وَإِنَّهُ } أي: هذا القرآن الكريم { لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أي: فخر لكم، ومنقبة جليلة، ونعمة لا يقادر قدرها، ولا يعرف وصفها، ويذكركم أيضاً ما فيه الخير الدنيوي والأخروي، ويحثكم عليه، ويذكركم الشر ويرهبكم عنه، { وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } عنه، هل قمتم به فارتفعتم وانتفعتم، أم لم تقوموا به فيكون حجة عليكم، وكفراً منكم بهذه النعمة؟ { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } حتى يكون للمشركين نوع حجة، يتبعون فيها أحداً من الرسل، فإنك لو سألتهم واستخبرتهم عن أحوالهم، لم تجد أحداً منهم يدعو إلى اتخاذ إله آخر مع الله مع أن كل الرسل، من أولهم إلى آخرهم، يدعون إلى عبادة الله، وحده لا شريك له.
قال تعالى:{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } [النحل: 36] وكل رسول بعثه الله، يقول لقومه: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فدل هذا، أن المشركين ليس لهم مستند في شركهم، لا من عقل صحيح، ولا نقل عن الرسل.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَـٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } (46) { فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } (47) { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِٱلْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (48) { وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } (49) { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } (50) { وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } (51) { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } (52) { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } (53) { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } (54) { فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ أَجْمَعِينَ } (55) { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ }(56)


{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَـٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ } إلى آخر القصة لما قال تعالى:{ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف: 45] بيَّن تعالى حال موسى ودعوته، التي هي أشهر ما يكون من دعوات الرسل، ولأن اللّه تعالى أكثر من ذكرها في كتابه، فذكر حاله مع فرعون، فقال: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَـٰتِنَآ } التي دلت دلالة قاطعة على صحة ما جاء به، كالعصا، والحية، وإرسال الجراد، والقمل، إلى آخر الآيات.

{ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فدعاهم إلى الإقرار بربهم، ونهاهم عن عبادة ما سواه.
{ فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } أي: ردوها وأنكروها، واستهزؤوا بها، ظلماً وعلواً، فلم يكن لقصور بالآيات، وعدم وضوح فيها، ولهذا قال: { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } أي: الآية المتأخرة أعظم من السابقة، { وَأَخَذْنَاهُم بِٱلْعَذَابِ } كالجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات. { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إلى الإسلام، ويذعنون له، ليزول شركهم وشرهم.
{ وَقَالُواْ } عندما نزل عليهم العذاب: { يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ } يعنون موسى عليه السلام، وهذا إما من باب التهكم به، وإما أن يكون هذا الخطاب عندهم مدحاً، فتضرعوا إليه بأن خاطبوه بما يخاطبون به من يزعمون أنهم علماؤهم، وهم السحرة، فقالوا: { ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي: بما خصك اللّه به، وفضلك به، من الفضائل والمناقب، أن يكشف عنا العذاب { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } إن كشف اللّه عنا ذلك. { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أي: لم يفوا بما قالوا، بل غدروا، واستمروا على كفرهم. وهذا كقوله تعالى:{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُوا ْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ * فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } [الأعراف: 133-135].
{ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ } مستعلياً بباطله، قد غره ملكه، وأطغاه ماله وجنوده: { يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } أي: ألست المالك لذلك، المتصرف فيه، { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ } أي: الأنهار المنسحبة من النيل، في وسط القصور والبساتين.
{ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } هذا الملك الطويل العريض، وهذا من جهله البليغ، حيث افتخر بأمر خارج عن ذاته، ولم يفخر بأوصاف حميدة، ولا أفعال سديدة.
{ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ } يعني - قبحه اللّه - بالمهين، موسى بن عمران، كليم الرحمن، الوجيه عند اللّه، أي: أنا العزيز، وهو الذليل المُهان المحتقر، فأيّنا خير؟ { وَ } مع هذا فـ { لاَ يَكَادُ يُبِينُ } عمّا في ضميره بالكلام، لأنه ليس بفصيح اللسان، وهذا ليس من العيوب في شيء، إذا كان يبين ما في قلبه، ولو كان ثقيلاً عليه الكلام.
ثم قال فرعون: { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } أي: فهلا كان موسى بهذه الحالة، أن يكون مزيناً مجملاً بالحلي والأساور؟ { أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } يعاونونه على دعوته، ويؤيدونه على قوله. { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } أي: استخف عقولهم بما أبدى لهم من هذه الشبه، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا حقيقة تحتها، وليست دليلاً على حق ولا على باطل، ولا تروج إلاّ على ضعفاء العقول. فأي دليل يدل على أن فرعون محق، لكون ملك مصر له، وأنهاره تجري من تحته؟ وأي دليل يدل على بطلان ما جاء به موسى، لقلة أتباعه، وثقل لسانه، وعدم تحلية الله له، ولكنه لقي ملأ لا معقول عندهم، فمهما قال اتبعوه، من حق وباطل.

{ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } فبسبب فسقهم، قيض لهم فرعون، يزين لهم الشرك والشر.
{ فَلَمَّآ آسَفُونَا } أي: أغضبونا بأفعالهم { ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ } ليعتبر بهم المعتبرون، ويتعظ بأحوالهم المتعظون.

ابوالوليد المسلم
31-07-2020, 03:28 AM
الحلقة (519)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الزخرفhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(57)الى الأية(65)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الزخرف

{ وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } 57 { وَقَالُوۤاْ ءَأَ ٰلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } 58 { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } 59 { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ } 60 { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } 61 { وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } 62 { وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } 63 { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } 64 { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ }65


يقول تعالى: { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً } أي: نُهي عن عبادته، وجعلت عبادته بمنزلة عبادة الأصنام والأنداد. { إِذَا قَوْمُكَ } المكذبون لك { مِنْهُ } أي: من أجل هذا المثل المضروب، { يَصِدُّونَ } أي: يستلجون في خصومتهم لك، ويصيحون، ويزعمون أنهم قد غلبوا في حجتهم، وأفلجوا.
{ وَقَالُوۤاْ ءَأَ ٰلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } يعني: عيسى، حيث نهي عن عبادة الجميع، وشورك بينهم بالوعيد على مَنْ عبدهم، ونزل أيضاً قوله تعالى:{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98]. ووجه حجتهم الظالمة، أنهم قالوا: قد تقرر عندنا وعندك يا محمد، أن عيسى من عباد الله المقربين، الذين لهم العاقبة الحسنة، فَلِمَ سويت بينه وبينها في النهي عن عبادة الجميع؟ فلولا أن حجتك باطلة لم تتناقض.
ولِمَ قلت:{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98].
وهذا لفظٌ بزعمهم، يعم الأصنام، وعيسى، فهل هذا إلاّ تناقض؟ وتناقض الحجة دليل على بطلانها، هذا أنهى ما يقررون به هذه الشبهة [الذي] فرحوا بها واستبشروا، وجعلوا يصدون ويتباشرون. وهي - وللّه الحمد - من أضعف الشبه وأبطلها، فإن تسوية الله بين النهي عن عبادة المسيح، وبين النهي عن عبادة الأصنام، لأن العبادة حق للّه تعالى، لا يستحقها أحد من الخلق، لا الملائكة المقربون، ولا الأنبياء المرسلون، ولا مَنْ سواهم من الخلق، فأي شبهة في تسوية النهي عن عبادة عيسى وغيره؟ وليس تفضيل عيسى عليه السلام، وكونه مقرباً عند ربه ما يدل على الفرق بينه وبينها في هذا الموضع، وإنما هو كما قال تعالى: { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } بالنبوة والحكمة والعلم والعمل، { عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } يعرفون به قدرة الله تعالى على إيجاده من دون أب. وأما قوله تعالى:{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98] فالجواب عنها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن قوله:{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [الأنبياء: 98] أن " ما " اسم لما لا يعقل، لا يدخل فيه المسيح ونحوه. الثاني: أن الخطاب للمشركين، الذين بمكة وما حولها، وهم إنما يعبدون أصناماً وأوثاناً ولا يعبدون المسيح. الثالث: أن الله قال بعد هذه الآية:{ إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [الأنبياء: 101] فلا شك أن عيسى وغيره من الأنبياء والأولياء، داخلون في هذه الآية.
ثم قال تعالى: { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ } أي: لجعلنا بدلكم ملائكة يخلفونكم في الأرض، ويكونون في الأرض حتى نرسل إليهم ملائكة من جنسهم، وأما أنتم يا معشر البشر، فلا تطيقون أن ترسل إليكم الملائكة، فمن رحمة الله بكم، أن أرسل إليكم رسلاً من جنسكم، تتمكنون من الأخذ عنهم.
{ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } أي: وإن عيسى عليه السلام، لدليل على الساعة، وأن القادر على إيجاده من أم بلا أب، قادر على بعث الموتى من قبورهم، أو وإن عيسى عليه السلام، سينزل في آخر الزمان، ويكون نزوله علامة من علامات الساعة { فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا } أي: لا تشكنَّ في قيام الساعة، فإن الشك فيها كفر.
{ وَٱتَّبِعُونِ } بامتثال ما أمرتكم، واجتناب ما نهيتكم، { هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } موصل إلى الله عز وجل، { وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ } عما أمركم الله به، فإن الشيطان { لَكُمْ عَدُوٌّ } حريص على إغوائكم، باذل جهده في ذلك.
{ وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ } الدالة على صدق نبوته وصحة ما جاءهم به، من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ونحو ذلك من الآيات.
{ قَالَ } لبني إسرائيل: { قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ } النبوة والعلم، بما ينبغي على الوجه الذي ينبغي. { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أي: أبين لكم صوابه وجوابه، فيزول عنكم بذلك اللبس، فجاء عليه السلام مكملاً ومتمماً لشريعة موسى عليه السلام، ولأحكام التوراة.
وأتى ببعض التسهيلات الموجبة للانقياد له، وقبول ما جاءهم به.
{ فِيهِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } أي: اعبدوا الله وحده لا شريك له، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، وآمنوا بي وصدقوني وأطيعون.
{ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } ففيه الإقرار بتوحيد الربوبية، بأن الله هو المربي جميع خلقه بأنواع النِّعم الظاهرة والباطنة، والإقرار بتوحيد العبودية، بالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وإخبار عيسى عليه السلام أنه عبد من عباد الله، ليس كما قال فيه النصارى: " إنه ابن الله، أو ثالث ثلاثة " ، والإخبار بأن هذا المذكور صراط مستقيم، موصل إلى الله وإلى جنته. فلما جاءهم عيسى عليه السلام بهذا { ٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ } المتحزبون على التكذيب { مِن بَيْنِهِمْ } كلٌّ قال بعيسى عليه السلام مقالة باطلة، ورد ما جاء به، إلاّ مَنْ هدى الله من المؤمنين، الذين شهدوا له بالرسالة، وصدقوا بكل ما جاء به، وقالوا: إنه عبد الله ورسوله.
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } أي: ما أشد حزن الظالمين وما أعظم خسارهم في ذلك اليوم!!

ابوالوليد المسلم
31-07-2020, 03:29 AM
الحلقة (520)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الزخرفhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(66)الى الأية(73)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الزخرف

{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } 66 { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } 67 { يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } 68 { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } 69 { ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } 70 { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } 71 { وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } 72 { لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ }73


يقول تعالى: ما ينتظر المكذبون، وهل يتوقعون { إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي: فإذا جاءت، فلا تسأل عن أحوال مَنْ كذب بها، واستهزأ بمن جاء بها. وإن الأخلاء يومئذ، أي: يوم القيامة، المتخالين على الكفر والتكذيب ومعصية اللّه، { بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } لأن خلتهم ومحبتهم في الدنيا لغير اللّه، فانقلبت يوم القيامة عداوة.
{ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } للشرك والمعاصي، فإن محبتهم تدوم وتتصل، بدوام مَنْ كانت المحبة لأجله، ثم ذكر ثواب المتقين، وأن اللّه تعالى يناديهم يوم القيامة بما يسر قلوبهم، ويذهب عنهم كل آفة وشر، فيقول: { يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } أي: لا خوف يلحقكم فيما تستقبلونه من الأمور، ولا حزن يصيبكم فيما مضى منها، وإذا انتفى المكروه من كل وجه، ثبت المحبوب المطلوب.
{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } أي: وصفهم الإيمان بآيات اللّه، وذلك ليشمل التصديق بها، وما لا يتم التصديق إلاّ به، من العلم بمعناها والعمل بمقتضاها.
{ وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } للّه منقادين له في جميع أحوالهم، فجمعوا بين الاتصاف بعمل الظاهر والباطن.
{ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } التي هي دار القرار { أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } أي: مَنْ كان على مثل عملكم، من كل مقارن لكم، من زوجة، وولد، وصاحب، وغيرهم.
{ تُحْبَرُونَ } أي: تنعمون وتكرمون، ويأتيكم من فضل ربكم من الخيرات والسرور والأفراح واللذات، ما لا تعبِّر الألسن عن وصفه.
{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ } أي: تدور عليهم خدامهم، من الولدان المخلدين بطعامهم، بأحسن الأواني وأفخرها، وهي صحاف الذهب وشرابهم، بألطف الأواني، وهي الأكواب التي لا عرى لها، وهي من أصفى الأواني، من فضة أعظم من صفاء القوارير.
{ وَفِيهَا } أي: الجنة { مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } وهذا لفظٌ جامع، يأتي على كل نعيم وفرح، وقرة عين، وسرور قلب، فكل ما اشتهته النفوس، من مطاعم، ومشارب، وملابس، ومناكح، ولذته العيون، من مناظر حسنة، وأشجار محدقة، ونعم مونقة، ومبان مزخرفة، فإنه حاصل فيها، معد لأهلها، على أكمل الوجوه وأفضلها، كما قال تعالى:{ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [يس: 57] { وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وهذا هو تمام نعيم أهل الجنة، وهو الخلد الدائم فيها، الذي يتضمن دوام نعيمها وزيادته، وعدم انقطاعه.
{ وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ } الموصوفة بأكمل الصفات، هي { ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: أورثكم اللّه إياها بأعمالكم، وجعلها من فضله جزاء لها، وأودع فيها من رحمته ما أودع.
[ { لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ } كما في الآية الأخرى:{ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [الرحمن: 52] { مِّنْهَا تَأْكُلُونَ } أي: مما تتخيرون من تلك الفواكه الشهية، والثمار اللذيذة تأكلون] ولما ذكر نعيم الجنة، عقبه بذكر عذاب جهنم، فقال: { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ... }.

ابوالوليد المسلم
08-08-2020, 04:23 AM
الحلقة (521)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الزخرفhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(74)الى الأية(80)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الزخرف
{ إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } 74 { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } 75 { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ } 76 { وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } 77 { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }78


{ إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ } الذين أجرموا بكفرهم وتكذيبهم { فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ } أي: منغمرون فيه، محيط بهم العذاب من كل جانب، { خَالِدُونَ } فيه، لا يخرجون منه أبداً، و { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } العذاب ساعة، بإزالته، ولا بتهوين عذابه، { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي: آيسون من كل خير، غير راجين للفرج، وذلك أنهم ينادون ربهم فيقولون:{ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 107-108] وهذا العذاب العظيم، بما قدمت أيديهم، وبما ظلموا به أنفسهم. واللّه لم يظلمهم ولم يعاقبهم بلا ذنب ولا جرم. { وَنَادَوْاْ } وهم في النار، لعلهم يحصل لهم استراحة، { يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } أي: ليمتنا فنستريح، فإننا في غمٍّ شديد، وعذاب غليظ، لا صبر لنا عليه ولا جلد. فـ { قَالَ } لهم مالك خازن النار - حين طلبوا منه أن يدعو اللّه لهم أن يقضي عليهم -: { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } أي: مقيمون فيها، لا تخرجون عنها أبداً، فلم يحصل لهم ما قصدوه، بل أجابهم بنقيض قصدهم، وزادهم غماً إلى غمهم، ثم وبخهم بما فعلوا فقال: { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ } الذي يوجب عليكم أن تتبعوه فلو تبعتموه، لفزتم وسعدتم، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } فلذلك شقيتم شقاوة لا سعادة بعدها.
{ أَمْ أَبْرَمُوۤاْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } 79 { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }80


يقول تعالى: أم أبرم المكذبون بالحق المعاندون له { أَمْراً } أي: كادوا كيداً، ومكروا للحق ولمن جاء بالحق، ليدحضوه، بما موهوا من الباطل المزخرف المزوق، { فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } أي: محكمون أمراً، ومدبرون تدبيراً يعلو تدبيرهم، وينقضه ويبطله، وهو ما قيضه اللّه من الأسباب والأدلة لإحقاق الحق وإبطال الباطل، كما قال تعالى:{ بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ } [الأنبياء: 18].
{ أَمْ يَحْسَبُونَ } بجهلهم وظلمهم { أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ } الذي لم يتكلموا به، بل هو سر في قلوبهم { وَنَجْوَاهُم } أي: كلامهم الخفي الذي يتناجون به، أي: فلذلك أقدموا على المعاصي، وظنوا أنها لا تبعة لها ولا مجازاة على ما خفي منها.
فرد اللّه عليهم بقوله: { بَلَىٰ } أي: إنا نعلم سرهم ونجواهم، { وَرُسُلُنَا } الملائكة الكرام، { لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } كل ما عملوه، وسيحفظ ذلك عليهم، حتى يردوا القيامة، فيجدوا ما عملوا حاضراً، ولا يظلم ربك أحداً.

ابوالوليد المسلم
08-08-2020, 04:24 AM
الحلقة (522)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الزخرفhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(81)الى الأية(89)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الزخرف
{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } 81 { سُبْحَانَ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } 82 { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ }83


أي: قل يا أيها الرسول الكريم، للذين جعلوا للّه ولداً، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له كفواً أحد.
{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } لذلك الولد، لأنه جزء من والده، وأنا أول الخلق انقياداً للأمور المحبوبة للّه، ولكني أوّل المنكرين لذلك، وأشدهم له نفياً، فعلم بذلك بطلانه، فهذا احتجاج عظيم عند مَنْ عرف أحوال الرسل، وأنه إذا علم أنهم أكمل الخلق، وأن كل خير فهم أوّل الناس سبقاً إليه، وتكميلاً له، وكل شر فهم أوّل الناس تركاً له وإنكاراً له وبعداً منه، فلو كان على هذا للرحمن ولد وهو الحق، لكان محمد بن عبد اللّه، أفضل الرسل أول مَنْ عبده، ولم يسبقه إليه المشركون.
ويحتمل أن معنى الآية: لو كان للرحمن ولد، فأنا أوّل العابدين للّه، ومن عبادتي للّه، إثبات ما أثبته، ونفي ما نفاه، فهذا من العبادة القولية الاعتقادية، ويلزم من هذا، لو كان حقاً، لكنت أوّل مثبت له، فعلم بذلك بطلان دعوى المشركين وفسادها، عقلاً ونقلاً.
{ سُبْحَانَ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } من الشريك والظهير، والعوين، والولد، وغير ذلك، مما نسبه إليه المشركون.
{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } أي: يخوضوا بالباطل، ويلعبوا بالمحال، فعلومهم ضارة غير نافعة، وهي الخوض والبحث بالعلوم التي يعارضون بها الحق وما جاءت به الرسل، وأعمالهم لعب وسفاهة، لا تزكي النفوس، ولا تثمر المعارف.
ولهذا توعدهم بما أمامهم من يوم القيامة فقال: { حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } فسيعلمون فيه ماذا حصّلوا، وما حَصَلوا عليه من الشقاء الدائم، والعذاب المستمر.
{ وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } 84 { وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } 85 { وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } 86 { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } 88 { وَقِيلِهِ يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } 87 { فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }89


يخبر تعالى، أنه وحده المألوه المعبود في السماوات والأرض فأهل السماوات كلهم، والمؤمنون من أهل الأرض، يعبدونه، ويعظمونه، ويخضعون لجلاله، ويفتقرون لكماله.
{ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [الإسراء: 44]{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [الرعد: 15].
فهو تعالى المألوه المعبود، الذي يألهه الخلائق كلهم، طائعين مختارين، وكارهين.
وهذه كقوله تعالى:{ وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ } [الأنعام: 3] أي: ألوهيته ومحبته فيهما.
وأما هو فهو فوق عرشه، بائن من خلقه، متوحد بجلاله، متمجد بكماله، { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ } الذي أحكم ما خلقه، وأتقن ما شرعه، فما خلق شيئاً إلا لحكمة، ولا شرع شيئاً إلا لحكمة، وحكمه القدري والشرعي والجزائي مشتمل على الحكمة.
{ ٱلْعَلِيمُ } بكل شيء، يعلم السر وأخفى، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في العالم العلوي والسفلي، ولا أصغر منها ولا أكبر.
{ وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } تبارك بمعنى تعالى وتعاظم، وكثر خيره، واتسعت صفاته، وعظم ملكه.
ولهذا ذكر سعة ملكه للسموات والأرض وما بينهما، وسعة علمه، وأنه بكل شيء عليم، حتى إنه تعالى، انفرد بعلم كثيرٍ من الغيوب، التي لم يطّلع عليها أحدٌ من الخلق، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرّب، ولهذا قال: { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } قدم الظرف، ليفيد الحصر، أي: لا يعلم متى تجيء الساعة إلاّ هو، ومن تمام ملكه وسعته، أنه مالك الدنيا والآخرة، ولهذا قال: { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي: في الآخرة فيحكم بينكم بحكمه العدل، ومن تمام ملكه، أنه لا يملك أحد من خلقه من الأمر شيئاً، ولا يقدم على الشفاعة عنده أحد إلاّ بإذنه.
{ وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ } أي: كل مَنْ دُعي من دون اللّه، من الأنبياء والملائكة وغيرهم، لا يملكون الشفاعة، ولا يشفعون إلا بإذن اللّه، ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى، ولهذا قال: { إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ } أي: نطق بلسانه، مقراً بقلبه، عالماً بما شهد به، ويشترط أن تكون شهادته بالحق، وهو الشهادة للّه تعالى بالوحدانية، ولرسله بالنبوة والرسالة، وصحة ما جاؤوا به، من أصول الدين وفروعه، وحقائقه وشرائعه، فهؤلاء الذين تنفع فيهم شفاعة الشافعين، وهؤلاء الناجون من عذاب اللّه، الحائزون لثوابه.
ثم قال تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } أي: ولئن سألت المشركين عن توحيد الربوبية، ومن هو الخالق، لأقروا أنه اللّه وحده لا شريك له.
{ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } أي: فكيف يصرفون عن عبادة اللّه والإخلاص له وحده؟! فإقرارهم بتوحيد الربوبية، يلزمهم به الإقرار بتوحيد الألوهية، وهو من أكبر الأدلة على بطلان الشرك.
{ وَقِيلِهِ يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } هذا معطوف على قوله: { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } أي: وعنده علم قيله، أي: الرسول صلى اللّه عليه وسلم، شاكياً لربه تكذيب قومه، متحزناً على ذلك، متحسراً على عدم إيمانهم، فاللّه تعالى عالم بهذه الحال، قادر على معاجلتهم بالعقوبة، ولكنه تعالى حليم، يمهل العباد ويستأني بهم، لعلهم يتوبون ويرجعون، ولهذا قال: { فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ } أي: اصفح عنهم ما يأتيك من أذيتهم القولية والفعلية، واعف عنهم، ولا يبدر منك لهم إلاّ السلام الذي يُقَابِلُ به أولو الألباب والبصائر الجاهلين، كما قال تعالى عن عباده الصالحين:

ابوالوليد المسلم
08-08-2020, 04:24 AM
الحلقة (523)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الدخانhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)الى الأية(16)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الدخان


{ حـمۤ } 1 { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } 2 { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } 4 { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } 3 { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } 5 { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } 6 { رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ } 7 { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } 9 { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } 8 { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } 10 { يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } 11 { رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ }13 { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } 12 { ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } 14 { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } 15 { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ }16


هذا قسم بالقرآن على القرآن، فأقسم بالكتاب المبين لكل ما يحتاج إلى بيانه، أنه أنزله { فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } أي: كثيرة الخير والبركة، وهي ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، فأنزل أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام على أفضل الأنام، بلغة العرب الكرام، لينذر به قوماً عمتهم الجهالة، وغلبت عليهم الشقاوة، فيستضيئوا بنوره، ويقتبسوا من هداه، ويسيروا وراءه، فيحصل لهم الخير الدنيوي، والخير الأخروي، ولهذا قال: { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا } أي: في تلك الليل الفاضلة التي نزل فيها القرآن { يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أي: يفصل ويميز ويكتب كل أمر قدري وشرعي حكم الله به، وهذه الكتابة والفرقان، الذي يكون في ليلة القدر، أحد الكتابات التي تكتب وتميز، فتطابق الكتاب الأول، الذي كتب الله به، مقادير الخلائق وآجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وأحوالهم، ثم إن الله تعالى قد وكل ملائكة تكتب ما سيجري على العبد وهو في بطن أمه، ثم وكلهم بعد وجوده إلى الدنيا، وكَّل به كراماً كاتبين، يكتبون ويحفظون عليه أعماله، ثم إنه تعالى يقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة، وكل هذا من تمام علمه، وكمال حكمته، وإتقان حفظه، واعتنائه تعالى بخلقه { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ } أي: هذا الأمر الحكيم أمر صادر من عندنا، { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } للرسل، ومنزلين للكتب، والرسل تبلغ أوامر المرسل، وتخبر بأقداره، { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أي: إن إرسال الرسل وإنزال الكتب، التي أفضلها القرآن، رحمة من رب العباد بالعباد، فما رحم الله عباده برحمة أجل من هدايتهم بالكتب والرسل، وكل خير ينالونه في الدنيا والآخرة، فإنه من أجل ذلك وسببه، { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي: يسمع جميع الأصوات، ويعلم جميع الأمور الظاهرة والباطنة، وقد علم تعالى ضرورة العباد إلى رسله وكتبه، فرحمهم بذلك، ومن عليهم، فله تعالى الحمد والمنة والإحسان. { رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } أي: خالق ذلك ومدبره، والمتصرف فيه بما شاء.
{ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ } أي: عالمين بذلك علماً مفيداً لليقين، فاعلموا أن الرب للمخلوقات هو إلهها الحق، ولهذا قال: { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي: لا معبود إلا وجهه، { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } أي: هو المتصرف وحده بالإحياء والإماتة، وسيجمعكم بعد موتكم فيجزيكم بعملكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: رب الأولين والآخرين، مربيهم بالنعم، الدافع عنهم النقم. فلما قرر تعالى ربوبيته وألوهيته بما يوجب العلم التام، ويدفع الشك، أخبر أن الكافرين مع هذا البيان { فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } أي: منغمرون في الشكوك والشبهات، غافلون عما خلقوا له، قد اشتغلوا باللعب الباطل، الذي لا يجدي عليهم إلا الضرر. { فَٱرْتَقِبْ } أي: انتظر فيهم العذاب، فإنه قد قرب وآن أوانه، { يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى ٱلنَّاسَ } أي: يعمهم ذلك الدخان ويقال لهم: { هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }.

واختلف المفسرون في المراد بهذا الدخان، فقيل: إنه الدخان الذي يغشى الناس ويعمهم حين تقرب النار من المجرمين في يوم القيامة، وأن الله توعدهم بعذاب يوم القيامة، وأمر نبيه أن ينتظر بهم ذلك اليوم.
ويؤيد هذا المعنى أن هذه الطريقة هي طريقة القرآن في توعد الكفار والتأني بهم وترهيبهم بذلك اليوم وعذابه، وتسلية الرسول والمؤمنين بالانتظار بمن آذاهم، ويؤيده أيضاً، أنه قال في هذه الآية: { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } وهذا يقال يوم القيامة للكفار، حين يطلبون الرجوع إلى الدنيا، فيقال: قد ذهب وقت الرجوع.
وقيل: إن المراد بذلك، ما أصاب كفار قريش حين امتنعوا من الإيمان، واستكبروا على الحق، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف " فأرسل الله عليهم الجوع العظيم، حتى أكلوا الميتات والعظام، وصاروا يرون الذي بين السماء والأرض كهيئة الدخان، وليس به، وذلك من شدة الجوع.
فيكون - على هذا - قوله: { يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ } أن ذلك بالنسبة إلى أبصارهم وما يشاهدون، وليس بدخان حقيقة. ولم يزالوا بهذه الحالة حتى استرحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه أن يدعو الله لهم، أن يكشفه الله عنهم، فدعا ربه، فكشفه الله عنهم، وعلى هذا فيكون قوله: { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } إخبار بأن الله سيصرفه عنكم وتوعُّدٌ لهم أن يعودوا إلى الاستكبار والتكذيب، وإخبار بوقوعه فوقع، وأن الله سيعاقبهم بالبطشة الكبرى، قالوا: وهي وقعة " بدر " وفي هذا القول نظر ظاهر.
وقيل: إن المراد بذلك، أن ذلك من أشراط الساعة، وأنه يكون في آخر الزمان دخان يأخذ بأنفاس الناس، ويصيب المؤمنين منهم كهيئة الدخان، والقول هو الأول، وفي الآية احتمال أن المراد بقوله: { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } أن هذا كله يكون يوم القيامة، وأن قوله تعالى { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } أن هذا ما وقع لقريش كما تقدم.
وإذا نزلت هذه الآيات على هذين المعنيين، لم تجد في اللفظ ما يمنع من ذلك.
بل تجدها مطابقة لهما أتم المطابقة، وهذا الذي يظهر عندي ويترجح، والله أعلم.

ابوالوليد المسلم
08-08-2020, 04:25 AM
الحلقة (524)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الدخانhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(17)الى الأية(33)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الدخان

{ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } 17 { أَنْ أَدُّوۤاْ إِلَيَّ عِبَادَ ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } 18 { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِنِّيۤ آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } 19 { وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } 20 { وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَٱعْتَزِلُونِ } 21 { فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } 22 { فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } 23 { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } 24 { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } 25 { وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } 26 { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } 27 { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا قَوْماً آخَرِينَ } 28 { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } 29 { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } 30 { مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ } 31 { وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } 32 { وَآتَيْنَاهُم مِّنَ ٱلآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ }33


{ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ } إلى آخر القصة لما ذكر تعالى تكذيب من كذب الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم، ذكر أن لهم سلفاً من المكذبين، فذكر قصتهم مع موسى، وما أحل الله بهم، ليرتدع هؤلاء المكذبون عن ما هم عليه فقال: { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ } أي: ابتليناهم واختبرناهم بإرسال رسولنا موسى بن عمران إليهم، الرسول الكريم، الذي فيه من الكرم ومكارم الأخلاق ما ليس في غيره، { أَنْ أَدُّوۤاْ إِلَيَّ عِبَادَ ٱللَّهِ } أي: قال لفرعون وملئه: أدوا إليَّ عباد الله، يعني بهم: بني إسرائيل، أي: أرسلوهم، وأطلقوهم من عذابكم وسومكم إياهم سوء العذاب، فإنهم عشيرتي وأفضل العالمين في زمانهم.
وأنتم قد ظلمتموهم، واستعبدتموهم بغير حق، فأرسلوهم ليعبدوا ربهم، { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي: رسول من رب العالمين، أمين على ما أرسلني به، لا أكتمكم منه شيئاً، ولا أزيد فيه ولا أنقص، وهذا يوجب تمام الانقياد له.
{ وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ } بالاستكبار عن عبادته والعلو على عباد الله، { إِنِّيۤ آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي: بحجة بينة ظاهرة، وهو ما أتى به من المعجزات الباهرات، والأدلة القاهرات، فكذبوه وهموا بقتله، فلجأ بالله من شرهم، فقال: { وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } أي: تقتلوني أشر القتلات، بالرجم بالحجارة.
{ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَٱعْتَزِلُونِ } أي: لكم ثلاث مراتب: الإيمان بي، وهو مقصودي منكم، فإن لم تحصل منكم هذه المرتبة، فاعتزلوني لا عليَّ ولا لي، فاكفوني شركم، فلم تحصل منهم المرتبة الأولى ولا الثانية، بل لم يزالوا متمردين عاتين على الله، محاربين لنبيه موسى عليه السلام، غير ممكنين له من قومه بني إسرائيل.
{ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } أي: قد أجرموا جرماً، يوجب تعجيل العقوبة.
فأخبر عليه السلام بحالهم، وهذا دعاء بالحال، التي هي أبلغ من المقال، كما قال عن نفسه عليه السلام{ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص: 24] فأمره الله أن يسري بعباده ليلاً، وأخبره أن فرعون وقومه سيتبعونه، { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً } أي: بحاله وذلك أنه لما سرى موسى ببني إسرائيل كما أمره الله، ثم تبعهم فرعون، فأمر الله موسى أن يضرب البحر، فضربه فصار اثنى عشر طريقاً، وصار الماء من بين تلك الطرق كالجبال العظيمة، فسلكه موسى وقومه. فلما خرجوا منه، أمره الله أن يتركه رهواً، أي: بحاله ليسلكه فرعون وجنوده { إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } فلما تكامل قوم موسى خارجين منه، وقوم فرعون داخلين فيه، أمره الله تعالى أن يلتطم عليهم، فغرقوا عن آخرهم، وتركوا ما متعوا به من الحياة الدنيا، وأورثه الله بني إسرائيل، الذين كانوا مستعبدين لهم، ولهذا قال: { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا } أي: هذه النعمة المذكورة { قَوْماً آخَرِينَ } وفي الآية الأخرى:
{ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 59].
{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ } أي: لما أتلفهم الله وأهلكهم، لم تبك عليهم السماء والأرض، أي: لم يُحزن عليهم، ولم يُؤْسَ على فراقهم، بل كل استبشر بهلاكهم وتلفهم، حتى السماء والأرض، لأنهم ما خلفوا من آثارهم إلا ما يسود وجوههم، ويوجب عليهم اللعنة والمقت من العالمين.
{ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } أي: ممهلين عن العقوبة، بل اصطلمتهم في الحال ثم امتنَّ تعالى على بني إسرائيل، فقال { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } الذي كانوا فيه { مِن فِرْعَوْنَ } إذ يذبِّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم.
{ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً } أي مستكبراً في الأرض بغير الحق، { مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ } المتجاوزين لحدود الله، المتجرئين على محارمه.
{ وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَاهُمْ } أي: اصطفيناهم وانتقيناهم { عَلَىٰ عِلْمٍ } منا بهم، وباستحقاقهم لذلك الفضل { عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } أي: عالمي زمانهم ومن قبلهم وبعدهم حتى أتى الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فَفَضَلوا العالمين كلهم، وجَعَلَهم الله خير أمة أخرجت للناس، وامتنّ عليهم بما لم يمتن به على غيرهم.
{ وَآتَيْنَاهُم } أي: بني إسرائيل { مِّنَ ٱلآيَاتِ } الباهرة، والمعجزات الظاهرة، { مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ } أي: إحسان كثير، ظاهر منا عليهم، وحجة عليهم، على صحة ما جاءهم به نبيهم موسى عليه السلام.

ابوالوليد المسلم
08-08-2020, 04:26 AM
الحلقة (525)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الدخانhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(34)الى الأية(42)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الدخان

{ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ } 34 { إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا ٱلأُوْلَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } 35 { فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 36 { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }37


يخبر تعالى { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ } المكذبين يقولون مستبعدين للبعث والنشور: { إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا ٱلأُوْلَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } أي: ما هي إلا الحياة الدنيا، فلا بعث ولا نشور، ولا جنة ولا نار.
ثم قالوا - متجرئين على ربهم، معجزين له -: { فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وهذا من اقتراح الجهلة المعاندين في مكان سحيق، فأي ملازمة بين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه متوقف على الإتيان بآبائهم؟ فإن الآيات قد قامت على صدق ما جاءهم به، وتواترت تواتراً عظيماً من كل وجه.
قال تعالى: { أَهُمْ خَيْرٌ } أي: هؤلاء المخاطبون { أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } فإنهم ليسوا خيراً منهم، وقد اشتركوا في الإجرام، فليتوقعوا من الهلاك ما أصاب إخوانهم المجرمين.

{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ } 38 { مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } 39 { إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } 40 { يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } 41 { إِلاَّ مَن رَّحِمَ ٱللَّهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }42


يخبر تعالى، عن كمال قدرته، وتمام حكمته، وأنه ما خلق السماوات والأرض لعباً ولا لهواً أو سدى من غير فائدة، وأنه ما خلقهما إلا بالحق، أي: نفس خلقهما بالحق، وخلقهما مشتمل على الحق، وأنه أوجدهما ليعبدوه وحده لا شريك له، وليأمر العباد وينهاهم ويثيبهم ويعاقبهم، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } فلذلك لم يتفكروا في خلق السماوات والأرض.
{ إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ } وهو يوم القيامة الذي يفصل الله به بين الأولين والآخرين، وبين كل مختلفين { مِيقَاتُهُمْ } أي: الخلائق { أَجْمَعِينَ }.
كلهم سيجمعهم الله فيه، ويحضرهم ويحضر أعمالهم، ويكون الجزاء عليها ولا ينفع مولى عن مولى شيئاً لا قريب عن قريبه، ولا صديق عن صديقه، { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } أي: يمنعون من عذاب الله عز وجل، لأن أحداً من الخلق لا يملك من الأمر شيئاً.
{ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ٱللَّهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } فإنه هو الذي ينتفع ويرتفع برحمة الله تعالى، التي تسبب إليها، وسعى لها سعيها في الدنيا. ثم قال تعالى: { إِنَّ شَجَرَتَ... }.

ابوالوليد المسلم
08-08-2020, 04:26 AM
الحلقة (526)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الدخانhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(43)الى الأية(59)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الدخان
{ إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ } 43 { طَعَامُ ٱلأَثِيمِ } 44 { كَٱلْمُهْلِ يَغْلِي فِي ٱلْبُطُونِ } 45 { كَغَلْيِ ٱلْحَمِيمِ } 46 { خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } 47 { ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ } 48 { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } 49 { إِنَّ هَـٰذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ }50


لما ذكر يوم القيامة، وأنه يفصل بين عباده فيه، ذكر افتراقهم إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير، وهم: الآثمون بعمل الكفر والمعاصي، وأن طعامهم { شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ } شر الأشجار وأفظعها، وأن طعامها { كَٱلْمُهْلِ } أي: كالصديد المنتن، خبيث الريح والطعم، شديد الحرارة، يغلي في بطونهم { كَغَلْيِ ٱلْحَمِيمِ } ويقال للمعذَّب: { ذُقْ } هذا العذاب الأليم، والعقاب الوخيم، { إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } أي: بزعمك أنك عزيز، ستمتنع من عذاب الله، وأنك كريم على الله لا يصيبك بعذاب، فاليوم تبين لك أنك أنت الذليل المهان الخسيس، { إِنَّ هَـٰذَا } العذاب العظيم { مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } أي: تشكون، فالآن صار عندكم حق اليقين.
{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } 51 { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } 52{ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ } 53 { كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } 54 { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } 55 { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } 56 { فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } 57 { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } 58 { فَٱرْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ }59


هذا جزاء المتقين لله الذين اتقوا سخطه وعذابه، بتركهم المعاصي، وفعلهم الطاعات، فلما انتفى السخط عنهم والعذاب، ثبت لهم الرضا من الله، والثواب العظيم، في ظل ظليل، من كثرة الأشجار والفواكه، وعيون سارحةٍ، تجري من تحتهم الأنهار، يفجرونها تفجيراً في جنات النعيم.
فأضاف الجنات إلى النعيم، لأن كل ما اشتملت عليه كله نعيم وسرور، كامل من كل وجه، ما فيه منغص ولا مكدر بوجه من الوجوه.
ولباسهم من الحرير الأخضر من السندس والإستبرق، أي: غليظ الحرير ورقيقه، مما تشتهيه أنفسهم، { مُّتَقَابِلِينَ } في قلوبهم ووجوههم في كمال الراحة، والطمأنينة، والمحبة، والعشرة الحسنة، والآداب المستحسنة.
{ كَذَلِكَ } النعيم التام والسرور الكامل { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } أي: نساء جميلات، من جمالهن وحسنهن أنه يحار الطرف في حسنهن، وينبهر العقل بجمالهن، وينخلب اللب لكمالهن، { عِينٍ } أي: ضخام الأعين حسانها.
{ يَدْعُونَ فِيهَا } أي: الجنة { بِكلِّ فَاكِهَةٍ } مما له اسم في الدنيا، ومما لا يوجد له اسم، ولا نظير في الدنيا، فمهما طلبوه من أنواع الفاكهة وأجناسها، أحضر لهم في الحال، من غير تعب ولا كلفة، { آمِنِينَ } من انقطاع ذلك، وآمنين من مضرته، وآمنين من كل مكدر، وآمنين من الخروج منها والموت، ولهذا قال: { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } أي: ليس فيها موت بالكلية، ولو كان فيها موت يستثنى، لم يستثن الموتة الأولى، التي هي الموتة في الدنيا، فتم لهم كل محبوب مطلوب، { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ * فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ } أي: حصول النعيم واندفاع العذاب عنهم، من فضل الله عليهم وكرمه، فإنه تعالى هو الذي وفقهم للأعمال الصالحة، التي بها نالوا خير الآخرة، وأعطاهم أيضاً ما لم تبلغه أعمالهم، { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } وأي فوز أعظم من نيل رضوان الله وجنته، والسلامة من عذابه وسخطه؟ { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ } أي: القرآن { بِلِسَانِكَ } أي: سهلناه بلسانك الذي هو أفصح الألسنة على الإطلاق وأجلها، فتيسر به لفظه، وتيسر معناه.
{ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ما فيه نفعهم فيفعلونه، وما فيه ضررهم فيتركونه.
{ فَٱرْتَقِبْ } أي: انتظر ما وعدك ربك من الخير والنصر، { إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } ما يحل بهم من العذاب، وفرق بين الارتقابين: رسول الله وأتباعه يرتقبون الخير في الدينا والآخرة، وضدهم يرتقبون الشر في الدنيا والآخرة.

ابوالوليد المسلم
08-08-2020, 04:27 AM
الحلقة (527)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الجاثيةhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)الى الأية(11)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الجاثية

{ حـمۤ } 1 { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } 2 { إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِين َ } 3 { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } 4 { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }5 { تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِ يُؤْمِنُونَ } 6 { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } 7 { يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } 8 { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } 9 { مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } 10 { هَـٰذَا هُدًى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ }11


يخبر تعالى خبراً يتضمن الأمر بتعظيم القرآن والاعتناء به، وأنه { تَنزِيلُ } { مِنَ ٱللَّهِ } المألوه المعبود، لما اتصف به من صفات الكمال، وانفرد به من النعم، الذي له العزة الكاملة والحكمة التامة، ثم أيد ذلك بما ذكره من الآيات الأفقية والنفسية، من خلق السماوات والأرض، وما بث فيهما من الدواب، وما أودع فيهما من المنافع، وما أنزل الله من الماء، الذي يحيي به الله البلاد والعباد. فهذه كلها آيات بينات، وأدلة واضحات، على صدق هذا القرآن العظيم، وصحة ما اشتمل عليه من الحكم والأحكام، ودالات أيضاً على ما لله تعالى من الكمال، وعلى البعث والنشور.
ثم قسم تعالى الناس، بالنسبة إلى الانتفاع بآياته وعدمه، إلى قسمين: قسم يستدلون بها، ويتفكرون بها، وينتفعون فيرتفعون، وهم المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، إيماناً تاماً، وصل بهم إلى درجة اليقين، فزكى منهم العقول، وازدادت به معارفهم وألبابهم وعلومهم.
وقسم يسمع آيات الله سماعاً تقوم به الحجة عليهم، ثم يعرض عنها ويستكبر، كأنه ما سمعها، لأنها لم تزك قلبه، ولا طهَّرته، بل بسبب استكباره عنها ازداد طغيانه.
وأنه إذا علم من آيات الله شيئاً اتخذها هزواً، فتوعده الله تعالى بالويل فقال: { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } أي: كذاب في مقاله، أثيم في فعاله.
وأخبر أنّ له عذاباً أليماً، وأن { مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ } تكفي في عقوبتهم البليغة. وأنه { وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ } من الأموال { وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ } يستنصرون بهم فخذلوهم، أحوج ما كانوا إليهم لو نفعوا. فلما بيَّن آياته القرآنية والعيانية، وأن الناس فيها على قسمين، أخبر أن القرآن المشتمل على هذه المطالب العالية، أنه هدى، فقال: { هَـٰذَا هُدًى } وهذا وصف عام لجميع القرآن، فإنه يهدي إلى معرفة الله تعالى، بصفاته المقدسة، وأفعاله الحميدة، ويهدي إلى معرفة رسله، وأوليائه وأعدائه، وأوصافهم، ويهدي إلى الأعمال الصالحة ويدعو إليها، ويبين الأعمال السيئة وينهى عنها، ويهدي إلى بيان الجزاء على الأعمال، ويبين الجزاء الدنيوي والأخروي، فالمهتدون اهتدوا به، فأفلحوا وسعدوا، { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِ رَبِّهِمْ } الواضحة القاطعة، التي لا يكفر بها إلا من اشتد ظلمه، وتضاعف طغيانه، { لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ }.

ابوالوليد المسلم
08-08-2020, 04:28 AM
الحلقة (528)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الجاثيةhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(12)الى الأية(17)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الجاثية
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } 12 { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }13


يخبر تعالى بفضله على عباده وإحسانه إليهم، بتسخير البحر لسير المراكب والسفن بأمره وتيسيره، { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } بأنواع التجارات والمكاسب، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله تعالى، فإنكم إذا شكرتموه، زادكم من نعمه وأثابكم على شكركم أجراً جزيلاً.
{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } أي: من فضله وإحسانه، وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض، ولما أودع الله فيهما، من الشمس والقمر، والكواكب، والثوابت، والسيارات، وأنواع الحيوانات، وأصناف الأشجار والثمرات، وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو معدٌّ لمصالح بني آدم، ومصالح ما هو من ضروراته، فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته، وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه، ولهذا قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وجملة ذلك أنَّ خلقها وتدبيرها وتسخيرها، دالٌّ على نفوذ مشيئة الله وكمال قدرته، وما فيها من الإحكام والإتقان، وبديع الصنعة، وحسن الخلقة، دال على كمال حكمته وعلمه، وما فيها من السعة والعظمة والكثرة، دال على سعة ملكه وسلطانه، وما فيها من التخصيصات والأشياء المتضادات، دليل على أنه الفعَّال لما يريد، وما فيها من المنافع، والمصالح الدينية والدنيوية، دليل على سعة رحمته، وشمول فضله وإحسانه، وبديع لطفه وبره، وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود، الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له، وأن رسله صادقون فيما جاؤوا به، فهذه أدلة عقلية واضحة، لا تقبل ريباً ولا شكاً.
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } 14 { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }15


يخبر تعالى بفضله على عباده وإحسانه إليهم، بتسخير البحر لسير المراكب والسفن بأمره وتيسيره، { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } بأنواع التجارات والمكاسب، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله تعالى، فإنكم إذا شكرتموه، زادكم من نعمه وأثابكم على شكركم أجراً جزيلاً.
{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } أي: من فضله وإحسانه، وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض، ولما أودع الله فيهما، من الشمس والقمر، والكواكب، والثوابت، والسيارات، وأنواع الحيوانات، وأصناف الأشجار والثمرات، وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو معدٌّ لمصالح بني آدم، ومصالح ما هو من ضروراته، فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته، وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه، ولهذا قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وجملة ذلك أنَّ خلقها وتدبيرها وتسخيرها، دالٌّ على نفوذ مشيئة الله وكمال قدرته، وما فيها من الإحكام والإتقان، وبديع الصنعة، وحسن الخلقة، دال على كمال حكمته وعلمه، وما فيها من السعة والعظمة والكثرة، دال على سعة ملكه وسلطانه، وما فيها من التخصيصات والأشياء المتضادات، دليل على أنه الفعَّال لما يريد، وما فيها من المنافع، والمصالح الدينية والدنيوية، دليل على سعة رحمته، وشمول فضله وإحسانه، وبديع لطفه وبره، وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود، الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له، وأن رسله صادقون فيما جاؤوا به، فهذه أدلة عقلية واضحة، لا تقبل ريباً ولا شكاً.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ } 16 { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }17


أي: ولقد أنعمنا على بني إسرائيل نعماً لم تحصل لغيرهم من الناس، وآتيناهم { ٱلْكِتَابَ } أي: التوراة والإنجيل، { وَٱلْحُكْمَ } بين الناس، { وَٱلنُّبُوَّةَ } التي امتازوا بها، وصارت النبوة في ذرية إبراهيم عليه السلام، أكثرهم من بني إسرائيل، { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } من المآكل والمشارب والملابس، وإنزال المن والسلوى عليهم، { وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ } أي: على الخلق بهذه النِّعَم، ويخرج من هذا العموم اللفظي، هذه الأمة، فإنهم خير أمة أخرجت للناس. والسياق يدل على أن المراد غير هذه الأمة، فإن الله يقص علينا ما امتن به على بني إسرائيل، وميزهم عن غيرهم، وأيضاً فإن الفضائل التي فاق بها بنو إسرائيل من الكتاب والحكم والنبوة، وغيرها من النعوت، قد حصلت كلها لهذه الأمة، وزادت عليهم هذه الأمة فضائل كثيرة، فهذه الشريعة شريعة بني إسرائيل جزء منها، فإن هذا الكتاب مهيمن على سائر الكتب السابقة، ومحمد صلى الله عليه وسلم مصدق لجميع المرسلين. { وَآتَيْنَاهُم } أي: آتينا بني إسرائيل { بَيِّنَاتٍ } أي: دلالات تبين الحق من الباطل { مِّنَ ٱلأَمْرِ } القدري الذي أوصله الله إليهم. وتلك الآيات هي المعجزات التي رأوها على يد موسى عليه السلام، فهذه النِّعَم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، تقتضي الحال أن يقوموا بها على أكمل الوجوه، وأن يجتمعوا على الحق الذي بيَّنه الله لهم، ولكن انعكس الأمر، فعاملوها بعكس ما يجب. وافترقوا فيما أمروا بالاجتماع به، ولهذا قال: { فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } أي: الموجب لعدم الاختلاف، وإنما حملهم على الاختلاف البغي من بعضهم على بعض، والظلم.
{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } فيميز المحق من المبطل، والذي حمله على الاختلاف، الهوى أو غيره.

ابوالوليد المسلم
08-08-2020, 04:29 AM
الحلقة (529)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الجاثيةhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(18)الى الأية(26)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الجاثية
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } 18 { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ }19


أي: ثم شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير، وتنهى عن كل شر، من أمرنا الشرعي { فَٱتَّبِعْهَا } فإن في اتباعها السعادة الأبدية، والصلاح والفلاح، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } أي: الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم، ولا ماشية خلفه، وهم كل من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم هواه وإرادته، فإنه من أهواء الذين لا يعلمون.
{ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي: لا ينفعونك عند الله، فَيُحَصِّلوا لك الخير، ويدفعوا عنك الشر، إن اتبعتهم على أهوائهم، ولا تصلح أن توافقهم وتواليهم، فإنك وإياهم متباينون، وبعضهم ولي لبعض { وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ } يخرجهم من الظلمات إلى النور، بسبب تقواهم وعملهم بطاعته.

{ هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }20


أي: { هَـٰذَا } القرآن الكريم والذكر الحكيم { بَصَائِرُ لِلنَّاسِ } أي: يحصل به التبصرة في جميع الأمور للناس، فيحصل به الانتفاع للمؤمنين، والهدى والرحمة.
{ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فيهتدون به إلى الصراط المستقيم، في أصول الدين وفروعه، ويحصل به الخير والسرور، والسعادة في الدنيا والآخرة، وهي الرحمة، فتزكو به نفوسهم، وتزداد به عقولهم، ويزيد به إيمانهم ويقينهم، وتقوم به الحجة على من أصر وعاند.
{ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }21


أي: أم حسب المسيؤون المكثرون من الذنوب، المقصرون في حقوق ربهم.
{ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } بأن قاموا بحقوق ربهم، واجتنبوا مساخطه، ولم يزالوا مؤثرين رضاه على هوى أنفسهم؟ أي: أحسبوا أن يكونوا { سَوَآءً } في الدنيا والآخرة؟ ساء ما ظنوا وحسبوا، وساء ما حكموا به، فإنه حكم يخالف حكمة أحكم الحاكمين، وخير العادلين، ويناقض العقول السليمة، والفطر المستقيمة، ويضاد ما نزلت به الكتب، وأخبرت به الرسل، بل الحكم الواقع القطعي، أن المؤمنين العاملين الصالحات لهم النصر والفلاح والسعادة والثواب، في العاجل والآجل، كل على قدر إحسانه، وأن المسيئين لهم الغضب والإهانة، والعذاب والشقاء، في الدنيا والآخرة.
{ وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }22


أي: خلق الله السماوات والأرض بالحكمة، وليُعبَد وحده لا شريك له، ثم يجازي بعد ذلك من أمرهم بعبادته، وأنعم عليم بالنعم الظاهرة والباطنة، هل شكروا الله تعالى، وقاموا بالمأمور؟ أم كفروا، فاستحقوا جزاء الكفور؟
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } 23 { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } 24 { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 25 { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }26


يقول تعالى: { أَفَرَأَيْتَ } الرجل الضال الذي { ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } فما هويه سلكه، سواء كان يرضي الله أو يسخطه. { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } من الله تعالى، أنه لا تليق به الهداية، ولا يزكو عليها. { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ } فلا يسمع ما ينفعه، { وَقَلْبِهِ } فلا يعي الخير، { وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } تمنعه من نظر الحق، { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ } أي: لا أحد يهديه، وقد سد الله عليه أبواب الهداية، وفتح له أبواب الغواية، وما ظلمه الله، ولكن هو الذي ظلم نفسه، وتسبب لمنع رحمة الله عليه { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ما ينفعكم فتسلكونه، وما يضركم فتجتنبونه.
{ وَقَالُواْ } أي: منكرو البعث { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } أي: إن هي إلا عادات، وجَرْيٌ على رسوم الليل والنهار، يموت أناس، ويحيا أناس، وما مات فليس براجع إلى الله، ولا مجازى بعمله.
وقولهم هذا صادر عن غير علم { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } فأنكروا المعاد وكذبوا الرسل الصادقين، من غير دليل دلهم على ذلك ولا برهان.
إن هي إلا ظنون، واستبعادات خالية عن الحقيقة، ولهذا قال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وهذا جراءة منهم على الله، حيث اقترحوا هذا الاقتراح، وزعموا أن صدق رسل الله متوقف على الإتيان بآبائهم، وأنهم لو جاؤوهم بكل آية لم يؤمنوا، إلا إن تبعتهم الرسل على ما قالوا وهم كذبة فيما قالوا، وإنما قصدهم دفع دعوة الرسل، لا بيان الحق، قال تعالى: { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } وإلا فلو وصل العلم باليوم الآخر إلى قلوبهم، لعملوا له أعمالاً وتهيؤوا له.

ابوالوليد المسلم
08-08-2020, 04:29 AM
الحلقة (530)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الجاثيةhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(27)الى الأية(37)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الجاثية
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ } 27 { وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } 28 { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } 29 { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } 30 { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱسْتَكْبَرْتُ مْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } 31 { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِي نَ } 32 { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } 33 { وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } 34 { ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } 35 { فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } 36 { وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }37


يخبر تعالى عن سعة ملكه، وانفراده بالتصرف والتدبير في جميع الأوقات، وأنه { يَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ } ويجمع الخلائق لموقف القيامة، يحصل الخسار على المبطلين، الذين أتوا بالباطل ليدحضوا به الحق، وكانت أعمالهم باطلة، لأنها متعلقه بالباطل، فبطلت في يوم القيامة، اليوم الذي تستبين به الحقائق، واضمحلت عنهم، وفاتهم الثواب، وحصلوا على أليم العقاب. ثم وصف تعالى شدة يوم القيامة وهوله ليحذره العِبَاد، ويستعد له العُبّاد، فقال: { وَتَرَىٰ } أيها الرائي لذلك اليوم { كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } على ركبها خوفاً وذعراً، وانتظاراً لحكم الملك الرحمن. { كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا } أي: إلى شريعة نبيهم الذي جاءهم من عند الله، وهل قاموا بها فيحصل لهم الثواب والنجاة؟ أم ضيعوها فيحصل لهم الخسران؟ فأمة موسى يدعون إلى شريعة موسى، وأمة عيسى كذلك، وأمة محمد كذلك، وهكذا غيرهم كل أمة تدعى إلى شرعها الذي كلفت به، هذا أحد الاحتمالات في الآية، وهو معنى صحيح في نفسه، غير مشكوك فيه، ويحتمل أن المراد بقوله: { كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا } أي: إلى كتاب أعمالها، وما سطر عليها من خير وشر، وأن كل أحد يجازى بما عمله بنفسه، كقوله تعالى:{ مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت: 46].
ويحتمل أن المعنيين كليهما مراد من الآية، ويدل على هذا قوله: { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ } أي: هذا كتابنا الذي أنزلنا عليكم، يفصل بينكم بالحق الذي هو العدل، { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فهذا كتاب الأعمال، ولهذا فصل ما يفعل الله بالفريقين فقال: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } إيماناً صحيحاً، وصدقوا إيمانهم بالأعمال الصالحة، من واجبات ومستحبات، { فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ } التي محلها الجنة، وما فيها من النعيم المقيم، والعيش السليم، { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } أي: المفاز والنجاة والربح، والفلاح الواضح البيِّن، الذي إذا حصل للعبد، حصل له كل خير، واندفع عنه كل شر. { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } بالله، فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً: { أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } وقد دلتكم على ما فيه صلاحكم، ونهتكم عما فيه ضرركم، وهي أكبر نعمة وصلت إليكم، لو وفقتم لها، ولكن استكبرتم عنها، وأعرضتم، وكفرتم بها، فجنيتم أكبر جناية، وأجرمتم أشد الجرم، فاليوم تجزون ما كنتم تعملون، ويوبخون أيضاً بقوله: { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم } منكرين لذلك: { مَّا نَدْرِي مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِي نَ }. فهذه حالهم في الدنيا، وحال البعث الإنكار له، وردّ قول من جاء به.
قال تعالى: { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } أي: وظهر لهم يوم القيامة عقوبات أعمالهم، { وَحَاقَ بِهِم } أي: نزل { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي: نزل بهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزؤون به وبوقوعه وبمن جاء به.
{ وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ } أي: نترككم في العذاب { كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } فإن الجزاء من جنس العمل، { وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } أي: هي مقركم ومصيركم، { وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ينصرونكم من عذاب الله، ويدفعون عنكم عقابه.
{ ذَلِكُم } الذي حصل لكم من العذاب { بِـ } سبب { أَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُواً } مع أنها موجبة للجد والاجتهاد، وتلقيها بالسرور والاستبشار والفرح.
{ وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } بزخارفها ولذاتها وشهواتها، فاطمأننتم إليها، وعملتم لها، وتركتم العمل للدار الباقية.
{ فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } أي: ولا يمهلون، ولا يردون إلى الدنيا ليعملوا صالحاً.
{ فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ } كما ينبغي لجلاله، وعظيم سلطانه { رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي: له الحمد على ربوبيته لسائر الخلائق، حيث خلقهم ورباهم، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، { وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي: له الجلال والعظمة والمجد.
فالحمد فيه الثناء على الله بصفات الكمال، ومحبته تعالى وإكرامه، والكبرياء فيها عظمته وجلاله، والعبادة مبنية على ركنين، محبة الله، والذل له، وهما ناشئان عن العلم بمحامد الله وجلاله وكبريائه.
{ وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ } القاهر لكل شيء، { ٱلْحَكِيمُ } الذي يضع الأشياء مواضعها، فلا يشرع ما يشرعه إلا لحكمة ومصلحة، ولا يخلق ما يخلقه إلا لفائدة ومنفعة.

ابوالوليد المسلم
11-08-2020, 03:50 AM
الحلقة (531)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الأحقافhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)الى الأية(10)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأحقاف
{ حـمۤ } 1 { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } 2 { مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ }3


هذا ثناء منه تعالى على كتابه العزيز وتعظيم له، وفي ضمن ذلك إرشاد العباد إلى الاهتداء بنوره، والإقبال على تدبر آياته، واستخراج كنوزه.
ولما بين إنزال كتابه المتضمن للأمر والنهي، ذكر خلقه السماوات والأرض، فجمع بين الخلق والأمر،{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } [الأعراف: 54] كما قال تعالى:{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } [الطلاق: 12] وكما قال تعالى:{ يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ * خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } [النحل: 2-3] فالله تعالى هو الذي خلق المكلفين، وخلق مساكنهم، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، ثم أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأمرهم ونهاهم، وأخبرهم أن هذه الدار دار أعمال وممر للعمال، لا دار إقامة لا يرحل عنها أهلها، وأنهم سينتقلون منها إلى دار الإقامة والقرار، وموطن الخلود والدوام، وإنما أعمالهم التي عملوها في هذه الدار، سيجدون ثوابها في تلك الدار كاملاً موفراً.
وأقام تعالى الأدلة على تلك الدار، وأذاق العباد نموذجاً من الثواب والعقاب العاجل، ليكون أدعى لهم إلى طلب المحبوب، والهرب من المرهوب، ولهذا قال هنا: { مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } أي: لا عبثاً ولا سدىً، بل ليعرف العباد عظمة خالقهما، ويستدلوا على كماله، ويعلموا أن الذي خلقهما على عظمهما، قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم للجزاء، وأن خلقهما وبقاءهما مقدر إلى { أَجَلٍ مُّسَمًّى }.
فلما أخبر بذلك - وهو أصدق القائلين وأقام الدليل، وأنار السبيل أخبر - مع ذلك - أن طائفة من الخلق قد أبوا إلا إعراضاً عن الحق، وصدوفاً عن دعوة الرسل، فقال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ } وأما الذين آمنوا، فلما علموا حقيقة الحال قبلوا وصايا ربهم، وتلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالانقياد والتعظيم، ففازوا بكل خير، واندفع عنهم كل شر.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 4 { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } 5 { وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }6


أي: { قُلْ } لهؤلاء الذين أشركوا بالله أوثاناً وأنداداً، لا تملك نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، قل لهم - مبيناً عجز أوثانهم، وأنها لا تستحق شيئاً من العبادة-: { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } هل خلقوا من أجرام السماوات والأرض شيئاً؟ هل خلقوا جبالاً؟ هل أجروا أنهاراً؟ هل نشروا حيواناً؟ هل أنبتوا أشجاراً؟ هل كان منهم معاونة على خلق شيء من ذلك؟ لا شيء من ذلك، بإقرارهم على أنفسهم، فضلاً عن غيرهم، فهذا دليل عقلي قاطع على أن كل من سوى الله، فعبادته باطلة. ثم ذكر انتفاء الدليل النقلي، فقال: { ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ } الكتاب يدعو إلى الشرك، { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } موروث عن الرسل يأمر بذلك. من المعلوم أنهم عاجزون أن يأتوا عن أحد من الرسل بدليل يدل على ذلك، بل نجزم ونتيقن أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد ربهم، ونهوا عن الشرك به، وهي أعظم ما يؤثر عنهم من العلم، قال تعالى:{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } [النحل: 36] وكل رسول قال لقومه:{ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف: 59] فعلم أن جدال المشركين في شركهم، غير مستندين فيه على برهان ولا دليل، وإنما اعتمدوا على ظنون كاذبة، وآراء كاسدة، وعقول فاسدة.
يدلُّك على فسادها استقراء أحوالهم، وتتبع علومهم وأعمالهم، والنظر في حال من أفنوا أعمارهم بعبادته، هل أفادهم شيئاً في الدنيا أو في الآخرة؟ ولهذا قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } أي: مدة مقامه في الدنيا، لا ينتفع به بمثقال ذرة، { وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } لا يسمعون منهم دعاء، ولا يجيبون لهم نداء، هذا حالهم في الدنيا، ويوم القيامة يكفرون بشركهم. { وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً } يلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض { وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }.
{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } 7 { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } 8 { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } 9 { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُ مْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }10


أي: وإذا تتلى على المكذبين { آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } بحيث تكون على وجه لا يمترى بها، ولا يشك في وقوعها وحقها، لم تفدهم خيراً، بل قامت عليهم بذلك الحجة، ويقولون من إفكهم وافترائهم { لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي: ظاهر لا شك فيه، وهذا من باب قلب الحقائق، الذي لا يروج إلا على ضعفاء العقول، وإلا فبين الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين السحر من المنافاة والمخالفة، أعظم مما بين السماء والأرض، وكيف يقاس الحق - الذي علا وارتفع ارتفاعاً على الأفلاك، وفاق بضوئه ونوره نور الشمس، وقامت الأدلة الأفقية والنفسية عليه، وأقرت به وأذعنت أولو البصائر والعقول الرزينة - بالباطل الذي هو السحر الذي لا يصدر إلا من ضال ظالم خبيث النفس، خبيث العمل؟! فهو مناسب له وموافق لحاله، وهل هذا إلا من البهرجة؟ { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } أي: افترى محمد هذا القرآن من عند نفسه، فليس هو من عند الله. { قُلْ } لهم: { إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ } فالله عليَّ قادر وبما تفيضون فيه عالم، فكيف لم يعاقبني على افترائي الذي زعمتم؟ فهل { تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } إن أرادني الله بضرٍ، أو أرادني برحمةٍ { كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فلو كنت متقولاً عليه، لأخذ مني باليمين، ولعاقبني عقاباً يراه كل أحد، لأن هذا أعظم أنواع الافتراء لو كنت متقولاً، ثم دعاهم إلى التوبة مع ما صدر منهم من معاندة الحق ومخاصمته، فقال: { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } أي: فتوبوا إليه، وأقلعوا عما أنتم فيه، يغفر لكم ذنوبكم، ويرحمكم، فيوفقكم للخير، ويثيبكم جزيل الأجر. { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ } أي: لست بأول رسول جاءكم، حتى تستغربوا رسالتي وتستنكروا دعوتي، فقد تقدم من الرسل والأنبياء من وافقت دعوتي دعوتهم، فلأي شيء تنكر رسالتي؟ { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } أي: لست إلا بشراً، ليس بيدي من الأمر شيء، والله تعالى هو المتصرف بي وبكم، الحاكم عليَّ وعليكم، ولست الآتي بالشيء من عندي، { وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } فإن قبلتم رسالتي، وأجبتم دعوتي، فهو حظكم ونصيبكم في الدنيا والآخرة، وإن رددتم ذلك عليَّ فحسابكم على الله، وقد أنذرتكم، ومن أنذر فقد أعذر. { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُ مْ } أي: أخبروني، لو كان هذا القرآن من عند الله، وشهد على صحته الموفقون من أهل الكتاب، الذين عندهم من الحق ما يعرفون أنه الحق، فآمنوا به واهتدوا، فتطابقت أنباء الأنبياء وأتباعهم النبلاء، واستكبرتم أيها الجهلاء الأغبياء، فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشد الكفر؟ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } ومن الظلم الاستكبار عن الحق بعد التمكن منه.

ابوالوليد المسلم
11-08-2020, 03:51 AM
الحلقة (532)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الأحقافhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(11)الى الأية(16)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأحقاف
{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } 11 { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } 12 { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } 13 { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُ مْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }14


أي: وإذا تتلى على المكذبين { آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } بحيث تكون على وجه لا يمترى بها، ولا يشك في وقوعها وحقها، لم تفدهم خيراً، بل قامت عليهم بذلك الحجة، ويقولون من إفكهم وافترائهم { لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي: ظاهر لا شك فيه، وهذا من باب قلب الحقائق، الذي لا يروج إلا على ضعفاء العقول، وإلا فبين الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين السحر من المنافاة والمخالفة، أعظم مما بين السماء والأرض، وكيف يقاس الحق - الذي علا وارتفع ارتفاعاً على الأفلاك، وفاق بضوئه ونوره نور الشمس، وقامت الأدلة الأفقية والنفسية عليه، وأقرت به وأذعنت أولو البصائر والعقول الرزينة - بالباطل الذي هو السحر الذي لا يصدر إلا من ضال ظالم خبيث النفس، خبيث العمل؟! فهو مناسب له وموافق لحاله، وهل هذا إلا من البهرجة؟ { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } أي: افترى محمد هذا القرآن من عند نفسه، فليس هو من عند الله. { قُلْ } لهم: { إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ } فالله عليَّ قادر وبما تفيضون فيه عالم، فكيف لم يعاقبني على افترائي الذي زعمتم؟ فهل { تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } إن أرادني الله بضرٍ، أو أرادني برحمةٍ { كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فلو كنت متقولاً عليه، لأخذ مني باليمين، ولعاقبني عقاباً يراه كل أحد، لأن هذا أعظم أنواع الافتراء لو كنت متقولاً، ثم دعاهم إلى التوبة مع ما صدر منهم من معاندة الحق ومخاصمته، فقال: { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } أي: فتوبوا إليه، وأقلعوا عما أنتم فيه، يغفر لكم ذنوبكم، ويرحمكم، فيوفقكم للخير، ويثيبكم جزيل الأجر.
{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ } أي: لست بأول رسول جاءكم، حتى تستغربوا رسالتي وتستنكروا دعوتي، فقد تقدم من الرسل والأنبياء من وافقت دعوتي دعوتهم، فلأي شيء تنكر رسالتي؟ { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } أي: لست إلا بشراً، ليس بيدي من الأمر شيء، والله تعالى هو المتصرف بي وبكم، الحاكم عليَّ وعليكم، ولست الآتي بالشيء من عندي، { وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } فإن قبلتم رسالتي، وأجبتم دعوتي، فهو حظكم ونصيبكم في الدنيا والآخرة، وإن رددتم ذلك عليَّ فحسابكم على الله، وقد أنذرتكم، ومن أنذر فقد أعذر.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُ مْ } أي: أخبروني، لو كان هذا القرآن من عند الله، وشهد على صحته الموفقون من أهل الكتاب، الذين عندهم من الحق ما يعرفون أنه الحق، فآمنوا به واهتدوا، فتطابقت أنباء الأنبياء وأتباعهم النبلاء، واستكبرتم أيها الجهلاء الأغبياء، فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشد الكفر؟ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } ومن الظلم الاستكبار عن الحق بعد التمكن منه.
{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } 15 { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ }16


هذا من لطفه تعالى بعباده وشكره للوالدين، أن وصَّى الأولاد وعهد إليهم أن يحسنوا إلى والديهم بالقول اللطيف، والكلام اللين، وبذل المال والنفقة، وغير ذلك من وجوه الإحسان.
ثم نبَّه على ذكر السبب الموجب لذلك، فذكر ما تحملته الأم من ولدها وما قاسته من المكاره وقت حملها، ثم مشقة ولادتها المشقة الكبيرة، ثم مشقة الرضاع وخدمة الحضانة، وليست المذكورات مدة يسيرة، ساعة أو ساعتين، وإنما ذلك مدة طويلة قدرها { ثَلٰثُونَ شَهْراً } للحمل تسعة أشهر ونحوها، والباقي للرضاع، هذا هو الغالب.
ويستدل بهذه الآية مع قوله:{ وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233] أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأن مدة الرضاع - وهي سنتان - إذا سقطت من الثلاثين شهراً، بقي ستة أشهر، مدة للحمل { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي: نهاية قوته وشبابه، وكمال عقله، { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ } أي: ألهمني ووفقني { أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } أي: نعم الدين، ونعم الدنيا، وشكره بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها، ومقابلته مِنَّتَهُ، بالاعتراف والعجز عن الشكر، والاجتهاد في الثناء بها على الله، والنعم على الوالدين، نِعَم على أولادهم وذريتهم، لأنهم لا بدَّ أن ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها، خصوصاً نِعَم الدين، فإن صلاح الوالدين بالعلم والعمل، من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم. { وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ } بأن يكون جامعاً لما يصلحه، سالماً مما يفسده، فهذا العمل الذي يرضاه الله ويقبله، ويثيب عليه.
{ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيْۤ } لما دعا لنفسه بالصلاح، دعا لذريته أن يصلح الله أحوالهم، وذكر أن صلاحهم يعود نفعه على والديهم لقوله: { وَأَصْلِحْ لِي }.
{ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } من الذنوب والمعاصي، ورجعت إلى طاعتك { وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }.
{ أُوْلَـٰئِكَ } الذين ذكرت أوصافهم { ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } وهو الطاعات، لأنهم يعملون أيضاً غيرها. { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } فِي جملة { أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ } فحصل لهم الخير والمحبوب، وزال عنهم الشر والمكروه.
{ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } أي: هذا الوعد الذي وعدناهم هو وعد صادقٌ من أصدق القائلين، الذي لا يخلف الميعاد.

ابوالوليد المسلم
11-08-2020, 03:52 AM
الحلقة (533)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الأحقافhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(17)الى الأية(26)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأحقاف
{ وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } 17 { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } 18 { وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُ مْ أَعْمَٰلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }19


لما ذكر تعالى حال الصالح البار لوالديه، ذكر حالة العاق، وأنها شر الحالات، فقال: { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ } إذ دعواه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وخوفاه الجزاء.
وهذا أعظم إحسان يصدر من الوالدين لولدهما، أن يدعواه إلى ما فيه سعادته الأبدية، وفلاحه السرمدي، فقابلهما بأقبح مقابلة، فقال: { أُفٍّ لَّكُمَآ } أي: تباً لكما، ولما جئتما به.
ثم ذكر وجه استبعاده وإنكاره لذلك فقال: { أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ } من قبري إلى يوم القيامة { وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي } على التكذيب، وسلفوا على الكفر، وهم الأئمة المقتدى بهم، لكل كفور وجهول ومعاند؟ { وَهُمَا } أي: والداه { يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ } عليه، ويقولان له: { وَيْلَكَ آمِنْ } أي: يبذلان غاية جهدهما، ويسعيان في هدايته أشد السعي، حتى إنهما - من حرصهما عليه - أنهما يستغيثان الله له، استغاثة الغريق، ويسألانه سؤال الشريق، ويعذلان ولدهما، ويتوجعان له، ويبينان له الحق، فيقولان: { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } ثم يقيمان عليه من الأدلة ما أمكنهما، وولدهما لا يزداد إلا عتواً ونفوراً، واستكباراً عن الحق وقدحاً فيه، { فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: إلا منقول من كتب المتقدمين، ليس من عند الله، ولا أوحاه الله إلى رسوله، وكل أحد يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أُمِّيٌّ لا يكتب ولا يقرأ، ولا تعلم من أحد، فمن أين يتعلَّمه؟ وأنَّى للخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً؟ { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ } بهذه الحالة الذميمة { حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } أي: حقت عليهم كلمة العذاب { فِيۤ } جملة { أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ } على الكفر والتكذيب، فسيدخل هؤلاء في غمارهم، وسيغرقون في تيارهم.
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } والخسران فوات رأس مال الإنسان، وإذا فقد رأس ماله، فالأرباح من باب أولى وأحرى، فهم قد فاتهم الإيمان، ولم يحصلوا على شيء من النعيم، ولا سلموا من عذاب الجحيم. { وَلِكُلٍّ } من أهل الخير وأهل الشر { دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } أي: كلٌّ على حسب مرتبته من الخير والشر، ومنازلهم في الدار الآخرة على قدر أعمالهم، ولهذا قال: { وَلِيُوَفِّيَهُ مْ أَعْمَٰلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بأن لا يزاد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم.
{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ }20


يذكر تعالى حال الكفار عند عرضهم على النار حين يوبخون ويقرعون، فيقال لهم: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا } حيث اطمأننتم إلى الدنيا، واغتررتم بلذاتها، ورضيتم بشهواتها، وألهتكم طيباتها عن السعي لآخرتكم، وتمتعتم تمتع الأنعام السارحة فهي حظكم من آخرتكم، { فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } أي: العذاب الشديد، الذي يهينكم ويفضحكم بما كنتم تقولون على الله غير الحق، أي: تنسبون الطريق الضالة التي أنتم عليها إلى الله، وإلى حكمه، وأنتم كذبة في ذلك، { وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } أي: تتكبرون عن طاعته، فجمعوا بين قول الباطل، والعمل بالباطل، والكذب على الله بنسبته إلى رضاه، والقدح في الحق، والاستكبار عنه، فعوقبوا أشد العقوبة.
{ وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِٱلأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } 21 { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } 22 { قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } 23 { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } 24 { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } 25 { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }26


{ وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِٱلأَحْقَافِ } إلى آخر القصة أي: { وَٱذْكُرْ } بالثناء الجميل { أَخَا عَادٍ } وهو هود عليه السلام، حيث كان من الرسل الكرام، الذين فضلهم الله تعالى بالدعوة إلى دينه، وإرشاد الخلق إليه.
{ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ } وهم عاد { بِٱلأَحْقَافِ } أي: في منازلهم المعروفة بالأحقاف، وهي: الرمال الكثيرة في أرض اليمن. { وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } فلم يكن بدعاً منهم ولا مخالفاً لهم، قائلاً لهم: { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
فأمرهم بعبادة الله، الجامعة لكل قولٍ سديد وعمل حميد، ونهاهم عن الشرك والتنديد، وخوّفهم - إن لم يطيعوه - العذاب الشديد، فلم تفد فيهم تلك الدعوة.
{ قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } أي: ليس لك من القصد، ولا معك من الحق، إلا أنك حسدتنا على آلهتنا، فأردت أن تصرفنا عنها.
{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } وهذا غاية الجهل والعناد.
{ قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ } فهو الذي بيده أزمة الأمور ومقاليدها، وهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء.
{ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ } أي: ليس عليَّ إلا البلاغ المبين، { وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } فلذلك صدر منكم ما صدر من هذه الجرأة الشديدة، فأرسل الله عليهم العذاب العظيم، وهو الريح التي دمرتهم وأهلكتهم، ولهذا قال: { فَلَمَّا رَأَوْهُ } أي: العذاب { عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي: معترضاً كالسحاب، قد أقبل على أوديتهم التي تسيل، فتسقي نوابتهم، ويشربون من آبارها وغُدْرانها. { قَالُواْ } مستبشرين: { هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } أي: هذا السحاب سيمطرنا. قال تعالى: { بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ } أي: هذا الذي جنيتم به على أنفسكم، حيث قلتم: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } تمر عليه من شدتها ونحسها. فسلطها الله عليهم{ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة: 7] [ { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي: بإذنه ومشيئته].
{ فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } قد تلفت مواشيهم وأموالهم وأنفسهم.
{ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } بسبب جرمهم وظلمهم، هذا مع أن الله تعالى قد أدَّر عليهم النعم العظيمة، فلم يشكروه، ولا ذكروه، ولهذا قال: { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } أي: مكناهم في الأرض يتناولون طيباتها، ويتمتعون بشهواتها، وعمرناهم عمراً، يتذكر فيه من تذكر، ويتعظ فيه المهتدي، أي: ولقد مكنا عاداً كما مكناكم يا هؤلاء المخاطبون، أي: فلا تحسبوا أن ما مكناكم فيه مختص بكم، وأنه سيدفع عنكم من عذاب الله شيئاً، بل غيركم أعظم منكم تمكيناً، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا جنودهم من الله شيئاً.
{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً } أي: لا قصور في أسماعهم ولا أبصارهم ولا أذهانهم، حتى يقال إنهم تركوا الحق جهلاً منهم، وعدم تمكن من العلم به، ولا خلل في عقولهم، ولكن التوفيق بيد الله.
{ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ } لا قليل ولا كثير، وذلك بسبب أنهم { يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على توحيده وإفراده بالعبادة.
{ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي: نزل بهم العذاب الذي يكذبون بوقوعه، ويستهزؤون بالرسل الذين حذروهم منه.

ابوالوليد المسلم
11-08-2020, 03:52 AM
الحلقة (534)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الأحقافhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(27)الى الأية(36)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الأحقاف
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } 27 { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }28


يحذر تعالى مشركي العرب وغيرهم، بإهلاك الأمم المكذبين، الذين هم حول ديارهم، بل كثير منهم في جزيرة العرب، كعاد وثمود ونحوهم، وأن الله تعالى صرَّف لهم الآيات، أي: نوَّعها من كل وجه، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عما هم عليه من الكفر والتكذيب، فلما لم يؤمنوا، أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، ولم تنفعهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء، ولهذا قال هنا: { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ } أي: يتقربون إليهم، ويتألهونهم لرجاء نفعهم. { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } فلم يجيبوهم، ولا دفعوا عنهم، { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من الكذب، الذي يمنون به أنفسهم، حيث يزعمون أنهم على الحق، وأن أعمالهم ستنفعهم، فضلت وبطلت.
{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } 29 { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } 30 { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } 31 { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }32


كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الخلق، إنسهم وجنهم، وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة.
فالإنس، يمكنه عليه الصلاة والسلام دعوتهم وإنذارهم، وأما الجن، فصرفهم الله إليه بقدرته، وأرسل إليه { نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ } أي: وصَّى بعضهم بعضاً بذلك، { فَلَمَّا قُضِيَ } وقد وعوه، وأثَّر ذلك فيهم { وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } نصحاً منهم لهم، وإقامة لحجة الله عليهم، وقيضهم الله معونة لرسوله صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته في الجن.
{ قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } لأن كتاب موسى أصل للإنجيل، وعمدة لبني إسرائيل في أحكام الشرع، وإنما الإنجيل متمم ومكمل ومغير لبعض الأحكام.
{ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ } هذا الكتاب الذي سمعناه { إِلَى ٱلْحَقِّ } وهو الصواب في كل مطلوب وخبر، { وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } موصل إلى الله، وإلى جنته، من العلم بالله، وبأحكامه الدينية، وأحكام الجزاء.
فلما مدحوا القرآن وبينوا محله ومرتبته، دعوهم إلى الإيمان به، فقالوا: { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ } أي: الذي لا يدعو إلا إلى ربه، لا يدعوكم إلى غرض من أغراضه ولا هوى، وإنما يدعوكم إلى ربكم، ليثيبكم، ويزيل عنكم كل شر ومكروه، ولهذا قالوا: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وإذا أجارهم من العذاب الأليم، فما ثمَّ بعد ذلك إلا النعيم، فهذا جزاء من أجاب داعي الله.
{ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ } فإن الله على كل شيء قدير، فلا يفوته هارب، ولا يغالبه مغالب. { وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وأيُّ ضلال أبلغ من ضلال من نادته الرسل، ووصلت إليه النذر بالآيات البينات، والحجج المتواترات، فأعرض واستكبر؟!!

{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } 33 { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } 34 { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } 35 { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }36


كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الخلق، إنسهم وجنهم، وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة.
فالإنس، يمكنه عليه الصلاة والسلام دعوتهم وإنذارهم، وأما الجن، فصرفهم الله إليه بقدرته، وأرسل إليه { نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ } أي: وصَّى بعضهم بعضاً بذلك، { فَلَمَّا قُضِيَ } وقد وعوه، وأثَّر ذلك فيهم { وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } نصحاً منهم لهم، وإقامة لحجة الله عليهم، وقيضهم الله معونة لرسوله صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته في الجن. { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } لأن كتاب موسى أصل للإنجيل، وعمدة لبني إسرائيل في أحكام الشرع، وإنما الإنجيل متمم ومكمل ومغير لبعض الأحكام.
{ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ } هذا الكتاب الذي سمعناه { إِلَى ٱلْحَقِّ } وهو الصواب في كل مطلوب وخبر، { وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } موصل إلى الله، وإلى جنته، من العلم بالله، وبأحكامه الدينية، وأحكام الجزاء. فلما مدحوا القرآن وبينوا محله ومرتبته، دعوهم إلى الإيمان به، فقالوا: { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ } أي: الذي لا يدعو إلا إلى ربه، لا يدعوكم إلى غرض من أغراضه ولا هوى، وإنما يدعوكم إلى ربكم، ليثيبكم، ويزيل عنكم كل شر ومكروه، ولهذا قالوا: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وإذا أجارهم من العذاب الأليم، فما ثمَّ بعد ذلك إلا النعيم، فهذا جزاء من أجاب داعي الله.
{ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ } فإن الله على كل شيء قدير، فلا يفوته هارب، ولا يغالبه مغالب.
{ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وأيُّ ضلال أبلغ من ضلال من نادته الرسل، ووصلت إليه النذر بالآيات البينات، والحجج المتواترات، فأعرض واستكبر؟!!

ابوالوليد المسلم
11-08-2020, 03:53 AM
الحلقة (535)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة محمدhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)الى الأية(9)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة محمد
{ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ } 1 { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } 2 { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَاطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ }3


هذه الآيات مشتملات على ذكر ثواب المؤمنين وعقاب العاصين، والسبب في ذلك، ودعوة الخلق إلى الاعتبار بذلك، فقال: { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } وهؤلاء رؤساء الكفر، وأئمة الضلال، الذين جمعوا بين الكفر بالله وآياته، والصد لأنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، التي هي الإيمان بما دعت إليه الرسل واتباعه.
فهؤلاء { أَضَلَّ } الله { أَعْمَٰلَهُمْ } أي: أبطلها وأشقاهم بسببها، وهذا يشمل أعمالهم التي عملوها ليكيدوا بها الحق وأولياء الله، أن الله جعل كيدهم في نحورهم، فلم يدركوا مما قصدوا شيئاً، وأعمالهم التي يرجون أن يثابوا عليها، أن الله سيحبطها عليهم، والسبب في ذلك أنهم اتبعوا الباطل، وهو كل غاية لا يراد بها وجه الله من عبادة الأصنام والأوثان، والأعمال التي في نصر الباطل لما كانت باطلة، كانت الأعمال لأجلها باطلة.
وأما { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بما أنزل الله على رسله عموماً، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم خصوصاً، { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } بأن قاموا بما عليهم من حقوق الله، وحقوق العباد الواجبة والمستحبة.
{ كَفَّرَ } الله { عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } صغارها وكبارها، وإذا كُفِّرت سيئاتهم، نجوا من عذاب الدنيا والآخرة.
{ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي: أصلح دينهم ودنياهم، وقلوبهم وأعمالهم، وأصلح ثوابهم، بتنميته وتزكيته، وأصلح جميع أحوالهم، والسبب في ذلك أنهم: { ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ } الذي هو الصدق واليقين، وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم، الصادر { مِن رَّبِّهِمْ } الذي رباهم بنعمته، ودبرهم بلطفه فرباهم تعالى بالحق فاتبعوه، فصلحت أمورهم، فلما كانت الغاية المقصودة لهم، متعلقة بالحق المنسوب إلى الله الباقي الحق المبين، كانت الوسيلة صالحة باقية، باقياً ثوابها.
{ كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } حيث بيَّن لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر، وذكر لكل منهم صفة يعرفون بها ويتميزون{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [الأنفال: 42].
{ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } 4 { سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } 5 { وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ }6


يقول تعالى - مرشداً عباده إلى ما فيه صلاحهم، ونصرهم على أعدائهم -: { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } في الحرب والقتال، فاصدقوهم القتال، واضربوا منهم الأعناق، حَتَّى تثخنوهم وتكسروا شوكتهم وتبطلوا شرتهم، فإذا فعلتم ذلك، ورأيتم الأسر أولى وأصلح، { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } أي: الرباط، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا، فإذا شدّ منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم، فإذا كانوا تحت أسركم، فأنتم بالخيار بين المنّ عليهم، وإطلاقهم بلا مال ولا فداء، وإما أن تفدوهم بأن لا تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم، أو يشتريهم أصحابهم بمال، أو بأسير مسلم عندهم. وهذا الأمر مستمر { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي: حتى لا يبقى حرب، وتبقون في المسألة والمهادنة، فإن لكل مقام مقالاً، ولكل حال حكماً، فالحال المتقدمة، إنما هي إذا كان قتال وحرب.
فإذا كان في بعض الأوقات، لا حرب فيه لسبب من الأسباب، فلا قتل ولا أسر. { ذَلِكَ } الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، ومداولة الأيام بينهم، وانتصار بعضهم على بعض { وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } فإنه تعالى على كل شيء قدير، وقادر على أن لا ينتصر الكفار في موضع واحد أبداً، حتى يبيد المسلمون خضراءهم.
{ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } ليقوم سوق الجهاد، ويتبين بذلك أحوال العباد، الصادق من الكاذب، وليؤمن من آمن إيماناً صحيحاً عن بصيرة، لا إيماناً مبنياً على متابعة أهل الغلبة، فإنه إيمان ضعيف جداً، لا يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والبلايا.
{ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } لهم ثواب جزيل، وأجر جميل، وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم، لتكون كلمة الله هي العليا. فهؤلاء لن يضل الله أعمالهم، أي: لن يحبطها ويبطلها، بل يتقبلها وينميها لهم، ويظهر من أعمالهم نتائجها، في الدنيا والآخرة.
{ سَيَهْدِيهِمْ } إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الجنة، { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي: حالهم وأمورهم، وثوابهم يكون صالحاً كاملاً لا نكد فيه ولا تنغيص بوجه من الوجوه.
{ وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي: عرفها أولاً، بأن شوقهم إليها، ونعتها لهم، وذكر لهم الأعمال الموصلة إليها، التي من جملتها القتل في سبيله، ووفقهم للقيام بما أمرهم به ورغَّبهم فيه، ثم إذا دخلوا الجنة، عرفهم منازلهم، وما احتوت عليه من النعيم المقيم، والعيش السليم.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } 7 { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } 8 { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ }9


هذا أمر منه تعالى للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم الله وثبَّت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره.
وأما الذين كفروا بربهم، ونصروا الباطل، فإنهم في تعس، أي: انتكاس من أمرهم وخذلان.
{ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي: أبطل أعمالهم التي يكيدون بها الحق، فرجع كيدهم في نحورهم، وبطلت أعمالهم التي يزعمون أنهم يريدون بها وجه الله. ذلك الإضلال والتعس للذين كفروا، بسبب أنهم { كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } من القرآن الذي أنزله الله، صلاحاً للعباد، وفلاحاً لهم، فلم يقبلوه، بل أبغضوه وكرهوه، { فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ }.

