|
ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبو أيوب الأنصاري في رحلة العمر كُتب بقلم : ذ.عبد الحميد الأنصاري (شقيق الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله) المصدر : جريدة المحجة العدد 330-331 النسب و النشأة (بحاير الأنصار) قصر قديم في واحة تافيلالت، لم يبق منه إلا أطلال، قدر الله عليه سيلا فرق أهله في أرجاء الواحة. وكان من النازحين محمد بن المكي القاضي، الذي نزل في (الجرف) فقيها على طريقة الشرط، وُلِد له حسن الضرير الفقيه العالم أبو محمد أبي حسن أبي فريد الأنصاري. كان أبو أيوب الأنصاري يُرجِع نسبه، بناء على بحث قام به بنفسه، إلى الصحابي الجليل [سعد بن عبادة ] رضي الله عنه. وُلد فريد الأنصاري، رحمه الله، في التاسع عشر من ربيع الثاني، سنة ثمانين وثلاثمائة وألف هجرية، الموافقة لسنة ستين وتسعمائة وألف للميلاد، في قرية (أنِّيف)، إذ كان والده، خريج القرويين، معلما هناك. وكان، رحمه الله، يُرجع الفضل في بذرة التدين فيه، إلى والدته عائشة مهاجر، رحمها الله، التي تربت في حجر جدتها لأمها الأمازيغية التي لم تكن تفتر عن الذكر. نشأ في صغره، يجيد الأمازيغية ويتكلم بها، واحتفظ بقدرته على فهمها في كبره، وإن كان نسي الإفصاح بها! انتقلت العائلة بعدُ إلى (الجرف)، ونشأ أبو أيوب بقية طفولته هناك، في جو عائلي وبيئي شبيه جدا بما كتب في (كشف المحجوب)، فالبيت الموصوف في الرواية، بمن فيه، يكاد يكون بيت جده. * بـدايـات الرحلـة أتم تعليمه الابتدائي سنة (1974 م)، وقد حكى الأستاذ أن والده، رحمهما الله، أسقطه في هذه المرحلة سنتين اثنتين تشديدا منه عليه في التأهيل العلمي! وبانتقاله، رحمه الله، إلى المرحلة الإعدادية كان عليه أن يغادر البيت إلى بلدة (أرفود) القريبة، فأقام مدة في بيت عمته، ومدة في السكن الداخلي التابع للمؤسسة التعليمية. كان شغوفا بالقراءة، فلم تكن أنامله تهمل أي كتاب تقع عليه من أن تتصفحه إلى أن تأتي على تمامه، فقرأ، وهو في المرحلة الإعدادية، كتاب (في الشعر الجاهلي)، وروايات المنفلوطي، وروايات جرجي زيدان… وبانتقاله إلى المرحلة الثانوية سنة (1978 م)، التي درسها في بلدة (كلميمة)، كان له أول احتكاك عملي مع فكرة الدعوة الإسلامية؛ ففي سنته الأولى من هذه المرحلة الدراسية، وفي حجرة من السكن الداخلي للمؤسسة التعليمية، كان يجالس عفوا بعض التلاميذ، فشرع أحدهم يتحدث عن الحركة الإسلامية، مجتهدا في الدعوة لفكرتها، إلا أنه بدا لأبي أيوب، رحمه الله، أن جليسه أساء من حيث أراد أن يحسن، فرد عليه مصححا بناء على المعلومات التي استقاها من قراءاته، ثم بعد مدة ليست بالطويلة من ذلك النقاش، اتصل بأبي أيوب صاحبه الذي تكلم عن الحركة الإسلامية، وعرض عليه أن يطبقوا ما تناقشوا حوله، فاستحسن أبو أيوب الفكرة، واتصل ببعض أصدقائه ممن ينحدرون معه من نفس القرية، وعرض عليهم فكرة أن (يصنعوا) شيئا اسمه (الإخوان المسلمون)! فتحمسوا لذلك كثيرا، كما حكى رحمه الله. كان من أهم زادهم آنذاك في جلساتهم أشرطة الشيخ عبد الحميد كشك، كانوا يجتمعون عليها ليلا، والظاهر مما كان يحكي، رحمه الله، أن الأمر يتعلق بتصرف عفوي من يافعين، وليس بتنظيم له برنامج واضح. ومن الوسائل التي كانوا يستعملونها في نشاطهم الدعوي، مجلة تُكتب في دفتر يتداولونه بينهم، وكان أبو أيوب، رحمه الله، صاحب فكرتها والمشرف عليها. عندما ختم، رحمه