ابوالوليد المسلم
11-08-2020, 03:54 AM
الحلقة (536)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة محمدhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(10)الى الأية(17)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة محمد
{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } 10 { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ }11


أي: أفلا يسير هؤلاء المكذبون بالرسول صلى الله عليه وسلم، { فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } فإنهم لا يجدون عاقبتهم إلا شر العواقب، فإنهم لا يلتفتون يمنة ولا يسرة إلا وجدوا ما حولهم، قد بادوا وهلكوا، واستأصلهم التكذيب والكفر، فخمدوا، ودمَّر الله عليهم أموالهم وديارهم، بل دمر أعمالهم ومكرهم، وللكافرين في كل زمان ومكان، أمثال هذه العواقب الوخيمة، والعقوبات الذميمة. وأما المؤمنون، فإن الله تعالى ينجيهم من العذاب، ويجزل لهم كثير الثواب. { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } فتولاهم برحمته، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، وتولى جزاءهم ونصرهم، { وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ } بالله تعالى، حيث قطعوا عنهم ولاية الله، وسدوا على أنفسهم رحمته { لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ } يهديهم إلى سبل السلام، ولا ينجيهم من عذاب الله وعقابه، بل أولياؤهم الطاغوت، يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ }12


لما ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين، ذكر ما يفعل بهم في الآخرة، من دخول الجنات، التي تجري من تحتها الأنهار، التي تسقي تلك البساتين الزاهرة، والأشجار الناظرة المثمرة، لكل زوج بهيج، وكل فاكهة لذيذة.
ولما ذكر أن الكافرين لا مولى لهم، ذكر أنهم وُكِلُوا إلى أنفسهم، فلم يتصفوا بصفات المروءة، ولا الصفات الإنسانية، بل نزلوا عنها دركات، وصاروا كالأنعام، التي لا عقل لها ولا فضل، بل جُلُّ همهم ومقصدهم التمتع بلذات الدنيا وشهواتها، فترى حركاتهم الظاهرة والباطنة دائرة حولها، غير متعدية لها إلى ما فيه الخير والسعادة، ولهذا كانت النار مثوى لهم، أي: منزلاً معداً، لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم من عذابها.

{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ }13


أي: وكم من قرية من قرى المكذبين، هي أشد قوة من قريتك، في الأموال والأولاد والأعوان، والأبنية والآلات. { أَهْلَكْنَاهُمْ } حين كذبوا رسلنا، ولم تفد فيهم المواعظ، فلا نجد لهم ناصراً، ولم تغن عنهم قوتهم من عذاب الله شيئاً. فكيف حال هؤلاء الضعفاء، أهل قريتك، إذ أخرجوك عن وطنك وكذبوك، وعادوك، وأنت أفضل المرسلين، وخير الأولين والآخرين؟! أليسوا بأحق من غيرهم بالإهلاك والعقوبة، لولا أن الله تعالى بعث رسوله بالرحمة والتأني بكل كافر وجاحد؟

{ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ }14


أي: لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه، علماً وعملاً، قد علم الحق واتبعه، ورجا ما وعده الله لأهل الحق، كمن هو أعمى القلب، قد رفض الحق وأضله، واتبع هواه بغير هدى من الله، ومع ذلك، يرى أن ما هو عليه من الحق، فما أبعد الفرق بين الفريقين! وما أعظم التفاوت بين الطائفتين، أهل الحق وأهل الغيّ!.

{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ }15


أي: مثل الجنة التي أعدها الله لعباده، الذين اتقوا سخطه، واتبعوا رضوانه، أي: نعتها وصفتها الجميلة. { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ } أي: غير متغير، لا بوخم ولا بريح منتنة، ولا بمرارةٍ، ولا بكدورة، بل هو أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها ريحاً، وألذها شرباً. { وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } بحموضة ولا غيرها، { طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } أي: يلتذ به شاربه لذةً عظيمة، لا كخمر الدنيا الذي يكره مذاقه ويصدع الرأس، ويغول العقل. { وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } من شمعه، وسائر أوساخه. { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } من نخيل، وعنب، وتفاح، ورمان، وأترج، وتين، وغير ذلك مما لا نظير له في الدنيا، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم. ثم قال: { وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } يزول بها عنهم المرهوب، فأي هؤلاء خير أم من هو خالد في النار التي اشتد حرها، وتضاعف عذابها، { وَسُقُواْ } فيها { مَآءً حَمِيماً } أي: حاراً جداً، { فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } فسبحان من فاوت بين الدارين والجزاءين، والعاملين والعملين.

{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } 16 { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ }17


يقول تعالى: ومن المنافقين { مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } ما تقول استماعاً، لا عن قبول وانقياد، بل معرضة قلوبهم عنه، ولهذا قال: { حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } مستفهمين عما قلت، وما سمعوا، مما لم يكن لهم فيه رغبة { مَاذَا قَالَ آنِفاً } أي: قريباً، وهذا في غاية الذم لهم، فإنهم لو كانوا حريصين على الخير لألقوا إليه أسماعهم، ووعته قلوبهم، وانقادت له جوارحهم، ولكنهم بعكس هذه الحال، ولهذا قال: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أي: ختم عليها، وسد أبواب الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم، التي لا يهوون فيها إلا الباطل. ثم بين حال المهتدين، فقال: { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ } بالإيمان والانقياد، واتباع ما يرضي الله { زَادَهُمْ هُدًى } شكراً منه تعالى لهم على ذلك، { وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } أي: وفقهم للخير، وحفظهم من الشر، فذكر للمهتدين جزاءين: العلم النافع، والعمل الصالح.

ابوالوليد المسلم
11-08-2020, 03:54 AM
الحلقة (537)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة محمدhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(18)الى الأية(23)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة محمد

{ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَٰهُمْ }18


أي: فهل ينظر هؤلاء المكذبون أو ينتظرون { إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } أي: فجأة، وهم لا يشعرون { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } أي: علاماتها الدالة على قربها. { فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَٰهُمْ } أي: من أين لهم، إذا جاءتهم الساعة وانقطعت آجالهم أن يتذكروا ويستعتبوا؟ قد فات ذلك، وذهب وقت التذكر، فقد عمروا ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءهم النذير. ففي هذا الحث على الاستعداد قبل مفاجأة الموت، فإن موت الإنسان قيام ساعته.
{ فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }19


العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته، بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه. وهذا العلم الذي أمر الله به - وهو العلم بتوحيد الله - فرض عين على كل إنسان، لا يسقط عن أحد، كائناً من كان، بل كلٌّ مضطرٌ إلى ذلك.
والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا هو أمور:
أحدها بل أعظمها: تدبر أسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته، فإنها توجب بذل الجهد في التأله له، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال.
الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية.
الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته، والتأله له وحده لا شريك له.
الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به، فإن هذا داع إلى العلم، بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.
الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة، وأنها ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ولا ينصرون من عبدهم، ولا ينفعونهم بمثقال ذرة، من جلب خير أو دفع شر، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا هو وبطلان إلهية ما سواه.
السادس: اتفاق كتب الله على ذلك، وتواطؤها عليه.
السابع: أن خواص الخلق، الذين هم أكمل الخليقة أخلاقاً وعقولاً، ورأياً وصواباً، وعلماً - وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون - قد شهدوا لله بذلك.
الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية، التي تدل على التوحيد أعظم دلالة، وتنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته، وبديع حكمته، وغرائب خلقه.
فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله، وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمل العبد في بعضها، لا بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت، وقامت أدلة التوحيد من كل جانب، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد، بحيث يكون كالجبال الرواسي، لا تزلزله الشبه والخيالات، ولا يزداد - على تكرر الباطل والشبه- إلا نمواً وكمالاً.
هذا، وإن نظرت إلى الدليل العظيم، والأمر الكبير - وهو تدبر هذا القرآن العظيم، والتأمل في آياته - فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله ما لا يحصل في غيره. وقوله: { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } أي: اطلب من الله المغفرة لذنبك، بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة والدعاء بالمغفرة، والحسنات الماحية، وترك الذنوب والعفو عن الجرائم.
{ وَ } استغفر أيضاً { لِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } فإنهم - بسبب إيمانهم - كان لهم حق على كل مسلم ومسلمة.
ومن جملة حقوقهم أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم، وإذا كان مأموراً بالاستغفار لهم المتضمن لإزالة الذنوب وعقوباتها عنهم، فإن من لوازم ذلك النصح لهم، وأن يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه، ويأمرهم بما فيه الخير لهم، وينهاهم عما فيه ضررهم، ويعفو عن مساويهم ومعايبهم، ويحرص على اجتماعهم اجتماعاً تتألف به قلوبهم، ويزول ما بينهم من الأحقاد المفضية للمعاداة والشقاق، الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم.
{ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ } أي: تصرفاتكم وحركاتكم، وذهابكم ومجيئكم، { وَمَثْوَاكُمْ } الذي به تستقرون، فهو يَعْلمكم في الحركات والسكنات، فيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
{ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ } 20 { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } 21 { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ } 22 { أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ }23


يقول تعالى: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } استعجالاً ومبادرةً للأوامر الشاقة: { لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } أي: فيها الأمر بالقتال.
{ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ } أي: ملزم العمل بها، { وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ } الذي هو أشق شيء على النفوس، لم يثبت ضعفاء الإيمان على امتثال هذه الأوامر، ولهذا قال: { رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } من كراهتهم لذلك، وشدته عليهم. وهذا كقوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء: 77].
ثم ندبهم تعالى إلى ما هو الأليق بحالهم، فقال: { فَأَوْلَىٰ لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } أي: فأولى لهم أن يمتثلوا الأمر الحاضر المحتم عليهم، ويجمعوا عليه هممهم، ولا يطلبوا أن يشرع لهم ما هو شاق عليهم، وليفرحوا بعافية الله تعالى وعفوه. { فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ } أي: جاءهم الأمر جد، وأمر محتم، ففي هذه الحال لو صدقوا الله بالاستعانة به، وبذل الجهد في امتثاله { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } من حالهم الأولى، وذلك من وجوه: منها: أن العبد ناقص من كل وجه، لا قدرة له إلا إن أعانه الله، فلا يطلب زيادة على ما هو قائم بصدده. ومنها: أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل، ضعف عن العمل، بوظيفة وقته، وبوظيفة المستقبل، أما الحال، فلأن الهمة انتقلت عنه إلى غيره، والعمل تبع للهمة، وأما المستقبل، فإنه لا يجيء حتى تفتر الهمة عن نشاطها فلا يعان عليه. ومنها: أن العبد المؤمل للآمال المستقبلة، مع كسله عن عمل الوقت الحاضر، شبيه بالمتأليِّ الذي يجزم بقدرته، على ما يستقبل من أموره، فأحرى به أن يخذل ولا يقوم بما هَمَّ به ووطن نفسه عليه، فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكرته ونشاطه على وقته الحاضر، ويؤدي وظيفته بحسب قدرته، ثم كلما جاء وقت استقبله بنشاط وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة، مستعيناً بربه في ذلك، فهذا حريٌ بالتوفيق والتسديد في جميع أموره.
ثم ذكر تعالى حال المتوليِّ عن طاعة ربه، وأنه لا يتولى إلى خير، بل إلى شر، فقال: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ } أي: فهما أمران، إما التزام لطاعة الله، وامتثال لأوامره، فثَمَّ الخير والرشد والفلاح، وإما إعراضٌ عن ذلك، وتولي عن طاعة الله، فما ثمَّ إلا الفساد في الأرض بالعمل بالمعاصي وقطيعة الأرحام. { أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ } أفسدوا في الأرض، وقطعوا أرحامهم { لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ } بأن أبعدهم عن رحمته، وقربوا من سخط الله.
{ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ } أي: جعلهم لا يسمعون ما ينفعهم ولا يبصرونه، فلهم آذان، ولكن لا تسمع سماع إذعان وقبول، وإنما تسمع سماعاً تقوم به حجة الله عليها، ولهم أعين، ولكن لا يبصرون بها العبر والآيات، ولا يلتفتون بها إلى البراهين والبينات.

ابوالوليد المسلم
11-08-2020, 03:55 AM
الحلقة (538)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة محمدhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(24)الى الأية(31)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة محمد



{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ }24


أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله، ويتأملونه حق التأمل، فإنهم لو تدبروه، لدَلَّهم على كل خير، ولحَذَّرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبيَّن لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر، ولعرَّفهم بربهم، وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوَّقهم إلى الثواب الجزيل، ورهَّبهم من العقاب الوبيل.
{ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } أي: قد أغلق على ما فيها من الشر وأقفلت، فلا يدخلها خير أبداً؟ هذا هو الواقع.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ } 25 { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } 26 { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } 27 { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَٰنَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ }28


يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى والإيمان على أعقابهم إلى الضلال والكفران، ذلك لا عن دليل دلهم ولا برهان، وإنما هو تسويل من عدوهم الشيطان وتزيين لهم، وإملاء منه لهم:{ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } [النساء: 120].
وذلك أنهم قد تبين لهم الهدى، فزهدوا فيه ورفضوه، و { قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ } من المبارزين العداوة لله ولرسوله { سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ } أي: الذي يوافق أهواءهم، فلذلك عاقبهم الله بالضلال، والإقامة على ما يوصلهم إلى الشقاء الأبدي، والعذاب السرمدي.
{ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } فلذلك فضحهم، وبينها لعباده المؤمنين، لئلا يغتروا بها.
{ فَكَيْفَ } ترى حالهم الشنيعة، ورؤيتهم الفظيعة { إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } الموكلون بقبض أرواحهم، { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } بالمقامع الشديدة؟! { ذَلِكَ } العذاب الذي استحقوه ونالوه { بِـ } سبب { أَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ } من كل كفر وفسوق وعصيان.
{ وَكَرِهُواْ رِضْوَٰنَهُ } فلم يكن لهم رغبة فيما يقربهم إليه، ولا يدنيهم منه، { فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ } أي: أبطلها وأذهبها، وهذا بخلاف من اتبع ما يرضي الله وكره سخطه، فإنه سيكفر عنه سيئاته، ويضاعف أجره وثوابه.

{ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } 29 { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } 30 { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ }31


يقول تعالى: { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } من شبهة أو شهوة، بحيث تخرج القلب عن حال صحته واعتداله، أن الله لا يخرج ما في قلوبهم من الأضغان والعداوة للإسلام وأهله؟ هذا ظن لا يليق بحكمة الله، فإنه لا بد أن يميز الصادق من الكاذب، وذلك بالابتلاء بالمحن، التي من ثبت عليها، ودام إيمانه فيها، فهو المؤمن حقيقة، ومن ردته على عقبيه فلم يصبر عليها، وحين أتاه الامتحان، جزع وضعف إيمانه، وخرج ما في قلبه من الضغن، وتبين نفاقه، هذا مقتضى الحكمة الإلهية، مع أنه تعالى قال: { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } أي: بعلاماتهم التي هي كالوسم في وجوههم.
{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } أي: لا بد أن يظهر ما في قلوبهم، ويتبين بفلتات ألسنتهم، فإن الألسن مغارف القلوب، يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } فيجازيكم عليها.
ثم ذكر أعظم امتحان يمتحن به عباده، وهو الجهاد في سبيل الله، فقال: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } أي: نختبر إيمانكم وصبركم، { حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } فمن امتثل أمر الله وجاهد في سبيل الله لنصر دينه وإعلاء كلمته فهو المؤمن حقاً، ومن تكاسل عن ذلك، كان ذلك نقصاً في إيمانه.

ابوالوليد المسلم
11-08-2020, 03:56 AM
الحلقة (539)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة محمدhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(32)الى الأية(38)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة محمد


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ }32


هذا وعيد شديد لمن جمع أنواع الشر كلها، من الكفر بالله، وصد الخلق عن سبيل الله الذي نصبه موصلاً إليه.
{ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ } أي: عاندوه وخالفوه عن عمد وعناد، لا عن جهل وغي وضلال، فإنهم { لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } فلا ينقص به ملكه.
{ وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ } أي: مساعيهم التي بذلوها في نصر الباطل، بأن لا تثمر لهم إلا الخيبة والخسران، وأعمالهم التي يرجون بها الثواب، لا تقبل لعدم وجود شرطها.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ }33


يأمر تعالى المؤمنين بأمر به تتم أمورهم، وتحصل سعادتهم الدينية والدنيوية، وهو: طاعته وطاعة رسوله في أصول الدين وفروعه، والطاعة هي امتثال الأمر، واجتناب النهي على الوجه المأمور به بالإخلاص وتمام المتابعة.
وقوله: { وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ } يشمل النهي عن إبطالها بعد عملها، بما يفسدها، من مَنّ بها وإعجاب، وفخر وسمعة، ومن عملٍ بالمعاصي التي تضمحل معها الأعمال، ويحبط أجرها، ويشمل النهي عن إفسادها حال وقوعها بقطعها، أو الإتيان بمفسد من مفسداتها. فمبطلات الصلاة والصيام والحج ونحوها، كلها داخلة في هذا، ومنهيٌّ عنها، ويستدل الفقهاء بهذه الآية على تحريم قطع الفرض، وكراهة قطع النفل، من غير موجب لذلك، وإذا كان الله قد نهى عن إبطال الأعمال، فهو أمر بإصلاحها، وإكمالها وإتمامها، والإتيان بها، على الوجه الذي تصلح به علماً وعملاً.
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } 34 { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }35


هذه الآية والتي في البقرة قوله:{ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [البقرة: 217] مقيدتان، لكل نص مطلق، فيه إحباط العمل بالكفر، فإنه مقيد بالموت عليه، فقال هنا: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر { وَصَدُّواْ } الخلق { عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } بتزهيدهم إياهم بالحق، ودعوتهم إلى الباطل، وتزيينه، { ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } لم يتوبوا منه، { فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } لا بشفاعة ولا بغيرها، لأنه قد تحتم عليهم العقاب، وفاتهم الثواب، ووجب عليهم الخلود في النار، وسدت عليهم رحمة الرحيم الغفار.
ومفهوم الآية الكريمة أنهم إن تابوا من ذلك قبل موتهم، فإن الله يغفر لهم ويرحمهم، ويدخلهم الجنة، ولو كانوا مفنين أعمارهم في الكفر به والصد عن سبيله، والإقدام على معاصيه، فسبحان من فتح لعباده أبواب الرحمة، ولم يغلقها عن أحد، ما دام حياً متمكناً من التوبة.
وسبحان الحليم، الذي لا يعاجل العاصين بالعقوبة، بل يعافيهم، ويرزقهم، كأنهم ما عصوه مع قدرته عليهم. ثم قال تعالى: { فَلاَ تَهِنُواْ } أي: لا تضعفوا عن قتال عدوكم، ويستولي عليكم الخوف، بل اصبروا واثبتوا، ووطِّنوا أنفسكم على القتال والجلاد، طلباً لمرضاة ربكم، ونصحاً للإسلام، وإغضاباً للشيطان.
ولا تدعوا إلى المسالمة والمتاركة بينكم وبين أعدائكم، طلباً للراحة، { وَ } الحال أنكم { وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ } أي: ينقصكم { أَعْمَالَكُمْ }.
فهذه الأمور الثلاثة، كل منها مقتض للصبر وعدم الوهن كونهم الأعلين، أي: قد توفرت لهم أسباب النصر، ووعدوا من الله بالوعد الصادق، فإن الإنسان لا يهن إلا إذا كان أذل من غيره وأضعف عدداً وعُدداً، وقوة داخلية وخارجية.
الثاني: أن الله معهم، فإنهم مؤمنون، والله مع المؤمنين، بالعون والنصر والتأييد، وذلك موجب لقوة قلوبهم، وإقدامهم على عدوهم.
الثالث: أن الله لا ينقصهم من أعمالهم شيئاً، بل سيوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله، خصوصاً عبادة الجهاد، فإن النفقة تضاعف فيه، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وقال تعالى:{ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [التوبة: 120].
فإذا عرف الإنسان أن الله تعالى لا يضيع عمله وجهاده، أوجب له ذلك النشاط، وبذل الجهد فيما يترتب عليه الأجر والثواب، فكيف إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة فإن ذلك يوجب النشاط التام، فهذا من ترغيب الله لعباده، وتنشيطهم وتقوية أنفسهم على ما فيه صلاحهم وفلاحهم.
{ إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ } 36 { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } 37 { هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم }38


هذا تزهيد منه لعباده في الحياة الدنيا بإخبارهم عن حقيقة أمرها، بأنها لعب ولهو، لعب في الأبدان ولهو في القلوب، فلا يزال العبد لاهياً في ماله، وأولاده، وزينته، ولذاته من النساء، والمآكل والمشارب، والمساكن والمجالس، والمناظر والرياسات، لاعباً في كل عمل لا فائدة فيه، بل هو دائر بين البطالة والغفلة والمعاصي، حتى تستكمل دنياه، ويحضره أجله، فإذا هذه الأمور قد ولَّت وفارقت، ولم يحصل العبد منها على طائل، بل قد تبين له خسرانه وحرمانه، وحضر عذابه، فهذا موجب للعاقل الزهد فيها، وعدم الرغبة فيها، والاهتمام بشأنها، وإنما الذي ينبغي أن يهتم به ما ذكره بقوله: { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ } بأن تؤمنوا بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتقوموا بتقواه التي هي من لوازم الإيمان ومقتضياته، وهي العمل بمرضاته على الدوام، مع ترك معاصيه، فهذا الذي ينفع العبد، وهو الذي ينبغي أن يتنافس فيه، وتبذل الهمم والأعمال في طلبه، وهو مقصود الله من عباده رحمة بهم ولطفاً، ليثيبهم الثواب الجزيل، ولهذا قال: { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ } أي: لا يريد تعالى أن يكلفكم ما يشق عليكم، ويعنتكم من أخذ أموالكم، وبقائكم بلا مال، أو ينقصكم نقصاً يضركم، ولهذا قال: { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } أي: ما في قلوبكم من الضغن، إذا طلب منكم ما تكرهون بذله. والدليل على أن الله لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها، أنكم تمتنعون منها، أنكم { تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } على هذا الوجه، الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية.
{ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } أي: فكيف لو سألكم، وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة؟ أليس من باب أولى وأحرى امتناعكم من ذلك.
ثم قال: { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } لأنه حرم نفسه ثواب الله تعالى، وفاته خير كثير، ولن يضر الله بترك الإنفاق شيئاً. فإن الله هو { ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ } تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم، لجميع أموركم.
{ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } عن الإيمان بالله، وامتثال ما يأمركم به { يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } في التوليِّ، بل يطيعون الله ورسوله، ويحبُّون الله ورسوله، كما قال تعالى:{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54].

ابوالوليد المسلم
11-08-2020, 03:57 AM
الحلقة (540)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الفتحhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)الى الأية(7)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الفتح

{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } 1 { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } 2 { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً }3


هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية، حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء معتمراً في قصة طويلة، صار آخر أمرها أن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، وعلى أن يعتمر من العام المقبل، وعلى أن من أراد أن يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده فعل.
وبسبب ذلك لمّا أمن الناس بعضهم بعضاً، اتسعت دائرة الدعوة لدين الله عز وجل، وصار كل مؤمن بأي محل كان من تلك الأقطار، يتمكن من ذلك، وأمكن الحريص على الوقوف على حقيقة الإسلام، فدخل الناس في تلك المدة في دين الله أفواجاً، فلذلك سماه الله فتحاً، ووصفه بأنه فتح مبين أي: ظاهر جلي، وذلك لأن المقصود في فتح بلدان المشركين إعزاز دين الله، وانتصار المسلمين، وهذا حصل بذلك الفتح، ورتب الله على هذا الفتح عدة أمور، فقال: { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وذلك - والله أعلم - بسبب ما حصل بسببه من الطاعات الكثيرة، والدخول في الدين بكثرة، وبما تحمَّل صلى الله عليه وسلم من تلك الشروط التي لا يصبر عليها إلا أولو العزم من المرسلين، وهذا من أعظم مناقبه وكراماته صلى الله عليه وسلم، أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
{ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بإعزاز دينك، ونصرك على أعدائك، واتساع كلمتك، { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } تنال به السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي.
{ وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } أي: قوياً لا يتضعضع فيه الإسلام، بل يحصل الانتصار التام، وقمع الكافرين، وذلهم ونقصهم، مع توفر قوى المسلمين ونموهم، ونمو أموالهم.
ثم ذكر آثار هذا الفتح على المؤمنين، فقال: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ... }.
{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } 4 { لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً } 5 { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }6


يخبر تعالى عن مِنَّتِهِ على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم، وهي السكون والطمأنينة، والثبات عند نزول المحن المقلقة، والأمور الصعبة، التي تشوش القلوب، وتزعج الألباب، وتضعف النفوس، فمن نعمة الله على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه، وينزل عليه السكينة، ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ونفس مطمئنة، فيستعد بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال، فيزداد بذلك إيمانه، ويتم إيقانه، فالصحابة رضي الله عنهم لما جرى ما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين، من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم، وحط من أقدارهم، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس، فلما صبروا عليها ووطَّنوا أنفسهم لها، ازدادوا بذلك إيماناً مع إيمانهم. وقوله: { وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: جميعها في ملكه، وتحت تدبيره وقهره، فلا يظن المشركون أن الله لا ينصر دينه ونبيه، ولكنه تعالى عليم حكيم، فتقتضي حكمته المداولة بين الناس في الأيام، وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر.
{ لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } فهذا أعظم ما يحصل للمؤمنين، أن يحصل لهم المرغوب المطلوب بدخول الجنات، ويزيل عنهم المحذور بتكفير السيئات. { وَكَانَ ذَلِكَ } الجزاء المذكور للمؤمنين { عِندَ ٱللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً } فهذا ما يفعل بالمؤمنين في ذلك الفتح المبين.
وأما المنافقون والمنافقات، والمشركون والمشركات، فإن الله يعذبهم بذلك، ويريهم ما يسوؤهم حيث كان مقصودهم خذلان المؤمنين، وظنوا بالله الظن السوء، أنه لا ينصر دينه، ولا يُعلي كلمته، وأن أهل الباطل، ستكون لهم الدائرة على أهل الحق، فأدار الله عليهم ظنهم، وكانت دائرة السوء عليهم في الدنيا، { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } بما اقترفوه من المحادَّة لله ولرسوله، { وَلَعَنَهُمْ } أي: أبعدهم وأقصاهم عن رحمته { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }.
{ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }7


كرر الإخبار بأن له ملك السماوات والأرض وما فيهما من الجنود، ليعلم العباد أنه تعالى هو المعز المذل، وأنه سينصر جنوده المنسوبة إليه، كما قال تعالى:{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 173] { وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً } أي: قوياً غالباً، قاهراً لكل شيء، ومع عزته وقوته فهو حكيم في خلقه وتدبيره، يجري على ما تقتضيه حكمته وإتقانه.

ابوالوليد المسلم
14-08-2020, 03:54 AM
الحلقة (541)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الفتحhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(8)الى الأية(14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الفتح

{ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } 8 { لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }9


أي: { إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ } أيها الرسول الكريم { شَٰهِداً } لأمتك بما فعلوه من خير وشر، وشاهداً على المقالات والمسائل، حقها وباطلها، وشاهداً لله تعالى بالوحدانية والانفراد بالكمال من كل وجه، { وَمُبَشِّراً } من أطاعك وأطاع الله بالثواب الدنيوي والديني والأخروي، ومنذراً من عصى الله بالعقاب العاجل والآجل، ومن تمام البشارة والنذارة، بيان الأعمال والأخلاق التي يبشر بها وينذر، فهو المبين للخير والشر، والسعادة والشقاوة، والحق من الباطل، ولهذا رتب على ذلك قوله: { لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي: بسبب دعوة الرسول لكم، وتعليمه لكم ما ينفعكم، أرسلناه لتقوموا بالإيمان بالله ورسوله، المستلزم ذلك لطاعتهما في جميع الأمور. { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } أي: تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقروه أي: تعظموه وتجلوه، وتقوموا بحقوقه، كما كانت له المنة العظيمة برقابكم، { وَتُسَبِّحُوهُ } أي: تسبحوا لله { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أول النهار وآخره، فذكر الله في هذه الآية الحق المشترك بين الله وبين رسوله، وهو الإيمان بهما، والمختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير، والمختص بالله، وهو التسبيح له والتقديس بصلاة أو غيرها.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }10


هذه المبايعة التي أشار الله إليها هي " بيعة الرضوان " التي بايع الصحابة رضي الله عنهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن لا يفروا عنه، فهي عقد خاص، من لوازمه أن لا يفروا، ولو لم يبق منهم إلا القليل، ولو كانوا في حال يجوز الفرار فيها، فأخبر تعالى: أن الذين بايعوك حقيقة الأمر أنهم { يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } ويعقدون العقد معه، حتى إنه من شدة تأكده أنه قال: { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أي: كأنهم بايعوا الله وصافحوه بتلك المبايعة، وكل هذا لزيادة التأكيد والتقوية، وحملهم على الوفاء بها، ولهذا قال: { فَمَن نَّكَثَ } فلم يف بما عاهد الله عليه { فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } أي: لأن وبال ذلك راجع إليه، وعقوبته واصلة له، { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ } أي: أتى به كاملاً موفراً، { فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } لا يعلم عظمه وقدره إلا الذي آتاه إياه.
{ سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } 11 { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } 12 { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً }13


يذم تعالى المتخلفين عن رسوله، في الجهاد في سبيله، من الأعراب الذين ضعف إيمانهم، وكان في قلوبهم مرض، وسوء ظن بالله تعالى، وأنهم سيعتذرون بأن أموالهم وأهليهم شغلتهم عن الخروج في الجهاد، وأنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم، قال الله تعالى: { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } فإن طلبهم الاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلّ على ندمهم وإقرارهم على أنفسهم بالذنب، وأنهم تخلفوا تخلفاً يحتاج إلى توبة واستغفار، فلو كان هذا الذي في قلوبهم، لكان استغفار الرسول نافعاً لهم، لأنهم قد تابوا وأنابوا، ولكن الذي في قلوبهم، أنهم إنما تخلفوا لأنهم ظنوا بالله ظن السوء. فظنوا { أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً } أي: إنهم سيقتلون ويستأصلون، ولم يزل هذا الظن يزين في قلوبهم، ويطمئنون إليه، حتى استحكم، وسببُ ذلك أمران: أحدها: أنهم كانوا { قَوْماً بُوراً } أي: هلكى، لا خير فيهم، فلو كان فيهم خير لم يكن هذا في قلوبهم. الثاني: ضعف إيمانهم ويقينهم بوعد الله، ونصر دينه، وإعلاء كلمته، ولهذا قال: { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي: فإنه كافر مستحق للعقاب، { فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً }.
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }14


أي: هو تعالى المنفرد بملك السماوات والأرض، يتصرف فيهما بما يشاء من الأحكام القدرية، والأحكام الشرعية، والأحكام الجزائية، ولهذا ذكر حكم الجزاء المرتب على الأحكام الشرعية، فقال: { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } وهو من قام بما أمره الله به { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } ممن تهاون بأمر الله، { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي: وصفه اللازم الذي لا ينفك عنه المغفرة والرحمة، فلا يزال في جميع الأوقات يغفر للمذنبين، ويتجاوز عن الخطائين، ويتقبل توبة التائبين، وينزل خيره المدرار، آناء الليل والنهار.

ابوالوليد المسلم
14-08-2020, 03:55 AM
الحلقة (542)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الفتحhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(15)الى الأية(24)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الفتح

{ سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }15


لما ذكر تعالى المخلفين وذمهم، ذكر أن من عقوبتهم الدنيوية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا انطلقوا إلى غنائم لا قتال فيها ليأخذوها، طلبوا منهم الصحبة والمشاركة، ويقولون: { ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ } بذلك { أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ } حيث حكم بعقوبتهم، واختصاص الصحابة المؤمنين بتلك الغنائم، شرعاً وقدراً. { قُل } لهم { لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ } إنكم محرومون منها بما جنيتم على أنفسكم، وبما تركتم القتال أول مرة. { فَسَيَقُولُونَ } مجيبين لهذا الكلام، الذي منعوا به عن الخروج: { بَلْ تَحْسُدُونَنَا } على الغنائم، هذا منتهى علمهم في هذا الموضع، ولو فهموا رشدهم، لعلموا أن حرمانهم بسبب عصيانهم، وأن المعاصي لها عقوبات دنيوية ودينية، ولهذا قال: { بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }.
{ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ ٱللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } 16 { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً }17


لما ذكر تعالى أن المخلفين من الأعراب يتخلفون عن الجهاد في سبيله، ويعتذرون بغير عذر، وأنهم يطلبون الخروج معهم إذا لم يكن شوكة ولا قتال، بل لمجرد الغنيمة، قال تعالى ممتحناً لهم: { قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي: سيدعوكم الرسول ومن ناب منابه من الخلفاء الراشدين والأئمة، وهؤلاء القوم فارس والروم ومن نحا نحوهم وأشبههم. { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } أي: إما هذا وإما هذا، وهذا هو الأمر الواقع، فإنهم في حال قتالهم ومقاتلتهم لأولئك الأقوام، إذ كانت شدتهم وبأسهم معهم، فإنهم في تلك الحال لا يقبلون أن يبذلوا الجزية، بل إما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن يقاتلوا على ما هم عليه، فلما أثخنهم المسلمون، وضعفوا وذلُّوا، ذهب بأسهم، فصاروا إما أن يسلموا، وإما أن يبذلوا الجزية، { فَإِن تُطِيعُواْ } الداعي لكم إلى قتال هؤلاء { يُؤْتِكُمُ ٱللَّهُ أَجْراً حَسَناً } وهو الأجر الذي رتبه الله ورسوله على الجهاد في سبيل الله، { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ } عن قتال من دعاكم الرسول إلى قتاله، { يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ودلت هذه الآية على فضيلة الخلفاء الراشدين، الداعين لجهاد أهل البأس من الناس، وأنه تجب طاعتهم في ذلك. ثم ذكر الأعذار التي يعذر بها العبد عن الخروج إلى الجهاد، فقال: { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ } أي: في التخلف عن الجهاد لعذرهم المانع. { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } في امتثال أمرهما، واجتناب نهيهما { يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ } فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، { وَمَن يَتَوَلَّ } عن طاعة الله ورسوله { يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } فالسعادة كلها في طاعة الله، والشقاوة في معصيته ومخالفته.
{ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } 18 { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } 19 { وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } 20 { وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً }21


يخبر تعالى بفضله ورحمته، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة، وكان سبب هذه البيعة -التي يقال لها " بيعة الرضوان " لرضا الله عن المؤمنين فيها، ويقال لها " بيعة أهل الشجرة " - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه، وأنه لم يجئ لقتال أحد، وإنما جاء زائراً هذا البيت، معظماً له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان لمكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق، أن عثمان قتله المشركون، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من المؤمنين، وكانوا نحواً من ألف وخمس مئة، فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين، وأن لا يفروا حتى يموتوا، فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال، التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات، { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من الإيمان، { فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } شكراً لهم على ما في قلوبهم، زادهم هدى، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم، وتطمئن بها قلوبهم، { وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } وهو: فتح خيبر، لم يحضره سوى أهل الحديبية، فاختصوا بخيبر وغنائمها، جزاءاً لهم، وشكراً على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والقيام بمرضاته. { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } أي: له العزة والقدرة، التي قهر بها الأشياء، فلو شاء لانتصر من الكفار في كل وقعة تكون بينهم وبين المؤمنين، ولكنه حكيم، يبتلي بعضهم ببعض، ويمتحن المؤمن بالكافر. { وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } وهذا يشمل كل غنيمة غَنَّمها المسلمين إلى يوم القيامة، { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ } أي: غنيمة خيبر أي: فلا تحسبوها وحدها، بل ثَمَّ شيء كثير من الغنائم سيتبعها، { وَ } احمدوا الله إذ { كَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ } القادرين على قتالكم، الحريصين عليه { عَنْكُمْ } فهي نعمة، وتخفيف عنكم. { وَلِتَكُونَ } هذه الغنيمة { آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } يستدلون بها على خبر الله الصادق، ووعده الحق، وثوابه للمؤمنين، وأن الذي قدرها سيقدر غيرها، { وَيَهْدِيَكُمْ } بما يقيض لكم من الأسباب { صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } من العلم والإيمان والعمل. { وَأُخْرَىٰ } أي: وعدكم أيضاً غنيمة أخرى { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } وقت هذا الخطاب، { قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا } أي: هو قادر عليها، وتحت تدبيره وملكه، وقد وعدكموها، فلا بد من وقوع ما وعد به، لكمال اقتدار الله تعالى، ولهذا قال: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً }.
{ وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } 23 { سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً }24


هذه بشارة من الله لعباده المؤمنين، بنصرهم على أعدائهم الكافرين، وأنهم لو قابلوهم وقاتلوهم { لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً } يتولى أمرهم، { وَلاَ نَصِيراً } ينصرهم ويعينهم على قتالكم، بل هم مخذولون مغلوبون وهذه سنة الله في الأمم السابقة، أن جند الله هم الغالبون، { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً }.

ابوالوليد المسلم
14-08-2020, 03:56 AM
الحلقة (543)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الفتحhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(25)الى الأية(28)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الفتح

{ وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } 25 { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }26


يقول تعالى ممتناً على عباده بالعافية، من شر الكفار ومن قتالهم، فقال: { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ } أي: أهل مكة { عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } أي: من بعد ما قدرتم عليهم، وصاروا تحت ولايتكم بلا عقد ولا عهد، وهم نحو ثمانين رجلاً، انحدروا على المسلمين ليصيبوا منهم غرة، فوجدوا المسلمين منتبهين فأمسكوهم، فتركوهم ولم يقتلوهم، رحمة من الله بالمؤمنين إذ لم يقتلوهم، { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } فيجازي كل عامل بعمله، ويدبركم أيها المؤمنون بتدبيره الحسن. ثم ذكر تعالى الأمور المهيجة على قتال المشركين، وهي كفرهم بالله ورسوله، وصدهم رسول الله ومن معه من المؤمنين، أن يأتوا للبيت الحرام زائرين معظمين له بالحج والعمرة، وهم الذين أيضاً صدوا { ٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً } أي: محبوساً { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } وهو محل ذبحه وهو مكة، فمنعوه من الوصول إليه ظلماً وعدواناً، وكل هذه أمور موجبة وداعية إلى قتالهم، ولكن ثمَّ مانع وهو: وجود رجال ونساء من أهل الإيمان بين أظهر المشركين، وليسوا متميزين بمحلة أو مكان يمكن أن لا ينالهم أذى، فلولا هؤلاء الرجال المؤمنون، والنساء المؤمنات، الذين لا يعلمهم المسلمون أن تطؤوهم، أي: خشية أن تطؤوهم { فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } والمعرة: ما يدخل تحت قتالهم، من نيلهم بالأذى والمكروه، وفائدة أخروية، وهو: أنه ليدخل في رحمته من يشاء فيَمُنُّ عليهم بالإيمان بعد الكفر، وبالهدى بعد الضلال، فيمنعكم من قتالهم لهذا السبب. { لَوْ تَزَيَّلُواْ } أي: لو زالوا من بين أظهرهم { لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } بأن نبيح لكم قتالهم، ونأذن فيه، وننصركم عليهم.
{ لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } 27 { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً }28


يقول تعالى: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه، أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت، فلما جرى يوم الحديبية ما جرى، ورجعوا من غير دخول لمكة، كثر في ذلك الكلام منهم، حتى إنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ فقال: " أخبرتكم أنه العام؟ " قالوا: لا. قال: " فإنكم ستأتونه وتطوفون به " " ، قال الله هنا: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ } أي: لا بد من وقوعها وصدقها، ولا يقدح في ذلك تأخر تأويلها، { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } أي: في هذه الحال المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام، وأدائكم للنسك، وتكميله بالحلق والتقصير، وعدم الخوف، { فَعَلِمَ } من المصلحة والمنافع { مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ } الدخول بتلك الصفة { فَتْحاً قَرِيباً }. ولما كانت هذه الواقعة مما تشوشت بها قلوب بعض المؤمنين، وخفيت عليهم حكمتها، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها، وهكذا سائر أحكامه الشرعية، فإنها كلها، هدى ورحمة. أخبر بحكم عام، فقال: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ } الذي هو العلم النافع، الذي يهدي من الضلالة، ويبين طرق الخير والشر. { وَدِينِ ٱلْحَقِّ } أي: الدين الموصوف بالحق، وهو العدل والإحسان والرحمة. وهو كل عمل صالح مُزَكٍّ للقلوب، مطهِّر للنفوس، مُربٍّ للأخلاق، مُعْلٍ للأقدار. { لِيُظْهِرَهُ } بما بعثه الله به { عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } بالحجة والبرهان، ويكون داعياً لإخضاعهم بالسيف والسنان.

ابوالوليد المسلم
14-08-2020, 03:57 AM
الحلقة (544)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الفتحhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(29)الى الأية(/)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الفتح

{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }29

يخبر تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار، أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال، وأنهم { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ } أي: جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة، فلذلك ذلّ أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم المسلمون، { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } أي: متحابون متراحمون متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } أي: وصفهم كثرة الصلاة، التي أجل أركانها الركوع والسجود. { يَبْتَغُونَ } بتلك العبادة { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } أي: هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم، والوصول إلى ثوابه. { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } أي: قد أثرت العبادة - من كثرتها وحسنها - في وجوههم، حتى استنارت، لما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت [بالجلال] ظواهرهم. { ذَلِكَ } المذكور { مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ } أي: هذا وصفهم الذي وصفهم الله به، مذكور بالتوراة هكذا. وأما مثلهم في الإنجيل، فإنهم موصوفون بوصف آخر، وأنهم في كمالهم وتعاونهم { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ } أي: أخرج فراخه، فوازرته فراخه في الشباب والاستواء. { فَٱسْتَغْلَظَ } ذلك الزرع أي: قوي وغلظ { فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ } جمع ساق، { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ } من كماله واستوائه، وحسنه واعتداله، كذلك الصحابة رضي الله عنهم، هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه، وكون الصغير والمتأخر إسلامه، قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه، من إقامة دين الله والدعوة إليه، كالزرع الذي أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ، ولهذا قال: { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ } حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم، وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال، ومعامع القتال. { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } فالصحابة رضي الله عنهم، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، قد جمع الله لهم بين المغفرة، التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة. ولنسق قصة الحديبية بطولها، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في " الهدي النبوي " فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة، وتكلم على معانيها وأسرارها، قال -رحمه الله تعالى:- فصل في قصة الحديبية قال نافع: كانت سنة ست في ذي القعدة، وهذا هو الصحيح، وهو قول الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق وغيرهم. وقال هشام بن عروة، عن أبيه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان، وكانت في شوال، وهذا وهم، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان. قال أبو الأسود عن عروة: إنها كانت في ذي القعدة على الصواب. وفي الصحيحين عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، فذكر منهن عمرة الحديبية، وكان معه ألف وخمسمائة، هكذا في الصحيحين عن جابر، وعنه فيهما: كانوا ألفاً وأربعمائة، وفيهما، عن عبد الله بن أبي أوفى: كنا ألفاً وثلاثمائة، قال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الجماعة الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة، قال: قلت: فإن جابر بن عبد الله قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال: يرحمه الله وهم، وهو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة، قلت: وقد صح عن جابر القولان، وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن سبعة، فقيل له: كم كنتم؟ قال: ألفاً وأربعمائة، بخيلنا ورجلنا، يعني: فارسهم وراجلهم.
والقلب إلى هذا أَمْيَل، وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع، في أصح الروايتين، وقول المسيب بن حزن، قال شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفاً وأربعمائة، وغلط غلطاً بيَّناً من قال: كانوا سبعمائة، وعذره أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنة، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة أو عشرة، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل، فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه الغزوة عن سبعة، فلو كانت السبعون عن جميعهم، لكانوا أربعمائة وتسعين رجلاً، وقد قال بتمام الحديث بعينه، أنهم كانوا ألفاً وأربعمائة. فصل فلما كانوا بذي الحليفة، " قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهَدْيَ وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث عيناً له بين يديه من خزاعة، يخبره عن قريش، حتى إذا كانوا قريباً من عُسْفان، أتاه عينه، فقال: إني قد تركت كعب بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعاً، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن البيت. واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا تكن عنقاً قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت؟ فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فروحوا إذاً " فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش، فخذوا ذات اليمين " ، فوالله ما شعر بهم خالد، حتى إذا هو بغبرة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل " ثم قال: " والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها " ثم زجرها، فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثمد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش. فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه، قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنها، وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول الله، ليس بمكة أحدٌ من بني كعب يغضب لي، إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، فأرسله إلى قريش، وقال: " أخبرهم أنا لم نأت لقتال، إنما جئنا عُمَّاراً، وادعهم إلى الإسلام ". وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان، فانطلق عثمان، فمر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، ونخبركم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عُمَّاراً، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك. وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به، وأسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، فأجاره، وأردفه أبان حتى جاء مكة، وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان: خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون " ، فقالوا: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص؟ قال: " ذاك ظني به، أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه " ، واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلاً من الفريق الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة. فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه، وقال: " هذه عن عثمان " ، ولما تمت البيعة، رجع عثمان، فقال له المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت، فقال: بئسما ظننتم بي، والذي نفسي بيده، لو مكثت بها سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية، ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، فقال المسلمون: رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أعلمنا بالله، وأحسننا ظناً. وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد ابن قيس، وكان معقل بن يسار، أخذ بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول من بايعه، أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم. فبينما هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي، في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا أماددهم ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن أبوا إلا القتال، فوالذي نفسي بيده، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره " ، قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشاً، فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولاً، فإن شئتم عرضته عليكم، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي: منهم: هات ما سمعته، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها، ودعوني آته، فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل، فقال له عروة عند ذلك: أي: محمد، أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فوالله إني لأرى وجوهاً، وأرى أوباشاً من الناس، خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ قال: من ذا؟ قال: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك. وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخِّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، وقال: من ذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي: غُدَر، أولست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء ". ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله إن تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها جلده ووجهه. وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره، وإذا توضأ، كادوا يقتتلون على وَضُوئِه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر، تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على كسرى، وقيصر، والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه، ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له " فبعثوها فاستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك، قال: سبحان الله، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أرى أن يصدوا عن البيت فقام مكرز بن حفص، وقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا مكرز بن حفص، وهو رجل فاجر " ، فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا هو يكلمه، إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قد سهل لكم من أمركم " فقال: هات، اكتب بيننا وبينك كتاباً، فدعا الكاتب، فقال: " اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم " ، فقال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما ندري ما هو، ولكن اكتب: " باسمك اللهم " كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اكتب باسمك اللهم ". ثم قال: " اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " فقال سهيل: فوالله لو نعلم أنك رسول الله، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني رسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله " ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " ، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب. فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته علينا. فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه، أن ترده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنا لم نقض الكتاب بعد " ، فقال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فأجزه لي " ، فقال: ما أنا بمجيزه، فقال: " بلى فافعل " ، قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: قد أجزناه. فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب في الله عذاباً شديداً. قال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله ألست نبي الله؟ قال: " بلى ". قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: " بلى " فقلت: علام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: " إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه " ، قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: " بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ " قلت: لا، قال: " فإنك آتيه ومطوف به ". قال: فأتيت أبا بكر، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، وزاد: فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق، قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً. فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قوموا وانحروا، ثم احلقوا " ، فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلق لك، فقام فخرج، فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، ثم جاءت نسوة مؤمنات، فأنزل الله عز وجل: { إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ { بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ } [الممتحنة: 10] فطلَّق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية، والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع إلى المدينة. وفي مرجعه أنزل الله عليه: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [الفتح: 1] إلى آخرها، فقال عمر: أفتح هو يا رسول الله؟ فقال: " نعم " ، فقال الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله، فما لنا؟ فأنزل الله عز وجل: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الفتح: 4] "
الآية. انتهى.

ابوالوليد المسلم
14-08-2020, 03:58 AM
الحلقة (545)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الحجراتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)الى الأية(8)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الحجرات

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } 1 { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } 2 { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }3


هذا متضمن للأدب مع الله تعالى، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعظيم له ، واحترامه، وإكرامه، فأمر [الله] عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان، بالله وبرسوله، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين خلف أوامر الله، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أمورهم، و [أن] لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا يقولوا حتى يقول، ولا يأمروا حتى يأمر، فإن هذا حقيقة الأدب الواجب مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته تفوته السعادة الأبدية والنعيم السرمدي، وفي هذا، النهي [الشديد] عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها، كائناً ما كان. ثم أمر الله بتقواه عموماً، وهي كما قال طلق بن حبيب: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخشى عقاب الله. وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } أي: لجميع الأصوات في جميع الأوقات، في خفي المواضع والجهات، { عَلِيمٌ } بالظواهر والبواطن، والسوابق واللواحق، والواجبات والمستحيلات والممكنات. وفي ذكر الاسمين الكريمين - بعد النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله والأمر بتقواه - حث على امتثال تلك الأوامر الحسنة، والآداب المستحسنة، وترهيب عن عدم الامتثال. ثم قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ } وهذا أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطابه، أي: لا يرفع المخاطب له صوته معه فوق صوته، ولا يجهر له بالقول، بل يغض الصوت، ويخاطبه بأدب ولين، وتعظيم وتكريم، وإجلال وإعظام، ولا يكون الرسول كأحدهم، بل يميزوه في خطابهم، كما تميز عن غيره في وجوب حقه على الأمة، ووجوب الإيمان به، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به، فإن في عدم القيام بذلك محذوراً، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر، كما أن الأدب معه من أسباب [حصول الثواب و] قبول الأعمال. ثم مدح من غض صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن الله امتحن قلوبهم للتقوى أي: ابتلاها واختبرها، فظهرت نتيجة ذلك، بأن صلحت قلوبهم للتقوى، ثم وعدهم المغفرة لذنوبهم المتضمنة لزوال الشر والمكروه، والأجر العظيم، الذي لا يعلم وصفه إلا الله تعالى، وفي الأجر العظيم وجود المحبوب، وفي هذا دليل على أن الله يمتحن القلوب، بالأمر والنهي والمحن، فمن لازم أمر الله، واتبع رضاه، وسارع إلى ذلك، وقدمه على هواه، تمحض وتمحص للتقوى، وصار قلبه صالحاً لها، ومن لم يكن كذلك، علم أنه لا يصلح للتقوى.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } 4 { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }5


نزلت هذه الآيات الكريمات في أناس من الأعراب، الذين وصفهم الله تعالى بالجفاء، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، قدموا وافدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدوه في بيته وحجرات نسائه، فلم يصبروا ويتأدبوا حتى يخرج، بل نادوه: يا محمد يا محمد، [أي: اخرج إلينا]، فذمهم الله بعدم العقل، حيث لم يعقلوا عن الله الأدب مع رسوله واحترامه، كما أن من العقل وعلامته استعمال الأدب. فأدب العبد، عنوان عقله، وأن الله مريد به الخير، ولهذا قال: { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: غفور لما صدر عن عباده من الذنوب والإخلال بالآداب، رحيم بهم، حيث لم يعاجلهم بذنوبهم بالعقوبات والمثلات.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }6


وهذا أيضاً من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجرداً، فإن في ذلك خطراً كبيراً، ووقوعاً في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سبباً للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق، التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه، كُذِّب، ولم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا، ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير [من] الخوارج، المعروفين بالصدق، ولو كانوا فساقاً.
{ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ } 7 { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }8


أي: ليكن لديكم معلوماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، وهو الرسول الكريم، البار، الراشد، الذي يريد بكم الخير وينصح لكم، وتريدون لأنفسكم من الشر والمضرة ما لا يوافقكم الرسول عليه، ولو يطيعكم في كثير من الأمر لشق عليكم وأعنتكم، ولكن الرسول يرشدكم، والله تعالى يحبب إليكم الإيمان، ويزينه في قلوبكم، بما أودع الله في قلوبكم من محبة الحق وإيثاره، وبما ينصب على الحق من الشواهد، والأدلة الدالة على صحته، وقبول القلوب والفطر له، وبما يفعله تعالى بكم من توفيقه للإنابة إليه، ويكرّه إليكم الكفر والفسوق أي: الذنوب الكبار، والعصيان: هي ما دون ذلك من الذنوب، بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر، وعدم إرادة فعله، وبما نصبه من الأدلة والشواهد على فساده وعدم قبول الفطر له، وبما يجعله الله من الكراهة في القلوب له. { أُوْلَـٰئِكَ } أي: الذين زين الله الإيمان في قلوبهم، وحببه إليهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان { هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ } أي: الذين صلحت علومهم وأعمالهم، واستقاموا على الدين القويم، والصراط المستقيم. وضدهم الغاوون، الذين حبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وكره إليهم الإيمان، والذنب ذنبهم، فإنهم لما فسقوا طبع الله على قلوبهم، ولما{ زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5] ولما لم يؤمنوا بالحق لما جاءهم أول مرة، قلب الله أفئدتهم. وقوله: { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً } أي: ذلك الخير الذي حصل لهم، هو بفضل الله عليهم وإحسانه، لا بحولهم وقوتهم. { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: عليم بمن يشكر النعمة فيوفقه لها، ممن لا يشكرها، ولا تليق به، فيضع فضله حيث تقتضيه حكمته.

ابوالوليد المسلم
14-08-2020, 03:58 AM
الحلقة (546)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الحجراتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(9)الى الأية(13)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الحجرات
{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } 9 { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }10


هذا متضمن لنهي المؤمنين [عن] أن يبغي بعضهم على بعض، ويقاتل بعضهم بعضاً، وأنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير، بالإصلاح بينهم، والتوسط بذلك على أكمل وجه يقع به الصلح، ويسلكوا الطريق الموصلة إلى ذلك، فإن صلحتا فبها ونعمت، وإن { بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي: ترجع إلى ما حد الله ورسوله، من فعل الخير وترك الشر، الذي من أعظمه الاقتتال، [وقوله] { فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ } هذا أمر بالصلح، وبالعدل في الصلح، فإن الصلح قد يوجد، ولكن لا يكون بالعدل، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين، فهذا ليس هو الصلح المأمور به، فيجب أن لا يراعى أحدهما لقرابة، أو وطن، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض، التي توجب العدول عن العدل، { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } أي: العادلين في حكمهم بين الناس وفي جميع الولايات التي تولوها، حتى إنه قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله وعياله في أدائه حقوقهم، وفي الحديث الصحيح: " المقسطون عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ".
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } هذا عقد عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان في مشرق الأرض ومغربها، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب له المؤمنون ما يحبون لأنفسهم، ويكرهون له ما يكرهون لأنفسهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم آمراً بحقوق الأخوة الإيمانية: " لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا يبعْ أحدكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المؤمن أخو المؤمن، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه ".
ولقد أمر الله ورسوله بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض، وبما به يحصل التآلف والتوادد والتواصل بينهم، كل هذا تأييد لحقوق بعضهم على بعض، فمن ذلك، إذا وقع الاقتتال بينهم، الموجب لتفرق القلوب وتباغضها [وتدابرها]، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم، وليسعوا فيما به يزول شنآنهم. ثم أمر بالتقوى عموماً، ورتب على القيام بحقوق المؤمنين وبتقوى الله، الرحمة [فقال: { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ]، وإذا حصلت الرحمة حصل خير الدنيا والآخرة، ودلّ ذلك على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين، من أعظم حواجب الرحمة. وفي هاتين الآيتين من الفوائد، غير ما تقدم: أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية، ولهذا كان من أكبر الكبائر، وأن الإيمان والأخوة الإيمانية لا تزول مع وجود القتال كغيره من الذنوب الكبار التي دون الشرك، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة، وعلى وجوب الإصلاح بين المؤمنين بالعدل، وعلى وجوب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى أمر الله، وعلى أنهم لو رجعوا لغير أمر الله، بأن رجعوا على وجه لا يجوز الإقرار عليه والتزامه، أنه لا يجوز ذلك، وأن أموالهم معصومة، لأن الله أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصة، دون أموالهم.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }11


وهذا أيضاً من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، أن { لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ } بكل كلام، وقول، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام لا يجوز، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه، وعسى أن يكون المسخور به خيراً من الساخر، كما هو الغالب والواقع، فإن السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق، مُتَحَلٍّ بكل خلق ذميم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ".
ثم قال: { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } أي: لا يعب بعضكم على بعض، واللمز بالقول، والهمز بالفعل، وكلاهما منهي عنه حرام، متوعد عليه بالنار.
كما قال تعالى:{ ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } الآية [الهمزة: 1]، وسمى الأخ المؤمن نفساً لأخيه، لأن المؤمنين ينبغي أن يكون هكذا حالهم كالجسد الواحد، ولأنه إذا همز غيره، أوجب للغير أن يهمزه، فيكون هو المتسبب لذلك. { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ } أي: لا يعير أحدكم أخاه، ويلقبه بلقب ذمٍ يكره أن يطلق عليه، وهذا هو التنابز، وأما الألقاب غير المذمومة، فلا تدخل في هذا.
{ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } أي: بئسما تبدلتم عن الإيمان والعمل بشرائعه، وما تقتضيه بالإعراض عن أوامره ونواهيه، باسم الفسوق والعصيان، الذي هو التنابز بالألقاب.
{ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } فهذا [هو] الواجب على العبد، أن يتوب إلى الله تعالى، ويخرج من حق أخيه المسلم، باستحلاله والاستغفار، والمدح له مقابلة [على] ذمه.
{ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } فالناس قسمان: ظالم لنفسه غير تائب، وتائب مفلح، ولا ثَمَّ قسم ثالث غيرهما.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ }12


نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، فـ { إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ } وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال، والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضاً إساءة الظن بالمسلم، وبغضه وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه. { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين، ولا تتبعوها، واتركوا المسلم على حاله، واستعملوا التغافل عن أحواله، التي إذا فتشت ظهر منها ما لا ينبغي. { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } والغيبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه ".
ثم ذكر مثلاً منفراً عن الغيبة، فقال: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } شبه أكل لحمه ميتاً المكروه للنفوس [غاية الكراهة] باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه، وخصوصاً إذا كان ميتاً، فاقد الروح، فكذلك، [فلتكرهوا] غيبته وأكل لحمه حياً.
{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } والتواب الذي يأذن بتوبة عبده فيوفقه لها، ثم يتوب عليه بقبول توبته، رحيم بعباده، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم، وقبل منهم التوبة، وفي هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأن الغيبة من الكبائر، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر.

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }13


يخبر تعالى أنه خلق بني آدم من أصل واحد، وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، ولكن الله [تعالى] بث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، وفرقهم، وجعلهم شعوباً وقبائل أي: قبائل صغاراً وكباراً، وذلك لأجل أن يتعارفوا، فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه، لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون، والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوباً وقبائل، لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها مما يتوقف على التعارف، ولحوق الأنساب، ولكن الكرم بالتقوى، فأكرمهم عند الله أتقاهم، وهو أكثرهم طاعةً وانكفافاً عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقوماً، ولا أشرفهم نسباً، ولكن الله تعالى عليم خبير، يعلم من يقوم منهم بتقوى الله ظاهراً وباطناً، ممن يقوم بذلك ظاهراً لا باطناً، فيجازي كلاً بما يستحق. وفي هذه الآية دليل على أن معرفة الأنساب مطلوبة مشروعة، لأن الله جعلهم شعوباً وقبائل لأجل ذلك.

ابوالوليد المسلم
14-08-2020, 03:59 AM
الحلقة (547)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الحجراتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(14)الى الأية(18)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الحجرات

{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 14 { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } 15 { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } 16 { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } 17 { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }18


يخبر تعالى عن مقالة الأعراب الذين دخلوا في الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً من غير بصيرة، ولا قيام بما يجب ويقتضيه الإيمان، أنهم ادعوا مع هذا وقالوا: آمنا أي: إيماناً كاملاً، مستوفياً لجميع أموره هذا موجب هذا الكلام، فأمر الله رسوله أن يرد عليهم، فقال: { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ } أي: لا تدَّعوا لأنفسكم مقام الإيمان، ظاهراً وباطناً، كاملاً.
{ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } أي: دخلنا في الإسلام، واقتصروا على ذلك.
{ وَ } السبب في ذلك، أنه { لَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وإنما آمنتم خوفاً، أو رجاءً أو نحو ذلك، مما هو السبب في إيمانكم، فلذلك لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم، وفي قوله: { لَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي: وقت هذا الكلام الذي صدر منكم، فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد ذلك، فإن كثيراً منهم، مَنَّ الله عليهم بالإيمان الحقيقي، والجهاد في سبيل الله، { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } بفعل خير، أو ترك شر { لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } أي: لا ينقصكم منها مثقال ذرة، بل يوفيكم إياها أكمل ما تكون لا تفقدون منها صغيراً ولا كبيراً، { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: غفور لمن تاب إليه وأناب، رحيم به، حيث قبل توبته.
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } أي: على الحقيقة { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي: من جمعوا بين الإيمان والجهاد في سبيله، فإن من جاهد الكفار، دلّ ذلك على الإيمان التام في القلب، لأن من جاهد غيره على الإسلام، والقيام بشرائعه، فجهاده لنفسه على ذلك، من باب أولى وأحرى ولأن من لم يقو على الجهاد، فإن ذلك دليل على ضعف إيمانه، وشرط تعالى في الإيمان عدم الريب، وهو الشك، لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني بما أمر الله بالإيمان به، الذي لا يعتريه شك بوجه من الوجوه.
وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } أي: الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة، فإن الصدق دعوى كبيرة في كل شيء يدعى يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان، وأعظم ذلك دعوى الإيمان الذي هو مدار السعادة، والفوز الأبدي، والفلاح السرمدي، فمن ادعاه وقام بواجباته، ولوازمه، فهو الصادق المؤمن حقاً، ومن لم يكن كذلك، علم أنه ليس بصادق في دعواه، وليس لدعواه فائدة، فإن الإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى. فإثباته ونفيه من باب تعليم الله بما في القلب، وهذا سوء أدب، وظن بالله، ولهذا قال: { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وهذا شامل للأشياء كلها، التي من جملتها ما في القلوب من الإيمان والكفران، والبر والفجور، فإنه تعالى يعلم ذلك كله ويجازي عليه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
هذه حالة من أحوال من ادَّعى لنفسه الإيمان وليس به، فإنه إما أن يكون ذلك تعليماً لله، وقد علم أنه عالم بكل شيء، وإما أن يكون قصدهم بهذا الكلام المنَّة على رسوله، وأنهم قد بذلوا له [وتبرعوا] بما ليس من مصالحهم، بل هو من حظوظه الدنيوية، وهذا تجمُّل بما لا يجمل، وفخر بما لا ينبغي لهم أن يفتخروا على رسوله به، فإن المنّة لله تعالى عليهم، فكما أنه تعالى يمنّ عليهم بالخلق والرزق، والنعم الظاهرة والباطنة، فمنَّته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام، ومنَّته عليهم بالإيمان، أعظم من كل شيء، ولهذا قال تعالى: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }.
{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: الأمور الخفية فيهما، التي تخفى على الخلق، كالذي في لجج البحار، ومهامه القفار، وما جنَّه الليل أو واراه النهار، يعلم قطرات الأمطار، وحبَّات الرمال، ومكنونات الصدور، وخبايا الأمور.
{ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 59].
{ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } يحصي عليكم أعمالكم، ويوفيكم إياها، ويجازيكم عليها بما تقتضيه رحمته الواسعة وحكمته البالغة.

ابوالوليد المسلم
14-08-2020, 04:00 AM
الحلقة (548)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة قhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)الى الأية(11)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة ق
{ قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } 1 { بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } 2 { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } 3 { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }4


يقسم تعالى بالقرآن المجيد أي: وسيع المعاني عظيمها، كثير الوجوه كثير البركات، جزيل المبرات. والمجد: سعة الأوصاف وعظمتها، وأحق كلام يوصف بهذا، هذا القرآن، الذي قد احتوى على علوم الأولين والآخرين، الذي حوى من الفصاحة أكملها، ومن الألفاظ أجزلها، ومن المعاني أعمها وأحسنها، وهذا موجب لكمال اتباعه و [سرعة] الانقياد له، وشكر الله على المنّة به.
ولكن أكثر الناس لا يقدر نعم الله قدرها، ولهذا قال تعالى: { بَلْ عَجِبُوۤاْ } أي: المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم، { أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } أي: ينذرهم ما يضرهم، ويأمرهم بما ينفعهم، وهو من جنسهم، يمكنهم التلقي عنه، ومعرفة أحواله وصدقه.
فتعجبوا من أمر لا ينبغي لهم التعجب منه، بل يتعجب من عقل من تعجب منه. { فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ } الذين حملهم كفرهم وتكذيبهم، لا نقص بذكائهم وآرائهم. { هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } أي: مستغرب، وهم في هذا الاستغراب بين أمرين: إما صادقون في [استغرابهم و] تعجبهم، فهذا يدلّ على غاية جهلهم، وضعف عقولهم، بمنزلة المجنون الذي يستغرب كلام العاقل، وبمنزلة الجبان الذي يتعجب من لقاء الفارس للفرسان، وبمنزلة البخيل الذي يستغرب سخاء أهل السخاء، فأي ضرر يلحق من تعجب من هذه حاله؟ وهل تعجبه إلا دليل على زيادة ظلمه وجهله؟ وإما أن يكونوا متعجبين، على وجه يعلمون خطأهم فيه، فهذا من أعظم الظلم وأشنعه.
ثم ذكر وجه تعجبهم، فقال: { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } فقاسوا قدرة من هو على كل شيء قدير، الكامل من كل وجه، بقدرة العبد الفقير العاجز من جميع الوجوه، وقاسوا الجاهل الذي لا علم له، بمن هو بكل شيء عليم، الذي يعلم ما تنقص الأرض من أجسادهم مدة مقامهم في برزخهم، وقد أحصى في كتابه الذي هو عنده محفوظ عن التغيير والتبديل، كل ما يجري عليهم في حياتهم ومماتهم، وهذا استدلالً بكمال علمه، وسعته التي لا يحيط بها إلا هو، على قدرته على إحياء الموتى.
{ بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ }5


أي: { بَلْ } كلامهم الذي صدر منهم، إنما هو عناد وتكذيب للحق الذي هو أعلى أنواع الصدق { لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } أي: مختلط مشتبه، لا يثبتون على شيء، ولا يستقر لهم قرار، فتارة يقولون عنك إنك ساحر، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وكذلك جعلوا القرآن عضين، كل قال فيه ما اقتضاه رأيه الفاسد، وهكذا كل من كذب بالحق، فإنه في أمر مختلط، لا يدرى له وجهة ولا قرار، [فترى أموره متناقضة مؤتفكة] كما أن من اتبع الحق وصدق به، قد استقام أمره، واعتدل سبيله، وصدق فعله قيله.
{ أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } 6 { وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } 7 { تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } 8 { وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَٰرَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ } 9 { وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } 10 { رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ }11


لما ذكر تعالى حالة المكذبين وما ذمهم به، دعاهم إلى النظر في آياته الأفقية، كي يعتبروا، ويستدلوا بها على ما جعلت أدلة عليه فقال: { أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ } أي: لا يحتاج ذلك النظر إلى كلفة وشد رحل، بل هو في غاية السهولة، فينظرون { كَيْفَ بَنَيْنَاهَا } قبة مستوية الأرجاء، ثابتة البناء، مزينة بالنجوم الخنس، والجوار الكنس، التي ضربت من الأفق إلى الأفق في غاية الحسن والملاحة، لا ترى فيها عيباً، ولا فروجاً، ولا خلالاً، ولا إخلالاً.
قد جعلها الله سقفاً لأهل الأرض، وأودع فيها من مصالحهم الضرورية ما أودع.
{ وَ } إلى { ٱلأَرْضَ } كيف { مَدَدْنَاهَا } ووسعناها، حتى أمكن كل حيوان السكون فيها والاستقرار، والاستعداد لجميع مصالحه، وأرساها بالجبال، لتستقر من التزلزل والتموج، { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي: من كل صنف من أصناف النبات التي تسر ناظرها، وتعجب مبصرها، وتقر عين رامقها، لأكل بني آدم، وأكل بهائمهم ومنافعهم، وخص من تلك المنافع بالذكر، الجنات المشتملة على الفواكه اللذيذة، من العنب والرمان والأترج والتفاح، وغير ذلك من أصناف الفواكه، ومن النخيل الباسقات أي: الطوال، التي يطول نفعها وترتفع إلى السماء، حتى تبلغ مبلغاً لا يبلغه كثير من الأشجار، فتخرج من الطلع النضيد، في قنوانها ما هو رزق للعباد قوتاً وأدماً وفاكهة، يأكلون منه ويدخرون، هم ومواشيهم وكذلك ما يخرج الله بالمطر، وما هو أثره من الأنهار التي على وجه الأرض، والتي تحتها من حب الحصيد، أي: من الزرع المحصود، من بُرٍّ وشعير، وذرة، وأرز، ودخن وغيره.
فإن في النظر في هذه الأشياء { تَبْصِرَةً } يتبصر بها من عمى الجهل، { وَذِكْرَىٰ } يتذكر بها، ما ينفع في الدين والدنيا، ويتذكر بها ما أخبر الله به، وأخبرت به رسله، وليس ذلك لكل أحد، بل { لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } إلى الله أي: مقبل عليه بالحب والخوف والرجاء، وإجابة داعيه، وأما المكذب أو المعرض، فما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون. وحاصل هذا، أن ما فيها من الخلق الباهر، والشدة والقوة، دليل على كمال قدرة الله تعالى، وما فيها من الحسن والإتقان، وبديع الصنعة، وبديع الخلقة، دليل على أن الله أحكم الحاكمين، وأنه بكل شيء عليم، وما فيها من المنافع والمصالح للعباد، دليل على رحمة الله التي وسعت كل شيء، وجوده الذي عم كل حي، وما فيها من عظم الخلقة وبديع النظام، دليل على أن الله تعالى هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له كفواً أحد، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والذل [والحب] إلا له تعالى.
وما فيها من إحياء الأرض بعد موتها، دليل على إحياء الله الموتى، ليجازيهم بأعمالهم، ولهذا قال: { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ }.
ولما ذكرهم بهذه الآيات السماوية والأرضية، خوَّفهم أخذات الأمم، وألاَّ يستمروا على ما هم عليه من التكذيب، فيصيبهم ما أصاب إخوانهم من المكذبين، فقال: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ... }.

ابوالوليد المسلم
14-08-2020, 04:00 AM
الحلقة (549)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة https://majles.alukah.net/images/smilies/end.gifق
من الأية(12)الى الأية(22)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة ق
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ } 12 { وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ } 13 { وَأَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } 14 { أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }15


أي: كذب الذين من قبلهم من الأمم رسلهم الكرام وأنبياءهم العظام، كـ " نوح " كذبه قومه، [وثمود كذبوا صالحاً]، وعاد، كذبوا " هوداً " ، وإخوان لوط كذبوا " لوطاً " ، وأصحاب الأيكة كذبوا " شعيباً " ، وقوم تبع، وتبع كل ملك ملك اليمن في الزمان السابق قبل الإسلام فقوم تبع كذبوا الرسول الذي أرسله الله إليهم، ولم يخبرنا الله من هو ذلك الرسول، وأي تُبَّع من التبابعة، لأنه - والله أعلم - كان مشهوراً عند العرب لكونهم من العرب العرباء، الذين لا تخفى ماجرياتهم على العرب خصوصاً مثل هذه الحادثة العظيمة. فهؤلاء كلهم كذبوا الرسل، الذين أرسلهم الله إليهم، فحق عليهم وعيد الله وعقوبته، ولستم أيها المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم، خيراً منهم، ولا رسلهم أكرم على الله من رسولكم، فاحذروا جرمهم، لئلا يصيبكم ما أصابهم. ثم استدل تعالى بالخلق الأول - وهو المنشأ الأول - على الخلق الآخر، وهو النشأة الآخرة.
فكما أنه الذي أوجدهم بعد العدم، كذلك يعيدهم بعد موتهم وصيرورتهم إلى [الرفات] والرمم، فقال: { أَفَعَيِينَا } أي: أفعجزنا وضعفت قدرتنا { بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ }؟ ليس الأمر كذلك، فلم نعجز ونَعْيَ عن ذلك، وليسوا في شك من ذلك، وإنما هم في لبس من خلق جديد هذا الذي شكوا فيه، والتبس عليهم أمره، مع أنه لا محل للبس فيه، لأن الإعادة أهون من الابتداء، كما قال تعالى:{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27].
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } 16 { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَا نِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } 17 { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }18


يخبر تعالى أنه المتفرد بخلق جنس الإنسان، ذكورهم وإناثهم، وأنه يعلم أحواله وما يسرَّه، ويوسوس في صدره، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، الذي هو أقرب شيء إلى الإنسان، وهو العرق المكتنف لثغرة النحر، وهذا مما يدعو الإنسان إلى مراقبة خالقه، المطلع على ضميره وباطنه، القريب منه في جميع أحواله، فيستحي منه أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره، وكذلك ينبغي له أن يجعل الملائكة الكرام الكاتبين منه على بال، فيجلهم ويوقرهم، ويحذر أن يفعل أو يقول ما يكتب عنه، مما لا يرضي رب العالمين، ولهذا قال: { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَا نِ } أي: يتلقيان عن العبد أعماله كلها، واحد { عَنِ ٱلْيَمِينِ } يكتب الحسنات، { وَ } الآخر { عَنِ ٱلشِّمَالِ } يكتب السيئات، وكل منهما { قَعِيدٌ } بذلك متهيئ لعمله الذي أعد له، ملازم له { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } خير أو شر { إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } أي: مراقب له، حاضر لحاله، كما قال تعالى:{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار: 10-12].
{ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } 19 { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } 20 { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } 21 { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ }22


أي: { وَجَاءَتْ } هذا الغافل المكذب بآيات الله { سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } الذي لا مرد له ولا مناص، { ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي: تتأخر وتنكص عنه، { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } أي: اليوم الذي يلحق الظالمين ما أوعدهم الله به من العقاب، والمؤمنين ما وعدهم به من الثواب. { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ } يسوقها إلى موقف القيامة، فلا يمكنها أن تتأخر عنه، { وَشَهِيدٌ } يشهد عليها بأعمالها، خيرها وشرها، وهذا يدل على اعتناء الله بالعباد، وحفظه لأعمالهم، ومجازاته لهم بالعدل، فهذا الأمر، مما يجب أن يجعله العبد منه على بال، ولكن أكثر الناس غافلون، ولهذا قال: { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا } أي: يقال للمعرض المكذب يوم القيامة هذا الكلام توبيخاً، ولوماً وتعنيفاً أي: لقد كنت مكذباً بهذا، تاركاً للعمل له فالآن { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } الذي غطى قلبك، فكثر نومك، واستمر إعراضك، { فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } ينظر ما يزعجه ويروعه من أنواع العذاب والنكال.
أو هذا خطاب من الله للعبد فإنه في الدنيا في غفلة عما خلق له، ولكنه يوم القيامة، ينتبه ويزول عنه وسنه، ولكنّه في وقت لا يمكنه أن يتدارك الفارط، ولا يستدرك الفائت، وهذا كله تخويف من الله للعباد، وترهيب، بذكر ما يكون على المكذبين في ذلك اليوم العظيم.

ابوالوليد المسلم
14-08-2020, 04:01 AM
الحلقة (550)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة https://majles.alukah.net/images/smilies/end.gifق
من الأية(23)الى الأية(35)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة ق
{ وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } 23 { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } 24 { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ } 25 { ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } 26 { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } 27 { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } 28 { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }29


يقول تعالى: { وَقَالَ قَرِينُهُ } أي: قرين هذا المكذب المعرض، من الملائكة، الذين وكلهم الله على حفظه وحفظ أعماله، فيحضره يوم القيامة ويحضر أعماله ويقول: { هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أي: قد أحضرت ما جعلت عليه، من حفظه وحفظ عمله، فيجازى بعمله.
ويقال لمن استحق النار: { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } أي: كثير الكفر والعناد لآيات الله، المكثر من المعاصي، المجترئ على المحارم والمآثم.
{ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } أي: يمنع الخير الذي عنده، الذي أعظمه الإيمان بالله [وملائكته] وكتبه ورسله مناع، لنفع ماله وبدنه، { مُعْتَدٍ } على عباد الله، وعلى حدوده، { مُّرِيبٍ } أي: شاك في وعد الله ووعيده، فلا إيمان ولا إحسان ولكن وصفه الكفر والعدوان، والشك والريب والشح، واتخاذ الآلهة من دون الرحمن، ولهذا قال: { ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } أي: عبد معه غيره، ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا نشوراً، { فَأَلْقِيَاهُ } أيها الملكان القرينان { فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } الذي هو معظمها وأشدها وأشنعها. { قَالَ قرِينُهُ } الشيطان، متبرئاً منه، حاملاً عليه إثمه: { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } لأني لم يكن لي عليه سلطان ولا حجة ولا برهان، ولكن كان في الضلال البعيد، فهو الذي ضل وأبعد عن الحق باختياره، كما قال في الآية الأخرى:{ وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ... } الآية [إبراهيم: 22].
قال الله تعالى مجيباً لاختصامهم: { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } أي: لا فائدة في اختصامكم عندي، { وَ } الحال أني { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } أي: جاءتكم رسلي بالآيات البينات، والحجج الواضحات، والبراهين الساطعات، فقامت عليكم حجتي، وانقطعت حجتكم، وقدمتم عليَّ بما أسلفتم من الأعمال التي وجب جزاؤها.
{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ } أي: لا يمكن أن يخلف ما قاله الله وأخبر به، لأنه لا أصدق من الله قيلاً، ولا أصدق حديثاً. { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } بل أجزيهم بما عملوا من خير وشر، فلا يزاد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم.
{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } 30 { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } 31 { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } 32 { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } 33 { ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } 34 { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }35


يقول تعالى مخوفاً لعباده: { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ } وذلك من كثرة ما ألقي فيها، { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أي: لا تزال تطلب الزيادة من المجرمين العاصين، غضباً لربها، وغيظاً على الكافرين. وقد وعدها الله ملأها، كما قال تعالى:{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود: 119] حتى يضع رب العزة عليها قدمه الكريمة المنزهة عن التشبيه، فينزوي بعضها على بعض، وتقول: قط قط، قد اكتفيت وامتلأت.
{ وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ } أي: قربت بحيث تشاهد وينظر ما فيها، من النعيم المقيم، والحبرة والسرور، وإنما أزلفت وقربت، لأجل المتقين لربهم، التاركين للشرك، صغيره وكبيره ، الممتثلين لأوامر ربهم، المنقادين له، ويقال لهم على وجه التهنئة: { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } أي: هذه الجنة وما فيها مما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، هي التي وعد الله كل أواب أي: رجَّاع إلى الله في جميع الأوقات، بذكره وحبه، والاستعانة به، ودعائه وخوفه ورجائه. { حَفِيظٍ } أي: يحافظ على ما أمر الله به، بامتثاله على وجه الإخلاص والإكمال له، على أكمل الوجوه، حفيظ لحدوده. { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ } أي: خافه على وجه المعرفة بربه، والرجاء لرحمته، ولازم على خشية الله في حال غيبه أي: مغيبه عن أعين الناس، وهذه هي الخشية الحقيقية، وأما خشيته في حال نظر الناس وحضورهم، فقد تكون رياء وسمعة، فلا تدل على الخشية، وإنما الخشية النافعة، خشية الله في الغيب والشهادة ويحتمل أن المراد بخشية الله بالغيب كالمراد بالإيمان بالغيب، وأن هذا مقابلٌ للشهادة حيث يكون الإيمان والخشية ضرورياً لا اختيارياً، حيث يعاين العذاب وتأتي آيات الله وهذا هو الظاهر.
{ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } أي: وصفه الإنابة إلى مولاه، وانجذاب دواعيه إلى مراضيه، ويقال لهؤلاء الأتقياء الأبرار: { ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ } أي: دخولاً مقروناً بالسلامة من الآفات والشرور، مأموناً فيه جميع مكاره الأمور، فلا انقطاع لنعيمهم ولا كدر ولا تنغيص، { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } الذي لا زوال له ولا موت، ولا شيء من المكدرات.
{ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } أي: كل ما تعلقت به مشيئتهم فهو حاصل فيها ولهم فوق ذلك { مَزِيدٌ } أي: ثواب يمدهم به الرحمن الرحيم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأعظم ذلك وأجلُّه وأفضله، النظر إلى وجه الله الكريم، والتمتع بسماع كلامه، والتنعم بقربه، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم.

ابوالوليد المسلم
17-08-2020, 05:06 AM
الحلقة (551)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة https://majles.alukah.net/images/smilies/end.gifق
من الأية(36)الى الأية(45)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة ق
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } 36 { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }37


يقول تعالى - مخوفاً للمشركين المكذبين للرسول:- { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } أي: أمماً كثيرة هم أشد من هؤلاء بطشاً أي: قوةً وآثاراً في الأرض.
ولهذا قال: { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } أي: بنوا الحصون المنيعة والمنازل الرفيعة، وغرسوا الأشجار، وأجروا الأنهار، وزرعوا، وعمروا، ودمَّروا، فلما كذَّبوا رسل الله، وجحدوا آيات الله، أخذهم الله بالعقاب الأليم، والعذاب الشديد، فـ { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } أي: لا مفر لهم من عذاب الله حين نزل بهم ولا منقذ، فلم تغن عنهم قوتهم، ولا أموالهم، ولا أولادهم.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي: قلب عظيم حيٌّ ذكيٌّ زكِيٌّ، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله، تذكر بها، وانتفع فارتفع، وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله، واستمعها استماعاً يسترشد به، وقلبه { شَهِيدٌ } أي: حاضر، فهذا له أيضاً ذكرى وموعظة، وشفاء وهدى.
وأما المعرض، الذي لم يلق سمعه إلى الآيات، فهذا لا تفيده شيئاً، لأنه لا قبول عنده، ولا تقتضي حكمة الله هداية من هذا وصفه ونعته.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } 38 { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } 39 { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ }40


وهذا إخبارٌ منه تعالى عن قدرته العظيمة، ومشيئته النافذة، التي أوجد بها أعظم المخلوقات { ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أوّلها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، من غير تعب ولا نصب، ولا لغوب، ولا إعياء، فالذي أوجدها - على كبرها وعظمتها - قادر على إحياء الموتى، من باب أولى وأحرى. { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } من الذم لك والتكذيب بما جئت به، واشتغل عنهم واله بطاعة ربك وتسبيحه، أول النهار وآخره، وفي أوقات الليل، وأدبار الصلوات. فإن ذكر الله تعالى مُسلٍّ للنفس، مؤنس لها، مُهوِّنٌ للصبر.
{ وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } 41 { يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } 42 { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ } 43 { يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } 44 { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ }45


أي: { وَٱسْتَمِعْ } بقلبك نداء المنادي وهو إسرافيل عليه السلام، حين ينفخ في الصور { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } من الخلق { يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ } أي: كل الخلائق يسمعون تلك الصيحة المزعجة المهولة { بِٱلْحَقِّ } الذي لا شك فيه ولا امتراء. { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } من القبور، الذي انفرد به القادر على كل شيء، ولهذا قال: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ } أي: عن الأموات. { سِرَاعاً } أي: يسرعون لإجابة الداعي لهم إلى موقف القيامة، { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } أي: هيّن على الله، يسير لا تعب فيه ولا كلفة، { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } لك مما يحزنك من الأذى، وإذا كنا أعلم بذلك، فقد علمت كيف اعتناؤنا بك، وتيسيرنا لأمورك، ونصرنا لك على أعدائك، فليفرح قلبك، ولتطمئن نفسك، ولتعلم أننا أرحم بك وأرأف من نفسك، فلم يبق لك إلا انتظار وعد الله، والتأسِّي بأولي العزم من رسل الله، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي: مسلط عليهم{ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد: 7] ولهذا قال: { فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } والتذكير، [هو] تذكير ما تقرر في العقول والفطر، من محبة الخير وإيثاره، وفعله، ومن بغض الشر ومجانبته، وإنما يتذكر بالتذكير، من يخاف وعيد الله، وأما من لم يخف الوعيد ولم يؤمن به، فهذا فائدة تذكيره إقامة الحجة عليه، لئلا يقول:{ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } [المائدة: 19].

ابوالوليد المسلم
17-08-2020, 05:07 AM
الحلقة (552)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الذارياتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)الى الأية(14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الذاريات
{ وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } 1 { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } 2 { فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } 3 { فَٱلْمُقَسِّمَا تِ أَمْراً } 4 { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } 5 { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٱقِعٌ }6


هذا قسم من الله الصادق في قيله، بهذه المخلوقات العظيمة التي جعل الله فيها من المصالح والمنافع ما جعل على أن وعده صدق، وأن الدين الذي هو يوم الجزاء والمحاسبة على الأعمال، لواقع لا محالة، ما له من دافع، فإذا أخبر به الصادق العظيم وأقسم عليه، وأقام الأدلة والبراهين عليه، فلم يكذب به المكذبون، ويعرض عن العمل له العاملون.
والمراد بالذاريات: هي الرياح التي تذروا في هبوبها { ذَرْواً } بلينها، ولطفها، وقوتها، وإزعاجها، { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } السحاب، تحمل الماء الكثير، الذي ينفع الله به البلاد والعباد، و { فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً }: النجوم التي تجري على وجه اليسر والسهولة، فتتزين بها السماوات، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وينتفع بالاعتبار بها، { فَٱلْمُقَسِّمَا تِ أَمْراً }: الملائكة التي تقسم الأمر وتدبره بإذن الله، فكل منهم قد جعله الله على تدبير أمر من أمور الدنيا وأمور الآخرة، لا يتعدى ما قدر له وما حُدّ ورسم، ولا ينقص منه.
{ وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } 7 { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } 8 { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ }9


أي: والسماء ذات الطرائق الحسنة، التي تشبه حبك الرمال، ومياه الغدران، حين يحركها النسيم. { إِنَّكُمْ } أيها المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم، { لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } منكم من يقول ساحر، ومنكم من يقول كاهن، ومنكم من يقول مجنون، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة، الدالة على حيرتهم وشكهم، وأن ما هم عليه باطل.
{ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي: يصرف عنه من صرف عن الإيمان، وانصرف قلبه عن أدلة الله اليقينية وبراهينه، واختلاف قولهم دليل على فساده وبطلانه، كما أن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، متفق [يصدق بعضه بعضًا] لا تناقض فيه ولا اختلاف، وذلك دليل على صحته، وأنه من عند الله{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [النساء: 82].
{ قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } 10 { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } 11 { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } 12 { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } 13 { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ }14


يقول تعالى: { قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } أي: قاتل الله الذين كذبوا على الله، وجحدوا آياته، وخاضوا بالباطل، ليدحضوا به الحق، الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ } أي: في لجة من الكفر، والجهل، والضلال، { سَاهُونَ } { يَسْأَلُونَ } على وجه الشك والتكذيب أيان يبعثون أي: متى يبعثون، مستبعدين لذلك، فلا تسأل عن حالهم وسوء مآلهم { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } أي: يعذبون بسبب ما انطووا عليه من خبث الباطن والظاهر، ويقال [لهم ]: { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } أي: العذاب والنار، الذي هو أثر ما افتتنوا به، من الابتلاء الذي صيرهم إلى الكفر والضلال، { هَـٰذَا } العذاب، الذي وصلتم إليه، [هو] { ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } فالآن تمتعوا بأنواع العقاب والنكال، والسلاسل والأغلال، والسخط والوبال.

ابوالوليد المسلم
17-08-2020, 05:07 AM
الحلقة (553)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الذارياتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(15)الى الأية(23)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الذاريات

{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } 15 { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } 16 { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } 17 { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } 18 { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ }19


يقول تعالى في ذكر ثواب المتقين وأعمالهم، التي أوصلتهم إلى ذلك الجزاء: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } أي: الذين كانت التقوى شعارهم، وطاعة الله دثارهم، { فِي جَنَّاتٍ } مشتملات على جميع [أصناف] الأشجار والفواكه التي يوجد لها نظير في الدنيا، والتي لا يوجد لها نظير، مما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على قلوب العباد، { وَعُيُونٍ } سارحة، تشرب منها تلك البساتين، ويشرب بها عباد الله، يفجرونها تفجيراً.
{ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } يحتمل أن المعنى أن أهل الجنة قد أعطاهم مولاهم جميع مناهم، من جميع أصناف النعيم، فأخذوا ذلك، راضين به، قد قرت به أعينهم، وفرحت به نفوسهم، ولم يطلبوا منه بدلاً، ولا يبغون عنه حولاً، وكل قد ناله من النعيم ما لا يطلب عليه المزيد، ويحتمل أن هذا وصف المتقين في الدنيا، وأنهم آخذون ما آتاهم الله، من الأوامر والنواهي أي: قد تلقوها بالرحب وانشراح الصدر، منقادين لما أمر الله به، بالامتثال على أكمل الوجوه، ولما نهى عنه، بالانزجار عنه لله، على أكمل وجه، فإن الذي أعطاهم الله من الأوامر والنواهي هو أفضل العطايا، التي حقها أن تتلقى بالشكر [لله] عليها والانقياد.
والمعنى الأول ألصق بسياق الكلام، لأنه ذكر وصفهم في الدنيا، وأعمالهم بقوله: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } الوقت الذي وصلوا به إلى النعيم { مُحْسِنِينَ } وهذا شامل لإحسانهم بعبادة ربهم، بأن يعبدوه كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه، فإنه يراهم، وللإحسان إلى عباد الله ببذل النفع والإحسان، من مال، أو علم، أو جاه، أو نصيحة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو غير ذلك من وجوه الإحسان، وطرق الخيرات. حتى إنه يدخل في ذلك، الإحسان بالقول، والكلام اللين، والإحسان إلى المماليك، والبهائم المملوكة وغير المملوكة، ومن أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق، صلاة الليل، الدالة على الإخلاص، وتواطؤ القلب واللسان، ولهذا قال: { كَانُواْ } أي: المحسنون { قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أي: كان هجوعهم أي: نومهم بالليل، قليلاً، وأما أكثر الليل، فإنهم قانتون لربهم، ما بين صلاة، وقراءة، وذكر، ودعاء، وتضرع، { وَبِٱلأَسْحَارِ } التي هي قبيل الفجر { هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الله تعالى، فمدوا صلاتهم إلى السحر، ثم جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل، يستغفرون الله تعالى، استغفار المذنب لذنبه، وللاستغفار بالأسحار فضيلة وخصيصة ليست لغيره، كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان والطاعة:{ وَٱلْمُسْتَغْفِ رِينَ بِٱلأَسْحَارِ } [آل عمران: 17] { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } واجب ومستحب { لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } أي: للمحتاجين الذين يطلبون من الناس، والذين لا يطلبون منهم.
{ وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } 20 { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } 21 { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } 22 { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ }23


يقول تعالى - داعياً عباده إلى التفكر والاعتبار -: { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } وذلك شامل لنفس الأرض، وما فيها من جبال وبحار وأنهار وأشجار ونبات، تدل المتفكر فيها، المتأمل لمعانيها، على عظمة خالقها، وسعة سلطانه، وعميم إحسانه، وإحاطة علمه، بالظواهر والبواطن. وكذلك في نفس العبد من العبر والحكمة والرحمة ما يدل على أن الله وحده الأحد الفرد الصمد، وأنه لم يخلق الخلق سدى. وقوله: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } أي مادة رزقكم من الأمطار، وصنوف الأقدار، الرزق الديني والدنيوي، { وَمَا تُوعَدُونَ } من الجزاء في الدنيا والآخرة، فإنه ينزل من عند الله كسائر الأقدار، فلما بين الآيات ونبه عليها تنبيهاً ينتبه به الذكي اللبيب، أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه حق، وشبه ذلك بأظهر الأشياء [لنا] وهو النطق، فقال: { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } فكما لا تشكون في نطقكم، فكذلك لا ينبغي الشك في البعث بعد الموت.

ابوالوليد المسلم
17-08-2020, 05:08 AM
الحلقة (554)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الذارياتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(24)الى الأية(37)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الذاريات
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ } 24 { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } 25 { فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } 26 { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ } 27 { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ } 28 { فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } 29 { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } 30 { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } 31 { قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } 32 { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } 33 { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } 34 { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } 35 { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } 36 { وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ }37


يقول تعالى: { هَلْ أَتَاكَ } أي: أما جاءك { حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ } ونبأهم الغريب العجيب، وهم: الملائكة الذين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط، وأمرهم بالمرور على إبراهيم، فجاؤوه في صورة أضياف. { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ } مجيباً لهم { سَلاَمٌ } أي: عليكم { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي: أنتم قوم منكرون، فأحب أن تعرفوني بأنفسكم، ولم يعرفهم إلا بعد ذلك. ولهذا راغ إلى أهله أي: ذهب سريعاً في خفية، ليحضر لهم قراهم، { فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } وعرض عليهم الأكل، فـ { قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } حين رأى أيديهم لا تصل إليه، { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } وأخبروه بما جاؤوا له { وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ } وهو: إسحاق عليه السلام. فلما سمعت المرأة البشارة { أَقْبَلَتِ } فرحة مستبشرة { فِي صَرَّةٍ } أي: صيحة { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } وهذا من جنس ما يجري من النساء عند السرور [ونحوه] من الأقوال والأفعال المخالفة للطبيعة والعادة، { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي: أنَّى لي الولد، وأنا عجوز، قد بلغت من السن، ما لا تلد معه النساء، ومع ذلك، فأنا عقيم، غير صالح رحمي للولادة أصلاً، فَثَمَّ مانعان، كل منهما مانع من الولد، وقد ذكرت المانع الثالث في سورة هود بقولها:{ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [هود: 72]. { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ } أي: الله الذي قدر ذلك وأمضاه، فلا عجب في قدرة الله تعالى { إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } أي: الذي يضع الأشياء مواضعها، وقد وسع كل شيء علماً فسلموا لحكمه، واشكروه على نعمته. قال لهم إبراهيم عليه السلام: { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } الآيات، أي: ما شأنكم وما تريدون؟ لأنه استشعر أنهم رسل، أرسلهم الله لبعض الشئون المهمة. { قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } وهم قوم لوط، قد أجرموا ، أشركوا بالله، وكذبوا رسولهم، وأتوا الفاحشة الشنعاء التي ما سبقهم إليها أحد من العالمين. { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } أي: معلمة، على كل حجر منها سمة صاحبه، لأنهم أسرفوا وتجاوزوا الحد، فجعل إبراهيم يجادلهم في قوم لوط، لعل الله يدفع عنهم العذاب، فقال الله:{ يَٰإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [هود: 76]. { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } وهم بيت لوط عليه السلام، إلا امرأته، فإنها من المهلكين.
{ وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } يعتبرون بها ويعلمون أن الله شديد العقاب، وأن رسله صادقون مصدقون. فصل في ذكر بعض ما تضمنته هذه القصة من الحكم والأحكام منها: أن من الحكمة، قص الله على عباده نبأ الأخيار والفجار، ليعتبروا بحالهم، وأين وصلت بهم الأحوال.
ومنها: فضل إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، حيث ابتدأ الله قصته، بما يدل على الاهتمام بشأنها، والاعتناء بها. ومنها: مشروعية الضيافة، وأنها من سنن إبراهيم الخليل، الذي أمر الله هذا النبي وأمته، أن يتبعوا ملته، وساقها الله في هذا الموضع، على وجه المدح له والثناء. ومنها: أن الضيف يكرم بأنواع الإكرام، بالقول والفعل، لأن الله وصف أضياف إبراهيم بأنهم مكرمون أي: أكرمهم إبراهيم، ووصف الله ما صنع بهم من الضيافة، قولاً وفعلاً، ومكرمون أيضاً عند الله تعالى. ومنها: أن إبراهيم عليه السلام، قد كان بيته مأوى للطارقين والأضياف، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان، وإنما سلكوا طريق الأدب في الابتداء السلام، فرد عليهم إبراهيم سلاماً أكمل من سلامهم وأتم، لأنه أتى به جملة اسمية دالةً على الثبوت والاستمرار.
ومنها: مشروعية تعرف من جاء إلى الإنسان، أو صار له فيه نوع اتصال، لأن في ذلك، فوائد كثيرة. ومنها: أدب إبراهيم ولطفه في الكلام، حيث قال: { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ولم يقل: " أنكرتكم " [وبين اللفظين من الفرق ما لا يخفى]. ومنها: المبادرة إلى الضيافة والإسراع بها، لأن خير البر عاجله [ولهذا بادر إبراهيم بإحضار قرى أضيافه].
ومنها: أن الذبيحة الحاضرة، التي قد أعدت لغير الضيف الحاضر، إذا جعلت له، ليس فيها أقل إهانة، بل ذلك من الإكرام، كما فعل إبراهيم عليه السلام، وأخبر الله أن ضيفه مكرمون.
ومنها: ما منّ الله به على خليله إبراهيم، من الكرم الكثير، وكون ذلك حاضراً عنده، وفي بيته معداً، لا يحتاج إلى أن يأتي به من السوق أو الجيران، أو غير ذلك. ومنها: أن إبراهيم، هو الذي خدم أضيافه، وهو خليل الرحمن، وكبير من ضيَّف الضيفان. ومنها: أنه قرَّبه إليهم في المكان الذي هم فيه، ولم يجعله في موضع، ويقول لهم: " تفضلوا، أو ائتوا إليه " لأن هذا أيسر عليهم وأحسن. ومنها: حسن ملاطفة الضيف في الكلام اللين، خصوصاً عند تقديم الطعام إليه، فإن إبراهيم عرض عليهم عرضاً لطيفاً، وقال: { أَلاَ تَأْكُلُونَ } ولم يقل: " كلوا " ونحوه من الألفاظ، التي غيرها أولى منها، بل أتى بأداة العرض، فقال: { أَلاَ تَأْكُلُونَ } فينبغي للمقتدي به أن يستعمل من الألفاظ الحسنة، ما هو المناسب واللائق بالحال، كقوله لأضيافه: " ألا تأكلون " أو: " ألا تتفضلون علينا وتشرفوننا وتحسنون إلينا " ونحوه. ومنها: أن من خاف من الإنسان لسبب من الأسباب، فإن عليه أن يزيل عنه الخوف، ويذكر له ما يؤمن روعه، ويسكن جأشه، كما قالت الملائكة لإبراهيم [لما خافهم]: { لاَ تَخَفْ } وأخبروه بتلك البشارة السارة، بعد الخوف منهم.
ومنها: شدة فرح سارة امرأة إبراهيم، حتى جرى منها ما جرى، من صك وجهها، وصرَّتها غير المعهودة. ومنها: ما أكرم الله به إبراهيم وزوجته سارة، من البشارة بغلام عليم.

ابوالوليد المسلم
17-08-2020, 05:10 AM
الحلقة (555)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الذارياتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(38)الى الأية(46)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الذاريات
{ وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } 38 { فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } 39 { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ }40

أي: { وَفِي مُوسَىٰ } وما أرسله الله به إلى فرعون وملئِه بالآيات البينات، والمعجزات الظاهرات، آية للذين يخافون العذاب الأليم، فلما أتى موسى بذلك السلطان المبين، فتولى فرعون { بِرُكْنِهِ } أي: أعرض بجانبه عن الحق ولم يلتفت إليه، وقدح فيه أعظم القدح، فقالوا: { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } أي: إن موسى، لا يخلو إما أن يكون ساحراً وما أتى به شعبذة ليس من الحق في شيء، وإما أن يكون مجنوناً لا يؤخذ بما صدر منه لعدم عقله. هذا، وقد علموا، خصوصاً فرعون، أن موسى صادق، كما قال تعالى:{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْ هَآ أَنفُسُهُمْ [ظُلْماً وَعُلُوّاً] } [النمل: 14] وقال موسى لفرعون:{ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ [بَصَآئِرَ } الآية] [الإسراء: 102]، { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ } أي: مذنب طاغ، عات على الله، فأخذه عزيز مقتدر.
{ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } 41 { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ }42

أي { وَفِي عَادٍ } القبيلة المعروفة آية عظيمة { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } أي: التي لا خير فيها، حين كذبوا نبيهم هوداً عليه السلام، { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ } أي: كالرميم البالية، فالذي أهلكهم على قوتهم وبطشهم، دليل على [كمال] قوته واقتداره، الذي لا يعجزه شيء، المنتقم ممن عصاه.
{ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ } 43 { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ } 44 { فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ }45

أي { وَفِي ثَمُودَ } [آية عظيمة]، حين أرسل الله إليهم صالحاً عليه السلام، فكذبوه وعاندوه، وبعث الله له الناقة آية مبصرة، فلم يزدهم ذلك إلا عتواً ونفوراً. فقيل { لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ * فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } أي: الصيحة العظيمة المهلكة { وَهُمْ يَنظُرُونَ } إلى عقوبتهم بأعينهم، { فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ } ينجون به من العذاب، { وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } لأنفسهم.
{ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ }46

أي: وكذلك ما فعل الله بقوم نوح، حين كذبوا نوحاً عليه السلام وفسقوا عن أمر الله، فأرسل الله عليهم السماء والأرض بالماء المنهمر، فأغرقهم الله تعالى [عن آخرهم]، ولم يبق من الكافرين دياراً، وهذه عادة الله وسنته، فيمن عصاه.

ابوالوليد المسلم
17-08-2020, 05:12 AM
الحلقة (556)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الذارياتhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(47)الى الأية(60)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الذاريات
{ وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } 47 { وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } 48 { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } 49 { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } 50 { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }51


يقول تعالى مبيناً لقدرته العظيمة: { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا } أي: خلقناها وأتقنَّاها، وجعلناها سقفاً للأرض وما عليها.
{ بِأَييْدٍ } أي: بقوة وقدرة عظيمة { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } لأرجائها وأنحائها، وإنا لموسعون [أيضاً] على عبادنا، بالرزق الذي ما ترك الله دابة في مهامه القفار، ولجج البحار، وأقطار العالم العلوي والسفلي، إلا وأوصل إليها من الرزق، ما يكفيها، وساق إليها من الإحسان ما يغنيها. فسبحان من عم بجوده جميع المخلوقات، وتبارك الذي وسعت رحمته جميع البريات، { وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا } أي: جعلناها فراشاً للخلق، يتمكنون فيها من كل ما تتعلق به مصالحهم، من مساكن، وغراس وزرع وحرث وجلوس، وسلوك للطرق الموصلة إلى مقاصدهم ومآربهم، ولما كان الفراش قد يكون صالحاً للانتفاع من كل وجه، وقد يكون من وجه دون وجه، أخبر تعالى أنه مهدها أحسن مهاد، على أكمل الوجوه وأحسنها، وأثنى على نفسه بذلك، فقال: { فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } الذي مهد لعباده ما اقتضته [حكمته]، رحمته وإحسانه، { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [أي: صنفين]، ذكر وأنثى، من كل نوع من أنواع الحيوانات، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [لنعم الله التي أنعم بها عليكم] في تقدير ذلك، وحكمته حيث جعل ما هو السبب لبقاء نوع الحيوانات كلها، لتقوموا بتنميتها وخدمتها وتربيتها، فيحصل من ذلك ما يحصل من المنافع. فلما دعا العباد النظر لآياته الموجبة لخشيته والإنابة إليه، أمر بما هو المقصود من ذلك، وهو الفرار إليه أي: الفرار مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه، ظاهراً وباطناً، فرار من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، و من الغفلة إلى ذكر الله، فمن استكمل هذه الأمور، فقد استكمل الدين كله وقد زال عنه المرهوب، وحصل له نهاية المراد والمطلوب.
وسمى الله الرجوع إليه فراراً، لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب والأمن، [والسرور] والسعادة والفوز، فيفر العبد من قضائه وقدره، إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه فررت منه إلاّ الله تعالى، فإنه بحسب الخوف منه يكون الفرار إليه، { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي: منذر لكم من عذاب الله، ومخوف بين النذارة.
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } هذا من الفرار إلى الله، بل هذا أصل الفرار إليه أن يفر العبد من اتخاذ آلهة غير الله من الأوثان والأنداد والقبور، وغيرها، مما عبد من دون الله، ويخلص العبد لربه العبادة والخوف والرجاء والدعاء والإنابة.
{ كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } 52 { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ }53


يقول الله مسلياً لرسوله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المشركين بالله، المكذبين له، القائلين فيه من الأقوال الشنيعة، ما هو منزه عنه، وأن هذه الأقوال ما زالت دأباً وعادة للمجرمين المكذبين للرسل، فما أرسل الله من رسول إلا رماه قومه بالسحر أو الجنون. يقول الله تعالى: هذه الأقوال التي صدرت منهم - الأولين والآخرين - هل هي أقوال تواصوا بها، ولقن بعضهم بعضاً بها؟ فلا يستغرب - بسبب ذلك - اتفاقهم عليها: { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } تشابهت قلوبهم وأعمالهم بالكفر والطغيان، فتشابهت أقوالهم الناشئة عن طغيانهم؟ وهذا هو الواقع، كما قال تعالى:{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [البقرة: 118] وكذلك المؤمنون، لما تشابهت قلوبهم بالإذعان للحق وطلبه، والسعي فيه، بادروا إلى الإيمان برسلهم وتعظيمهم وتوقيرهم وخطابهم بالخطاب اللائق بهم.
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } 54 { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }55


يقول تعالى آمراً رسوله بالإعراض عن المعرضين المكذبين: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي: لا تبال بهم ولا تؤاخذهم، وأقبل على شأنك.
فليس عليك لوم في ذنبهم، وإنما عليك البلاغ، وقد أديت ما حملت، وبلّغت ما أرسلت به. { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } والتذكير نوعان: تذكير بما لم يعرف تفصيله، مما عرف مجمله بالفطر والعقول، فإن الله فطر العقول على محبة الخير وإيثاره، وكراهة الشر والزهد فيه، وشرعه موافق لذلك، فكل ما أمر به ونهى من الشرع، فإنه من التذكير، وتمام التذكير، أن يذكر ما في المأمور به، من الخير والحسن والمصالح، وما في المنهي عنه من المضار. والنوع الثاني من التذكير: تذكير بما هو معلوم للمؤمنين، ولكن انسحبت عليه الغفلة والذهول، فيُذكَّرون بذلك، ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم، وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه من ذلك، وليحدث لهم نشاطاً وهمة، توجب لهم الانتفاع والارتفاع. وأخبر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين، لأن ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة واتباع رضوان الله، يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى، وتقع الموعظة منهم موقعها، كما قال تعالى:{ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ * وَيَتَجَنَّبُهَ ا ٱلأَشْقَى } [الأعلى: 9-11] وأما من ليس له معه إيمان ولا استعداد لقبول التذكير، فهذا لا ينفع تذكيره، بمنزلة الأرض السبخة، التي لا يفيدها المطر شيئاً، وهؤلاء الصنف، لو جاءتهم كل آية لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } 56 { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } 57 { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ }58


هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم.
فما يريد منهم من رزق وما يريد أن يطمعوه، تعالى الله الغني المغني عن الحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه، وإنما جميع الخلق فقراء إليه، في جميع حوائجهم ومطالبهم، الضرورية وغيرها، ولهذا قال: { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ } أي: كثير الرزق، الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، { ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } أي: الذي له القوة والقدرة كلها، الذي أوجد بها الأجرام العظيمة، السفلية والعلوية، وبها تصرف في الظواهر والبواطن، ونفذت مشيئته في جميع البريات، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يعجزه هارب، ولا يخرج عن سلطانه أحد، ومن قوته أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم، ومن قدرته وقوته أنه يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلى، وعصفت بترابهم الرياح، وابتلعتهم الطيور والسباع، وتفرقوا وتمزقوا في مهامه القفار، ولجج البحار، فلا يفوته منهم أحد، ويعلم ما تنقص الأرض منهم، فسبحان القوي المتين.
{ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } 59 { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ }60


أي: وإن للذين ظلموا وكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم من العذاب والنكال { ذَنُوباً } أي: نصيباً وقسطاً، مثل ما فعل بأصحابهم من أهل الظلم والتكذيب. { فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } بالعذاب، فإن سنة الله في الأمم واحدة، فكل مكذب يدوم على تكذيبه من غير توبة وإنابة، فإنه لا بد أن يقع عليه العذاب، ولو تأخر عنه مدة، ولهذا توعدهم الله بيوم القيامة، فقال: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } وهو يوم القيامة، الذي قد وعدوا فيه بأنواع العذاب والنكال والسلاسل والأغلال، فلا مغيث لهم، ولا منقذ من عذاب الله تعالى [نعوذ بالله منه].

ابوالوليد المسلم
17-08-2020, 05:13 AM
الحلقة (557)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الطورhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)الى الأية(16)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الطور

{ وَٱلطُّورِ } 1 { وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } 2 { فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ } 3 { وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ } 4 { وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ } 5 { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } 6 { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } 7 { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } 8 { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً } 9 { وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } 10 { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } 11 { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } 12 { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } 13 { هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } 14 { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } 15 { ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }16


يقسم تعالى بهذه الأمور العظيمة، المشتملة على الحكم الجليلة، على البعث والجزاء للمتقين والمكذبين، فأقسم بالطور الذي هو الجبل الذي كلم الله عليه نبيه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وأوحى إليه ما أوحى من الأحكام، وفي ذلك من المنّة عليه وعلى أمته، ما هو من آيات الله العظيمة، ونعمه التي لا يقدر العباد لها على عدٍّ ولا ثمن.
{ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } يحتمل أن المراد به اللوح المحفوظ، الذي كتب الله به كل شيء، ويحتمل أن المراد به القرآن الكريم، الذي هو أفضل كتاب، أنزله الله محتوياً على نبأ الأولين والآخرين، وعلوم السابقين واللاحقين.
وقوله: { فِي رَقٍّ } أي: ورقٍّ { مَّنْشُورٍ } أي: مكتوب مسطر، ظاهر غير خفي، لا تخفى حاله على كل عاقل بصير. { وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ } وهو البيت الذي فوق السماء السابعة، المعمور مدى الأوقات بالملائكة الكرام، الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك [يتعبدون فيه لربهم ثم] ، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة وقيل: إن البيت المعمور هو بيت الله الحرام، المعمور بالطائفين والمصلين والذاكرين كل وقت، وبالوفود إليه بالحج والعمرة. كما أقسم الله به في قوله:{ وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } [التين: 3] وحقيق ببيت أفضل بيوت الأرض، الذي قصده بالحج والعمرة، أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، التي لا يتم إلا بها، وهو الذي بناه إبراهيم وإسماعيل، وجعله الله مثابة للناس وأمناً، أن يقسم الله به، ويبين من عظمته ما هو اللائق به وبحرمته. { وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ } أي: السماء، التي جعلها الله سقفاً للمخلوقات، وبناء للأرض، تستمد منها أنوارها، ويقتدى بعلاماتها ومنارها، وينزل الله منها المطر والرحمة وأنواع الرزق. { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } أي: المملوء ماء، قد سجره الله، ومنعه من أن يفيض على وجه الأرض، مع أن مقتضى الطبيعة، أن يغمر وجه الأرض، ولكن حكمته اقتضت أن يمنعه عن الجريان والفيضان، ليعيش من على وجه الأرض، من أنواع الحيوان وقيل: إن المراد بالمسجور، الموقد الذي يوقد [ناراً] يوم القيامة، فيصير ناراً تلظى، ممتلئاً على عظمته وسعته من أصناف العذاب. هذه الأشياء التي أقسم الله بها، مما يدل على أنها من آيات الله وأدلة توحيده، وبراهين قدرته، وبعثه الأموات، ولهذا قال: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } أي: لا بد أن يقع، ولا يخلف الله وعده وقيله. { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } يدفعه، ولا مانع يمنعه، لأن قدرة الله تعالى لا يغالبها مغالب، ولا يفوتها هارب، ثم ذكر وصف ذلك اليوم، الذي يقع فيه العذاب، فقال: { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً } أي: تدور السماء وتضطرب، وتدوم حركتها بانزعاج وعدم سكون، { وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } أي: تزول عن أماكنها، وتسير كسير السحاب، وتتلون كالعهن المنفوش، وتبث بعد ذلك [حتى تصير] مثل الهباء، وذلك كله لعظم هول يوم القيامة، وفظاعة ما فيه من الأمور المزعجة، والزلازل المقلقة، التي أزعجت هذه الأجرام العظيمة، فكيف بالآدمي الضعيف!؟ { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } والويل: كلمة جامعة لكل عقوبة وحزن وعذاب وخوف، ثم ذكر وصف المكذبين الذين استحقوا به الويل، فقال: { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } أي: خوض في الباطل ولعب به.
فعلومهم وبحوثهم بالعلوم الضارة المتضمنة للتكذيب بالحق، والتصديق بالباطل، وأعمالهم أعمال أهل الجهل والسفه واللعب، بخلاف ما عليه أهل التصديق والإيمان من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة.
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } أي: يوم يدفعون إليها دفعاً، ويساقون إليها سوقاً عنيفاً، ويجرون على وجوههم، ويقال لهم توبيخاً ولوماً: { هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } فاليوم ذوقوا عذاب الخلد الذي لا يبلغ قدره، ولا يوصف أمره.
{ أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } يحتمل أن الإشارة إلى النار والعذاب، كما يدل عليه سياق الآية أي: لما رأوا النار والعذاب قيل لهم من باب التقريع: " أهذا سحر لا حقيقة له، فقد رأيتموه، أم أنتم في الدنيا لا تبصرون " أي: لا بصيرة لكم ولا علم عندكم، بل كنتم جاهلين بهذا الأمر، لم تقم عليكم الحجة؟ والجواب انتفاء الأمرين: أما كونه سحراً، فقد ظهر لهم أنه أحق الحق، وأصدق الصدق، المخالف للسحر من جميع الوجوه، وأما كونهم لا يبصرون، فإن الأمر بخلاف ذلك، بل حجة الله قد قامت عليهم، ودعتهم الرسل إلى الإيمان بذلك، وأقامت من الأدلة والبراهين على ذلك، ما يجعله من أعظم الأمور المبرهنة الواضحة الجليَّة.
ويحتمل أن الإشارة [بقوله: { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } ] إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق المبين، والصراط المستقيم أي: هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سحرٌ أم عدم بصيرة بكم، حتى اشتبه عليكم الأمر، وحقيقة الأمر أنه أوضح من كل شيء وأحق الحق، وأن حجة الله قامت عليهم. { ٱصْلَوْهَا } أي: ادخلوا النار على وجه تحيط بكم، وتستوعب جميع أبدانكم، وتطلع على أفئدتكم. { فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } أي: لا يفيدكم الصبر على النار شيئاً، ولا يتأسى بعضكم ببعض، ولا يخفف عنكم العذاب، وليست من الأمور التي إذا صبر العبد عليها هانت مشقتها وزالت شدتها.
وإنما فعل بهم ذلك، بسبب أعمالهم الخبيثة وكسبهم، [ولهذا قال] { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.

ابوالوليد المسلم
17-08-2020, 05:14 AM
الحلقة (558)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الطورhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(17)الى الأية(28)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الطور

{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } 17 { فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } 18 { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } 19 { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ }20


لما ذكر تعالى عقوبة المكذبين، ذكر نعيم المتقين، ليجمع بين الترغيب والترهيب، فتكون القلوب بين الخوف والرجاء، فقال: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } لربهم، الذين اتقوا سخطه وعذابه، بفعل أسبابه من امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
{ فِي جَنَّاتٍ } أي: بساتين، قد اكتست رياضها من الأشجار الملتفة، والأنهار المتدفقة، والقصور المحدقة، والمنازل المزخرفة، { وَنَعِيمٍ } [وهذا] شامل لنعيم القلب والروح والبدن، { فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } أي: معجبين به، متمتعين على وجه الفرح والسرور بما أعطاهم الله من النعيم الذي لا يمكن وصفه، ولا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، ووقاهم عذاب الجحيم، فرزقهم المحبوب، ونجاهم من المرهوب، لما فعلوا ما أحبه الله، وجانبوا ما يسخطه ويأباه.
{ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } أي: مما تشتهيه أنفسكم، من [أصناف] المآكل والمشارب اللذيذة، { هَنِيئَاً } أي: متهنئين بتلك المآكل والمشارب على وجه الفرح والسرور والبهجة والحبور.
{ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: نلتم ما نلتم بسبب أعمالكم الحسنة، وأقوالكم المستحسنة.
{ مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } الاتكاء: هو الجلوس على وجه التمكن والراحة والاستقرار، والسرر: هي الأرائك المزينة بأنواع الزينة من اللباس الفاخر والفرش الزاهية.
ووصف الله السرر بأنها مصفوفة، ليدل ذلك على كثرتها، وحسن تنظيمها، واجتماع أهلها وسرورهم، بحسن معاشرتهم، ولطف كلام بعضهم لبعض، فلما اجتمع لهم من نعيم القلب والروح والبدن ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، من المآكل والمشارب [اللذيذة]، والمجالس الحسنة الأنيقة، لم يبق إلا التمتع بالنساء اللاتي لا يتم سرور بدونهن، فذكر الله أن لهم من الأزواج أكمل النساء أوصافاً وخلقاً وأخلاقاً، ولهذا قال: { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } وهن النساء اللواتي قد جمعن من جمال الصورة الظاهرة وبهاءها، ومن الأخلاق الفاضلة، ما يوجب أن يحيرن بحسنهن الناظرين، ويسلبن عقول العالمين، وتكاد الأفئدة أن تطيش شوقاً إليهن، ورغبة في وصالهن، والعِين: حسان الأعين مليحاتها، التي صفا بياضها وسوادها.
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُم ْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } 21 { وَأَمْدَدْنَاهُ م بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } 22 { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } 23 { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } 24 { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } 25 { قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } 26 { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } 27 { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ }28


وهذا من تمام نعيم أهل الجنة، أن ألحق الله [بهم] ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان أي: الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم، فصارت الذرية تبعاً لهم بالإيمان، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم، فهؤلاء المذكورون، يلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم يبلغوها، جزاءً لآبائهم، وزيادةً في ثوابهم، ومع ذلك، لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئاً، ولما كان ربما توهم متوهم أن أهل النار كذلك، يلحق الله بهم أبناءهم وذريتهم، أخبر أنه ليس حكم الدارين حكماً واحداً، فإن النار دار العدل، ومن عدله تعالى أن لا يعذب أحداً إلا بذنب، ولهذا قال: { كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } أي: مرتهن بعمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل على أحد ذنب أحد. هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور. وقوله: { وَأَمْدَدْنَاهُ م } أي: أمددنا أهل الجنة من فضلنا الواسع ورزقنا العميم، { بِفَاكِهَةٍ } من العنب والرمان والتفاح، وأصناف الفواكه اللذيذة الزائدة على ما به يتقوتون، { وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } من كل ما طلبوه واشتهته أنفسهم، من لحم الطير وغيرها.
{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } أي: تدور كاسات الرحيق والخمر عليهم، ويتعاطونها فيما بينهم، وتطوف عليهم الولدان المخلدون بأكواب وأباريق وكأسٍ { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } أي: ليس في الجنة كلام لغو، وهو الذي لا فائدة فيه ولا تأثيم، وهو الذي فيه إثم ومعصية، وإذا انتفى الأمران، ثبت الأمر الثالث، وهو أن كلامهم فيها سلام طيب طاهر، مسر للنفوس، مفرح للقلوب، يتعاشرون أحسن عشرة، ويتنادمون أطيب المنادمة، ولا يسمعون من ربهم، إلا ما يقر أعينهم، ويدل على رضاه عنهم [ومحبته لهم].
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } أي: خدم شباب { كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } من حسنهم وبهائهم، يدورون عليهم بالخدمة وقضاء ما يحتاجون إليه، وهذا يدل على كثرة نعيمهم وسعته، وكمال راحتهم.
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } عن أمور الدنيا وأحوالها.
{ قَالُوۤاْ } في [ذكر] بيان الذي أوصلهم إلى ما هم فيه من الحبرة والسرور: { إِنَّا كُنَّا قَبْلُ } أي: في دار الدنيا { فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أي: خائفين وجلين، فتركنا من خوفه الذنوب، وأصلحنا لذلك العيوب.
{ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا } بالهداية والتوفيق، { وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } أي: العذاب الحار الشديد حره.
{ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ } أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات، وندعوه في سائر الأوقات، { إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } فمن برّه بنا ورحمته إيانا، أنالنا رضاه والجنة، ووقانا سخطه والنار.

ابوالوليد المسلم
17-08-2020, 05:15 AM
الحلقة (559)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الطورhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(29)الى الأية(43)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الطور
{ فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } 29 { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } 30 { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِي نَ } 31 { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } 32 { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } 33 { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } 34 { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } 35 { أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ } 36 { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُون َ } 37 { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } 38 { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } 39 { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } 40 { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } 41 { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ } 42 { أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }43


يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يذكر الناس، مسلمهم وكافرهم، لتقوم حجة الله على الظالمين، ويهتدي بتذكيره الموفقون، وأنه لا يبالي بقول المشركين المكذبين وأذيتهم وأقوالهم التي يصدون بها الناس عن اتباعه، مع علمهم أنه أبعد الناس عنها، ولهذا نفى عنه كل نقص رموه به، فقال: { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } أي: مَنِّه ولطفه، { بِكَاهِنٍ } أي: له رَئِيٌّ من الجن، يأتيه بأخبار بعض الغيوب، التي يضم إليها مائة كذبة، { وَلاَ مَجْنُونٍ } فاقد للعقل، بل أنت أكمل الناس عقلاً، وأبعدهم عن الشياطين، وأعظمهم صدقاً، وأجلهم وأكملهم، وتارة { يَقُولُونَ } فيه: إنه { شَاعِرٌ } يقول الشعر، والذي جاء به شعر، والله يقول:{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [يس: 69]. { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } أي: ننتظر به الموت، فسيبطل أمره، [ونستريح منه]، { قُلْ } لهم جواباً لهذا الكلام السخيف: { تَرَبَّصُواْ } أي: انتظروا بي الموت، { فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِي نَ } نتربص بكم، أن يصيبكم الله بعذاب من عنده، أو بأيدينا.
{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي: أهذا التكذيب لك، والأقوال التي قالوها؟ هل صدرت عن عقولهم وأحلامهم؟ فبئس العقول والأحلام، التي أثرت ما أثرت، وصدر منها ما صدر. فإن عقولاً جعلت أكمل الخلق عقلاً مجنوناً، وأصدق الصدق وأحق الحق كذباً وباطلاً، لَهِيَ العقول التي ينزه المجانين عنها، أم الذي حملهم على ذلك ظلمهم وطغيانهم؟ وهو الواقع، فالطغيان ليس له حد يقف عليه، فلا يستغرب من الطاغي المتجاوز الحد كل قول وفعل صدر منه. { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } أي: تقول محمد القرآن، وقاله من تلقاء نفسه؟ { بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } فلو آمنوا، لم يقولوا ما قالوا.
{ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } أنه تقوله، فإنكم العرب الفصحاء، والفحول البلغاء، وقد تحداكم أن تأتوا بمثله، فتصدق معارضتكم أو تقروا بصدقه، وأنكم لو اجتمعتم، أنتم والإنس والجن، لم تقدروا على معارضته والإتيان بمثله، فحينئذ أنتم بين أمرين: إما مؤمنون به، مهتدون بهديه، وإما معاندون متبعون لما علمتم من الباطل.
{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } وهذا استدلال عليهم، بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق، أو الخروج عن موجب العقل والدين، وبيان ذلك: أنهم منكرون لتوحيد الله، مكذبون لرسوله، وذلك مستلزم لإنكار أن الله خلقهم.
وقد تقرر في العقل مع الشرع، أن الأمور لا يخلو من أحد ثلاثة أمور: إما أنهم خلقوا من غير شيء أي: لا خالق خلقهم، بل وجدوا من غير إيجاد ولا موجد، وهذا عين المحال.
أم هم الخالقون لأنفسهم، وهذا أيضاً محال، فإنه لا يتصور أن يوجدوا أنفسهم.
فإذا بطل [هذان] الأمران، وبان استحالتهما، تعين [القسم الثالث] أن الله الذي خلقهم، وإذا تعين ذلك، علم أن الله تعالى هو المعبود وحده، الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له تعالى.
وقوله: { أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وهذا استفهام يدل على تقرير النفي أي: ما خلقوا السماوات والأرض، فيكونوا شركاء لله، وهذا أمر واضح جداً.
ولكن المكذبين { لاَّ يُوقِنُونَ } أي: ليس عندهم علم تام، ويقين يوجب لهم الانتفاع بالأدلة الشرعية والعقلية.
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُون َ } أي: أعند هؤلاء المكذبين خزائن رحمة ربك، فيعطون من يشاؤون ويمنعون من يريدون؟ أي: فلذلك حجروا على الله أن يعطي النبوة عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وكأنهم الوكلاء المفوضون على خزائن رحمة الله، وهم أحقر وأذل من ذلك، فليس في أيديهم لأنفسهم نفع ولا ضر، ولا موت ولا حياة ولا نشور.{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الزخرف: 32].
{ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُون َ } أي: المتسلطون على خلق الله وملكه، بالقهر والغلبة؟ ليس الأمر كذلك، بل هم العاجزون الفقراء، { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } أي: ألهم اطلاع على الغيب، واستماع له بين الملأ الأعلى، فيخبرون عن أمور لا يعلمها غيرهم؟ { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم } المدعي لذلك { بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } وأنّى له ذلك؟ والله تعالى عالم الغيب والشهادة، فلا يظهر على غيبه [أحداً] إلا من ارتضى من رسول يخبره بما أراد من علمه. وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل وأعلمهم وإمامهم، وهو المخبر بما أخبر به، من توحيد الله، ووعده، ووعيده، وغير ذلك من أخباره الصادقة، والمكذبون هم أهل الجهل والضلال والغي والعناد، فأيُّ المخبرين أحق بقبول خبره؟ خصوصاً والرسول صلى الله عليه وسلم قد أقام من الأدلة والبراهين على ما أخبر به، ما يوجب أن يكون خبره عين اليقين وأكمل الصدق، وهم لم يقيموا على ما ادعوه شبهة، فضلاً عن إقامة حجة. وقوله: { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ } كما زعمتم { وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } فتجمعون بين المحذورين؟ جعلكم له الولد، واختياركم له أنقص الصنفين؟ فهل بعد هذا التنقص لرب العالمين غاية أو دونه نهاية؟ { أَمْ تَسْأَلُهُمْ } يا أيها الرسول { أَجْراً } على تبليغ الرسالة، { فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } ليس الأمر كذلك، بل أنت الحريص على تعليمهم، تبرعاً من غير شيء، بل تبذل لهم الأموال الجزيلة، على قبول رسالتك، والاستجابة [لأمرك و] دعوتك، وتعطي المؤلفة قلوبهم [ليتمكن العلم والإيمان من قلوبهم]. { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ما كانوا يعلمونه من الغيوب، فيكونون قد اطلعوا على ما لم يطلع عليه رسول الله، فعارضوه وعاندوه بما عندهم من علم الغيب؟ وقد علم أنهم الأمة الأمية، الجهال الضالون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي عنده من العلم أعظم من غيره، وأنبأه الله من علم الغيب على ما لم يُطْلِعْ عليه أحداً من الخلق، وهذا كله إلزام لهم بالطرق العقلية والنقلية على فساد قولهم، وتصوير بطلانه بأحسن الطرق وأوضحها وأسلمها من الاعتراض، وقوله: { أَمْ يُرِيدُونَ } بقدحهم فيك وفيما جئتهم به { كَيْداً } يبطلون به دينك، ويفسدون به أمرك؟ { فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ } أي: كيدهم في نحورهم، ومضرته عائدة إليهم، وقد فعل الله ذلك - ولله الحمد - فلم يُبْقِ الكفار من مقدورهم من المكر شيئاً إلا فعلوه، فنصر الله نبيه ودينه عليهم، وخذلهم وانتصر منهم.
{ أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ } أي: ألهم إله يدعى ويرجى نفعه، ويخاف من ضره، غير الله تعالى؟ { سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فليس له شريك في الملك، ولا شريك في الوحدانية والعبادة، وهذا هو المقصود من الكلام الذي سيق لأجله، وهو بطلان عبادة ما سوى الله وبيان فسادها بتلك الأدلة القاطعة، وأن ما عليه المشركون هو الباطل، وأن الذي ينبغي أن يعبد ويُصلى له ويسجد ويخلص له دعاء العبادة ودعاء المسألة، هو الله المألوه المعبود، كامل الأسماء والصفات، كثير النعوت الحسنة، والأفعال الجميلة، ذو الجلال والإكرام، والعزّ الذي لا يرام، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الكبير الحميد المجيد.

ابوالوليد المسلم
17-08-2020, 05:16 AM
الحلقة (560)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة الطورhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(44)الى الأية(49 )
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة الطور
{ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } 44 { فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } 45 { يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }46


يقول تعالى في [ذكر] بيان أن المشركين المكذبين بالحق الواضح، قد عتوا [عن الحق] وعسوا على الباطل، وأنه لو قام على الحق كل دليل لما اتبعوه، ولخالفوه وعاندوه، { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً } أي: لو سقط عليهم من السماء من الآيات الباهرة كسف أي: قطعٌ كبارٌ من العذاب { يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } أي: هذا سحاب متراكم على العادة أي: فلا يبالون بما رأوا من الآيات ولا يعتبرون بها، وهؤلاء لا دواء لهم إلا العذاب والنكال، ولهذا قال: { فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } وهو يوم القيامة الذي يصيبهم [فيه] من العذاب والنكال، ما لا يقادر قدره، ولا يوصف أمره.
{ يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } أي: لا قليلاً ولا كثيراً، وإن كان في الدنيا قد يوجد منهم كيد يعيشون به زمناً قليلاً، فيوم القيامة يضمحل كيدهم، وتبطل مساعيهم، ولا ينتصرون من عذاب الله { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }.
{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } 47 { وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } 48 { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ }49


لما ذكر [الله] عذاب الظالمين في القيامة، أخبر أن لهم عذاباً دون عذاب يوم القيامة، وذلك شامل لعذاب الدنيا، بالقتل والسبي والإخراج من الديار، ولعذاب البرزخ والقبر، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي: فلذلك أقاموا على ما يوجب العذاب، وشدة العقاب.
ولما بين تعالى الحجج والبراهين على بطلان أقوال المكذبين، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يعبأ بهم شيئاً، وأن يصبر لحكم ربه القدري والشرعي بلزومه والاستقامة عليه، ووعده الله بالكفاية بقوله: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أي: بمرأى منا وحفظ، واعتناء بأمرك، وأمره أن يستعين على الصبر بالذكر والعبادة، فقال: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } أي: من الليل.
ففيه الأمر بقيام الليل، أو حين تقوم إلى الصلوات الخمس، بدليل قوله: { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ } أي: آخر الليل، ويدخل فيه صلاة الفجر، والله أعلم.

ابوالوليد المسلم
20-08-2020, 04:56 AM
الحلقة (561)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة النجمhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)الى الأية(18 )
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة النجم
{ وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } 1 { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } 2 { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } 3 { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } 4 { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } 5 { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } 6 { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } 7 { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } 8 { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } 9 { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } 10 { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } 11 { أَفَتُمَارُونَه ُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ } 12 { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } 13 { عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } 14 { عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } 15 { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } 16 { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } 17 { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ }18


يقسم تعالى بالنجم عند هُوِيِّه أي: سقوطه في الأفق في آخر الليل عند إدبار الليل وإقبال النهار، لأن في ذلك من آيات الله العظيمة، ما أوجب أن أقسم به، والصحيح أن النجم، اسم جنس شامل للنجوم كلها، وأقسم بالنجوم على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الإلهي، لأنّ في ذلك مناسبة عجيبة، فإن الله تعالى جعل النجوم زينة للسماء، فكذلك الوحي وآثاره زينة للأرض، فلولا العلم الموروث عن الأنبياء، لكان الناس في ظلمة أشد من الليل البهيم. والمقسم عليه، تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الضلال في علمه، والغيِّ في قصده، ويلزم من ذلك أن يكون مهتدياً في علمه، هادياً، حسن القصد، ناصحاً للأمة، بعكس ما عليه أهل الضلال من فساد العلم، وفساد القصد، وقال { صَاحِبُكُمْ } لينبههم على ما يعرفونه منه، من الصدق والهداية، وأنه لا يخفى عليهم أمره، { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } أي: ليس نطقه صادراً عن هوى نفسه، { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى، في نفسه وفي غيره. ودلّ هذا على أن السنة وحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [النساء: 113] وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه، لأن كلامه لا يصدر عن هوى، وإنما يصدر عن وحي يوحى، ثم ذكر المعلم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو جبريل [عليه السلام]، أفضل الملائكة [الكرام] وأقواهم وأكملهم، فقال: { عَلَّمَهُ [شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ] } أي: نزل بالوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام، { شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } أي: شديد القوة الظاهرة والباطنة، قوي على تنفيذ ما أمره الله بتنفيذه، قوي على إيصال الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنعه من اختلاس الشياطين له، أو إدخالهم فيه ما ليس منه، وهذا من حفظ الله لوحيه، أن أرسله مع هذا الرسول القوي الأمين.
{ ذُو مِرَّةٍ } أي: قوة، وخلق حسن، وجمال ظاهر وباطن. { فَٱسْتَوَىٰ } جبريل عليه السلام { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } أي: أفق السماء الذي هو أعلى من الأرض، فهو من الأرواح العلوية، التي لا تنالها الشياطين ولا يتمكنون من الوصول إليها. { ثُمَّ دَنَا } جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم، لإيصال الوحي إليه.
{ فَتَدَلَّىٰ } عليه من الأفق الأعلى { فَكَانَ } في قربه منه { قَابَ قَوْسَيْنِ } أي: قدر قوسين، والقوس معروف، { أَوْ أَدْنَىٰ } أي: أقرب من القوسين، وهذا يدل على كمال المباشرة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه لا واسطة بينه وبين جبريل عليه السلام.
{ فَأَوْحَىٰ } الله بواسطة جبريل عليه السلام { إِلَىٰ عَبْدِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم { مَآ أَوْحَىٰ } أي: الذي أوحاه إليه من الشرع العظيم، والنبأ المستقيم.
{ مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } أي: اتفق فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤيته على الوحي الذي أوحاه الله إليه، وتواطأ عليه سمعه وقلبه وبصره، وهذا دليل على كمال الوحي الذي أوحاه الله إليه، وأنه تلقاه منه تلقياً لا شك فيه ولا شبهة ولا ريب، فلم يكذب فؤاده ما رأى بصره، ولم يشك بذلك. ويحتمل أن المراد بذلك ما رأى صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، من آيات الله العظيمة، وأنه تيقنه حقاً بقلبه ورؤيته، هذا [هو] الصحيح في تأويل الآية الكريمة، وقيل: إن المراد بذلك رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء، وتكليمه إياه، وهذا اختيار كثير من العلماء رحمهم الله، فأثبتوا بهذا رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا، ولكن الصحيح القول الأول، وأن المراد به جبريل عليه السلام، كما يدل عليه السياق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته الأصلية [التي هو عليها] مرتين، مرة في الأفق الأعلى، تحت السماء الدنيا كما تقدم، والمرة الثانية فوق السماء السابعة ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } أي: رأى محمد جبريل مرة أخرى، نازلاً إليه. { عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } وهي شجرة عظيمة جداً، فوق السماء السابعة، سميت سدرة المنتهى، لأنه ينتهي إليها ما يعرج من الأرض، وينزل إليها ما ينزل من الله، من الوحي وغيره، أو لانتهاء علم الخلق إليها أي: لكونها فوق السماوات والأرض، فهي المنتهى في علوها، أو لغير ذلك، والله أعلم. فرأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل في ذلك المكان، الذي هو محل الأرواح العلوية الزاكية الجميلة، التي لا يقربها شيطان ولا غيره من الأرواح الخبيثة. عند تلك الشجرة { جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } أي: الجنة الجامعة لكل نعيم، بحيث كانت محلاً تنتهي إليه الأماني، وترغب فيه الإرادات، وتأوي إليها الرغبات، وهذا دليل على أن الجنة في أعلى الأماكن، وفوق السماء السابعة.
{ إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } أي: يغشاها من أمر الله، شيء عظيم لا يعلم وصفه إلا الله عز وجل.
{ مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } أي: ما زاغ يمنة ولا يسرة عن مقصوده { وَمَا طَغَىٰ } أي: وما تجاوز البصر، وهذا كمال الأدب منه صلوات الله وسلامه عليه، أن قام مقاماً أقامه الله فيه، ولم يقصر عنه ولا تجاوزه ولا حاد عنه، وهذا أكمل ما يكون من الأدب العظيم، الذي فاق فيه الأولين والآخرين، فإن الإخلال يكون بأحد هذه الأمور: إما أن لا يقوم العبد بما أمر به، أو يقوم به على وجه التفريط، أو على وجه الإفراط، أو على وجه الحيدة يميناً وشمالاً، وهذه الأمور كلها منتفية عنه صلى الله عليه وسلم. { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } من الجنة والنار، وغير ذلك من الأمور التي رآها صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به.

ابوالوليد المسلم
20-08-2020, 04:56 AM
الحلقة (562)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة النجمhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(19)الى الأية(26 )
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة النجم
{ أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ } 19 { وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } 20 { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ } 21 { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } 22 { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ } 23 { أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ } 24 { فَلِلَّهِ ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ }25


لما زكَّى تعالى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والأمر بعبادة الله وتوحيده، ذكر بطلان ما عليه المشركون من عبادة من ليس له من أوصاف الكمال شيء، ولا تنفع ولا تضر، وإنما هي أسماء فارغة عن المعنى، سمّاها المشركون هم وآباؤهم الجهّال الضّلال، ابتدعوا لها من الأسماء الباطلة التي لا تستحقها، فخدعوا بها أنفسهم وغيرهم من الضلال، فالآلهة التي بهذه الحال، لا تستحق مثقال ذرة من العبادة، وهذه الأنداد التي سموها بهذه الأسماء، زعموا أنها مشتقة من أوصاف هي متصفة بها، فسموا " اللات " من " الإله " المستحق للعبادة، و " العزى " من " العزيز " و " مناة " من " المنّان " ، إلحاداً في أسماء الله وتجرياً على الشرك به، وهذه أسماء متجردة عن المعاني، فكل من له أدنى مسكة من عقل، يعلم بطلان هذه الأوصاف فيها. { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ } أي: أتجعلون لله البنات بزعمكم، ولكم البنون؟ { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } أي: ظالمة جائرة، [وأيُّ ظلم أعظم من قسمة] تقتضي تفضيل العبد المخلوق على الخالق؟ [تعالى عن قولهم علواً كبيراً].
وقوله: { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي: من حجة وبرهان على صحة مذهبكم، وكل أمر ما أنزل الله به من سلطان، فهو باطل فاسد، لا يتخذ ديناً، وهم - في أنفسهم - ليسوا بمتبعين لبرهان، يتيقنون به ما ذهبوا إليه، وإنما دلّهم على قولهم، الظن الفاسد، والجهل الكاسد، وما تهواه أنفسهم من الشرك، والبدع الموافقة لأهويتهم، والحال أنه لا موجب لهم يقتضي اتباعهم الظن، من فقد العلم والهدى، ولهذا قال تعالى: { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ } أي: الذي يرشدهم في باب التوحيد والنبوة، وجميع المطالب التي يحتاج إليها العباد، فكلها قد بيّنها الله أكمل بيان وأوضحه، وأدله على المقصود، وأقام عليه من الأدلة والبراهين، ما يوجب لهم ولغيرهم اتباعه، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة من بعد البيان والبرهان، وإذا كان ما هم عليه، غايته اتباع الظن، ونهايته الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي، فالبقاء على هذه الحال، من أسفه السفه، وأظلم الظلم، ومع ذلك يتمنون الأماني، ويغترون بأنفسهم.
ولهذا أنكر تعالى على من زعم أنه يحصل له ما تمنى وهو كاذب في ذلك، فقال: { أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ * فَلِلَّهِ ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ } فيعطي منهما من يشاء، ويمنع من يشاء، فليس الأمر تابعاً لأمانيهم، ولا موافقاً لأهوائهم.
{ وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ }26


يقول تعالى منكراً على من عبد غيره من الملائكة وغيرهم، وزعم أنها تنفعه وتشفع له عند الله يوم القيامة: { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } من الملائكة المقربين، وكرام الملائكة، { لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً } أي: لا تفيد من دعاها وتعلق بها ورجاها، { إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ } أي: لا بد من اجتماع الشرطين: إذنه تعالى في الشفاعة، ورضاه عن المشفوع له.
ومن المعلوم المتقرر، أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجه الله، موافقاً فيه صاحبه الشريعة، فالمشركون إذاً لا نصيب لهم من شفاعة الشافعين، وقد سدوا على أنفسهم رحمة أرحم الراحمين.

ابوالوليد المسلم
20-08-2020, 04:57 AM
الحلقة (563)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة النجمhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(27)الى الأية(32 )
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة النجم
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلأُنْثَىٰ } 27 { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } 28 { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } 29 { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ }30


يعني أن المشركين بالله المكذبين لرسله، الذين لا يؤمنون بالآخرة، وبسبب عدم إيمانهم بالآخرة تجرؤوا على ما تجرؤوا عليه، من الأقوال، والأفعال المحادة لله ولرسوله، من قولهم: " الملائكة بنات الله " ، فلم ينزهوا ربهم عن الولادة، ولم يكرموا الملائكة ويجلوهم عن تسميتهم إياهم إناثاً، والحال أنه ليس لهم بذلك علم، لا عن الله، ولا عن رسوله، ولا دلّت على ذلك الفطر والعقول، بل العلم كله دال على نقيض قولهم، وأن الله منزه عن الأولاد والصاحبة، لأنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأن الملائكة كرام مقربون إلى الله، قائمون بخدمته{ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6] والمشركون إنما يتبعون في ذلك القول القبيح، وهو الظن الذي لا يُغني من الحق شيئاً، فإن الحق لا بد فيه من اليقين المستفاد من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة. ولما كان هذا دأب هؤلاء المذكورين أنهم لا غرض لهم في اتباع الحق، وإنما غرضهم ومقصودهم، ما تهواه نفوسهم، أمر الله رسوله بالإعراض عمن تولى عن ذكره، الذي هو الذكر الحكيم، والقرآن العظيم، والنبأ الكريم، فأعرض عن العلوم النافعة، ولم يرد إلا الحياة الدنيا، فهذا منتهى إرادته، ومن المعلوم أن العبد لا يعمل إلا للشيء الذي يريده، فسعيهم مقصور على الدنيا ولذاتها وشهواتها، كيف حصلت حصَّلوها، وبأي: طريق سنحت ابتدروها، { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ } أي: هذا منتهى علمهم وغايته، وأما المؤمنون بالآخرة، المصدقون بها، أولو الألباب والعقول، فهمتهم وإرادتهم للدار الآخرة، وعلومهم أفضل العلوم وأجلها، وهو العلم المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ممن لا يستحق ذلك فيكله إلى نفسه، ويخذله، فيضل عن سبيل الله، ولهذا قال تعالى: { لْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ } فيضع فضله حيث يعلم المحل اللائق به.
{ وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } 31 { ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ }32


يخبر تعالى أنه مالك الملك، المتفرد بملك الدنيا والآخرة، وأن جميع من في السماوات والأرض ملك لله، يتصرف فيهم تصرف الملك العظيم، في عبيده ومماليكه، ينفذ فيهم قدره، ويجري عليهم شرعه، ويأمرهم وينهاهم، ويجزيهم على ما أمرهم به ونهاهم [عنه]، فيثيب المطيع، ويعاقب العاصي، ليجزي الذين أساؤوا العمل السيئات من الكفر فما دونه بما عملوا من أعمال الشر بالعقوبة البليغة. { وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } في عبادة الله تعالى، وأحسنوا إلى خلق الله، بأنواع المنافع { بِٱلْحُسْنَى } أي: بالحالة الحسنة في الدنيا والآخرة، وأكبر ذلك وأجله رضا ربهم، والفوز بنعيم الجنة.
ثم ذكر وصفهم فقال: { ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ } أي: يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات، التي يكون تركها من كبائر الذنوب، ويتركون المحرمات الكبار، كالزنا، وشرب الخمر، وأكل الربا، والقتل، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة، { إِلاَّ ٱللَّمَمَ } وهي الذنوب الصغار، التي لا يصر صاحبها عليها، أو التي يلم بها العبد، المرة بعد المرة، على وجه الندرة والقلة، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجاً للعبد من أن يكون من المحسنين، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات، تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء، ولهذا قال: { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ } فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض، ولما ترك على ظهرها من دابة. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر " ، [وقوله:] { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } أي: هو تعالى أعلم بأحوالكم كلها، وما جبلكم عليه، من الضعف والخور، عن كثير مما أمركم الله به، ومن كثرة الدواعي إلى بعض المحرمات، وكثرة الجواذب إليها، وعدم الموانع القوية، والضعف موجود مشاهد منكم حين أنشاكم الله من الأرض، وإذ كنتم في بطون أمهاتكم، ولم يزل موجوداً فيكم، وإن كان الله تعالى قد أوجد فيكم قوة على ما أمركم به، ولكن الضعف لم يزل، فلعلمه تعالى بأحوالكم هذه، ناسبت الحكمة الإلهية والجود الرباني، أن يتغمدكم برحمته ومغفرته وعفوه، ويغمركم بإحسانه، ويزيل عنكم الجرائم والمآثم، خصوصاً إذا كان العبد مقصوده مرضاة ربه في جميع الأوقات، وسعيه فيما يقرب إليه في أكثر الآنات، وفراره من الذنوب التي يتمقت بها عند مولاه، ثم تقع منه الفلتة بعد الفلتة، فإن الله تعالى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، أرحم بعباده من الوالدة بولدها، فلا بدّ لمثل هذا أن يكون من مغفرة ربه قريباً، وأن يكون الله له في جميع أحواله مجيباً، ولهذا قال تعالى: { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ } أي: تخبرون الناس بطهارتها على وجه التمدح. { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [فإن التقوى، محلها القلب، والله هو المطلع عليه، المجازي على ما فيه من برّ وتقوى، وأما الناس، فلا يغنون عنكم من الله شيئاً].

ابوالوليد المسلم
20-08-2020, 04:58 AM
الحلقة (564)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة النجمhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(33)الى الأية(62 )
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة النجم
{ أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ } 33 { وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ } 34 { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ } 35 { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ } 36 { وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } 37 { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } 38 { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } 39 { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } 40 { ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } 41 { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } 42 { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } 43 { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } 44 { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } 45 { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } 46 { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } 47 { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } 48 { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } 49 { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } 50 { وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ } 51 { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ } 52 { وَٱلْمُؤْتَفِكَ ةَ أَهْوَىٰ } 53 { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ } 54 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ } 55 { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } 56 { أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } 57 { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ } 58 { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } 59 { وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } 60 { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } 61 { فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ }62


إلى آخر السورة يقول تعالى: { أَفَرَأَيْتَ } قبح حالة من أمر بعبادة ربه وتوحيده، فتولى عن ذلك وأعرض عنه؟ فإن سمحت نفسه ببعض الشيء، القليل، فإنه لا يستمر عليه، بل يبخل ويكدى ويمنع. فإن المعروف ليس سجية له وطبيعة، بل طبعه التولِّي عن الطاعة، وعدم الثبوت على فعل المعروف، ومع هذا، فهو يزكِّي نفسه، وينزلها غير منزلتها التي أنزلها الله بها. { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ } الغيب ويخبر به، أم هو متقول على الله، متجرئ على الجمع بين الإساءة والتزكية كما هو الواقع، لأنه قد علم أنه ليس عنده علم من الغيب، وأنه لو قُدر أنه ادّعى ذلك فالإخبارات القاطعة عن علم الغيب التي على يد النبي المعصوم، تدلّ على نقيض قوله، وذلك دليل على بطلانه. { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ } هذا المدعي { بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } أي: قام بجميع ما ابتلاه الله به، وأمره به من الشرائع وأصول الدين وفروعه، وفي تلك الصحف أحكام كثيرة من أهمها ما ذكره الله بقوله: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } أي: كل عامل له عمله الحسن والسيئ، فليس له من عمل غيره وسعيهم شيء، ولا يتحمل أحد عن أحدٍ ذنباً، { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } في الآخرة فيميز حسنه من سيئه، { ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } أي: المستكمل لجميع العمل الحسن الخالص بالحسنى، والسيئ الخالص بالسَّوأى، والمشوب بحسبه، جزاءً تقرّ بعدله وإحسانه الخليقة كلها، وتحمد الله عليه، حتى إن أهل النار ليدخلون النار، وإن قلوبهم مملوءة من حمد ربهم، والإقرار له بكمال الحكمة ومقت أنفسهم، وأنهم الذين أوصلوا أنفسهم وأوردوها شر الموارد، وقد استدل بقوله تعالى: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } من يرى أن القُرَبَ لا يفيد إهداؤها للأحياء ولا للأموات قالوا لأن الله قال: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } فوصول سعي غيره إليه مناف لذلك، وفي هذا الاستدلال نظر، فإن الآية إنما تدلّ على أنه ليس للإنسان إلا ما سعى بنفسه، وهذا حق لا خلاف فيه، وليس فيها ما يدل على أنه لا ينتفع بسعي غيره، إذا أهداه ذلك الغير له، كما أنه ليس للإنسان من المال إلا ما هو في ملكه وتحت يده، ولا يلزم من ذلك، أن لا يملك ما وهبه له الغير من ماله الذي يملكه. وقوله: { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } أي: إليه تنتهي الأمور، وإليه تصير الأشياء والخلائق بالبعث والنشور، وإلى الله المنتهى في كل حال، فإليه ينتهي العلم والحكم، والرحمة وسائر الكمالات، { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } أي: هو الذي أوجد أسباب الضحك والبكاء، وهو الخير والشر، والفرح والسرور والهم [والحزن]، وهو سبحانه له الحكمة البالغة في ذلك، { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أي: هو المنفرد بالإيجاد والإعدام، والذي أوجد الخلق وأمرهم ونهاهم، سيعيدهم بعد موتهم، ويجازيهم بتلك الأعمال التي عملوها في دار الدنيا، { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ } فسر الزوجين بقوله: { ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } وهذا اسم جنس شامل لجميع الحيوانات، ناطقها وبهيمها، فهو المنفرد بخلقها، { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } وهذا من أعظم الأدلة على كمال قدرته وانفراده بالعزة العظيمة، حيث أوجد تلك الحيوانات، صغيرها وكبيرها من نطفة ضعيفة من ماء مهين، ثم نماها وكملها، حتى بلغت ما بلغت، ثم صار الآدمي منها إما إلى أرفع المقامات في أعلى عليين، وإما إلى أدنى الحالات في أسفل سافلين.
ولهذا استدل بالبداءة على الإعادة، فقال: { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } فيعيد العباد من الأجداث، ويجمعهم ليوم الميقات، ويجازيهم على الحسنات والسيئات، { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } أي: أغنى العباد بتيسير أمر معاشهم من التجارات وأنواع المكاسب، من الحرف وغيرها، وأقنى أي: أفاد عباده من الأموال بجميع أنواعها، ما يصيرون به مقتنين لها، ومالكين لكثير من الأعيان، وهذا من نعمه على عباده أن جميع النعم منه تعالى، وهذا يوجب للعباد أن يشكروه، ويعبدوه وحده لا شريك له، { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } وهي النجم المعروف بالشعرى العبور، المسماة بالمرزم، وخصها الله بالذكر، وإن كان رب كل شيء، لأن هذا النجم مما عُبد في الجاهلية، فأخبر تعالى أن جنس ما يعبده المشركون مربوب مدبر مخلوق، فكيف تتخذ إلهاً مع الله. { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } وهم قوم هود عليه السلام، حين كذبوا هوداً، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية، { وَثَمُودَ } قوم صالح عليه السلام، أرسله الله إلى ثمود فكذبوه، فبعث الله إليهم الناقة آية، فعقروها وكذبوه، فأهلكهم الله تعالى، { فَمَآ أَبْقَىٰ } منهم أحداً، بل أهلكهم الله عن آخرهم، { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ } من هؤلاء الأمم، فأهلكهم الله وأغرقهم في اليم، { وَٱلْمُؤْتَفِكَ ةَ } وهم قوم لوط عليه السلام { أَهْوَىٰ } أي: أصابهم الله بعذاب ما عذب به أحداً من العالمين، قلب أسفل ديارهم أعلاها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل، ولهذا قال: { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ } أي: غشيها من العذاب الأليم الوخيم ما غشى أي: شيء عظيم لا يمكن وصفه. { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ } أي: فبأي: نعم الله وفضله تشك أيها الإنسان؟ فإن نعم الله ظاهرة لا تقبل الشك بوجه من الوجوه، فما بالعباد من نعمة إلا منه تعالى، ولا يدفع النقم إلا هو. { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } أي: هذا الرسول القرشي الهاشمي محمد بن عبد الله، ليس ببدع من الرسل، بل قد تقدمه من الرسل السابقين، ودعوا إلى ما دعا إليه، فلأي شيء تنكر رسالته؟ وبأي حجة تبطل دعوته؟ أليست أخلاقه [أعلا] أخلاق الرسل الكرام، أليست دعوته إلى كل خير والنهي عن كل شر؟ ألم يأت بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد؟ ألم يهلك الله من كذب من قبله من الرسل الكرام؟ فما الذي يمنع العذاب عن المكذبين لمحمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجّلين؟ { أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } أي: قربت القيامة، ودنا وقتها، وبانت علاماتها، { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي: إذا أتت القيامة وجاءهم العذاب الموعود به.

ثم توعد المنكرين لرسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، المكذبين لما جاء به من القرآن الكريم، فقال: { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ }؟ أي: أفمن هذا الحديث الذي هو خير الكلام وأفضله وأشرفه تتعجبون منه، وتجعلونه من الأمور المخالفة للعادة الخارقة للأمور [والحقائق] المعروفة؟ هذا من جهلهم وضلالهم وعنادهم، وإلا فهو الحديث الذي إذا حدث صدق، وإذا قال قولاً فهو القول الفصل الذي ليس بالهزل، وهو القرآن العظيم، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، الذي يزيد ذوي الأحلام رأياً وعقلاً، وتسديداً وثباتاً، وإيماناً ويقيناً والذي ينبغي العجب من عقل من تعجّب منه، وسفهه وضلاله. { وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } أي: تستعملون الضحك والاستهزاء به، مع أن الذي ينبغي أن تتأثر منه النفوس، وتلين له القلوب، وتبكي له العيون، سماعاً لأمره ونهيه، وإصغاءً لوعده ووعيده، والتفاتاً لأخباره الحسنة الصادقة { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } أي: غافلون عنه، لاهون عن تدبره، وهذا من قلة عقولكم وأديانكم، فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها أولو الألباب، ولهذا قال تعالى: { فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ } الأمر بالسجود لله خصوصاً، ليدل ذلك على فضله، وأنه سر العبادة ولبها، فإن لبها الخشوع لله والخضوع له، والسجود هو أعظم حالة يخضع بها العبد، فإنه يخضع قلبه وبدنه، ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة موضع وطء الأقدام. ثم أمر بالعبادة عموماً، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.

ابوالوليد المسلم
20-08-2020, 04:58 AM
الحلقة (565)
تفسير السعدى
https://majles.alukah.net/images/smilies/start.gifسورة القمرhttps://majles.alukah.net/images/smilies/end.gif
من الأية(1)الى الأية(8 )
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تفسير سورة القمر
{ ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } 1 { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } 2 { وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } 3 { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } 4 { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ }5


يخبر تعالى أن الساعة وهي القيامة اقتربت وآن أوانها، وحان وقت مجيئها، ومع ذلك، فهؤلاء المكذبون لم يزالوا مكذبين بها، غير مستعدين لنزولها، ويريهم الله من الآيات العظيمة الدالة على وقوعها ما يؤمن على مثله البشر، فمن أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على [صحة ما جاء به و] صدقه، أشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر بإذن الله تعالى، فانشق فلقتين، فلقة على جبل أبي قبيس، وفلقة على جبل قعيقعان، والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الآية الكبرى الكائنة في العالم العلوي، التي لا يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل، فشاهدوا أمراً ما رأوا مثله، بل ولم يسمعوا أنه جرى لأحد من المرسلين قبله نظيره، فانبهروا لذلك، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولم يرد الله بهم خيراً، ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم، وقالوا: سحرنا محمد، ولكن علامة ذلك أنكم تسألون من قدم إليكم من السفر، فإنه وإن قدر على سحركم، لا يقدر أن يسحر من ليس مشاهداً مثلكم، فسألوا كل من قدم، فأخبرهم بوقوع ذلك، فقالوا: { سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } سحرنا محمد وسحر غيرنا، وهذا من البهت، الذي لا يروج إلا على أسفه الخلق وأضلهم عن الهدى والعقل، وهذا ليس إنكاراً منهم لهذه الآية وحدها، بل كل آية تأتيهم، فإنهم مستعدون لمقابلتها بالباطل والرد لها، ولهذا قال: { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ } ولم يعد الضمير على انشقاق القمر فلم يقل: وإن يروها بل قال: { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ } وليس قصدهم اتباع الحق والهدى، وإنما قصدهم اتباع الهوى، ولهذا قال: { وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } كقوله تعالى:{ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } [القصص: 50] فإنه لو كان قصدهم اتباع الهدى، لآمنوا قطعاً، واتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، لأنه أراهم الله على يديه من البينات والبراهين والحجج القواطع، ما دلّ على جميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية، { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } أي: إلى الآن، لم يبلغ الأمر غايته ومنتهاه، وسيصير الأمر إلى آخره، فالمصدق يتقلب في جنات النعيم، ومغفرة الله ورضوانه، والمكذب يتقلب في سخط الله وعذابه، خالداً مخلداً أبداً. وقال تعالى - مبيناً أنهم ليس لهم قصد صحيح، ولا اتباع للهدى -: { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ } أي: الأخبار السابقة واللاحقة والمعجزات الظاهرة { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي: زاجر يزجرهم عن غيهم وضلالهم، وذلك { حِكْمَةٌ } منه تعالى { بَالِغَةٌ } أي: لتقوم حجته على المخالفين، ولا يبقى لأحد على الله حجة بعد الرسل، { فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } كقوله تعالى:{ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [يونس: 97].
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ } 6 { خُشَّعاً أَبْصَٰرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } 7 { مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ }8


يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قد بان أن المكذبين لا حيلة في هداهم، فلم يبق إلا الإعراض عنهم والتولي عنهم، [فقال:] { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } وانتظر بهم يوماً عظيماً وهولاً جسيماً، وذلك حين { يَدْعُ ٱلدَّاعِ } إسرافيل عليه السلام { إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ } أي: إلى أمر فظيع تنكره الخليقة، فلم تر منظراً أفظع ولا أوجع منه، فينفخ إسرافيل نفخة، يخرج بها الأموات من قبورهم لموقف القيامة، { خُشَّعاً أَبْصَٰرُهُمْ } أي: من الهول والفزع الذي وصل إلى قلوبهم، فخضعت وذلت، وخشعت لذلك أبصارهم.
{ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ } وهي القبور، { كَأَنَّهُمْ } من كثرتهم، وروجان بعضهم ببعض { جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } أي: مبثوث في الأرض، متكاثر جداً، { مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ } أي: مسرعين لإجابة النداء الداعي، وهذا يدل على أن الداعي يدعوهم ويأمرهم بالحضور لموقف القيامة، فيلبون دعوته، ويسرعون إلى إجابته، { يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ } الذين قد حضر عذابهم: { هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } كما قال تعالى{ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } [المدثر: 10] [مفهوم ذلك أنه يسيرٌ سهلٌ على المؤمنين].

ابوالوليد المسلم
20-08-2020, 04:59 AM
الحلقة (566)
تفسير السعدى
(سورة القمر)
من (9)الى (22)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القمر

{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ } 9 { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } 10 { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } 11 { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } 12 { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } 13 { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } 14 { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } 15 { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } 16 { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }17


لما ذكر تبارك وتعالى حال المكذبين لرسوله، وأن الآيات لا تنفع فيهم، ولا تجدي عليهم شيئاً، أنذرهم وخوَّفهم بعقوبات الأمم الماضية المكذبة للرسل، وكيف أهلكهم الله وأحلَّ بهم عقابه. فذكر قوم نوح، أول رسول بعثه الله إلى قوم يعبدون الأصنام، فدعاهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فامتنعوا من ترك الشرك وقالوا:{ وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } [نوح: 23]. ولم يزل نوح يدعوهم إلى الله ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، فلم يزدهم ذلك إلا عناداً وطغياناً، وقدحاً في نبيهم، ولهذا قال هنا: { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ } لزعمهم أن ما هم عليه وآباؤهم من الشرك والضلال هو الذي يدلّ عليه العقل، وأن ما جاء به نوح عليه الصلاة والسلام جهل وضلال، لا يصدر إلا من المجانين، وكذبوا في ذلك، وقلبوا الحقائق الثابتة شرعاً وعقلاً، فإن ما جاء به هو الحق الثابت، الذي يرشد العقول النيرة المستقيمة، إلى الهدى والنور والرشد، وما هم عليه جهل وضلال مبين، [وقوله:] { وَٱزْدُجِرَ } أي: زجره قومه وعنفوه عندما دعاهم إلى الله تعالى، فلم يكفهم - قبحهم الله - عدم الإيمان به، ولا تكذيبهم إياه، حتى أوصلوا إليه من أذيتهم ما قدروا عليه، وهكذا جميع أعداء الرسل، هذه حالهم مع أنبيائهم، فعند ذلك دعا نوح ربه [فقال:] { أَنِّي مَغْلُوبٌ } لا قدرة لي على الانتصار منهم، لأنه لم يؤمن من قومه إلا القليل النادر، ولا قدرة لهم على مقاومة قومهم، { فَٱنتَصِرْ } اللهم لي منهم، وقال في الآية الأخرى:{ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [نوح: 26] الآيات، فأجاب الله سؤاله، وانتصر له من قومه، قال تعالى: { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } أي: كثير جداً متتابع، { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } فجعلت السماء ينزل منها من الماء شيء خارق للعادة، وتفجرت الأرض كلها، حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه، فضلاً عن كونه منبعاً للماء، لأنه موضع النار. { فَالْتَقَى ٱلمَآءُ } أي: ماء السماء والأرض { عَلَىٰ أَمْرٍ } من الله له بذلك، { قَدْ قُدِرَ } أيّ: قد كتبه الله في الأزل وقضاه، عقوبة لهؤلاء الظالمين الطاغين، { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } أي: ونجينا عبدنا نوحاً على السفينة ذات الألواح والدسر أي: المسامير [التي] قد سمرت [بها] ألواحها وشد بها أسرها، { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي: تجري بنوح ومن آمن معه، ومن حمله من أصناف المخلوقات برعاية من الله، وحفظ [منه] لها عن الغرق [ونظرٍ]، وكلائه منه تعالى، وهو نعم الحافظ الوكيل، { جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أي: فعلنا بنوح ما فعلنا من النجاة من الغرق العام، جزاء له حيث كذبه قومه وكفروا به فصبر على دعوتهم، واستمر على أمر الله، فلم يرده عنه راد، ولا صده عنه صاد، كما قال [تعالى] عنه في الآية الأخرى:
{ قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } الآية [هود: 48]. ويحتمل أن المراد: أنا أهلكنا قوم نوح، وفعلنا بهم ما فعلنا من العذاب والخزي، جزاءً لهم على كفرهم وعنادهم، وهذا متوجه على قراءة من قرأها بفتح الكاف، { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي: ولقد تركنا قصة نوح مع قومه آية يتذكر بها المتذكرون، على أن من عصى الرسل وعاندهم أهلكه الله بعقاب عام شديد، أو أن الضمير يعود إلى السفينة وجنسها، وأن أصل صنعتها تعليم من الله لعبده نوح عليه السلام، ثم أبقى الله تعالى صنعتها وجنسها بين الناس ليدلّ ذلك على رحمته بخلقه وعنايته، وكمال قدرته، وبديع صنعته، { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }؟ أي: فهل من متذكر للآيات، مُلقٍ ذهنه وفكرته لما يأتيه منها، فإنها في غاية البيان واليسر؟ { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي: فكيف رأيت أيها المخاطب عذاب الله الأليم وإنذاره الذي لا يُبْقي لأحد عليه حجة. { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي: ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم، ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم، لأنه أحسن الكلام لفظاً، وأصدقه معنى، وأبينه تفسيراً، فكل من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير، وسهله عليه، والذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال والحرام، وأحكام الأمر والنهي، وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر، والعقائد النافعة والأخبار الصادقة، ولهذا كان علم القرآن حفظاً وتفسيراً، أسهل العلوم، وأجلّها على الإطلاق، وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه، قال بعض السلف عند هذه الآية: هل من طالب علم فيُعان [عليه]؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله: { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }.
{ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } 18 { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } 19 { تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } 20 { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } 21 { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }22


" وعاد " هي القبيلة المعروفة باليمن، أرسل الله إليهم هوداً عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته، فكذبوه،فأرسل الله عليهم { رِيحاً صَرْصَراً } أي: شديدة جداً، { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } أي: شديد العذاب والشقاء عليهم، { مُّسْتَمِرٍّ } عليهم سبع ليال وثمانية أيامٍ حسوماً، { تَنزِعُ ٱلنَّاسَ } من شدتها، فترفعهم إلى جو السماء، ثم تدفعهم بالأرض فتهلكهم، فيصبحون { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } أي: كأن جثثهم بعد هلاكهم مثل جذوع النخل الخاوي الذي أصابته الريح فسقط على الأرض، فما أهون الخلق على الله إذا عصوا أمره، { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } كان [والله] العذاب الأليم، والنذارة التي ما أبقت لأحد عليه حجة، { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } كرر تعالى ذلك رحمة بعباده وعناية بهم، حيث دعاهم إلى ما يصلح دنياهم وأخراهم.

ابوالوليد المسلم
20-08-2020, 05:00 AM
الحلقة (567)
تفسير السعدى
(سورة القمر)
من (23)الى (40)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القمر
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ } 23 { فَقَالُوۤاْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } 24 { أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } 25 { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلأَشِرُ } 26 { إِنَّا مُرْسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ } 27 { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } 28 { فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ } 29 { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } 30 { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ } 31 { وَلَقَد يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }32


أي كذبت ثمود وهم القبيلة المعروفة المشهورة في أرض الحجر، نبيهم صالحاً عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأنذرهم العقاب إن هم خالفوه، فكذبوه واستكبروا عليه، وقالوا - كِبْراً وتيهاً -: { أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ } أي: كيف نتبع بشراً، لا ملكاً منّا، لا من غيرنا، ممن هو أكبر عند الناس منّا، ومع ذلك فهو شخص واحد { إِنَّآ إِذاً } أي: إن اتبعناه وهو بهذه الحال { لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } أي: إنا لضالون أشقياء، وهذا الكلام من ضلالهم وشقائهم، فإنهم أنفوا أن يتبعوا رسولاً من البشر، ولم يأنفوا أن يكونوا عابدين للشجر والحجر والصور { أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } أي: كيف يخصّه الله من بيننا وينزل عليه الذكر؟ فأي مزية خصّه من بيننا؟ وهذا اعتراض من المكذبين على الله، لم يزالوا يدلون به، ويصولون ويجولون ويردون به دعوة الرسل، وقد أجاب الله عن هذه الشبهة بقول الرسل لأممهم:{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [إبراهيم: 11] فالرسل مَنَّ الله عليهم بصفات وأخلاق وكمالات، بها صلحوا لرسالات ربهم والاختصاص بوحيه، ومن رحمته وحكمته أن كانوا من البشر، فلو كانوا من الملائكة لم يمكن البشر أن يتلقوا عنهم، ولو جعلهم من الملائكة لعَاجَل الله المكذبين لهم بالعقاب العاجل. والمقصود بهذا الكلام الصادر من ثمود لنبيهم صالح، تكذيبه، ولهذا حكموا عليه بهذا الحكم الجائر، فقالوا: { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } أي: كثير الكذب والشر، فقبحهم الله ما أسفه أحلامهم وأظلمهم، وأشدهم مقابلة للصادقين الناصحين بالخطاب الشنيع، لا جرم عاقبهم الله حين اشتد طغيانهم، فأرسل الله الناقة التي هي من أكبر النعم عليهم، آية من آيات الله، ونعمة يحتلبون من ضرعها ما يكفيهم أجمعين، { فِتْنَةً لَّهُمْ } أي: اختباراً منه لهم وامتحاناً { فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ } أي: اصبر على دعوتك إياهم، وارتقب ما يحل بهم، أو ارتقب هل يؤمنون أو يكفرون؟ { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } أي: وأخبرهم أن الماء أي: موردهم الذي يستعذبونه، قسمة بينهم وبين الناقة، لها شرب يوم ولهم شرب يوم آخر معلوم، { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } أي: يحضره من كان قسمته، ويحظر على من ليس بقسمة له. { فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ } الذي باشر عقرها، الذي هو أشقى القبيلة { فَتَعَاطَىٰ } أي: انقاد لما أمروه به من عقرها { فَعَقَرَ } { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } كان أشد عذاب، أرسل الله عليهم صيحة ورجفة أهلكتهم عن آخرهم، ونجى الله صالحاً ومن آمن معه، { وَلَقَد يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }.

{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ } 33 { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } 34 { نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ } 35 { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ } 36 { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } 37 { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } 38 { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } 39 { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ }40


أي: { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } لوطاً عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك والفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين، فكذبوه واستمروا على شركهم وقبائحهم، حتى إن الملائكة الذين جاؤوه بصورة أضياف حين سمع بهم قوم لوط، جاؤوهم مسرعين، يريدون إيقاع الفاحشة فيهم، لعنهم الله وقبحهم، وراودوه عنهم، فأمر الله جبريل عليه السلام، فطمس أعينهم بجناحه، وأنذرهم نبيهم بطشة الله وعقوبته { فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ } { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } قلب الله عليهم ديارهم، وجعل أسفلها أعلاها، وتتبعهم بحجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك للمسرفين، ونجى الله لوطاً وأهله من الكرب العظيم، جزاءً لهم على شكرهم لربهم، وعبادته وحده لا شريك له.

ابوالوليد المسلم
20-08-2020, 05:00 AM
الحلقة (568)
تفسير السعدى
(سورة القمر)
من (41)الى (55)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القمر
{ وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ ٱلنُّذُرُ } 41 { كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } 42 { أَكُفَّٰرُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي ٱلزُّبُرِ } 43 { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } 44 { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } 45 { بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ } 46 { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } 47 { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } 48 { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } 49 { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } 50 { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } 51 { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ } 52 { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } 53 { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } 54 { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ }55


أي: { وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ } أي: فرعون وقومه { ٱلنُّذُرُ } فأرسل الله إليهم موسى الكليم، وأيده بالآيات الباهرات، والمعجزات القاهرات، وأشهدهم من العبر ما لم يشهد عليه أحداً غيرهم، فكذبوا بآيات الله كلها، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأغرقهم في اليم هو وجنوده. والمراد من ذكر هذه القصص تحذير [الناس و] المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: { أَكُفَّٰرُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰئِكُمْ } أي: هؤلاء الذين كذبوا أفضل الرسل، خير من أولئك المكذبين، الذين ذكر الله هلاكهم وما جرى عليهم؟ فإن كانوا خيراً منهم، أمكن أن ينجوا من العذاب، ولم يصبهم ما أصاب أولئك الأشرار، وليس الأمر كذلك، فإنهم إن لم يكونوا شراً منهم، فليسوا بخير منهم، { أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي ٱلزُّبُرِ } أي: أم أعطاكم الله عهداً وميثاقاً في الكتب التي أنزلها على الأنبياء، فتعتقدون حينئذ أنكم الناجون بإخبار الله ووعده؟ وهذا غير واقع، بل غير ممكن عقلاً وشرعاً، أن تكتب براءتهم في الكتب الإلهية المتضمنة للعدل والحكمة، فليس من الحكمة نجاة أمثال هؤلاء المعاندين المكذبين، لأفضل الرسل وأكرمهم على الله، فلم يبق إلا أن يكون بهم قوة ينتصرون بها، فأخبر تعالى أنهم يقولون: { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } قال تعالى مبيناً لضعفهم، وأنهم مهزومون: { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } فوقع كما أخبر، هزم الله جمعهم الأكبر يوم بدر، وقتل من صناديدهم وكبرائهم ما ذلوا به، ونصر الله دينه ونبيه وحزبه المؤمنين. ومع ذلك، فلهم موعد يجمع به أولهم وآخرهم، ومن أصيب في الدنيا منهم، ومن متع بلذاته، ولهذا قال: { بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } الذي يحازون به، ويؤخذ منهم الحق بالقسط، { وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ } أي: أعظم وأشق، وأكبر من كل ما يتوهم، أو يدور بالبال. { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ } أي: الذين أكثروا من فعل الجرائم، وهي الذنوب العظيمة من الشرك وغيره، من المعاصي { فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } أي: هم ضالون في الدنيا، ضُلاَّلٌ عن العلم، وضلال عن العمل، الذي ينجيهم من العذاب، ويوم القيامة في العذاب الأليم، والنار التي تتسعر بهم، وتشتعل في أجسامهم، حتى تبلغ أفئدتهم. { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } التي هي أشرف ما بهم من الأعضاء، وألمها أشد من ألم غيرها، فيهانون بذلك ويخزون، ويقال لهم: { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } أي: ذوقوا ألم النار وأسفها وغيظها ولهبها. { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية، أن الله تعالى وحده خلقها لا خالق لها سواه، ولا مشارك له في خلقها، وخلقها بقضاء سبق به علمه، وجرى به قلمه، بوقتها ومقدارها، وجميع ما اشتملت عليه من الأوصاف، وذلك على الله يسير، فلهذا قال: { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } فإذا أراد شيئاً قال له كن فيكون كما أراد، كلمح البصر، من غير ممانعة ولا صعوبة.
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ } من الأمم السابقين الذين عملوا كما عملتم، وكذبوا كما كذبتم { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي: متذكر يعلم أن سنة الله في الأولين والآخرين واحدة، وأن حكمته كما اقتضت إهلاك أولئك الأشرار، فإن هؤلاء مثلهم، ولا فرق بين الفريقين. { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ } أي: كل ما فعلوه من خير وشر مكتوب عليهم في الكتب القدرية { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } أي: مسطر مكتوب، وهذا حقيقة القضاء والقدر، وأن جميع الأشياء كلها، قد علمها الله تعالى، وسطرها عنده في اللوح المحفوظ، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } لله، بفعل أوامره وترك نواهيه، الذين اتقوا الشرك والكبائر والصغائر. { فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } أي: في جنات النعيم، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من الأشجار اليانعة، والأنهار الجارية، والقصور الرفيعة، والمنازل الأنيقة، والمآكل والمشارب اللذيذة، والحور الحسان، والروضات البهية في الجنان، ورضوان الملك الديان، والفوز بقربه، ولهذا قال: { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } فلا تسأل بعد هذا عما يعطيهم ربهم من كرامته وجوده، ويمدهم به من إحسانه ومنته، جعلنا الله منهم، ولا حرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.

(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابوالوليد المسلم
20-08-2020, 05:01 AM
الحلقة (569)
تفسير السعدى
(سورة الرحمن)
من (1)الى (13)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الرحمن

{ ٱلرَّحْمَـٰنُ } 1 { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } 2 { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } 3 { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } 4 { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } 5 { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } 6 { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } 7 { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ } 8 { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } 9 { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } 10 { فِيهَا فَاكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } 11 { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } 12 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }13


هذه السورة الكريمة الجليلة، افتتحها باسمه " الرَّحْمَنُ " الدال على سعة رحمته، وعموم إحسانه، وجزيل بره، وواسع فضله، ثم ذكر ما يدل على رحمته وأثرها الذي أوصله الله إلى عباده من النعم الدينية والدنيوية [والآخروية وبعد كل جنس ونوع من نعمه، ينبه الثقلين لشكره، ويقول: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ]. فذكر أنه { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } أي: علم عباده ألفاظه ومعانيه، ويسرها على عباده، وهذا أعظم منة ورحمة رحم بها عباده، حيث أنزل عليهم قرآناً عربياً بأحسن ألفاظ، وأحسن تفسير، مشتمل على كل خير، زاجر عن كل شر. { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } في أحسن تقويم، كامل الأعضاء، مستوفي الأجزاء، محكم البناء، قد أتقن البديع تعالى البديع خلقه أيّ إتقان، وميّزه على سائر الحيوانات. بأن { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } أي: التبيين عما في ضميره، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي، فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجلّ نعمه، وأكبرها عليه. { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أي: خلق الله الشمس والقمر، وسخرهما يجريان بحساب مقنن، وتقدير مقدر، رحمة بالعباد، وعناية بهم، وليقوم بذلك من مصالحهم ما يقوم، وليعرف العباد عدد السنين والحساب. { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } أي: نجوم السماء، وأشجار الأرض، تعرف ربها وتسجد له، وتطيع وتخشع، وتنقاد لما سخرها له من مصالح عباده ومنافعهم، { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا } سقفها للمخلوقات الأرضية، ووضع الله الميزان أي: العدل بين العباد، في الأقوال والأفعال، وليس المراد به الميزان المعروف وحده، بل هو كما ذكرنا، يدخل فيه الميزان المعروف، والمكيال الذي تكال به الأشياء والمقادير، والمساحات التي تضبط بها المجهولات، والحقائق التي يفصل بها بين المخلوقات، ويقام بها العدل بينهم، ولهذا قال: { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ } أي: أنزل الله الميزان، لئلا تتجاوزوا الحد في الميزان، فإن الأمر لو كان يرجع إلى عقولكم وآرائكم، لحصل من الخلل ما الله به عليم، ولفسدت السماوات والأرض. { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ } أي: اجعلوه قائماً بالعدل، الذي تصل إليه مقدرتكم وإمكانكم، { وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } أي: لا تنقصوه وتعملوا بضده، وهو الجور والظلم والطغيان، { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا } الله على ما كانت عليه من الكثافة والاستقرار واختلاف [أوصافها و] أحوالها { لِلأَنَامِ } أي: للخلق، لكي يستقروا عليها، وتكون لهم مهاداً وفراشاً يبنون بها، ويحرثون ويغرسون ويحفرون ويسلكون سبلها فجاجاً، وينتفعون بمعادنها وجميع ما فيها، مما تدعو إليه حاجتهم، بل ضرورتهم. ثم ذكر ما فيها من الأقوات الضرورية، فقال: { فِيهَا فَاكِهَةٌ } وهي جميع الأشجار التي تثمر الثمرات التي يتفكه بها العباد، من العنب والتين والرمان والتفاح، وغير ذلك، { وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } أي: ذات الوعاء الذي ينفلق عن القنوان التي تخرج شيئاً فشيئاً حتى تتم، فتكون قوتاً يؤكل ويدخر، يتزود منه المقيم والمسافر، وفاكهة لذيذة من أحسن الفواكه، { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ } أي: ذو الساق الذي يداس، فينتفع بتبنه للأنعام وغيرها، ويدخل في ذلك حب البر والشعير والذرة [والأرز] والدخن، وغير ذلك، { وَٱلرَّيْحَانُ } يحتمل أن المراد بذلك جميع الأرزاق التي يأكلها الآدميون، فيكون هذا من باب عطف العام على الخاص، ويكون الله قد امتنّ على عباده بالقوت والرزق، عموماً وخصوصاً، ويحتمل أن المراد بالريحان، الريحان المعروف، وأن الله امتنَّ على عباده بما يسره في الأرض من أنواع الروائح الطيبة، والمشام الفاخرة، التي تسر الأرواح، وتنشرح لها النفوس.
ولما ذكر جملة كثيرة من نعمه التي تشاهد بالأبصار والبصائر، وكان الخطاب للثقلين، الإنس والجن، قررهم تعالى بنعمه، فقال: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي: فبأي نعم الله الدينية والدنيوية تكذبان؟ وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة، فما مر بقوله: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد، فهذا الذي ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه، أن يقرّ بها ويشكر، ويحمد الله عليها.




(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابوالوليد المسلم
20-08-2020, 05:02 AM
الحلقة (570)
تفسير السعدى
(سورة الرحمن)
من (14)الى (23)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الرحمن
{ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } 14 { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } 15 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }16


وهذا من نعمه تعالى على عباده، حيث أراهم [من] آثار قدرته وبديع صنعته، أن { خَلَقَ } أبا الإنس وهو آدم عليه السلام { مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } أي: من طين مبلول، قد أحكم بله وأتقن، حتى جف، فصار له صلصلة وصوت يشبه صوت الفخار الذي طبخ على النار، { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ } أي: أبا الجن، وهو إبليس اللعين { مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } أي: من لهب النار الصافي، أو الذي قد خالطه الدخان، وهذا يدل على شرف عنصر الآدمي المخلوق من الطين والتراب، الذي هو محل الرزانة والثقل والمنافع، بخلاف عنصر الجان وهو النار، التي هي محل الخفة والطيش والشر والفساد. ولما بين خلق الثقلين ومادة ذلك، وكان ذلك منّةً منه [تعالى] على عباده، قال: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.

{ رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } 17 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }18


أي: هو تعالى ربُّ كل ما أشرقت عليه الشمس والقمر، والكواكب النيرة، وكل ما غربت عليه، [وكل ما كانا فيه] فهي تحت تدبيره وربوبيته، وثناهما هنا لإرادة العموم مشرقي الشمس شتاءً وصيفاً، ومغربها كذلك.
{ مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } 19 { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } 20 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 21 { يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ } 22 { فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }23


المراد بالبحرين: البحر العذب، والبحر المالح، فهما يلتقيان كلاهما، فيصب العذب في البحر المالح، ويختلطان ويمتزجان، ولكن الله تعالى جعل بينهما برزخاً من الأرض، حتى لا يبغي أحدهما على الآخر، ويحصل النفع بكل منهما، فالعذب منه يشربون وتشرب أشجارهم وزروعهم، والملح به يطيب الهواء ويتولد الحوت والسمك، واللؤلؤ والمرجان، ويكون مستقراً مسخراً للسفن والمراكب، ولهذا قال: { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ... }.




(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابوالوليد المسلم
23-08-2020, 03:54 AM
الحلقة (571)
تفسير السعدى
(سورة الرحمن)
من (24)الى (35)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الرحمن
{ وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } 24 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }25


أي: وسخر تعالى لعباده السفن الجواري، التي تمخر البحر وتشقه بإذن الله، التي ينشئها الآدميون، فتكون من كبرها وعظمها كالأعلام، وهي الجبال العظيمة، فيركبها الناس، ويحملون عليها أمتعتهم وأنواع تجاراتهم، وغير ذلك مما تدعو إليه حاجتهم وضرورتهم، وقد حفظها حافظ السماوات والأرض، وهذه من نعم الله الجليلة، فلذلك قال: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } 26 { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } 27 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }28


أي: كل من على الأرض، من إنس وجن، ودوابّ، وسائر المخلوقات، يفنى ويموت ويبيد ويبقى الحي الذي لا يموت { ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } أي: ذو العظمة والكبرياء والمجد، الذي يعظم ويبجل ويجل لأجله، والإكرام الذي هو سعة الفضل والجود، والداعي لأن يكرم أولياءه وخواص خلقه بأنواع الإكرام، الذي يكرمه أولياؤه ويجلونه، [ويعظمونه] ويحبونه، وينيبون إليه ويعبدونه، { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.

{ يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } 29 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }30


أي: هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، وهو واسع الجود والكرم، فكل الخلق مفتقرون إليه، يسألونه جميع حوائجهم، بحالهم ومقالهم، ولا يستغنون عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك، وهو تعالى { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } يغني فقيراً، ويجبر كسيراً، ويعطي قوماً، ويمنع آخرين، ويميت ويحيي، ويرفع ويخفض، لا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين، ولا طول مسألة السائلين، فسبحان الكريم الوهاب، الذي عمت مواهبه أهل الأرض والسماوات، وعمّ لطفه جميع الخلق في كل الآنات واللحظات، وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين، ولا استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه، وهذه الشؤون التي أخبر أنه تعالى كل يوم هو في شأن، هي تقاديره وتدابيره التي قدرها في الأزل وقضاها، لا يزال تعالى يمضيها وينفذها في أوقاتها التي اقتضته حكمته، وهي أحكامه الدينية التي هي الأمر والنهي، والقدرية التي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار، حتى إذا تمت [هذه] الخليقة وأفناهم الله تعالى، وأراد تعالى أن ينفذ فيهم أحكام الجزاء، ويريهم من عدله وفضله وكثرة إحسانه، ما به يعرفونه ويوحدونه، نقل المكلفين من دار الابتلاء والامتحان إلى دار الحيوان. وفرغ حينئذ لتنفيذ هذه الأحكام، التي جاء وقتها، وهو المراد بقوله: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ... }.
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } 30 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }31


أي: سنفرغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم التي عملتموها في دار الدنيا.
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } 32 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }33


أي: سنفرغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم التي عملتموها في دار الدنيا.
{ يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } 34 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }35


أي: إذا جمعهم الله في موقف القيامة، أخبرهم بعجزهم وضعفهم، وكمال سلطانه، ونفوذ مشيئته وقدرته، فقال معجزاً لهم: { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: تجدون منفذاً مسلكاً تخرجون به عن ملك الله وسلطانه، { فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } أي: لا تخرجون عنه إلا بقوة وتسلط منكم، وكمال قدرة، وأنّى لهم ذلك، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟! ففي ذلك الموقف لا يتكلم أحد إلا بإذنه، ولا تسمع إلا همساً، وفي ذلك الموقف يستوي الملوك والمماليك، والرؤساء والمرؤوسون، والأغنياء والفقراء.

ابوالوليد المسلم
23-08-2020, 03:55 AM
الحلقة (572)
تفسير السعدى
(سورة الرحمن)
من (36)الى (46)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الرحمن
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } 36 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }37


ثم ذكر ما أعد لهم في ذلك الموقف العظيم، فقال: { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ [وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي: يرسل عليكما] لهب صاف من النار.
{ وَنُحَاسٌ } وهو اللهب، الذي قد خالطه الدخان، والمعنى أن هذين الأمرين الفظيعين يرسلان عليكما يا معشر الجن والإنس، ويحيطان بكما فلا تنتصران، لا بناصر من أنفسكم، ولا بأحد ينصركم من دون الله. ولما كان تخويفه لعباده نعمة منه عليهم، وسوطاً يسوقهم به إلى أعلى المطالب وأشرف المواهب، امتنَّ عليهم، فقال: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.

{ فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ } 38 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 39 { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } 40 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }41


{ فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ } [أي] يوم القيامة من شدة الأهوال، وكثرة البلبال، وترادف الأوجال، فانخسفت شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها، { فَكَانَتْ } من شدة الخوف والانزعاج { وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ } أي: كانت كالمهل والرصاص المذاب ونحوه { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } أي: سؤال استعلام بما وقع، لأنه تعالى عالم الغيب والشهادة والماضي والمستقبل، ويريد أن يجازي العباد بما علمه من أحوالهم، وقد جعل لأهل الخير والشر يوم القيامة علامات يعرفون بها، كما قال تعالى:{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106].

{ يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ } 42 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }43


وقال هنا: { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ } أي: فيؤخذ بنواصي المجرمين وأقدامهم، فيلقون في النار ويسحبون فيها، وإنما يسألهم تعالى سؤال توبيخ وتقرير بما وقع منهم، وهو أعلم به منهم، ولكنه تعالى يريد أن تظهر للخلق حجته البالغة، وحكمته الجليلة.

{ هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } 44 { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } 45 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }46


أي: يقال للمكذبين بالوعد والوعيد حين تسعر الجحيم: { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } فليهنهم تكذيبهم بها، وليذوقوا من عذابها ونكالها وسعيرها وأغلالها، ما هو جزاء لتكذيبهم، { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا } أي: بين أطباق الجحيم ولهبها { وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } أي: ماء حار جداً قد انتهى حرّه، وزمهرير قد اشتدّ برده وقره، { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ولما ذكر ما يفعل بالمجرمين، ذكر جزاء المتقين الخائفين، فقال:

ابوالوليد المسلم
23-08-2020, 03:55 AM
الحلقة (573)
تفسير السعدى
(سورة الرحمن)
من (47)الى (79)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الرحمن
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } 47 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 48 { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } 49 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 50 { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } 51 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 52 { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } 53 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 54 { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } 55 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 56 { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } 57 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 58 { كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ } 59 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 60 { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } 61 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 62 { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } 63 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 64 { مُدْهَآمَّتَانِ } 65 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 66 { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } 67 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 68 { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } 69 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 70 { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } 71 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 72 { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ } 73 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 74 { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } 75 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 76 { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } 77 { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 78 { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ }79


{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلى آخر السورة.
أي: وللذي خاف ربه وقيامه عليه، فترك ما نهى عنه، وفعل ما أمره به، له جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وبنيانهما وما فيهما، إحدى الجنتين جزاء على ترك المنهيات، والأخرى على فعل الطاعات، ومن أوصاف تلك الجنتين أنهما { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } [أي: فيهما من ألوان النعيم المتنوعة نعيم الظاهر والباطن ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر] أن فيهما الأشجار الكثيرة الزاهرة ذوات الغصون الناعمة، التي فيها الثمار اليانعة الكثيرة اللذيذة، أو ذواتا أنواع وأصناف من جميع أصناف النعيم وأنواعه جمع فن، أي: صنف. وفي تلك الجنتين { عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } يفجرونها على ما يريدون ويشتهون، { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ } من جميع أصناف الفواكه { زَوْجَانِ } أي: صنفان، كل صنف له لذّة ولون، ليس للنوع الآخر. { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } هذه صفة فرش أهل الجنة وجلوسهم عليها، وأنهم متكئون عليها، [أي:] جلوس تمكن واستقرار [وراحة]، كجلوس من الملوك على الأسرة، وتلك الفرش، لا يعلم وصفها وحسنها إلا الله عز وجل، حتى إن بطائنها التي تلي الأرض منها، من إستبرق، وهو أحسن الحرير وأفخره، فكيف بظواهرها التي تلي بشرتهم؟! { وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } الجنى هو الثمر المستوي أي: وثمر هاتين الجنتين قريب التناول، يناله القائم والقاعد والمضطجع.
{ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ } أي: قد قصرن طرفهن على أزواجهن، من حسنهم وجمالهم، وكمال محبتهن لهم، وقصرن أيضاً طرف أزواجهن عليهن، من حسنهن وجمالهن ولذة وصالهن، { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } أي: لم ينلهن قبلهم أحد من الإنس والجن، بل هن أبكار عرب، متحببات إلى أزواجهن، بحسن التبعل والتغنج والملاحة والدلال، ولهذا قال: { كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ } وذلك لصفائهن وجمال منظرهن وبهائهن، { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } أي: هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق ونفع عبيده، إلا أن يحسن إليه بالثواب الجزيل، والفوز الكبير، والنعيم المقيم، والعيش السليم، فهاتان الجنتان العاليتان للمقربين، { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } من فضة بنيانهما وآنيتهما وحليتهما وما فيهما لأصحاب اليمين، وتلك الجنتان { مُدْهَآمَّتَانِ } أي: سوداوان من شدة الخضرة التي هي أثر الري. { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ }. أي: فوارتان، { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ } من جميع أصناف الفواكه، وأخصها النخل والرمان، اللذان فيهما من المنافع ما فيهما، { فِيهِنَّ } أي: في الجنات كلها { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } أي: خيرات الأخلاق حسان الأوجه، فجمعن بين جمال الظاهر والباطن، وحسن الخَلْقِ والخُلُق، { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ } أي: محبوسات في خيام اللؤلؤ، قد تهيأن وأعددن أنفسهن لأزواجهنَّ، ولا ينفي ذلك خروجهنَّ في البساتين ورياض الجنة، كما جرت العادة لبنات الملوك ونحوهنَّ [المخدرات] الخفرات، { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ } أي: أصحاب هاتين الجنتين، متكأهم على الرفرف الأخضر، وهي الفرش التي فوق المجالس العالية، التي قد زادت على مجالسهم، فصار لها رفرفة من وراء مجالسهم، لزيادة البهاء وحسن المنظر، { وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } العبقري: نسبة لكل منسوج نسجاً حسناً فاخراً، ولهذا وصفها بالحسن الشامل، لحسن الصنعة وحسن المنظر، ونعومة الملمس، وهاتان الجنتان دون الجنتين الأوليين، كما نص الله على ذلك بقوله: { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } وكما وصف الأوليين بعدة أوصاف لم يصف بها الأخريين، فقال في الأوليين: { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } وفي الأخريين: { عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } ومن المعلوم الفرق بين الجارية والنضاخة.

وقال في الأوليين: { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } ولم يقل ذلك في الأخريين. وقال في الأوليين: { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } وفي الأخريين { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } وقد علم ما بين الوصفين من التفاوت. وقال في الأوليين: { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } ولم يقل ذلك في الأخيرتين، بل قال: { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ }. وقال في الأوليين، في وصف نسائهم وأزواجهم: { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } وقال في الأخريين: { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ } وقد علم التفاوت بين ذلك. وقال في الأوليين: { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } فدلّ ذلك أن الأوليين جزاء المحسنين، ولم يقل ذلك في الأخريين. ومجرد تقديم الأوليين على الأخريين، يدل على فضلهما. فبهذه الأوجه يعرف فضل الأوليين على الأخريين، وأنهما معدّتان للمقربين من الأنبياء، والصديقين، وخواصّ عباد الله الصالحين، وأن الأخريين معدتان لعموم المؤمنين، وفي كل من الجنات [المذكورات] ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيهنّ ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأهلها في غاية الراحة والرضا والطمأنينة وحسن المأوى، حتى إن كلاً منهم لا يرى أحداً أحسن حالاً منه، ولا أعلى من نعيمه [الذي هو فيه].
ولما ذكر سعة فضله وإحسانه، قال: { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } أي: تعاظم وكثر خيره، الذي له الجلال الباهر، والمجد الكامل، والإكرام لأوليائه.

ابوالوليد المسلم
23-08-2020, 03:56 AM
الحلقة (574)
تفسير السعدى
(سورة الواقعة)
من (1)الى (26)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الواقعة
{ إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } 1 { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } 2 { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } 3 { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } 4 { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } 5 { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } 6 { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } 7 { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } 8 { وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } 9 { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ } 10 { أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } 11 { فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } 12 { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ }13


يخبر تعالى بحال الواقعة التي لا بد من وقوعها، وهي القيامة التي { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي: لا شك فيها، لأنها قد تظاهرت عليها الأدلة العقلية والسمعية، ودلّت عليها حكمته تعالى، { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي: خافضة لأناس في أسفل سافلين، رافعة لأناس في أعلى عليين، أو خفضت بصوتها فأسمعت القريب، ورفعت فأسمعت البعيد.
{ إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } أي: حركت واضطربت، { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } أي: فتتت، { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } فأصبحت الأرض ليس عليها جبل ولا معلم، قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، { وَكُنتُمْ } أيها الخلق { أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } أي: انقسمتم ثلاث فرق بحسب أعمالكم الحسنة والسيئة، ثم فصل أحوال الأزواج الثلاثة، فقال: { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } تعظيم لشأنهم، وتفخيم لأحوالهم، { وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } أي: الشمال، { مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } تهويل لحالهم.
{ وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } أي: السابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات. أولئك الذين هذا وصفهم، المقربون عند الله، في جنات النعيم، في أعلى عليين، في المنازل العاليات، التي لا منزلة فوقها. وهؤلاء المذكورون { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } أي: جماعة كثيرون من المتقدمين من هذه الأمة وغيرهم.

{ وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } 14 { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } 15 { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ }16


{ وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } وهذا يدل على فضل صدر هذه الأمة في الجملة على متأخريها، لكون المقربين من الأولين أكثر من المتأخرين، والمقربون هم خواص الخلق، { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } أي: مرمولة بالذهب والفضة، واللؤلؤ، والجوهر، وغير ذلك من [الحلي] الزينة، التي لا يعلمها إلا الله تعالى، { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا } أي: على تلك السرر، جلوس تمكن وطمأنينة وراحة واستقرار.
{ مُتَقَابِلِينَ } وجه كل منهم إلى وجه صاحبه، من صفاء قلوبهم، وحسن أدبهم، وتقابل قلوبهم.
{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } 17 { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } 18 { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } 19 { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } 20 { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } 21 { وَحُورٌ عِينٌ } 22 { كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } 23 { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } 24 { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } 25 { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً }26


{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أي: يدور على أهل الجنة للخدمة وقضاء حوائجهم، ولدان صغار الأسنان، في غاية الحسن والبهاء،{ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } [الطور: 24] أي: مستور، لا يناله ما يغيره، مخلوقون للبقاء والخلد، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا يزيدون على أسنانهم، ويدورون عليهم بآنية شرابهم { بِأَكْوَابٍ } وهي التي لا عرى لها، { وَأَبَارِيقَ } الأواني التي لها عرى، { وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } أي: من خمر لذيذ المشرب، لا آفة فيها، { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي: لا تصدعهم رؤوسهم كما تصدع خمرة الدنيا رأس شاربها. ولا هم عنها ينزفون، أي: لا تنزف عقولهم، ولا تذهب أحلامهم منها، كما يكون لخمر الدنيا. والحاصل: أن جميع ما في الجنة من أنواع النعيم الموجود جنسه في الدنيا، لا يوجد في الجنة فيه آفة، كما قال تعالى:{ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [محمد: 15] وذكر هنا خمر الجنة، ونفى عنها كل آفة توجد في الدنيا. { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } أي: مهما تخيروا، وراق في أعينهم، واشتهته نفوسهم، من أنواع الفواكه الشهية، والجنى اللذيذ، حصل لهم على أكمل وجه وأحسنه، { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } أي: من كل صنف من الطيور يشتهونه، ومن أي جنس من لحمه أرادوا، وإن شاؤوا مشوياً، أو طبيخاً، أو غير ذلك. { وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } أي: ولهم حور عين، والحوراء: التي في عينها كحل وملاحة، وحسن وبهاء، والعين: حسان الأعين وضخامها وحسن العين في الأنثى، من أعظم الأدلة على حسنها وجمالها. { كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } أي: كأنهن اللؤلؤ الأبيض الرطب الصافي البهي، المستور عن الأعين والريح والشمس، الذي يكون لونه من أحسن الألوان، الذي لا عيب فيه بوجه من الوجوه، فكذلك الحور العين، لا عيب فيهن [بوجه]، بل هن كاملات الأوصاف، جميلات النعوت. فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إلا ما يسر الخاطر ويروق الناظر، وذلك النعيم المعد لهم { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فكما حسنت منهم الأعمال، أحسن الله لهم الجزاء، ووفر لهم الفوز والنعيم. { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } أي: لا يسمعون في جنات النعيم كلاماً يلغى، ولا يكون فيه فائدة، ولا كلاماً يؤثم صاحبه، { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } أي: إلا كلاماً طيباً، وذلك لأنها دار الطيبين، ولا يكون فيها إلا كل طيب، وهذا دليل على حسن أدب أهل الجنة في خطابهم فيما بينهم، وأنه أطيب كلام، وأسره للنفوس، وأسلمه من كل لغوٍ وإثم، نسأل الله من فضله.

ابوالوليد المسلم
23-08-2020, 03:57 AM
الحلقة (575)
تفسير السعدى
(سورة الواقعة)
من (27)الى (57)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الواقعة
{ وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ } 27 { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } 28 { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } 29 { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } 30 { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } 31 { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ } 32 { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } 33 { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } 34 { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } 35 { فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } 36 { عُرُباً أَتْرَاباً } 37 { لأَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } 38 { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } 39 { وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ }40


ثم ذكر نعيم أصحاب اليمين، فقال: { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ } أي: شأنهم عظيم، وحالهم جسيم، { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } أي: مقطوع ما فيه من الشوك والأغصان [الرديئة] المضرة، مجعول مكان ذلك الثمر الطيب، وللسدر من الخواص، الظل الظليل، وراحة الجسم فيه، { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } والطلح معروف، وهو شجر [كبار] يكون بالبادية، تنضد أغصانه من الثمر اللذيذ الشهي، { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } أي: كثير من العيون والأنهار السارحة، والمياه المتدفقة، { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } أي: ليست بمنزلة فاكهة الدنيا تنقطع في وقت من الأوقات، وتكون ممتنعة [أي: متعسرة] على مبتغيها، بل هي على الدوام موجودة، وجناها قريب يتناوله العبد على أي حال يكون، { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } أي: مرفوعة فوق الأسرة ارتفاعاً عظيماً، وتلك الفرش من الحرير والذهب واللؤلؤ وما لا يعلمه إلا الله. { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } أي: إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأةً غير النشأة التي كانت في الدنيا، نشأةً كاملةً لا تقبل الفناء، { فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } صغارهن وكبارهن، وعموم ذلك يشمل الحور العين ونساء أهل الدنيا، وأن هذا الوصف - وهو البكارة - ملازم لهن في جميع الأحوال، كما أن كونهن { عُرُباً أَتْرَاباً } ملازم لهن في كل حال، والعروب: هي المرأة المتحببة إلى بعلها بحسن لفظها، وحسن هيئتها ودلالها وجمالها [ومحبتها]، فهي التي إن تكلمت سبت العقول، وود السامع أن كلامها لا ينقضي، خصوصاً عند غنائهن بتلك الأصوات الرخيمة والنغمات المطربة، وإن نظر إلى أدبها وسمتها ودلها ملأت قلب بعلها فرحاً وسروراً، وإن برزت من محل إلى آخر، امتلأ ذلك الموضع منها ريحاً طيباً ونوراً، ويدخل في ذلك الغنجة عند الجماع. والأتراب اللاتي على سن واحدة، ثلاث وثلاثين سنة، التي هي غاية ما يتمنى ونهاية سن الشباب، فنساؤهم عرب أتراب، متفقات مؤتلفات، راضيات مرضيات، لا يَحزَنَّ ولا يُحزِنَّ، بل هن أفراح النفوس، وقرة العيون، وجلاء الأبصار.
{ لأَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } أي: معدات لهم مهيئات، { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } أي: هذا القسم من أصحاب اليمين عدد كثير من الأولين، وعدد كثير من الآخرين.
{ وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ } 41 { فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ } 42 { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } 43 { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } 44 { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } 45 { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } 46 { وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } 47 { أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } 48 { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ } 49 { لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } 50 { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ ٱلْمُكَذِّبُونَ } 51 { لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } 52 { فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ } 53 { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ } 54 { فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ } 55 { هَـٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ٱلدِّينِ } 56 { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ }57


{ وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ * وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ }. المراد بأصحاب الشمال [هم:] أصحاب النار، والأعمال المشئومة، فذكر [الله] لهم من العقاب، ما هم حقيقون به، فأخبر أنهم { فِي سَمُومٍ } أي: ريح حارة من حر نار جهنم، يأخذ بأنفاسهم، وتقلقهم أشد القلق، { وَحَمِيمٍ } أي: ماء حار يقطع أمعاءهم، { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } أي: لهب نار يختلط بدخان، { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } أي: لا برد فيه ولا كرم، والمقصود أن هناك الهم والغم، والحزن والشر، الذي لا خير فيه، لأن نفي الضد إثبات لضده. ثم ذكر أعمالهم التي أوصلتهم إلى هذا الجزاء، فقال: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } أي: قد ألهتهم دنياهم، وعملوا لها، وتنعموا وتمتعوا بها، فألهاهم الأمل عن إحسان العمل، فهذا الترف الذي ذمهم الله عليه، { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } أي: وكانوا يفعلون الذنوب الكبار ولا يتوبون منها، ولا يندمون عليها، بل يصرون على ما يسخط مولاهم، فقدموا عليه بأوزار كثيرة [غير مغفورة]. وكانوا ينكرون البعث، فيقولون استبعاداً لوقوعه: { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } أي: كيف نبعث بعد موتنا وقد بلينا، فكنا تراباً وعظاماً؟ [هذا من المحال] { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } قال تعالى جواباً لهم ورداً عليهم: { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } ، أي: قل إن متقدم الخلق ومتأخرهم، الجميع سيبعثهم الله ويجمعهم لميقات يوم معلوم، قدّره الله لعباده، حين تنقضي الخليقة، ويريد الله تعالى جزاءهم على أعمالهم التي عملوها في دار التكليف. { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ } عن طريق الهدى، التابعون لطريق الردى، { ٱلْمُكَذِّبُونَ } بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق والوعد والوعيد، { لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } وهو أقبح الأشجار وأخسها، وأنتنها ريحاً، وأبشعها منظراً، { فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ } والذي أوجب لهم أكلها - مع ما هي عليه من الشناعة - الجوع المفرط، الذي يلتهب في أكبادهم وتكاد تنقطع منه أفئدتهم. هذا الطعام الذي يدفعون به الجوع، وهو الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
وأما شرابهم، فهو بئس الشراب، وهو أنهم يشربون على هذا الطعام من الماء الحميم الذي يغلي في البطون شرب الإبل الهيم أي: العطاش، التي قد اشتد عطشها، أو [أن الهيم] داء يصيب الإبل، لا تروى معه من شراب الماء. { هَـٰذَا } الطعام والشراب { نُزُلُهُمْ } أي: ضيافتهم { يَوْمَ ٱلدِّينِ } وهي الضيافة التي قدموها لأنفسهم، وآثروها على ضيافة الله لأوليائه. قال تعالى:{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [الكهف: 107-108]. ثم ذكر الدليل العقلي على البعث، فقال: { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } أي: نحن الذين أوجدناكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، من غير عجز ولا تعب، أفليس القادر على ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير، ولهذا وبَّخهم على عدم تصديقهم بالبعث، وهم يشاهدون ما هو أعظم منه وأبلغ.

ابوالوليد المسلم
23-08-2020, 03:57 AM
الحلقة (576)
تفسير السعدى
(سورة الواقعة)
من (58)الى (70)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الواقعة
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } 58 { ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } 59 { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } 60 { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } 61 { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ }62


أي: أفرأيتم ابتداء خلقتكم من المني الذي تمنون، فهل أنتم خالقون ذلك المني وما ينشأ منه؟ أم الله تعالى الخالق الذي خلق فيكم من الشهوة وآلتها من الذكر والأنثى، وهدى كلاًّ منهما لما هنالك، وحبب بين الزوجين، وجعل بينهما من المودة والرحمة ما هو سبب للتناسل. ولهذا أحالهم الله تعالى على الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، فقال: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } أن القادر على ابتداء خلقكم، قادر على إعادتكم.
{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } 63 { ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } 64 { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } 65 { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } 66 { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ }67


وهذا امتنان منه على عباده، يدعوهم به إلى توحيده وعبادته والإنابة إليه، حيث أنعم عليهم بما يسره لهم من الحرث للزروع والثمار، فتخرج من ذلك من الأقوات والأرزاق والفواكه، ما هو من ضروراتهم وحاجاتهم ومصالحهم، التي لا يقدرون أن يحصوها، فضلاً عن شكرها، وأداء حقها، فقررهم بمنته، فقال: { ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } أي: أأنتم أخرجتموه نباتاً من الأرض؟ أم أنتم الذين نميتموه؟ أم أنتم الذين أخرجتم سنبله وثمره حتى صار حباً حصيداً وثمراً نضيجاً؟ أم الله الذي انفرد بذلك وحده، وأنعم به عليكم؟ وأنتم غاية ما تفعلون أن تحرثوا الأرض وتشقوها وتلقوا فيها البذر، ثم بعد ذلك لا علم عندكم بما يكون بعد ذلك، ولا قدرة لكم على أكثر من ذلك ومع ذلك، فنبههم على أن ذلك الحرث معرض للأخطار لولا حفظ الله وإبقاؤه لكم بلغةً ومتاعاً إلى حين، فقال: { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ } أي: الزرع المحروث وما فيه من الثمار { حُطَاماً } أي: فتاتاً متحطماً، لا نفع فيه ولا رزق، { فَظَلْتُمْ } أي: فصرتم بسبب جعله حطاماً، بعد أن تعبتم فيه وأنفقتم النفقات الكثيرة { تَفَكَّهُونَ } أي: تندمون وتحسرون على ما أصابكم، ويزول بذلك فرحكم وسروركم وتفكهكم، فتقولون: { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } أي: إنا قد نقصنا وأصابتنا مصيبة اجتاحتنا. ثم تعرفون بعد ذلك من أين أتيتم، وبأي سبب دهيتم، فتقولون: { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } فاحمدوا الله تعالى حيث زرعه الله لكم، ثم أبقاه وكمله لكم، ولم يرسل عليه من الآفات ما به تحرمون نفعه وخيره.
{ أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ } 68 { ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } 69 { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ }70


لما ذكر تعالى نعمته على عباده بالطعام، ذكر نعمته عليهم بالشراب العذب الذي منه يشربون، وأنهم لولا أن الله يسره وسهله، لما كان لكم سبيل إليه، وأنه الذي أنزله من المزن، وهو السحاب والمطر، ينزله الله تعالى فيكون منه الأنهار الجارية على وجه الأرض وفي بطنها، ويكون منه الغدران المتدفقة، ومن نعمته أن جعله عذباً فراتاً تسيغه النفوس، ولو شاء لجعله ملحاً أجاجاً مكروهاً للنفوس. لا ينتفع به { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } الله تعالى على ما أنعم به عليكم.

ابوالوليد المسلم
23-08-2020, 03:58 AM
الحلقة (577)
تفسير السعدى
(سورة الواقعة)
من (71)الى (87)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الواقعة
{ أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ } 71 { أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } 72 { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } 73 { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ }74


وهذه نعمة تدخل في الضروريات التي لا غنى للخلق عنها، فإن الناس محتاجون إليها في كثير من أمورهم وحوائجهم، فقررهم تعالى بالنار التي أوجدها في الأشجار، وأن الخلق لا يقدرون أن ينشؤوا شجرها، وإنما الله تعالى الذي أنشأها من الشجر الأخضر، فإذا هي نار توقد بقدر حاجة العباد، فإذا فرغوا من حاجتهم، أطفؤوها وأخمدوها. { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } للعباد بنعمة ربهم، وتذكرة بنار جهنم التي أعدها الله للعاصين، وجعلها سوطاً يسوق به عباده إلى دار النعيم، { وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } أي: [المنتفعين أو] المسافرين وخص الله المسافرين لأن نفع المسافر بذلك أعظم من غيره، ولعل السبب في ذلك، لأن الدنيا كلها دار سفر، والعبد من حين ولد فهو مسافر إلى ربه، فهذه النار، جعلها الله متاعاً للمسافرين في هذه الدار، وتذكرة لهم بدار القرار، فلما بيّن من نعمه ما يوجب الثناء عليه من عباده وشكره وعبادته، أمر بتسبيحه وتحميده، فقال: { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } أي: نزه ربك العظيم، كامل الأسماء والصفات، كثير الإحسان والخيرات، واحمده بقلبك ولسانك، وجوارحك، لأنه أهل لذلك، وهو المستحق لأن يُشكر فلا يُكفر، ويُذكر فلا يُنسى، ويُطاع فلا يُعصى.
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } 75 { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } 76 { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } 77 { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } 78 { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } 79 { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } 80 { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } 81 { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } 82 { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } 83 { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } 84 { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } 85 { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } 86 { تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }87


أقسم تعالى بالنجوم ومواقعها أي: مساقطها في مغاربها، وما يحدِث الله في تلك الأوقات، من الحوادث الدالة على عظمته وكبريائه وتوحيده، ثم عظم هذا المقسم به، فقال: { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } وإنما كان القسم عظيماً، لأن في النجوم وجريانها، وسقوطها عند مغاربها، آيات وعبراً لا يمكن حصرها، وأما المقسم عليه، فهو إثبات القرآن، وأنه حق لا ريب فيه، ولا شك يعتريه، وأنه كريم أي: كثير الخير، غزير العلم، فكل خير وعلم، فإنما يستفاد من كتاب الله ويستنبط منه، { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } أي: مستور عن أعين الخلق، وهذا الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ أي: إن هذا القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، معظم عند الله وعند ملائكته في الملأ الأعلى. ويحتمل أن المراد بالكتاب المكنون، هو الكتاب الذي بأيدي الملائكة الذين ينزلهم الله بوحيه وتنزيله، وأن المراد بذلك أنه مستور عن الشياطين، لا قدرة لهم على تغييره، ولا الزيادة والنقص منه واستراقه، { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } أي: لا يمس القرآن إلا الملائكة الكرام، الذين طهرهم الله تعالى من الآفات والذنوب والعيوب، وإذا كان لا يمسه إلا المطهرون، وأن أهل الخبث والشياطين، لا استطاعة لهم، ولا يدان إلى مسه، دلت الآية بتنبيهها، على أنه لا يجوز أن يمس القرآن إلا طاهر، كما ورد بذلك الحديث، ولهذا قيل أن الآية خبرٌ بمعنى النهي أي: لا يمس القرآن إلا طاهرٌ. { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي: إن هذا القرآن الموصوف بتلك الصفات الجليلة هو تنزيل رب العالمين، الذي يربي عباده بنعمه الدينية والدنيوية، ومن أجلّ تربية ربّى بها عباده، إنزاله هذا القرآن، الذي قد اشتمل على مصالح الدارين، ورحم الله به العباد رحمة لا يقدرون لها شكوراً، ومما يجب عليهم أن يقوموا به ويعلنوه ويدعوا إليه ويصدعوا به، ولهذا قال: { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } أي: أفبهذا الكتاب العظيم والذكر الحكيم أنتم تدهنون أي: تختفون وتدلسون خوفاً من الخلق وعارهم وألسنتهم؟ هذا لا ينبغي ولا يليق، إنما يليق أن يداهن بالحديث الذي لا يثق صاحبه منه. وأما القرآن الكريم، فهو الحق الذي لا يغالب به مغالب إلا غلب، ولا يصول به صائل إلا كان العالي على غيره، وهو الذي لا يداهن به ولا يختفى، بل يصدع به ويعلن. وقوله: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أي: تجعلون مقابلة منة الله عليكم بالرزق التكذيب والكفر لنعمة الله، فتقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وتضيفون النعمة لغير مسديها وموليها، فهلا شكرتم الله تعالى على إحسانه، إذ أنزله الله إليكم ليزيدكم من فضله، فإن التكذيب والكفر داع لرفع النعم وحلول النقم. { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } أي: فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم، وأنتم تنظرون المحتضر في هذه الحالة، والحال أنا نحن أقرب إليه منكم، بعلمنا وملائكتنا، ولكن لا تبصرون، { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } أي: فهلا إذا كنتم تزعمون، أنكم غير مبعوثين ولا محاسبين ومجازين، ترجعون الروح إلى بدنها { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وأنتم تقرون أنكم عاجزون عن ردها إلى موضعها، فحينئذ إما أن تقروا بالحق الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم، وإما أن تعاندوا وتعلم حالكم وسوء مآلكم.

ابوالوليد المسلم
23-08-2020, 03:58 AM
الحلقة (578)
تفسير السعدى
(سورة الواقعة)
من (88)الى (96)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الواقعة
{ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } 88 { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } 89 { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } 90 { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } 91 { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ } 92 { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } 93 { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } 94 { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ } 95 { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ }96


ذكر الله تعالى أحوال الطوائف الثلاث: المقربين، وأصحاب اليمين، والمكذبين الضالين، في أول السورة في دار القرار. ثم ذكر أحوالهم في آخرها عند الاحتضار والموت، فقال: { فَأَمَّآ إِن كَانَ } الميت { مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } وهم الذين أدوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات وفضول المباحات، { فـَ } لهم { رَوْحٌ } أي: راحة وطمأنينة، وسرور وبهجة، ونعيم القلب والروح، { وَرَيْحَانٌ } وهو اسم جامع لكل لذة بدنية، من أنواع المآكل والمشارب وغيرهما، وقيل: الريحان هو الطيب المعروف، فيكون تعبيراً بنوع الشيء عن جنسه العام. { وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } جامعة للأمرين كليهما، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيبشر المقربون عند الاحتضار بهذه البشارة، التي تكاد تطير منها الأرواح من الفرح والسرور. كما قال تعالى:{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } [فصلت: 30-32]. وقد أول قوله تبارك تعالى:{ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } [يونس: 64] أن هذه البشارة المذكورة، هي البشرى في الحياة الدنيا. [وقوله:] { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات، و [إن] حصل منهم التقصير في بعض الحقوق التي لا تخل بتوحيدهم وإيمانهم، { فـَ } يقال لأحدهم: { سَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } أي: سلام حاصل لك من إخوانك أصحاب اليمين أي: يسلمون عليه ويحيونه عند وصوله إليهم ولقائهم له، أو يقال له: سلامٌ لك من الآفات والبليات والعذاب، لأنك من أصحاب اليمين، الذين سلموا من الذنوب الموبقات. { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ } أي: الذين كذبوا بالحق وضلوا عن الهدى، { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي: ضيافتهم يوم قدومهم على ربهم تصلية الجحيم التي تحيط بهم، وتصل إلى أفئدتهم، وإذا استغاثوا من شدة العطش والظمأ{ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } [الكهف: 29]. { إِنَّ هَـٰذَا } الذي ذكره الله تعالى، من جزاء العباد بأعمالهم، خيرها وشرها، وتفاصيل ذلك { لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ } أي: الذي لا شك فيه ولا مرية، بل هو الحق الثابت الذي لا بدّ من وقوعه، وقد أشهد الله عباده الأدلة القواطع على ذلك، حتى صار عند أولي الألباب كأنهم ذائقون له مشاهدون له فحمدوا الله تعالى على ما خصهم به من هذه النعمة العظيمة، والمنحة الجسيمة. ولهذا قال تعالى: { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } فسبحان ربنا العظيم، وتعالى وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
سورة الحديد
{ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } 1 { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } 2 { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } 3 { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } 4 { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } 5 { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }6


يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وسعة سلطانه، أن جميع ما في السماوات والأرض من الحيوانات الناطقة والصامتة وغيرها، [والجوامد] تسبح بحمد ربها، وتنزهه عما لا يليق بجلاله، وأنها قانتة لربها، منقادة لعزته، قد ظهرت فيها آثار حكمته، ولهذا قال: { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } فهذا فيه بيان عموم افتقار المخلوقات العلوية والسفلية لربها، في جميع أحوالها، وعموم عزته وقهره للأشياء كلها، وعموم حكمته في خلقه وأمره، ثم أخبر عن عموم ملكه، فقال: { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ } أي: هو الخالق لذلك، الرازق المدبر لها بقدرته { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }. { هُوَ ٱلأَوَّلُ } الذي ليس قبله شيء، { وَٱلآخِرُ } الذي ليس بعده شيء { وَٱلظَّاهِرُ } الذي ليس فوقه شيء، { وَٱلْبَاطِنُ } الذي ليس دونه شيء. { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قد أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والسرائر والخفايا، والأمور المتقدمة والمتأخرة. { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } استواء يليق بجلاله، فوق جميع خلقه، { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ } من حب وحيوان ومطر، وغير ذلك. { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وشجر وحيوان وغير ذلك، { وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } من الملائكة والأقدار والأرزاق. { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الملائكة والأرواح، والأدعية والأعمال، وغير ذلك. { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } كقوله:{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ } [المجادلة: 7]. وهذه المعية، معية العلم والاطلاع، ولهذا توعد ووعد على المجازاة بالأعمال بقوله: { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: هو تعالى بصير بما يصدر منكم من الأعمال، وما صدرت عنه تلك الأعمال، من بر وفجور، فمجازيكم عليها، وحافظها عليكم. { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ملكاً وخلقاً وعبيداً، يتصرف فيهم بما شاءه من أوامره القدرية والشرعية، الجارية على الحكمة الربانية، { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } من الأعمال والعمال، فيعرض عليه العباد، فيميز الخبيث من الطيب، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } أي: يدخل الليل على النهار، فيغشيهم الليل بظلامه، فيسكنون ويهدؤون، ثم يدخل النهار على الليل، فيزول ما على الأرض من الظلام، ويضيء الكون، فيتحرك العباد، ويقومون إلى مصالحهم ومعايشهم، ولا يزال الله يكور الليل على النهار، والنهار على الليل، ويداول بينهما، في الزيادة والنقص، والطول والقصر، حتى تقوم بذلك الفصول، وتستقيم الأزمنة، ويحصل من المصالح ما يحصل بذلك، فتبارك الله رب العالمين، وتعالى الكريم الجواد، الذي أنعم على عباده بالنعم الظاهرة والباطنة، { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي: بما يكون في صدور العالمين، فيوفق من يعلم أنه أهل لذلك، ويخذل من يعلم أنه لا يصلح لهدايته.

ابوالوليد المسلم
23-08-2020, 03:59 AM
الحلقة (579)
تفسير السعدى
(سورة الحديد)
من (7)الى (15)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الحديد
{ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } 7 { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } 8 { هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } 9 { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } 10 { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ }11


يأمر تعالى عباده بالإيمان به وبرسوله وبما جاء به، وبالنفقة في سبيله، من الأموال التي جعلها الله في أيديهم واستخلفهم عليها، لينظر كيف يعملون، ثم لما أمرهم بذلك، رغَّبهم وحثَّهم عليه بذكر ما رتب عليه من الثواب، فقال: { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ } أي: جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله، والنفقة في سبيله، لهم أجر كبير، أعظمه [وأجله] رضا ربهم، والفوز بدار كرامته، وما فيها من النعيم المقيم، الذي أعده الله للمؤمنين والمجاهدين، ثم ذكر [السبب] الداعي لهم إلى الإيمان، وعدم المانع منه، فقال: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي: وما الذي يمنعكم من الإيمان، والحال أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل وأكرم داعٍ دعا إلى الله يدعوكم، فهذا مما يوجب المبادرة إلى إجابة دعوته، والتلبية والإجابة للحق الذي جاء به، وقد أخذ عليكم العهد والميثاق بالإيمان إن كنتم مؤمنين، ومع ذلك، من لطفه وعنايته بكم، أنه لم يكتف بمجرد دعوة الرسول الذي هو أشرف العالم، بل أيده بالمعجزات، ودلَّكم على صدق ما جاء به بالآيات البينات، فلهذا قال: { هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي: ظاهرات تدل أهل العقول على صدق كل ما جاء به، وأنه حق اليقين، { لِّيُخْرِجَكُمْ } بإرسال الرسول إليكم، وما أنزله الله على يده من الكتاب والحكمة، { مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي: من ظلمات الجهل والكفر، إلى نور العلم والإيمان، وهذا من رحمته بكم ورأفته، حيث كان أرحم بعباده من الوالدة بولدها { وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }. { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: وما الذي يمنعكم من النفقة في سبيل الله، وهي طرق الخير كلها، ويوجب لكم أن تبخلوا، { وَ } الحال أنه ليس لكم شيء، بل { لِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } فجميع الأموال ستنتقل من أيديكم أو تنقلون عنها، ثم يعود المُلكّ إلى مالكه تبارك وتعالى، فاغتنموا الإنفاق ما دامت الأموال في أيديكم، وانتهزوا الفرصة، ثم ذكر تعالى تفاضل الأعمال بحسب الأحوال والحكمة الإلهية، فقال: { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ } المراد بالفتح هنا هو فتح الحديبية، حين جرى من الصلح بين الرسول وبين قريش مما هو أعظم الفتوحات التي حصل بها نشر الإسلام، واختلاط المسلمين بالكافرين، والدعوة إلى الدين من غير معارض، فدخل الناس من ذلك الوقت في دين الله أفواجاً، واعتز الإسلام عزاً عظيماً، وكان المسلمون قبل هذا الفتح لا يقدرون على الدعوة إلى الدين في غير البقعة التي أسلم أهلها، كالمدينة وتوابعها، وكان من أسلم من أهل مكة وغيرها من ديار المشركين يؤذى ويخاف، فلذلك كان من أسلم قبل الفتح وأنفق وقاتل، أعظم درجة وأجراً وثواباً ممن لم يسلم ويقاتل وينفق إلا بعد ذلك، كما هو مقتضى الحكمة، ولذلك كان السابقون وفضلاء الصحابة، غالبهم أسلم قبل الفتح، ولما كان التفضيل بين الأمور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول، احترز تعالى من هذا بقوله: { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي: الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده، كلهم وعده الله الجنة، وهذا يدل على فضل الصحابة [كلهم]، رضي الله عنهم، حيث شهد الله لهم بالإيمان، ووعدهم الجنة، { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كُلاًّ منكم على ما يعلمه من عمله، ثم حث على النفقة في سبيله، لأن الجهاد متوقف على النفقة فيه، وبذل الأموال في التجهز له، فقال: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } وهي النفقة [الطيبة] التي تكون خالصة لوجه الله، موافقة لمرضاة الله، من مال حلال طيب، طيبة به نفسه، وهذا من كرم الله تعالى [حيث] سماه قرضاً، والمال ماله، والعبد عبده، ووعد بالمضاعفة عليه أضعافاً كثيرة، وهو الكريم الوهاب، وتلك المضاعفة محلها وموضعها يوم القيامة، يوم كلٌ يتبين فقره، ويحتاج إلى أقل شيء من الجزاء الحسن، ولذلك قال: { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
.. }.
{ يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } 12 { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } 13 { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } 14 { فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }15


يقول تعالى - مبيناً لفضل الإيمان واغتباط أهله به يوم القيامة-: { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } أي: إذا كان يوم القيامة، وكورت الشمس، وخسف القمر، وصار الناس في الظلمة، ونصب الصراط على متن جهنم، فحينئذ ترى المؤمنين والمؤمنات، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، فيمشون بأيمانهم ونورهم في ذلك الموقف الهائل الصعب، كل على قدر إيمانه، ويبشرون عند ذلك بأعظم بشارة، فيقال: { بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } فلله ما أحلى هذه البشارة بقلوبهم، وألذها لنفوسهم، حيث حصل لهم كل مطلوب [محبوب]، ونجوا من كل شر ومرهوب، فإذا رأى المنافقون نور المؤمنين يمشون به، وهم قد طُفئ نورهم وبقوا في الظلمات حائرين، قالوا للمؤمنين: { ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أي: أمهلونا لننال من نوركم ما نمشي به، لننجو من العذاب، فـ { قِيلَ } لهم: { ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً } أي: إن كان ذلك ممكناً، والحال أن ذلك غير ممكن، بل هو من المحالات، { فَضُرِبَ } بين المؤمنين والمنافقين { بِسُورٍ } أي: حائط منيع، وحصن حصين، { لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ } وهو الذي يلي المؤمنين، { وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } وهو الذي يلي المنافقين، فينادي المنافقون المؤمنين، فيقولون لهم تضرعاً وترحماً: { أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } في الدنيا نقول: " لا إله إلا الله " ، ونصلي ونصوم ونجاهد، ونعمل مثل عملكم؟ { قَالُواْ بَلَىٰ } كنتم معنا في الدنيا، وعملتم [في الظاهر] مثل عملنا، ولكن أعمالكم أعمال المنافقين، من غير إيمان ولا نية [صادقة] صالحة، بل { فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ } أي: شككتم في خبر الله الذي لا يقبل شكاً، { وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ } الباطلة، حيث تمنيتم أن تنالوا منال المؤمنين، وأنتم غير موقنين، { حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ } أي: حتى جاءكم الموت وأنتم بتلك الحال الذميمة. { وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } وهو الشيطان، الذي زين لكم الكفر والريب، فاطمأننتم به، ووثقتم بوعده، وصدقتم خبره. { فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } فلو افتديتم بمثل الأرض ذهباً ومثله معه، لما تقبل منكم، { مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } أي: مستقركم، { هِيَ مَوْلاَكُمْ } التي تتولاكم وتضمكم إليها، { وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } النار. [قال تعالى:]{ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } [القارعة: 8-11].

ابوالوليد المسلم
23-08-2020, 03:59 AM
الحلقة (580)
تفسير السعدى
(سورة الحديد)
من (16)الى (21)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الحديد
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } 16 { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }17


لما ذكر حال المؤمنين والمؤمنات، والمنافقين والمنافقات في الدار الآخرة، كان ذلك مما يدعو القلوب إلى الخشوع لربها، والاستكانة لعظمته، فعاتب الله المؤمنين [على عدم ذلك]، فقال: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ }. أي: ألم يجئ الوقت الذي تلين به قلوبهم وتخشع لذكر الله، الذي هو القرآن، وتنقاد لأوامره وزواجره، وما نزل من الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهذا فيه الحث على الاجتهاد على خشوع القلب لله تعالى، ولما أنزله من الكتاب والحكمة، وأن يتذكر المؤمنون المواعظ الإلهية والأحكام الشرعية كل وقت، ويحاسبوا أنفسهم على ذلك، { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ } أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب والانقياد التام، ثم لم يدوموا عليه، ولا ثبتوا، بل طال عليهم الزمان واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم وزال إيقانهم، { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزله الله، وتناطق بالحكمة، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك، فإن ذلك سبب لقسوة القلب وجمود العين. { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فإن الآيات تدل العقول على العلم بالمطالب الإلهية، والذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الأموات بعد موتهم، فيجازيهم بأعمالهم، والذي أحيا الأرض بعد موتها بماء المطر قادر على أن يحيي القلوب الميتة بما أنزله من الحق على رسوله، وهذه الآية تدل على أنه لا عقل لمن لم يهتد بآيات الله و[لم] ينقد لشرائع الله.
{ إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } 18 { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ }19


{ إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ } بالتشديد أي: الذين أكثروا من الصدقات الشرعية، والنفقات المرضية، { وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } بأن قدموا من أموالهم في طرق الخيرات ما يكون مدخراً لهم عند ربهم، { يُضَاعَفُ لَهُمْ } الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعافٍ كثيرة، { وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } وهو ما أعده الله لهم في الجنة، مما لا تعلمه النفوس. { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } والإيمان عند أهل السنة: هو ما دلّ عليه الكتاب والسنة، هو قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، فيشمل ذلك جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة، فالذين جمعوا بين هذه الأمور هم الصدِّيقون أي: الذين مرتبتهم فوق مرتبة عموم المؤمنين، ودون مرتبة الأنبياء. [وقوله:] { وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } كما ورد في الحديث الصحيح: " إن في الجنة مائة درجة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله " ، وهذا يقتضي شدة علوهم ورفعتهم، وقربهم الله تعالى. { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } فهذه الآيات جمعت أصناف الخلق، المتصدقين، والصديقين، والشهداء، وأصحاب الجحيم، فالمتصدقون الذين كان جُلُّ عملهم الإحسان إلى الخلق، وبذل النفع إليهم بغاية ما يمكنهم، خصوصاً بالنفع بالمال في سبيل الله. والصدِّيقون هم الذين كملوا مراتب الإيمان والعمل الصالح، والعلم النافع، واليقين الصادق، والشهداء هم الذين قاتلوا في سبيل الله [لإعلاء كلمة الله، وبذلوا أنفسهم وأموالهم] فقتلوا، وأصحاب الجحيم هم الكفار الذين كذبوا بآيات الله. وبقي قسم ذكرهم الله في سورة فاطر، وهم المقتصدون الذين أدّوا الواجبات وتركوا المحرمات، إلا أنهم حصل منهم تقصير ببعض حقوق الله وحقوق عباده، فهؤلاء مآلهم الجنة، وإن حصل لهم عقوبة ببعض ما فعلوا.
{ ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَٰلِ وَٱلأَوْلَٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَٰهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰماً وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ } 20 { سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }21


يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا وما هي عليه، ويبين غايتها وغاية أهلها، بأنها لعب ولهو، تلعب بها الأبدان، وتلهو بها القلوب، وهذا مصداقه ما هو موجود وواقع من أبناء الدنيا، فإنك تجدهم قد قطعوا أوقات أعمارهم بلهو القلوب، والغفلة عن ذكر الله، وعمّا أمامهم من الوعد والوعيد، وتراهم قد اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، بخلاف أهل اليقظة وعُمَّال الآخرة، فإن قلوبهم معمورة بذكر الله، ومعرفته ومحبته، وقد أشغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقربهم إلى الله، من النفع القاصر والمتعدي. [وقوله:] { وَزِينَةٌ } أي: تزيّنٌ في اللباس والطعام والشراب، والمراكب والدور والقصور والجاه. [وغير ذلك] { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } أي: كل واحد من أهلها يريد مفاخرة الآخر، وأن يكون هو الغالب في أمورها، والذي له الشهرة في أحوالها، { وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَٰلِ وَٱلأَوْلَٰدِ } أي: كلٌّ يريد أن يكون هو الكاثر لغيره في المال والولد، وهذا مصداقه، وقوعه من مُحبِّي الدنيا والمطمئنين إليها. بخلاف من عرف الدنيا وحقيقتها، فجعلها معبراً ولم يجعلها مستقراً، فنافس فيما يقربه إلى الله، واتخذ الوسائل التي توصله إلى الله، وإذا رأى من يكاثره وينافسه بالأموال والأولاد، نافسه بالأعمال الصالحة. ثم ضرب للدنيا مثلاً بغيث نزل على الأرض، فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وأعجب نباته الكفار، الذين قصروا همهم ونظرهم إلى الدنيا جاءها من أمر الله [ما أتلفها] فهاجت ويبست، فعادت على حالها الأولى، كأنه لم ينبت فيها خضراء، ولا رُؤيَ لها مرأى أنيق، كذلك الدنيا، بينما هي زاهية لصاحبها زاهرة، مهما أراد من مطالبها حصل، ومهما توجه لأمر من أمورها وجد أبوابه مفتحة، إذ أصابها القدر بما أذهبها من يده، وأزال تسلطه عليها، أو ذُهِب به عنها، فرحل منها صفر اليدين، لم يتزود منها سوى الكفن، فتبّاً لمن أضحت هي غاية أمنيته ولها عمله وسعيه. وأما العمل للآخرة فهو الذي ينفع، ويدخر لصاحبه، ويصحب العبد على الأبد، ولهذا قال تعالى: { وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ } أي: حال الآخرة، ما يخلو من هذين الأمرين: إما العذاب الشديد في نار جهنم، وأغلالها وسلاسلها وأهوالها لمن كانت الدنيا هي غايته ومنتهى مطلبه، فتجرأ على معاصي الله، وكذب بآيات الله، وكفر بأنعم الله. وإما مغفرة من الله للسيئات، وإزالة للعقوبات، ورضوان من الله، يحل من أحله به دار الرضوان لمن عرف الدنيا، وسعى للآخرة سعيها. فهذا كله مما يدعو إلى الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ولهذا قال: { وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ } أي: إلا متاع يتمتع به وينتفع به، ويستدفع به الحاجات، لا يغتر به ويطمئن إليه إلا أهل العقول الضعيفة الذين يغرهم بالله الغرور.

ثم أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته، وذلك يكون بالسعي بأسباب المغفرة، من التوبة النصوح، والاستغفار النافع، والبعد عن الذنوب ومظانها، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح، والحرص على ما يرضي الله على الدوام، من الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع، ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك، فقال: { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } والإيمان بالله ورسله، يدخل فيه أصول الدين وفروعها، { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } أي: هذا الذي بيّناه لكم، وذكرنا لكم فيه الطرق الموصلة إلى الجنة، والطرق الموصلة إلى النار، وأن فضل الله بالثواب الجزيل والأجر العظيم، من أعظم منّته على عباده وفضله. { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } الذي لا يُحصى ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده.

ابوالوليد المسلم
26-08-2020, 03:04 AM
الحلقة (581)
تفسير السعدى
(سورة الحديد)
من (22)الى (29)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الحديد
{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } 22 { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } 23 { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ }24


يقول تعالى مخبراً عن عموم قضائه وقدره: { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَفِيۤ أَنفُسِكُمْ } وهذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق، من خير وشر، فكلها قد كتبت في اللوح المحفوظ، صغيرها وكبيرها، وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل عنده أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير، وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر، فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه، لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بدّ من نفوذه ووقوعه، فلا سبيل إلى دفعه، ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومَنِّه، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم، ولهذا قال: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي: متكبر فظ غليظ، معجب بنفسه، فخور بنعم الله، ينسبها إلى نفسه، وتطغيه وتلهيه، كما قال تبارك وتعالى:{ ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } [الزمر: 49]. { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ } أي: يجمعون بين الأمرين الذميمين، اللذين كل منهما كاف في الشر البخل: وهو منع الحقوق الواجبة، ويأمرون الناس بذلك، فلم يكفهم بخلهم، حتى أمروا الناس بذلك، وحثُّوهم على هذا الخلق الذميم بقولهم وفعلهم، وهذا من إعراضهم عن طاعة ربهم وتوليهم عنها، { وَمَن يَتَوَلَّ } عن طاعة الله فلا يضرّ إلا نفسه، ولن يضرّ الله شيئاً، { فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } الذي غناه من لوازم ذاته، الذي له ملك السماوات والأرض، وهو الذي أغنى عباده وأقناهم، الحميد الذي له كل اسم حسن، ووصف كامل، وفعل جميل، يستحق أن يحمد عليه ويثنى ويعظم.

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } 25 { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } 26 { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }27


يقول تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ } وهي الأدلة والشواهد والعلامات الدالة على صدق ما جاؤوا به وحقيته. { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ } وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب التي أنزلها الله لهداية الخلق وإرشادهم، إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، { وَٱلْمِيزَانَ } وهو العدل في الأقوال والأفعال، والدين الذي جاءت به الرسل، كلّه عدل وقسط في الأوامر والنواهي وفي معاملات الخلق، وفي الجنايات والقصاص والحدود [والمواريث وغير ذلك]، وذلك { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } قياماً بدين الله، وتحصيلاً لمصالحهم التي لا يمكن حصرها وعدها، وهذا دليل على أن الرسل متفقون في قاعدة الشرع، وهو القيام بالقسط، وإن اختلفت أنواع العدل، بحسب الأزمنة والأحوال، { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } من آلات الحرب، كالسلاح والدروع وغير ذلك. { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وهو ما يشاهد من نفعه في أنواع الصناعات والحرف، والأواني وآلات الحرث، حتى إنه قَلَّ أن يوجد شيء إلا وهو يحتاج إلى الحديد. { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ } أي: ليقيم تعالى سوق الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد، فيتبين من ينصره وينصر رسله في حال الغيب، التي ينفع فيها الإيمان قبل الشهادة، التي لا فائدة بوجود الإيمان فيها، لأنه حينئذ يكون ضرورياً. { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي: لا يعجزه شيء، ولا يفوته هارب، ومن قوته وعزّته أن أنزل الحديد الذي منه الآلات القوية، ومن قوته وعزّته أنه قادر على الانتصار من أعدائه، ولكنه يبتلي أولياءه بأعدائه، ليعلم من ينصره بالغيب، وقرن تعالى في هذا الموضع بين الكتاب والحديد، لأن بهذين الأمرين ينصر الله دينه، ويعلي كلمته بالكتاب الذي فيه الحجة والبرهان والسيف الناصر بإذن الله، وكلاهما قيامه بالعدل والقسط، الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله، وكمال شريعته التي شرعها على ألسنة رسله. ولما ذكر نبوة الأنبياء عموماً، ذكر من خواصهم النبيين الكريمين نوحاً وإبراهيم اللذين جعل الله النبوة والكتاب في ذريتهما، فقال: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } أي: الأنبياء المتقدمين والمتأخرين كلهم من ذرية نوح وإبراهيم عليهما السلام، وكذلك الكتب كلها نزلت على ذرية هذين النبيين الكريمين، { فَمِنْهُمْ } أي: ممن أرسلنا إليهم الرسل { مُّهْتَدٍ } بدعوتهم، منقاد لأمرهم، مسترشد بهداهم. { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي: خارجون عن [طاعة الله و] طاعة الرسل والأنبياء، كما قال تعالى:{ وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف: 103]. { ثُمَّ قَفَّيْنَا } أي: أتبعنا { عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } خصَّ الله عيسى عليه السلام لأن السياق مع النصارى، الذين يزعمون اتباع عيسى عليه السلام، { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ } الذي هو من كتب الله الفاضلة، { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } كما قال تعالى:
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } الآيات [المائدة: 82]. ولهذا كان النصارى ألين من غيرهم قلوباً، حين كانوا على شريعة عيسى عليه السلام. { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } والرهبانية: العبادة، فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة، ووظفوها على أنفسهم، والتزموا لوازم ما كتبها الله عليهم ولا فرضها، بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم، قصدهم بذلك رضا الله تعالى، ومع ذلك { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي: ما قاموا بها ولا أدُّوا حقوقها، فقصروا من وجهين: من جهة ابتداعهم، ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم. فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم. ومنهم من هو مستقيم على أمر الله، ولهذا قال: { فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } أي: الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع إيمانهم بعيسى، كلٌّ أعطاه الله على حسب إيمانه { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 28 { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }29


وهذا الخطاب، يحتمل أنه [خطاب] لأهل الكتاب الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام، يأمرهم أن يعملوا بمقتضى إيمانهم، بأن يتقوا الله فيتركوا معاصيه، ويؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم الله { كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } أي: نصيبين من الأجر نصيب على إيمانهم بالأنبياء الأقدمين، ونصيب على إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون الأمر عاماً يدخل فيه أهل الكتاب وغيرهم، وهذا الظاهر، وأن الله أمرهم بالإيمان والتقوى الذي يدخل فيه جميع الدين، ظاهره وباطنه، أصوله وفروعه، وأنهم إن امتثلوا هذا الأمر العظيم، أعطاهم الله { كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } لا يعلم وصفهما وقدرهما إلا الله تعالى أجر على الإيمان، وأجر على التقوى، أو أجرٌ على امتثال الأوامر، وأجر على اجتناب النواهي، أو أن التثنية المراد بها تكرار الإيتاء مرة بعد أخرى. { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } أي: يعطيكم علماً وهدىً ونوراً تمشون به في ظلمات الجهل، ويغفر لكم السيئات. { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } فلا يستكثر هذا الثواب على فضل ذي الفضل العظيم، الذي عم فضله أهل السماوات والأرض، فلا يخلو مخلوق من فضله طرفة عين ولا أقل من ذلك. [وقوله] { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ } أي: بينَّا لكم فضلنا وإحساننا لمن آمن إيماناً عاماً، واتقى الله، وآمن برسوله، لأجل أن أهل الكتاب يكون لديهم علم بأنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله أي: لا يحجرون على الله بحسب أهوائهم وعقولهم الفاسدة، فيقولون:{ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [البقرة: 111] ويتمنون على الله الأماني الفاسدة، فأخبر الله تعالى أنَّ المؤمنين برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، المتقين لله، لهم كفلان من رحمته، ونورٌ، ومغفرة، رغماً على أنوف أهل الكتاب، وليعلموا { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } ممن اقتضت حكمته تعالى أن يؤتيه من فضله، { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الذي لا يقادر قدره].

ابوالوليد المسلم
26-08-2020, 03:04 AM
الحلقة (582)
تفسير السعدى
(سورة المجادلة)
من (1)الى (4)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة المجادلة

{ قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } 1 { ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } 2 { وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } 3 { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }4


نزلت هذه الآيات الكريمات في رجل من الأنصار اشتكته زوجته [إلى الله، وجادلته] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حرمها على نفسه، بعد الصحبة الطويلة، والأولاد، وكان هو رجلاً شيخاً كبيراً، فشكت حالها وحاله إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكررت ذلك، وأبدت فيه وأعادت. فقال تعالى: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } أي: تخاطبكما فيما بينكما، { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } لجميع الأصوات، في جميع الأوقات، على تفنن الحاجات. { بَصِيرٌ } يبصر دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وهذا إخبار عن كمال سمعه وبصره، وإحاطتهما بالأمور الدقيقة والجليلة، وفي ضمن ذلك الإشارة بأن الله [تعالى] سيزيل شكواها، ويرفع بلواها، ولهذا ذكر حكمها، وحكم غيرها على وجه العموم، فقال: { ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ }. المظاهرة من الزوجة: أن يقول الرجل لزوجته: " أنت عليَّ كظهر أمي " ، أو غيرها من محارمه، أو " أنت عليَّ حرام " ، وكان المعتاد عندهم في هذا لفظ " الظهر " ولهذا سماه الله " ظهاراً " فقال: { ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } أي: كيف يتكلمون بهذا الكلام الذي يعلم أنه لا حقيقة له، فيشبهون أزواجهم بأمهاتهم اللاتي ولدنَهم؟ ولهذا عظم الله أمره وقبحه، فقال: { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً } أي: قولاً شنيعاً، { وَزُوراً } أي: كذباً.
{ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } عمن صدر منه بعض المخالفات، فتداركها بالتوبة النصوح. { وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } اختلف العلماء في معنى العود، فقيل: معناه العزم على جماع من ظاهر منها، وأنه بمجرد عزمه تجب عليه الكفارة المذكورة، ويدلّ على هذا أن الله تعالى ذكر في الكفارة أنها تكون قبل المسيس، وذلك إنما يكون بمجرد العزم، وقيل: معناه حقيقة الوطء، ويدلّ على ذلك أن الله قال: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } والذي قالوا إنما هو الوطء. وعلى كل من القولين { فـَ } إذا وجد العود، صار كفارة هذا التحريم { تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } مُؤْمِنَةٍ كما قيدت في آية أخر، ذكر أو أنثى، بشرط أن تكون سالمة من العيوب المضرة بالعمل.
{ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } أي: يلزم الزوج أن يترك وطء زوجته التي ظاهر منها حتى يكفر برقبة.
{ ذَلِكُمْ } الحكم الذي ذكرناه لكم، { تُوعَظُونَ بِهِ } أي: يبين لكم حكمه مع الترهيب المقرون به، لأن معنى الوعظ ذكر الحكم مع الترغيب والترهيب، فالذي يريد أن يظاهر، إذا ذكر أنه يجب عليه عتق رقبة كف نفسه عنه، { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كل عامل بعمله.
{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } رقبة يعتقها، بأن لم يجدها أو [لم] يجد ثمنها { فـَ } عليه { صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } الصيام { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } إما بأن يطعمهم من قوت بلده ما يكفيهم، كما هو قول كثير من المفسرين، وإما بأن يطعم كل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصف صاع من غيره مما يجزي في الفطرة، كما هو قول طائفة أخرى.
ذلك الحكم الذي بيّناه لكم، ووضحناه لكم { لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } وذلك بالتزام هذا الحكم وغيره من الأحكام والعمل به، فإن التزام أحكام الله والعمل بها من الإيمان، [بل هي المقصودة] ومما يزيد به الإيمان ويكمل وينمو.
{ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } التي تمنع من الوقوع فيها، فيجب أن لا تتعدى ولا يقصر عنها. { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
وفي هذه الآيات عدة أحكام: منها: لطف الله بعباده واعتناؤه بهم، حيث ذكر شكوى هذه المرأة المصابة، وأزالها ورفع عنها البلوى، بل رفع البلوى بحكمه العام لكل من ابتلي بمثل هذه القضية.
ومنها: أن الظهار مختص بتحريم الزوجة، لأن الله قال: { مِن نِّسَآئِهِمْ } فلو حرم أمته، لم يكن [ذلك] ظهاراً، بل هو من جنس تحريم الطعام والشراب، تجب فيه كفارة اليمين فقط.
ومنها: أنه لا يصح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها، لأنها لا تدخل في نسائه وقت الظهار، كما لا يصح طلاقها، سواء نجز ذلك أو علَّقه.
ومنها: أن الظهار محرّم، لأن الله سماه منكراً [من القول] وزوراً. ومنها: تنبيه الله على وجه الحكم وحكمته، لأن الله تعالى قال: { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ }.
ومنها: أنه يكره للرجل أن ينادي زوجته ويسميها باسم محارمه، كقوله " يا أمي " ، " يا أختي " ونحوه، لأن ذلك يشبه المحرم. ومنها: أن الكفارة إنما تجب بالعود لما قال المظاهر، على اختلاف القولين السابقين، لا بمجرد الظهار. ومنها: أنه يجزئ في كفارة الرقبة، الصغير والكبير، والذكر والأنثى، لإطلاق الآية في ذلك. ومنها: أنه يجب إخراجها إن كانت عتقاً أو صياماً قبل المسيس، كما قيده الله، بخلاف كفارة الإطعام، فإنه يجوز المسيس والوطء في أثنائها.
ومنها: أنه لعل الحكمة في وجوب الكفارة قبل المسيس، أن ذلك أدعى لإخراجها، فإنه إذا اشتاق إلى الجماع، وعلم أنه لا يمكن من ذلك إلا بعد الكفارة، بادر لإخراجها.
ومنها: أنه لا بدّ من إطعام ستين مسكيناً، فلو جمع طعام ستين مسكيناً، ودفعها لواحد أو أكثر من ذلك، دون الستين لم يجز ذلك، لأن الله قال: { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً }.

ابوالوليد المسلم
26-08-2020, 03:05 AM
الحلقة (583)
تفسير السعدى
(سورة المجادلة)
من (5)الى (13)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة المجادلة
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }5


محادة الله ورسوله: مخالفتهما ومعصيتهما خصوصاً في الأمور الفظيعة، كمحادة الله ورسوله بالكفر، ومعاداة أولياء الله. وقوله: { كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي: أذلوا وأهينوا كما فعل بمن قبلهم، جزاءً وفاقاً. وليس لهم حجة على الله، فإن الله قد قامت حجته البالغة على الخلق، وقد أنزل من الآيات البينات والبراهين ما يبين الحقائق ويوضح المقاصد، فمن اتبعها وعمل عليها، فهو من المهتدين الفائزين، { وَلِلْكَافِرِينَ } بها { عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي: يهينهم ويذلهم، كما تكبروا عن آيات الله، أهانهم الله وأذلهم.

{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوۤاْ أَحْصَاهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } 6 { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }7


يقول الله تعالى: يوم يبعث الله الخلق { جَمِيعاً } فيقومون من أجداثهم سريعاً فيجازيهم بأعمالهم { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوۤاْ } من خير وشر، لأنه علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ، وأمر الملائكة الكرام الحفظة بكتابته، هذا { وَ } العاملون قد نسوا ما عملوه، والله أحصى ذلك. { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } بالظواهر والسرائر، والخبايا والخفايا. ولهذا أخبر عن سعة علمه وإحاطته بما في السماوات والأرض من دقيق وجليل. وأنه { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ } والمراد بهذه المعية معية العلم والإحاطة بما تناجوا به وأسروه فيما بينهم، ولهذا قال: { إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ثم قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا... }.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } 8 { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }9


النجوى هي التناجي بين اثنين فأكثر، وقد تكون في الخير، وتكون في الشر. فأمر الله تعالى المؤمنين أن يتناجوا بالبر، وهو اسم جامع لكل خير وطاعة، وقيام بحق لله ولعباده، والتقوى، وهي [هنا]: اسم جامع لترك جميع المحارم والمآثم، فالمؤمن يمتثل هذا الأمر الإلهي، فلا تجده مناجياً ومتحدثاً إلا بما يقربه من الله، ويباعده من سخطه، والفاجر يتهاون بأمر الله، ويناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، كالمنافقين الذين هذا دأبهم وحالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم. قال تعالى { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ } أي: يسيئون الأدب معك في تحيتهم لك، { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ } أي: يسرون في أنفسهم ما ذكره عالم الغيب والشهادة عنهم، وهو قولهم: { لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ } ومعنى ذلك أنهم يتهاونون بذلك، ويستدلون بعدم تعجيل العقوبة عليهم، أن ما يقولون غير محذور، قال تعالى في بيان أنه يمهل ولا يهمل: { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي: تكفيهم جهنم التي جمعت كل شقاء وعذاب [عليهم]، تحيط بهم، ويعذبون بها { فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } وهؤلاء المذكورون إما أناس من المنافقين يظهرون الإيمان، ويخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيراً، وهم كذبة في ذلك، وإما أناس من أهل الكتاب، الذين إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: " السام عليك يا محمد " يعنون بذلك الموت.
{ إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ }10


يقول تعالى: { إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ } أي: تناجي أعداء المؤمنين بالمؤمنين، بالمكر والخديعة، وطلب السوء من الشيطان، الذي كيده ضعيف ومكره غير مفيد. { لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } هذا غاية هذا المكر ومقصوده، { وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } فإن الله تعالى وعد المؤمنين بالكفاية والنصر على الأعداء، وقال تعالى:{ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [فاطر: 43] فأعداء الله ورسوله والمؤمنين، مهما تناجوا ومكروا، فإن ضرر ذلك عائد إلى أنفسهم، ولا يضر المؤمنين إلا شيء قدره الله وقضاه، { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } أي: ليعتمدوا عليه ويثقوا بوعده، فإن من توكل على الله كفاه، وتولى أمر دينه ودنياه.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }11


هذا تأديب من الله لعباده المؤمنين، إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم، واحتاج بعضهم أو بعض القادمين عليهم للتفسح له في المجلس، فإن من الأدب أن يفسحوا له تحصيلاً لهذا المقصود. وليس ذلك بضار للجالس شيئاً، فيحصل مقصود أخيه من غير ضرر يلحقه هو، والجزاء من جنس العمل، فإن من فسح فسح الله له، ومن وسع لأخيه وسع الله عليه. { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ } أي: ارتفعوا وتنحوا عن مجالسكم لحاجة تعرض، { فَانشُزُواْ } أي: فبادروا للقيام لتحصيل تلك المصلحة، فإن القيام بمثل هذه الأمور من العلم والإيمان، والله تعالى يرفع أهل العلم والإيمان درجات، بحسب ما خصهم الله به، من العلم والإيمان. { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كل عامل بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وفي هذه الآية فضيلة العلم، وأن زينته وثمرته التأدب بآدابه والعمل بمقتضاه.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 12 { ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }13


يأمر تعالى المؤمنين بالصدقة، أمام مناجاة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تأديباً لهم وتعليماً، وتعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا التعظيم خير للمؤمنين وأطهر أي: بذلك يكثر خيركم وأجركم، وتحصل لكم الطهارة من الأدناس، التي من جملتها ترك احترام الرسول صلى الله عليه وسلم والأدب معه بكثرة المناجاة التي لا ثمرة تحتها، فإنه إذا أمر بالصدقة بين يدي مناجاته صار هذا ميزاناً لمن كان حريصاً على الخير والعلم، فلا يبالي بالصدقة، ومن لم يكن له حرص ولا رغبة في الخير، وإنما مقصوده مجرد كثرة الكلام، فينكف بذلك عن الذي يشق على الرسول، هذا في الواجد للصدقة، وأما الذي لا يجد الصدقة، فإن الله لم يضيق عليه الأمر، بل عفا عنه وسامحه، وأباح له المناجاة بدون تقديم صدقة لا يقدر عليها. ثم لما رأى تبارك وتعالى شفقة المؤمنين ومشقة الصدقات عليهم عند كل مناجاة، سهل الأمر عليهم، ولم يؤاخذهم بترك الصدقة بين يدي المناجاة، وبقي التعظيم للرسول والاحترام بحاله لم ينسخ، لأن هذا الحكم من باب المشروع لغيره، ليس مقصوداً لنفسه، وإنما المقصود هو الأدب مع الرسول والإكرام له، وأمرهم تعالى أن يقوموا بالمأمورات الكبار المقصودة بنفسها، فقال: { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا } أي: لم يهن عليكم تقديم الصدقة، ولا يكفي هذا، فإنه ليس من شرط الأمر أن يكون هيناً على العبد، ولهذا قيده بقوله: { وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي: عفا لكم عن ذلك، { فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } بأركانها وشروطها، وجميع حدودها ولوازمها، { وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } المفروضة [في أموالكم] إلى مستحقيها. وهاتان العبادتان هما أمّ العبادات البدنية والمالية، فمن قام بهما على الوجه الشرعي، فقد قام بحقوق الله وحقوق عباده، [ولهذا قال بعده:] { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } وهذا أشمل ما يكون من الأوامر. ويدخل في ذلك طاعة الله [وطاعة] رسوله بامتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما، وتصديق ما أخبرا به، والوقوف عند حدود الله. والعبرة في ذلك على الإخلاص والإحسان، ولهذا قال: { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } فيعلم تعالى أعمالهم، وعلى أي: وجه صدرت، فيجازيهم على حسب علمه بما في صدورهم.

ابوالوليد المسلم
26-08-2020, 03:06 AM
الحلقة (584)
تفسير السعدى
(سورة المجادلة)
من (14)الى (22)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة المجادلة
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } 14 { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } 15 { ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } 17 { لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } 16 { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } 18 { ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ }19


يخبر تعالى عن شناعة حال المنافقين الذين يتولون الكافرين، من اليهود والنصارى وغيرهم ممن غضب الله عليهم، ونالوا من لعنة الله أوفى نصيب، وأنهم ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين،{ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } [النساء: 143]. فليسوا مؤمنين ظاهراً وباطناً لأن باطنهم مع الكفار، ولا مع الكفار ظاهراً وباطناً، لأن ظاهرهم مع المؤمنين، وهذا وصفهم الذي نعتهم الله به، والحال أنهم يحلفون على ضده الذي هو الكذب، فيحلفون أنهم مؤمنون، وهم يعلمون أنهم ليسوا مؤمنين، فجزاء هؤلاء الخونة الفجرة الكذبة، أن الله أعد لهم عذاباً شديداً، لا يقادر قدره، ولا يعلم وصفه، إنهم ساء ما كانوا يعملون، حيث عملوا بما يسخط الله ويوجب عليهم العقوبة واللعنة. { ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } أي: ترساً ووقاية، يتقون بها من لوم الله ورسوله والمؤمنين، فبسبب ذلك صدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، وهي الصراط الذي من سلكه أفضى به إلى جنات النعيم. ومن صدَّ عنه فليس إلا الصراط الموصل إلى الجحيم، { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } حيث استكبروا عن الإيمان بالله والانقياد لآياته، أهانهم بالعذاب السرمدي، الذي لا يُفتَّر عنهم ساعة ولا هُم يُنظرون. { لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } فلا تدفع عنهم شيئاً من العذاب، ولا تحصل لهم قسطاً من الثواب، { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } الملازمون لها، الذين لا يخرجون عنها، و { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ومن عاش على شيء مات عليه، فكما أن المنافقين في الدنيا يموهون على المؤمنين، ويحلفون لهم أنهم مؤمنون، فإذا كان يوم القيامة وبعثهم الله جميعاً، حلفوا لله كما حلفوا للمؤمنين، ويحسبون في حلفهم هذا أنهم على شيء، لأن كفرهم ونفاقهم وعقائدهم الباطلة، لم تزل ترسخ في أذهانهم شيئاً فشيئاً، حتى غرتهم وظنوا أنهم على شيء يعتد به، ويعلق عليه الثواب، وهم كاذبون في ذلك، ومن المعلوم أن الكذب لا يروج على عالم الغيب والشهادة، وهذا الذي جرى عليهم من استحواذ الشيطان الذي استولى عليهم، وزين لهم أعمالهم، وأنساهم ذكر الله، وهو العدو المبين، الذي لا يريد بهم إلا الشر،{ إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [فاطر: 6]. { أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } الذين خسروا دينهم ودنياهم وأنفسهم وأهليهم.
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلأَذَلِّينَ } 20 { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }21


هذا وعد ووعيد، وعيد لمن حادَّ الله ورسوله بالكفر والمعاصي، أنه مخذول مذلول، لا عاقبة له حميدة، ولا راية له منصورة. ووعد لمن آمن به وبرسله، واتبع ما جاء به المرسلون، فصار من حزب الله المفلحين، أن لهم الفتح والنصر والغلبة في الدنيا والآخرة، وهذا وعد لا يخلف ولا يُغيِّر، فإنه من الصادق القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء يريده.
{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }22

يقول تعالى: { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمناً بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملاً على مقتضى الإيمان ولوازمه، من محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه. وهذا هو الإيمان على الحقيقة، الذي وجدت ثمرته والمقصود منه، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان أي: رسمه وثبَّته وغرسه غرساً، لا يتزلزل، ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك. وهم الذين قواهم الله بروح منه أي: بوحيه ومعونته، ومدده الإلهي وإحسانه الرباني. وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار، ولهم جنات النعيم في دار القرار، التي فيها من كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وتختار، ولهم أكبر النعيم وأفضله، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات، ووافر المثوبات، وجزيل الهبات، ورفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، ولا فوقه نهاية. وأمَّا من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو مع ذلك مُوَادٌّ لأعداء الله، محب لمن ترك الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زَعْمِيٌّ لا حقيقة له، فإن كل أمر لا بدّ له من برهان يصدقه، فمجرد الدعوى لا تفيد شيئاً ولا يصدق صاحبها.

ابوالوليد المسلم
26-08-2020, 03:06 AM
الحلقة (585)
تفسير السعدى
(سورة الحشر)
من (1)الى (7)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الحشر
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } 1 { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } 2 { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ } 3 { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } 4 { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ } 5 { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } 6 { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }7



{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } إلى آخر القصة. هذه السورة تسمى " سورة بني النضير " وهم طائفة كبيرة من اليهود في جانب المدينة، وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة، كفروا به في جملة من كفر من اليهود، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هادن سائر طوائف اليهود الذين هم جيرانه في المدينة، فلما كان بعد [وقعة] بدر بستة أشهر أو نحوها، خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك، فخلا بعضهم ببعض، وسوّل لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى فيصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا، فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فوالله ليُخبَرَنَّ بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، وجاء الوحي على الفور إليه من ربه بما هموا به، فنهض مسرعاً، فتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه، فقالوا: نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما همت يهود به. وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه ". فأقاموا أياماً يتجهزون، وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أُبّي [بن سلولٍ]: " أن لا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم، وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان ". وطمع رئيسهم حُيي بن أخطب فيما قال له، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فكبَّر رسول الله صلى عليه وسلم وأصحابه، ونهضوا إليهم، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء. فأقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة، واعتزلتهم قريظة، وخانهم ابن أُبّي وحلفاؤهم من غطفان، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطع نخلهم وحرَّق. فأرسلوا إليه: نحن نخرج من المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت إبلهم إلا السلاح، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال والسلاح.
وكانت بنو النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين، ولم يخمسها، لأن الله أفاءها عليه، ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، وأجلاهم إلى خيبر وفيهم حُييُّ بن أخطب كبيرهم، واستولى على أرضهم وديارهم، وقبض السلاح، فوجد من السلاح خمسين درعاً، وخمسين بيضةً، وثلاثمائة وأربعين سيفاً، هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل السير. فافتتح تعالى هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات والأرض تسبح بحمد ربها، وتنزهه عما لا يليق بجلاله، وتعبده وتخضع لجلاله، لأنه العزيز الذي قد قهر كل شيء، فلا يمتنع عليه شيء، ولا يستعصي عليه مستعصي، الحكيم في خلقه وأمره، فلا يخلق شيئاً عبثاً، ولا يشرع ما لا مصلحة فيه، ولا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته، ومن ذلك نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من أهل الكتاب من بني النضير حين غدروا برسوله، فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم التي ألفوها وأحبوها. وكان إخراجهم منها أول حشر وجلاء كتبه الله عليهم على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فجلوا إلى خيبر، ودلّت الآية الكريمة أن لهم حشراً وجلاءً غير هذا، فقد وقع حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر، ثم عمر رضي الله عنه، [أخرج بقيتهم منها]. { مَا ظَنَنتُمْ } أيها المسلمون { أَن يَخْرُجُواْ } من ديارهم، لحصانتها ومنعتها وعزهم فيها. { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ } فأعجبوا بها وغرتهم، وحسبوا أنهم لا يُنالُون بها، ولا يقدر عليها أحد، وقدر الله تعالى وراء ذلك كله، لا تغني عنه الحصون والقلاع، ولا تُجدي فيهم القوة والدفاع. ولهذا قال: { فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } أي: من الأمر والباب، الذي لم يخطر ببالهم أن يؤتوا منه، وهو أنه تعالى { قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } وهو الخوف الشديد، الذي هو جند الله الأكبر، الذي لا ينفع معه عَدَدٌ ولا عُدَّة، ولا قوَّة ولا شدة، فالأمر الذي يحتسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم منه إن دخل هو الحصون التي تحصنوا بها، واطمأنت نفوسهم إليها، ومن وثق بغير الله فهو مخذول، ومن ركن إلى غير الله فهو عليه وبالٌ، فأتاهم أمر سماوي نزل على قلوبهم، التي هي محل الثبات والصبر، أو الخور والضعف، فأزال الله قوتها وشدتها، وأورثها ضعفاَ وخوراَ وجبناَ، لا حيلة لهم ولا منعة معه، فصار ذلك عوناَ عليهم، ولهذا قال: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ } وذلك أنهم صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما حملت الإبل. فنقضوا لذلك كثيراً من سقوفهم التي استحسنوها، وسلطوا المؤمنين بسبب بغيهم على إخراب ديارهم وهدم حصونهم، فهم الذين جنوا على أنفسهم، وصاروا من أكبر عون عليها، { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } أي: البصائر النافذة، والعقول الكاملة، فإن في هذا معتبراً يعرف به صنع الله تعالى في المعاندين للحق، المتبعين لأهوائهم، الذين لم تنفعهم عزتهم، ولا منعتهم قوتهم، ولا حصنتهم حصونهم، حين جاءهم أمر الله، ووصل إليهم النكال بذنوبهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن هذه الآية تدل على الأمر بالاعتبار، وهو اعتبار النظير بنظيره، وقياس الشيء على مثله، والتفكر فيما تضمنته الأحكام من المعاني والحكم التي هي محل العقل والفكرة، وبذلك يزداد العقل، وتتنور البصيرة ويزداد الإيمان، ويحصل الفهم الحقيقي، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة، وأن الله خفف عنهم، فلولا أنه كتب عليهم الجلاء الذي أصابهم وقضاه عليهم وقدره بقدره الذي لا يبدل ولا يغير، لكان لهم شأن آخر من عذاب الدنيا ونكالها، ولكنهم - وإن فاتهم العذاب الشديد الدنيوي - فإن لهم في الآخرة عذاب النار، الذي لا يمكن أن يعلم شدته إلا الله تعالى، فلا يخطر ببالهم أن عقوبتهم قد انقضت وفرغت ولم يبق لهم منها بقية، فما أعدّ الله لهم من العذاب في الآخرة أعظم وأطم.

وذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله وعادوهما وحاربوهما وسعوا في معصيتهما، وهذه عادته وسنته فيمن شاقه { وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }. ولما لام بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين في قطع النخيل والأشجار، وزعموا أن ذلك من الفساد، وتوصلوا بذلك إلى الطعن بالمسلمين، أخبر تعالى أن قطع النخيل إن قطعوه أو إبقاءهم إياه إن أبقوه، إنه بإذنه تعالى، وأمره { وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ } حيث سلطكم على قطع نخلهم، وتحريقها، ليكون ذلك نكالاً لهم، وخزياً في الدنيا، وذلاًّ يعرف به عجزهم التام، الذي ما قدروا على استنقاذ نخلهم الذي هو مادة قوتهم. واللينة: اسم يشمل سائر النخيل على أصح الاحتمالات وأولاها، فهذه حال بني النضير، وكيف عاقبهم الله في الدنيا، ثم ذكر من انتقلت إليه أموالهم وأمتعتهم، فقال: { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أي: من أهل هذه القرية، وهم بنو النضير. { فـَ } إنكم يا معشر المسلمين { مَآ أَوْجَفْتُمْ } أي: ما أجلبتم وأسرعتم وحشدتم، { عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } أي: لم تتعبوا بتحصيلها، لا بأنفسكم ولا بمواشيكم، بل قذف الله في قلوبهم الرعب، فأتتكم صفواً عفواً، ولهذا. قال: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } من تمام قدرته أنه لا يمتنع منه ممتنع، ولا يتعزز من دونه قَوِيٌّ. وتعريف الفيء في اصطلاح الفقهاء: هو ما أخذ من مال الكفار بحق، من غير قتال، كهذا المال الذي فَرُّوا وتركوه خوفاً من المسلمين، وسمي فيئاً، لأنه رجع من الكفار الذين هم غير مستحقين له، إلى المسلمين الذين لهم الحق الأوفر فيه، وحكمه العام، كما ذكره الله في قوله { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } عموماً، سواء أفاء الله في وقت رسوله أو بعده، لمن يتولى من بعده أمته.
{ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } وهذه الآية نظير الآية التي في سورة الأنفال، في قوله:{ وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } [الأنفال: 41]. فهذا الفيء يقسم خمسة أقسام: خمسٌ لله ولرسوله يصرف في مصالح المسلمين [العامة]، وخمس لذوي القربى، وهم: بنو هاشم وبنو المطلب، حيث كانوا يُسوَّى [فيه] بين ذكورهم وإناثهم، وإنما دخل بنو المطلب في خمس الخمس مع بني هاشم، ولم يدخل بقية بني عبد مناف، لأنهم شاركوا بني هاشم في دخولهم الشعب، حين تعاقدت قريش على هجرهم وعداوتهم، فنصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف غيرهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، في بني عبد المطلب: " إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام ". وخُمس لفقراء اليتامى، وهم: من لا أب له ولم يبلغ، وخُمس للمساكين، وسهم لأبناء السبيل، وهم الغرباء المنقطع بهم في غير أوطانهم. وإنما قدر الله هذا التقدير، وحصر الفيء في هؤلاء المعينين لـ { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً } أي: مدوالة واختصاصاً { بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ } فإنه لو لم يقدره، لتداولته الأغنياء الأقوياء، ولما حصل لغيرهم من العاجزين منه شيء، وفي ذلك من الفساد، ما لا يعلمه إلا الله، كما أن في اتباع أمر الله وشرعه من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر، ولذلك أمر الله بالقاعدة الكلية والأصل العام، فقال: { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته، وأن نص الرسول على حكم الشيء كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله، ثم أمر بتقواه التي بها عمارة القلوب والأرواح [والدنيا والآخرة]، وبها السعادة الدائمة والفوز العظيم، وبإضاعتها الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي، فقال: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } على من ترك التقوى، وآثر اتباع الهوى.

ابوالوليد المسلم
26-08-2020, 03:07 AM
الحلقة (586)
تفسير السعدى
(سورة الحشر)
من (8)الى (17)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الحشر
{ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } 8 { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } 9 { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } 10 { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } 11 { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } 12 { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }13

ثم ذكر تعالى الحكمة والسبب الموجب لجعله تعالى الأموال أموال الفيء لمن قدرها له، وأنهم حقيقون بالإعانة، مستحقون لأن تجعل لهم، وأنهم ما بين مهاجرين قد هجروا المحبوبات والمألوفات، من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، رغبةً في الله ونصرة لدين الله، ومحبةً لرسول الله، فهؤلاء هم الصادقون الذين عملوا بمقتضى إيمانهم، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة والعبادات الشاقة، بخلاف من ادّعى الإيمان وهو لم يصدقه بالجهاد والهجرة وغيرهما من العبادات، وبين أنصارٍ وهم الأوس والخزرج الذين آمنوا بالله ورسوله طوعاً ومحبةً واختياراً، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوؤوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلاً ومرجعاً يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر، فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئاً فشيئاً، وينمو قليلاً قليلاً، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان. الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وهذا لمحبتهم لله ولرسوله، أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه. { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } أي: لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها. ويدلّ ذلك على أن المهاجرين أفضل من الأنصار، لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدلّ على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة. وقوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي: ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم، الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعاً، والإيثار عكس الأثرة، فالإيثار محمود، والأثرة مذمومة، لأنها من خصال البخل والشح، ومن رُزِق الإيثار فقد وُقِي شح نفسه { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } ووقاية شح النفس، يشمل وقايتها الشح، في جميع ما أمر به، فإنه إذا وُقِيَ العبد شُحَّ نفسه، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعاً منقاداً، منشرحاً بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه، وإن كان محبوباً للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير، الذي هو أصل الشر ومادته، فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين.
وحَسبُ من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم، ويأتمّ بهداهم، ولهذا ذكر الله من اللاحقين من هو مؤتم بهم وسائر خلفهم فقال: { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } أي: من بعد المهاجرين والأنصار { يَقُولُونَ } على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين: { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ }. وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين، السابقين من الصحابة، ومن قبلهم ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين، التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضاً. ولهذا ذكر الله في الدعاء نَفْيَ الغل عن القلب، الشامل لقليل الغل وكثيره، الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين. فوصف الله من بعد الصحابة بالإيمان، لأن قولهم: { سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ } دليل على المشاركة في الإيمان، وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان وأصوله، وهم أهل السنة والجماعة، الذين لا يصدق هذا الوصف التام إلا عليهم، ووصفهم بالإقرار بالذنوب والاستغفار منها، واستغفار بعضهم لبعض، واجتهادهم في إزالة الغل والحقد عن قلوبهم لإخوانهم المؤمنين، لأن دعاءهم بذلك مستلزم لما ذكرنا، ومتضمن لمحبة بعضهم بعضاً، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، وأن ينصح له حاضراً وغائباً، حياً وميتاً، ودلت الآية الكريمة [على] أن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض، ثم ختموا دعاءهم باسمين كريمين، دالين على كمال رحمة الله وشدة رأفته وإحسانه بهم، الذي من جملته، بل من أجلّه، توفيقهم للقيام بحقوق الله وحقوق عباده. فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة، وهم المستحقون للفيء الذي مصرفه راجع إلى مصالح الإسلام. وهؤلاء أهله الذين هم أهله، جعلنا الله منهم، بمنّه وكرمه. ثم تعجب تعالى من حال المنافقين الذين طَمَّعوا إخوانهم من أهل الكتاب، في نصرتهم، وموالاتهم على المؤمنين، وأنهم يقولون لهم: { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً } أي: لا نطيع في عدم نصرتكم أحداً يعذلنا أو يخوفنا، { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم، ولا يستكثر هذا عليهم، فإن الكذب وصفهم، والغرور والخداع مقارنهم، والنفاق والجبن يصحبهم، ولهذا كذبهم [الله] بقوله، الذي وجد مخبره كما أخبر الله به، ووقع طبق ما قال، فقال: { لَئِنْ أُخْرِجُواْ } من ديارهم جلاءً ونفياً { لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ } لمحبتهم للأوطان، وعدم صبرهم على القتال، وعدم وفائهم بوعدهم.

{ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ } بل يستولي عليهم الجبن، ويملكهم الفشل، ويخذلون إخوانهم، أحوج ما كانوا إليهم. { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ } على الفرض والتقدير { لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } أي: ليحصل منهم الإدبار عن القتال والنصرة، ولا يحصل لهم نصر من الله. والسبب الذي أوجب لهم ذلك أنكم - أيها المؤمنون - { أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ } فخافوا منكم أعظم مما يخافون الله، وقدموا مخافة المخلوق الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً، على مخافة الخالق، الذي بيده الضر والنفع، والعطاء والمنع. { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } مراتب الأمور، ولا يعرفون حقائق الأشياء، ولا يتصورون العواقب، وإنما الفقه كل الفقه، أن يكون خوف الخالق ورجاؤه ومحبته مقدمة على غيرها، وغيرها تبعاً لها.
{ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } 14 { كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 15 { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } 16 { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ }17


{ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً } أي: في حال الاجتماع { إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ } أي: لا يثبتون لقتالكم ولا يعزمون عليه، إلا إذا كانوا متحصنين في القرى، أو من وراء الجدر والأسوار. فإنهم إذ ذاك ربما يحصل منهم امتناع، اعتماداً [على] حصونهم وجدرهم، لا شجاعة بأنفسهم، وهذا من أعظم الذم، { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي: بأسهم فيما بينهم شديد، لا آفة في أبدانهم ولا في قوتهم، وإنما الآفة في ضعف إيمانهم وعدم اجتماع كلمتهم، ولهذا قال: { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً } حين تراهم مجتمعين ومتظاهرين. { وَ } لكن { قُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ } أي: متباغضة متفرقة متشتتة. { ذَلِكَ } الذي أوجب لهم اتصافهم بما ذكر { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أي: لا عقل عندهم، ولا لبّ، فإنهم لو كانت لهم عقول، لآثروا الفاضل على المفضول، ولما رضوا لأنفسهم بأبخس الخطتين، ولكانت كلمتهم مجتمعة، وقلوبهم مؤتلفة، فبذلك يتناصرون ويتعاضدون، ويتعاونون على مصالحهم ومنافعهم الدينية والدنيوية. مثل هؤلاء المخذولين من أهل الكتاب، الذين انتصر الله لرسوله منهم، وأذاقهم الخزي في الحياة الدنيا، وعدم نصر من وعدهم بالمعاونة { كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً } وهم كفار قريش الذين زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال:{ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ [وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ] } الآية [الأنفال: 48]. فغرتهم أنفسهم، وغرهم من غرهم، الذين لم ينفعوهم، ولم يدفعوا عنهم العذاب، حتى أتوا " بَدْراً " بفخرهم وخيلائهم، ظانين أنهم مدركون برسول الله والمؤمنين أمانيهم. فنصر الله رسوله والمؤمنين عليهم، فقتلوا كبارهم وصناديدهم، وأسروا من أسروا منهم، وفرّ من فر، وذاقوا بذلك وبال أمرهم وعاقبة شركهم وبغيهم، هذا في الدنيا، { وَلَهُمْ } في الآخرة عذاب النار، ومثل هؤلاء المنافقين الذين غروا إخوانهم من أهل الكتاب { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ } أي: زين له الكفر وحسنه ودعاه إليه، فلما اغتر به وكفر، وحصل له الشقاء، لم ينفعه الشيطان الذي تولاه ودعاه إلى ما دعاه إليه، بل تبرأ منه و { قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } أي: ليس لي قدرة على دفع العذاب عنك، ولست بمغن عنك مثقال ذرة من الخير. { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ } أي: الداعي الذي هو الشيطان، والمدعو الذي هو الإنسان حين أطاعه { أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدِينَ } كما قال تعالى:{ إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [فاطر: 6] { وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ } الذين اشتركوا في الظلم والكفر، وإن اختلفوا في شدة العذاب وقوته، وهذا دأب الشيطان مع كل أوليائه، فإنه يدعوهم ويدليهم إلى ما يضرهم بغرور، حتى إذا وقعوا في الشباك، وحاقت بهم أسباب الهلاك، تبرأ منهم وتخلَّى عنهم. واللوم كل اللوم على من أطاعه، فإن الله قد حذر منه وأنذر، وأخبر بمقاصده وغايته ونهايته، فالمقدم على طاعته عاص على بصيرةٍ لا عذر له.

ابوالوليد المسلم
26-08-2020, 03:08 AM
الحلقة (587)
تفسير السعدى
(سورة الحشر)
من (18)الى (24)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الحشر

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } 18 { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } 19 { لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ } 20 { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }21


يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه، سراً وعلانيةً، في جميع الأحوال، وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره وشرائعه وحدوده، وينظروا ما لهم وما عليهم، وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة، فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم، واهتموا بالمقام بها، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها، وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقفهم عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم، وإذا علموا أيضاً أن الله خبير بما يعملون، لا تخفى عليه أعمالهم، ولا تضيع لديه ولا يهملها، أوجب لهم الجد والاجتهاد. وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللاً تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصراً في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه، ويقايس بين مِنَن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة. والحرمان كل الحرمان، أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قوماً نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم ينجحوا، ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطاً، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبناً لا يمكنهم تداركه، ولا يجبر كسره، لأنهم هم الفاسقون، الذين خرجوا عن طاعة ربهم وأوضعوا في معاصيه، فهل يستوي من حافظ على تقوى الله ونظر لما قدم لغده، فاستحق جنات النعيم، والعيش السليم - مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - ومن غفل عن ذكر الله، ونسي حقوقه، فشقي في الدنيا، واستحق العذاب في الآخرة، فالأولون هم الفائزون، والآخرون هم الخاسرون. ولما بين تعالى لعباده ما بين، وأمرهم ونهاهم في كتابه العزيز، كان هذا موجباً لأن يبادروا إلى ما دعاهم إليه وحثهم عليه، ولو كانوا في القسوة وصلابة القلوب كالجبال الرواسي، فإن هذا القرآن لو أنزله على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله أي: لكمال تأثيره في القلوب، فإن مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها، وهي من أسهل شيء على النفوس، وأيسرها على الأبدان، خالية من التكلف لا تناقض فيها ولا اختلاف، ولا صعوبة فيها ولا اعتساف، تصلح لكل زمان ومكان، وتليق لكل أحد. ثم أخبر تعالى أنه يضرب للناس الأمثال، ويوضح لعباده في كتابه الحلال والحرام، لأجل أن يتفكروا في آياته ويتدبروها، فإن التفكر فيها يفتح للعبد خزائن العلم، ويبين له طرق الخير والشر، ويحثه على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، ويزجره عن مساوئ الأخلاق، فلا أنفع للعبد من التفكر في القرآن والتدبر لمعانيه.
{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } 22 { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } 23 { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }24


هذه الآيات الكريمات قد اشتملت على كثير من أسماء الله الحسنى وأوصافه العلى، عظيمة الشأن، وبديعة البرهان، فأخبر أنه الله المألوه المعبود، الذي لا إله إلا هو، وذلك لكماله العظيم، وإحسانه الشامل، وتدبيره العام، وكل إلهٍ سواه فإنه باطل لا يستحق من العبادة مثقال ذرة، لأنه فقير عاجز ناقص، لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً، ثم وصف نفسه بعموم العلم الشامل، لما غاب عن الخلق وما يشاهدونه، وبعموم رحمته التي وسعت كل شيءٍ ووصلت إلى كل حي، ثم كرر [ذكر] عموم إلهيته وانفراده بها، وأنه المالك لجميع الممالك، فالعالم العلوي والسفلي وأهله، الجميع مماليك لله، فقراء مدبرون. { ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ } أي: المقدس السالم من كل عيب وآفة ونقص، المعظم الممجد، لأن القدوس يدل على التنزيه عن كل نقص، والتعظيم لله في أوصافه وجلاله. { ٱلْمُؤْمِنُ } أي: المصدق لرسله وأنبيائه بما جاؤوا به، بالآيات البينات، والبراهين القاطعات، والحجج الواضحات. { ٱلْعَزِيزُ } الذي لا يغالب ولا يمانع، بل قد قهر كل شيء، وخضع له كل شيء، { ٱلْجَبَّارُ } الذي قهر جميع العباد، وأذعن له سائر الخلق، الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير، { ٱلْمُتَكَبِّرُ } الذي له الكبرياء والعظمة، المتنزه عن جميع العيوب والظلم والجور. { سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وهذا تنزيه عام عن كل ما وصفه به من أشرك به وعانده. { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ } لجميع المخلوقات { ٱلْبَارِىءُ } للمبروءات { ٱلْمُصَوِّرُ } للمصورات، وهذه الأسماء متعلقة بالخلق والتدبير والتقدير، وأن ذلك كله قد انفرد الله به، لم يشاركه فيه مشارك. { لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي: له الأسماء الكثيرة جداً، التي لا يحصيها ولا يعلمها أحد إلا الله هو، ومع ذلك، فكلها حسنى أي: صفات كمال، بل تدل على أكمل الصفات وأعظمها، لا نقص في شيءٍ منها بوجه من الوجوه، ومن حسنها أن الله يحبها، ويحب من يحبها، ويحب من عباده أن يدعوه ويسألوه بها. ومن كماله، وأن له الأسماء الحسنى والصفات العليا، أن جميع من في السماوات والأرض مفتقرون إليه على الدوام، يسبحون بحمده، ويسألونه حوائجهم، فيعطيهم من فضله وكرمه ما تقتضيه رحمته وحكمته، { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } الذي لا يريد شيئاً إلا ويكون، ولا يكون شيئاً إلا لحكمة ومصلحة.

ابوالوليد المسلم
26-08-2020, 03:08 AM
الحلقة (587)
تفسير السعدى
(سورة الممتحنة)
من (1)الى (9)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الممتحنة
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } 1 { إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } 2 { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } 3 { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } 4 { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } 5 { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } 6 { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَٱللَّهُ قَدِيرٌ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 7 { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } 8 { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }9

ذكر كثير من المفسرين، [رحمهم الله]، أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات في قصة حاطب بن أبي بلتعة، حين غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، فكتب حاطب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ليتخذ بذلك يداً عندهم لا [شكاً و] نفاقاً، وأرسله مع امرأة، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنه، فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب. وعاتب حاطباً، فاعتذر رضي الله عنه بعذر قبله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الآيات فيها النهي الشديد عن موالاة الكفار من المشركين وغيرهم، وإلقاء المودة إليهم، وأن ذلك مناف للإيمان، ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو، الذي لا يبقي من مجهوده في العداوة شيئاً، وينتهز الفرصة في إيصال الضرر إلى عدوه، فقال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } اعملوا بمقتضى إيمانكم، من ولاية من قام بالإيمان، ومعاداة من عاداه، فإنه عدو لله وعدو للمؤمنين. فلا تتخذوا عدو الله { وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ } أي: تسارعون في مودتهم وفي السعي بأسبابها، فإن المودة إذا حصلت، تبعتها النصرة والموالاة، فخرج العبد من الإيمان، وصار من جملة أهل الكفران، وانفصل عن أهل الإيمان. وهذا المتخذ للكافر ولياً، عادم المروءة أيضاً، فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه الذي لا يريد له إلا الشر، ويخالف ربه ووليه الذي يريد به الخير، ويأمره به، ويحثه عليه؟! ومما يدعو المؤمن أيضاً إلى معاداة الكفار، أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة، فإنهم قد كفروا بأصل دينكم، وزعموا أنَّكم ضُلاَّل على غير هدى. والحال أنهم كفروا بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية، ومن رد الحق فمحال أن يوجد له دليل أو حجة تدل على صحة قوله، بل مجرد العلم بالحق، يدل على بطلان قول من رده وفساده. ومن عداوتهم البليغة أنهم { يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } أيها المؤمنون من دياركم، ويشردونكم من أوطانكم، ولا ذنب لكم في ذلك عندهم، إلا أنكم تؤمنون بالله ربكم الذي يتعين على الخلق كلهم القيام بعبوديته، لأنه رباهم، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، وهو الله تعالى. فلما أعرضوا عن هذا الأمر، الذي هو أوجب الواجبات، وقمتم به، عادوكم، وأخرجوكم - من أجله - من دياركم، فأيُّ دين، وأيُّ مروءة وعقل، يبقى مع العبد إذا والى الكفار الذين هذا وصفهم في كل زمان أو مكان؟!! ولا يمنعهم منه إلا خوف، أو مانع قوي. { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي } أي: إن كان خروجكم مقصودكم به الجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، وابتغاء مرضاة الله، فاعملوا بمقتضى هذا، من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، فإن هذا هو الجهاد في سبيله، وهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى ربهم ويبتغون به رضاه.
{ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ } أي: كيف تسرون المودة للكافرين وتخفونها، مع علمكم أن الله عالم بما تخفون وما تعلنون؟!، فهو وإن خفي على المؤمنين، فلا يخفى على الله تعالى، وسيجازي العباد بما يعلمه منهم من الخير والشر، { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ } أي: موالاة الكافرين بعد ما حذركم الله منها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } لأنه سلك مسلكاً مخالفاً للشرع وللعقل والمروءة الإنسانية. ثم بين تعالى شدة عداوتهم، تهييجاً للمؤمنين على عداوتهم، { إِن يَثْقَفُوكُمْ } أي: يجدوكم، وتسنح لهم الفرصة في أذاكم، { يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً } ظاهرين { وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } بالقتل والضرب، ونحو ذلك. { وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ } أي: بالقول الذي يسوء، من شتم وغيره، { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } فإن هذا غاية ما يريدون منكم. فإن احتججتم وقلتم: نوالي الكفار لأجل القرابة والأموال، فلن تغني عنكم أموالكم ولا أولادكم من الله شيئاً. { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فلذلك حذركم من موالاة الكافرين الذين تضركم موالاتهم. قد كان لكم يا معشر المؤمنين { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي: قدوة صالحة وائتمام ينفعكم، { فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } من المؤمنين، لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً، { مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي: إذ تبرأ إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين، من قومهم المشركين ومما يعبدون من دون الله. ثم صرحوا بعداوتهم غاية التصريح، فقالوا: { كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا } أي: ظهر وبان { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ } أي: البغض بالقلوب، وزوال مودتها، والعداوة بالأبدان، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حدّ، بل ذلك { أَبَداً } ما دمتم مستمرين على كفركم { حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } أي: فإذا آمنتم بالله وحده، زالت العداوة والبغضاء، وانقلبت مودة وولاية، فلكم أيها المؤمنون أسوة [حسنة] في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان والتوحيد، والقيام بلوازم ذلك ومقتضياته، وفي كل شيء تعبدوا به لله وحده، { إِلاَّ } في خصلة واحدة وهي { قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ } آزر المشرك، الكافر، المعاند، حين دعاه إلى الإيمان والتوحيد، فامتنع، فقال إبراهيم: { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ } الحال أني لا { أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } لكني أدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً، فليس لكم أن تقتدوا بإبراهيم في هذه الحالة التي دعا بها للمشرك، فليس لكم أن تدعوا للمشركين، وتقولوا: إنا في ذلك متبعون لملة إبراهيم، فإن الله ذكر عذر إبراهيم في ذلك بقوله:{ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ }

[التوبة: 114]. ولكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه، حين دعوا الله وتوكلوا عليه وأنابوا إليه، واعترفوا بالعجز والتقصير، فقالوا: { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } أي: اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرنا، ووثقنا بك يا ربنا في ذلك. { وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } أي: رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرب إليك، فنحن في ذلك ساعون، وبفعل الخيرات مجتهدون، ونعلم أنا إليك نصير، فسنستعد للقدوم عليك، ونعمل ما يقربنا الزلفى إليك، { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي: لا تسلطهم علينا بذنوبنا، فيفتنونا ويمنعونا مما يقدرون عليه من أمور الإيمان، ويفتنون أيضاً بأنفسهم، فإنهم إذا رأوا لهم الغلبة، ظنوا أنهم على الحق وأنا على الباطل، فازدادوا كفراً وطغياناً، { وَٱغْفِرْ لَنَا } ما اقترفنا من الذنوب والسيئات، وما قصرنا به من المأمورات، { رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ } القاهر لكل شيء، { ٱلْحَكِيمُ } الذي يضع الأشياء مواضعها، فبعزتك وحكمتك انصرنا على أعدائنا، واغفر لنا ذنوبنا، وأصلح عيوبنا. ثم كرر الحث [لهم] على الاقتداء بهم، فقال: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } وليس كل أحد تسهل عليه هذه الأسوة، وإنما تسهل على من { كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ } فإن الإيمان واحتساب الأجر والثواب، يسهل على العبد كل عسير، ويقلل لديه كل كثير، ويوجب له الإكثار من الاقتداء بعباد الله الصالحين، والأنبياء والمرسلين، فإنه يرى نفسه مفتقراً ومضطرّاً إلى ذلك غاية الاضطرار. { وَمَن يَتَوَلَّ } عن طاعة الله والتأسي برسل الله، فلن يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، { فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ } الذي له الغنى التام [المطلق] من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه [بوجهٍ]، { ٱلْحَمِيدُ } في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فإنه محمود على ذلك كله. ثم أخبر تعالى أن هذه العداوة التي أمر الله بها المؤمنين للمشركين، ووصفهم بالقيام بها أنهم ما داموا على شركهم وكفرهم، وأنهم إن انتقلوا إلى الإيمان، فإن الحكم يدور مع علته، فإن المودة الإيمانية ترجع، فلا تيأسوا أيها المؤمنون من رجوعهم إلى الإيمان، فـ { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } سببها رجوعهم إلى الإيمان، { وَٱللَّهُ قَدِيرٌ } على كل شيء، ومن ذلك هداية القلوب وتقليبها من حال إلى حال، { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا يكبر عليه عيب أن يستره،{ قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53] وفي هذه الآية إشارة وبشارة إلى إسلام بعض المشركين، الذين كانوا إذ ذاك أعداء للمؤمنين، وقد وقع ذلك، ولله الحمد والمنة. ولما نزلت هذه الآيات الكريمات، المهيجة على عداوة الكافرين، وقعت من المؤمنين كل موقع، وقاموا بها أتم القيام، وتأثموا من صلة بعض أقاربهم المشركين، وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى الله عنه.
فأخبرهم الله أن ذلك لا يدخل في المحرم، فقال: { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } أي: لا ينهاكم الله عن البر والصلة، والمكافأة بالمعروف، والقسط للمشركين، من أقاربكم وغيرهم، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناح أن تصلوهم، فإن صلتهم في هذه الحالة، لا محذور فيها ولا مفسدة، كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلماً:{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [لقمان: 15]. [وقوله:] { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ } أي: لأجل دينكم، عداوة لدين الله ولمن قام به، { وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ } أي: عاونوا غيرهم { عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ } نهاكم الله { أَن تَوَلَّوْهُمْ } بالمودة والنصرة، بالقول والفعل، وأما بركم وإحسانكم، الذي ليس بتَولِّ للمشركين، فلم ينهكم الله عنه، بل ذلك داخل في عموم الأمر بالإحسان إلى الأقارب وغيرهم من الآدميين، وغيرهم. { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } وذلك الظلم يكون بحسب التولِّي، فإن كان تولِّياً تاماً، صار ذلك كفراً مخرجاً عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ، وما هو دون ذلك.

ابوالوليد المسلم
26-08-2020, 03:09 AM
الحلقة (589)
تفسير السعدى
(سورة الممتحنة)
من (10)الى (13)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الممتحنة
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } 10 { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ }11


لما كان صلح الحديبية، صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين، على أن من جاء منهم إلى المسلمين مسلماً، أنه يرد إلى المشركين، وكان هذا لفظاً عاماً، [مطلقا] يدخل في عمومه النساء والرجال، فأما الرجال، فإن الله لم يْنهَ رسوله عن ردهم إلى المشركين وفاء بالشرط وتتميماً للصلح الذي هو من أكبر المصالح، وأما النساء فلما كان ردهن فيه مفاسد كثيرة، أمر الله المؤمنين إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات، وشكوا في صدق إيمانهن، أن يمتحنوهن ويختبروهن، بما يظهر به صدقهن، من أيمان مغلظة وغيرها، فإنه يحتمل أن يكون إيمانها غير صادق بل رغبة في زوج أو بلد أو غير ذلك من المقاصد الدنيوية. فإن كن بهذا الوصف، تعين ردهن وفاء بالشرط، من غير حصول مفسدة، وإن امتحنوهن فوجدن صادقات، أو علموا ذلك منهن من غير امتحان، فلا يرجعوهن إلى الكفار، { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } فهذه مفسدة كبيرة في ردهنّ راعاها الشارع، وراعى أيضاً الوفاء بالشرط، بأن يعطوا الكفار أزواجهن ما أنفقوا عليهن من المهر وتوابعه عوضاً عنهن، ولا جناح حينئذ على المسلمين أن ينكحوهن ولو كان لهن أزواج في دار الشرك، ولكن بشرط أن يؤتوهن أجورهن من المهر والنفقة، وكما أن المسلمة لا تحل للكافر، فكذلك الكافرة لا تحل للمسلم أن يمسكها ما دامت على كفرها، غير أهل الكتاب، ولهذا قال تعالى: { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ } وإذا نهى عن الإمساك بعصمتها فالنهي عن ابتداء تزويجها أولى، { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ } أيها المؤمنون، حين ترجع زوجاتكم مرتدات إلى الكفار، فإذا كان الكفار يأخذون من المسلمين نفقة من أسلمت من نسائهم، استحق المسلمون أن يأخذوا مقابلة ما ذهب من نسائهم إلى الكفار، وفي هذا دليل على أن خروج البضع من الزوج متقوم، فإذا أفسد مفسد نكاح امرأة رجل، برضاع أو غيره، كان عليه ضمان المهر، وقوله: ذلكم الحكم الذي ذكره الله وبينه لكم يحكم به بينكم، { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فيعلم تعالى، ما يصلح لكم من الأحكام، ويشرع لكم ما تقتضيه الحكمة. وقوله: { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ } بأن ذهبن مرتدات { فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } كما تقدم أن الكفار إذا كانوا يأخذون بدل ما يفوت من أزواجهم إلى المسلمين، فمن ذهبت زوجته من المسلمين إلى الكفار وفاتت عليه، لزم أن يعطيه المسلمون من الغنيمة بدل ما أنفق. { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } فإيمانكم بالله يقتضي منكم أن تكونوا ملازمين للتقوى على الدوام.
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }12


هذه الشروط المذكورة في هذه الآية، تسمى " مبايعة النساء " اللاتي [كن] يبايعن على إقامة الواجبات المشتركة، التي تجب على الذكور والنساء في جميع الأوقات. وأما الرجال، فيتفاوت ما يلزمهم بحسب أحوالهم ومراتبهم وما يتعين عليهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتثل ما أمره الله به، فكان إذا جاءته النساء يبايعنه، والتزمن بهذه الشروط بايعهن، وجبر قلوبهن، واستغفر لهن الله، فيما يحصل منهن من التقصير، وأدخلهن في جملة المؤمنين بأن { لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئاً } بأن يفردن الله [وحده] بالعبادة. { وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } كما يجري لنساء الجاهلية الجهلاء. { وَلاَ يَزْنِينَ } كما كان ذلك موجوداً كثيراً في البغايا وذوات الأخدان، { وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } والبهتان: الافتراء على الغير أي: لا يفترين بكل حالة، سواء تعلقت بهن وأزواجهن، أو سواء تعلق ذلك بغيرهم، { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } أي: لا يعصينك في كل أمر تأمرهن به، لأن أمرك لا يكون إلا بمعروف، ومن ذلك طاعتهن [لك] في النهي عن النياحة، وشق الثياب، وخمش الوجوه، والدعاء بدعاء الجاهلية. { فَبَايِعْهُنَّ } إذا التزمن بجميع ما ذكر. { وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ } عن تقصيرهن، وتطييباً لخواطرهن، { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } أي: كثير المغفرة للعاصين، والإحسان إلى المذنبين التائبين، { رَّحِيمٌ } وسعت رحمته كل شيء، وعم إحسانه البرايا.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ ٱلآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ ٱلْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْقُبُورِ }13


أي: يا أيها المؤمنون، إن كنتم مؤمنين بربكم، ومتبعين لرضاه ومجانبين لسخطه، { لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } وإنما غضب عليهم لكفرهم، وهذا شامل لجميع أصناف الكفار. { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ ٱلآخِرَةِ } أي: قد حرموا من خير الآخرة، فليس لهم منها نصيب، فاحذروا أن تولوهم فتوافقوهم على شرهم وكفرهم فتحرموا خير الآخرة كما حرموا. [وقوله] { كَمَا يَئِسَ ٱلْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْقُبُورِ } حين أفضوا إلى الدار الآخرة، ووقفوا على حقيقة الأمر، وعلموا علم اليقين أنهم لا نصيب لهم منها. ويحتمل أن المعنى: قد يئسوا من الآخرة أي: قد أنكروها وكفروا بها، فلا يستغرب حينئذ منهم الإقدام على مساخط الله وموجبات عذابه وإياسهم من الآخرة، كما يئس الكفار المنكرون للبعث في الدنيا من رجوع أصحاب القبور إلى الله تعالى.

ابوالوليد المسلم
26-08-2020, 03:10 AM
الحلقة (590)
تفسير السعدى
(سورة الصف)
من (1)الى (9)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الصف
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } 1 { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } 2 { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }3


وهذا بيان لعظمته تعالى وقهره، وذل جميع الخلق له تبارك وتعالى، وأن جميع من في السماوات والأرض يسبحون بحمد الله ويعبدونه ويسألونه حوائجهم، { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الذي قهر الأشياء بعزته وسلطانه، { ٱلْحَكِيمُ } في خلقه وأمره. { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } أي: لم تقولون الخير وتحثون عليه، وربما تمدحتم به وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون به ومتصفون به، فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة؟ أم من أكبر المقت عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل؟ ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه، قال تعالى:{ أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [البقرة: 44] وقال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه:{ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [هود: 88].
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ }4


هذا حث من الله لعباده على الجهاد في سبيله وتعليمٌ لهم كيف يصنعون وأنه ينبغي [لهم] أن يصفوا في الجهاد صفاً متراصاً متساوياً، من غير خلل يقع في الصفوف، وتكون صفوفهم على نظام وترتيب به تحصل المساواة بين المجاهدين والتعاضد وإرهاب العدو وتنشيط بعضهم بعضاً، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضر القتال، صف أصحابه، ورتبهم في مواقفهم، بحيث لا يحصل اتكال بعضهم على بعض، بل تكون كل طائفة منهم مهتمة بمركزها وقائمة بوظيفتها، وبهذه الطريقة تتم الأعمال ويحصل الكمال.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ }5


[أي:] { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } موبخاً لهم على صنيعهم، ومقرعاً لهم على أذيته، وهم يعلمون أنه رسول الله: { لِمَ تُؤْذُونَنِي } بالأقوال والأفعال { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ }. والرسول من حقه الإكرام والإعظام، والانقياد بأوامره، والابتدار لحكمه. وأما أذية الرسول الذي إحسانه إلى الخلق فوق كل إحسان بعد إحسان الله، ففي غاية الوقاحة والجراءة والزيغ عن الصراط المستقيم، الذي قد علموه وتركوه، ولهذا قال: { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ } أي: انصرفوا عن الحق بقصدهم { أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها، ولم يوفقهم الله للهدى، لأنهم لا يليق بهم الخير، ولا يصلحون إلا للشر، { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } أي: الذين لم يزل الفسق وصفاً لهم، لا لهم قصد في الهدى، وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده، ليس ظلماً منه، ولا حجة لهم عليه، وإنما ذلك بسبب منهم، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه وتقليب القلوب [عقوبة لهم وعدلاً منه بهم] كما قال تعالى:{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام: 110].
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } 6 { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى ٱلإِسْلاَمِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } 7 { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } 8 { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ }9


يقول تعالى مخبراً عن عناد بني إسرائيل المتقدمين، الذين دعاهم عيسى ابن مريم، وقال لهم: { يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم } أي: أرسلني الله لأدعوكم إلى الخير وأنهاكم عن الشر، [وأيدني بالبراهين الظاهرة]، ومما يدل على صدقي، كوني { مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } أي: جئت بما جاء به موسى من التوراة والشرائع السماوية، ولو كنت مدعياً للنبوة، لجئت بغير ما جاءت به المرسلون، ومصدقاً لما بين يديَّ من التوارة أيضاً، أنها أخبرت بي وبشرت، فجئت وبعثت مصداقاً لها { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ } وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي الهاشمي. فعيسى عليه الصلاة والسلام كالأنبياء، يصدق بالنبي السابق، ويبشر بالنبي اللاحق، بخلاف الكذابين، فإنهم يناقضون الأنبياء أشد مناقضة، ويخالفونهم في الأوصاف والأخلاق، والأمر والنهي { فَلَمَّا جَاءَهُم } محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى { بِٱلْبَيِّنَاتِ } أي: الأدلة الواضحة، الدالة على أنه هو، وأنه رسول الله [حقاً]. { قَالُواْ } معاندين للحق مكذبين له { هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } وهذا من أعجب العجائب، الرسول الذي [قد] وضحت رسالته، وصارت أَبْيَنَ من شمس النهار، يجعل ساحراً بَيِّناً سحره، فهل في الخذلان أعظم من هذا؟ وهل في الافتراء أعظم من هذا الافتراء، الذي نفى عنه ما كان معلوماً من رسالته، وأثبت له ما كان أبعد الناس منه؟ { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } بهذا وغيره، والحال أنه لا عذر له، وقد انقطعت حجته، لأنه { يُدْعَىٰ إِلَى ٱلإِسْلاَمِ } ويبين له ببراهينه وبيناته، { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } الذين لا يزالون على ظلمهم مستقيمين، لا تردهم عنه موعظة، ولا يزجرهم بيان ولا برهان، خصوصاً هؤلاء الظلمة القائمين بمقابلة الحق ليردوه، ولينصروا الباطل، ولهذا قال الله عنهم: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ } أي: بما يصدر منهم من المقالات الفاسدة، التي يردُّون بها الحق، وهي لا حقيقة لها، بل تزيد البصير معرفة بما هم عليه من الباطل، { وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } أي: قد تكفل الله بنصر دينه، وإتمام الحق الذي أرسل به رسله، وإشاعة نوره على سائر الأقطار، ولو كره الكافرون، وبذلوا بسبب كراهتهم كل سبب يتوصلون به إلى إطفاء نور الله فإنهم مغلوبون. وصاروا بمنزلة من ينفخ عين الشمس بفيه ليطفئها، فلا على مرادهم حصلوا، ولا سلمت عقولهم من النقص والقدح فيها. ثم ذكر سبب الظهور والانتصار للدين الإسلامي، الحسي والمعنوي، فقال: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ } أي: بالعلم النافع والعمل الصالح. بالعلم الذي يهدي إلى الله وإلى دار كرامته، ويهدي لأحسن الأعمال والأخلاق، ويهدي إلى مصالح الدنيا والآخرة. { وَدِينِ ٱلْحَقِّ } أي: الدين الذي يدان به، ويتعبد لرب العالمين الذي هو حق وصدق، لا نقص فيه، ولا خلل يعتريه، بل أوامره غذاء القلوب والأرواح، وراحة الأبدان، وترك نواهيه سلامة من الشر والفساد فما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، أكبر دليل وبرهان على صدقه، وهو برهان باق ما بقي الدهر، كلما ازداد العاقل تفكراً، ازداد به فرحاً وتبصراً.

{ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، ويظهر أهله القائمين به بالسيف والسنان، فأما نفس الدين، فهذا الوصف ملازم له في كل وقت، فلا يمكن أن يغالبه مغالب، أو يخاصمه مخاصم إلا فلجه وبلسه، وصار له الظهور والقهر، وأما المنتسبون إليه، فإنهم إذا قاموا به، واستناروا بنوره، واهتدوا بهديه، في مصالح دينهم ودنياهم، فكذلك لا يقوم لهم أحد، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان، وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه، لم ينفعهم ذلك، وصار إهمالهم له سبب تسليط الأعداء عليهم، ويعرف هذا، من استقرأ الأحوال ونظر في أول المسلمين وآخرهم.

ابوالوليد المسلم
29-08-2020, 04:52 AM
الحلقة (591)
تفسير السعدى
(سورة الصف)
من (10)الى (14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الصف
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } 10 { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } 11 { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } 12 { وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } 13 { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ }14


هذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين، لأعظم تجارة، وأجلّ مطلوب، وأعلى مرغوب، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم، والفوز بالنعيم المقيم. وأتى بأداة العرض الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كل متبصر، ويسمو إليه كل لبيب، فكأنه قيل: ما هذه التجارة التي هذا قدرها؟ فقال { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }. ومن المعلوم أن الإيمان التام هو التصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق به، المستلزم لأعمال الجوارح، ومن أجل أعمال الجوارح الجهاد في سبيل الله، فلهذا قال: { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } بأن تبذلوا نفوسكم ومهجكم لمصادمة أعداء الإسلام، والقصد نصر دين الله وإعلاء كلمته، وتنفقون ما تيسر من أموالكم في ذلك المطلوب، فإن ذلك، ولو كان كريهاً للنفوس شاقاً عليها، فإنه { خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } فإن فيه الخير الدنيوي، من النصر على الأعداء، والعز المنافي للذل والرزق الواسع، وسعة الصدر وانشراحه. وفي الآخرة الفوز بثواب الله والنجاة من عقابه، ولهذا ذكر الجزاء في الآخرة، فقال: { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وهذا شامل للصغائر والكبائر، فإن الإيمان بالله والجهاد في سبيله، مكفر للذنوب، ولو كانت كبائر. { وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي: من تحت مساكنها [وقصورها] وغرفها وأشجارها، أنهارٌ من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات، { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي: جمعت كل طيب، من علو وارتفاع، وحسن بناء وزخرفة، حتى إن أهل الغرف من أهل عليين، يتراءآهم أهل الجنة كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي، وحتى إن بناء الجنة بعضه من لبن ذهب [وبعضه من] لبن فضة، وخيامها من اللؤلؤ والمرجان، وبعض المنازل من الزمرد والجواهر الملونة بأحسن الألوان، حتى إنها من صفائها يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، وفيها من الطيب والحسن ما لا يأتي عليه وصف الواصفين، ولا خطر على قلب أحد من العالمين، لا يمكن أن يدركوه حتى يروه، ويتمتعوا بحسنه وتقر أعينهم به، ففي تلك الحالة، لولا أن الله خلق أهل الجنة، وأنشأهم نشأة كاملة لا تقبل العدم، لأوشك أن يموتوا من الفرح، فسبحان من لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده، وتبارك الجليل الجميل، الذي أنشأ دار النعيم، وجعل فيها من الجلال والجمال ما يبهر عقول الخلق ويأخذ بأفئدتهم. وتعالى من له الحكمة التامة، التي من جملتها، أنه الله لو أرى الخلائق الجنة حين خلقها، ونظروا إلى ما فيها من النعيم لما تخلف عنها أحد، ولما هناهم العيش في هذه الدار المنغصة، المشوب نعيمها بألمها، وسرورها بترحها.
وسميت الجنة جنة عدن، لأن أهلها مقيمون فيها، لا يخرجون منها أبداً، ولا يبغون عنها حولاً، ذلك الثواب الجزيل، والأجر الجميل، الفوز العظيم، الذي لا فوز مثله، فهذا الثواب الأخروي. وأما الثواب الدنيوي لهذه التجارة، فذكره بقوله: { وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا } أي: ويحصل لكم خصلة أخرى تحبونها وهي: { نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ } [لكم] على الأعداء، يحصل به العز والفرح، { وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } تتسع به دائرة الإسلام، ويحصل به الرزق الواسع، فهذا جزاء المؤمنين المجاهدين، وأما المؤمنون من غير أهل الجهاد، [إذا قام غيرهم بالجهاد] فلم يؤيسهم الله تعالى من فضله وإحسانه، بل قال: { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي: بالثواب العاجل والآجل، كل على حسب إيمانه، وإن كانوا لا يبلغون مبلغ المجاهدين في سبيل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله ". ثم قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ } [أي:] بالأقوال والأفعال، وذلك بالقيام بدين الله، والحرص على إقامته تنفيذه على الغير، وجهاد من عانده ونابذه بالأبدان والأموال، ومن نصر الباطل بما يزعمه من العلم ورد الحق، بدحض حجته، وإقامة الحجة عليه، والتحذير منه. ومن نصر دين الله، تَعَلُّمُ كتاب الله وسنة رسوله، والحث على ذلك، [والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]. ثم هيج الله المؤمنين بالاقتداء بمن قبلهم من الصالحين بقوله: { كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } أي: قال لهم عارضاً ومنهضاً من يعاونني ويقوم معي في نصرتي لدين الله، ويدخل مدخلي ويخرج مخرجي؟ فابتدر الحواريون، فقالوا: { نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ } فمضى عيسى عليه السلام على أمر الله ونصر دينه، هو ومن معه من الحواريين، { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } بسبب دعوة عيسى والحواريين، { وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } منهم، فلم ينقادوا لدعوتهم، فجاهد المؤمنون الكافرين، { فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ } أي: قويناهم ونصرناهم عليهم. { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } عليهم وقاهرين [لهم]، فأنتم يا أمة محمد كونوا أنصار الله ودعاة دينه، ينصركم الله كما نصر من قبلكم، ويظهركم على عدوكم.
سورة الجمعة
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } 1 { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } 2 { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ }3


يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلاة الجمعة والمبادرة إليها، من حين ينادى لها والسعي إليها، والمراد بالسعي هنا: المبادرة إليها والاهتمام لها، وجعلها أهم الأشغال، لا العَدوُ الذي قد نهي عنه عند المضي إلى الصلاة، وقوله: { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } أي: اتركوا البيع، إذا نودي للصلاة، وامضوا إليها. فإن ذلكم خير لكم من اشتغالكم بالبيع، وتفويتكم الصلاة الفريضة التي هي من آكد الفروض. { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أن ما عند الله خير وأبقى، وأن من آثر الدنيا على الدين، فقد خسر الخسارة الحقيقية، من حيث ظن أنه يربح، وهذا الأمر بترك البيع مؤقت مدة الصلاة، { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } لطلب المكاسب والتجارات، ولما كان الاشتغال في التجارة مظنة الغفلة عن ذكر الله، أمر الله بالإكثار من ذكره، فقال: { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً } أي في حال قيامكم وقعودكم وعلى جنوبكم، { لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإن الإكثار من ذكر الله أكبر أسباب الفلاح. { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } أي: خرجوا من المسجد، حرصاً على ذلك اللهو و [تلك] التجارة، وتركوا الخير، { وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } تخطب الناس، وذلك: [في] يوم جمعةٍ بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، إذ قدم المدينة عير تحمل تجارة، فلما سمع الناس بها وهم في المسجد، انفضوا من المسجد، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب استعجالاً لما لا ينبغي أن يستعجل له، وترك أدب، { قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ } من الأجر والثواب، لمن لازم الخير وصبر نفسه على عبادة ربه. { خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ } التي، وإن حصل منها بعض المقاصد، فإن ذلك قليل منغص، مفوت لخير الآخرة، وليس الصبر على طاعة الله مفوتاً للرزق، فإن الله خير الرازقين، فمن اتقى الله رزقه من حيث لا يحتسب. وفي هذه الآيات فوائد عديدة: منها: أن الجمعة فريضة على جميع المؤمنين، يجب عليهم السعي لها، والمبادرة والاهتمام بشأنها. ومنها: أن الخطبتين يوم الجمعة فريضتان يجب حضورهما، لأنه فسر الذكر هنا بالخطبتين، فأمر الله بالمضي إليه والسعي له. ومنها: مشروعية النداء ليوم الجمعة والأمر به. ومنها: النهى عن البيع والشراء بعد نداء الجمعة، وتحريم ذلك، وما ذاك إلا لأنه يفوت الواجب ويشغل عنه، فدل ذلك على أن كل أمر ولو كان مباحاً في الأصل، إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب، فإنه لا يجوز في تلك الحال. ومنها: الأمر بحضور الخطبتين يوم الجمعة، وذم من لم يحضرهما، ومن لازم ذلك الإنصات لهما. ومنها: أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة الله، وقت دواعي النفس لحضور اللهو [والتجارات] والشهوات، أن يذكرها بما عند الله من الخيرات، وما لمؤثر رضاه على هواه.

ابوالوليد المسلم
29-08-2020, 04:53 AM
الحلقة (592)
تفسير السعدى
(سورة الجمعة)
من (1)الى (11)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الجمعة
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ }1


أي: يسبح لله وينقاد لأمره، ويتألهه ويعبده، جميع ما في السماوات والأرض، لأنه الكامل الملك، الذي له ملك العالم العلوي والسفلي، فالجميع مماليكه وتحت تدبيره، { ٱلْقُدُّوسِ } المعظم، المنزه عن كل آفة ونقص، { ٱلْعَزِيزِ } القاهر للأشياء كلها، { ٱلْحَكِيمِ } في خلقه وأمره. فهذه الأوصاف العظيمة مما تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

{ هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } 2 { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } 3 { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }4


المراد بالأميين: الذين لا كتاب عندهم، ولا أثر رسالة من العرب وغيرهم، ممن ليسوا من أهل الكتاب، فامتن الله تعالى عليهم منّة عظيمة أعظم من منته على غيرهم، لأنهم عادمون للعلم والخير، وكانوا في ضلال مبين، يتعبدون للأشجار والأصنام والأحجار، ويتخلقون بأخلاق السباع الضارية، يأكل قويهم ضعيفهم، وقد كانوا في غاية الجهل بعلوم الأنبياء، فبعث الله فيهم رسولاً منهم، يعرفون نسبه وأوصافه الجميلة وصدقه، وأنزل عليه كتابه، { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } القاطعة الموجبة للإيمان واليقين، { وَيُزَكِّيهِمْ } بأن يحثهم على الأخلاق الفاضلة، ويفصلها لهم، ويزجرهم عن الأخلاق الرذيلة، { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } أي: علم القرآن وعلم السنة، المشتمل ذلك علوم الأولين والآخرين، فكانوا بعد هذا التعليم والتزكية منه أعلم الخلق، بل كانوا أئمة أهل العلم والدين، وأكمل الخلق أخلاقاً، وأحسنهم هدياً وسمتاً، اهتدوا بأنفسهم، وهدوا غيرهم، فصاروا أئمة المهتدين، وهداة المؤمنين، فلله عليهم ببعثه هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل نعمة، وأجل منحة، وقوله { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } أي: وامتنّ على آخرين من غيرهم أي: من غير الأميين، ممن يأتي بعدهم، ومن أهل الكتاب، لما يلحقوا بهم أي: فيمن باشر دعوة الرسول، ويحتمل أنهم لما يلحقوا بهم في الفضل، ويحتمل أن يكونوا لما يلحقوا بهم في الزمان، وعلى كل، فكلا المعنيين صحيح، فإن الذين بعث الله فيهم رسوله وشاهدوه وباشروا دعوته، حصل لهم من الخصائص والفضائل ما لا يمكن أحداً أن يلحقهم فيها، وهذا من عزته وحكمته، حيث لم يترك عباده هملاً ولا سدىً، بل ابتعث فيهم الرسل، وأمرهم ونهاهم، وذلك من فضل الله العظيم، الذي يؤتيه من يشاء من عباده، وهو أفضل من نعمته عليهم بعافية البدن وسعة الرزق، وغير ذلك، من النعم الدنيوية، فلا أعظم من نعمة الدين التي هي مادة الفوز، والسعادة الأبدية.

{ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } 5 { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 6 { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } 7 { قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }8


لما ذكر تعالى منته على هذه الأمة، الذين ابتعث فيهم النبي الأمي، وما خصهم الله به من المزايا والمناقب، التي لا يلحقهم فيها أحد وهم الأمة الأمية الذين فاقوا الأولين والآخرين، حتى أهل الكتاب، الذين يزعمون أنهم العلماء الربانيون والأحبار المتقدمون، ذكر أن الذين حملهم الله التوراة من اليهود وكذا النصارى، وأمرهم أن يتعلموها ويعملوا بما فيها، وانهم لم يحملوها ولم يقوموا بما حملوا به، أنهم لا فضيلة لهم، وأن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل فوق ظهره أسفاراً من كتب العلم، فهل يستفيد ذلك الحمار من تلك الكتب التي فوق ظهره؟ وهل يلحق به فضيلة بسبب ذلك؟ أم حظه منها حملها فقط؟ فهذا مثل علماء اليهود، الذين لم يعملوا بما في التوراة، الذي من أجله وأعظمه الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والبشارة به، والإيمان بما جاء به من القرآن، فهل استفاد من هذا وصفه من التوراة إلا الخيبة والخسران وإقامة الحجة عليه؟ فهذا المثل مطابق لأحوالهم. بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صدق رسولنا وصدق ما جاء به. { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } أي: لا يرشدهم إلى مصالحهم ما دام الظلم لهم وصفاً والعناد لهم نعتاً، ومن ظلم اليهود وعنادهم، أنهم يعلمون أنهم على باطل، ويزعمون أنهم على حق، وأنهم أولياء الله من دون الناس. ولهذا أمر الله رسوله، أن يقول لهم: إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم على الحق، وأولياء الله: { فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ } وهذا أمر خفيف، فإنهم لو علموا أنهم على حق لما توقفوا عن هذا التحدي الذي جعله الله دليلاً على صدقهم إن تمنوه، وكذبهم إن لم يتمنوه، ولما لم يقع منهم مع الإعلان لهم بذلك، علم أنهم عالمون ببطلان ما هم عليه وفساده، ولهذا قال: { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ } من الذنوب والمعاصي التي يستوحشون من الموت من أجلها، { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } فلا يمكن أن يخفى عليه من ظلمهم شيء، هذا وإن كانوا لا يتمنون الموت بما قدمت أيديهم، و يفرون منه [غاية الفرار]، فإن ذلك لا ينجيهم، بل لا بد أن يلاقيهم الموت الذي قد حتمه الله على العباد وكتبه عليهم. ثم بعد الموت واستكمال الآجال، يرد الخلق كلهم يوم القيامة إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئهم بما كانوا يعملون، من خير وشر، قليل وكثير.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } 9 { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } 10 { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ }11


يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلاة الجمعة والمبادرة إليها، من حين ينادى لها والسعي إليها، والمراد بالسعي هنا: المبادرة إليها والاهتمام لها، وجعلها أهم الأشغال، لا العَدوُ الذي قد نهي عنه عند المضي إلى الصلاة، وقوله: { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } أي: اتركوا البيع، إذا نودي للصلاة، وامضوا إليها. فإن ذلكم خير لكم من اشتغالكم بالبيع، وتفويتكم الصلاة الفريضة التي هي من آكد الفروض. { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أن ما عند الله خير وأبقى، وأن من آثر الدنيا على الدين، فقد خسر الخسارة الحقيقية، من حيث ظن أنه يربح، وهذا الأمر بترك البيع مؤقت مدة الصلاة، { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } لطلب المكاسب والتجارات، ولما كان الاشتغال في التجارة مظنة الغفلة عن ذكر الله، أمر الله بالإكثار من ذكره، فقال: { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً } أي في حال قيامكم وقعودكم وعلى جنوبكم، { لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإن الإكثار من ذكر الله أكبر أسباب الفلاح. { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } أي: خرجوا من المسجد، حرصاً على ذلك اللهو و [تلك] التجارة، وتركوا الخير، { وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } تخطب الناس، وذلك: [في] يوم جمعةٍ بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، إذ قدم المدينة عير تحمل تجارة، فلما سمع الناس بها وهم في المسجد، انفضوا من المسجد، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب استعجالاً لما لا ينبغي أن يستعجل له، وترك أدب، { قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ } من الأجر والثواب، لمن لازم الخير وصبر نفسه على عبادة ربه.
{ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ } التي، وإن حصل منها بعض المقاصد، فإن ذلك قليل منغص، مفوت لخير الآخرة، وليس الصبر على طاعة الله مفوتاً للرزق، فإن الله خير الرازقين، فمن اتقى الله رزقه من حيث لا يحتسب. وفي هذه الآيات فوائد عديدة: منها: أن الجمعة فريضة على جميع المؤمنين، يجب عليهم السعي لها، والمبادرة والاهتمام بشأنها. ومنها: أن الخطبتين يوم الجمعة فريضتان يجب حضورهما، لأنه فسر الذكر هنا بالخطبتين، فأمر الله بالمضي إليه والسعي له. ومنها: مشروعية النداء ليوم الجمعة والأمر به. ومنها: النهى عن البيع والشراء بعد نداء الجمعة، وتحريم ذلك، وما ذاك إلا لأنه يفوت الواجب ويشغل عنه، فدل ذلك على أن كل أمر ولو كان مباحاً في الأصل، إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب، فإنه لا يجوز في تلك الحال. ومنها: الأمر بحضور الخطبتين يوم الجمعة، وذم من لم يحضرهما، ومن لازم ذلك الإنصات لهما. ومنها: أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة الله، وقت دواعي النفس لحضور اللهو [والتجارات] والشهوات، أن يذكرها بما عند الله من الخيرات، وما لمؤثر رضاه على هواه.

ابوالوليد المسلم
29-08-2020, 04:54 AM
الحلقة (593)
تفسير السعدى
(سورة المنافقون)
من (1)الى (11)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة المنافقون
{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } 1 { ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } 2 { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } 3 { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } 4 { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } 5 { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ }6


لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكثر المسلمون في المدينة واعتز الإسلام بها، صار أناس من أهلها من الأوس والخزرج، يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ليبقى جاههم، وتحقن دماؤهم، وتسلم أموالهم، فذكر الله من أوصافهم ما به يعرفون، لكي يحذر العباد منهم، ويكونوا منهم على بصيرة، فقال: { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ } على وجه الكذب: { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } وهذه الشهادة من المنافقين على وجه الكذب والنفاق، مع أنه لا حاجة لشهادتهم في تأييد رسوله، فإن { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } في قولهم ودعواهم، وأن ذلك ليس بحقيقة منهم. { ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } أي: ترساً يتترسون بها من نسبتهم إلى النفاق. فصدوا عن سبيله بأنفسهم، وصدوا غيرهم ممن يخفى عليه حالهم، { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } حيث أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وأقسموا على ذلك وأوهموا صدقهم، { ذَلِكَ } الذي زين لهم النفاق { بـِ } سبب { أَنَّهُمْ } لا يثبتون على الإيمان. بل { آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } بحيث لا يدخلها الخير أبدًا، { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } ما ينفعهم، ولا يعون ما يعود بمصالحهم، { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } من روائها ونضارتها، { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي: من حسن منطقهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدى الصالح، شيء، ولهذا قال: { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض، { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم، والريب الذي في قلوبهم يخافون أن يطلع عليهم. فهؤلاء { هُمُ ٱلْعَدُوُّ } على الحقيقة، لأن العدو البارز المتميز أهون من العدو الذي لا يشعر به، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه وَلي، وهو العدو المبين، { فَٱحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي: كيف يصرفون عن الدين الإسلامي بعد ما تبينت أدلته، واتضحت معالمه، إلى الكفر الذي لا يفيدهم إلا الخسار والشقاء { وَإِذَا قِيلَ } لهؤلاء المنافقين { تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ } عما صدر منكم، لتحسن أحوالكم، وتقبل أعمالكم، امتنعوا من ذلك أشد الامتناع، و { لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } امتناعاً من طلب الدعاء من الرسول، { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ } عن الحق بغضاً له { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } عن اتباعه بغياً وعناداً، فهذه حالهم عندما يدعون إلى طلب الدعاء من الرسول، وهذا من لطف الله وكرامته لرسوله، حيث لم يأتوا إليه، فيستغفر لهم، فإنه سواء استغفر لهم أم لم يستغفر لهم فلن يغفر الله لهم، وذلك لأنهم قوم فاسقون، خارجون عن طاعة الله، مؤثرون للكفر على الإيمان، فلذلك لا ينفع فيهم استغفار الرسول، لو استغفر لهم كما قال تعالى:{ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } [التوبة: 80] { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ }.
{ هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ } 7 { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }8


وهذا من شدة عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، لما رأوا اجتماع أصحابه وائتلافهم، ومسارعتهم في مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا بزعمهم الفاسد: { لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ } فإنهم - بزعمهم - لولا أموال المنافقين ونفقاتهم عليهم، لما اجتمعوا في نصرة دين الله، وهذا من أعجب العجب، أن يدعى هؤلاء المنافقون الذين هم أحرص الناس على خذلان الدين، وأذية المسلمين، مثل هذه الدعوى، التي لا تروج إلا على من لا علم له بحقائق الأمور ولهذا قال الله رداً لقولهم: { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } فيؤتي الرزق من يشاء، ويمنعه من يشاء، وييسر الأسباب لمن يشاء، ويعسرها على من يشاء، { وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ } فلذلك قالوا تلك المقالة، التي مضمونها أن خزائن الرزق في أيديهم، وتحت مشيئتهم. { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } وذلك في غزوة المريسيع، حين صار بين بعض المهاجرين والأنصار بعض كلام كدر الخواطر، ظهر حينئذ نفاق المنافقين، وأظهروا ما في نفوسهم. وقال كبيرهم، عبد الله بن أُبّي بن سلول: ما مثلنا ومثل هؤلاء - يعني المهاجرين - إلا كما قال القائل: " غذ كلبك يأكلك ". وقال: لئن رجعنا إلى المدينة { لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } بزعمه أنه هو وإخوانه من المنافقين الأعزون، وأن رسول الله ومن معه هم الأذلون، والأمر بعكس ما قال هذا المنافق، فلهذا قال [تعالى:] { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فهم الأعزاء، والمنافقون وإخوانهم من الكفار [هم] الأذلاء. { وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ذلك] فلذلك زعموا أنهم الأعزاء، اغتراراً بما هم عليه من الباطل، ثم قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ... }.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } 9 { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } 10 { وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }11


يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره، فإن في ذلك الربح والفلاح، والخيرات الكثيرة، وينهاهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن ذكره، فإن محبة المال والأولاد مجبولة عليها أكثر النفوس، فتقدمها على محبة الله، وفي ذلك الخسارة العظيمة، ولهذا قال تعالى: { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } أي: يلهه ماله وولده، عن ذكر الله { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } للسعادة الأبدية، والنعيم المقيم، لأنهم آثروا ما يفنى على ما يبقى، قال تعالى:{ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التغابن: 15]. وقوله: { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ } يدخل في هذا، النفقات الواجبة، من الزكاة والكفارات، ونفقة الزوجات، والمماليك، ونحو ذلك، والنفقات المستحبة، كبذل المال في جميع المصالح، وقال: { مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ } ليدل ذلك على أنه تعالى، لم يكلف العباد من النفقة ما يعنتهم ويشق عليهم، بل أمرهم بإخراج جزء مما رزقهم الله الذي يسره لهم ويسر لهم أسبابه. فليشكروا الذي أعطاهم، بمواساة إخوانهم المحتاجين، وليبادروا بذلك، الموت الذي إذا جاء، لم يمكّن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير، ولهذا قال: { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ } متحسراً على ما فرَّط في وقت الإمكان، سائلاً الرجعة التي هي محال: { رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي: لأتدارك ما فَرَّطْتَ فيه، { فَأَصَّدَّقَ } من مالي، ما به أنجو من العذاب، وأستحق به جزيل الثواب، { وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } بأداء المأمورات كلها، واجتناب المنهيات، ويدخل في هذا، الحج وغيره، وهذا السؤال والتمني، قد فات وقته، ولا يمكن تداركه، ولهذا قال: { وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ } المحتوم لها { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من خير وشر، فيجازيكم على ما علمه منكم، من النيات والأعمال.

ابوالوليد المسلم
29-08-2020, 04:55 AM
الحلقة (594)
تفسير السعدى
(سورة التغابن)
من (1)الى (10)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة التغابن
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } 1 { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } 2 { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } 3 { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }4


هذه الآيات [الكريمات]، مشتملات على جملة كثيرة واسعة، من أوصاف الباري العظيمة، فذكر كمال ألوهيته تعالى، وسعة غناه، وافتقار جميع الخلائق إليه، وتسبيح من في السماوات والأرض بحمد ربها، وأن الملك كله لله، فلا يخرج مخلوق عن ملكه، والحمد كله له، حمد على ما له من صفات الكمال، وحمد على ما أوجده من الأشياء، وحمد على ما شرعه من الأحكام، وأسداه من النعم. وقدرته شاملة، لا يخرج عنها موجود، فلا يعجزه شيء يريده، وذكر أنه خلق العباد، وجعل منهم المؤمن والكافر، فإيمانهم وكفرهم كله بقضاء الله وقدره، وهو الذي شاء ذلك منهم، بأن جعل لهم قدرة وإرادة، بها يتمكنون من كل ما يريدون من الأمر والنهي، { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }. فلما ذكر خلق الإنسان المكلف المأمور المنهي، ذكر خلق باقي المخلوقات، فقال: { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } أي: أجرامهما، [وجميع] ما فيهما فأحسن خلقهما، { بِٱلْحَقِّ } أي: بالحكمة والغاية المقصودة له تعالى، { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } كما قال تعالى:{ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين: 4] فالإنسان أحسن المخلوقات صورة، وأبهاها منظراً. { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } أي: المرجع يوم القيامة، فيجازيكم على إيمانكم وكفركم، ويسألكم عن النِّعم والنعيم، الذي أولاكموه، هل قمتم بشكره، أم لم تقوموا بشكره؟ ثم ذكر عموم علمه، فقال: { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: من السرائر والظواهر، والغيب والشهادة. { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي: بما فيها من الأسرار الطيبة، والخبايا الخبيثة، والنيات الصالحة، والمقاصد الفاسدة، فإذا كان عليماً بذات الصدور، تعين على العاقل البصير، أن يحرص ويجتهد في حفظ باطنه، من الأخلاق الرذيلة، واتصافه بالأخلاق الجميلة.

{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 5 { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }6


لما ذكر تعالى من أوصافه الكاملة العظيمة، ما به يعرف ويعبد، ويبذل الجهد في مرضاته، وتجتنب مساخطه، أخبر بما فعل بالأمم السابقين، والقرون الماضين، الذين لم تزل أنباؤهم يتحدث بها المتأخرون، ويخبر بها الصادقون، وأنهم حين جاءتهم الرسل بالحق، كذبوهم وعاندوهم، فأذاقهم الله وبال أمرهم في الدنيا، وأخزاهم فيها، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في [الدار] الآخرة، ولهذا ذكر السبب في هذه العقوبة فقال: { ذَلِكَ } النكال والوبال، الذي أحللناه بهم { كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } أي: بالآيات الواضحات، الدالة على الحق والباطل، فاشمأزوا واستكبروا على رسلهم، فقالوا: { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } أي: فليس لهم فضل علينا، ولأي: شيء خصهم الله دوننا، كما قال في الآية الأخرى:{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [إبراهيم: 11] فهم حجروا فضل الله ومنته على أنبيائه أن يكونوا رسلاً للخلق، واستكبروا عن الانقياد لهم، فابتلوا بعبادة الأحجار والأشجار ونحوها { فَكَفَرُواْ } بالله { وَتَوَلَّواْ } عن طاعة الله، { وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ } عنهم، فلا يبالي بهم، ولا يضره ضلالهم شيئاً، { وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي: هو الغني، الذي له الغنى التام المطلق، من جميع الوجوه، الحميد في أقواله وأفعاله وأوصافه.
{ زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ }7


يخبر تعالى عن عناد الكافرين، وزعمهم الباطل، وتكذيبهم بالبعث بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فأمر أشرف خلقه، أن يقسم بربه على بعثهم، وجزائهم بأعمالهم الخبيثة، وتكذيبهم بالحق، { وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } فإنه وإن كان عسيراً، بل متعذراً بالنسبة إلى الخلق، فإن قواهم كلهم لو اجتمعت على إحياء ميت [واحد]، ما قدروا على ذلك. وأما الله تعالى، فإنه إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون، قال تعالى:{ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [الزمر: 68].

{ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }8


لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث، وأن ذلك [منهم] موجب كفرهم بالله وآياته، أمر بما يعصم من الهلكة والشقاء، وهو الإيمان بالله ورسوله وكتابه، وسماه الله نوراً، فإن النور ضد الظلمة، وما في الكتاب الذي أنزله الله من الأحكام والشرائع والأخبار، أنوار يهتدى بها في ظلمات الجهل المدلهمة، ويمشى بها في حندس الليل البهيم، وما سوى الاهتداء بكتاب الله، فهي علوم ضررها أكثر من نفعها، وشرها أكثر من خيرها، بل لا خير فيها ولا نفع، إلا ما وافق ما جاءت به الرسل، والإيمان بالله ورسوله وكتابه، يقتضي الجزم التام، واليقين الصادق بها، والعمل بمقتضى ذلك التصديق، من امتثال الأوامر، واجتناب المناهي، { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازيكم بأعمالكم الصالحة والسيئة.

{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } 9 { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }10


يعني: اذكروا يوم الجمع الذي يجمع الله به الأولين والآخرين، ويقفهم موقفاً هائلاً عظيماً، وينبئهم بما عملوا، فحينئذ يظهر الفرق والتفاوت بين الخلائق، ويُرْفعُ أقوامٌ إلى أعلى عليين، في الغرف العاليات، والمنازل المرتفعات، المشتملة على جميع اللذات والشهوات، ويخفض أقوامٌ إلى أسفل سافلين، محل الهم والغم، والحزن، والعذاب الشديد، وذلك نتيجة ما قدموه لأنفسهم، وأسلفوه أيام حياتهم، ولهذا قال: { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ }. أي: يظهر فيه التغابن والتفاوت بين الخلائق، ويغبن المؤمنون الفاسقين، ويعرف المجرمون أنهم على غير شيء، وأنهم هم الخاسرون، فكأنه قيل: بأي شيء يحصل الفلاح والشقاء والنعيم والعذاب؟ فذكر تعالى أسباب ذلك بقوله: { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ } [أي:] إيماناً تاماً شاملاً لجميع ما أمر الله بالإيمان به، { وَيَعْمَلْ صَالِحاً } من الفرائض والنوافل، من أداء حقوق الله وحقوق عباده. { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وتختاره الأرواح، وتحن إليه القلوب، ويكون نهاية كل مرغوب، { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ } أي: كفروا [بها] من غير مستند شرعي ولا عقلي، بل جاءتهم الأدلة والبينات، فكذبوا بها، وعاندوا ما دلت عليه. { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } لأنها جمعت كل بؤس وشدة، وشقاء وعذاب.

ابوالوليد المسلم
29-08-2020, 04:55 AM
الحلقة (595)
تفسير السعدى
(سورة التغابن)
من (11)الى (18)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة التغابن
{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } 11 { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } 12 { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ }13


يقول تعالى: { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } هذا عام لجميع المصائب، في النفس، والمال، والولد، والأحباب، ونحوهم، فجميع ما أصاب العباد فبقضاء الله وقدره، قد سبق بذلك علم الله [تعالى]، وجرى به قلمه، ونفذت به مشيئته، واقتضته حكمته، والشأن كل الشأن، هل يقوم العبد بالوظيفة التي عليه في هذا المقام، أم لا يقوم بها؟ فإن قام بها، فله الثواب الجزيل، والأجر الجميل، في الدنيا والآخرة، فإذا آمن أنها من عند الله، فرضي بذلك، وسلم لأمره، هدى الله قلبه، فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب، كما يجري لمن لم يهد الله قلبه، بل يرزقه الثبات عند ورودها والقيام بموجب الصبر، فيحصل له بذلك ثواب عاجل، مع ما يدخر الله له يوم الجزاء من الثواب، كما قال تعالى:{ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10] وعلم من هذا أن من لم يؤمن بالله عند ورود المصائب، بأن لم يلحظ قضاء الله وقدره، بل وقف مع مجرد الأسباب، أنه يخذل، ويكله الله إلى نفسه، وإذا وكل العبد إلى نفسه، فالنفس ليس عندها إلا الجزع والهلع الذي هو عقوبة عاجلة على العبد، قبل عقوبة الآخرة، على ما فرط في واجب الصبر. هذا ما يتعلق بقوله: { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } في مقام المصائب الخاص، وأما ما يتعلق بها من حيث العموم اللفظي، فإن الله أخبر أن كل من آمن أي: الإيمان المأمور به من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وصدق إيمانه بما يقتضيه الإيمان من القيام بلوازمه وواجباته، أن هذا السبب الذي قام به العبد أكبر سبب لهداية الله له في أحواله وأقواله وأفعاله، وفي علمه وعمله. وهذا أفضل جزاء يعطيه الله لأهل الإيمان، كما قال تعالى في الأخبار: أن المؤمنين يثبتهم الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وأصل الثبات: ثبات القلب وصبره، ويقينه عند ورود كل فتنة، فقال:{ يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } [إبراهيم: 27] فأهل الإيمان أهدى الناس قلوباً، وأثبتهم عند المزعجات والمقلقات، وذلك لما معهم من الإيمان. [وقوله:] { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } أي: في امتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فإن طاعة الله وطاعة رسوله، مدار السعادة، وعنوان الفلاح، { فَإِن تَولَّيْتُمْ } [أي] عن طاعة الله وطاعة رسوله، { فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } أي: يبلغكم ما أرسل به إليكم، بلاغاً يبين لكم ويتضح وتقوم به عليكم الحجة، وليس بيده من هدايتكم، ولا من حسابكم من شيء، وإنما يحاسبكم على القيام بطاعة الله وطاعة رسوله، أو عدم ذلك، عالم الغيب والشهادة. { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي: هو المستحق للعبادة والألوهية، فكل معبود سواه فباطل، { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } أي: فيلعتمدوا عليه في كل أمر نابهم، وفيما يريدون القيام به، فإنه لا يتيسر أمر من الأمور إلا بالله، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاعتماد على الله، ولا يتم الاعتماد على الله، حتى يحسن العبد ظنه بربه، ويثق به في كفايته الأمر الذي اعتمد عليه به، وبحسب إيمان العبد يكون توكله، فكلما قوي الإيمان قوي التوكل.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 14 { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }15


هذا تحذير من الله للمؤمنين، من الاغترار بالأزواج والأولاد، فإن بعضهم عدو لكم، والعدو هو الذي يريد لك الشر، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه، والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي، ورغبهم في امتثال أوامره، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإن في ذلك، من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لأن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له، ومن عامل الله فيما يحب، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم، نال محبة الله ومحبة عباده، واستوثق له أمره.

{ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } 16 { إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } 17 { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }18


يأمر تعالى بتقواه، التي هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويقيد ذلك بالاستطاعة والقدرة. فهذه الآية تدل على أن كل واجب عجز عنه العبد، أنه يسقط عنه، وأنه إذا قدر على بعض المأمور وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما يعجز عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ". ويدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع، ما لا يدخل تحت الحصر، وقوله: { وَٱسْمَعُواْ } أي: اسمعوا ما يعظكم الله به، وما يشرعه لكم من الأحكام، واعلموا ذلك وانقادوا له، { وَأَطِيعُواْ } الله ورسوله في جميع أموركم، { وَأَنْفِقُواْ } من النفقات الشرعية الواجبة والمستحبة، يكن ذلك الفعل منكم خيراً لكم في الدنيا والآخرة، فإن الخير كله في امتثال أوامر الله تعالى، وقبول نصائحه، والانقياد لشرعه، والشر كله، في مخالفة ذلك. ولكن ثمَّ آفة تمنع كثيراً من الناس، من النفقة المأمور بها، وهو الشح المجبولة عليه أكثر النفوس، فإنها تشح بالمال، وتحب وجوده، وتكره خروجه من اليد غاية الكراهة. فمن وقاه الله شرّ شح نفسه بأن سمحت نفسه بالإنفاق النافع لها { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } لأنهم أدركوا المطلوب، ونجوا من المرهوب، بل لعل ذلك شامل لكل ما أمر به العبد، ونهي عنه، فإنه إن كانت نفسه شحيحة، لا تنقاد لما أمرت به، ولا تخرج ما قِبلها، لم يفلح، بل خسر الدنيا والآخرة، وإن كانت نفسه نفساً سمحة مطمئنة منشرحة لشرع الله، طالبة لمرضاة الله، فإنها ليس بينها وبين فعل ما كلفت به إلا العلم به، ووصول معرفته إليها، والبصيرة بأنه مُرضٍ لله تعالى، وبذلك تفلح وتنجح وتفوز كل الفوز. ثم رغّب تعالى في النفقة، فقال: { إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } وهو كل نفقة كانت من الحلال، إذا قصد بها العبد وجه الله تعالى وطلب مرضاته، ووضعها في موضعها { يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } النفقة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. { وَ } مع المضاعفة أيضاً { يَغْفِرْ لَكُمْ } بسبب الإنفاق والصدقة ذنوبكم، فإن الذنوب يكفرها الله بالصدقات والحسنات:{ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [هود: 114]. { وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } حليم لا يعاجل من عصاه، بل يمهله ولا يهمله،{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } [فاطر: 45]. والله تعالى شكور يقبل من عباده اليسير من العمل، ويجازيهم عليه الكثير من الأجر، ويشكر تعالى لمن تحمل من أجله المشاق والأثقال، وناء بالتكاليف الثقال، ومن ترك شيئاً لله، عوضه الله خيراً منه. { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي: ما غاب عن العباد من الجنود التي لا يعلمها إلا هو، وما يشاهدونه من المخلوقات، { ٱلْعَزِيزُ } الذي لا يغالب ولا يمانع، الذي قهر كل الأشياء، { ٱلْحَكِيمُ } في خلقه وأمره، الذي يضع الأشياء مواضعها.

ابوالوليد المسلم
29-08-2020, 04:56 AM
الحلقة (596)
تفسير السعدى
(سورة الطلاق)
من (1)الى (5)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الطلاق
{ يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } 1 { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } 2 { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }3


يقول تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين: { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } أي: أردتم طلاقهن { فـَ } التمسوا لطلاقهن الأمر المشروع، ولا تبادروا بالطلاق من حين يوجد سببه، من غير مراعاة لأمر الله. بل { طَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أي: لأجل عدتهن، بأن يطلقها زوجها وهي طاهر، في طهر لم يجامعها فيه، فهذا الطلاق هو الذي تكون العدة فيه واضحة بينة، بخلاف ما لو طلقها وهي حائض، فإنها لا تحتسب تلك الحيضة التي وقع فيها الطلاق، وتطول عليها العدة بسبب ذلك، وكذلك لو طلقها في طهر وطئ فيه، فإنه لا يؤمن حملها، فلا يتبين و [لا] يتضح بأي عدة تعتد، وأمر تعالى بإحصاء العدة، أي: ضبطها بالحيض إن كانت تحيض، أو بالأشهر إن لم تكن تحيض، وليست حاملاً فإن في إحصائها أداء لحق الله، وحق الزوج المطلق، وحق من سيتزوجها بَعْدُ، [وحقها في النفقة ونحوها] فإذا ضبطت عدتها، علمت حالها على بصيرة، وعلم ما يترتب عليها من الحقوق، وما لها منها، وهذا الأمر بإحصاء العدة، يتوجه [للزوج]، وللمرأة، إن كانت مكلفة، وإلا فلوَليِّها، وقوله: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ } أي: في جميع أموركم، وخافوه في حق الزوجات المطلقات، فـ { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } مدة العدة، بل يلزمن بيوتهن الذي طلقها زوجها وهي فيها. { وَلاَ يَخْرُجْنَ } أي: لا يجوز لهن الخروج منها، أما النهي عن إخراجها، فلأن المسكن يجب على الزوج للزوجة، لتكمل فيه عدتها التي هي حق من حقوقه. وأما النهي عن خروجها، فلما في خروجها، من إضاعة حق الزوج وعدم صونه. ويستمر هذا النهي عن الخروج من البيوت، والإخراج إلى تمام العدة. { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } أي: بأمر قبيح واضح، موجب لإخراجها، بحيث يدخل على أهل البيت الضرر من عدم إخراجها، كالأذى بالأقوال والأفعال الفاحشة، ففي هذه الحال يجوز لهم إخراجها، لأنها هي التي تسببت لإخراج نفسها، والإسكان فيه جبر لخاطرها، ورفق بها، فهي التي أدخلت الضرر على نفسها، وهذا في المعتدة الرجعية، وأما البائن، فليس لها سكنى واجبة، لأن السكن تبع للنفقة، والنفقة تجب للرجعية دون البائن، { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } [أي:] التي حددها لعباده وشرعها لهم، وأمرهم بلزومها والوقوف معها، { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ } بأن لم يقف معها، بل تجاوزها، أو قصر عنها، { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي: بخسها حظها، وأضاع نصيبه من اتباع حدود الله التي هي الصلاح في الدنيا والآخرة. { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } أي: شرع الله العدة، وحدد الطلاق بها، لحكم عظيمة: فمنها: أنه لعل الله يحدث في قلب المطلق الرحمة والمودة، فيراجع من طلقها، ويستأنف عشرتها، فيتمكن من ذلك مدة العدة، أو لعله يطلقها لسبب منها، فيزول ذلك السبب في مدة العدة، فيراجعها لانتفاء سبب الطلاق.
ومن الحكم: أنها مدة التربص، يعلم براءة رحمها من زوجها. وقوله: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي: إذا قاربن انقضاء العدة، لأنهن لو خرجن من العدة، لم يكن الزوج مخيراً بين الإمساك والفراق. { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي: على وجه المعاشرة [الحسنة]، والصحبة الجميلة، لا على وجه الضرار، وإرادة الشر والحبس، فإن إمساكها على هذا الوجه، لا يجوز، { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي: فراقاً لا محذور فيه، من غير تشاتم ولا تخاصم، ولا قهر لها على أخذ شيء من مالها. { وَأَشْهِدُواْ } على طلاقها ورجعتها { ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } أي: رجلين مسلمين عدلين، لأن في الإشهاد المذكور سداً لباب المخاصمة، وكتمان كل منهما ما يلزمه بيانه. { وَأَقِيمُواْ } أيها الشهداء { ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ } أي: ائتوا بها على وجهها، من غير زيادة ولا نقص، واقصدوا بإقامتها وجه الله وحده، ولا تراعوا بها قريباً لقرابته، ولا صاحباً لمحبته، { ذَلِكُمْ } الذي ذكرنا لكم من الأحكام والحدود { يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } فإن من يؤمن بالله واليوم الآخر، يوجب له ذلك أن يتعظ بمواعظ الله، وأن يقدم لآخرته من الأعمال الصالحة ما تمكن منها، بخلاف من ترحل الإيمان عن قلبه، فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من الشر، ولا يعظم مواعظ الله لعدم الموجب لذلك، ولما كان الطلاق قد يوقع في الضيق والكرب والغم، أمر تعالى بتقواه، وأن من اتقاه في الطلاق وغيره، فإن الله يجعل له فرجاً ومخرجاً. فإذا أراد العبد الطلاق، ففعله على الوجه الشرعي، بأن أوقعه طلقة واحدة، في غير حيض ولا طهر قد وطئ فيه، فإنه لا يضيق عليه الأمر، بل جعل الله له فرجاً وسعة يتمكن بها من مراجعة النكاح، إذا ندم على الطلاق، والآية، وإن كانت في سياق الطلاق والرجعة، فإن العبرة بعموم اللفظ، فكل من اتقى الله تعالى، ولازم مرضاة الله في جميع أحواله، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة. ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجاً ومخرجاً من كل شدة ومشقة، وكما أن من اتقى الله جعل له فرجاً ومخرجاً، فمن لم يتق الله، وقع في الشدائد والآصار والأغلال، التي لا يقدر على التخلص منها والخروج من تبعتها، واعتبر ذلك بالطلاق، فإن العبد إذا لم يتق الله فيه، بل أوقعه على الوجه المحرم، كالثلاث ونحوها، فإنه لا بد أن يندم ندامة لا يتمكن من استدراكها والخروج منها. وقوله { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } أي: يسوق الله الرزق للمتقي، من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به. { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } أي: في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل ذلك { فَهُوَ حَسْبُهُ } أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي [العزيز] الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له، فلهذا قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } أي: لا بدّ من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } أي: وقتاً ومقداراً، لا يتعداه ولا يقصر عنه.
{ وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } 4 { ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً }5


لما ذكر تعالى أن الطلاق المأمور به يكون لعدة النساء، ذكر تعالى العدة، فقال: { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ } بأن كن يحضن، ثم ارتفع حيضهن، لكبر أو غيره، ولم يُرْجَ رجوعه، فإن عدتها ثلاثة أشهر، جعل لكل شهر، مقابلة حيضة. { وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } أي: الصغار اللائي لم يأتهن الحيض بَعْدُ، و البالغات اللاتي لم يأتهن حيض بالكلية، فإنهن كالآيسات، عدتهن ثلاثة أشهر، وأما اللائي يحضن، فذكر الله عدتهن في قوله:{ وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } [البقرة: 228] [وقوله:] { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } أي: عدتهن { أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } أي: جميع ما في بطونهن، من واحد، ومتعدد، ولا عبرة حينئذ بالأشهر ولا غيرها، { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } أي: من اتقى الله تعالى، يسَّر له الأمور، وسَّهل عليه كل عسير { ذَلِكَ } [أي:] الحكم الذي بيّنه الله لكم { أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } لتمشوا عليه، [وتأتموا] وتقوموا به وتعظموه. { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } أي: يندفع عنه المحذور، ويحصل له المطلوب.

ابوالوليد المسلم
29-08-2020, 04:57 AM
الحلقة (597)
تفسير السعدى
(سورة الطلاق)
من (6)الى (12)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الطلاق
{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ } 6 { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً }7


تقدم أن الله نهى عن إخراج المطلقات عن البيوت، وهنا أمر بإسكانهن، وقدر الإسكان بالمعررف، وهو البيت الذي يسكنه مثله ومثلها، بحسب وُجد الزوج وعسره، { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ } أي: لا تضاروهن عند سكناهن بالقول أو الفعل، لأجل أن يمللن، فيخرجن من البيوت قبل تمام العدة، فتكونوا أنتم المخرجين لهن، وحاصل هذا أنه نهى عن إخراجهن، ونهاهن عن الخروج، وأمر بسكناهن، على وجه لا يحصل عليهن ضرر ولا مشقة، وذلك راجع إلى العرف، { وَإِن كُنَّ } أي: المطلقات { أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وذلك لأجل الحمل الذي في بطنها، إن كانت بائناً، ولها ولحملها إن كانت رجعية، ومنتهى النفقة حتى يضعن حملهن، فإذا وضعن حملهن، فإما أن يرضعن أولادهن أو لا، { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } المسماة لهن، إن كان مسمى، وإلا فأجر المثل، { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } أي: وليأمر كل واحد من الزوجين ومن غيرهما الآخر بالمعروف، وهو كل ما فيه منفعة ومصلحة في الدنيا والآخرة، فإن الغفلة عن الائتمار بالمعروف، يحصل فيه من الشر والضرر، ما لا يعلمه إلا الله، وفي الائتمار تعاون على البر والتقوى، ومما يناسب هذا المقام، أن الزوجين عند الفراق وقت العدة، خصوصاً إذا ولد لهما ولد في الغالب يحصل من التنازع والتشاجر لأجل النفقة عليها وعلى الولد مع الفراق، الذي في الغالب ما يصدر إلا عن بغضٍ، ويتأثر منه البغض شيء كثير. فكل منهما يؤمر بالمعروف، والمعاشرة الحسنة، وعدم المشاقة والمخاصمة، وينصح على ذلك. { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ } بأن لم يتفقوا على إرضاعها لولدها، فلترضع له أُخرى غيرها{ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ } [البقرة: 233] وهذا حيث كان الولد يقبل ثَدي غير أمه، فإن لم يقبل إلا ثدي أمه، تعينت لإرضاعه، ووجب عليها، وأجبرت إن امتنعت، وكان لها أجرة المثل إن لم يتفقا على مسمى، وهذا مأخوذ من الآية الكريمة من حيث المعنى، فإن الولد لما كان في بطن أمه مدة الحمل، ليس له خروج منه، عيَّن تعالى على وليه النفقة، فلما ولد، وكان يمكن أن يتقوت من أمه ومن غيرها، أباح تعالى الأمرين، فإذا كان بحالة لا يمكن أن يتقوت إلا من أمه كان بمنزلة الحمل، وتعينت أمه طريقاً لقوته، ثم قدر تعالى النفقة، بحسب حال الزوج، فقال: { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } أي: لينفق الغني من غناه، فلا ينفق نفقة الفقراء. { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } أي: ضيق عليه { فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ } من الرزق. { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا } وهذا مناسب للحكمة والرحمة الإلهية حيث جعل كلاًّ بحسبه، وخفف عن المعسر، وأنه لا يكلفه إلا ما آتاه، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، في باب النفقة وغيرها. { سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } وهذه بشارة للمعسرين، أن الله تعالى سيزيل عنهم الشدة، ويرفع عنهم المشقة،{ فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً } [الشرح: 5-6].
{ وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً } 8 { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } 9 { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً } 10 { رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً }11


يخبر تعالى عن إهلاكه الأمم العاتية، والقرون المكذبة للرسل أن كثرتهم وقوتهم، لم تنفعهم شيئاً، حين جاءهم الحساب الشديد، والعذاب الأليم، وأن الله أذاقهم من العذاب ما هو موجب أعمالهم السيئة، ومع عذاب الدنيا، فإن الله أعد لهم في الآخرة عذاباً شديداً، { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } أي: يا ذوي العقول، التي تفهم عن الله آياته وعبره، وأن الذي أهلك القرون الماضية بتكذيبهم، أن من بعدهم مثلهم، لا فرق بين الطائفتين، ثم ذكر عباده المؤمنين بما أنزل عليهم من كتابه، الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ليخرج الخلق من ظلمات الكفر والجهل والمعصية، إلى نور العلم والإيمان والطاعة، فمن الناس من آمن به، ومنهم من لم يؤمن [به]، { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً } من الواجبات والمستحبات. { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } فيها من النعيم المقيم، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً } [أي:] ومن لم يؤمن بالله ورسوله، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً }12


[ثم] أخبر [تعالى] أنه خلق الخلق من السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن، وما بينهن، وأنزل الأمر، وهو الشرائع والأحكام الدينية التي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد ووعظهم، وكذلك الأوامر الكونية والقدرية التي يدبر بها الخلق، كل ذلك لأجل أن يعرفه العباد ويعلموا إحاطة قدرته بالأشياء كلها، وإحاطة علمه بجميع الأشياء فإذا عرفوه بأوصافه المقدسة وأسمائه الحسنى، وعبدوه وأحبوه وقاموا بحقه، فهذه الغاية المقصودة من الخلق والأمر معرفة الله وعبادته، فقام بذلك الموفقون من عباد الله الصالحين، وأعرض عن ذلك الظالمون المعرضون.

ابوالوليد المسلم
29-08-2020, 04:58 AM
الحلقة (598)
تفسير السعدى
(سورة التحريم)
من (1)الى (8)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة التحريم
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 1 { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } 2 { وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } 3 { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } 4 { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً }5


هذا عتاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حين حرم على نفسه سريته " مارية " أو شُرب العسل، مراعاة لخاطر بعض زوجاته، في قصة معروفة، فأنزل الله [تعالى] هذه الآيات { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ } أي: يا أيها الذي أنعم الله عليه بالنبوة والوحي والرسالة { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } من الطيبات التي أنعم الله بها عليك وعلى أمتك. { تَبْتَغِي } بذلك التحريم { مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هذا تصريح بأن الله قد غفر لرسوله، ورفع عنه اللوم، ورحمه، وصار ذلك التحريم الصادر منه سبباً لشرع حكم عام لجميع الأمة، فقال تعالى حاكماً حكماً عاماً في جميع الأيمان: { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } أي: قد شرع لكم، وقدر ما به تنحل أيمانكم قبل الحنث، وما به الكفارة بعد الحنث، وذلك كما في قوله تعالى:{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ } [المائدة: 87] إلى أن قال:{ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } [المائدة: 89]. فكل من حرّم حلالاً عليه، من طعام أو شراب أو سرية، أو حلف يميناً بالله، على فعل أو ترك، ثم حنث أو أراد الحنث، فعليه هذه الكفارة المذكورة، وقوله: { وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ } أي: متولي أموركم، ومربيكم أحسن تربية، في أمور دينكم ودنياكم، وما به يندفع عنكم الشر، فلذلك فرض لكم تحلة أيمانكم، لتبرأ ذممكم، { وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } الذي أحاط علمه بظواهركم وبواطنكم، وهو الحكيم في جميع ما خلقه وحكم به، فلذلك شرع لكم من الأحكام، ما يعلم أنه موافق لمصالحكم، ومناسب لأحوالكم. [وقوله:] { وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً } قال كثير من المفسرين: هي حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، أسرَّ لها النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً، وأمر أن لا تخبر به أحداً، فحدثت به عائشة رضي الله عنهما، وأخبره الله بذلك الخبر الذي أذاعته، فعرَّفها صلى الله عليه وسلم ببعض ما قالت، وأعرض عن بعضه، كرماً منه صلى الله عليه وسلم وحلماً، فـ { قَالَتْ } له: { مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا } الخبر الذي لم يخرج منّا؟ { قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } الذي لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى، [وقوله:] { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } الخطاب للزوجتين الكريمتين من أزواجه صلى الله عليه وسلم عائشة وحفصة رضي الله عنهما، كانتا سبباً لتحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ما يحبه، فعرض الله عليهما التوبة، وعاتبهما على ذلك، وأخبرهما أن قلوبهما قد صغت أي: مالت وانحرفت عما ينبغي لهن، من الورع والأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم واحترامه، وأن لا يشققن عليه، { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } أي: تعاونا على ما يشق عليه، ويستمر هذا الأمر منكن، { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } أي: الجميع أعوان للرسول، مظاهرون، ومن كان هؤلاء أعوانه، فهو المنصور، وغيره ممن يناوئه مخذول، وفي هذا أكبر فضيلة وشرف لسيد المرسلين، حيث جعل الباري نفسه [الكريمة]، وخواص خلقه، أعواناً لهذا الرسول الكريم.
وهذا فيه من التحذير للزوجتين الكريمتين ما لا يخفى، ثم خوفهما أيضاً بحالة تشق على النساء غاية المشقة، وهو الطلاق، الذي هو أكبر شيء عليهن، فقال: { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } أي: فلا ترفعن عليه، فإنه لو طلقكن، لم يضق عليه الأمر، ولم يكن مضطراً إليكن، فإنه سيلقى، ويبدله الله أزواجاً خيراً منكن، ديناً وجمالاً، وهذا من باب التعليق الذي لم يوجد، ولا يلزم وجوده، فإنه ما طلقهن، ولو طلقهن، لكان ما ذكره الله من هذه الأزواج الفاضلات، الجامعات بين الإسلام، وهو القيام بالشرائع الظاهرة، والإيمان، وهو: القيام بالشرائع الباطنة، من العقائد وأعمال القلوب. القنوت هو دوام الطاعة واستمرارها، { تَائِبَاتٍ } عما يكرهه الله، فوصفهن بالقيام بما يحبه الله، والتوبة عما يكرهه الله، { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } أي: بعضهن ثيب، وبعضهن أبكار، ليتنوع صلى الله عليه وسلم فيما يحب، فلما سمعن - رضي الله عنهن - هذا التخويف والتأديب، بادرن إلى رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الوصف منطبقاً عليهن، فصرن أفضل نساء المؤمنين، وفي هذا دليل على أن الله لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أكمل الأحوال وأعلى الأمور، فلما اختار الله لرسوله بقاء نسائه المذكورات معه دلّ على أنهنّ خير النساء وأكملهن.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }6


أي: يا من مَنَّ الله عليهم بالإيمان، قوموا بلوازمه وشروطه. فـ { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } موصوفة بهذه الأوصاف الفظيعة، ووقاية الأنفس بإلزامها أمر الله، والقيام بأمره امتثالاً، ونهيه اجتناباً، والتوبة عما يسخط الله ويوجب العذاب، ووقاية الأهل [والأولاد]، بتأديبهم وتعليمهم، وإجبارهم على أمر الله، فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه، وفيما يدخل تحت ولايته من الزوجات والأولاد وغيرهم ممن هو تحت ولايته وتصرفه. ووصف الله النار بهذه الأوصاف، ليزجر عباده عن التهاون بأمره، فقال: { وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } كما قال تعالى:{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98]. { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ } أي: غليظة أخلاقهم، عظيم انتهارهم، يفزعون بأصواتهم ويخيفون بمرآهم، ويهينون أصحاب النار بقوتهم، ويمتثلون فيهم أمر الله، الذي حتَّم عليهم العذاب وأوجب عليهم شدة العقاب، { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وهذا فيه أيضاً مدح للملائكة الكرام، وانقيادهم لأمر الله، وطاعتهم له في كل ما أمرهم به.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }7


أي: يوبخ أهل النار يوم القيامة بهذا التوبيخ، فيقال لهم: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ ٱلْيَوْمَ } [أي:] فإنه ذهب وقت الاعتذار، وزال نفعه، فلم يبق الآن إلا الجزاء على الأعمال، وأنتم لم تقدموا إلا الكفر بالله، والتكذيب بآياته، ومحاربة رسله وأوليائه.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }8


قد أمر الله بالتوبة النصوح في هذه الآية، ووعد عليها بتكفير السيئات، ودخول الجنات، والفوز والفلاح، حين يسعى المؤمنون يوم القيامة بنور إيمانهم، ويمشون بضيائه، ويتمتعون بروحه وراحته، ويشفقون إذا طفئت الأنوار، التي لا تعطى المنافقين، ويسألون الله، أن يتمم لهم نورهم، فيستجيب الله دعوتهم، ويوصلهم ما معهم من النور واليقين، إلى جنات النعيم، وجوار الرب الكريم، وكل هذا من آثار التوبة النصوح. والمراد بها: التوبة العامة الشاملة للذنوب كلها، التي عقدها العبد لله، لا يريد بها إلا وجهه والقرب منه، ويستمر عليها في جميع أحواله.

ابوالوليد المسلم
29-08-2020, 04:59 AM
الحلقة (599)
تفسير السعدى
(سورة التحريم)
من (9)الى (12)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة التحريم
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }9


يأمر [الله] تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين، والإغلاظ عليهم في ذلك، وهذا شامل لجهادهم بإقامة الحجة [عليهم ودعوتهم] بالموعظة الحسنة، وإبطال ما هم عليه من أنواع الضلال، وجهادهم بالسلاح والقتال لمن أبى أن يجيب دعوة الله وينقاد لحكمه، فإن هذا يجاهد ويغلظ له، وأما المرتبة الأولى، فتكون بالتي هي أحسن، فالكفار والمنافقون لهم عذاب في الدنيا، بتسليط الله لرسوله وحزبه [عليهم و] على جهادهم وقتالهم، وعذاب النار في الآخرة وبئس المصير، الذي يصير إليها كل شقي خاسر.

{ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ } 10 { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } 11 { وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ }12


هذان المثلان اللذان ضربهما الله للمؤمنين والكافرين، ليبين لهم أن اتصال الكافر بالمؤمن وقربه منه لا يفيده شيئاً، وأن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئاً مع قيامه بالواجب عليه. فكأن في ذلك إشارة وتحذيراً لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم عن المعصية، وأن اتصالهن به صلى الله عليه وسلم لا ينفعهن شيئاً مع الإساءة، فقال: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا } أي: المرأتان { تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ } وهما نوح ولوط عليهما السلام. { فَخَانَتَاهُمَا } في الدين، بأن كانتا على غير دين زوجيهما، وهذا هو المراد بالخيانة، لا خيانة النسب والفراش، فإنه ما بغت امرأة نبي قط، وما كان الله ليجعل امرأة أحد من أنبيائه بغياً، { فَلَمْ يُغْنِيَا } أي: نوح ولوط { عَنْهُمَا } أي: عن امرأتيهما { مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ } لهما { ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ }. { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ } وهي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها، { إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } فوصفها الله بالإيمان والتضرع لربها، وسؤالها لربها أجل المطالب، وهو دخول الجنة، ومجاورة الرب الكريم، وسؤالها أن ينجيها الله من فتنة فرعون وأعماله الخبيثة، ومن فتنة كل ظالم، فاستجاب الله لها، فعاشت في إيمان كامل، وثبات تام، ونجاة من الفتن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء، إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ". [وقوله:] { وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي: صانته وحفظته عن الفاحشة، لكمال ديانتها، وعفتها، ونزاهتها. { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } بأن نفخ جبريل [عليه السلام] في جيب درعها، فوصلت نفخته إلى مريم، فجاء منها عيسى ابن مريم [عليه السلام]، الرسول الكريم والسيد العظيم. { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } وهذا وصف لها بالعلم والمعرفة، فإن التصديق بكلمات الله، يشمل كلماته الدينية والقدرية، والتصديق بكتبه، يقتضي معرفة ما به يحصل التصديق، ولا يكون ذلك إلا بالعلم والعمل، [ولهذا قال] { وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ } أي: المطيعين لله، المداومين على طاعته بخشية وخشوع، وهذا وصف لها بكمال العمل، فإنها رضي الله عنها صديقة، والصديقية: هي كمال العلم والعمل.
سورة تبارك
{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } 1 { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } 2 { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } 3 { ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ }4


{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } أي: تعاظم وتعالى، وكثر خيره، وعم إحسانه، من عظمته أن بيده ملك العالم العلوي والسفلي، فهو الذي خلقه، ويتصرف فيه بما شاء، من الأحكام القدرية، والأحكام الدينية، التابعة لحكمته، ومن عظمته، كمال قدرته التي يقدر بها على كل شيء، وبها أوجد ما أوجد من المخلوقات العظيمة، كالسماوات والأرض. وخلق الموت والحياة أي: قدر لعباده أن يحييهم ثم يميتهم { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي: أخلصه وأصوبه، فإن الله خلق عباده، وأخرجهم لهذه الدار، وأخبرهم أنهم سينقلون منها، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره، فمن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء في الدارين، ومن مال مع شهوات النفس، ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء. { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الذي له العزّة كلها، التي قهر بها جميع الأشياء، وانقادت له المخلوقات. { ٱلْغَفُورُ } عن المسيئين والمقصرين والمذنبين، خصوصاً إذا تابوا وأنابوا، فإنه يغفر ذنوبهم، ولو بلغت عنان السماء، ويستر عيوبهم، ولو كانت ملء الدنيا، { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } أي: كل واحدة فوق الأخرى، ولسن طبقة واحدة، وخلقها في غاية الحسن والإتقان، { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } أي: خلل ونقص. وإذا انتفى النقص من كل وجه، صارت حسنة كاملة، متناسبة من كل وجه، في لونها وهيئتها وارتفاعها، وما فيها من الشمس والقمر والكواكب النيرات، الثوابت منهن والسيارات. ولما كان كمالها معلوماً، أمر [الله] تعالى بتكرار النظر إليها والتأمل في أرجائها، قال: { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ } أي: أعده إليها، ناظراً معتبراً { هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } أي: نقص واختلال، { ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } المراد بذلك: كثرة التكرار { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } أي: عاجزاً عن أن يرى خللاً أو فطوراً، ولو حرص غاية الحرص. ثم صرح بذكر حسنها، فقال: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً... }.
{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ } 5 { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } 6 { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ } 7 { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } 8 { قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } 9 { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ }10


أي: ولقد جمّلنا { ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا } التي ترونها وتليكم، { بِمَصَٰبِيحَ } وهي النجوم، على اختلافها في النور والضياء، فإنه لولا ما فيها من النجوم، لكانت سقفاً مظلماً، لا حسن فيه ولا جمال. ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء، [وجمالاً]، ونوراً وهداية يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ولا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح، أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع، فإن السماوات شفافة، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا، وإن لم تكن الكواكب فيها، { وَجَعَلْنَٰهَا } أي: المصابيح { رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ } الذين يريدون استراق خبر السماء، فجعل الله هذه النجوم حراسة للسماء عن تلقف الشياطين أخبار الأرض، فهذه الشهب التي ترمى من النجوم، أعدها الله في الدنيا للشياطين، { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } في الآخرة { عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ } لأنهم تمردوا على الله، وأضلوا عباده، ولهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم، قد أعد الله لهم عذاب السعير، فلهذا قال: { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } الذي يهان أهله غاية الهوان، { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا } على وجه الإهانة والذل { سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً } أي: صوتاً عالياً فظيعاً، { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } أي: تكاد على اجتماعها أن يفارق بعضها بعضاً، وتتقطع من شدة غيظها على الكفار، فما ظنك ما تفعل بهم، إذا حصلوا فيها؟!! ثم ذكر توبيخ الخزنة لأهلها، فقال: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ }؟ أي: حالكم هذا واستحقاقكم النار، كأنكم لم تخبروا عنها، ولم تحذركم النذر منها، { قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } فجمعوا بين تكذيبهم الخاص، والتكذيب العام بكل ما أنزل الله ولم يكفهم ذلك، حتى أعلنوا بضلال الرسل المنذرين وهم الهداة المهتدون، ولم يكتفوا بمجرد الضلال، بل جعلوا ضلالهم، ضلالاً كبيراً، فأيُّ عناد وتكبُّر وظلم، يشبه هذا؟ { وَقَالُواْ } معترفين بعدم أهليتهم للهدى والرشاد: { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } فنفوا عن أنفسهم طرق الهدى، وهي السمع لما أنزل الله، وجاءت به الرسل، والعقل الذي ينفع صاحبه، ويوقفه على حقائق الأشياء، وإيثار الخير، والانزجار عن كل ما عاقبته ذميمة، فلا سمع [لهم] ولا عقل، وهذا بخلاف أهل اليقين والعرفان، وأرباب الصدق والإيمان، فإنهم أيدوا إيمانهم بالأدلة السمعية، فسمعوا ما جاء من عند الله، وجاء به رسول الله علماً ومعرفةً وعملاً. والأدلة العقلية: المعرفة للهدى من الضلال، والحسن من القبيح، والخير من الشر، وهم - في الإيمان - بحسب ما منَّ الله عليهم به من الاقتداء بالمعقول والمنقول، فسبحان من يختص بفضله من يشاء، ويمن على من يشاء من عباده، ويخذل من لا يصلح للخير. قال تعالى عن هؤلاء الداخلين للنار، المعترفين بظلمهم وعنادهم: { فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً... }.

ابوالوليد المسلم
29-08-2020, 05:00 AM
الحلقة (600)
تفسير السعدى
(سورة تبارك)
من (11)الى (19)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة تبارك

{ فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ }11


أي: بُعْداً لهم وخسارة وشقاء. فما أشقاهم وأرداهم، حيث فاتهم ثواب الله، وكانوا ملازمين للسعير، التي تستعر في أبدانهم، وتطلع على أفئدتهم!

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }12


لما ذكر حالة الأشقياء الفجار، ذكر حالة السعداء الأبرار فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ } أي: في جميع أحوالهم، حتى في الحالة التي لا يطلع عليهم فيها إلا الله، فلا يقدمون على معاصيه، ولا يقصرون فيما أمر به، { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم، وإذا غفر الله ذنوبهم، وقاهم شرها، ووقاهم عذاب الجحيم، ولهم أجر كبير وهو ما أعده لهم في الجنة، من النعيم المقيم، والملك الكبير، واللذات [المتواصلات] والمشتهيات، والقصور [والمنازل] العاليات، والحور الحسان، والخدم والولدان. وأعظم من ذلك وأكبر رضا الرحمن، الذي يحله الله على أهل الجنان.
{ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }13 { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }14


هذا إخبار من الله بسعة علمه، وشمول لطفه، فقال: { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ } أي: كلها سواء لديه، لا يخفى عليه منها خافية، فـ { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي: بما فيها من النيات، والإرادات، فكيف بالأقوال والأفعال، التي تسمع وترى؟! ثم قال - مستدلاً بدليل عقلي على علمه -: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه، كيف لا يعلمه؟! { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } الذي لطف علمه وخبره، حتى أدرك السرائر والضمائر، والخبايا [والخفايا والغيوب]، وهو الذي{ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى } [طه: 7] ومن معاني اللطيف، أنه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من [العبد] على بال، حتى إنه يذيقه المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة.
{ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ }15


أي: هو الذي سخر لكم الأرض وذللها، لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم، من غرس وبناء وحرث، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية والبلدان الشاسعة، { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا } أي: لطلب الرزق والمكاسب. { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } أي: بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحاناً، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة، تبعثون بعد موتكم، وتحشرون إلى الله، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة.
{ ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } 16 { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } 17 { وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ }18


هذا تهديد ووعيد لمن استمر في طغيانه وتعدِّيه، وعصيانه الموجب للنكال وحلول العقوبة، فقال: { ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ } وهو الله تعالى، العالي على خلقه. { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } بكم وتضطرب، حتى تتلفكم وتهلككم. { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } أي: عذاباً من السماء يحصبكم، وينتقم الله منكم { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } أي: كيف يأتيكم ما أنذرتكم به الرسل والكتب، فلا تحسبوا أن أمنَكُم من الله أن يعاقبكم بعقاب من الأرض ومن السماء ينفعكم، فستجدون عاقبة أمركم، سواء طال عليكم الزمان أو قصر، فإن من قبلكم، كذبوا كما كذبتم، فأهلكهم الله تعالى، فانظروا كيف إنكار الله عليهم، عاجلهم بالعقوبة الدنيوية قبل عقوبة الآخرة، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم.
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }19


وهذا عتاب وحث على النظر إلى حالة الطير التي سخرها الله، وسخر لها الجو والهواء، تصف فيه أجنحتها للطيران، وتقبضها للوقوع، فتظل سابحة في الجو، مترددة فيه بحسب إرادتها وحاجتها. { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } فإنه الذي سخر لهن الجو، وجعل أجسادهن وخلقتهن في حالة مستعدة للطيران، فمن نظر في حالة الطير واعتبر فيها، دلته على قدرة الباري وعنايته الربانية، وأنه الواحد الأحد، الذي لا تنبغي العبادة إلا له، { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } فهو المدبر لعباده بما يليق بهم، وتقتضيه حكمته.

ابوالوليد المسلم
02-09-2020, 05:33 AM
الحلقة (601)
تفسير السعدى
(سورة تبارك)
من (20)الى (30)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة تبارك

{ أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ } 20 { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ }21


يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره، المعرضين عن الحق: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } أي: ينصركم إذا أراد بكم الرحمن سوءاً، فيدفعه عنكم؟ أي: من الذي ينصركم على أعدائكم غير الرحمن؟ فإنه تعالى هو الناصر المعز المذل، وغيره من الخلق لو اجتمعوا على نصر عبد، لم ينفعوه مثقال ذرة، على أيّ عدوٍّ كان، فاستمرار الكافرين على كفرهم، بعد أن علموا أنه لا ينصرهم أحد من دون الرحمن، غرور وسَفَهٌ. { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } أي: الرزق كله من الله، فلو أمسك عنكم رزقه، فمن الذي يرسله لكم؟ فإن الخلق لا يقدرون على رزق أنفسهم، فكيف بغيرهم؟ فالرزاق المنعم، الذي لا يصيب العباد نعمة إلا منه، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، ولكن الكافرون { لَّجُّواْ } أي: استمروا { فِي عُتُوٍّ } أي: قسوة وعدم لين للحق { وَنُفُورٍ } أي: شرود عن الحق.
{ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }22


أي: أيُّ الرجلين أهدى؟ من كان تائهاً في الضلال، غارقاً في الكفر قد انتكس قلبه، فصار الحق عنده باطلاً، والباطل حقاً؟ ومن كان عالماً بالحق، مؤثراً له، عاملاً به، يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله وجميع أحواله؟ فبمجرد النظر إلى حال هذين الرجلين، يعلم الفرق بينهما، والمهتدي من الضال منهما، والأحوال أكبر شاهد من الأقوال.

{ قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } 23 { قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } 24 { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 25 { قُلْ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }26


يقول تعالى - مبيناً أنه المعبود وحده، وداعياً عباده إلى شكره، وإفراده بالعبادة -: { قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ } أي: أوجدكم من العدم، من غير معاون له ولا مظاهر، ولما أنشأكم، كمل لكم الوجود بالسمع والأبصار والأفئدة، التي هي أنفع أعضاء البدن، وأكمل القوى الجسمانية، ولكنه مع هذا الإنعام { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } الله، قليل منكم الشاكر، وقليل منكم الشكر. { قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي: بثكم في أقطارها، وأسكنكم في أرجائها، وأمركم، ونهاكم، وأسدى عليكم من النعم، ما به تنتفعون، ثم بعد ذلك يحشركم ليوم القيامة، ولكن هذا الوعد بالجزاء، ينكره هؤلاء المعاندون { وَيَقُولُونَ } تكذيباً: { مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } جعلوا علامة صدقهم أن يخبروا بوقت مجيئه، وهذا ظلم وعناد، فإنما العلم عند الله لا عند أحد من الخلق، ولا ملازمة بين صدق هذا الخبر وبين الإخبار بوقته، فإن الصدق يعرف بأدلته، وقد أقام الله من الأدلة والبراهين على صحته ما لا يبقى معه أدنى شك لمن ألقى السمع وهو شهيد.

{ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } 27 { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } 28 { قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } 29 { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ }30


يعني أن محل تكذيب الكفار وغرورهم به حين كانوا في الدنيا، فإذا كان يوم الجزاء، ورأوا العذاب منهم { زُلْفَةً } أي: قريباً، ساءهم ذلك وأفظعهم، وقلقل أفئدتهم، فتغيرت لذلك وجوههم، ووبخوا على تكذيبهم، وقيل لهم هذا الذي كنتم به تكذبون، فاليوم رأيتموه عياناً، وانجلى لكم الأمر، وتقطعت بكم الأسباب ولم يبق إلا مباشرة العذاب. ولما كان المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم، [الذين] يردون دعوته، ينتظرون هلاكه، ويتربصون به ريب المنون، أمره الله أن يقول لهم: أنتم وإن حصلت لكم أمانيكم، وأهلكني الله ومن معي، فليس ذلك بنافع لكم شيئاً، لأنكم كفرتم بآيات الله، واستحقيتم العذاب، فمن يجيركم من عذاب أليم قد تحتّم وقوعه بكم؟ فإذاً، تعبكم وحرصكم على هلاكي غير مفيد، ولا مجد عنكم شيئاً. ومن قولهم، إنهم على هدى، والرسول على ضلال، أعادوا في ذلك وأبدوا، وجادلوا عليه وقاتلوا، فأمر الله نبيه أن يخبر عن حاله وحال أتباعه، ما به يتبين لكل أحد هداهم وتقواهم، وهو أن يقولوا: { آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } والإيمان يشمل التصديق الباطن، والأعمال الباطنة والظاهرة، ولما كانت الأعمال، وجودها وكمالها، متوقفةٌ على التوكل، خص الله التوكل من بين سائر الأعمال، وإلا فهو داخل في الإيمان، ومن جملة لوازمه كما قال تعالى:{ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة: 23] فإذا كانت هذه حال الرسول وحال من اتبعه، وهي الحال التي تتعين للفلاح، وتتوقف عليها السعادة، وحالة أعدائه بضدها، فلا إيمان [لهم] ولا توكل، علم بذلك من هو على هدى، ومن هو في ضلال مبين. ثم أخبر عن انفراده بالنعم، خصوصاً بالماء الذي جعل الله منه كل شيء حيٍّ، فقال: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } أي: غائراً { فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } تشربون منه، وتسقون أنعامكم وأشجاركم وزروعكم؟ وهذا استفهام بمعنى النفي أي: لا يقدر أحد على ذلك غير الله تعالى.

ابوالوليد المسلم
02-09-2020, 05:34 AM
الحلقة (602)
تفسير السعدى
(سورة القلم)
من (1)الى (16)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القلم
{ نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } 1 { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } 2 { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } 3 { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } 4 { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } 5 { بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } 6 { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ }7


يقسم تعالى بالقلم، وهو اسم جنس شامل للأقلام، التي تكتب بها [أنواع] العلوم، ويسطر بها المنثور والمنظوم، وذلك أن القلم وما يسطرون به من أنواع الكلام، من آيات الله العظيمة، التي تستحق أن يقسم الله بها، على براءة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مما نسبه إليه أعداؤه من الجنون، فنفى عنه الجنون، بنعمة ربه عليه وإحسانه، حيث منَّ عليه بالعقل الكامل، والرأي الجزل، والكلام الفصل، الذي هو أحسن ما جرت به الأقلام، وسطره الأنام، وهذا هو السعادة في الدنيا، ثم ذكر سعادته في الآخرة، فقال: { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً } أي: عظيماً، كما يفيده التنكير، { غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي: [غير] مقطوع، بل هو دائم مستمر، وذلك لما أسلفه النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكاملة، ولهذا قال: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } أي: عالياً به، مستعلياً بخلقك الذي منَّ الله عليك به، وحاصل خلقه العظيم، ما فسرته به أم المؤمنين [عائشة - رضي الله عنها -] لمن سألها عنه، فقالت: " كان خلقه القرآن " ، وذلك نحو قوله تعالى له:{ خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } [الأعراف: 199]{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } [الآية] [آل عمران: 159]،{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128] وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، و[الآيات] الحاثَّات على الخلق العظيم، فكان له منها أكملها وأجلها، وهو في كل خصلة منها، في الذروة العليا، فكان صلى الله عليه وسلم سهلاً ليناً، قريباً من الناس، مجيباً لدعوة من دعاه، قاضياً لحاجة من استقضاه، جابراً لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائباً، وإذا أراد أصحابه منه أمراً وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليساً له إلا أتم عشرة وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بِشْرَهُ، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلى عشيره غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم. فلما أنزله الله في أعلى المنازل من جميع الوجوه، وكان أعداؤه ينسبون إليه أنه مجنون مفتون، قال: { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } وقد تبين أنه أهدى الناس، وأكملهم لنفسه ولغيره، وأن أعداءه أضل الناس، [وشر الناس] للناس، وأنهم هم الذين فتنوا عباد الله، وأضلوهم عن سبيله، وكفى بعلم الله بذلك، فإنه هو المحاسب المجازي. و { هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } وهذا فيه تهديد للضالين، ووعد للمهتدين، وبيان لحكمة الله، حيث كان يهدي من يصلح للهداية، دون غيره.

{ فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } 8 { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } 9 { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } 10 { هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ } 11 { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } 12 { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } 13 { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } 14 { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } 15 { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ }16


يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } الذين كذبوك وعاندوا الحق، فإنهم ليسوا أهلاً لأن يطاعوا، لأنهم لا يأمرون إلا بما يوافق أهواءهم، وهم لا يريدون إلا الباطل، فالمطيع لهم مُقْدِمٌ على ما يضره، وهذا عام في كل مكذب، وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب، وإن كان السياق في شيء خاص، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم، ويسكتوا عنه، ولهذا قال: { وَدُّواْ } أي: المشركون { لَوْ تُدْهِنُ } أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه، { فَيُدْهِنُونَ } ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره بنقض ما يضاده، وعيب ما يناقضه، { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ } أي: كثير الحلف، فإنه لا يكون كذلك إلا وهو كذاب، ولا يكون كذاباً إلا وهو { مَّهِينٍ } أي: خسيس النفس، ناقص الهمة، ليس له همةٌ في الخير، بل إرادته في شهوات نفسه الخسيسة. { هَمَّازٍ } أي: كثير العيب [للناس] والطعن فيهم، بالغيبة والاستهزاء، وغير ذلك. { مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ } أي: يمشي بين الناس بالنميمة، وهي: نقل كلام بعض الناس لبعض، لقصد الإفساد بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء، { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } الذي يلزمه القيام به من النفقات الواجبة والكفارات والزكوات وغير ذلك، { مُعْتَدٍ } على الخلق في ظلمهم، في الدماء والأموال والأعراض { أَثِيمٍ } أي: كثير الإثم والذنوب المتعلقة في حق الله تعالى { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ } أي: غليظ شرس الخلق قاس غير منقاد للحق { زَنِيمٍ } أي: دَعِيٍّ، ليس له أصل و [لا] مادة ينتج منها الخير، بل أخلاقه أقبح الأخلاق، ولا يرجى منه فلاح، له زنمة أي: علامة في الشر يعرف بها. وحاصل هذا، أن الله تعالى نهى عن طاعة كل حلاف كذاب، خسيس النفس، سيئ الأخلاق، خصوصاً الأخلاق المتضمنة للإعجاب بالنفس، والتكبر على الحق وعلى الخلق، والاحتقار للناس، كالغيبة والنميمة، والطعن فيهم، وكثرة المعاصي. وهذه الآيات - وإن كانت نزلت في بعض المشركين، كالوليد بن المغيرة أو غيره، لقوله عنه: { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: لأجل كثرة ماله وولده، طغى واستكبر عن الحق، ودفعه حين جاءه، وجعله من جملة أساطير الأولين، التي يمكن صدقها وكذبها- فإنها عامة في كل من اتصف بهذا الوصف، لأن القرآن نزل لهداية الخلق كلهم، ويدخل فيه أول الأمة وآخرهم، وربما نزل بعض الآيات في سبب أو في شخص من الأشخاص، لتتضح به القاعدة العامة، ويعرف به أمثال الجزئيات الداخلة في القضايا العامة. ثم توعد تعالى من جرى منه ما وصف الله، بأن الله سيسمه على خرطومه في العذاب، وليعذبه عذاباً ظاهراً، يكون عليه سمة وعلامة، في أشق الأشياء عليه، وهو وجهه.

ابوالوليد المسلم
02-09-2020, 05:34 AM
الحلقة (603)
تفسير السعدى
(سورة القلم)
من (17)الى (41)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القلم
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } 17 { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } 18 { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } 19 { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } 20 { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } 21 { أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } 22 { فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } 23 { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } 24 { وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ } 25 { فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ } 26 { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } 27 { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } 28 { قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } 29 { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } 30 { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } 31 { عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } 32 { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }33


{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } إلى آخر القصة يقول تعال: إنا بلونا هؤلاء المكذبين بالخير وأمهلناهم، وأمددناهم بما شئنا من مال وولد، وطول عمر، ونحو ذلك، مما يوافق أهواءهم، لا لكرامتهم علينا، بل ربما يكون استدراجاً لهم من حيث لا يشعرون، فاغترارهم بذلك نظير اغترار أصحاب الجنة، الذين هم فيها شركاء، حين زهت ثمارها أينعت أشجارها، وآن وقت صرامها، وجزموا أنها في أيديهم، وطوع أمرهم، [وأنه] ليس ثَمَّ مانع يمنعهم منها، ولهذا أقسموا وحلفوا من غير استثناء، أنهم سيصرمونها أي: يجذونها مصبحين، ولم يدروا أن الله بالمرصاد، وأن العذاب سيخلفهم عليها، ويبادرهم إليها. { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ } أي: عذاب نزل عليها ليلاً { وَهُمْ نَآئِمُونَ } فأبادها وأتلفها { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } أي: كالليل المظلم، ذهبت الأشجار والثمار، هذا وهم لا يشعرون بهذا الواقع الملم، ولهذا تنادوا فيما بينهم لما أصبحوا يقول بعضهم لبعض: { أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ فَٱنطَلَقُواْ } قاصدين له { وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } فيما بينهم، ولكن بمنع حق الله، ويقولون: { لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } أي: بكروا قبل انتشار الناس، وتواصوا مع ذلك، بمنع الفقراء والمساكين، ومن شدة حرصهم وبخلهم، أنهم يتخافتون بهذا الكلام مخافتة، خوفاً أن يسمعهم أحد، فيخبر الفقراء. { وَغَدَوْاْ } في هذه الحالة الشنيعة، والقسوة، وعدم الرحمة { عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ } أي: على إمساك ومنع لحق الله، جازمين بقدرتهم عليها، { فَلَمَّا رَأَوْهَا } على الوصف الذي ذكر الله كالصريم، { قَالُوۤاْ } من الحيرة والانزعاج. { إِنَّا لَضَآلُّونَ } [أي: تائهون] عنها، لعلها غيرها، فلما تحققوها، ورجعت إليهم عقولهم قالوا: { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } منها، فعرفوا حينئذ أنه عقوبة، فـ { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } أي: أعدلهم وأحسنهم طريقة { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } أي: تنزهون الله عما لا يليق به، ومن ذلك، ظنكم أن قدرتكم مستقلة، فلولا استثنيتم فقلتم: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " وجعلتم مشيئتكم تابعة لمشيئتة الله، لما جرى عليكم ما جرى، فقالوا { سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي: استدركوا بعد ذلك، ولكن بعد ما وقع العذاب على جنتهم، الذي لا يرفع، ولكن لعل تسبيحهم هذا، وإقرارهم على أنفسهم بالظلم، ينفعهم في تخفيف الإثم ويكون توبة، ولهذا ندموا ندامة عظيمة، { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } فيما أجروه وفعلوه، { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي: متجاوزين للحد في حق الله وحق عباده، { عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } فهم رجوا الله أن يبدلهم خيراً منها، ووعدوا أنهم سيرغبون إلى الله، ويلحون عليه في الدنيا، فإن كانوا كما قالوا، فالظاهر أن الله أبدلهم في الدنيا خيراً منها، لأن من دعا الله صادقاً، ورغب إليه ورجاه، أعطاه سُؤْلَه. قال تعالى مبيناً ما وقع: { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ } [أي:] الدنيوي لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلب الله العبد الشيء الذي طغى به وبغى، وآثر الحياة الدنيا، وأن يزيله عنه، أحوج ما يكون إليه. { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ } من عذاب الدنيا { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } فإن من علم ذلك، أوجب له الانزجار عن كل سبب يوجب العذاب ويحل العقاب.
{ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } 34 { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } 35 { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } 36 { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ } 37 { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } 38 { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } 39 { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } 40 { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ }41


يخبر تعالى بما أعده للمتقين للكفر والمعاصي، من أنواع النعيم والعيش السليم في جوار أكرم الأكرمين، وأن حكمته تعالى لا تقتضي أن يجعل المسلمين القانتين لربهم، المنقادين لأوامره، المتبعين لمراضيه كالمجرمين الذين أوضعوا في معاصيه، والكفر بآياته، ومعاندة رسله، ومحاربة أوليائه، وأن من ظن أنه يسويهم في الثواب، فإنه قد أساء الحكم، وأن حكمه حكمٌ باطل، ورأيه فاسد، وأن المجرمين إذا ادعوا ذلك، فليس لهم مستند، لا كتاب فيه يدرسون [ويتلون] أنهم من أهل الجنة، وأن لهم ما طلبوا وتخيروا. وليس لهم عند الله عهد ويمين بالغة إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون، وليس لهم شركاء وأعوان على إدراك ما طلبوا، فإن كان لهم شركاء وأعوان فليأتوا بهم إن كانوا صادقين، ومن المعلوم أن جميع ذلك منتفٍ، فليس لهم كتاب، ولا لهم عهد عند الله في النجاة، ولا لهم شركاء يعينونهم، فعلم أن دعواهم باطلة فاسدة، وقوله: { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } أي: أيهم الكفيل بهذه الدعوى الفاسدة، فإنه لا يمكن التصدر بها، ولا الزعامة فيها.

ابوالوليد المسلم
02-09-2020, 05:35 AM
الحلقة (604)
تفسير السعدى
(سورة القلم)
من (42)الى (52)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القلم
{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } 42 { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَٰلِمُونَ }43


أي: إذا كان يوم القيامة، وانكشف فيه من القلاقل [والزلازل] والأهوال ما لا يدخل تحت الوهم، وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم، فكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته ما لا يمكن التعبير عنه، فحينئذ يدعون إلى السجود لله، فيسجد المؤمنون الذين كانوا يسجدون لله، طوعاً واختياراً، ويذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فلا يقدرون على السجود، وتكون ظهورهم كصياصي البقر، لا يستطيعون الانحناء، وهذا الجزاء ما جنس عملهم، فإنهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود لله وتوحيده وعبادته وهم سالمون، لا علة فيهم، فيستكبرون عن ذلك ويأبون، فلا تسأل يومئذ عن حالهم وسوء مآلهم، فإن الله قد سخط عليهم، وحقت عليهم كلمة العذاب، وتقطعت أسبابهم، ولم تنفعهم الندامة ولا الاعتذار يوم القيامة، ففي هذا ما يزعج القلوب عن المقام على المعاصي، و[يوجب] التدارك مدة الإمكان. ولهذا قال تعالى: { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ... }.
{ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } 44 { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } 45 { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } 46 { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } 47 { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } 48 { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } 49 { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } 50 { وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } 51 { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ }52


أي: دعني والمكذبين بالقرآن العظيم، فإن عليَّ جزاءهم، ولا تستعجل لهم، فـ { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } فنمدهم بالأموال والأولاد، ونمدهم في الأرزاق والأعمال، ليغتروا ويستمروا على ما يضرهم، فإن وهذا من كيد الله لهم، وكيد الله لأعدائه، متين قوي، يبلغ من ضررهم وعذابهم فوق كل مبلغ. { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } أي: ليس لنفورهم عنك، وعدم تصديقهم لما جئت به ، سبب يوجب لهم ذلك، فإنك تعلمهم، وتدعوهم إلى الله، لمحض مصلحتهم، من غير أن تطلبهم من أموالهم مغرماً يثقل عليهم. { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ما كان عندهم من الغيوب، وقد وجدوا فيها أنهم على حق، وأن لهم الثواب عند الله، فهذا أمر ما كان، وإنما كانت حالهم حال معاند ظالم. فلم يبق إلا الصبر لأذاهم، والتحمل لما يصدر منهم، والاستمرار على دعوتهم، ولهذا قال: { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي: لما حكم به شرعاً وقدراً، فالحكم القدري، يصبر على المؤذي منه، ولا يُتَلَقَّى بالسخط والجزع، والحكم الشرعي، يقابل بالقبول والتسليم، والانقياد التام لأمره. وقوله: { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } وهو يونس بن متى، عليه الصلاة والسلام أي: ولا تشابهه في الحال التي أوصلته، وأوجبت له الانحباس في بطن الحوت، وهو عدم صبره على قومه الصبر المطلوب منه، وذهابه مغاضباً لربه، حتى ركب في البحر، فاقترع أهل السفينة حين ثقلت بأهلها أيهم يلقون لكي تخف بهم، فوقعت القرعة عليه فالتقمه الحوت وهو مليم، [وقوله] { إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } أي: وهو في بطنها قد كظمت عليه، أو نادى وهو مغتمٌّ مهتم، بأن قال:{ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87] فاستجاب الله له، وقذفته الحوت من بطنها بالعراء وهو سقيم، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، ولهذا قال هنا: { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ } أي: لطرح في العراء، وهي الأرض الخالية { وَهُوَ مَذْمُومٌ } ولكن الله تغمده برحمته، فنبذ وهو ممدوح، وصارت حاله أحسن من حاله الأولى، ولهذا قال: { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ } أي: اختاره واصطفاه ونقاه من كل كدر،. { فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي: الذين صلحت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم، [وأحوالهم] فامتثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فصبر لحكم ربه صبراً لا يدركه فيه أحد من العالمين. فجعل الله له العاقبة{ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف: 128] ولم يدرك أعداؤه فيه إلا ما يسوؤهم، حتى إنهم حرصوا على أن يزلقوه بأبصارهم أي: يصيبوه بأعينهم، من حسدهم وغيظهم وحنقهم، هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعليّ، والله حافظه وناصره، وأما الأذى القولي، فيقولون فيه أقوالاً، بحسب ما توحي إليهم قلوبهم، فيقولون تارة " مجنون " ، وتارة " ساحر " ، وتارة " شاعر ". قال تعالى { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أي: وما هذا القرآن الكريم، والذكر الحكيم، إلا ذكر للعالمين، يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم.

ابوالوليد المسلم
02-09-2020, 05:36 AM
الحلقة (605)
تفسير السعدى
(سورة القلم)
من (1)الى (19)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القلم

{ ٱلْحَاقَّةُ } 1 { مَا ٱلْحَآقَّةُ } 2 { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ } 3 { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ } 4 { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } 5 { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } 6 { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } 7 { فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ }8


{ ٱلْحَاقَّةُ } من أسماء يوم القيامة، لأنها تحق وتنزل بالخلق، وتظهر فيها حقائق الأمور، ومخبآت الصدور، فعظم تعالى شأنها وفخمه، بما كرّره من قوله: { ٱلْحَاقَّةُ * مَا ٱلْحَآقَّةُ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ } فإن لها شأناً عظيماً، وهولاً جسيماً، [ومن عظمتها أن الله أهلك الأمم المكذبة بها بالعذاب العاجل]، ثم ذكر نموذجاً من أحوالها الموجودة في الدنيا المشاهدة فيها، وهو ما أحله من العقوبات البليغة بالأمم العاتية، فقال: { كَذَّبَتْ ثَمُودُ } وهم القبيلة المشهورة، سكان الحجر، الذين أرسل الله إليهم رسوله صالحاً عليه السلام، ينهاهم عما هم عليه من الشرك، ويأمرهم بالتوحيد، فردوا دعوته وكذبوه، وكذبوا ما أخبرهم به من يوم القيامة، وهي القارعة التي تقرع الخلق بأهوالها، وكذلك عاد الأولى، سكان حضرموت، حين بعث الله إليهم رسوله هوداً عليه الصلاة والسلام، يدعوهم إلى عبادة الله [وحده]، فكذبوه، وكذبوا بما أخبر به من البعث، فأهلك الله الطائفتين بالهلاك المعجل { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } وهي الصيحة العظيمة الفظيعة، التي انصدعت منها قلوبهم، وزهقت لها أرواحهم فأصبحوا موتى لا يُرى إلا مساكنهم وجثثهم، { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } أي: قوية شديدة الهبوب لها صوت أبلغ من صوت الرعد [القاصف]، { عَاتِيَةٍ } [أي: ] عتت على خزانها، على قول كثير من المفسرين، أو عتت على عاد، وزادت على الحد كما هو الصحيح، { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } أي: نحساً وشراً فظيعاً عليهم، فدمرتهم وأهلكتهم، { فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ } أي: هلكى موتى { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } أي: كأنهم جذوع النخل التي قد قطعت رؤوسها الخاوية، الساقط بعضها على بعض، { فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } وهذا استفهام بمعنى النفي المتقرر.
{ وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ } 9 { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } 10 { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ } 11 { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }12


أي: وكذلك غير هاتين الأمتين الطاغيتين، عاد وثمود، جاء غيرهم من الطغاة العتاة، كفرعون مصر، الذي أرسل الله إليه عبده ورسوله موسى [ابن عمران] عليه الصلاة والسلام، وأراه من الآيات البينات، ما تيقنوا بها الحق، ولكن جحدوا وكفروا، ظلماً وعلواً، وجاء من قبله من المكذبين، { وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ } أي: قرى قوم لوط، الجميع جاؤوا { بِالْخَاطِئَةِ } أي: بالفعلة الطاغية، وهي الكفر والتكذيب، والظلم والمعاندة، وما انضم إلى ذلك من أنواع الفواحش والفسوق. { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ } وهذا اسم جنس أي: كل من هؤلاء كذَّبَ الرسول الذي أرسله الله إليهم. فأخذ الله الجميع { أَخْذَةً رَّابِيَةً } أي: زائدة على الحد والمقدار، الذي يحصل به هلاكهم. ومن جملة أولئك، قوم نوح، أغرقهم الله في اليم حين طغى [الماء على وجه] الأرض، وعلا على مواضعها الرفيعة. وامتنَّ الله على الخلق الموجودين بعدهم أن الله حملهم { فِي ٱلْجَارِيَةِ } وهي السفينة في أصلاب آبائهم وأمهاتهم، الذين نجاهم الله، فاحمدوا الله واشكروا الذي نجاكم حين أهلك الطاغين، واعتبروا بآياته الدالة على توحيده، ولهذا قال: { لِنَجْعَلَهَا } أي: الجارية، والمراد جنسها، لكم { تَذْكِرَةً } تذكِّركم أول سفينة صنعت، وما قصتها، وكيف نجى الله عليها من آمن به واتبع رسوله، وأهلك أهل الأرض كلهم، فإن جنس الشيء مذكِّر بأصله. وقوله: { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } أي: تعقلها أولو الألباب، ويعرفون المقصود منها ووجه الآية بها. وهذا بخلاف أهل الإعراض والغفلة، وأهل البلادة وعدم الفطنة، فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات الله، لعدم وعيهم عن الله، وفكرهم بآيات الله.
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } 14 { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } 15 { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } 16 { وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } 17 { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } 18 { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ }19


لما ذكر ما فعله تعالى بالمكذبين لرسله، وكيف جازاهم وعجل لهم العقوبة في الدنيا، وأن الله نجى الرسل وأتباعهم، كان هذا مقدمة لذكر الجزاء الأخروي، وتوفية الأعمال كاملة يوم القيامة، فذكر الأمور الهائلة التي تقع أمام القيامة، وأن أول ذلك أنه ينفخ إسرافيل { فِي ٱلصُّورِ } إذا تكاملت الأجساد نابتة. { نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } فتخرج الأرواح، فتدخل كل روح في جسدها، فإذا الناس قيام لرب العالمين. { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } أي: فتتت الجبال واضمحلت، وخلطت بالأرض، ونسفت على الأرض، فكان الجميع قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً. هذا ما يصنع بالأرض وما عليها، وأما ما يصنع بالسماء، فإنها تضطرب وتمور وتتشقق ويتغير لونها، وتهي بعد تلك الصلابة والقوة العظيمة، وما ذاك إلا لأمر عظيم أزعجها، وكرب جسيم هائل أوهاها وأضعفها. { وَٱلْمَلَكُ } أي: الملائكة الكرام { عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } أي: على جوانب السماء وأركانها، خاضعين لربهم، مستكينين لعظمته. { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } أملاك في غاية القوة، إذا أتى للفصل بين العباد، والقضاء بينهم بعدله وقسطه وفضله، ولهذا قال: { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } على الله { لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } لا من أجسامكم وأجسادكم، ولا من أعمالكم [وصفاتكم]، فإن الله تعالى عالم الغيب والشهادة. ويحشر العباد حفاةً عُراةً غرلاً، في أرض مستوية، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، فحينئذ يجازيهم بما عملوا، ولهذا ذكر كيفية الجزاء، فقال: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ... }.

ابوالوليد المسلم
02-09-2020, 05:37 AM
الحلقة (606)
تفسير السعدى
(سورة القلم)
من (20)الى (52)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القلم
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ } 20 { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } 21 { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } 22 { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } 23 { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } 24 { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ }25


وهؤلاء هم أهل السعادة، يُعْطَوْنَ كتبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم، تمييزاً لهم، وتنويهاً بشأنهم، ورفعاً لمقدارهم، ويقول أحدهم عند ذلك من الفرح والسرور، ومحبة أن يطلع الخلق على ما مَنَّ الله عليه به من الكرامة: { هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ } أي: دونكم كتابي فاقرؤوه فإنه يبشر بالجنات، وأنواع الكرامات، ومغفرة الذنوب، وستر العيوب، والذي أوصلني إلى هذه الحال، ما مَنَّ الله به عليَّ من الإيمان بالبعث والحساب، والاستعداد له، بالممكن من العمل، ولهذا قال: { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } أي: أيقنت، فالظن - هنا - [بمعنى] اليقين، { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أي: جامعة لما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وقد رضوها، ولم يختاروا عليها غيرها. { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } المنازل والقصور، عالية المحل. { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } أي: ثمرها وجناها، من أنواع الفواكه، قريبة، سهلة التناول على أهلها، ينالها أهلها، قياماً وقعوداً ومتكئين، ويقال لهم إكراماً: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } أي: من كل طعام لذيذ، وشراب شَهِيٍّ، { هَنِيئَاً } أي: تاماً كاملاً، من غير مكدر ولا منغص. وذلك الجزاء حصل لكم { بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } من الأعمال الصالحة - وترك الأعمال السيئة- من صلاة، وصيام، وصدقة، وحج، وإحسان إلى الخلق، وذكر لله، وإنابة إليه. فالأعمال جعلها الله سبباً لدخول الجنة، ومادة لنعيمها، وأصلاً لسعادتها.
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ } 26 { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } 27 { يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } 28 { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ } 29 { هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } 30 { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } 31 { ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } 32 { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } 33 { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ } 34 { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } 35 { فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ } 36 { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } 37 { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ }38


هؤلاء أهل الشقاء، يُعْطَوْنَ كتب أعمالهم السيئة بشمالهم تمييزاً لهم وخزياً، وعاراً وفضيحة، فيقول أحدهم من الهم والغم والخزي: { يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ } لأنه يبشر بدخول النار، والخسارة الأبدية، { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } أي: ليتني كنت نسياً منسياً، ولم أبعث وأحاسب ولهذا قال: { يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } أي: يا ليت موتتي هي الموتة التي لا بعث بعدها. ثم التفت إلى ماله وسلطانه، فإذا هو وبال عليه، لم يقدم منه لآخرته، ولم ينفعه في الافتداء من عذاب الله، فيقول: { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ } أي: ما نفعني لا في الدنيا، لم أقدم منه شيئاً، ولا في الآخرة، قد ذهب وقت نفعه. { هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } أي: ذهب واضمحل، فلم تنفع الجنود الكثيرة، ولا العدد الخطيرة، ولا الجاه العريض، بل ذهب ذلك كله أدراج الرياح، وفاتت بسببه المتاجر والأرباح، وحضر بدله الهموم والغموم والأتراح، فحينئذ يؤمر بعذابه فيقال للزبانية الغلاظ الشداد: { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } أي: اجعلوا في عنقه غلاً يخنقه. { ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } أي: قلبوه على جمرها ولهبها، { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً } من سلاسل الجحيم في غاية الحرارة، { فَاسْلُكُوهُ } أي: انظموه فيها بأن تدخل في دبره وتخرج من فمه، ويعلق فيها، فلا يزال يعذب هذا العذاب الفظيع، فبئس العذاب والعقاب، وواحسرة من له التوبيخ والعتاب، فإن السبب الذي أوصله إلى هذا المحل: { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ } بأن كان كافراً بربه، معانداً لرسله، رادّاً ما جاؤوا به من الحق، { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } أي: ليس في قلبه رحمة يرحم بها الفقراء والمساكين، فلا يطعمهم [من ماله]، ولا يحض غيره على إطعامهم، لعدم الوازع في قلبه، وذلك لأن مدار السعادة ومادتها أمران: الإخلاص لله، الذي أصله الإيمان بالله، والإحسان إلى الخلق، بوجوه الإحسان، الذي من أعظمها، دفع ضرورة المحتاجين، بإطعامهم ما يتقوتون به، وهؤلاء لا إخلاص ولا إحسان، فلذلك استحقوا ما استحقوا. { فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا } أي: يوم القيامة { حَمِيمٌ } أي: قريب أو صديق يشفع له، لينجو من عذاب الله، أو يفوز بثواب الله:{ وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ: 23]{ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر: 18]. وليس له طعامٌ إلا من غسلين وهو صديد أهل النار، الذي هو في غاية الحرارة، ونتن الريح، وقبح الطعم ومرارته لا يأكل هذا الطعام الذميم { إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ } الذين أخطؤوا الصراط المستقيم، وسلكوا سبل الجحيم، فلذلك استحقوا العذاب الأليم.
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } 39 { وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } 40 { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } 41 { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } 42 { وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } 43 { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } 44 { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ } 45 { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } 46 { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } 47 { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } 48 { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } 49 { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } 50 { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }51 { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } 52 { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ }52


أقسم تعالى بما يبصر الخلق من جميع الأشياء وما لا يبصرونه، فدخل في ذلك كل الخلق، بل يدخل في ذلك نفسه المقدسة، على صدق الرسول بما جاء به من هذا القرآن الكريم، وأن الرسول الكريم بلغه عن الله تعالى، ونزه الله رسوله عما رماه به أعداؤه، من أنه شاعر أو ساحر، وأن الذي حملهم على ذلك، عدم إيمانهم وتذكرهم، فلو آمنوا وتذكروا، لعلموا ما ينفعهم ويضرهم، ومن ذلك، أن ينظروا في حال محمد صلى الله عليه وسلم، ويرمقوا أوصافه وأخلاقه، لرأوا أمراً مثل الشمس يدلهم على أنه رسول الله حقاً، وأن ما جاء به تنزيل رب العالمين، لا يليق أن يكون قول البشر، بل هو كلام دال على عظمة من تكلم به، وجلالة أوصافه، وكمال تربيته لعباده، وعلوه فوق عباده، وأيضاً، فإن هذا ظن منهم بما لا يليق بالله وحكمته فإنه لو تقول عليه وافترى { بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ } الكاذبة، { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } وهو عرق متصل بالقلب، إذا انقطع، مات منه الإنسان، فلو قدر أن الرسول - حاشا وكلا - تقوَّل على الله، لعاجله بالعقوبة، وأخذه أخذ عزيز مقتدر، لأنه حكيم، على كل شيء قدير، فحكمته تقتضي أن لا يمهل الكاذب عليه، الذي يزعم أن الله أباح له دماء من خالفه وأموالهم، وأنه هو وأتباعه لهم النجاة، ومن خالفه فله الهلاك. فإذا كان الله قد أيد رسوله بالمعجزات، وبرهن على صدق ما جاء به بالآيات البينات، ونصره على أعدائه، ومكنه من نواصيهم، فهو أكبر شهادة منه على رسالته. وقوله: { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } أي: لو أهلكه، ما امتنع هو بنفسه، ولا قدر أحد أن يمنعه من عذاب الله. { وَإِنَّهُ } أي: القرآن الكريم { لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم، فيعرفونها، ويعملون عليها، يذكرهم العقائد الدينية، والأخلاق المرضية، والأحكام الشرعية، فيكونون من العلماء الربانيين، والعباد العارفين، والأئمة المهديين، { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } به، وهذا فيه تهديد ووعيد للمكذبين، فإنه سيعاقبهم على تكذيبهم بالعقوبة البليغة، { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } فإنهم لما كفروا به، ورأوا ما وعدهم به، تحسروا إذ لم يهتدوا به، ولم ينقادوا لأمره، ففاتهم الثواب، وحصلوا على أشد العذاب، وتقطعت بهم الأسباب. { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } أي: أعلى مراتب العلم، فإن أعلى مراتب العلم اليقين وهو العلم الثابت، الذي لا يتزلزل ولا يزول. واليقين مراتبه ثلاثة، كل واحدة أعلى مما قبلها: أولها: علم اليقين، وهو العلم المستفاد من الخبر. ثم عين اليقين، وهو العلم المدرك بحاسة البصر. ثم حق اليقين، وهو العلم المدرك بحاسة الذوق والمباشرة. وهذا القرآن الكريم، بهذا الوصف، فإن ما فيه من العلوم المؤيدة بالبراهين القطعية، وما فيه من الحقائق والمعارف الإيمانية، يحصل به لمن ذاقه حق اليقين. { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } أي: نزهه عما لا يليق بجلاله، وقدّسه بذكر أوصاف جلاله وجماله وكماله.

ابوالوليد المسلم
02-09-2020, 05:37 AM
الحلقة (607)
تفسير السعدى
(سورة المعارج)
من (1)الى (18)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة المعارج
{ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } 1 { لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } 2 { مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ } 3 { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } 4 { فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } 5 { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً } 6 { وَنَرَاهُ قَرِيباً }7


يقول تعالى مبيناً لجهل المعاندين، واستعجالهم لعذاب الله، استهزاءً وتعنتاً وتعجيزاً: { سَأَلَ سَآئِلٌ } أي: دعا داع، واستفتح مستفتح { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ } لاستحقاقهم له بكفرهم وعنادهم { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ ٱللَّهِ } أي: ليس لهذا العذاب الذي استعجل به من استعجل، من متمردي المشركين، أحد يدفعه قبل نزوله، أو يرفعه بعد نزوله، وهذا حين دعا النضر بن الحارث القرشي أو غيره من المشركين، فقال:{ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } إلى آخر الآيات [الأنفال: 32]. فالعذاب لا بدّ أن يقع عليهم من الله، فإما أن يعجل لهم في الدنيا، وإما أن يؤخر عنهم إلى الآخرة، فلو عرفوا الله تعالى، وعرفوا عظمته، وسعة سلطانه وكمال أسمائه وصفاته، لما استعجلوا ولاستسلموا وتأدبوا، ولهذا أخبر تعالى من عظمته ما يضاد أقوالهم القبيحة، فقال: { ذِي ٱلْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ } أي: ذو العلو والجلال والعظمة، والتدبير لسائر الخلق، الذي تعرج إليه الملائكة بما دبرها على تدبيره، وتعرج إليه الروح، وهذا اسم جنس يشمل الأرواح كلها، برَّها وفاجرها، وهذا عند الوفاة، فأما الأبرار، فتعرج أرواحهم إلى الله، فيؤذن لها من سماء إلى سماء، حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله عز وجل، فتُحيِّي ربها وتَسلم عليه، وتحظى بقربه، وتبتهج بالدنو منه، ويحصل لها منه الثناء والإكرام، والبر والإعظام. وأما أرواح الفجار فتعرج، فإذا وصلت إلى السماء استأذنت فلم يؤذن لها، وأعيدت إلى الأرض. ثم ذكر المسافة التي تعرج إلى الله فيها الملائكة والأرواح، وأنها تعرج في يوم بما يسر لها من الأسباب، وأعانها عليه من اللطافة والخفة وسرعة السير، مع أن تلك المسافة على السير المعتاد مقدار خمسين ألف سنة، من ابتداء العروج إلى وصولها، ما حُدَّ لها، وما تنتهي إليه من الملأ الأعلى، فهذا الملك العظيم، والعالم الكبير، علويه وسفليه، جميعه قد تولى خلقه وتدبيره، العليُّ الأعلى، فعلم أحوالهم الظاهرة والباطنة، وعلم مستقرهم ومستودعهم، وأوصلهم من رحمته وبره ورزقه، ما عمهم وشملهم وأجرى عليهم حكمه القدري، وحكمه الشرعي، وحكمه الجزائي. فبؤساً لأقوام جهلوا عظمته، ولم يقدروه حق قدره، فاستعجلوا بالعذاب على وجه التعجيز والامتحان، وسبحان الحليم الذي أمهلهم وما أهملهم، وآذوه فصبر عليهم، وعافاهم ورزقهم. هذا أحد الاحتمالات في تفسير هذه الآية [الكريمة]، فيكون هذا العروج والصعود في الدنيا، لأن السياق الأول يدل على هذا. ويحتمل أن هذا في يوم القيامة، وأن الله تبارك وتعالى يُظْهِرْ لعباده في يوم القيامة، من عظمته وجلاله وكبريائه، ما هو أكبر دليل على معرفته، مما يشاهدونه من عروج الأملاك والأرواح، صاعدة ونازلة، بالتدابير الإلهية، والشؤون في الخليقة.
في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة من طوله وشدته، لكن الله تعالى يخففه على المؤمن. وقوله: { فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } أي: اصبر على دعوتك لقومك صبراً جميلاً، لا تضجّر فيه ولا ملل، بل استمر على أمر الله، وادع عباده إلى توحيده، ولا يمنعك عنهم ما ترى من عدم انقيادهم، وعدم رغبتهم، فإن في الصبر على ذلك خيراً كثيراً، { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } الضمير يعود إلى البعث، الذي يقع فيه عذاب السائلين بالعذاب أي: إن حالهم حال المنكر له، أو الذي غلبت عليه الشقوة والسكرة، حتى تباعد جميع ما أمامه من البعث والنشور، والله يراه قريباً، لأنه رفيق حليم لا يعجل، ويعلم أنه لا بد أن يكون، وكل ما هو آتٍ فهو قريب. ثم ذكر أهوال ذلك اليوم وما يكون فيه، فقال: { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ... }.
{ يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ } 8 { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } 9 { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } 10 { يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ } 11 { وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ } 12 { وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ } 13 { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ } 14 { كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ } 15 { نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ } 16 { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ } 17 { وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ }18


أي: { يَوْمَ } القيامة، تقع فيه هذه الأمور العظيمة فـ { تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ } وهو الرصاص المذاب، من تشققها، وبلوغ الهول منها كل مبلغ. { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } وهو الصوف المنفوش، ثم تكون بعد ذاك هباءً منثوراً فتضمحل، فإذا كان هذا القلق والانزعاج لهذه الأجرام الكبيرة الشديدة، فما ظنك بالعبد الضعيف الذي قد أثقل ظهره بالذنوب والأوزار؟ أليس حقيقاً، أن ينخلع قلبه وينزعج لبه، ويذهل عن كل أحد؟ ولهذا قال: { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ } أي: يشاهد الحميم، وهو القريب حميمه، فلا يبقى في قلبه متسع لسؤال حميمه عن حاله، ولا فيما يتعلق بعشرتهم ومودتهم، ولا يهمه إلا نفسه. { يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ } الذي حق عليه العذاب { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ } أي: زوجته { وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ } أي: قرابته { ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ } أي: التي جرت عادتها في الدنيا أن تتناصر ويعين بعضها بعضاً، ففي يوم القيامة، لا ينفع أحد أحداً، ولا يشفع أحد إلا بإذن الله. بل لو يفتدي [المجرم المستحق للعذاب] بجميع ما في الأرضِ ثم ينجيه لم ينفعه ذلك. { كَلاَّ } أي: لا حيلة ولا مناص لهم، قد حقت عليهم كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون، وذهب نفع الأقارب والأصدقاء. { إِنَّهَا لَظَىٰ * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ } أي: للأعضاء الظاهرة والباطنة من شدة عذابها. { تَدْعُواْ } إليها { مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ * وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ } أي: أدبر عن اتباع الحق وأعرض عنه، فليس له فيه غرض، وجمع الأموال بعضها فوق بعض وأوعاها، فلم ينفق منها، فإن النار تدعوهم إلى نفسها، وتستعد للالتهاب بهم.

ابوالوليد المسلم
02-09-2020, 05:38 AM
الحلقة (608)
تفسير السعدى
(سورة المعارج)
من (19)الى (44)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة المعارج
{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } 19 { إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } 20 { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } 21 { إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } 22 { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } 23 { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } 24 { لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } 25 { وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } 26 { وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } 27 { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } 28 { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } 29 { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } 30 { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } 31 { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } 32 { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } 33 { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } 34 { أُوْلَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ }35


وهذا الوصف للإنسان من حيث هو وصف طبيعته الأصلية، أنه هلوع. وفسر الهلوع بأنه: { إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } فيجزع إن أصابه فقر أو مرض، أو ذهاب محبوب له، من مال أو أهل أو ولد، ولا يستعمل في ذلك الصبر والرضا بما قضى الله، { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } فلا ينفق مما آتاه الله، ولا يشكر الله على نعمه وبره، فيجزع في الضراء، ويمنع في السراء. { إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } الموصوفين بتلك الأوصاف، فإنهم إذا مسهم الخير شكروا الله، وأنفقوا مما خولهم الله، وإذا مسهم الشر صبروا واحتسبوا. وقوله [في وصفهم] { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } أي: مداومون عليها في أوقاتها بشروطها ومكملاتها. وليسوا كمن لا يفعلها، أو يفعلها وقتاً دون وقت، أو يفعلها على وجه ناقص. { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } من زكاة وصدقة { لِّلسَّآئِلِ } الذي يتعرض للسؤال، { وَٱلْمَحْرُومِ } وهو المسكين الذي لا يسأل الناس فيعطوه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه. { وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } أي: يؤمنون بما أخبر الله به، وأخبرت به رسله، من الجزاء والبعث، ويتيقنون ذلك، فيستعدون للآخرة، ويسعون لها سعيها. والتصديق بيوم الدين، يلزم منه التصديق بالرسل، وبما جاؤوا به من الكتب. { وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } أي: خائفون وجلون، فيتركون لذلك كل ما يقربهم من عذاب الله. { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } أي: هو العذاب الذي يخشى ويحذر. { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } فلا يطؤون بها وطأً محرماً، من زنى أو لواطٍ، أو وطءٍ في دبر، أو حيض، ونحو ذلك، ويحفظونها أيضاً من النظر إليها ومسها، ممن لا يجوز له ذلك، ويتركون أيضاً، وسائل المحرمات الداعية لفعل الفاحشة. { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي: سرياتهم { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } في وطئهن، في المحل الذي هو محل الحرث، { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَلِكَ } أي: غير الزوجة وملك اليمين، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } أي: المتجاوزون ما أحل الله إلى ما حرم الله، ودلّت هذه الآية على تحريم [نكاح] المتعة، لكونها غير زوجة مقصودة، ولا ملك يمين. { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي: مراعون لها، حافظون مجتهدون على أدائها والوفاء بها، وهذا شامل لجميع الأمانات التي بين العبد وبين ربه، كالتكاليف السرية، التي لا يطلع عليها إلا الله، والأمانات التي بين العبد وبين الخلق، في الأموال والأسرار، وكذلك العهد، شامل للعهد الذي عاهد عليه الله، والعهد الذي عاهد عليه الخلق، فإن العهد يسأل عنه العبد، هل قام به ووفاه، أم رفضه وخانه فلم يقم به؟ { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } أي: لا يشهدون إلا بما يعلمونه، من غير زيادة ولا نقص ولا كتمان، ولا يحابي فيها قريباً ولا صديقاً ونحوه، ويكون القصد بها وجه الله.
قال تعالى:{ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ } [الطلاق: 2]{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [النساء: 135]. { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } بمداومتها على أكمل وجوهها، { أُوْلَـٰئِكَ } أي: الموصوفون بتلك الصفات { فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } أي: قد أوصل الله لهم من الكرامة والنعيم المقيم ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون. وحاصل هذا، أن الله وصف أهل السعادة والخير بهذه الأوصاف الكاملة، والأخلاق الفاضلة، من العبادات البدنية، كالصلاة، والمداومة عليها، والأعمال القلبية، كخشية الله الداعية لكل خير، والعبادات المالية، والعقائد النافعة، والأخلاق الفاضلة، ومعاملة الله، ومعاملة خلقه، أحسن معاملة من إنصافهم، وحفظ عهودهم وأسرارهم، والعفة التامة بحفظ الفروج عما يكره الله تعالى.

{ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } 36 { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } 37 { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } 38 { كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ }39


يقول تعالى، مبيناً اغترار الكافرين: { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } أي: مسرعين. { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } أي: قطعاً متفرقة وجماعات متوزعة، كل منهم بما لديه فرح. { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } بأي: سببٍ أطمعهم، وهم لم يقدموا سوى الكفر، والجحود برب العالمين، ولهذا قال: { كَلاَّ } [أي:] ليس الأمر بأمانيهم ولا إدراك ما يشتهون بقوتهم. { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } أي: من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، فهم ضعفاء، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
{ فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ } 40 { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } 41 { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } 42 { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } 43 { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ }44


هذا إقسام منه تعالى بالمشارق والمغارب، للشمس والقمر والكواكب، لما فيها من الآيات الباهرات على البعث، وقدرته على تبديل أمثالهم، وهم بأعيانهم، كما قال تعالى:{ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الواقعة: 61]. { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي: ما أحد يسبقنا ويفوتنا ويعجزنا إذا أردنا أن نعيده. فإذا تقرر البعث والجزاء، واستمروا على تكذيبهم، وعدم انقيادهم لآيات الله { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } أي: يخوضوا بالأقوال الباطلة، والعقائد الفاسدة، ويلعبوا بدينهم، ويأكلوا ويشربوا، ويتمتعوا { حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } فإن الله قد أعد لهم فيه من النكال والوبال ما هو عاقبة خوضهم ولعبهم. ثم ذكر حال الخلق حين يلاقون يومهم الذي يوعدون، فقال: { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ } أي: القبور، { سِرَاعاً } مجيبين لدعوة الداعي، مهطعين إليها { كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } أي: [كأنهم إلى عَلَم] يؤمون ويسرعون أي: فلا يتمكنون من الاستعصاء للداعي، والالتواء لنداء المنادي، بل يأتون أذلاء مقهورين للقيام، بين يدي رب العالمين. { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } وذلك أن الذلة والقلق قد ملك قلوبهم، واستولى على أفئدتهم، فخشعت منهم الأبصار، وسكنت منهم الحركات، وانقطعت الأصوات. فهذه الحال والمآل، هو يومهم { ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } ولا بد من الوفاء بوعد الله [تمت والحمد لله].

ابوالوليد المسلم
02-09-2020, 05:39 AM
الحلقة (609)
تفسير السعدى
(سورة نوح)
من (1)الى (28)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة نوح
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 1 { قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } 2 { أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } 3 { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } 4 { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } 5 { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } 6 { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } 7 { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } 8 { ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } 9 { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } 10 { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } 11 { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } 12 { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } 13 { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } 14 { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } 15 { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } 16 { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } 17 { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } 18 { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً } 19 { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } 20 { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } 21 { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } 22 { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } 23 { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } 24 { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } 25 { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } 26 { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } 27 { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً }28


{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } إلى آخر السورة لم يذكر الله في هذه السورة سوى قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه، وتكرار دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، فأخبر تعالى أنه أرسله إلى قومه، رحمةً بهم وإنذاراً لهم من عذاب الله الأليم، خوفاً من استمرارهم على كفرهم، فيهلكهم الله هلاكاً أبدياً، ويعذبهم عذاباً سرمدياً، فامتثل نوح عليه السلام لذلك، وابتدر لأمر الله، فقال: { يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي: واضح النذارة بيّنها، وذلك لتوضيحه ما أنذر به وما أنذر عنه، وبأي: شيء تحصل النجاة، بيّن جميع ذلك بياناً شافياً، فأخبرهم وأمرهم بزبدة ما يأمرهم به، فقال: { أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ } وذلك بإفراده تعالى بالتوحيد والعبادة، والبعد عن الشرك وطرقه ووسائله، فإنهم إذا اتقوا الله غفر ذنوبهم، وإذا غفر ذنوبهم، حصل لهم النجاة من العذاب، والفوز بالثواب، { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي: يمتعكم في هذه الدار، ويدفع عنكم الهلاك إلى أجل مسمى أي: مقدرٍ [البقاء في الدنيا] بقضاء الله وقدره [إلى وقت محدود]، وليس المتاع أبداً، فإن الموت لا بدّ منه، ولهذا قال: { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } لما كفرتم بالله، وعاندتم الحق، فلم يجيبوا لدعوته، ولا انقادوا لأمره، فقال شاكياً لربه: { رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } أي: نفوراً عن الحق وإعراضاً، فلم يبق لذلك فائدة، لأن فائدة الدعوة أن يحصل جميع المقصود أو بعضه، { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } أي: لأجل أن يستجيبوا، فإذا استجابوا، غفرت لهم، فكان هذا محض مصلحتهم، ولكنهم أبوا إلا تمادياً على باطلهم، ونفوراً عن الحق، { جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ } حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه السلام، { وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } أي: تغطوا بها غطاء يغشاهم، بعداً عن الحق وبغضاً له، { وَأَصَرُّواْ } على كفرهم وشرهم، { وَٱسْتَكْبَرُواْ } على الحق { ٱسْتِكْبَاراً } فشرُّهم ازداد، وخيرهم بَعُدَ. { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } أي: بمسمع منهم كلهم { ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } كل هذا حرص ونصح، وإتيانهم بكل باب يظن أن يحصل منه المقصود، { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أي: اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب، واستغفروا الله منها. { إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } كثير المغفرة لمن تاب واستغفر، فرغبهم بمغفرة الذنوب، وما يترتب عليها من حصول الثواب، واندفاع العقاب. ورغَّبهم أيضاً بخير الدنيا العاجل، فقال: { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } أي: مطراً متتابعاً، يروي الشعاب والوهاد، ويحيي البلاد والعباد. { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } أي: يكثر أموالكم التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا وأولادكم، { وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها.
{ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } أي: لا تخافون لله عظمة، وليس لله عندكم قدر. { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } أي: خلقاً [من] بعد خلق، في بطن الأم، ثم في الرضاع، ثم في سن الطفولية، ثم التمييز، ثم الشباب، إلى آخر ما وصل إليه الخلق، فالذي انفرد بالخلق والتدبير البديع، متعين أن يفرد بالعبادة والتوحيد، وفي ذكر ابتداء خلقهم تنبيه لهم على الإقرار بالمعاد، وأن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن يعيدهم بعد موتهم. واستدل أيضاً عليهم بخلق السماوات التي هي أكبر من خلق الناس، فقال: { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } أي: كل سماء فوق الأخرى، { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } لأهل الأرض { وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً }. ففيه تنبيه على عظم خلق هذه الأشياء، وكثرة المنافع في الشمس والقمر الدالة على رحمته وسعة إحسانه، فالعظيم الرحيم، يستحق أن يعظم ويحب ويعبد ويخاف ويرجى، { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } حين خلق أباكم آدم وأنتم في صلبه. { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } عند الموت { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } للبعث والنشور، فهو الذي يملك الحياة والموت والنشور، { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً } أي: مبسوطة مهيأة للانتفاع بها، { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } فلولا أنه بسطها، لما أمكن ذلك، بل ولا أمكنهم حرثها وغرسها وزرعها، والبناء، والسكون على ظهرها. { قَالَ نُوحٌ } شاكياً لربه: إن هذا الكلام والوعظ والتذكير ما نجع فيهم ولا أفاد. { إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } فيما أمرتهم به { وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } أي: عصوا الرسول الناصح الدال على الخير، واتبعوا الملأ والأشراف الذين لم تزدهم أموالهم ولا أولادهم إلا خساراً أي: هلاكاً وتفويتاً للأرباح، فكيف بمن انقاد لهم وأطاعهم؟! { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } أي: مكراً كبيراً بليغاً في معاندة الحق. { وَقَالُواْ } لهم داعين إلى الشرك مزينين له: { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } فدعوهم إلى التعصب على ما هم عليه من الشرك، وأن لا يدعوا ما عليه آباؤهم الأقدمون، ثم عينوا آلهتهم فقالوا: { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } وهذه أسماء رجال صالحين، لما ماتوا، زين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم، لينشطوا - بزعمهم - على الطاعة إذا رأوها، ثم طال الأمد، وجاء غير أولئك فقال لهم الشيطان: إن أسلافكم يعبدونهم، ويتوسلون بهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم، ولهذا أوصى رؤساؤهم للتابعين لهم، أن لا يدعوا عبادة هذه الآلهة. { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } أي: وقد أضل الكبار والرؤساء بدعوتهم كثيراً من الخلق، { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } أي: لو كان ضلالهم عند دعوتي إياهم بحق، لكان مصلحة، ولكن لا يزيدون بدعوة الرؤساء إلا ضلالاً أي: فلم يبق محل لنجاحهم ولا لصلاحهم، ولهذا ذكر الله عذابهم وعقوبتهم الدنيوية والأخروية، فقال: { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ } في اليم الذي أحاط بهم { فَأُدْخِلُواْ نَاراً } فذهبت أجسادهم في الغرق، وأرواحهم للنار والحرق، وهذا كله بسبب خطيئاتهم، التي أتاهم نبيهم نوح ينذرهم عنها، ويخبرهم بشؤمها ومغبتها، فرفضوا ما قال، حتى حل بهم النكال، { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } ينصرونهم حين نزل بهم الأمْرُ الأمَرُّ، ولا أحد يقدر يعارض القضاء والقدر.

{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } يدور على وجه الأرض، وذكر السبب في ذلك، فقال: { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } أي: بقاؤهم مفسدة محضة، لهم ولغيرهم، وإنما قال نوح - عليه السلام - ذلك، لأنه مع كثرة مخالطته إياهم، ومزاولته لأخلاقهم، علم بذلك نتيجة أعمالهم، لا جرم أن الله استجاب دعوته، فأغرقهم أجمعين، ونجى نوحاً ومن معه من المؤمنين. { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً } خص المذكورين لتأكد حقهم وتقديم برهم، ثم عمم الدعاء، فقال: { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً } أي: خساراً ودماراً وهلاكاً.

ابوالوليد المسلم
02-09-2020, 05:40 AM
الحلقة (610)
تفسير السعدى
(سورة الجن)
من (1)الى (28)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورةالجن
{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } 1 { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } 2 { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } 3 { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً }4


أي: { قُلْ } يا أيها الرسول للناس { أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ } صرفهم الله [إلى رسوله] لسماع آياته، لتقوم عليهم الحجة، [وتتم عليهم النعمة] ويكونوا نذراً لقومهم. وأمر الله رسوله، أن يقص نبأهم على الناس، وذلك أنهم لما حضروه، قالوا: أنصتوا، فلما أنصتوا فهموا معانيه، ووصلت حقائقه إلى قلوبهم، { فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } أي: من العجائب الغالية، والمطالب العالية. { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ } والرشد: اسم جامع لكل ما يرشد الناس إلى مصالح دينهم ودنياهم، { فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } فجمعوا بين الإيمان الذي يدخل فيه جميع أعمال الخير، وبين التقوى، [المتضمنة لترك الشر] وجعلوا السبب الداعي لهم إلى الإيمان وتوابعه، ما علموه من إرشادات القرآن، وما اشتمل عليه من المصالح والفوائد واجتناب المضار، فإن ذلك آية عظيمة، وحجة قاطعة، لمن استنار به، واهتدى بهديه، وهذا الإيمان النافع، المثمر لكل خير، المبني على هداية القرآن، بخلاف إيمان العوائد، والمربى والإلف ونحو ذلك، فإنه إيمان تقليد تحت خطر الشبهات والعوارض الكثيرة، { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا } أي: تعالت عظمته وتقدست أسماؤه، { مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } فعلموا من جد الله وعظمته، ما دلّهم على بطلان من يزعم أن له صاحبةً أو ولداً، لأن له العظمة والكمال في كل صفة كمال، واتخاذ الصاحبة والولد ينافي ذلك، لأنه يضاد كمال الغنى. { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً } أي: قولاً جائراً عن الصواب، متعدياً للحد، وما حمله على ذلك إلا سفهه وضعف عقله، وإلا فلو كان رزيناً مطمئناً لعرف كيف يقول.
{ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً }5


أي: كنا مغترين قبل ذلك، وغرنا القادة والرؤساء من الجن والإنس، فأحسنا بهم الظن، وظنناهم لا يتجرؤون على الكذب على الله، فلذلك كنا قبل هذا على طريقهم، فاليوم إذ بان لنا الحق، رجعنا إليه، وانقدنا له، ولم نبال بقول أحد من الناس يعارض الهدى.
{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } 6 { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً } 7 { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً } 8 { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } 9 { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } 10 { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } 11 { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } 12 { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } 13 { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } 14 { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } 15 { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } 16 { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } 17 { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } 18 { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } 19 { قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } 20 { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً }21


أي: كان الإنس يعبدون الجن ويستعيذون بهم عند المخاوف والأفزاع، فزاد الإنس الجن رهقاً أي: طغياناً وتكبراً، لما رأوا الإنس يعبدونهم، ويستعيذون بهم، ويحتمل أن الضمير في زادوهم يرجع إلى الجن ضمير الواو أي: زاد الجن الإنس ذعراً وتخويفاً لما رأوهم يستعيذون بهم، ليلجئوهم إلى الاستعاذة بهم، فكان الإنسي إذا نزل بواد مخوف، قال: " أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ". { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً } أي: فلما أنكروا البعث أقدموا على الشرك والطغيان. { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ } أي: أتيناها واختبرناها، { فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً } عن الوصول إلى أرجائها [والدنو منها]، { وَشُهُباً } يرمى بها من استرق السمع، وهذا بخلاف عادتنا الأولى، فإنا كنا نتمكن من الوصول إلى خبر السماء. { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } فنتلقف من أخبار السماء ما شاء الله، { فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } أي: مرصداً له، معداً لإتلافه وإحراقه، أي: وهذا له شأن عظيم، ونبأ جسيم، وجزموا أن الله تعالى أراد أن يحدث في الأرض حادثاً كبيراً، من خير أو شر، فلهذا قالوا: { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } أي: لا بدّ من هذا أو هذا، لأنهم رأوا الأمر تغير عليهم تغيراً أنكروه، فعرفوا بفطنتهم، أن هذا الأمر يريده الله، ويحدثه في الأرض، وفي هذا بيان لأدبهم، إذ أضافوا الخير إلى الله تعالى، والشر حذفوا فاعله تأدباً مع الله. { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي: فساق وفجار وكفار، { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } أي: فرقاً متنوعة، وأهواء متفرقة، كل حزب بما لديهم فرحون. { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } أي: وأنا في وقتنا الآن تبين لنا كمال قدرة الله وكمال عجزنا، وأن نواصينا بيد الله، فلن نعجزه في الأرض ولن نعجزه إن هربنا وسعينا بأسباب الفرار والخروج عن قدرته، لا ملجأ منه إلا إليه، { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ } وهو القرآن الكريم، الهادي إلى الصراط المستقيم، وعرفنا هدايته وإرشاده، أثّر في قلوبنا فـ { آمَنَّا بِهِ }. ثم ذكروا ما يرغب المؤمن فقالوا: { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ } إيماناً صادقاً { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } أي: لا نقصاً ولا طغياناً ولا أذىً يلحقه، وإذا سلم من الشر حصل له الخير، فالإيمان سبب داع إلى حصول كل خير وانتفاء كل شر. { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ } أي: الجائرون، العادلون عن الصراط المستقيم. { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } أي: أصابوا طريق الرشد، الموصل لهم إلى الجنة ونعيمها، { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } وذلك جزاء على أعمالهم، لا ظلم من الله لهم، فإنهم { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } المثلى { لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } أي: هنيئاً مريئاً، ولم يمنعهم ذلك إلا ظلمهم وعدوانهم.

{ لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي: لنختبرهم فيه ونمتحنهم، ليظهر الصادق من الكاذب. { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } أي: من أعرض عن ذكر الله، الذي هو كتابه، فلم يتبعه وينقد له، بل غفل عنه ولهى، يسلكه عذاباً صعداً أي: شديداً بليغاً. { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } أي: لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، فإن المساجد التي هي أعظم محالّ العبادة مبنية على الإخلاص لله، والخضوع لعظمته، والاستكانة لعزته، { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ } أي: يسأله ويتعبد له ويقرأ القرآن كَاد الجن من تكاثرهم عليه أن يكونوا عليه لبدا أي: متلبدين متراكمين، حرصاً على سماع ما جاء به من الهدى. { قُلْ } لهم يا أيها الرسول، مبيناً حقيقة ما تدعو إليه: { إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } أي: أوحده وحده لا شريك له، وأخلع ما دونه من الأنداد والأوثان، وكل ما يتخذه المشركون من دونه. { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } فإني عبد ليس لي من الأمر ولا من التصرف شيء.
{ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } 22 { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } 23 { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } 24 { قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً } 25 { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } 26 { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } 27 { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً }28


{ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ }. أي: لا أحد أستجير به ينقذني من عذاب الله، وإذا كان الرسول الذي هو أكمل الخلق، لا يملك ضراً ولا رشداً، ولا يمنع نفسه من الله [شيئاً] إن أراده بسوء، فغيره من الخلق من باب أولى وأحرى، { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } أي: ملجأً ومنتصراً. { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ } أي: ليس لي مزية على الناس، إلا أن الله خصني بإبلاغ رسالاته ودعوة الخلق إلى الله، وبهذا تقوم الحجة على الناس. { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدا } وهذا المراد به المعصية الكفرية، كما قيدتها النصوص الأخر المحكمة. وأما مجرد المعصية، فإنه لا يوجب الخلود في النار، كما دلّت على ذلك آيات القرآن، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة وأئمة هذه الأمة. { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } أي: شاهدوه عياناً، وجزموا أنه واقع بهم، { فَسَيَعْلَمُونَ } في ذلك الوقت حقيقة المعرفة { مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } حين لا ينصرهم غيرهم ولا أنفسهم ينتصرون، وإذ يحشرون فرادى كما خلقوا أول مرة. { قُلْ } لهم إن سألوك [فقالوا] " متى هذا الوعد؟ ": { إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً } أي: غاية طويلة، فعلم ذلك عند الله، { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } من الخلق، بل انفرد بعلم الضمائر والأسرار والغيب، { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } أي: فإنه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به، وذلك لأن الرسل ليسوا كغيرهم، فإن الله أيدهم بتأييد ما أيده أحداً من الخلق، وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته، من غير أن تتخبطهم الشياطين، ولا يزيدوا فيه أو ينقصوا، ولهذا قال: { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } أي: يحفظونه بأمر الله { لِّيَعْلَمَ } بذلك { أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ } بما جعله لهم من الأسباب، { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } أي: بما عندهم، وما أسروه وأعلنوه، { وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً }. وفي هذه السورة فوائد كثيرةٌ: منها: وجود الجن، وأنهم مكلفون مأمورون مكلفون منهيون، مجازون بأعمالهم، كما هو صريح في هذه السورة. ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولٌ إلى الجن، كما هو رسول إلى الإنس، فإن الله صرف نفر الجن ليستمعوا ما يوحى إليه ويبلغوا قومهم. ومنها: ذكاء الجن ومعرفتهم بالحق، وأن الذي ساقهم إلى الإيمان هو ما تحققوه من هداية القرآن، وحسن أدبهم في خطابهم. ومنها: اعتناء الله برسوله، وحفظه لما جاء به، فحين ابتدأت بشائر نبوته، والسماء محروسة بالنجوم، والشياطين قد هربت عن أماكنها، وأزعجت عن مراصدها، وأن الله رحم به الأرض وأهلها رحمة ما يقدر لها قدر، وأراد بهم ربهم رشداً، فأراد أن يظهر من دينه وشرعه ومعرفته في الأرض، ما تبتهج له القلوب، وتفرح به أولو الألباب، وتظهر به شعائر الإسلام، وينقمع به أهل الأوثان والأصنام.
ومنها: شدة حرص الجن لاستماع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتراكمهم عليه. ومنها: أن هذه السورة، قد اشتملت على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وبينت حالة الخلق، وأن كل أحد منهم لا يستحق من العبادة مثقال ذرة، لأن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم، إذا كان لا يملك لأحد نفعاً ولا ضراً، بل ولا يملك لنفسه، علم أن الخلق كلهم كذلك، فمن الخطأ والغلط اتخاذ من هذا وصفه إلهاً [آخر] مع الله. ومنها: أن علوم الغيب قد انفرد الله بعلمها، فلا يعلمها أحد من الخلق، إلا من ارتضاه الله وخصه بعلم شيءٍ منها.

ابوالوليد المسلم
05-09-2020, 03:29 AM
الحلقة (611)
تفسير السعدى
(سورة المزمل)
من (1)الى (20)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورةالمزمل

{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } 1 { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً } 2 { نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } 3 { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } 4 { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } 5 { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } 6 { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } 7 { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } 8 { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } 9 { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } 10 { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِي نَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً }11


المزمل: المتغطي بثيابه كالمدثر، وهذا الوصف حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أكرمه الله برسالته، وابتدأه بإنزال [وحيه بإرسال] جبريل إليه، فرأى أمراً لم ير مثله، ولا يقدر على الثبات له إلا المرسلون، فاعتراه في ابتداء ذلك انزعاج حين رأى جبريل عليه السلام، فأتى إلى أهله، فقال: " زملوني زملوني " وهو ترعد فرائصه، ثم جاءه جبريل، فقال: " اقرأ " فقال: " ما أنا بقارئ " ، فغطه حتى بلغ منه الجهد، وهو يعالجه على القراءة، فقرأ صلى الله عليه وسلم، ثم ألقى الله عليه الثبات، وتابع عليه الوحي، حتى بلغ مبلغاً ما بلغه أحد من المرسلين. فسبحان الله، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها، ولهذا خاطبه الله بهذا الوصف الذي وجد منه في أول أمره. فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به، ثم أمره بالصبر على أذية أعدائه، ثم أمره بالصدع بأمره، وإعلان دعوتهم إلى الله، فأمره هنا بأشرف العبادات، وهي الصلاة، وبآكد الأوقات وأفضلها، وهو قيام الليل. ومن رحمته تعالى، أنه لم يأمره بقيام الليل كله، بل قال: { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً } ، ثم قدر ذلك فقال: { نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ } أي: من النصف { قَلِيلاً } بأن يكون الثلث ونحوه، { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } أي: على النصف، فيكون الثلثين ونحوها. { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبر والتفكر، وتحريك القلوب به، والتعبد بآياته، والتهيؤ والاستعداد التام له، فإنه قال: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } أي: نوحي إليك هذا القرآن الثقيل أي: العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه، وما كان بهذا الوصف، حقيق أن يتهيأ له، ويرتل، ويتفكر فيما يشتمل عليه. ثم ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل، فقال: { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ } أي: الصلاة فيه بعد النوم { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي: أقرب إلى تحصيل مقصود القرآن، يتواطأ على القرآن القلب واللسان، وتقل الشواغل، ويفهم ما يقول، ويستقيم له أمره، وهذا بخلاف النهار، فإنه لا يحصل به هذا المقصود، ولهذا قال: { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } أي: تردداً على حوائجك ومعاشك، يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ التام، { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ } شامل لأنواع الذكر كلها { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } أي: انقطع إلى الله تعالى، فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وكل ما يقرب إليه، ويدني من رضاه. { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } وهذا اسم جنس يشمل المشارق والمغارب [كلها]، فهو تعالى رب المشارق والمغارب، وما يكون فيها من الأنوار، وما هي مصلحة له من العالم العلوي والسفلي، فهو رب كل شيء وخالقه ومدبره. { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي: لا معبود إلا وجهه الأعلى، الذي يستحق أن يخص بالمحبة والتعظيم، والإجلال والتكريم، ولهذا قال: { فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } أي: حافظاً ومدبراً لأمورك كلها.
فلما أمره الله بالصلاة خصوصاً، وبالذكر عموماً، وذلك يحصل للعبد ملكة قوية في تحمل الأثقال، وفعل الثقيل من الأعمال، أمره بالصبر على ما يقول فيه المعاندون له ويسبونه ويسبون ما جاء به، وأن يمضي على أمر الله، لا يصده عنه صاد، ولا يرده راد، وأن يهجرهم هجراً جميلاً، وهو الهجر حيث اقتضت المصلحة الهجر الذي لا أذية فيه، فيقابلهم بالهجر والإعراض عنهم وعن أقوالهم التي تؤذيه، وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن. { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِي نَ } أي: اتركني وإياهم، فسأنتقم منهم، وإن أمهلتهم فلا أهملهم، وقوله: { أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ } أي: أصحاب النعمة والغنى، الذين طغوا حين وسع الله عليهم من رزقه، وأمدهم من فضله كما قال تعالى:{ كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7]. ثم توعدهم بما عنده من العقاب، فقال: { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً... }.

{ إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً } 12 { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } 13 { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً }14


أي: إن عندنا { أَنكَالاً } أي: عذاباً شديداً، جعلناه تنكيلاً للذي لا يزال مستمراً على الذنوب. { وَجَحِيماً } أي: ناراً حامية { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } وذلك لمرارته وبشاعته، وكراهة طعمه وريحه الخبيث المنتن، { وَعَذَاباً أَلِيماً } أي: موجعاً مفظعاً، وذلك { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ } من الهول العظيم، { وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ } الراسيات الصم الصلاب { كَثِيباً مَّهِيلاً } أي: بمنزلة الرمل المنهال المنتثر، ثم إنها تبس بعد ذلك، فتكون كالهباء المنثور.
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً } 15 { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً }16


يقول تعالى: احمدوا ربكم على إرسال هذا النبي الأمي العربي البشير النذير، الشاهد على الأمة بأعمالهم، واشكروه وقوموا بهذه النعمة الجليلة، وإياكم أن تكفروها، فتعصوا رسولكم، فتكونوا كفرعون حين أرسل الله إليه موسى بن عمران، فدعاه إلى الله، وأمره بالتوحيد، فلم يصدقه، بل عصاه، فأخذه الله أخذاً وبيلاً أي: شديداً بليغاً.
{ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } 17 { ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً }18


أي: فكيف يحصل لكم الفكاك والنجاة من يوم القيامة، اليوم المهيل أمره، العظيم قدره، الذي يشيب الولدان، وتذوب له الجمادات العظام، فتتفطر به السماء وتنتثر به نجومها { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } أي: لا بدَّ من وقوعه، ولا حائل دونه.

{ إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً }19


[أي:] إن هذه الموعظة التي نبأ الله بها من أحوال يوم القيامة وأهواله، تذكرة يتذكر بها المتقون، وينزجر بها المؤمنون، { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } أي: طريقاً موصلاً إليه، وذلك باتباع شرعه، فإنه قد أبانه كل البيان، وأوضحه غاية الإيضاح، وفي هذا دليل على أن الله تعالى أقدر العباد على أفعالهم، ومكنهم منها، لا كما يقوله الجبرية: إن أفعالهم تقع بغير مشيئتهم، فإن هذا خلاف النقل والعقل.

{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَٱسْتَغْفِرُوا ْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }20


ذكر الله في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل، أو ثلثه أو ثلثيه، والأصل أن أمته أسوة له في الأحكام، وذكر في هذا الموضع، أنه امتثل ذلك هو وطائفة معه من المؤمنين. ولما كان تحرير الوقت المأمور به مشقة على الناس، أخبر أنه سهل عليهم في ذلك غاية التسهيل فقال: { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } أي: يعلم مقاديرهما وما يمضي منهما ويبقى. { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } أي: [لن] تعرفوا مقداره من غير زيادة ولا نقص، لكون ذلك يستدعي انتباهاً وعناءً زائداً أي: فخفف عنكم، وأمركم بما تيسر عليكم، سواء زاد على المقدر أو نقص، { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } أي: مما تعرفون ومما لا يشق عليكم، ولهذا كان المصلي بالليل مأموراً بالصلاة ما دام نشيطاً، فإذا فتر أو كسل أو نعس، فليسترح، ليأتي الصلاة بطمأنينة وراحة. ثم ذكر بعض الأسباب المناسبة للتخفيف، فقال: { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } يشق عليهم صلاة ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه، فليصل المريض المتسهل عليه، ولا يكون أيضاً مأموراً بالصلاة قائماً عند مشقة ذلك، بل لو شقت عليه الصلاة النافلة، فله تركها [وله أجر ما كان يعمل صحيحاً]. { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } أي: وعلم أن منكم مسافرين يسافرون للتجارة، ليستغنوا عن الخلق، ويتكففوا عن الناس أي: فالمسافر، حاله تناسب التخفيف، ولهذا خفف عنه في صلاة الفرض، فأبيح له جمع الصلاتين في وقت واحد، وقصر الصلاة الرباعية. وكذلك { وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } فذكر تعالى تخفيفين، تخفيفاً للصحيح المقيم، يراعي فيه نشاطه، من غير أن يكلف عليه تحرير الوقت، بل يتحرى الصلاة الفاضلة، وهي ثلث الليل بعد نصفه الأول. وتخفيفاً للمريض أو المسافر، سواء كان سفره للتجارة، أو لعبادة، من قتال أو جهاد، أو حج، أو عمرة، ونحو ذلك، فإنه أيضاً يراعي ما لا يكلفه، فلله الحمد والثناء، الذي ما جعل على الأمة في الدين من حرج، بل سهل شرعه، وراعى أحوال عباده ومصالح دينهم وأبدانهم ودنياهم. ثم أمر العباد بعبادتين، هما أم العبادات وعمادها: إقامة الصلاة، التي لا يستقيم الدين إلا بها، وإيتاء الزكاة التي هي برهان الإيمان، وبها تحصل المواساة للفقراء والمساكين، ولهذا قال: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } بأركانها، وشروطها، ومكملاتها، { وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } أي: خالصاً لوجه الله، من نيةٍ صادقة، وتثبيتاً من النفس، ومال طيب، ويدخل في هذا، الصدقة الواجبة والمستحبة، ثم حث على عموم الخير وأفعاله، فقال: { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
وليعلم أن مثقال ذرة من الخير في هذه الدار، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا، وما عليها في دار النعيم المقيم، من اللذات والشهوات، وأن الخير والبر في هذه الدنيا، مادة الخير والبر في دار القرار، وبذره وأصله وأساسه، فواأسفاه على أوقات مضت في الغفلات، وواحسرتاه على أزمان تقضت بغير الأعمال الصالحات، وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها منها. فلك اللهم الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك. { وَٱسْتَغْفِرُوا ْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وفي الأمر بالاستغفار بعد الحث على أفعال الطاعة والخير، فائدة كبيرة، وذلك أن العبد ما يخلو من التقصير فيما أمر به، إما أن لا يفعله أصلاً أو يفعله على وجه ناقص، فأمر بترقيع ذلك بالاستغفار، فإن العبد يذنب آناء الليل والنهار، فمتى لم يتغمده الله برحمته ومغفرته، فإنه هالك.

ابوالوليد المسلم
05-09-2020, 03:30 AM
الحلقة (612)
تفسير السعدى
(سورة المدثر)
من (1)الى (31)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورةالمدثر
{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } 1 { قُمْ فَأَنذِرْ } 2 { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } 3 { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } 4 { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } 5 { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } 6 { وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ }7


تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد، وأن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، بالاجتهاد في عبادة الله القاصرة والمتعدية، فتقدم هناك الأمر له بالعبادات الفاضلة القاصرة، والصبر على أذى قومه، وأمره هنا بإعلان الدعوة، والصدع بالإنذار، فقال: { قُمْ } [أي] بجد ونشاط { فَأَنذِرْ } الناس بالأقوال والأفعال، التي يحصل بها المقصود، وبيان حال المنذر عنه، ليكون ذلك أدعى لتركه، { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } أي: عظمه بالتوحيد، واجعل قصدك في إنذارك وجه الله، وأن يعظمه العباد ويقوموا بعبادته. { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } يحتمل أن المراد بثيابه، أعماله كلها، وبتطهيرها تخليصها والنصح بها، وإيقاعها على أكمل الوجوه، وتنقيتها عن المبطلات والمفسدات، والمنقصات من شر ورياء، [ونفاق]، وعجب، وتكبر، وغفلة، وغير ذلك، مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته. ويدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة، فإن ذلك من تمام التطهير للأعمال خصوصاً في الصلاة، التي قال كثير من العلماء: إن إزالة النجاسة عنها شرط من شروط الصلاة. ويحتمل أن المراد بثيابه، الثياب المعروفة، وأنه مأمور بتطهيرها عن [جميع] النجاسات، في جميع الأوقات، خصوصاً في الدخول في الصلوات، وإذا كان مأموراً بتطهير الظاهر، فإن طهارة الظاهر من تمام طهارة الباطن. { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } يحتمل أن المراد بالرجز الأصنام والأوثان، التي عبدت مع الله، فأمره بتركها، والبراءة منها ومما نسب إليها من قول أو عمل. ويحتمل أن المراد بالرجز أعمال الشر كلها وأقواله، فيكون أمراً له بترك الذنوب، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها، فيدخل في ذلك الشرك وما دونه. { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } أي: لا تمنن على الناس بما أسديت إليهم من النعم الدينية والدنيوية، فتتكثر بتلك المنة، وترى لك [الفضل] عليهم بإحسانك المنة، بل أحسن إلى الناس مهما أمكنك، وَانْسَ [عندهم] إحسانك، ولا تطلب أجره إلا من الله تعالى واجعل من أحسنت إليه وغيره على حد سواء. وقد قيل: إن معنى هذا، لا تعط أحداً شيئاً، وأنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر منه، فيكون هذا خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم. { وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ } أي: احتسب بصبرك، واقصد به وجه الله تعالى، فامتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ربه، وبادر إليه، فأنذر الناس، وأوضح لهم بالآيات البينات جميع المطالب الإلهية، وعظم الله تعالى، ودعا الخلق إلى تعظيمه، وطهر أعماله الظاهرة والباطنة من كل سوء، وهجر كل ما يبعد عن الله من الأصنام وأهلها، والشر وأهله، وله المنة على الناس - بعد منة الله - من غير أن يطلب منهم على ذلك جزاءً ولا شكوراً، وصبر لله أكمل صبر، فصبر على طاعة الله، وعن معاصي الله، وعلى أقدار الله المؤلمة، حتى فاق أولي العزم من المرسلين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
{ فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ } 8 { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } 9 { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ }10


أي: فإذا نفخ في الصور للقيام من القبور، وجمع الخلق للبعث والنشور. { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } لكثرة أهواله وشدائده { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } لأنهم قد أيسوا من كل خير، وأيقنوا بالهلاك والبوار. ومفهوم ذلك أنه على المؤمنين يسير، كما قال تعالى:{ يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر: 8].
{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } 11 { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } 12 { وَبَنِينَ شُهُوداً } 13 { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } 14 { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } 15 { كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } 16 { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } 17 { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } 18 { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } 19 { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } 20 { ثُمَّ نَظَرَ } 21 { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } 22 { ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ } 23 { فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } 24 { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ } 25 { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } 26 { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } 27 { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } 28 { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } 29 { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } 30 { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُون َ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ }31


هذه الآيات، نزلت في الوليد بن المغيرة، معاند الحق، والمبارز لله ولرسوله بالمحاربة والمشاقة، فذمه الله ذماً لم يذمه غيره، وهذا جزاء كل من عاند الحق ونابذه، أن له الخزي في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى، فقال: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } أي: خلقته منفرداً، بلا مال ولا أهل، ولا غيره، فلم أزل أنميه وأربيه، { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } أي: كثيراً { وَ } جعلت له { بَنِينَ } أي: ذكوراً { شُهُوداً } أي: دائماً حاضرين عنده، [على الدوام] يتمتع بهم، ويقضي بهم حوائجه، ويستنصر بهم. { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } أي: مكنته من الدنيا وأسبابها، حتى انقادت له مطالبه، وحصل على ما يشتهي ويريد، { ثُمَّ } مع هذه النعم والإمدادات { يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } أي: يطمع أن ينال نعيم الآخرة كما نال نعيم الدنيا. { كَلاَّ } أي: ليس الأمر كما طمع، بل هو بخلاف مقصوده ومطلوبه، وذلك لأنه { كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } أي: معانداً، عرفها ثم أنكرها، ودعته إلى الحق فلم ينقد لها ولم يكفه أنه أعرض وتولى عنها، بل جعل يحاربها ويسعى في إبطالها، ولهذا قال عنه: { إِنَّهُ فَكَّرَ } [أي:] في نفسه { وَقَدَّرَ } ما فكر فيه، ليقول قولاً يبطل به القرآن. { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } لأنه قدر أمراً ليس في طوره، وتَسَوَّر على ما لا يناله هو و [لا] أمثاله، { ثُمَّ نَظَرَ } ما يقول، { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } في وجهه، وظاهره نفرة عن الحق وبغضاً له، { ثُمَّ أَدْبَرَ } أي: تولى { وَٱسْتَكْبَرَ } نتيجة سعيه الفكري والعملي والقولي، أن قال: { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ } أي: ما هذا كلام الله، بل كلام البشر، وليس أيضاً كلام البشر الأخيار، بل كلام الفجار منهم والأشرار، من كل كاذب سحار. فتبّاً له، ما أبعده من الصواب، وأحراه بالخسارة والتباب!! كيف يدور في الأذهان، أو يتصوره ضمير كل إنسان، أن يكون أعلى الكلام وأعظمه، كلام الرب العظيم، الماجد الكريم، يشبه كلام المخلوقين الفقراء الناقصين؟! أم كيف يتجرأ هذا الكاذب العنيد، على وصفه كلام المبدئ المعيد. فما حقه إلا العذاب الشديد والنكال، ولهذا قال تعالى: { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } أي: لا تبقي من الشدة، ولا على المعذب شيئاً إلا وبلغته، { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } أي: تلوحهم [وتصليهم] في عذابها، وتقلقهم بشدة حرِّها وقَرِّها. { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } من الملائكة، خزنة لها، غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً } وذلك لشدتهم وقوتهم. { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } يحتمل أن المراد: إلا لعذابهم وعقابهم في الآخرة، ولزيادة نكالهم فيها، والعذاب يسمى فتنة، كما قال تعالى:
{ يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } [الذاريات: 13] ويحتمل أن المراد: أنا ما أخبرناكم بعدتهم، إلا لنعلم من يصدق ومن يكذّب، ويدلّ على هذا، ما ذكر بعده في قوله: { لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً } فإن أهل الكتاب، إذا وافق ما عندهم وطابقه، ازداد يقينهم بالحق، والمؤمنون كلما أنزل الله آية، فآمنوا بها وصدقوا، ازداد إيمانهم، { وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُون َ } أي: ليزول عنهم الريب والشك، وهذه مقاصد جليلة، يعتني بها أولو الألباب، وهي السعي في اليقين، وزيادة الإيمان في كل وقت، وكل مسألة من مسائل الدين، ودفع الشكوك والأوهام التي تعرض في مقابلة الحق، فجعل ما أنزله الله على رسوله محصلاً لهذه الفوائد الجليلة، ومميزاً للكاذبين من الصادقين، ولهذا قال: { وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي: شك وشبهة ونفاق. { وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } وهذا على وجه الحيرة والشك، والكفر منهم بآيات الله، وهذا وذاك من هداية الله لمن يهديه، وإضلاله لمن يضل، ولهذا قال: { كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } فمن هداه الله، جعل ما أنزله الله على رسوله رحمةً في حقه، وزيادةً في إيمانه ودينه، ومن أضله، جعل ما أنزله على رسوله زيادة شقاء عليه وحيرة، وظلمة في حقه، والواجب أن يتلقى ما أخبر الله به ورسوله بالتسليم، فإنه لا يعلم جنود ربك من الملائكة وغيرهم { إِلاَّ هُوَ } فإذا كنتم جاهلين بجنوده، وأخبركم بها العليم الخبير، فعليكم أن تصدقوا خبره، من غير شك ولا ارتياب، { وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ } أي: وما هذه الموعظة والتذكار مقصوداً به العبث واللعب، وإنما المقصود به، أن يتذكر [به] البشر ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه.

ابوالوليد المسلم
05-09-2020, 03:30 AM
الحلقة (613)
تفسير السعدى
(سورة المدثر)
من (32)الى (56)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورةالمدثر
{ كَلاَّ وَٱلْقَمَرِ } 32 { وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } 33 { وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } 34 { إِنَّهَا لإِحْدَى ٱلْكُبَرِ } 35 { نَذِيراً لِّلْبَشَرِ } 36 { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } 37 { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } 38 { إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ } 39 { فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ } 40 { عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ } 41 { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } 42 { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ } 43 { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ } 44 { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ } 45 { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } 46 { حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ } 47 { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } 48 { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } 49 { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } 50 { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } 51 { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } 52 { كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ } 53 { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } 54 { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } 55 { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ }56


{ كَلاَّ } هنا بمعنى: حقاً، أو بمعنى " ألا " الاستفتاحية، فأقسم تعالى بالقمر، وبالليل وقت إدباره، والنهار وقت إسفاره، لاشتمال المذكورات على آيات الله العظيمة، الدالة على كمال قدرة الله وحكمته، وسعة سطانه، وعموم رحمته، وإحاطة علمه والمقسم عليه قوله: { إِنَّهَا } أي: النار { لإِحْدَى ٱلْكُبَرِ } أي: لإحدى العظائم الطامة والأمور الهامة، فإذا أعلمناكم بها، وكنتم على بصيرة من أمرها، فمن شاء منكم أن يتقدم، فيعمل بما يقربه من ربه، ويدنيه من رضاه، ويزلفه من دار كرامته، أو يتأخر [عمّا خلق له و] عمّا يحبه الله [ويرضاه]، فيعمل بالمعاصي، ويتقرب إلى نار جهنم، كما قال تعالى:{ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } الآية [الكهف: 29]. { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } من أعمال السوء وأفعال الشر، { رَهِينَةٌ } بها موثقة بسعيها، قد ألزم عنقها، وغل في رقبتها، واستوجبت به العذاب، { إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ } فإنهم لم يرتهنوا، بل أطلقوا وفرحوا { فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ } أي: في جنات قد حصل لهم بها جميع مطلوباتهم، وتمت لهم الراحة والطمأنينة، حتى أقبلوا يتساءلون، فأفضت بهم المحادثة، أن سألوا عن المجرمين، أي: حال وصلوا إليها، وهل وجدوا ما وعدهم الله تعالى؟ فقال بعضهم لبعض: " هل أنتم مطلعون عليهم " ، فاطلعوا عليهم في وسط الجحيم يعذبون، فقالوا لهم: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } أي: أي شيء أدخلكم فيها؟ وبأي: ذنب استحققتموها؟ فـ { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ } فلا إخلاص للمعبود، [ولا إحسان] ولا نفع للخلق المحتاجين. { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ } أي: نخوض بالباطل، ونجادل به الحق، { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } هذا آثار الخوض بالباطل، [وهو] التكذيب بالحق، ومن أحق الحق، يوم الدين، الذي هو محل الجزاء على الأعمال، وظهور ملك الله وحكمه العدل لسائر الخلق. فاستمرينا على هذا المذهب الفاسد { حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ } أي: الموت، فلما ماتوا على الكفر تعذرت حينئذ عليهم الحيل، وانسّد في وجوههم باب الأمل، { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهؤلاء لا يرضى الله أعمالهم. فلما بين الله مآل المخالفين، ورهب مما يفعل بهم، عطف على الموجودين بالعتاب واللوم، فقال: { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } أي: صادين غافلين عنها. { كَأَنَّهُمْ } في نفرتهم الشديدة منها { حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } أي: كأنهم حمر وحش نفرت فنفر بعضها بعضاً، فزاد عدوها، { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } أي: من صائد ورام يريدها، أو من أسد ونحوه، وهذا من أعظم ما يكون من النفور عن الحق، ومع هذا الإعراض وهذا النفور، يدعون الدعاوى الكبار. فـ { يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } نازلة عليه من السماء، يزعم أنه لا ينقاد للحق إلا بذلك، وقد كذبوا، فإنهم لو جاءتهم كل آية لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، فإنهم جاءتهم الآيات البينات التي تبين الحق وتوضحه، فلو كان فيهم خير لآمنوا، ولهذا قال: { كَلاَّ } أن نعطيهم ما طلبوا، وهم ما قصدوا بذلك إلا التعجيز، { بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ } فلو كانوا يخافونها، لما جرى منهم ما جرى.
{ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } الضمير إما أن يعود على هذه السورة، أو على ما اشتملت عليه [من] هذه الموعظة، { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } لأنه قد بين له السبيل، ووضح له الدليل. { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } فإن مشيئته نافذة عامة، لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير، ففيها رد على القدرية، الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله، والجبرية، الذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة، ولا فعل حقيقة، وإنما هو مجبور على أفعاله، فأثبت تعالى للعباد مشيئةً حقيقة وفعلاً، وجعل ذلك تابعاً لمشيئته، { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ } أي: هو أهل أن يتقى ويعبد، لأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وأهل أن يغفر لمن اتقاه واتبع رضاه.

ابوالوليد المسلم
05-09-2020, 03:31 AM
الحلقة (614)
تفسير السعدى
(سورة القيامة)
من (1)الى (19)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورةالقيامة

{ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } 1 { وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } 2 { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } 3 { بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } 4 { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } 5 { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ }6


ليست " لا " [ها] هنا نافية، [ولا زائدة] وإنما أتي بها للاستفتاح والاهتمام بما بعدها، ولكثرة الإتيان بها مع اليمين، لا يستغرب الاستفتاح بها، وإن لم تكن في الأصل موضوعة للاستفتاح. فالمقسم به في هذا الموضع، هو المقسم عليه، وهو البعث بعد الموت، وقيام الناس من قبورهم، ثم وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم، { وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } وهي جميع النفوس الخيرة والفاجرة، سُمِّيت " لوَّامة " لكثرة ترددها وتلومها، وعدم ثبوتها على حالة من أحوالها، ولأنها عند الموت تلوم صاحبها على ما عملت، بل نفس المؤمن تلوم صاحبها في الدنيا على ما حصل منه، من تفريط أو تقصير في حق من الحقوق، أو غفلة، فجمع بين الإقسام بالجزاء، وعلى الجزاء، وبين مستحق الجزاء. ثم أخبر مع هذا، أن بعض المعاندين يكذب بيوم القيامة، فقال: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } بعد الموت، كما قال في الآية الأخرى:{ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78]؟ فاستبعد من جهله وعدوانه قدرة الله على خلق عظامه التي هي عماد البدن، فرد عليه بقوله: { بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } أي: أطراف أصابعه وعظامه، المستلزم ذلك لخلق جميع أجزاء البدن، لأنها إذا وجدت الأنامل والبنان، فقد تمت خلقة الجسد، وليس إنكاره لقدرة الله تعالى قصوراً بالدليل الدال على ذلك، وإنما [وقع] ذلك منه أن قصده وإرادته أن يكذب بما أمامه من البعث. والفجور: الكذب مع التعمد. ثم ذكر أحوال القيامة فقال: { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ * وَخَسَفَ... }.
{ فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ } 7 { وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ } 8 { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } 9 { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } 10 { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } 11 { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } 12 { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } 13 { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } 14 { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ }15


أي: إذا كانت القيامة برقت الأبصار من الهول العظيم، وشخصت فلا تطرف كما قال تعالى:{ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُم ْ هَوَآءٌ } [إبراهيم: 42-43] { وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ } أي: ذهب نوره وسلطانه، { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } وهما لم يجتمعا منذ خلقهما الله تعالى، فيجمع الله بينهما يوم القيامة، ويخسف القمر، وتكور الشمس، ثم يقذفان في النار، ليرى العباد أنهما عبدان مسخران، وليرى من عبدهما أنهم كانوا كاذبين. { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ } حين يرى تلك القلاقل المزعجات: { أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } أي: أين الخلاص والفرار مما طرقنا وأصابنا؟ { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } أي: لا ملجأ لأحد دون الله، { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } لسائر العباد، فليس في إمكان أحد أن يستتر أو يهرب عن ذلك الموضع، بل لا بد من إيقافه ليجزى بعمله، ولهذا قال: { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } أي: بجميع عمله الحسن والسيء، في أول وقته وآخره، وينبأ بخبر لا ينكره، { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } أي: شاهداً ومحاسباً، { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } فإنها معاذير لا تقبل، ولا تقابل ما يقرر به العبد، فَيُقُّر به، كما قال تعالى:{ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 14]. فالعبد وإن أنكر، أو اعتذر عما عمله، فإنكاره واعتذاره لا يفيدانه شيئاً، لأنه يشهد عليه سمعه وبصره، وجميع جوارحه بما كان يعمل، ولأن استعتابه قد ذهب وقته وزال نفعه:{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [الروم: 57].
{ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } 16 { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } 17 { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ } 18 { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }19


كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه جبريل بالوحي، وشرع في تلاوته عليه، بادره النبي صلى الله عليه وسلم من الحرص قبل أن يفرغ، وتلاه مع تلاوة جبريل إياه، فنهاه الله عن هذا، وقال:{ وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [طه: 114]. وقال هنا: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } ثم ضمن له تعالى أنه لا بد أن يحفظه ويقرأه، ويجمعه الله في صدره، فقال: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } فالحرص الذي في خاطرك، إنما الداعي له حذر الفوات والنسيان، فإذا ضمنه الله لك، فلا موجب لذلك. { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أي: إذا كمّل جبريل قراءة ما أوحى الله إليك، فحينئذ اتبع ما قرأه وأقرأه. { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي: بيان معانيه، فوعده بحفظ لفظه وحفظ معانيه، وهذا أعلى ما يكون، فامتثل صلى الله عليه وسلم لأدب ربه، فكان إذا تلا عليه جبريل القرآن بعد هذا، أنصت له، فإذا فرغ قرأه. وفي هذه الآية أدب لأخذ العلم، أن لا يبادر المتعلم المعلم قبل أن يفرغ من المسألة التي شرع فيها، فإذا فرغ منها سأله عما أشكل عليه، وكذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الرد أو الاستحسان، أن لا يبادر برده أو قبوله، حتى يفرغ من ذلك الكلام، ليتبين ما فيه من حق أو باطل، وليفهمه فهماً يتمكن به من الكلام عليه. وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما بين للأمة ألفاظ الوحي، فإنه قد بين لهم معانيه.

ابوالوليد المسلم
05-09-2020, 03:31 AM
الحلقة (615)
تفسير السعدى
(سورة القيامة)
من (20)الى (40)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورةالقيامة

{ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ } 20 { وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ } 21 { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } 22 { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } 23 { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } 24 { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ }25


أي: هذا الذي أوجب لكم الغفلة والإعراض عن وعظ الله وتذكيره أنكم { تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ } وتسعون فيما يحصلها، وفي لذاتها وشهواتها، وتؤثرونها على الآخرة، فتذرون العمل لها، لأن الدنيا نعيمها ولذاتها عاجلة، والإنسان مولع بحب العاجل، والآخرة متأخر ما فيها من النعيم المقيم، فلذلك غفلتم عنها وتركتموها، كأنكم لم تخلقوا لها، وكأن هذه الدار هي دار القرار، التي تبذل فيها نفائس الأعمار، ويسعى لها آناء الليل والنهار، وبهذا انقلبت عليكم الحقيقة، وحصل من الخسار ما حصل. فلو آثرتم الآخرة على الدنيا، ونظرتم للعواقب نظر البصير العاقل لأنجحتم، وربحتم ربحاً لا خسار معه، وفزتم فوزاً لا شقاء يصحبه. ثم ذكر ما يدعو إلى إيثار الآخرة، ببيان حال أهلها وتفاوتهم فيها، فقال في جزاء المؤثرين للآخرة على الدنيا: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } أي: حسنة بهية، لها رونق ونور، مما هم فيه من نعيم القلوب، وبهجة النفوس، ولذة الأرواح، { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي: تنظر إلى ربها على حسب مراتبهم: منهم من ينظره كل يوم بكرةً وعشياً، ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، وجماله الباهر، الذي ليس كمثله شيء، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم، وحصل لهم من اللذة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، ونضرت وجوههم فازدادوا جمالاً إلى جمالهم، فنسأل الله الكريم أن يجعلنا معهم. وقال في المؤثرين العاجلة على الآجلة: { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } أي: معبسة ومكدرة، خاشعة ذليلة { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } أي: عقوبة شديدة، وعذاب أليم، فلذلك تغيرت وجوههم وعبست.
{ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ } 26 { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } 27 { وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ } 28 { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } 29 { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ } 30 { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ } 31 { وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } 32 { ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ } 33 { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } 34 { ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } 35 { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } 36 { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ } 37 { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ } 38 { فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } 39 { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ }40


يعظ تعالى عباده، بذكر حال المحتضر عند السياق، وأنه إذا بلغت روحه التراقي، وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر، فحينئذ يشتد الكرب، ويطلب كل وسيلة وسبب، يظن أن يحصل به الشفاء والراحة، ولهذا قال: { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } أي: من يرقيه، من الرقية، لأنهم انقطعت آمالهم من الأسباب العادية، فلم يبق إلا الأسباب الإلهية. ولكن القضاء والقدر، إذا حتم وجاء فلا مرد له، { وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ } للدنيا. { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } أي: اجتمعت الشدائد والتفت، وعظم الأمر وصعب الكرب، وأريد أن تخرج الروح التي ألفت البدن ولم تزل معه، فتساق إلى الله تعالى، حتى يجازيها بأعمالها، ويقررها بفعالها. فهذا الزجر، [الذي ذكره الله] يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها، ويزجرها عما فيه هلاكها. ولكن المعاند الذي لا تنفع فيه الآيات، لا يزال مستمراً على بغيه وكفره وعناده. { فَلاَ صَدَّقَ } أي: لا آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره { وَلاَ صَلَّىٰ * وَلَـٰكِن كَذَّبَ } بالحق في مقابلة التصديق، { وَتَوَلَّىٰ } عن الأمر والنهي، هذا وهو مطمئن قلبه، غير خائف من ربه، بل يذهب { إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ } أي: ليس على باله شيء، توعده بقوله: { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ * ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } وهذه كلمات وعيد، كررها لتكرير وعيده، ثم ذكَّر الإنسان بخلقه الأول، فقال: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } أي: معطلاً، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يُعاقَب؟ هذا حسبان باطل، وظن بالله بغير ما يليق بحكمته. { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ } بعد المني { عَلَقَةً } أي: دماً، { فَخَلَقَ } الله منها الحيوان وسواه أي: أتقنه وأحكمه، { فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * أَلَيْسَ ذَلِكَ } الذي خلق الإنسان [وطوره إلى] الأطوار المختلفة { بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ } بلى إنه على كل شيء قدير.

ابوالوليد المسلم
05-09-2020, 03:33 AM
الحلقة (616)
تفسير السعدى
(سورة الإنسان)
من (1)الى (27)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورةالإنسان
{ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } 1 { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } 2 { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }3


ذكر الله في هذه السورة الكريمة أول حالة الإنسان ومبتدأها ومتوسطها ومنتهاها. فذكر أنه مرّ عليه دهر طويل، وهو الذي قبل وجوده، وهو معدوم بل ليس مذكوراً. ثم لما أراد الله تعالى خلقه، خلق [أباه] آدم من طين، ثم جعل نسله متسلسلاً { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } أي: ماء مهين مستقذر { نَّبْتَلِيهِ } بذلك، لنعلم هل يرى حاله الأولى، ويتفطن لها أم ينساها وتغره نفسه؟ فأنشأه الله، وخلق له القوى الباطنة والظاهرة، كالسمع والبصر، وسائر الأعضاء، فأتمها له وجعلها سالمة يتمكن بها من تحصيل مقاصده. ثم أرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وهداه الطريق الموصلة إلى الله، ورغَّبه فيها، وأخبره بما له عند الوصول إلى الله. ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك، ورهَّبه منها، وأخبره بما له إذا سلكها، وابتلاه بذلك، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه، قائم بما حمله الله من حقوقه، وإلى كفور لنعمة الله عليه، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية، فردَّها، وكفر بربه، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك. ثم ذكر تعالى حال الفريقين عند الجزاء فقال: { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً... }.
{ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } 4 { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } 5 { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } 6 { يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } 7 { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } 8 { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } 9 { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } 10 { فَوَقَٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } 11 { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً } 12 { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } 13 { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } 14 { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ } 15 { قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } 16 { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً } 17 { عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً } 18 { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } 19 { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } 20 { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } 21 { إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } 22 { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً } 23 { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } 24 { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } 25 { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } 26 { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً }27


{ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً * إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } إلى آخر الثواب أي: إنا هيأنا وأرصدنا لمن كفر بالله، وكذب رسله، وتجرأ على المعاصي { سَلاَسِلاَ } في نار جهنم، كما قال تعالى:{ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } [الحاقة: 32]. { وَأَغْلاَلاً } تغل بها أيديهم إلى أعناقهم ويوثقون بها. { وَسَعِيراً } أي: ناراً تستعر بها أجسامهم وتحرق بها أبدانهم،{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } [النساء: 56] وهذا العذاب دائم لهم أبداً، مخلدون فيه سرمداً. وأما { ٱلأَبْرَارَ } وهم الذين برت قلوبهم بما فيها من محبة الله ومعرفته، والأخلاق الجميلة، فبرت جوارحهم، واستعملوها بأعمال البر، أخبر أنهم { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } أي: شراب لذيذ من خمر قد مزج بكافور أي: خلط بكافور، ليبرده ويكسر حدته، وهذا الكافور [في غاية اللذة] قد سلم من كل مكدر ومنغص، موجود في كافور الدنيا، فإن الآفة الموجودة في الأسماء التي ذكر الله أنها في الجنة وهي في الدنيا تعدم في الآخرة. كما قال تعالى:{ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } [الواقعة: 28-29]{ وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [آل عمران: 15]{ لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ } [الأنعام: 127]{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [الزخرف: 71]. { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } أي: ذلك الكأس اللذيذ الذي يشربون به، لا يخافون نفاده، بل له مادة لا تنقطع، وهي عين دائمة الفيضان والجريان، يفجرها عباد الله تفجيراً، أنى شاؤوا، وكيف أرادوا، فإن شاؤوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات، أو إلى الرياض الناضرات، أو بين جوانب القصور والمساكن المزخرفات، أو إلى أي جهة يرونها من الجهات المونقات. وقد ذكر جملة من أعمالهم في أول هذه السورة، فقال: { يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ } أي: بما ألزموا به أنفسهم لله من النذور والمعاهدات، وإذا كانوا يوفون بالنذر، وهو لم يجب عليهم، إلا بإيجابهم على أنفسهم، كان فعلهم وقيامهم بالفروض الأصلية، من باب أولى وأحرى، { وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } أي: منتشراً فاشياً، فخافوا أن ينالهم شره، فتركوا كل سبب موجب لذلك، { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ } أي: وهم في حال يحبون فيها المال والطعام، لكنهم قدموا محبة الله على محبة نفوسهم، ويتحرون في إطعامهم أولى الناس وأحوجهم، { مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً }. ويقصدون بإنفاقهم وإطعامهم وجه الله تعالى، ويقولون بلسان الحال: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } أي: لا جزاء مالياً، ولا ثناءً قولياً. { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً } أي: شديد الجهمة والشر { قَمْطَرِيراً } أي: ضنكاً ضيقاً، { فَوَقَٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ } فلا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة [هذا يومكم الذي كنتم توعدون]. { وَلَقَّاهُمْ } أي: أكرمهم وأعطاهم { نَضْرَةً } في وجوههم { وَسُرُوراً } في قلوبهم، فجمع لهم بين نعيم الظاهر والباطن، { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } على طاعة الله، فعملوا ما أمكنهم منها، وعن معاصي الله، فتركوها، وعلى أقدار الله المؤلمة، فلم يتسخطوها، { جَنَّةً } جامعة لكل نعيم، سالمة من كل مكدر ومنغص، { وَحَرِيراً } كما قال [تعالى:]
{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج: 23] ولعل الله إنما خص الحرير، لأنه لباسهم الظاهر، الدال على حال صاحبه. { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ } الاتكاء: التمكن من الجلوس، في حال الرفاهية والطمأنينة [الراحة]، والأرائك هي السرر التي عليها اللباس المزين، { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا } أي: في الجنة { شَمْساً } يضرهم حرها، { وَلاَ زَمْهَرِيراً } أي: برداً شديداً، بل جميع أوقاتهم في ظل ظليل، لا حر ولا برد، بحيث تلتذ به الأجساد، ولا تتألم من حر ولا برد. { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } أي: قربت ثمراتها من مريدها تقريبا ينالها، وهو قائم، أو قاعد، أو مضطجع. ويطاف على أهل الجنة أي: يدور [عليهم] الخدم والولدان { بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ } أي: مادتها من فضة، [وهي] على صفاء القوارير، وهذا من أعجب الأشياء، أن تكون الفضة الكثيفة، من صفاء جوهرها، وطيب معدنها، على صفاء القوارير. { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } أي: قدروا الأواني المذكورة على قدر رِيِهِّمْ، لا تزيد ولا تنقص، لأنها لو زادت نقصت لذتها، ولو نقصت لم تف بريهم. ويحتمل أن المراد: قدرها أهل الجنة بنفوسهم بمقدار يوافق لذاتهم، فأتتهم على ما قدروا في خواطرهم. { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا } أي: في الجنة، من كأس، وهو الإناء المملوء من خمر ورحيق، { كَانَ مِزَاجُهَا } أي: خلطها { زَنجَبِيلاً } ليطيب طعمه وريحه. { عَيْناً فِيهَا } أي: في الجنة، { تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً } سميت بذلك لسلاستها ولذتها وحسنها. { وَيَطُوفُ } على أهل الجنة، في طعامهم وشرابهم وخدمتهم. { وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أي: خلقوا من الجنة للبقاء، لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم في غاية الحسن، { إِذَا رَأَيْتَهُمْ } منتشرين في خدمتهم { حَسِبْتَهُمْ } من حسنهم { لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } وهذا من تمام لذة أهل الجنة، أن يكون خدامهم الولدان المخلدون، الذين تسر رؤيتهم، ويدخلون على مساكنهم، آمنين من تبعتهم، ويأتونهم بما يدعون وتطلبه نفوسهم، { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ } أي: هناك في الجنة، ورمقت ما هم فيه من النعيم { رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } فتجد الواحد منهم، عنده من القصور والمساكن والغرف المزينة المزخرفة، ما لا يدركه الوصف، ولديه من البساتين الزاهرة، والثمار الدانية، والفواكه اللذيذة، والأنهار الجارية، والرياض المعجبة، والطيور المطربة [المشجية]، ما يأخذ بالقلوب، ويفرح النفوس. وعنده من الزوجات. اللاتي هن في غاية الحسن والإحسان، الجامعات لجمال الظاهر والباطن، الخيرات الحسان، ما يملأ القلب سروراً، ولذةً وحبوراً، وحوله من الولدان المخلدين، والخدم المؤبدين، ما به تحصل الراحة والطمأنينة، وتتم لذة العيش، وتكمل الغبطة. ثم علاوة ذلك ومعظمه الفوز برؤية الرب الرحيم، وسماع خطابه، ولذة قربه، والابتهاج برضاه، والخلود الدائم، وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت وحين، فسبحان الملك المالك، الحق المبين، الذي لا تنفد خزائنه، ولا يقل خيره، فكما لا نهاية لأوصافه فلا نهاية لبره وإحسانه، { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ } أي: قد جللتهم ثياب السندس والإستبرق الأخضران، اللذان هما أجل أنواع الحرير، فالسندس: ما غلظ من الديباج، والإستبرق: ما رق منه.
{ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } أي: حلوا في أيديهم أساور الفضة، ذكورهم وإناثهم، وهذا وعد وعدهم الله، وكان وعده مفعولاً، لأنه لا أصدق منه قيلاً ولا حديثاً. وقوله: { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } أي: لا كدر فيه بوجه من الوجوه، مطهراً لما في بطونهم من كل أذى وقذى. { إِنَّ هَـٰذَا } الجزاء الجزيل والعطاء الجميل { كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } على ما أسلفتموه من الأعمال، { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُور } أي: القليل منه، يجعل الله لكم به من النعيم المقيم ما لا يمكن حصره. وقوله تعالى لما ذكر نعيم الجنة { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً } فيه الوعد والوعيد، وبيان كل ما يحتاجه العباد، وفيه الأمر بالقيام بأوامره وشرائعه أتمّ القيام، والسعي في تنفيذها، والصبر على ذلك. ولهذا قال: { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } أي: اصبر لحكمه القدري، فلا تسخطه، ولحكمه الديني، فامض عليه، ولا يعوقك عنه عائق. { وَلاَ تُطِعْ } من المعاندين، الذين يريدون أن يصدوك { ءَاثِماً } أي: فاعلاً إثماً ومعصيةً ولا { كَفُوراً } فإن طاعة الكفار والفجار والفساق، لا بد أن تكون في المعاصي، فلا يأمرون إلا بما تهواه أنفسهم. ولما كان الصبر يساعده القيام بعبادة الله، والإكثار من ذكره، أمره الله بذلك، فقال: { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي: أول النهار وآخره، فدخل في ذلك، الصلوات المكتوبات وما يتبعها من النوافل، والذكر، والتسبيح، والتهليل، والتكبير في هذه الأوقات. { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ } أي: أكثر [له] من السجود، ولا يكون ذلك إلا بالإكثار من الصلاة. { وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } وقد تقدم تقييد هذا المطلق بقوله:{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً } [المزمل: 1-2] الآية: [وقوله] { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ } أي: المكذبين لك أيها الرسول بعد ما بينت لهم الآيات، ورغبوا ورهبوا، ومع ذلك، لم يفد فيهم ذلك شيئاً، بل لا يزالون يؤثرون { ٱلْعَاجِلَةَ } ويطمئنون إليها، { وَيَذَرُونَ } أي: يتركون العمل ويهملون { وَرَآءَهُمْ } أي: أمامهم { يَوْماً ثَقِيلاً } وهو يوم القيامة، الذي مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون، وقال تعالى:{ يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر: 8] فكأنهم ما خلقوا إلا للدنيا والإقامة فيها.

ابوالوليد المسلم
05-09-2020, 03:33 AM
الحلقة (617)
تفسير السعدى
(سورة المرسلات)
من (1)الى (24)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورةالمرسلات
{ نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } 28 { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } 29 { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } 30 { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }31


ثم استدل عليهم وعلى بعثهم بدليل عقلي، وهو دليل الابتداء، فقال: { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ } أي: أوجدناهم من العدم، { وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } أي: أحكمنا خلقتهم بالأعصاب، والعروق، والأوتار، والقوى الظاهرة والباطنة، حتى تم الجسم واستكمل، وتمكن من كل ما يريده، فالذي أوجدهم على هذه الحالة، قادر على أن يعيدهم بعد موتهم لجزائهم، والذي نقلهم في هذه الدار إلى هذه الأطوار، لا يليق به أن يتركهم سدى، لا يؤمرون، ولا ينهون، ولا يثابون، ولا يعاقبون، ولهذا قال: { بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } أي: أنشأناكم للبعث نشأة أخرى، وأعدناكم بأعيانكم، وهم بأنفسهم أمثالهم. { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ } أي: يتذكر بها المؤمن، فينتفع بما فيها من التخويف والترغيب. { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } أي: طريقاً موصلاً إليه، فالله يبين الحق والهدى، ثم يخير الناس بين الاهتداء بها أو النفور عنها، مع قيام الحجة عليهم، { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } فإن مشيئة الله نافذة، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } فله الحكمة في هداية المهتدي، وإضلال الضال. { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } فيختصه بعنايته، ويوفقه لأسباب السعادة ويهديه لطرقها. { وَٱلظَّالِمِينَ } الذين اختاروا الشقاء على الهدى { أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [بظلمهم وعدوانهم].

سورة المرسلات

{ وَٱلْمُرْسَلاَت ِ عُرْفاً } 1 { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } 2 { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } 3 { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } 4 { فَٱلْمُلْقِيَٰت ِ ذِكْراً } 5 { عُذْراً أَوْ نُذْراً } 6 { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٌ } 7 { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ } 8 { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ } 9 { وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ } 10 { وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ } 11 { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } 12 { لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ } 13 { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } 14 { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ }15


أقسم تعالى على البعث والجزاء بالأعمال، بالمرسلات عرفاً، وهي الملائكة التي يرسلها الله تعالى بشؤونه القدرية وتدبير العالم، وبشئونه الشرعية ووحيه إلى رسله. و { عُرْفاً } حال من المرسلات أي: أرسلت بالعرف والحكمة والمصلحة، لا بالنكر والعبث. { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } وهي [أيضاً] الملائكة التي يرسلها الله تعالى، وصفها بالمبادرة لأمره، وسرعة تنفيذ أوامره، كالريح العاصف، أو: أن العاصفات، الرياح الشديدة، التي يسرع هبوبها. { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } يحتمل أنها الملائكة، تنشر ما دبرت على نشره، أو أنها السحاب التي يُنشِر بها الله الأرض، فيحييها بعد موتها. { فَٱلْمُلْقِيَٰت ِ ذِكْراً } هي الملائكة، تلقي أشرف الأوامر، وهو الذكر الذي يرحم الله به عباده، ويذكرهم فيه منافعهم ومصالحهم، تلقيه إلى الرسل، { عُذْراً أَوْ نُذْراً } أي: إعذاراً وإنذاراً للناس، تنذر الناس ما أمامهم من المخاوف، وتقطع معذرتهم، فلا يكون لهم حجة على الله. { إِنَّمَا تُوعَدُونَ } من البعث والجزاء على الأعمال { لَوَٰقِعٌ } أي: متحتم وقوعه، من غير شك ولا ارتياب. فإذا وقع حصل من التغير للعالم والأهوال الشديدة ما يزعج القلوب، وتشتد له الكروب، فتنطمس النجوم أي: تتناثر وتزول عن أماكنها وتنسف الجبال، فتكون كالهباء المنثور، وتكون هي والأرض قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وذلك اليوم هو اليوم الذي أقتت فيه الرسل، وأجلت للحكم بينها وبين أممها، ولهذا قال: { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } استفهام للتعظيم والتفخيم والتهويل. ثم أجاب بقوله: { لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ } [أي:] بين الخلائق، بعضهم لبعض، وحساب كل منهم منفرداً، ثم توعد المكذب بهذا اليوم، فقال: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } أي: يا حسرتهم، وشدة عذابهم، وسوء منقلبهم، أخبرهم الله، وأقسم لهم، فلم يصدقوه، فاستحقوا العقوبة البليغة.
{ أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ } 16 { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ } 17 { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِين َ } 18 { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ }19


أي: أما أهلكنا المكذبين السابقين، ثم نتبعهم بإهلاك من كذب من الآخرين، وهذه سنته السابقة واللاحقة في كل مجرم لا بد من عذابه، فلم لا تعتبرون بما ترون وتسمعون؟ { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } بعدما شاهدوا من الآيات البينات، والعقوبات والمثلات.
{ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } 20 { فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } 21 { إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } 22 { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ } 23 { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ }24


أي: أما خلقناكم أيها الآدميون { مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } أي: في غاية الحقارة، خرج من بين الصلب والترائب، حتى جعله الله { فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } وهو الرحم، به يستقر وينمو. { إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } ووقت مقدر. { فَقَدَرْنَا } أي: قدرنا ودبرنا ذلك الجنين، في تلك الظلمات، ونقلناه من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة، إلى أن جعله الله جسداً، ثم نفخ فيه الروح، ومنهم من يموت قبل ذلك. { فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ } [يعني بذلك نفسه المقدسة] حيث كان قدراً تابعاً للحكمة، موافقاً للحمد. { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } بعدما بيّن الله لهم الآيات، وأراهم العبر والبيّنات.

ابوالوليد المسلم
05-09-2020, 03:34 AM
الحلقة (618)
تفسير السعدى
(سورة المرسلات)
من (25)الى (50)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورةالمرسلات
{ أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً } 25 { أَحْيَآءً وَأَمْوٰتاً } 26 { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُ م مَّآءً فُرَاتاً } 27 { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ }28


أي: أما امتننا عليكم وأنعمنا، بتسخير الأرض لمصالحكم، فجعلناها { كِفَاتاً } لكم، { أَحْيَآءً } في الدور، { وَأَمْوٰتاً } في القبور، فكما أن الدور والقصور من نعم الله على عباده ومنته، فكذلك القبور، رحمة في حقهم، وستراً لهم، عن كون أجسادهم بادية للسباع وغيرها. { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } أي: جبالاً ترسي الأرض، لئلا تميد بأهلها، فثبتها الله بالجبال الراسيات الشامخات أي: الطوال العراض، { وَأَسْقَيْنَاكُ م مَّآءً فُرَاتاً } أي: عذباً زلالاً قال تعالى:{ أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } [الواقعة: 68-70]. { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } مع ما أراهم الله من النعم، التي انفرد الله بها، واختصهم بها، فقابلوها بالتكذيب.
{ ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } 29 { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } 30 { لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ ٱللَّهَبِ } 31 { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَٱلْقَصْرِ } 32 { كَأَنَّهُ جِمَٰلَتٌ صُفْرٌ } 33 { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ }34


هذا من الويل الذي أعد [للمجرمين] للمكذبين، أن يقال لهم يوم القيامة: { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } ثم فسر ذلك بقوله: { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } أي: إلى ظل نار جهنم، التي تتمايز في خلاله ثلاث شعب أي: قطع من النار أي: تتعاوره وتتناوبه وتجتمع به. { لاَّ ظَلِيلٍ } ذلك الظل أي: لا راحة فيه ولا طمأنينة، { وَلاَ يُغْنِي } من مكث فيه { مِنَ ٱللَّهَبِ } بل اللهب قد أحاط به، يمنة ويسرة ومن كل جانب، كما قال تعالى:{ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [الزمر: 16].{ لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } [الأعراف: 41]. ثم ذكر عظم شرر النار، الدال على عظمها وفظاعتها وسوء منظرها، فقال: { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَٱلْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَٰلَتٌ صُفْرٌ } وهي السود التي تضرب إلى لون فيه صفرة، وهذا يدل على أن النار مظلمة، لهبها وجمرها وشررها، وأنها سوداء، كريهة المرأى، شديدة الحرارة، نسأل الله العافية منها [من الأعمال المقربة منها]. { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ }
{ هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } 35 { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } 36 { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } 37 { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ جَمَعْنَٰكُمْ وَٱلأَوَّلِينَ } 38 { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } 39 { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ }40


أي: هذا اليوم العظيم الشديد على المكذبين، لا ينطقون فيه من الخوف والوجل الشديد، { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } أي: لا تقبل معذرتهم، ولو اعتذروا:{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [الروم: 57]. { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ جَمَعْنَٰكُمْ وَٱلأَوَّلِينَ } لنفصل بينكم، ونحكم بين الخلائق، { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ } تقدرون على الخروج من ملكي، وتنجون به من عذابي، { فَكِيدُونِ } أي: ليس لكم قدرة ولا سلطان، كما قال تعالى:{ يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } [الرحمن: 33]. ففي ذلك اليوم، تبطل حيل الظالمين، ويضمحل مكرهم وكيدهم، ويستسلمون لعذاب الله، ويبين لهم كذبهم في تكذيبهم { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ }.
{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ } 41 { وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ } 42 { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيـۤئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } 43 { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } 44 { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ }45


لما ذكر عقوبة المكذبين، ذكر ثواب المحسنين، فقال: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [أي:] للتكذيب، المتصفين بالتصديق في أقوالهم وأفعالهم وأعمالهم، ولا يكونون كذلك إلا بأدائهم الواجبات، وتركهم المحرمات. { فِي ظِلاَلٍ } من كثرة الأشجار المتنوعة، الزاهية البهية. { وَعُيُونٍ } جارية من السلسبيل، والرحيق وغيرهما، { وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ } أي: من خيار الفواكه وطيبها، ويقال لهم: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } من المآكل الشهية، والأشربة اللذيذة، { هَنِيـۤئاً } أي: من غير منغص ولا مكدر، ولا يتم هناؤه، حتى يسلم الطعام والشراب من كل آفة ونقص، وحتى يجزموا أنه غير منقطع ولا زائل، { ئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فأعمالكم هي السبب الموصل لكم إلى هذا النعيم المقيم، وهكذا كل من أحسن في عبادة الله وأحسن إلى عباد الله، ولهذا قال: { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } ولو لم يكن لهم من هذا الويل إلا فوات هذا النعيم، لكفى به حرماناً وخسراناً.
{ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } 46 { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } 47 { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ } 48 { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } 49 { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }50


هذا تهديد ووعيد للمكذبين، أنهم وإن أكلوا في الدنيا وشربوا وتمتعوا باللذات، وغفلوا عن القربات، فإنهم مجرمون، يستحقون ما يستحقه المجرمون، فستنقطع عنهم اللذات، وتبقى عليهم التبعات، ومن إجرامهم أنهم إذا أمروا بالصلاة التي هي أشرف العبادات، وقيل لهم: { ٱرْكَعُواْ } امتنعوا من ذلك. فأيُّ إجرام فوق هذا؟ وأيُّ تكذيب يزيد على هذا؟!! { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } ومن الويل عليهم أنهم تنسد عليهم أبواب التوفيق، ويحرمون كل خير، فإنهم إذا كذبوا هذا القرآن الكريم، الذي هو أعلى مراتب الصدق واليقين على الإطلاق. { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } أبالباطل الذي هو كاسمه، لا يقوم عليه شبهة فضلاً عن الدليل؟ أم بكلام كل مشرك كذاب أفاك مبين؟ فليس بعد النور المبين إلا دياجي الظلمات، ولا بعد الصدق الذي قامت الأدلة والبراهين على صدقه إلا الكذب الصراح والإفك المبين، الذي لا يليق إلا بمن يناسبه. فتباً لهم ما أعماهم! وويحاً لهم، ما أخسرهم وأشقاهم!.

ابوالوليد المسلم
05-09-2020, 03:35 AM
الحلقة (619)
تفسير السعدى
(سورةالنبأ)
من (1)الى (30)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة النبأ

{ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } 1 { عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ } 2 { ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } 3 { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } 4 { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ }5


أي: عن أي شيء يتساءل المكذبون بآيات الله؟ ثم بيَّن ما يتساءلون عنه، فقال: { عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ * ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } أي: عن الخبر العظيم، الذي طال فيه نزاعهم، وانتشر فيه خلافهم على وجه التكذيب والاستبعاد، وهو النبأ الذي لا يقبل الشك ولا يدخله الريب، ولكن المكذبون بلقاء ربهم لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم. ولهذا قال: { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } أي: سيعلمون إذا نزل بهم العذاب ما كانوا به يكذبون، حين يدعون إلى نار جهنم دعّا، ويقال لهم:{ هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [الطور: 14]. ثم بيّن تعالى النعم والأدلة الدالة على صدق ما أخبرت به الرسل، فقال: { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَٰداً * وَٱلْجِبَالَ... }.
{ أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَٰداً } 6 { وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } 7 { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } 8 { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } 9 { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً } 10 { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } 11 { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } 12 { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } 13 { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً } 14 { لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً } 15 { وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً }16


أي: أما أنعمنا عليكم بنعم جليلة، فجعلنا لكم { ٱلأَرْضَ مِهَٰداً } أي: ممهدة مهيأة لكم ولمصالحكم، من الحروث والمساكن والسبل. { وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } تمسك الأرض لئلا تضطرب بكم وتميد، { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } أي: ذكوراً وإناثاً من جنس واحد، ليسكن كل منهما إلى الآخر، فتكون المودة والرحمة، وتنشأ عنهما الذرية، وفي ضمن هذا الامتنان، بلذة المنكح. { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتا } أي: راحة لكم، وقطعاً لأشغالكم، التي متى تمادت بكم أضرت بأبدانكم، فجعل الله الليل والنوم يغشى الناس، لتنقطع حركاتهم الضارة، وتحصل راحتهم النافعة. { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } أي: سبع سماوات، في غاية القوة، والصلابة والشدة، وقد أمسكها الله بقدرته، وجعلها سقفاً للأرض، فيها عدة منافع لهم، ولهذا ذكر من منافعها الشمس فقال: { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } نبه بالسراج على النعمة بنورها، الذي صار كالضرورة للخلق، وبالوهاج الذي فيه الحرارة على حرارتها وما فيها من المصالح. { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ } أي: السحاب { مَآءً ثَجَّاجاً } أي: كثيراً جداً. { لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً } من بُرٍّ وشعير وذرة وأرز، وغير ذلك مما يأكله الآدميون. { وَنَبَاتاً } يشمل سائر النبات، الذي جعله الله قوتاً لمواشيهم، { وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } أي: بساتين ملتفة، فيها من جميع أصناف الفواكه اللذيذة. فالذي أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة، التي لا يقدر قدرها، ولا يحصى عددها، كيف [تكفرون به و] تكذبون ما أخبركم به من البعث والنشور؟! أم كيف تستعينون بنعمه على معاصيه وتجحدونها؟!!
{ إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً } 17 { يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } 18 { وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً } 19 { وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } 20 { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } 21 { لِّلطَّاغِينَ مَآباً } 22 { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } 23 { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } 24 { إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } 25 { جَزَآءً وِفَاقاً } 26 { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } 27 { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } 28 { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } 29 { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً }30


ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة الذي يتساءل عنه المكذبون، ويجحده المعاندون، أنه يوم عظيم، وأن الله جعله { مِيقَاتاً } للخلق { يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } ويجري فيه من الزعازع والقلاقل ما يشيب له الوليد، وتنزعج له القلوب، فتسير الجبال، حتى تكون كالهباء المبثوث، وتشقق السماء حتى تكون أبواباً، ويفصل الله بين الخلائق بحكمه الذي لا يجور، وتوقد نار جهنم التي أرصدها الله وأعدها للطاغين، وجعلها مثوى لهم ومآباً، وأنهم يلبثون فيها أحقاباً كثيرة، و " الحقب " على ما قاله كثير من المفسرين: ثمانون سنة. وهم إذا وردوها { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } أي: لا ما يبرد جلودهم، ولا ما يدفع ظمأهم. { إِلاَّ حَمِيماً } أي: ماءً حاراً، يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم، { وَغَسَّاقاً } وهو: صديد أهل النار، الذي هو في غاية النتن، وكراهة المذاق، وإنما استحقوا هذه العقوبات الفظيعة جزاءً لهم، ووفاقاً على ما عملوا من الأعمال الموصلة إليها، لم يظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم، ولهذا ذكر أعمالهم، التي استحقوا بها هذا الجزاء، فقال: { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } أي: لا يؤمنون بالبعث، ولا أن الله يجازي الخلق بالخير والشر، فلذلك أهملوا العمل للآخرة. { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } أي: كذبوا بها تكذيباً واضحاً صريحاً وجاءتهم البينات فعاندوها. { وَكُلَّ شَيْءٍ } من قليل وكثير، وخير وشر { أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } أي: كتبناه في اللوح المحفوظ، فلا يخشى المجرمون أنا عذبناهم بذنوب لم يعملوها، ولا يحسبوا أنه يضيع من أعمالهم شيء، أو ينسى منها مثقال ذرة، كما قال تعالى:{ وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف: 49]. { فَذُوقُواْ } أيها المكذبون هذا العذاب الأليم والخزي الدائم { فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } وكل وقت وحين يزداد عذابهم [وهذه الآية أشد الآيات في شدة عذاب أهل النار أجارنا الله منها].

ابوالوليد المسلم
05-09-2020, 03:36 AM
الحلقة (620)
تفسير السعدى
(سورةالنازعات)
من (1)الى (14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة النازعات
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } 31 { حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً } 32 { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } 33 { وَكَأْساً دِهَاقاً } 34 { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً } 35 { جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً }36


لما ذكر حال المجرمين، ذكر مآل المتقين، فقال: { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } أي: الذين اتقوا سخط ربهم، بالتمسك بطاعته، والانكفاف عما يكرهه فلهم مفاز ومنجى، وبُعْدٌ عن النار، وفي ذلك المفاز لهم { حَدَآئِقَ } وهي البساتين الجامعة لأصناف الأشجار الزاهية، في الثمار التي تتفجر بين خلالها الأنهار، وخص الأعناب لشرفه وكثرته في تلك الحدائق. ولهم فيها زوجات على مطالب النفوس { وَكَوَاعِبَ }: وهي: النواهد اللاتي لم تتكسر ثديهن من شبابهن، وقوتهن ونضارتهن. " والأتراب ": اللاتي على سن واحد متقارب، ومن عادة الأتراب أن يكن متآلفات متعاشرات، وذلك السن الذي هن فيه ثلاث وثلاثون سنة، في أعدل سن الشباب. { وَكَأْساً دِهَاقاً } أي: مملوءة من رحيق، لذة للشاربين، { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } أي: كلاماً لا فائدة فيه { وَلاَ كِذَّاباً } أي: إثما. كما قال تعالى:{ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } [الواقعة: 25-26]. وإنما أعطاهم الله هذا الثواب الجزيل [من فضله وإحسانه] { جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ } لهم { عَطَآءً حِسَاباً } أي: بسبب أعمالهم التي وفقهم الله لها، وجعلها ثمناً لجنته ونعيمها.
{ رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَـٰنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } 37 { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَة ُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } 38 { ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآباً } 39 { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً }40


أي: الذي أعطاهم هذه العطايا هو ربهم { رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } الذي خلقها ودبرها { ٱلرَّحْمَـٰنِ } الذي رحمته وسعت كل شيء، فرباهم ورحمهم، ولطف بهم، حتى أدركوا ما أدركوا. ثم ذكر عظمته وملكه العظيم يوم القيامة، وأن جميع الخلق كلهم ذلك اليوم ساكتون لا يتكلمون، و { لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، فلا يتكلم أحد إلا بهذين الشرطين: أن يأذن الله له في الكلام، وأن يكون ما تكلم به صواباً، لأن { ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ } هو { ٱلْحَقُّ } الذي لا يروج فيه الباطل، ولا ينفع فيه الكذب، وفي ذلك اليوم { يَقُومُ ٱلرُّوحُ } وهو جبريل عليه السلام، الذي هو أشرف الملائكة، { وَٱلْمَلاَئِكَة ُ } [أيضاً يقوم الجميع] { صَفّاً } خاضعين لله { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ } إلا بما أذن لهم الله به. فلما رغَّب ورهَّب، وبشَّر وأنذر، قال: { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآباً } أي: عملاً، وقدم صدق يرجع إليه يوم القيامة. { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } لأنه قد أزف مقبلاً، وكل ما هو آت فهو قريب. { يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي: هذا الذي يهمه ويفزع إليه، فلينظر في هذه الدنيا إليه، كما قال تعالى:{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } الآيات [الحشر: 18]. فإن وجد خيراً فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ولهذا كان الكفار يتمنون الموت من شدة الحسرة والندم.
سورة النازعات

{ وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً } 1 { وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } 2 { وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً } 3 { فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً } 4 { فَٱلْمُدَبِّرَا تِ أَمْراً } 5 { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ } 6 { تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ } 7 { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } 8 { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } 9 { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَافِرَةِ } 10 { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } 11 { قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } 12 { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } 13 { فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ }14


هذه الإقسامات بالملائكة الكرام، وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لأمر الله، وإسراعهم في تنفيذ أمره، يحتمل أن المقسم عليه، الجزاء والبعث، بدليل الإتيان بأحوال القيامة بعد ذلك، ويحتمل أن المقسم عليه والمقسم به متحدان، وأنه أقسم على الملائكة، لأن الإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة، ولأن في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمن الجزاء الذي تتولاه الملائكة عند الموت وقبله وبعده، فقال: { وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً }: وهم الملائكة التي تنزع الأرواح بقوة، وتغرق في نزعها حتى تخرج الروح، فتجازى بعملها. { وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً }: وهم الملائكة أيضاً، تجتذب الأرواح بقوة ونشاط، أو أن النزع يكون لأرواح المؤمنين، والنشط لأرواح الكفار. { وَٱلسَّابِحَاتِ } أي: المترددات في الهواء صعوداً ونزولاً { سَبْحاً } { فَٱلسَّابِقَاتِ } لغيرها { سَبْقاً } فتبادر لأمر الله، وتسبق الشياطين في إيصال الوحي إلى رسل الله حتى لا تسترقه. { فَٱلْمُدَبِّرَا تِ أَمْراً } الملائكة، الذين وكلهم الله أن يدبروا كثيراً من أمور العالم العلوي والسفلي، من الأمطار، والنبات، والأشجار، والرياح، والبحار، والأجنة، والحيوانات، والجنة، والنار [وغير ذلك] { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ } وهي قيام الساعة، { تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ } أي: الرجفة الأخرى التي تردفها وتأتي تِلْوَها، { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } أي: موجفةٌ ومنزعجة من شدة ما ترى وتسمع. { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } أي: ذليلة حقيرة، قد ملك قلوبهم الخوف، وأذهل أفئدتهم الفزع، وغلب عليهم التأسف [واستولت عليهم] الحسرة. يقولون أي: الكفار في الدنيا، على وجه التكذيب: { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } أي: بالية فتاتاً. { قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } أي: استبعدوا أن يبعثهم الله ويعيدهم بعدما كانوا عظاماً نخرة، جهلاً [منهم] بقدرة الله، وتجرُّؤا عليه. قال الله في بيان سهولة هذا الأمر عليه: { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } ينفخ فيها في الصور. فإذا الخلائق كلهم { بِٱلسَّاهِرَةِ } أي: على وجه الأرض، قيام ينظرون، فيجمعهم الله ويقضي بينهم بحكمه العدل ويجازيهم.

ابوالوليد المسلم
13-09-2020, 04:11 AM
الحلقة (621)
تفسير السعدى
(سورةالنازعات)
من (15)الى (46)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة النازعات

{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ } 15 { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } 6 { ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } 17 { فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ } 18 { وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ } 19 { فَأَرَاهُ ٱلآيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ } 20 { فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ } 21 { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ } 22 { فَحَشَرَ فَنَادَىٰ } 23 { فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } 24 { فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ } 25 { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ }26


يقول [الله] تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ } وهذا الاستفهام عن أمر عظيم متحقق وقوعه. أي: هل أتاك حديثه { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } وهو المحل الذي كلمه الله فيه، وامتن عليه بالرسالة، واختصه بالوحي والاجتباء فقال له: { ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } أي: فانهه عن طغيانه وشركه وعصيانه، بقول لين، وخطاب لطيف، لعله{ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [طه: 44]. { فَقُلْ } له: { هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ } أي: هل لك في خصلة حميدة، ومحمدة جميلة، يتنافس فيها أولو الألباب، وهي أن تُزَكِّي نفسك وتطهرها من دنس الكفر والطغيان، إلى الإيمان والعمل الصالح؟ { وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ } أي: أدلك عليه، وأُبيِّنُ لك مواقع رضاه، من مواقع سخطه. { فَتَخْشَىٰ } الله إذا علمت الصراط المستقيم، فامتنع فرعون مما دعاه إليه موسى. { فَأَرَاهُ ٱلآيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ } أي: جنس الآية الكبرى، فلا ينافي تعددها{ فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } [الأعراف: 107-108]. { فَكَذَّبَ } بالحق { وَعَصَىٰ } الأمر، { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ } أي: يجتهد في مُبارزة الحق ومحاربته، { فَحَشَرَ } جنوده أي: جمعهم { فَنَادَىٰ * فَقَالَ } لهم: { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } فأذعنوا له، وأقروا بباطله حين استخفهم، { فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ } أي: صارت عقوبته دليلاً وزاجراً، ومبينةً لعقوبة الدنيا والآخرة، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ } فإن من يخشى الله، هو الذي ينتفع بالآيات والعبر، فإذا رأى عقوبة فرعون، عرف أن كل من تكبر وعصى، وبارز الملك الأعلى، عاقبه في الدنيا والآخرة، وأما من ترحلت خشية الله من قلبه، فلو جاءته كل آية لم يؤمن [بها].
{ ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } 27 { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } 28 { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } 29 { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } 30 { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا } 31 { وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا } 32 { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُم ْ }33


يقول تعالى مبيناً دليلاً واضحاً لمنكري البعث ومستبعدي إعادة الله للأجساد: { ءَأَنتُمْ } أيها البشر { أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ } ذات الجرم العظيم، والخلق القوي، والارتفاع الباهر { بَنَاهَا } الله، { رَفَعَ سَمْكَهَا } أي: جرمها وصورتها، { فَسَوَّاهَا } بإحكام وإتقان يحير العقول، ويذهل الألباب، { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } أي: أظلمه، فعمت الظلمة [جميع] أرجاء السماء، فأظلم وجه الأرض، { وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أي: أظهر فيه النور العظيم، حين أتى بالشمس، فامتد الناس في مصالح دينهم ودنياهم. { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ } أي: بعد خلق السماء { دَحَاهَا } أي: أودع فيها منافعها. وفسر ذلك بقوله: { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا } أي: ثبتها في الأرض. فَدَحْيُ الأرض بعد خلق السماء، كما هو نص هذه الآيات [الكريمة]. وأما خلق نفس الأرض، فمتقدم على خلق السماء كما قال تعالى:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 9] إلى أن قال:{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11]. فالذي خلق السماوات العظام وما فيها من الأنوار والأجرام، والأرض الكثيفة الغبراء، وما فيها من ضروريات الخلق ومنافعهم، لا بد أن يبعث الخلق المكلفين، فيجازيهم على أعمالهم، فمن أحسن فله الحسنى ومن أساء فلا يلومن إلا نفسه، ولهذا ذكر بعد هذا القيام الجزاء، فقال: { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ... }.
{ فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ } 34 { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ مَا سَعَىٰ } 35 { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } 36 { فَأَمَّا مَن طَغَىٰ } 37 { وَآثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } 38 { فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } 39 { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } 40 { فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ }41


أي: إذا جاءت القيامة الكبرى، والشدة العظمى، التي يهون عندها كل شدة، فحينئذ يذهل الوالد عن ولده، والصاحب عن صاحبه [وكل محب عن حبيبه]. و { يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ مَا سَعَىٰ } في الدنيا، من خير وشر، فيتمنى زيادة مثقال ذرة في حسناته، ويغمّه ويحزن لزيادة مثقال ذرة في سيئاته. ويعلم إذ ذاك أن مادة ربحه وخسرانه ما سعاه في الدنيا، وينقطع كل سبب ووصلة كانت في الدنيا، سوى الأعمال. { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } أي: جعلت في البراز، ظاهرة لكل أحد، قد برزت لأهلها، واستعدت لأخذهم، منتظرة لأمر ربها. { فَأَمَّا مَن طَغَىٰ } أي: جاوز الحد، بأن تجرأ على المعاصي الكبار، ولم يقتصر على ما حده الله. { وَآثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } على الآخرة، فصار سعيه لها، ووقته مستغرقاً في حظوظها وشهواتها، ونسي الآخرة وترك العمل لها. { فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [له] أي: المقر والمسكن لمن هذه حاله، { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } أي: خاف القيام عليه ومجازاته بالعدل، فأثَّر هذا الخوف في قلبه فنهى نفسه عن هواها الذي يقيدها عن طاعة الله، وصار هواه تبعاً لما جاء به الرسول، وجاهد الهوى والشهوة الصادّين عن الخير، { فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ } [المشتملة على كل خير وسرور ونعيم] { هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } لمن هذا وصفه.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا } 42 { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَٰهَا } 43 { إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَٰهَآ } 44 { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا } 45 { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَٰهَا }46


أي: يسألك المتعنتون المكذبون بالبعث { عَنِ ٱلسَّاعَةِ } متى وقوعها و { أَيَّانَ مُرْسَٰهَا } فأجابهم الله بقوله: { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَٰهَا } أي: ما الفائدة لك ولهم في ذكرها ومعرفة وقت مجيئها؟ فليس تحت ذلك نتيجة، ولهذا لما كان علم العباد للساعة ليس لهم فيه مصلحة دينية ولا دنيوية، بل المصلحة في خفائه عليهم، طوى علم ذلك عن جميع الخلق، واستأثر بعلمه فقال: { إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَٰهَآ } أي: إليه ينتهي علمها، كما قال في الآية الأخرى:{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 187]. { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا } أي: إنما نذارتك [نفعها] لمن يخشى مجيء الساعة، ويخاف الوقوف بين يديه، فهم الذين لا يهمهم سوى الاستعداد لها والعمل لأجلها. وأما من لا يؤمن بها، فلا يبالي به ولا بتعنته، لأنه تعنت مبني على العناد والتكذيب، وإذا وصل إلى هذه الحال، كان الإجابة عنه عبثاً، ينزه الحكيم عنه [تمت] والحمد لله رب العالمين.

ابوالوليد المسلم
13-09-2020, 04:12 AM
الحلقة (622)
تفسير السعدى
(سورة عبس)
من (1)الى (42)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة عبس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)

وسبب نزول هذه الآيات الكريمات، أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي صلى الله عليه ويتعلم منه. وجاءه رجل من الأغنياء، وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية الخلق، فمال صلى الله عليه وسلم [وأصغى] إلى الغني، وصد عن الأعمى الفقير، رجاءً لهداية ذلك الغني، وطمعاً في تزكيته، فعاتبه الله بهذا العتاب اللطيف، فقال: { عَبَسَ } [أي:] في وجهه { وَتَوَلَّىٰ } في بدنه، لأجل مجيء الأعمى له، ثم ذكر الفائدة في الإقبال عليه، فقال: { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ } أي: الأعمى { يَزَّكَّىٰ }؟ أي: يتطهر عن الأخلاق الرذيلة، ويتصف بالأخلاق الجميلة؟ { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } أي: يتذكر ما ينفعه، فيعمل بتلك الذكرى. وهذه فائدة كبيرة، هي المقصودة من بعثة الرسل، ووعظ الوعاظ، وتذكير المذكرين، فإقبالك على من جاء بنفسه مفتقراً لذلك منك، هو الأليق الواجب، وأما تصديك وتعرضك للغني المستغني الذي لا يسأل ولا يستفتي لعدم رغبته في الخير، مع تركك من هو أهم منه، فإنه لا ينبغي لك، فإنه ليس عليك أن لا يزكى، فلو لم يَتزَكَّ، فلست بمحاسب على ما عمله من الشر. فدلّ هذا على القاعدة المشهورة، أنه: " لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة " ، وأنه ينبغي الإقبال على طالب العلم، المفتقر إليه، الحريص عليه أزيد من غيره.
لَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُ مْ (32)
يقول تعالى: { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } أي: حقاً إن هذه الموعظة تذكرة من الله، يذكر بها عباده، ويبين لهم في كتابه ما يحتاجون إليه، ويبين الرشد من الغي، فإذا تبين ذلك { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } أي: عمل به، كقوله تعالى:{ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف: 29]. ثم ذكر محل هذه التذكرة وعظمها ورفع قدرها، فقال: { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ } القدر والرتبة { مُّطَهَّرَةٍ } [من الآفاق و] عن أن تنالها أيدي الشياطين أو يسترقوها، بل هي { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } وهم الملائكة [الذين هم] السفراء بين الله وبين عباده، { كِرَامٍ } أي: كثيري الخير والبركة، { بَرَرَةٍ } قلوبهم وأعمالهم. وذلك كله حفظ من الله لكتابه، أن جعل السفراء فيه إلى الرسل الملائكة الكرام الأقوياء الأتقياء، ولم يجعل للشياطين عليه سبيلاً، وهذا مما يوجب الإيمان به وتلقِّيه بالقبول، ولكن مع هذا أبى الإنسان إلا كفوراً، ولهذا قال تعالى: { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } لنعمة الله، وما أشد معاندته للحق بعدما تبين، وهو ما هو؟ هو من أضعف الأشياء، خلقه الله من ماء مهين، ثم قدر خلقه، وسواه بشراً سوياً، وأتقن قواه الظاهرة والباطنة. { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } أي: يسر له الأسباب الدينية والدنيوية، وهداه السبيل، [وبينه] وامتحنه بالأمر والنهي، { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } أي: أكرمه بالدفن، ولم يجعله كسائر الحيوانات التي تكون جيفها على وجه الأرض، { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } أي: بعثه بعد موته للجزاء، فالله هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه بهذه التصاريف، لم يشاركه فيه مشارك، وهو - مع هذا - لا يقوم بما أمره الله، ولم يقض ما فرضه عليه، بل لا يزال مقصراً تحت الطلب. ثم أرشده تعالى إلى النظر والتفكر في طعامه، وكيف وصل إليه بعدما تكررت عليه طبقات عديدة، ويسره له فقال: { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً } أي: أنزلنا المطر على الأرض بكثرة، { ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ } للنبات { شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا } أصنافاً مصنفة من أنواع الأطعمة اللذيذة، والأقوات الشهية { حَبّاً } وهذا شامل لسائر الحبوب على اختلاف أصنافها، { وَعِنَباً وَقَضْباً } وهو القتّ، { وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً } وخصّ هذه الأربعة لكثرة فوائدها ومنافعها. { وَحَدَآئِقَ غُلْباً } أي: بساتين فيها الأشجار الكثيرة الملتفة، { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } الفاكهة: ما يتفكه فيه الإنسان، من تين وعنب وخوخ ورمان، وغير ذلك. والأبّ: ما تأكله البهائم والأنعام، ولهذا قال: { مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُم ْ } التي خلقها الله وسخرها لكم، فمن نظر في هذه النعم أوجب له ذلك شكر ربه، وبذل الجهد في الإنابة إليه، والإقبال على طاعته، والتصديق بأخباره.
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
أي: إذا جاءت صيحة القيامة، التي تصخ لهولها الأسماع، وتنزعج لها الأفئدة يومئذ، مما يرى الناس من الأهوال وشدة الحاجة لسالف الأعمال، { يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ } من أعز الناس إليه، وأشفقهم لديه، { مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ } أي: زوجته { وَبَنِيهِ } وذلك لأنه { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } أي: قد شغلته نفسه، واهتم لفكاكها، ولم يكن له التفات إلى غيرها، فحينئذ ينقسم الخلق إلى فريقين: سعداء وأشقياء، فأما السعداء، فوجوههم [يومئذ] { مُّسْفِرَةٌ } أي: قد ظهر فيها السرور والبهجة، من ما عرفوا من نجاتهم، وفوزهم بالنعيم، { ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ } الأشقياء { يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا } أي: تغشاها { قَتَرَةٌ } فهي سوداء مظلمة مدلهمة، قد أيست من كل خير، وعرفت شقاءها وهلاكها. { أُوْلَـٰئِكَ } الذين بهذا الوصف { هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } أي: الذين كفروا بنعمة الله، وكذبوا بآيات الله، وتجرؤوا على محارمه.

ابوالوليد المسلم
13-09-2020, 04:13 AM
الحلقة (623)
تفسير السعدى
(سورة تكوير)
من (1)الى (29)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة تكوير

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)


أي: إذا حصلت هذه الأمور الهائلة، تميز الخلق، وعلم كل أحد ما قدمه لآخرته، وما أحضره فيها من خير وشر، وذلك إذا كان يوم القيامة تكور الشمس أي: تجمع وتلف، ويخسف القمر، ويلقيان في النار، { وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ } أي: تغيرت، وتساقطت من أفلاكها، { وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ } أي: صارت كثيباً مهيلاً، ثم صارت كالعهن المنفوش، ثم تغيرت وصارت هباءً منبثاً، وسيرت عن أماكنها، { وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ } أي: عطل الناس حينئذ نفائس أموالهم التي كانوا يهتمون لها ويراعونها في جميع الأوقات، فجاءهم ما يذهلهم عنها، فنبه بالعشار، وهي النوق التي تتبعها أولادها، وهي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم، على ما هو في معناها من كل نفيس. { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } أي: جمعت ليوم القيامة، ليقتص الله من بعضها لبعض، ويرى العباد كمال عدله، حتى إنه ليقتص من القرناء للجمّاء ثم يقول لها: كوني تراباً. { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ } أي: أوقدت فصارت -على عظمها- ناراً تتوقد. { وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ } أي: قرن كل صاحب عمل مع نظيره، فجمع الأبرار مع الأبرار، والفجار مع الفجار، وزوج المؤمنون بالحور العين، والكافرون بالشياطين، وهذا كقوله تعالى:{ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً } [الزمر: 71]{ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً } [الزمر: 73]{ ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22]. { وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } وهو الذي كانت الجاهلية الجهلاء تفعله من دفن البنات وهن أحياء من غير سبب، إلا خشية الفقر، فتسأل: { بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } ومن المعلوم أنها ليس لها ذنب، ففي هذا توبيخ وتقريع لقاتليها. { وَإِذَا ٱلصُّحُفُ } المشتملة على ما عمله العاملون من خير وشر { نُشِرَتْ } وفرقت على أهلها، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره. { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ } أي: أزيلت، كما قال تعالى:{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ } [الفرقان: 25]{ يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [الأنبياء: 104]{ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67]. { وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } أي: أوقد عليها فاستعرت، والتهبت التهاباً لم يكن لها قبل ذلك، { وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ } أي: قُرِّبت للمتقين، { عَلِمَتْ نَفْسٌ } أي: كل نفس، لإتيانها في سياق الشرط. { مَّآ أَحْضَرَتْ } أي: ما حضر لديها من الأعمال [التي قدمتها] كما قال تعالى:{ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [الكهف: 49]. وهذه الأوصاف التي وصف الله بها يوم القيامة، من الأوصاف التي تنزعج لها القلوب، وتشتد من أجلها الكروب، وترتعد الفرائص، وتعم المخاوف، وتحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم، وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم، ولهذا قال بعض السلف: من أراد أن ينظر ليوم القيامة كأنه رأيُ عين، فليتدبر سورة { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ }.
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
أقسم تعالى { بِٱلْخُنَّسِ } وهي الكواكب التي تخنس أي: تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة المشرق، وهي النجوم السبعة السيارة: " الشمس " ، و " القمر " ، و " الزهرة " ، و " المشترى " ، و " المريخ " ، و " زحل " ، و " عطارد " ، فهذه السبعة لها سيران: سير إلى جهة المغرب مع باقي الكواكب والأفلاك، وسير معاكس لهذا من جهة المشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها. فأقسم الله بها في حال خنوسها أي: تأخرها، وفي حال جريانها، وفي حال كنوسها أي: استتارها بالنهار، ويحتمل أن المراد بها جميع النجوم الكواكب السيارة وغيرها. { وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } أي: أدبر وقيل: أقبل، { وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } أي: بانت علائم الصبح، وانشق النور شيئاً فشيئاً حتى يستكمل وتطلع الشمس، وهذه آيات عظام، أقسم الله بها على علو سند القرآن وجلالته، وحفظه من كل شيطان رجيم، فقال: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وهو جبريل عليه السلام، نزل به من الله تعالى، كما قال تعالى:{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ } [الشعراء: 192-194]. ووصفه الله بالكريم لكرم أخلاقه، وكثره خصاله الحميدة، فإنه أفضل الملائكة، وأعظمهم رتبة عند ربه، { ذِي قُوَّةٍ } على ما أمره الله به. ومن قوته أنه قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكهم. { عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ } أي: جبريل مقرب عند الله، له منزلة رفيعة، وخصيصة من الله اختصه بها، { مَكِينٍ } أي: له مكانة ومنزلة فوق منازل الملائكة كلهم. { مُّطَاعٍ ثَمَّ } أي: جبريل مطاع في الملأ الأعلى، لديه من الملائكة المقربين جنودٌ، نافذ فيهم أمره، مطاع رأيه، { أَمِينٍ } أي: ذو أمانة وقيام بما أمر به، لا يزيد ولا ينقص، ولا يتعدى ما حُدَّ له، وهذا [كله] يدل على شرف القرآن عند الله تعالى، فإنه بعث به هذا الملك الكريم، الموصوف بتلك الصفات الكاملة. والعادة أن الملوك لا ترسل الكريم عليها إلا في أهم المهمات، وأشرف الرسائل. ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن، ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه القرآن، ودعا إليه الناس، فقال: { وَمَا صَاحِبُكُمْ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { بِمَجْنُونٍ } كما يقوله أعداؤه المكذبون برسالته، المتقولون عليه من الأقوال، التي يريدون أن يُطفِؤوا بها ما جاء به ما شاؤوا وقدروا عليه، بل هو أكمل الناس عقلاً، وأجزلهم رأياً، وأصدقهم لهجة. { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } أي: رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بالأفق البيِّن، الذي هو أعلى ما يلوح للبصر. { وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي: وما هو على ما أوحاه الله إليه بمتهم يزيد فيه أو ينقص أو يكتم بعضه، بل هو صلى الله عليه وسلم أمين أهل السماء وأهل الأرض، الذي بلغ رسالات ربه البلاغ المبين، فلم يشح بشيء منه، عن غنِيٍّ ولا فقير، ولا رئيس ولا مرؤوس، ولا ذكر ولا أنثى، ولا حضريٍّ ولا بدويٍّ، ولذلك بعثه الله في أمة أمية، جاهلة جهلاء، فلم يمت صلى الله عليه وسلم حتى كانوا علماء ربانيين، وأحباراً متفرسين، إليهم الغاية في العلوم، وإليهم المنتهى في استخراج الدقائق والفهوم، وهم الأساتذة، وغيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم.
{ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } لما ذكر جلالة كتابه وفضله بذكر الرسولين الكريمين، اللذين وصل إلى الناس على أيديهما، وأثنى الله عليهما بما أثنى، دفع عنه كل آفة ونقص مما يقدح في صدقه، فقال: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } أي: في غاية البعد عن الله وعن قربه، { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } أي: كيف يخطر هذا ببالكم، وأين عزبت عنكم أذهانكم؟ حتى جعلتم الحق الذي هو في أعلى درجات الصدق بمنزلة الكذب، الذي هو أنزل ما يكون [وأرذل] وأسفل الباطل؟ هل هذا إلا من انقلاب الحقائق. { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } يتذكرون به ربهم، وما له من صفات الكمال، وما ينزه عنه من النقائص والرذائل [والأمثال]، ويتذكرون به الأوامر والنواهي وحكمها، ويتذكرون به الأحكام القدرية والشرعية والجزائية، وبالجملة، يتذكرون به مصالح الدارين، وينالون بالعمل به السعادتين. { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } بعدما تبين الرشد من الغي، والهدى من الضلال. { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } أي: فمشيئته نافذة، لا يمكن أن تعارض أو تمانع. وفي هذه الآية وأمثالها، ردٌّ على فرقتي القدرية النفاة، والقدرية المجبرة كما تقدم مثلها [والله أعلم والحمد لله].

ابوالوليد المسلم
13-09-2020, 04:14 AM
الحلقة (624)
تفسير السعدى
(سورة الانفطار)
من (1)الى (19)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الانفطار

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)

أي: إذا انشقت السماء وانفطرت، وانتثرت نجومها، وزال جمالها، وفجرت البحار فصارت بحراً واحداً، وبعثرت القبور بأن أخرجت ما فيها من الأموات، وحشروا للموقف بين يدي الله للجزاء على الأعمال. فحينئذ ينكشف الغطاء، ويزول ما كان خفياً، وتعلم كل نفس ما معها من الأرباح والخسران، هنالك يعض الظالم على يديه إذا رأى أعماله باطلة، وميزانه قد خف، والمظالم قد تداعت إليه، والسيئات قد حضرت لديه، وأيقن بالشقاء الأبدي والعذاب السرمدي. و [هنالك] يفوز المتقون، المقدمون لصالح الأعمال بالفوز العظيم، والنعيم المقيم، والسلامة من عذاب الجحيم.
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
يقول تعالى معاتباً للإنسان المقصر في حق ربه، المتجرئ على مساخطه: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } أتهاوناً منك في حقوقه؟ أم احتقاراً منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟ أليس هو { ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ } في أحسن تقويم؟ { فَعَدَلَكَ } وركبك تركيباً قويماً معتدلاً، في أحسن الأشكال، وأجمل الهيئات، فهل يليق بك أن تكفر نعمة المنعم، أو تجحد إحسان المحسن؟ إن هذا إلا من جهلك وظلمك وعنادك وغشمك، فاحمد الله أن لم يجعل صورتك صورة كلب أو حمار، أو نحوهما من الحيوانات فلهذا قال تعالى: { فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ }. [وقوله:] { كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ } أي: مع هذا الوعظ والتذكير، لا تزالون مستمرين على التكذيب بالجزاء. وأنتم لا بد أن تحاسبوا على ما عملتم، وقد أقام الله عليكم ملائكة كراماً يكتبون أقوالكم وأفعالكم ويعلمون أفعالكم، ودخل في هذا أفعال القلوب، وأفعال الجوارح، فاللائق بكم أن تكرموهم وتجلوهم وتحترموهم.
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
المراد بالأبرار، القائمون بحقوق الله وحقوق عباده، الملازمون للبر، في أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فهؤلاء جزاؤهم النعيم في القلب والروح والبدن، في دار الدنيا [وفي دار] البرزخ و [في] دار القرار. { وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ } الذين قصروا في حقوق الله وحقوق عباده، الذين فجرت قلوبهم ففجرت أعمالهم { لَفِي جَحِيمٍ } أي: عذاب أليم، في دار الدنيا و [دار] البرزخ وفي دار القرار { يَصْلَوْنَهَا } ويعذبون [بها] أشد العذاب { يَوْمَ ٱلدِّينِ } أي: يوم الجزاء على الأعمال. { وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } أي: بل هم ملازمون لها، لا يخرجون منها. { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ * ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ } ففي هذا تهويل لذلك اليوم الشديد الذي يحير الأذهان. { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } ولو كانت لها قريبة [أو حبيبة] مصافية، فكل مشتغل بنفسه لا يطلب الفكاك لغيرها. { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } فهو الذي يفصل بين العباد، ويأخذ للمظلوم حقه من ظالمه [والله أعلم].

ابوالوليد المسلم
13-09-2020, 04:15 AM
الحلقة (625)
تفسير السعدى
(سورة المطففين)
من (1)الى (36)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة المطففين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

{ وَيْلٌ } كلمة عذاب، ووعيد { لِّلْمُطَفِّفِي نَ } وفسر الله المطففين بقوله { ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ } أي: أخذوا منهم وفاء عما ثبت لهم قبلهم يستوفونه كاملاً من غير نقص. { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } أي: إذا أعطوا الناس حقهم، الذي للناس عليهم بكيل أو وزن، { يُخْسِرُونَ } أي: ينقصونهم ذلك، إما بمكيال وميزان ناقصين، أو بعدم ملء المكيال والميزان، أو نحو ذلك، فهذا سرقة [لأموال] الناس، وعدم إنصاف [لهم] منهم. وإذا كان هذا الوعيد على الذين يبخسون الناس بالمكيال والميزان، فالذي يأخذ أموالهم قهراً أو سرقةً، أولى بهذا الوعيد من المطففين. ودلّت الآية الكريمة، على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له، يجب عليه أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال والمعاملات، بل يدخل في [عموم هذا] الحجج والمقالات، فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد [منهما] يحرص على ماله من الحجج، فيجب عليه أيضاً أن يبيّن ما لخصمه من الحجج [التي لا يعلمها]، وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو، وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصبه واعتسافه، وتواضعه من كبره، وعقله من سفهه، نسأل الله التوفيق لكل خير. ثم توعد تعالى المطففين، وتعجب من حالهم وإقامتهم على ما هم عليه، فقال: { أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } فالذي جرأهم على التطفيف عدم إيمانهم باليوم الآخر، وإلا فلو آمنوا به، وعرفوا أنهم يقومون بين يدي الله، يحاسبهم على القليل والكثير، لأقلعوا عن ذلك وتابوا منه.
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين َ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

يقول تعالى: { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ } [وهذا شامل لكل فاجر] من أنواع الكفرة والمنافقين، والفاسقين { لَفِي سِجِّينٍ } ثم فسّر ذلك بقوله: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } أي: كتاب مذكور فيه أعمالهم الخبيثة، والسجّين: المحل الضيق الضنك، و " سجين " ضد " عليين " الذي هو محل كتاب الأبرار، كما سيأتي. وقد قيل: إن " سجين " هو أسفل الأرض السابعة، مأوى الفجار ومستقرهم في معادهم. { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } ثم بين المكذبين بأنهم { ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } أي: يوم الجزاء، يوم يدين الله فيه الناس بأعمالهم. { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ } على محارم الله، متعد من الحلال إلى الحرام. { أَثِيمٍ } أي كثير الإثم، فهذا الذي يحمله عدوانه على التكذيب، ويحمله [عدوانه على التكذيب ويوجب له] كبره رد الحق، ولهذا { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا } الدالة على الحق، و[على] صدق ما جاءت به رسله، كذبها وعاندها، و { قَالَ }: هذه { أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: من ترهات المتقدمين، وأخبار الأمم الغابرين، ليس من عند الله تكبُّراً وعناداً. وأما من أنصف، وكان مقصوده الحق المبين، فإنه لا يكذب بيوم الدين، لأن الله قد أقام عليه من الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، ما يجعله حق اليقين، وصار لقلوبهم مثل الشمس للأبصار، بخلاف من ران على قلبه كسبه، وغطته معاصيه، فإنه محجوب عن الحق، ولهذا جوزي على ذلك، بأن حجب عن الله، كما حجب قلبه في الدنيا عن آيات الله، { ثُمَّ إِنَّهُمْ } مع هذه العقوبة البليغة { لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ } ثم يقال لهم توبيخاً وتقريعاً: { هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } فذكر لهم ثلاثة أنواع من العذاب: عذاب الجحيم، وعذاب التوبيخ، واللوم. وعذاب الحجاب من رب العالمين، المتضمن لسخطه وغضبه عليهم، وهو أعظم عليهم من عذاب النار، ودل مفهوم الآية، على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة، ويتلذذون بالنظر إليه أعظم من سائر اللذات، ويبتهجون بخطابه، ويفرحون بقربه، كما ذكر الله ذلك في عدة آيات من القرآن، وتواتر فيه النقل عن رسول الله. وفي هذه الآيات، التحذير من الذنوب، فإنها ترين على القلب وتغطيه شيئاً فشيئاً، حتى ينطمس نوره، وتموت بصيرته، فتنقلب عليه الحقائق، فيرى الباطل حقاً، والحق باطلاً، وهذا من بعض عقوبات الذنوب.
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُو نَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
لما ذكر أن كتاب الفجار في أسفل الأمكنة وأضيقها، ذكر أن كتاب الأبرار في أعلاها وأوسعها، وأفسحها وأن كتابهم المرقوم { يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } من الملائكة الكرام، وأرواح الأنبياء، والصديقين والشهداء، ويُنوِّه الله بذكرهم في الملأ الأعلى، و { عِلِّيُّونَ } اسم لأعلى الجنة، فلما ذكر كتابهم، ذكر أنهم في نعيم، وهو اسم جامع لنعيم القلب والروح والبدن، { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ } أي: [على] السرر المزينة بالفرش الحسان. { يَنظُرُونَ } إلى ما أعد الله لهم من النعيم، وينظرون إلى وجه ربهم الكريم، { تَعْرِفُ } أيها الناظر إليهم { فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } أي: بهاء النعيم ونضارته ورونقه، فإن توالي اللذة والسرور يكسب الوجه نوراً وحسناً وبهجةً. { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ } وهو من أطيب ما يكون من الأشربة وألذها، { مَّخْتُومٍ } ذلك الشراب { خِتَامُهُ مِسْكٌ } يحتمل أن المراد مختوم عن أن يداخله شيء ينقص لذته، أو يفسد طعمه، وذلك الختام الذي ختم به مسك. ويحتمل أن المراد أنه [الذي] يكون في آخر الإناء، الذي يشربون منه الرحيق حثالة، وهي المسك الأذفر، فهذا الكدر منه، الذي جرت العادة في الدنيا أنه يراق، يكون في الجنة بهذه المثابة، { وَفِي ذَلِكَ } النعيم المقيم، الذي لا يعلم مقداره وحسنه إلا الله، { فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُو نَ } أي: يتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه، فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس الأنفاس، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال. ومزاج هذا الشراب من تسنيم، وهي عينٌ { يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ } صِرْفاً، وهي أعلى أشربة الجنة على الإطلاق، فلذلك كانت خالصة للمقربين، الذين هم أعلى الخلق منزلة، وممزوجة لأصحاب اليمين أي: مخلوطة بالرحيق وغيره من الأشربة اللذيذة.
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
لما ذكر تعالى جزاء المجرمين وجزاء المؤمنين و [ذكر] ما بينهما من التفاوت العظيم، أخبر أن المجرمين كانوا في الدنيا يسخرون بالمؤمنين، ويستهزؤون بهم، ويضحكون منهم، ويتغامزون بهم عند مرورهم عليهم، احتقاراً لهم وازدراءً، ومع هذا تراهم مطمئنين، لا يخطر الخوف على بالهم، { وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ } صباحاً أو مساءً { ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ } أي: مسرورين مغتبطين، وهذا من أعظم ما يكون من الاغترار، أنهم جمعوا بين غاية الإساءة والأمن في الدنيا، حتى كأنهم قد جاءهم كتاب من الله وعهد، أنهم من أهل السعادة، وقد حكموا لأنفسهم أنهم أهل الهدى، وأن المؤمنين ضالون، افتراءً على الله، وتجرؤوا على القول عليه بلا علم. قال تعالى: { وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } أي: وما أرسلوا وكلاء على المؤمنين ملزمين بحفظ أعمالهم، حتى يحرصوا على رميهم بالضلال، وما هذا منهم إلا تعنت وعناد وتلاعب، ليس له مستند ولا برهان، ولهذا كان جزاؤهم في الآخرة من جنس عملهم، قال تعالى: { فَٱلْيَوْمَ } أي: يوم القيامة، { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } حين يرونهم في غمرات العذاب يتقلبون، وقد ذهب عنهم ما كانوا يفترون، والمؤمنون في غاية الراحة والطمأنينة { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ } وهي السرر المزينة، { يَنظُرُونَ } إلى ما أعد الله لهم من النعيم، وينظرون إلى وجه ربهم الكريم. { هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي: هل جوزوا من جنس عملهم؟ فكما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين ورموهم بالضلال، ضحك المؤمنون منهم في الآخرة، ورأوهم في العذاب والنكال، الذي هو عقوبة الغي والضلال. نعم، ثوبوا ما كانوا يفعلون، عدلاً من الله وحكمةً، والله عليم حكيم.

ابوالوليد المسلم
13-09-2020, 04:16 AM
الحلقة (626)
تفسير السعدى
(سورة الانشقاق)
من (1)الى (25)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الانشقاق



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)


يقول تعالى مبيناً لما يكون في يوم القيامة من تغير الأجرام العظام: { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } أي: انفطرت وتمايز بعضها من بعض، وانتثرت نجومها، وخسف بشمسها وقمرها. { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا } أي: استمعت لأمره، وألقت سمعها، وأصاخت لخطابه، وحق لها ذلك، فإنها مسخرة مدبرة تحت مسخر ملك عظيم، لا يعصى أمره، ولا يخالف حكمه. { وَإِذَا ٱلأَرْضُ مُدَّتْ } أي: رجفت وارتجت، ونسفت عليها جبالها، ودكّ ما عليها من بناء ومعلم، فسويت، ومدها الله تعالى مد الأديم، حتى صارت واسعةً جداً، تسع أهل الموقف على كثرتهم، فتصير قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً. { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا } من الأموات والكنوز. { وَتَخَلَّتْ } منهم، فإنه ينفخ في الصور، فتخرج الأموات من الأجداث إلى وجه الأرض، وتخرج الأرض كنوزها، حتى تكون كالأسطوان العظيم، يشاهده الخلق، ويتحسرون على ما هم فيه يتنافسون، { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } أي: إنك ساع إلى الله، وعامل بأوامره ونواهيه، ومتقرب إليه إما بالخير وإما بالشر، ثم تلاقي الله يوم القيامة، فلا تعدم منه جزاء بالفضل إن كنت سعيداً، أو بالعدل إن كنت شقياً. ولهذا ذكر تفصيل الجزاء، فقال: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } وهم أهل السعادة. { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } وهو العرض اليسير على الله، فيقرره الله بذنوبه، حتى إذا ظن العبد أنه قد هلك، قال الله [تعالى] له: " إني قد سترتها عليك في الدنيا، فأنا أسترها لك اليوم ". { وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ } في الجنة { مَسْرُوراً } لأنه نجا من العذاب وفاز بالثواب، { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } أي: بشماله من خلفه. { فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً } من الخزي والفضيحة، وما يجد في كتابه من الأعمال التي قدمها ولم يتب منها، { وَيَصْلَىٰ سَعِيراً } أي: تحيط به السعير من كل جانب، ويقلب على عذابها، وذلك لأنه في الدنيا { كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } لا يخطر البعث على باله، وقد أساء، ولم يظن أنه راجع إلى ربه وموقوف بين يديه. { بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } فلا يحسن أن يتركه سدى، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب.
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

أقسم في هذا الموضع بآيات الليل، فأقسم بالشفق الذي هو بقية نور الشمس، الذي هو مفتتح الليل، { وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } أي: احتوى عليه من حيوانات وغيرها، { وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ } أي: امتلأ نوراً بإبداره، وذلك أحسن ما يكون وأكثر منافع، والمقسم عليه قوله: { لَتَرْكَبُنَّ } [أي:] أيها الناس { طَبَقاً عَن طَبقٍ } أي: أطواراً متعددةً وأحوالاً متباينةً، من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة، إلى نفخ الروح، ثم يكون وليداً وطفلاً، ثم مميزاً، ثم يجري عليه قلم التكليف، والأمر والنهي، ثم يموت بعد ذلك، ثم يبعث ويجازى بأعماله، فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد، دالة على أن الله وحده هو المعبود، الموحد، المدبر لعباده بحكمته ورحمته، وأن العبد فقير عاجز، تحت تدبير العزيز الرحيم، ومع هذا، فكثير من الناس لا يؤمنون { وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ } أي: لا يخضعون للقرآن، ولا ينقادون لأوامره ونواهيه، { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ } أي: يعاندون الحق بعدما تبين، فلا يستغرب عدم إيمانهم وعدم انقيادهم للقرآن، فإن المكذب بالحق عناداً، لا حيلة فيه، { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } أي: بما يعملونه وينوونه سراً، فالله يعلم سرهم وجهرهم، وسيجازيهم بأعمالهم، ولهذا قال { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وسميت البشارة بشارة، لأنها تؤثر في البشرة سروراً أو غماً. فهذه حال أكثر الناس، التكذيب بالقرآن، وعدم الإيمان [به]. ومن الناس فريق هداهم الله، فآمنوا بالله، وقبلوا ما جاءتهم به الرسل، فآمنوا وعملوا الصالحات. فهؤلاء لهم أجر غير ممنون أي: غير مقطوع، بل هو أجرٌ دائم مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ابوالوليد المسلم
13-09-2020, 04:17 AM
الحلقة (627)
تفسير السعدى
(سورة البروج)
من (1)الى (22)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة البروج
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِين َ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)



{ وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } أي: [ذات] المنازل المشتملة على منازل الشمس والقمر، والكواكب المنتظمة في سيرها، على أكمل ترتيب ونظام دال على كمال قدرة الله تعالى ورحمته، وسعة علمه وحكمته. { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ } وهو يوم القيامة، الذي وعد الله الخلق أن يجمعهم فيه، ويضم فيه أولهم وآخرهم، وقاصيهم ودانيهم، الذي لا يمكن أن يتغير، ولا يخلف الله الميعاد. { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } وشمل هذا كل من اتصف بهذا الوصف أي: مُبْصِر ومُبْصَر، وحاضر ومحضور، وراءٍ ومَرْئِي. والمقسم عليه، ما تضمنه هذا القسم من آيات الله الباهرة، وحكمه الظاهرة، ورحمته الواسعة، وقيل: إن المقسم عليه قوله: { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } وهذا دعاء عليهم بالهلاك. و " الأخدود ": الحفر التي تحفر في الأرض. وكان أصحاب الأخدود هؤلاء قوماً كافرين، ولديهم قوم مؤمنون، فراودوهم للدخول في دينهم، فامتنع المؤمنون من ذلك، فشق الكافرون أخدوداً [في الأرض]، وقذفوا فيها النار، وقعدوا حولها، وفتنوا المؤمنين، وعرضوهم عليها، فمن استجاب لهم أطلقوه، ومن استمر على الإيمان قذفوه في النار، وهذا في غاية المحاربة لله ولحزبه المؤمنين، ولهذا لعنهم الله وأهلكهم وتوعدهم فقال: { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } ثم فسر الأخدود بقوله: { ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِين َ شُهُودٌ } وهذا من أعظم ما يكون من التجبر وقساوة القلب، لأنهم جمعوا بين الكفر بآيات الله ومعاندتها، ومحاربة أهلها وتعذيبهم بهذا العذاب، الذي تنفطر منه القلوب، وحضورهم إياهم عند إلقائهم فيها، والحال أنهم ما نقموا من المؤمنين إلا خصلة يمدحون عليها، وبها سعادتهم، وهي أنهم كانوا يؤمنون بالله العزيز الحميد أي: الذي له العزة التي قهر بها كل شيء، وهو حميد في أقواله وأوصافه وأفعاله. { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } خلقاً وعبيداً، يتصرف فيهم تصرف المالك بملكه، { وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } علماً وسمعاً وبصراً، أفلا خاف هؤلاء المتمردون على الله، أن يبطش بهم العزيز المقتدر، أو ما علموا أنهم جميعهم مماليك لله، ليس لأحد على أحد سلطة، من دون إذن المالك؟ أو خفي عليهم أن الله محيط بأعمالهم، مجازٍ لهم على فعالهم؟ كلا إن الكافر في غرور، والظالم في جهل وعمى عن سواء السبيل. ثم وعدهم وأوعدهم، وعرض عليهم التوبة، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَات ِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ } أي: العذاب الشديد المحرق. قال الحسن رحمه الله: انظروا إلى هذا الكرم والجود، هم قتلوا أولياءه وأهل طاعته، وهو يدعوهم إلى التوبة. ولما ذكر عقوبة الظالمين، ذكر ثواب المؤمنين، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بقلوبهم { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } بجوارحهم { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ } الذي حصل به الفوز برضا الله ودار كرامته.
{ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } أي: إن عقوبته لأهل الجرائم والذنوب العظام [لقوية] شديدة، وهو بالمرصاد للظالمين، كما قال الله تعالى:{ وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود: 102]. { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ } أي: هو المنفرد بإبداء الخلق وإعادته، فلا مشارك له في ذلك، { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ } الذي يغفر الذنوب جميعها لمن تاب، ويعفو عن السيئات لمن استغفره وأناب. { ٱلْوَدُودُ } الذي يحبه أحبابه محبة لا يشبهها شيء فكما أنه لا يشابهه شيء في صفات الجلال والجمال، والمعاني والأفعال، فمحبته في قلوب خواص خلقه، التابعة لذلك، لا يشبهها شيء من أنواع المحاب، ولهذا كانت محبته أصل العبودية، وهي المحبة التي تتقدم جميع المحاب وتغلبها، وإن لم يكن غيرها تبعاً لها، كانت عذاباً على أهلها، وهو تعالى الودود، الوادُّ لأحبابه، كما قال تعالى:{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54] والمودة هي المحبة الصافية، وفي هذا سر لطيف، حيث قرن الودود بالغفور، ليدل ذلك على أن أهل الذنوب إذا تابوا إلى الله وأنابوا، غفر لهم ذنوبهم وأحبهم، فلا يقال: بل تغفر ذنوبهم، ولا يرجع إليهم الود، كما قاله بعض الغالطين. بل الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب، من رجل له راحلة، عليها طعامه وشرابه وما يصلحه، فأضلها في أرض فلاة مهلكة، فأيس منها، فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت، فبينما هو على تلك الحال، إذا راحلته على رأسه، فأخذ بخطامها، فالله أعظم فرحاً بتوبة العبد من هذا براحلته، وهذا أعظم فرح يقدر. فلله الحمد والثناء، وصفو الوداد، ما أعظم بره، وأكثر خيره، وأغزر إحسانه، وأوسع امتنانه!!. { ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ } أي: صاحب العرش العظيم، الذي من عظمته، أنه وسع السماوات والأرض والكرسي، فهي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة، بالنسبة لسائر الأرض، وخص الله العرش بالذكر، لعظمته، ولأنه أخص المخلوقات بالقرب منه تعالى، وهذا على قراءة الجر، يكون " المجيد " نعتاً للعرش، وأما على قراءة الرفع، فإنَّ المجيد نعتٌ لله، والمجد سعة الأوصاف وعظمتها. { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } أي: مهما أراد شيئاً فعله، إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، وليس أحد فعالاً لما يريد إلا الله. فإن المخلوقات، ولو أرادت شيئاً، فإنه لا بدّ لإرادتها من معاون وممانع، والله لا معاون لإرادته، ولا ممانع له مما أراد. ثم ذكر من أفعاله الدالة على صدق ما جاءت به رسله، فقال: { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } وكيف كذبوا المرسلين، فجعلهم الله من المهلكين. { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ } أي: لا يزالون مستمرين على التكذيب والعناد، لا تنفع فيهم الآيات، ولا تُجدي لديهم العظات، { وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } أي: قد أحاط بهم علماً وقدرة، كقوله:{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَاد ِ } [الفجر: 14] ففيه الوعيد الشديد للكافرين، من عقوبة من هم في قبضته، وتحت تدبيره. { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ } أي: وسيع المعاني عظيمها، كثير الخير والعلم، { فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } من التغيير والزيادة والنقص، ومحفوظ من الشياطين، وهو: اللوح المحفوظ الذي قد أثبت الله فيه كل شيء. وهذا يدل على جلالة القرآن وجزالته، ورفعة قدره عند الله تعالى، والله أعلم.

ابوالوليد المسلم
13-09-2020, 04:17 AM
الحلقة (628)
تفسير السعدى
(سورة الطارق)
من (1)الى (17)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الطارق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)


يقول [الله] تعالى: { وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ }. ثم فسر الطارق بقوله: { ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ } أي: المضيء، الذي يثقب نوره، فيخرق السماوات [فينفذ حتى يرى في الأرض]، والصحيح أنه اسم جنس يشمل سائر النجوم الثواقب. وقد قيل: إنه " زحل " الذي يخرق السماوات السبع وينفذ فيها فيرى منها. وسمي طارقاً، لأنه يطرق ليلاً، والمقسم عليه قوله: { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } يحفظ عليها أعمالها الصالحة والسيئة، وستجازى بعملها المحفوظ عليها، { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } أي: فليتدبر خلقته ومبدأه، فإنه مخلوق { مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } وهو: المني الذي { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } يحتمل أنه من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهي ثدياها. ويحتمل أن المراد المني الدافق، وهو مني الرجل، وأن محله الذي يخرج منه ما بين صلبه وترائبه، ولعل هذا أولى، فإنه إنما وصف الله به الماء الدافق، والذي يحس [به] ويشاهد دفقه، هو مني الرجل، وكذلك لفظ الترائب فإنها تستعمل في الرجل، فإن الترائب للرجل، بمنزلة الثديين للأنثى، فلو أريدت الأنثى، لقال: " من بين الصلب والثديين " ، ونحو ذلك، والله أعلم. فالذي أوجد الإنسان من ماء دافق، يخرج من هذا الموضع الصعب، قادر على رجعه في الآخرة، وإعادته للبعث، والنشور [والجزاء]، وقد قيل: إن معناه، أن الله على رجع الماء المدفوق في الصلب لقادر، وهذا - وإن كان المعنى صحيحاً - فليس هو المراد من الآية، ولهذا قال بعده: { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } أي: تختبر سرائر الصدور، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على صفحات الوجوه قال تعالى:{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106] ففي الدنيا، تنكتم كثير من الأمور، ولا تظهر عياناً للناس، وأما في القيامة، فيظهر برُّ الأبرار، وفجور الفجار، وتصير الأمور علانية، { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ } يدفع بها عن نفسه، { وَلاَ نَاصِرٍ } خارجي ينتصر به، فهذا القَسَمُ على حالة العاملين وقت عملهم وعند جزائهم. ثم أقسم قسماً ثانياً على صحة القرآن، فقال: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ * وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } أي: ترجع السماء بالمطر كل عام، وتنصدع الأرض للنبات، فيعيش بذلك الآدميون والبهائم، وترجع السماء أيضاً بالأقدار والشؤون الإلهية كل وقت، وتنصدع الأرض عن الأموات، { إِنَّهُ } أي: القرآن { لَقَوْلٌ فَصْلٌ } أي: حق وصدق بَيّنٌ واضح. { وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ } أي: جد ليس بالهزل، وهو القول الذي يفصل بين الطوائف والمقالات، وتنفصل به الخصومات. { إِنَّهُمْ } أي: المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم، وللقرآن { يَكِيدُونَ كَيْداً } ليدفعوا بكيدهم الحق، ويؤيدوا الباطل، { وَأَكِيدُ كَيْداً } لإظهار الحق، ولو كره الكافرون، ولدفع ما جاؤوا به من الباطل، ويعلم بهذا من الغالب، فإن الآدمي أضعف وأحقر من أن يغالب القوي العليم في كيده، { فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } أي: قليلاً، فسيعلمون عاقبة أمرهم، حين ينزل بهم العقاب.
سورة الأعلى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَ ا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)


يأمر تعالى بتسبيحه المتضمن لذكره وعبادته، والخضوع لجلاله، والاستكانة لعظمته، وأن يكون تسبيحاً، يليق بعظمة الله تعالى، بأن تذكر أسماؤه الحسنى العالية على كل اسم بمعناها الحسن العظيم، وتذكر أفعاله التي منها أنه خلق المخلوقات فسواها، أي: أتقنها وأحسن خلقها، { وَٱلَّذِي قَدَّرَ } تقديراً، تتبعه جميع المقدرات { فَهَدَىٰ } إلى ذلك جميع المخلوقات. وهذه الهداية العامة، التي مضمونها أنه هدى كل مخلوق لمصلحته، وتذكر فيها نعمه الدنيوية، ولهذا قال فيها: { وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ } أي: أنزل من السماء ماءً فأنبت به أنواع النبات والعشب الكثير، فرتع فيها الناس والبهائم وكل حيوان، ثم بعد أن استكمل ما قدر له من الشباب، ألوى نباته، وصَوَّح عشبه، { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ } أي: أسود أي: جعله هشيماً رميماً، ويذكر فيها نعمه الدينية، ولهذا امتن الله بأصلها ومنشئها، وهو القرآن، فقال: { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } أي: سنحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب، ونوعيه قلبك، فلا تنسى منه شيئاً، وهذه بشارة كبيرة من الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أن الله سيعلمه علماً لا ينساه، { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة، { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ } ومن ذلك أنه يعلم ما يصلح عباده أي: فلذلك يُشرع ما أراد، ويحكم بما يريد، { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ } وهذه أيضاً بشارة كبيرة، أن الله ييسر رسوله صلى الله عليه وسلم لليسرى في جميع أموره، ويجعل شرعه ودينه يسراً. { فَذَكِّرْ } بشرع الله وآياته { إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ } أي: ما دامت الذكرى مقبولة، والموعظة مسموعة، سواء حصل من الذكرى جميع المقصود أو بعضه. ومفهوم الآية أنه إن لم تنفع الذكرى، بأن كان التذكير يزيد في الشر، أو ينقص من الخير، لم تكن الذكرى مأموراً بها، بل منهياً عنها، فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين: منتفعون وغير منتفعين. فأما المنتفعون، فقد ذكرهم بقوله: { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ } الله تعالى، فإن خشية الله تعالى، وعلمه بأن سيجازيه على أعماله، توجب للعبد الانكفاف عن المعاصي والسعي في الخيرات. وأما غير المنتفعين، فذكرهم بقوله: { وَيَتَجَنَّبُهَ ا ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } وهي النار الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } أي: يعذب عذاباً أليماً، من غير راحة ولا استراحة، حتى إنهم يتمنون الموت فلا يحصل لهم، كما قال تعالى:{ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } [فاطر: 36]. { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } أي: قد فاز وربح من طهر نفسه ونقَّاها من الشرك والظلم ومساوئ الأخلاق، { وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } أي: اتصف بذكر الله، وانصبغ به قلبه، فأوجب له ذلك العمل بما يرضي الله، خصوصاً الصلاة، التي هي ميزان الإيمان، فهذا معنى الآية الكريمة، وأما من فسر قوله { تَزَكَّىٰ } بمعني أخرج زكاة الفطر، وذكر اسم ربه فصلى، أنه صلاة العيد، فإنه وإن كان داخلاً في اللفظ وبعض جزئياته، فليس هو المعنى وحده.

{ بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } أي: تقدمونها على الآخرة، وتختارون نعيمها المنغص المكدر الزائل على الآخرة، [ { وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } ] وللآخرة خير من الدنيا في كل وصف مطلوب، وأبقى لكونها دار خلد وبقاء وصفاء، والدنيا دار فناء، فالمؤمن العاقل لا يختار الأردأ على الأجود، ولا يبيع لذة ساعة، بترحة الأبد، فحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل خطيئة، { إِنَّ هَـٰذَا } المذكور لكم في هذه السورة المباركة، من الأوامر الحسنة، والأخبار المستحسنة { لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } اللذين هما أشرف المرسلين، سوى النبي محمد صلى الله وسلم عليه وسلم. فهذه أوامر في كل شريعة، لكونها عائدة إلى مصالح الدارين، وهي مصالح في كل زمان ومكان.

ابوالوليد المسلم
13-09-2020, 04:18 AM
الحلقة (629)
تفسير السعدى
(سورة الغاشية)
من (1)الى (26)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الغاشية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
يذكر تعالى أحوال يوم القيامة وما فيها من الأهوال الطامَّة، وأنها تغشى الخلائق بشدائدها، فيجازون بأعمالهم، ويتميزون [إلى] فريقين: فريقاً في الجنة، وفريقاً في السعير. فأخبر عن وصف كلا الفريقين، فقال في [وصف] أهل النار: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ } أي: يوم القيامة { خَاشِعَةٌ } من الذل والفضيحة والخزي. { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } أي: تاعبة في العذاب، تُجرُّ على وجوهها، وتغشى وجوههم النار. ويحتمل أن المراد [بقوله:] { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } في الدنيا لكونهم في الدنيا أهل عبادات وعمل، ولكنه لما عدم شرطه وهو الإيمان، صار يوم القيامة هباءً منثوراً، وهذا الاحتمال وإن كان صحيحاً من حيث المعنى، فلا يدل عليه سياق الكلام، بل الصواب المقطوع به هو الاحتمال الأول، لأنه قيده بالظرف، وهو يوم القيامة، ولأن المقصود هنا بيان وصف أهل النار عموماً، وذلك الاحتمال جزء قليل من أهل النار بالنسبة إلى أهلها ولأن الكلام في بيان حال الناس عند غشيان الغاشية، فليس فيه تعرض لأحوالهم في الدنيا. وقوله: { تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً } أي: شديداً حرها، تحيط بهم من كل مكان، { تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } أي: حارة شديدة الحرارة{ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ } [الكهف: 29] فهذا شرابهم. وأما طعامهم فـ { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ } وذلك أن المقصود من الطعام أحد أمرين: إما أن يسد جوع صاحبه ويزيل عنه ألمه، وإما أن يسمن بدنه من الهزال، وهذا الطعام ليس فيه شيء من هذين الأمرين، بل هو طعام في غاية المرارة والنتن والخسة، نسأل الله العافية. وأما أهل الخير، فوجوههم يوم القيامة { نَّاعِمَةٌ } أي: قد جرت عليهم نضرة النعيم، فنضرت أبدانهم، واستنارت وجوههم، وسروا غاية السرور، { لِّسَعْيِهَا } الذي قدمته في الدنيا من الأعمال الصالحة، والإحسان إلى عباد الله، { رَاضِيَةٌ } إذ وجدت ثوابه مدخراً مضاعفاً، فحمدت عقباه، وحصل لها كل ما تتمناه، وذلك أنها { فِي جَنَّةٍ } جامعة لأنواع النعيم كلها، { عَالِيَةٍ } في محلها ومنازلها، فمحلها في أعلى عليين، ومنازلها مساكن عالية، لها غرف ومن فوق الغرف غرف مبنية يشرفون منها على ما أعد الله لهم من الكرامة.{ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [الحاقة: 23] أي: كثيرة الفواكه اللذيذة، المثمرة بالثمار الحسنة، السهلة التناول، بحيث ينالونها على أي حال كانوا، لا يحتاجون أن يصعدوا شجرة، أو يستعصي عليهم منها ثمرة. { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا } أي: الجنة { لاَغِيَةً } أي: كلمة لغو وباطل، فضلاً عن الكلام المحرم، بل كلامهم كلام حسن [نافع] مشتمل على ذكر الله تعالى، وذكر نعمه المتواترة عليهم، و[على] الآداب المستحسنة بين المتعاشرين، الذي يسر القلوب، ويشرح الصدور. { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } وهذا اسم جنس أي: فيها العيون الجارية التي يفجرونها ويصرفونها كيف شاؤوا، وأنَّى أرادوا. { فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ } و " السرر " جمع " سرير " ، وهي المجالس المرتفعة في ذاتها، وبما عليها من الفرش اللينة الوطيئة. { وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ } أي: أوانٍ ممتلئة من أنواع الأشربة اللذيذة، قد وضعت بين أيديهم، وأعدت لهم، وصارت تحت طلبهم واختيارهم، يطوف بها عليهم الولدان المخلدون. { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ } أي: وسائد من الحرير والاستبرق وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله، قد صفت للجلوس والاتكاء عليها، وقد أريحوا عن أن يضعوها، و يَصُفُّوها بأنفسهم. { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } والزرابي [هي:] البسط الحسان، مبثوثة أي: مملوءة بها مجالسهم من كل جانب.
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
يقول تعالى حثّاً للذين لا يصدقون الرسول صلى الله عليه وسلم، ولغيرهم من الناس، أن يتفكروا في مخلوقات الله الدالة على توحيده: { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } أي: [ألا] ينظرون إلى خلقها البديع، وكيف سخرها الله للعباد، وذللها لمنافعهم الكثيرة التي يضطرون إليها. { وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ } بهيئة باهرة، حصل بها استقرار الأرض وثباتها عن الاضطراب، وأودع فيها من المنافع [الجليلة] ما أودع. { وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } أي: مدت مداً واسعاً، وسهلت غاية التسهيل، ليستقر الخلائق على ظهرها، ويتمكنوا من حرثها وغراسها، والبنيان فيها، وسلوك الطرق الموصلة إلى أنواع المقاصد فيها. واعلم أن تسطيحها لا ينافي أنها كرة مستديرة، قد أحاطت الأفلاك فيها من جميع جوانبها، كما دلّ على ذلك النقل والعقل والحس والمشاهدة، كما هو مذكور معروف عند أكثر الناس، خصوصاً في هذه الأزمنة، التي وقف الناس على أكثر أرجائها بما أعطاهم الله من الأسباب المقربة للبعيد، فإن التسطيح إنما ينافي كروية الجسم الصغير جداً، الذي لو سطح لم يبق له استدارة تذكر. وأما جسم الأرض الذي هو في غاية الكبر والسعة، فيكون كروياً مسطحاً، ولا يتنافى الأمران، كما يعرف ذلك أرباب الخبرة. { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } أي: ذكِّر الناس وعِظهم، وأنذرهم وبشرهم، فإنك مبعوث لدعوة الخلق إلى الله وتذكيرهم، ولم تبعث مسيطراً عليهم، مسلّطاً موكلاً بأعمالهم، فإذا قمت بما عليك، فلا عليك بعد ذلك لوم، كقوله تعالى:{ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ق: 45]. وقوله: { إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ } أي: لكن من تولى عن الطاعة وكفر بالله { فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلأَكْبَرَ } أي: الشديد الدائم، { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } أي: رجوع الخليقة وجمعهم في يوم القيامة. { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } فنحاسبهم على ما عملوا من خير وشر.
سورة الفجر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)


الظاهر أن المقسم به هو المقسم عليه، وذلك جائز مستعمل، إذا كان أمراً ظاهراً مُهِّماً، وهو كذلك في هذا الموضع. فأقسم تعالى بالفجر، الذي هو آخر الليل ومقدمة النهار، لما في إدبار الليل وإقبال النهار، من الآيات الدالة على كمال قدرة الله تعالى، وأنه وحده المدبر لجميع الأمور، الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ويقع في الفجر صلاة فاضلة معظمة، يحسن أن يقسم الله بها، ولهذا أقسم بعده بالليالي العشر، وهي على الصحيح: ليالي عشر رمضان، أو [عشر] ذي الحجة، فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع في غيرها. وفي ليالي عشر رمضان ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وفي نهارها، صيام آخر رمضان الذي هو ركن من أركان الإسلام. وفي أيام عشر ذي الحجة، الوقوف بعرفة، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان، فما رُئِيَ الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة، لما يرى من تَنَزَّل الأملاك والرحمة من الله لعباده، ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة، مستحقة لأن يقسم الله بها. { وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ } أي: وقت سريانه وإرخائه ظلامه على العباد، فيسكنون ويستريحون ويطمئنون، رحمةً منه تعالى وحكمة. { هَلْ فِي ذَلِكَ } المذكور { قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } أي: [لذي] عقل؟ نعم، بعض ذلك يكفي، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ابوالوليد المسلم
19-09-2020, 05:26 AM
الحلقة (630)
تفسير السعدى
(سورة الفجر)
من (6)الى (30)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الفجر


أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
يقول تعالى: { أَلَمْ تَرَ } بقلبك وبصيرتك كيف فُعِلَ بهذه الأمم الطاغية، وهي { إِرَمَ } القبيلة المعروفة في اليمن { ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } أي: القوة الشديدة، والعتو والتجبر، { ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا } أي: مثل عاد { فِي ٱلْبِلاَدِ } أي: في جميع البلدان [في القوة والشدة]، كما قال لهم نبيهم هود عليه السلام:{ وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْطَةً فَٱذْكُرُوۤاْ ءَالآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الأعراف: 69]. { وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ } أي: وادي القرى، نحتوا بقوتهم الصخور، فاتخذوها مساكن، { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } أي: [ذي] الجنود الذين ثبتوا ملكه، كما تثبت الأوتاد ما يراد إمساكه بها، { ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ } هذا الوصف عائد إلى عاد وثمود وفرعون ومن تبعهم، فإنهم طغوا في بلاد الله، وآذوا عباد الله، في دينهم ودنياهم، ولهذا قال: { فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ } وهو العمل بالكفر وشُعَبِه، من جميع أجناس المعاصي، وسعوا في محاربة الرسل وصد الناس عن سبيل الله، فلما بلغوا من العتو ما هو موجب لهلاكهم، أرسل الله عليهم من عذابه ذنوباً وسوط عذاب، { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } لمن عصاه يمهله قليلاً، ثم يأخذه أخذ عزيزٍ مقتدر.
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه جاهل ظالم، لا علم له بالعواقب، يظن الحالة التي تقع فيه تستمر ولا تزول، ويظن أن إكرام الله في الدنيا وإنعامه عليه يدل على كرامته عنده وقربه منه، وأنه إذا { قَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } أي: ضيّقه، فصار يقدر قوته لا يفضل منه، أن هذا إهانة من الله له، فرد الله عليه هذا الحسبان: بقوله { كَلاَّ } أي: ليس كل من نَعَّمْتُه في الدنيا فهو كريم عليّ، ولا كل من قدرت عليه رزقه فهو مهان لديّ، وإنما الغنى والفقر، والسعة والضيق، ابتلاءً من الله، وامتحان يمتحن به العباد، ليرى من يقوم له بالشكر والصبر، فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل، ممن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل. وأيضاً، فإن وقوف همة العبد عند مراد نفسه فقط، من ضعف الهمة، ولهذا لامهم الله على عدم اهتمامهم بأحوال الخلق المحتاجين، فقال: { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ } الذي فقد أباه وكاسبه، واحتاج إلى جبر خاطره والإحسان إليه. فأنتم لا تكرمونه بل تهينونه، وهذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم، وعدم الرغبة في الخير. { وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } أي: لا يحض بعضكم بعضاً على إطعام المحاويج من المساكين والفقراء، وذلك لأجل الشح على الدنيا ومحبتها الشديدة المتمكنة من القلوب، ولهذا قال: { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ } أي: المال المخلف { أَكْلاً لَّمّاً } أي: ذريعاً، لا تبقون على شيء منه. { وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } أي: كثيراً شديداً، وهذا كقوله تعالى:{ بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا * وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [الأعلى: 16-17]{ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ } [القيامة: 20-21].
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
{ كَلاَّ } أي: ليس [كل] ما أحببتم من الأموال، وتنافستم فيه من اللذات، بباقٍ لكم، بل أمامكم يوم عظيم، وهول جسيم، تدك فيه الأرض والجبال وما عليها حتى تجعل قاعاً صفصفاً لا عوج فيه ولا أمت. ويجيء الله تعالى لفصل القضاء بين عباده في ظلل من الغمام، وتجيء الملائكة الكرام، أهل السماوات كلهم، صفاً صفاً أي: صفاً بعد صف، كل سماء يجيء ملائكتها صفاً، يحيطون بمن دونهم من الخلق، وهذه الصفوف صفوف خضوع وذل للملك الجبار، { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } تقودها الملائكة بالسلاسل. فإذا وقعت هذه الأمور فـ { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ } ما قدمه من خير وشر. { وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } فقد فات أوانها، وذهب زمانها، يقول متحسراً على ما فرط في جنب الله: { يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } الدائمة الباقية، عملاً صالحاً، كما قال تعالى:{ يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً * يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } [الفرقان: 27-28]. وفي الآية دليل على أن الحياة التي ينبغي السعي في أصلها وكمالها، وفي تتميم لذّاتها، هي الحياة في دار القرار، فإنها دار الخلد والبقاء، { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } لمن أهمل ذلك اليوم ونسي العمل له، { وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } فإنهم يقرنون بسلاسل من نار، ويسحبون على وجوههم في الحميم، ثم في النار يسجرون، فهذا جزاء المجرمين، وأما من اطمأن إلى الله وآمن به وصدق رسله، فيقال له: { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ } إلى ذكر الله، الساكنة [إلى] حبه، التي قرت عينها بالله. { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } الذي رباك بنعمته، وأسدى عليك من إحسانه ما صرت به من أوليائه وأحبابه { رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } أي: راضية عن الله، وعن ما أكرمها به من الثواب، والله قد رضي عنها. { فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي * وَٱدْخُلِي جَنَّتِي } وهذا تخاطب به الروح يوم القيامة، وتخاطب به حال الموت [والحمد لله رب العالمين].





(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابوالوليد المسلم
19-09-2020, 05:27 AM
الحلقة (631)
تفسير السعدى
(سورة البلد)
من (1)الى (20)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة البلد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

أقسم تعالى بهذه الآيات العظيمة، على النفس المفلحة، وغيرها من النفوس الفاجرة، فقال: { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا } أي: نورها، ونفعها الصادر منها، { وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } أي: تبعها في المنازل والنور، { وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } أي: جلّى ما على وجه الأرض وأوضحه، { وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } أي: يغشى وجه الأرض، فيكون ما عليها مظلماً. فتعاقب الظلمة والضياء، والشمس والقمر، على هذا العالم، بانتظام وإتقان، وقيام لمصالح العباد، أكبر دليل على أن الله بكل شيءٍ عليم، وعلى كل شيءٍ قدير، وأنه المعبود وحده، الذي كل معبود سواه فباطل. { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } يحتمل أن " ما " موصولة، فيكون الإقسام بالسماء وبانيها، الذي هو الله تبارك وتعالى، ويحتمل أنها مصدرية، فيكون الإقسام بالسماء وبنيانها، الذي هو غاية ما يقدر من الإحكام والإتقان والإحسان، ونحو ذلك قوله: { وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } أي: مدها ووسعها، فتمكن الخلق حينئذ من الانتفاع بها، بجميع وجوه الانتفاع. { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } يحتمل أن المراد نفس سائر المخلوقات الحيوانية، كما يؤيد هذا العموم، ويحتمل أن المراد بالإقسام بنفس الإنسان المكلف، بدليل ما يأتي بعده. وعلى كُلٍّ، فالنفس آية كبيرة من آياته التي حقيقةٌ بالإقسام بها، فإنها في غاية اللطف والخفة، سريعة التنقل [والحركة] والتغير والتأثر والانفعالات النفسية، من الهم، والإرادة، والقصد، والحب، والبغض، وهي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثال لا فائدة فيه، وتسويتها على هذا الوجه آية من آيات الله العظيمة. وقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } أي: طهر نفسه من الذنوب، ونقاها من العيوب، ورقَّاها بطاعة الله، وعلاَّها بالعلم النافع والعمل الصالح. { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } أي: أخفى نفسه الكريمة، التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها، بالتدنس بالرذائل، والدنو من العيوب والاقتراف للذنوب، وترك ما يكملها وينميها، واستعمال ما يشينها ويدسيها. { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } أي: بسبب طغيانها وترفعها عن الحق، وعتوها على رسل الله، { إِذِ ٱنبَعَثَ أَشْقَاهَا } أي: أشقى القبيلة، [وهو] " قدار بن سالف " لعقرها حين اتفقوا على ذلك، وأمروه فأْتَمر لهم. { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ } صالح عليه السلام محذراً: { نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَاهَا } أي: احذروا عقر ناقة الله، التي جعلها لكم آية عظيمة، ولا تقابلوا نعمة الله عليكم بسَقْي لبنها أن تعقروها، فكذبوا نبيهم صالحاً { فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ } أي: دمَّر عليهم وعمهم بعقابه، وأرسل عليهم الصيحة من فوقهم، والرجفة من تحتهم، فأصبحوا جاثمين على ركبهم، لا تجد منهم داعياً ولا مجيباً. { فَسَوَّاهَا } عليهم أي: سوى بينهم بالعقوبة { وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } أي: تَبِعَتَها. وكيف يخاف من هو قاهر، لا يخرج عن قهره وتصرفه مخلوق، الحكيم في كل ما قضاه وشرعه؟ تمت ولله الحمد
يقسم تعالى { بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } الأمين، الذي هو مكة المكرمة، أفضل البلدان على الإطلاق، خصوصاً وقت حلول الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } أي: آدم وذريته. والمقسم عليه قوله: { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } يحتمل أن المراد بذلك ما يكابده ويقاسيه من الشدائد في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم يقوم الأشهاد، وأنه ينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من هذه الشدائد، ويوجب له الفرح والسرور الدائم. وإن لم يفعل، فإنه لا يزال يكابد العذاب الشديد أبد الآباد. ويحتمل أن المعنى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، وأقوم خلقة، مقدرٍ على التصرف والأعمال الشديدة، ومع ذلك، [فإنه] لم يشكر الله على هذه النعمة [العظيمة]، بل بطر بالعافية وتجبّر على خالقه، فحسب بجهله وظلمه أن هذه الحال ستدوم له، وأن سلطان تصرفه لا ينعزل، ولهذا قال تعالى: { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } ويطغى ويفتخر بما أنفق من الأموال على شهوات نفسه. فـ { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } أي: كثيراً، بعضه فوق بعض. وسمى الله تعالى الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكاً، لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق، ولا يعود عليه من إنفاقه إلا الندم والخسار والتعب والقلة، لا كمن أنفق في مرضاة الله في سبيل الخير، فإن هذا قد تاجر مع الله، وربح أضعاف أضعاف ما أنفق. قال الله متوعداً هذا الذي يفتخر بما أنفق في الشهوات: { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } أي: أيحسب في فعله هذا، أن الله لا يراه ويحاسبه على الصغير والكبير؟ بل قد رآه الله، وحفظ عليه أعماله، ووكل به الكرام الكاتبين، لكل ما عمله من خير وشر. ثم قرره بنعمه، فقال: { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ } للجمال والبصر والنطق، وغير ذلك من المنافع الضرورية فيها، فهذه نعم الدنيا، ثم قال في نعم الدين: { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } أي: طريقي الخير والشر، بيّنا له الهدى من الضلال، والرشد من الغي. فهذه المنن الجزيلة، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله، ويشكر الله على نعمه، وأن لا يستعين بها على معاصيه، ولكن هذا الإنسان لم يفعل ذلك. { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } أي: لم يقتحمها ويعبر عليها، لأنه متبع لشهواته. وهذه العقبة شديدة عليه، ثم فسر [هذه] العقبة بقوله: { فَكُّ رَقَبَةٍ } أي: فكها من الرق، بعتقها أو مساعدتها على أداء كتابتها، ومن باب أولى فكاك الأسير المسلم عند الكفار. { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } أي: مجاعةً شديدةً، بأن يطعم وقت الحاجة أشد الناس حاجة، { يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } أي: جامعاً بين كونه يتيماً، فقيراً ذا قرابة، { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } أي: قد لزق بالتراب من الحاجة والضرورة، { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي: آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به، وعملوا الصالحات بجوارحهم من كل قول وفعل واجب أو مستحب، { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } على طاعة الله وعن معصيته، وعلى أقدار الله المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضاً على الانقياد لذلك، والإتيان به كاملاً منشرحاً به الصدر، مطمئنة به النفس.
{ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْمَرْحَمَةِ } للخلق، من إعطاء محتاجهم، وتعليم جاهلهم، والقيام بما يحتاجون إليه من جميع الوجوه، ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، أولئك الذين قاموا بهذه الأوصاف، الذين وفقهم الله لاقتحام هذه العقبة { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } لأنهم أدوا ما أمر الله به من حقوقه وحقوق عباده، وتركوا ما نهوا عنه، وهذا عنوان السعادة وعلامتها. { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا } بأن نبذوا هذه الأمور وراء ظهورهم، فلم يصدقوا بالله، [ولا آمنوا به]، ولا عملوا صالحًا، ولا رحموا عباد الله، { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ } أي: مغلقة، في عمد ممددة، قد مدت من ورائها، لئلا تنفتح أبوابها، حتى يكونوا في ضيق وهمّ وشدّة [والحمد لله].
سورة الشمس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)


أقسم تعالى بهذه الآيات العظيمة، على النفس المفلحة، وغيرها من النفوس الفاجرة، فقال: { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا } أي: نورها، ونفعها الصادر منها، { وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } أي: تبعها في المنازل والنور، { وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } أي: جلّى ما على وجه الأرض وأوضحه، { وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } أي: يغشى وجه الأرض، فيكون ما عليها مظلماً. فتعاقب الظلمة والضياء، والشمس والقمر، على هذا العالم، بانتظام وإتقان، وقيام لمصالح العباد، أكبر دليل على أن الله بكل شيءٍ عليم، وعلى كل شيءٍ قدير، وأنه المعبود وحده، الذي كل معبود سواه فباطل. { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } يحتمل أن " ما " موصولة، فيكون الإقسام بالسماء وبانيها، الذي هو الله تبارك وتعالى، ويحتمل أنها مصدرية، فيكون الإقسام بالسماء وبنيانها، الذي هو غاية ما يقدر من الإحكام والإتقان والإحسان، ونحو ذلك قوله: { وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } أي: مدها ووسعها، فتمكن الخلق حينئذ من الانتفاع بها، بجميع وجوه الانتفاع. { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } يحتمل أن المراد نفس سائر المخلوقات الحيوانية، كما يؤيد هذا العموم، ويحتمل أن المراد بالإقسام بنفس الإنسان المكلف، بدليل ما يأتي بعده. وعلى كُلٍّ، فالنفس آية كبيرة من آياته التي حقيقةٌ بالإقسام بها، فإنها في غاية اللطف والخفة، سريعة التنقل [والحركة] والتغير والتأثر والانفعالات النفسية، من الهم، والإرادة، والقصد، والحب، والبغض، وهي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثال لا فائدة فيه، وتسويتها على هذا الوجه آية من آيات الله العظيمة. وقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } أي: طهر نفسه من الذنوب، ونقاها من العيوب، ورقَّاها بطاعة الله، وعلاَّها بالعلم النافع والعمل الصالح. { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } أي: أخفى نفسه الكريمة، التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها، بالتدنس بالرذائل، والدنو من العيوب والاقتراف للذنوب، وترك ما يكملها وينميها، واستعمال ما يشينها ويدسيها. { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } أي: بسبب طغيانها وترفعها عن الحق، وعتوها على رسل الله، { إِذِ ٱنبَعَثَ أَشْقَاهَا } أي: أشقى القبيلة، [وهو] " قدار بن سالف " لعقرها حين اتفقوا على ذلك، وأمروه فأْتَمر لهم. { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ } صالح عليه السلام محذراً: { نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَاهَا } أي: احذروا عقر ناقة الله، التي جعلها لكم آية عظيمة، ولا تقابلوا نعمة الله عليكم بسَقْي لبنها أن تعقروها، فكذبوا نبيهم صالحاً { فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ } أي: دمَّر عليهم وعمهم بعقابه، وأرسل عليهم الصيحة من فوقهم، والرجفة من تحتهم، فأصبحوا جاثمين على ركبهم، لا تجد منهم داعياً ولا مجيباً. { فَسَوَّاهَا } عليهم أي: سوى بينهم بالعقوبة { وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } أي: تَبِعَتَها. وكيف يخاف من هو قاهر، لا يخرج عن قهره وتصرفه مخلوق، الحكيم في كل ما قضاه وشرعه؟ تمت ولله الحمد

ابوالوليد المسلم
19-09-2020, 05:28 AM
الحلقة (632)
تفسير السعدى
(سورة الليل)
من (1)الى (21)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الليل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)


هذا قسم من الله بالزمان الذي تقع فيه أفعال العباد على تفاوت أحوالهم، فقال: { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ } [أي: يعم] الخلق بظلامه، فيسكن كلٌ إلى مأواه ومسكنه، ويستريح العباد من الكد والتعب، { وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } للخلق، فاستضاؤوا بنوره، وانتشروا في مصالحهم، { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } إن كانت " ما " موصولة، كان إقساماً بنفسه الكريمة الموصوفة، بأنه خالق الذكور والإناث، وإن كانت مصدرية، كان قسماً بخلقه للذكر والأنثى، وكمال حكمته في ذلك أن خلق من كل صنف من الحيوانات التي يريد بقاءها ذكراً وأنثى، ليبقى النوع ولا يضمحل، وقاد كلاً منهما إلى الآخر بسلسلة الشهوة، وجعل كلاً منهما مناسباً للآخر، فتبارك الله أحسن الخالقين. وقوله: { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } هذا [هو] المقسم عليه أي: إن سعيكم أيها المكلفون لمُتفاوِتٌ تفاوتاً كثيراً، وذلك بحسب تفاوت نفس الأعمال ومقدارها والنشاط فيها، وبحسب الغاية المقصودة بتلك الأعمال، هل هو وجه الله الأعلى الباقي؟ فيبقى السعي له ببقائه، وينتفع به صاحبه، أم هي غاية مضمحلة فانية، فيبطل السعي ببطلانها، ويضمحل باضمحلالها؟ وهذا كل عمل يقصد به غير وجه الله تعالى، بهذا الوصف، ولهذا فصَّل الله تعالى العاملين، ووصف أعمالهم، فقال: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ } [أي] ما أمر به من العبادات المالية، كالزكوات، والكفارات والنفقات، والصدقات، والإنفاق في وجوه الخير، والعبادات البدنية كالصلاة، والصوم ونحوهما. والمركّبة منهما، كالحج والعمرة [ونحوهما] { وَٱتَّقَىٰ } ما نهي عنه، من المحرمات والمعاصي، على اختلاف أجناسها. { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أي: صدّق بـ " لا إله إلا الله " وما دلّت عليه، من جميع العقائد الدينية، وما ترتب عليها من الجزاء الأخروي. { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } أي: نسهل عليه أمره، ونجعله ميسراً له كل خير، ميسراً له ترك كل شر، لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك. { وَأَمَّا مَن بَخِلَ } بما أمر به، فترك الإنفاق الواجب والمستحب، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب لله، { وَٱسْتَغْنَىٰ } عن الله، فترك عبوديته جانباً، ولم ير نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى ربها، الذي لا نجاة لها ولا فوز ولا فلاح، إلا بأن يكون هو محبوبها ومعبودها، الذي تقصده وتتوجه إليه، { وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أي: بما أوجب الله على العباد التصديق به من العقائد الحسنة، { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } أي: للحالة العسرة، والخصال الذميمة، بأن يكون ميسراً للشر أينما كان، ومقيضاً له أفعال المعاصي، نسأل الله العافية. { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ } الذي أطغاه واستغنى به، وبخل به إذا هلك ومات، فإنه لا يصحبه إلا عمله الصالح. وأما ماله [الذي لم يخرج منه الواجب] فإنه يكون وبالاً عليه، إذ لم يقدم منه لآخرته شيئاً. { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ } أي: إن الهدى المستقيم طريقه، يوصل إلى الله، ويدني من رضاه، وأما الضلال، فطرق مسدودة عن الله، لا توصل صاحبها إلا للعذاب الشديد.
{ وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ } ملكاً وتصرفاً، ليس له فيهما مشارك، فليرغب الراغبون إليه في الطلب، ولينقطع رجاؤهم عن المخلوقين، { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ } أي: تستعر وتتوقد، { لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِي كَذَّبَ } بالخبر { وَتَوَلَّىٰ } عن الأمر. { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } بأن يكون قصده به تزكية نفسه، وتطهيرها من الذنوب والعيوب، قاصداً به وجه الله تعالى، فدل هذا على أنه إذا تضمن الإنفاق المستحب ترك واجب، كدين ونفقةٍ ونحوهما، فإنه غير مشروع، بل تكون عطيته مردودة عند كثير من العلماء، لأنه لا يتزكى بفعل مستحب يفوت عليه الواجب. { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } أي: ليس لأحد من الخلق على هذا الأتقى نعمة تجزى إلا وقد كافأه بها، وربما بقي له الفضل والمنّة على الناس، فتمحض عبداً لله، لأنه رقيق إحسانه وحده، وأما من بقي عليه نعمة للناس لم يجزها ويكافئها، فإنه لا بد أن يترك للناس، ويفعل لهم ما ينقص [إخلاصه]. وهذه الآية، وإن كانت متناولة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل قد قيل إنها نزلت في سببه، فإنه - رضي الله عنه - ما لأحد عنده من نعمة تجزى، حتى ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا نعمة الرسول التي لا يمكن جزاؤها، وهي [نعمة] الدعوة إلى دين الإسلام، وتعليم الهدى ودين الحق، فإن لله ورسوله المنّة على كل أحد، منةٌ لا يمكن لها جزاء ولا مقابلة، فإنها متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل، فلم يبق لأحد عليه من الخلق نعمة تجزى، فبقيت أعماله خالصة لوجه الله تعالى. ولهذا قال: { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } هذا الأتقى بما يعطيه الله من أنواع الكرامات والمثوبات، والحمد لله رب العالمين.
سورة الضحى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

أقسم تعالى بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى، وبالليل إذا سجى وادلهمَّت ظلمته، على اعتناء الله برسوله صلى الله عليه وسلم فقال: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } أي: ما تركك منذ اعتنى بك، ولا أهملك منذ رباك ورعاك، بل لم يزل يربيك أحسن تربية، ويعليك درجة بعد درجة. { وَمَا قَلَىٰ } ك الله أي: ما أبغضك منذ أحبك، فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده، والنفي المحض لا يكون مدحاً، إلا إذا تضمن ثبوت كمال، فهذه حال الرسول صلى الله عليه وسلم الماضية والحاضرة، أكمل حال وأتمها، محبة الله له واستمرارها، وترقيته في درج الكمال، ودوام اعتناء الله به. وأما حاله المستقبلة، فقال: { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } أي: كل حالة متأخرة من أحوالك، فإن لها الفضل على الحالة السابقة. فلم يزل صلى الله عليه وسلم يصعد في درج المعالي، ويمكن له الله دينه، وينصره على أعدائه، ويسدد له أحواله، حتى مات، وقد وصل إلى حال لا يصل إليها الأولون والآخرون، من الفضائل والنعم، وقرة العين، وسرور القلب. ثم بعد ذلك، لا تسأل عن حاله في الآخرة، من تفاصيل الإكرام، وأنواع الإنعام، ولهذا قال: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } وهذا أمر لا يمكن التعبير عنه بغير هذه العبارة الجامعة الشاملة. ثم امتنَّ عليه بما يعلمه من أحواله [الخاصة] فقال: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ } أي: وجدك لا أم لك، ولا أب، بل قد مات أبوه وأمه وهو لا يدبر نفسه، فآواه الله، وكفّله جده عبد المطلب، ثم لما مات جده كفله الله عمه أبا طالب، حتى أيده بنصره وبالمؤمنين. { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } أي: وجدك لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان، فعلمَّك ما لم تكن تعلم، ووفَّقك لأحسن الأعمال والأخلاق. { وَوَجَدَكَ عَآئِلاً } أي: فقيراً { فَأَغْنَىٰ } بما فتح الله عليك من البلدان، التي جبيت لك أموالها وخراجها. فالذي أزال عنك هذه النقائص، سيزيل عنك كل نقص، والذي أوصلك إلى الغنى، وآواك ونصرك وهداك، قابِلْ نعمته بالشكران. [ولهذا قال:] { فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } أي: لا تسيء معاملة اليتيم، ولا يضق صدرك عليه، ولا تنهره، بل أكرمه، وأعطه ما تيسر، واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك. { وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } أي: لا يصدر منك إلى السائل كلام يقتضي رده عن مطلوبه، بنهر وشراسة خلق، بل أعطه ما تيسر عندك أو ردّه بمعروف [وإحسان]. وهذا يدخل فيه السائل للمال، والسائل للعلم، ولهذا كان المعلم مأموراً بحسن الخلق مع المتعلم، ومباشرته بالإكرام والتحنن عليه، فإن في ذلك معونة له على مقصده، وإكراماً لمن كان يسعى في نفع العباد والبلاد. { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } [وهذا يشمل] النعم الدينية والدنيوية { فَحَدِّثْ } أي: أثن على الله بها، وخصصها بالذكر إن كان هناك مصلحة. وإلا فحدث بنعم الله على الإطلاق، فإن التحدث بنعمة الله داع لشكرها، وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن.

ابوالوليد المسلم
19-09-2020, 05:30 AM
الحلقة (633)
تفسير السعدى
(سورة الشرح)
من (1)الى (8)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الشرح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

يقول تعالى - ممتناً على رسوله -: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } أي: نوسعه لشرائع الدين والدعوة إلى الله، والاتصاف بمكارم الأخلاق، والإقبال على الآخرة، وتسهيل الخيرات فلم يكن ضيقاً حرجاً، لا يكاد ينقاد لخير، ولا تكاد تجده منبسطاً. { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } أي: ذنبك، { ظ±لَّذِيغ¤ أَنقَضَ } أي: أثقل { ظَهْرَكَ } كما قال تعالى:{ لِّيَغْفِرَ لَكَ ظ±للَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح: 2]. { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } أي: أعلينا قدرك، وجعلنا لك الثناء الحسن العالي، الذي لم يصل إليه أحد من الخلق، فلا يذكر الله إلا ذكر معه رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في الدخول في الإسلام، وفي الأذان والإقامة والخطب، وغير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ذكر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وله في قلوب أمته من المحبة والإجلال والتعظيم ما ليس لأحد غيره، بعد الله تعالى، فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبياً عن أمته. وقوله: { فَإِنَّ مَعَ ظ±لْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ ظ±لْعُسْرِ يُسْراً } بشارة عظيمة، أنه كلما وجد عسر وصعوبة، فإن اليسر يقارنه ويصاحبه، حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر، فأخرجه كما قال تعالى:{ سَيَجْعَلُ ظ±للَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } [الطلاق: 7] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا ". وتعريف " العسر " في الآيتين، يدل على أنه واحد، وتنكير " اليسر " يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين. وفي تعريفه بالألف واللام، الدالة على الاستغراق والعموم يدل على أن كل عسر - وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ - فإنه في آخره التيسير ملازم له. ثم أمر الله رسوله أصلاً، والمؤمنين تبعاً، بشكره والقيام بواجب نعمه، فقال: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَظ±نصَبْ } أي: إذا تفرغت من أشغالك، ولم يبق في قلبك ما يعوقه، فاجتهد في العبادة والدعاء. { وَإِلَىظ° رَبِّكَ } وحده { فَظ±رْغَبْ } أي: أعظم الرغبة في إجابة دعائك وقبول عباداتك. ولا تكن ممن إذا فرغوا وتفرغوا لعبوا وأعرضوا عن ربهم وعن ذكره، فتكون من الخاسرين. وقد قيل: إن معنى قوله: فإذا فرغت من الصلاة وأكملتها، فانصب في الدعاء، وإلى ربك فارغب في سؤال مطالبك. واستدل من قال بهذا القول، على مشروعية الدعاء والذكر عقب الصلوات المكتوبات، والله أعلم بذلك تمت ولله الحمد.
سورة التين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

{ ظ±لتِّينِ } هو التين المعروف، وكذلك { ظ±لزَّيْتُونِ } أقسم بهاتين الشجرتين، لكثرة منافع شجرهما وثمرهما، ولأن سلطانهما في أرض الشام، محل نبوة عيسى ابن مريم عليه السلام. { وَطُورِ سِينِينَ } أي: طور سيناء، محل نبوة موسى صلى الله عليه وسلم، { وَهَـظ°ذَا ظ±لْبَلَدِ ظ±لأَمِينِ } وهي مكة المكرمة، محل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فأقسم تعالى بهذه المواضع المقدسة، التي اختارها وابتعث منها أفضل النبوات وأشرفها. والمقسم عليه قوله: { لَقَدْ خَلَقْنَا ظ±لإِنسَانَ فِيغ¤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } أي: تام الخلق، متناسب الأعضاء، منتصب القامة، لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهراً أو باطناً شيئاً، ومع هذه النعم العظيمة، التي ينبغي منه القيام بشكرها، فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم، مشتغلون باللهو واللعب، قد رضوا لأنفسهم بأسافل الأمور، وسفساف الأخلاق، فردهم الله في أسفل سافلين أي: أسفل النار، موضع العصاة المتمردين على ربهم، إلاَّ مَنْ منَّ الله عليه بالإيمان والعمل الصالح، والأخلاق الفاضلة العالية، { فَلَهُمْ } بذلك المنازل العالية، و { أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي: غير مقطوع، بل لذاتٌ متوافرة، وأفراح متواترة، ونعم متكاثرة، في أبد لا يزول، ونعيم لا يحول، أكلها دائم وظلها، { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِظ±لدِّينِ } أي: أي شيء يكذبك أيها الإنسان بيوم الجزاء على الأعمال، وقد رأيت من آيات الله الكثيرة ما به يحصل لك اليقين، ومن نعمه ما يوجب عليك أن لا تكفر بشيء مما أخبرك به، { أَلَيْسَ ظ±للَّهُ بِأَحْكَمِ ظ±لْحَاكِمِينَ } فهل تقتضي حكمته أن يترك الخلق سدى لا يؤمرون ولا ينهون، ولا يُثابون ولا يُعاقبون؟ أم الذي خلق الإنسان أطواراً بعد أطوار، وأوصل إليهم من النعم والخير والبر ما لا يحصونه، ورباهم التربية الحسنة، لا بد أن يعيدهم إلى دار هي مستقرهم وغايتهم، التي إليها يقصدون، ونحوها يؤمون. تمت ولله الحمد.
سورة العلق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

هذه السورة أول السور القرآنية نزولاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنها نزلت عليه في مبادئ النبوة، إذ كان لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام بالرسالة، وأمره أن يقرأ، فامتنع، وقال: " ما أنا بقارئ " فلم يزل به حتى قرأ. فأنزل الله عليه: { ظ±قْرَأْ بِظ±سْمِ رَبِّكَ ظ±لَّذِي خَلَقَ } عموم الخلق، ثم خص الإنسان، وذكر ابتداء خلقه { مِنْ عَلَقٍ } فالذي خلق الإنسان واعتنى بتدبيره، لا بد أن يدبره بالأمر والنهي، وذلك بإرسال الرسول إليهم، وإنزال الكتب عليهم، ولهذا ذكر بعد الأمر بالقراءة، خلقه للإنسان. ثم قال: { ظ±قْرَأْ وَرَبُّكَ ظ±لأَكْرَمُ } أي: كثير الصفات واسعها، كثير الكرم والإحسان، واسع الجود، الذي من كرمه أن علم بالعلم. و { عَلَّمَ بِظ±لْقَلَمِ * عَلَّمَ ظ±لإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، ويسر له أسباب العلم. فعلمه القرآن، وعلمه الحكمة، وعلمه بالقلم، الذي به تحفظ العلوم، وتضبط الحقوق، وتكون رسلاً للناس تنوب مناب خطابهم، فلله الحمد والمنة، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها على جزاءٍ ولا شكور، ثم منّ عليهم بالغنى وسعة الرزق، ولكن الإنسان - لجهله وظلمه - إذا رأى نفسه غنياً، طغى وبغى، وتجبر عن الهدى، ونسي أن إلى ربه الرجعى، ولم يخف الجزاء، بل ربما وصلت به الحال أنه يترك الهدى بنفسه، ويدعو [غيره] إلى تركه، فينهى عن الصلاة التي هي أفضل أعمال الإيمان. يقول الله لهذا المتمرد العاتي: { أَرَأَيْتَ } أيها الناهي للعبد إذا صلى { إِن كَانَ } العبد المصلي { عَلَىظ° ظ±لْهُدَىظ° } العلم بالحق والعمل به، { أَوْ أَمَرَ } غيره { بِظ±لتَّقْوَىظ° }. فهل يحسن أن ينهى من هذا وصفه؟ أليس نهيه من أعظم المحادَّة لله والمحاربة للحق؟ فإن النهي لا يتوجه إلا لمن هو في نفسه على غير الهدى، أو كان يأمر غيره بخلاف التقوى. { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ } الناهي بالحق، { وَتَوَلَّىظ° } عن الأمر، أما يخاف الله ويخشى عقابه؟ { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ ظ±للَّهَ يَرَىظ° } ما يعمل ويفعل؟. ثم توعده إن استمر على حاله، فقال: { كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ } عما يقول ويفعل { لَنَسْفَعاً بِظ±لنَّاصِيَةِ } أي: لنأخذن بناصيته، أخذاً عنيفاً، وهي حقيقة بذلك، فإنها { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } أي: كاذبة في قولها، خاطئة في فعلها. { فَلْيَدْعُ } هذا الذي حق عليه العقاب { نَادِيَهُ } أي: أهل مجلسه وأصحابه ومن حوله، ليعينوه على ما نزل به، { سَنَدْعُ ظ±لزَّبَانِيَةَ } أي: خزنة جهنم، لأخذه وعقوبته، فلينظر أي: الفريقين أقوى وأقدر؟ فهذه حالة الناهي وما توعد به من العقوبة، وأما حالة المنهي، فأمره الله أن لا يصغى إلى هذا الناهي ولا ينقاد لنهيه فقال: { كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ } [أي:] فإنه لا يأمر إلا بما فيه خسارة الدارين، { وَظ±سْجُدْ } لربك { وَظ±قْتَرِب } منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات والقربات، فإنها كلها تُدْني من رضاه وتقرب منه. وهذا عام لكل ناهٍ عن الخير ومنهي عنه، وإن كانت نازلة في شأن أبي جهل حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، وعبث به وآذاه. تمت ولله الحمد.

ابوالوليد المسلم
19-09-2020, 05:31 AM
الحلقة (634)
تفسير السعدى
(سورة القدر)
من (1)الى (5)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القدر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
يقول تعالى مبيناً لفضل القرآن وعلو قدره: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } كما قال تعالى:{ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [الدخان: 3] وذلك أن الله [تعالى]، ابتدأ بإنزاله في رمضان [في] ليلة القدر، ورحم الله بها العباد رحمةً عامة، لا يقدر العباد لها شكراً. وسميت ليلة القدر، لعظم قدرها وفضلها عند الله، ولأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الآجال والأرزاق والمقادير القدرية. ثم فخّم شأنها، وعظم مقدارها، فقال: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ } أي: فإن شأنها جليل، وخطرها عظيم، { لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } أي: تعادل من فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها، خير من العمل في ألف شهر [خالية منها]، وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث منَّ تبارك وتعالى على هذه الأمة الضعيفة القوة والقوى، بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عمر رجل معمر عمراً طويلاً، نيفاً وثمانين سنة. { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا } أي: يكثر نزولهم فيها { مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ } أي: سالمة من كل آفة وشر، وذلك لكثرة خيرها، { حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ } أي: مبتداها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجر. وقد تواترت الأحاديث في فضلها، وأنها في رمضان، وفي العشر الأواخر منه، خصوصاً في أوتاره، وهي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف ويكثر من التعبد في العشر الأواخر من رمضان، رجاء ليلة القدر [والله أعلم].
سورة البينة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

يقول تعالى: { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي: [من] اليهود والنصارى { وَٱلْمُشْرِكِينَ } من سائر أصناف الأمم. { مُنفَكِّينَ } عن كفرهم وضلالهم الذي هم عليه، أي: لا يزالون في غيهم وضلالهم، لا يزيدهم مرور السنين إلا كفراً. { حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } الواضحة، والبرهان الساطع، ثم فسر تلك البينة فقال: { رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ } أي: أرسله الله، يدعو الناس إلى الحق، وأنزل عليه كتاباً يتلوه، ليعلم الناس الحكمة ويزكيهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ولهذا قال: { يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } أي: محفوظة عن قربان الشياطين، لا يمسها إلا المطهرون، لأنها في أعلى ما يكون من الكلام. ولهذا قال عنها: { فِيهَا } أي: في تلك الصحف { كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } أي: أخبار صادقة، وأوامر عادلة تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، فإذا جاءتهم هذه البينة، فحينئذ يتبين طالب الحق ممن ليس له مقصد في طلبه، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة. وإذا لم يؤمن أهل الكتاب لهذا الرسول وينقادوا له، فليس ذلك ببدع من ضلالهم وعنادهم، فإنهم ما تفرَّقوا واختلفوا وصاروا أحزاباً { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } التي توجب لأهلها الاجتماع والاتفاق، ولكنهم لرداءتهم ونذالتهم، لم يزدهم الهدى إلا ضلالاً، ولا البصيرة إلا عمىً، مع أن الكتب كلها جاءت بأصل واحد، ودين واحد، فما أمروا في سائر الشرائع إلا أن يعبدوا { ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } أي: قاصدين بجميع عباداتهم الظاهرة والباطنة وجه الله، وطلب الزلفى لديه، { حُنَفَآءَ } أي: معرضين [مائلين] عن سائر الأديان المخالفة لدين التوحيد. وخصّ الصلاة والزكاة [بالذكر] مع أنهما داخلان في قوله { لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ } لفضلهما وشرفهما، وكونهما العبادتين اللتين من قام بهما قام بجميع شرائع الدين. { وَذَلِكَ } أي التوحيد والإخلاص في الدين، هو { دِينُ ٱلقَيِّمَةِ } أي: الدين المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، وما سواه فطرق موصلة إلى الجحيم. ثم ذكر جزاء الكافرين بعدما جاءتهم البينة، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } قد أحاط بهم عذابها، واشتد عليهم عقابها، { خَالِدِينَ فِيهَآ } لا يفتّر عنهم العذاب، وهم فيها مبلسون، { أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ } لأنهم عرفوا الحق وتركوه، وخسروا الدنيا والآخرة. { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } لأنهم عبدوا الله وعرفوه، وفازوا بنعيم الدنيا والآخرة. { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي: جنات إقامة، لا ظعن فيها ولا رحيل، ولا طلب لغاية فوقها، { تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } فرضي عنهم بما قاموا به من مراضيه، ورضوا عنه، بما أعد لهم من أنواع الكرامات وجزيل المثوبات { ذَلِكَ } الجزاء الحسن { لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } أي: لمن خاف الله، فأحجم عن معاصيه، وقام بواجباته. [تمت والحمد لله]
سورة الزلزلة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)


يخبر تعالى عما يكون يوم القيامة، وأن الأرض تتزلزل وترجف وترتج، حتى يسقط ما عليها من بناء وعَلَمٍ. فتندك جبالها، وتُسوَّى تلالها، وتكون قاعاً صفصفاً لا عوج فيه ولا أمتَ. { وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا } أي: ما في بطنها، من الأموات والكنوز، { وَقَالَ ٱلإِنسَانُ } إذا رأى ما عراها من الأمر العظيم مستعظماً لذلك: { مَا لَهَا }؟ أي: أيُّ شيءٍ عرض لها؟ { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ } الأرض { أَخْبَارَهَا } أي: تشهد على العاملين بما عملوا على ظهرها من خير وشر، فإن الأرض من جملة الشهود الذين يشهدون على العباد بأعمالهم، ذلك { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [أي] وأمرها أن تخبر بما عمل عليها، فلا تعصي لأمره. { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ } من موقف القيامة، حين يقضي الله بينهم { أَشْتَاتاً } أي: فرقاً متفاوتين. { لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ } أي: ليريهم الله ما عملوا من الحسنات والسيئات، ويريهم جزاءه موفراً. { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وهذا شامل عام للخير والشر كله، لأنه إذا رأى مثقال الذرة، التي هي أحقر الأشياء، [وجوزي عليها] فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى، كما قال تعالى:{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [آل عمران: 30]{ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [الكهف: 49]. وهذه الآية فيها غاية الترغيب في فعل الخير ولو قليلاً، والترهيب من فعل الشر ولو حقيراً.

ابوالوليد المسلم
19-09-2020, 05:33 AM
الحلقة (635)
تفسير السعدى
(سورة العاديات)
من (1)الى (11)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة العاديات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

أقسم الله تبارك وتعالى بالخيل، لما فيها من آيات الله الباهرة، ونعمه الظاهرة، ما هو معلوم للخلق. وأقسم [تعالى] بها في الحال التي لا يشاركها [فيه] غيرها من أنواع الحيوانات، فقال: { وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } أي: العاديات عدواً بليغاً قوياً، يصدر عنه الضبح، وهو صوت نفسها في صدرها، عند اشتداد العدو. { فَٱلمُورِيَاتِ } بحوافرهن ما يطأن عليه من الأحجار { قَدْحاً } أي: تقدح النار من صلابة حوافرهن [وقوتهن] إذا عدون، { فَٱلْمُغِيرَاتِ } على الأعداء { صُبْحاً } وهذا أمر أغلبي، أن الغارة تكون صباحاً، { فَأَثَرْنَ بِهِ } أي: بعدوهن وغارتهن { نَقْعاً } أي: غباراً، { فَوَسَطْنَ بِهِ } أي: براكبهن { جَمْعاً } أي: توسطن به جموع الأعداء، الذين أغار عليهم. والمقسم عليه، قوله: { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } أي: لمنوعٌ للخير الذي عليه لربه. فطبيعة [الإنسان] وجبلته، أن نفسه لا تسمح بما عليه من الحقوق، فتؤديها كاملة موفرة، بل طبيعتها الكسل والمنع لما عليه من الحقوق المالية والبدنية، إلا من هداه الله و خرج عن هذا الوصف إلى وصف السماح بأداء الحقوق، { وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } أي: إن الإنسان على ما يعرف من نفسه من المنع والكند لشاهد بذلك، لا يجحده ولا ينكره، لأن ذلك أمرٌ بيِّنٌ واضح. ويحتمل أن الضمير عائد إلى الله تعالى أي: إن العبد لربه لكنود، والله شهيد على ذلك، ففيه الوعيد، والتهديد الشديد، لمن هو لربه كنود، بأن الله عليه شهيد. { وَإِنَّهُ } أي: الإنسان { لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ } أي: المال { لَشَدِيدٌ } أي: كثير الحب للمال. وحبه لذلك، هو الذي أوجب له ترك الحقوق الواجبة عليه، قدم شهوة نفسه على حق ربه، وكلُّ هذا لأنه قصر نظره على هذه الدار، وغفل عن الآخرة، ولهذا قال حاثاً له على خوف يوم الوعيد: { أَفَلاَ يَعْلَمُ } أي: هلاَّ يعلم هذا المغتر { إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ } أي: أخرج الله الأموات من قبورهم، لحشرهم ونشورهم. { وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ } أي: ظهر وبان [ما فيها و] ما استتر في الصدور من كمائن الخير والشر، فصار السر علانية، والباطن ظاهراً، وبان على وجوه الخلق نتيجة أعمالهم. { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } أي مطلع على أعمالهم الظاهرة والباطنة، الخفية والجلية، ومجازيهم عليها. وخص خبره بذلك اليوم، مع أنه خبير بهم في كل وقت، لأن المراد بذلك، الجزاء بالأعمال، الناشئ عن علم الله واطلاعه.
سورة القارعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
{ ٱلْقَارِعَةُ } من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك، لأنها تقرع الناس وتزعجهم بأهوالها، ولهذا عظم أمرها وفخمه بقوله: { ٱلْقَارِعَةُ * مَا ٱلْقَارِعَةُ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ } من شدة الفزع والهول، { كَٱلْفَرَاشِ ٱلْمَبْثُوثِ } أي: كالجراد المنتشر، الذي يموج بعضه في بعض، والفراش: هي الحيوانات التي تكون في الليل، يموج بعضها ببعض لا تدري أين توجه، فإذا أوقد لها نار تهافتت إليها لضعف إدراكها، فهذه حال الناس أهل العقول، وأما الجبال الصم الصلاب، فتكون { كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } أي: كالصوف المنفوش، الذي بقي ضعيفاً جداً، تطير به أدنى ريح، قال تعالى:{ وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [النمل: 88] ثم بعد ذلك تكون هباءً منثوراً، فتضمحل ولا يبقى منها شيء يشاهد، فحينئذ تنصب الموازين، وينقسم الناس قسمين: سعداء وأشقياء، { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } أي: رجحت حسناته على سيئاته { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } في جنات النعيم. { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } بأن لم تكن له حسنات تقاوم سيئاته، { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } أي: مأواه ومسكنه النار، التي من أسمائها الهاوية، تكون له بمنزلة الأم الملازمة كما قال تعالى:{ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [الفرقان: 65]. وقيل: إن معنى ذلك، فأم دماغه هاوية في النار، أي: يلقى في النار على رأسه. { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ } وهذا تعظيم لأمرها، ثم فسرها بقوله هي: { نَارٌ حَامِيَةٌ } أي: شديدة الحرارة، قد زادت حرارتها على حرارة نار الدنيا سبعين ضعفاً. نستجير بالله منها.
سورة التكاثر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
يقول تعالى موبخاً عباده عن اشتغالهم عما خلقوا له من عبادته وحده لا شريك له، ومعرفته، والإنابة إليه، وتقديم محبته على كل شيء: { أَلْهَاكُمُ } عن ذلك المذكور { ٱلتَّكَّاثُرُ } ولم يذكر المتكاثر به، ليشمل ذلك كل ما يتكاثر به المتكاثرون، ويفتخر به المفتخرون، من التكاثر في الأموال، والأولاد، والأنصار، والجنود، والخدم، والجاه، وغير ذلك مما يقصد منه مكاثرة كل واحد للآخر، وليس المقصود به الإخلاص لله تعالى. فاستمرت غفلتكم ولهوتكم [وتشاغلكم] { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } فانكشف لكم حينئذ الغطاء، ولكن بعد ما تعذر عليكم استئنافه. ودل قوله: { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } أن البرزخ دارٌ مقصودٌ منها النفوذ إلى الدار الباقية، لأن الله سماهم زائرين، ولم يسمهم مقيمين. فدل ذلك على البعث والجزاء بالأعمال، في دار باقية غير فانية، ولهذا توعدهم بقوله: { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ } أي: لو تعلمون ما أمامكم علماً يصل إلى القلوب، لما ألهاكم التكاثر، ولبادرتم إلى الأعمال الصالحة. ولكن عدم العلم الحقيقي، صيَّركم إلى ما ترون، { لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ } أي: لتردن القيامة، فلترون الجحيم التي أعدها الله للكافرين. { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } أي: رؤية بصرية، كما قال تعالى:{ وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } [الكهف: 53]. { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ } الذي تنعمتم به في دار الدنيا، هل قمتم بشكره، وأديتم حق الله فيه، ولم تستعينوا به، على معاصيه، فينعمكم نعيماً أعلى منه وأفضل. أم اغتررتم به، ولم تقوموا بشكره؟ بل ربما استعنتم به على معاصي الله، فيعاقبكم على ذلك، قال تعالى:{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } الآية [الأحقاف: 20].

ابوالوليد المسلم
19-09-2020, 05:34 AM
الحلقة (636)
تفسير السعدى
(سورة العصر)
من (1)الى (3)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة العصر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
أقسم تعالى بالعصر، الذي هو الليل والنهار، محل أفعال العباد وأعمالهم أن كل إنسان خاسر، والخاسر ضد الرابح. والخسار مراتب متعددة متفاوتة: قد يكون خساراً مطلقاً، كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم. وقد يكون خاسراً من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان، إلا من اتصف بأربع صفات: الإيمان بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون العلم، فهو فرع عنه لا يتم إلا به. والعمل الصالح، وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده، الواجبة والمستحبة. والتواصي بالحق، الذي هو الإيمان والعمل الصالح أي: يوصي بعضهم بعضاً بذلك، ويحثه عليه، ويرغّبه فيه. والتواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة. فبالأمرين الأولين يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح [العظيم].
سورة الهمزة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
{ ويْلٌ } أي: وعيد، ووبال، وشدة عذاب { لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } الذي يهمز الناس بفعله، ويلمزهم بقوله، فالهماز: الذي يعيب الناس، ويطعن عليهم بالإشارة والفعل، واللماز: الذي يعيبهم بقوله. ومن صفة هذا الهماز اللماز، أنه لا هَمَّ له سوى جمع المال وتعديده والغبطة به، وليس له رغبة في إنفاقه في طرق الخيرات وصلة الأرحام، ونحو ذلك، { يَحْسَبُ } بجهله { أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } في الدنيا، فلذلك كان كدّه وسعيه كله في تنمية ماله، الذي يظن أنه ينمي عمره، ولم يدر أن البخل يقصف الأعمار، ويخرب الديار، وأن البر يزيد في العمر. { كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ } أي: ليطرحنَّ { فِي ظ±لْحُطَمَةِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ظ±لْحُطَمَةُ } تعظيم لها، وتهويل لشأنها. ثم فسرها بقوله: { نَارُ ظ±للَّهِ ظ±لْمُوقَدَةُ } التي وقودها الناس والحجارة { ظ±لَّتِي } من شدتها { تَطَّلِعُ عَلَى ظ±لأَفْئِدَةِ } أي: تنفذ من الأجسام إلى القلوب. ومع هذه الحرارة البليغة هم محبوسون فيها، قد أيسوا من الخروج منها، ولهذا قال: { إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ } أي: مغلقة، { فِي عَمَدٍ } من خلف الأبواب { مُّمَدَّدَةِ } لئلا يخرجوا منها{ كُلَّمَآ أَرَادُوغ¤اْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } [السجدة: 20]. [نعوذ بالله من ذلك ونسأله العفو والعافية].
سورة الفيل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
قال كثير من المفسرين: إن الجار والمجرور متعلق بالسورة التي قبلها أي: فعلنا ما فعلنا بأصحاب الفيل لأجل قريش وأمنهم، واستقامة مصالحهم، وانتظام رحلتهم في الشتاء لليمن، والصيف للشام، لأجل التجارة والمكاسب. فأهلك الله من أرادهم بسوء، وعظم أمر الحرم وأهله في قلوب العرب، حتى احترموهم، ولم يعترضوا لهم في أي سفر أرادوا، ولهذا أمرهم الله بالشكر، فقال: { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـظ°ذَا ظ±لْبَيْتِ } أي: ليوحدوه ويخلصوا له العبادة، { ظ±لَّذِيغ¤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } فرغد الرزق والأمن من المخاوف، من أكبر النعم الدنيوية، الموجبة لشكر الله تعالى. فلك اللهم الحمد والشكر على نعمك الظاهرة والباطنة، وخصّ الله بالربوبية البيت، لفضله وشرفه، وإلا فهو رب كل شيء.

سورة قريش
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
قال كثير من المفسرين: إن الجار والمجرور متعلق بالسورة التي قبلها أي: فعلنا ما فعلنا بأصحاب الفيل لأجل قريش وأمنهم، واستقامة مصالحهم، وانتظام رحلتهم في الشتاء لليمن، والصيف للشام، لأجل التجارة والمكاسب. فأهلك الله من أرادهم بسوء، وعظم أمر الحرم وأهله في قلوب العرب، حتى احترموهم، ولم يعترضوا لهم في أي سفر أرادوا، ولهذا أمرهم الله بالشكر، فقال: { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـظ°ذَا ظ±لْبَيْتِ } أي: ليوحدوه ويخلصوا له العبادة، { ظ±لَّذِيغ¤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } فرغد الرزق والأمن من المخاوف، من أكبر النعم الدنيوية، الموجبة لشكر الله تعالى. فلك اللهم الحمد والشكر على نعمك الظاهرة والباطنة، وخصّ الله بالربوبية البيت، لفضله وشرفه، وإلا فهو رب كل شيء.

ابوالوليد المسلم
19-09-2020, 05:35 AM
الحلقة (637)
تفسير السعدى
(سورة الماعون)
من (1)الى (7)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الماعون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)

يقول تعالى ذاماً لمن ترك حقوقه وحقوق عباده: { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ } أي: بالبعث والجزاء، فلا يؤمن بما جاءت به الرسل. { فَذَلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ } أي: يدفعه بعنف وشدة، ولا يرحمه لقساوة قلبه، ولأنه لا يرجو ثواباً، ولا يخشى عقاباً. { وَلاَ يَحُضُّ } غيره { عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } ومن باب أولى أنه بنفسه لا يطعم المسكين، { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } أي: الملتزمون لإقامة الصلاة، ولكنهم { ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } أي: مضيعون لها، تاركون لوقتها، مفوتون لأركانها، وهذا لعدم اهتمامهم بأمر الله حيث ضيعوا الصلاة، التي هي أهم الطاعات وأفضل القربات، والسهو عن الصلاة، هو الذي يستحق صاحبه الذم واللوم، وأما السهو في الصلاة، فهذا يقع من كل أحد، حتى من النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا وصف الله هؤلاء بالرياء والقسوة وعدم الرحمة، فقال: { ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ } أي يعملون الأعمال لأجل رئاء الناس. { وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ } أي: يمنعون إعطاء الشيء، الذي لا يضر إعطاؤه على وجه العارية، أو الهبة، كالإناء، والدلو، والفأس، ونحو ذلك، مما جرت العادة ببذلها والسماحة به. فهؤلاء - لشدة حرصهم - يمنعون الماعون، فكيف بما هو أكثر منه. وفي هذه السورة، الحث على إكرام اليتيم، والمساكين، والتحضيض على ذلك، ومراعاة الصلاة، والمحافظة عليها، وعلى الإخلاص [فيها و] في جميع الأعمال. والحث على [فعل المعروف و] بذل الأمور الخفيفة، كعارية الإناء والدلو والكتاب، ونحو ذلك، لأن الله ذم من لم يفعل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين.
سورة الكوثر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ممتناً عليه: { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } أي: الخير الكثير، والفضل الغزير، الذي من جملته، ما يعطيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، من النهر الذي يقال له " الكوثر " ، ومن الحوض. طوله شهر، وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته كنجوم السماء في كثرتها واستنارتها، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً. ولما ذكر منته عليه، أمره بشكرها فقال: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } خصّ هاتين العبادتين بالذكر، لأنهما من أفضل العبادات وأجلّ القربات. ولأن الصلاة تتضمن الخضوع [في] القلب والجوارح لله، وتنقلها في أنواع العبودية، وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به. { إِنَّ شَانِئَكَ } أي: مبغضك وذامك ومنتقصك { هُوَ ٱلأَبْتَرُ } أي: المقطوع من كل خير، مقطوع العمل، مقطوع الذكر. وأما محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الكامل حقاً، الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق، من رفع الذكر، وكثرة الأنصار، والأتباع صلى الله عليه وسلم.
سورة الكافرون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
أي: قل للكافرين معلناً ومصرحاً { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } أي: تبرَّأ مما كانوا يعبدون من دون الله، ظاهراً وباطناً. { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } لعدم إخلاصكم في عبادته، فعبادتكم له المقترنة بالشرك لا تسمى عبادة، ثم كرر ذلك ليدل الأول على عدم وجود الفعل، والثاني على أن ذلك قد صار وصفاً لازماً. ولهذا ميّز بين الفريقين، وفصل بين الطائفتين، فقال: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } كما قال تعالى:{ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } [الإسراء: 84]{ أَنتُمْ بَرِيۤئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [يونس: 41].
سورة النصر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
في هذه السورة الكريمة، بشارة وأمر لرسوله عند حصولها، وإشارة وتنبيه على ما يترتب على ذلك. فالبشارة هي البشارة بنصر الله لرسوله، وفتحه مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، بحيث يكون كثير منهم من أهله وأنصاره، بعد أن كانوا من أعدائه، وقد وقع هذا المبشر به، وأما الأمر بعد حصول النصر والفتح، فأمر رسوله أن يشكر ربه على ذلك، ويسبح بحمده ويستغفره، وأما الإشارة، فإن في ذلك إشارتين: إشارة لأن يستمر النصر لهذا الدين، ويزداد عند حصول التسبيح بحمد الله واستغفاره من رسوله، فإن هذا من الشكر، والله يقول:{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: 7] وقد وجد ذلك في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم في هذه الأمة لم يزل نصر الله مستمراً، حتى وصل الإسلام إلى ما لم يصل إليه دين من الأديان، ودخل فيه ما لم يدخل في غيره، حتى حدث من الأمة من مخالفة أمر الله ما حدث، فابتلاهم الله بتفرق الكلمة، وتشتت الأمر، فحصل ما حصل. [ومع هذا] فلهذه الأمة، وهذا الدين، من رحمة الله ولطفه، ما لا يخطر بالبال، أو يدور في الخيال. وأما الإشارة الثانية، فهي الإشارة إلى أن أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرب ودنا، ووجه ذلك أن عمره عمر فاضل أقسم الله به. وقد عهد أن الأمور الفاضلة تختم بالاستغفار، كالصلاة والحج، وغير ذلك. فأمرُ الله لرسوله بالحمد والاستغفار في هذه الحال، إشارة إلى أن أجله قد انتهى، فليستعد ويتهيأ للقاء ربه، ويختم عمره بأفضل ما يجده صلوات الله وسلامه عليه. فكان صلى الله عليه وسلم يتأوّل القرآن، ويقول ذلك في صلاته، يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: " سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي ".

ابوالوليد المسلم
19-09-2020, 05:36 AM
الحلقة (638)
تفسير السعدى
(سورة المسد)
من (1)الى (5)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة المسد





بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

أبو لهب هو عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان شديد العداوة [والأذية] للنبي صلى الله عليه وسلم فلا فيه دين، ولا حميَة للقرابة - قبَّحه الله - فذمّه الله بهذا الذم العظيم، الذي هو خزيٌ عليه إلى يوم القيامة فقال: { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } أي: خسرت يداه، وشقي { وَتَبَّ } فلم يربح، { مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ } الذي كان عنده وأطغاه، ولا ما كسبه فلم يرد عنه شيئاً من عذاب الله إذ نزل به، { سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } أي: ستحيط به النار من كل جانب، هو { وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ }. وكانت أيضاً شديدة الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تتعاون هي وزوجها على الإثم والعدوان، وتلقي الشر، وتسعى غاية ما تقدر عليه في أذية الرسول صلى الله عليه وسلم وتجمع على ظهرها من الأوزار بمنزلة من يجمع حطباً، قد أعد لها في عنقها حبلاً { مِّن مَّسَدٍ } أي: من ليف. أو أنها تحمل في النار الحطب على زوجها، متقلدة في عنقها حبلاً من مسد، وعلى كل، ففي هذه السورة، آية باهرة من آيات الله، فإن الله أنزل هذه السورة، وأبو لهب وامرأته لم يهلكا، وأخبر أنهما سيعذبان في النار ولا بد، ومن لازم ذلك أنهما لا يسلمان، فوقع كما أخبر عالم الغيب والشهادة.
سورة الاخلاص



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
أي { قُلْ } قولاً جازماً به، معتقداً له، عارفاً بمعناه، { هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } أي: قد انحصرت فيه الأحدية، فهو الأحد المنفرد بالكمال، الذي له الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والأفعال المقدسة، الذي لا نظير له ولا مثيل. { ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } أي: المقصود في جميع الحوائج. فأهل العالم العلوي والسفلي مفتقرون إليه غاية الافتقار، يسألونه حوائجهم، ويرغبون إليه في مهماتهم، لأنه الكامل في أوصافه، العليم الذي قد كمل في علمه، الحليم الذي قد كمل في حلمه، الرحيم الذي [كمل في رحمته الذي] وسعت رحمته كل شيء، وهكذا سائر أوصافه، ومن كماله أنه { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } لكمال غناه، { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } لا في أسمائه ولا في أوصافه، ولا في أفعاله، تبارك وتعالى. فهذه السورة مشتملة على توحيد الأسماء والصفات.
سورة الفلق



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)


أي: { قُلْ } متعوذاً { أَعُوذُ } أي: ألجأ وألوذ، وأعتصم { بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ } أي: فالق الحب والنوى، وفالق الإصباح. { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } وهذا يشمل جميع ما خلق الله، من إنس، وجن، وحيوانات، فيستعاذ بخالقها من الشر الذي فيها، ثم خص بعد ما عمّ، فقال: { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } أي: من شر ما يكون في الليل، حين يغشى الناس، وتنتشر فيه كثير من الأرواح الشريرة، والحيوانات المؤذية. { وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ فِي ٱلْعُقَدِ } أي: ومن شر السواحر، اللاتي يستعن على سحرهنّ بالنفث في العقد، التي يعقدنها على السحر. { وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } والحاسد، هو الذي يحب زوال النعمة عن المحسود فيسعى في زوالها بما يقدر عليه من الأسباب، فاحتيج إلى الاستعاذة بالله من شره، وإبطال كيده، ويدخل في الحاسد العاين، لأنه لا تصدر العين إلا من حاسد شرير الطبع، خبيث النفس، فهذه السورة، تضمنت الاستعاذة من جميع أنواع الشر، عموماً وخصوصاً. ودلَّت على أن السحر له حقيقة يخشى من ضرره، ويستعاذ بالله منه [ومن أهله].

سورة الناس



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)

وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة برب الناس ومالكهم وإلههم، من الشيطان الذي هو أصل الشرور كلها ومادَّتها، الذي من فتنته وشرّه، أنه يوسوس في صدور الناس، فيحسن [لهم] الشر، ويريهم إياه في صورة حسنة، وينشط إرادتهم لفعله، ويقبح لهم الخير ويثبطهم عنه، ويريهم إياه في صورة غير صورته، وهو دائماً بهذه الحال يوسوس ويخنس أي: يتأخر إذا ذكر العبد ربه واستعان على دفعه. فينبغي له أن [يستعين و] يستعيذ ويعتصم بربوبية الله للناس كلهم. وأن الخلق كلهم داخلون تحت الربوبية والملك، فكل دابة هو آخذ بناصيتها. وبألوهيته التي خلقهم لأجلها، فلا تتم لهم إلا بدفع شر عدوهم، الذي يريد أن يقتطعهم عنها ويحول بينهم وبينها، ويريد أن يجعلهم من حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، والوسواس كما يكون من الجن يكون من الإنس، ولهذا قال: { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ }. والحمد لله رب العالمين أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.




تم بحمد الله
تقبل الله منا ومنكم صالح الاعمال