الله، تعليمه الثانوي سنة (1981 م)، وفي العطلة الصيفية، باع دراجته العادية، وسافر، دون أن يخبر أحدا من أهله، إلى مخيم بالعرائش.. كان المفروض أن يمكث أسبوعا أو ما يقارب، لكنه آثر الاستزادة، فجعل يخيم مع كل فوج يجيء إلى أن أتم شهرا. وقد كان أول مخيم له في حياته، رحمه الله تعالى رحمة واسعة. * في رحـاب الجامعـة التحق، رحمه الله، بالجامعة في (ظهر المهراز) بفاس، سنة (1981 م)، وهي السنة الثانية من تأسيس شعبة الدراسات الإسلامية، فاختارها مسلكا علميا له. بدأ مرحلته الجامعية متشبعا بالفكر السلفي وبفكر تقي الدين الهلالي وصداه، رغم أن الطابع الغالب على محيطه العائلي كان ميالا إلى السلوك الصوفي على الطريقة التيجانية. فقدر الله أن التقى، أول من التقى، بإخوة من جماعة الدعوة فعاشرهم سنتَه الأولى، وفي هذه السنة ألقى أول درس له في مسجد قريب من الجامعة. حكى، رحمه الله، أنه تحرج من ذلك كثيرا وطلب الإعفاء، لكنه لم يُعف، وكان الموضوع حول شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فحدث، بين التكليف بالموضوع وإلقائه، أن سافر في عطلة وسط السنة الدراسية إلى قرية (أنيف) مسقط رأسه، وأعد هناك درسه في جبل صغير مطل على القرية، معتمدا على (عبقرية عمر رضي الله عنه) للعقاد. وكان هذا الدرس أول تجربة دعوية له، رحمه الله، تركت آثارها على شخصيته، وقوت ثقته بنفسه. ثم بعد ذلك التقى بشباب من (الشبيبة الإسلامية)، فصاحبهم بضعة أشهر، لكن نفَّره منهم، حسب ما روى رحمه الله عن نفسه، أنهم كانوا يعلنون عن أهداف ضخمة، وعملهم أقل بكثير من أهدافهم التي يدّعون، فغادرهم بسلام. كان في سكنه الجامعي بفاس مخالطا لشباب جماعة الدعوة بفاس، وشباب الجمعية الإسلامية بالقصر الكبير، فغلب عليه مسارهم ولزمهم، وبقي يحفظ رقم غرفته، التي كان الإخوة يتناوبون عليها.. كانوا يسمونها كما يروي، رحمه الله: (الزاوية). ويُحكى عنه، أنه كان من حين لآخر، يأخذ فراشه، ويذهب إلى مقر رجال التبليغ، فيبيت معهم. حكى عن نفسه، رحمه الله، أنه لم يترك ديوان شعر في مكتبة الكلية لم يقرأه، وحفظ من الشعر الكثير، ثم نسيه على عادة الشعراء في تعلم صناعة الشعر. بدأ كتابة الشعر وهو في المرحلة الثانوية، وفحل وهو طالب في الجامعة، فأرسل في هذه الفترة قصيدة لإحدى المجلات المغربية، فلم تُنشر، وأجيب في ركن الردود: (نتمنى أن تكون هذه القصيدة لك!)، والظاهر من روايته، رحمه الله، أن المشرف على المجلة كان يعرفه! لم يُرو عنه أنه تولى أي مسؤولية تنظيمية في مرحلته الجامعية قبل شهادة الإجازة، بل كان متفرغا لتثقيف نفسه، وكان يجتمع مع الإخوان على مذاكرة نصوص الوحي، ثم ينصرف إلى برنامجه الخاص. وكان، رحمه الله، ينصح صراحة من يريد تكوين نفسه ألا يعتمد على ما تقدمه له هذه الجماعة أو تلك، بل يشمرَ عن ساعد الجد ويسلك دربا عصاميا، دون أن يتجافى عن موراد الخير أينما كانت. هذا مع العلم بأنه يرى أن أهم وظيفة على الحركات الإسلامية الاضطلاع بها، هي وظيفة (إنتاج العلماء)، إذ هي الضمانة الوحيدة لاستمرار التدين وجودا، ورشداً ومنهجا. * في غمار البحث العلمـي بمجرد حصوله على شهادة الإجازة سنة (1985 م)، رحمه الله، حصل على امتياز منحة دراسية لإتمام الدراسة في فرنسا، لكنه نظر للأمر نظرا مقاصديا، فآثر السير في طلب العلم الشرعي، حيث الجودة فيه، هنا في المغرب، لا هناك في الغرب. تيسر له الالتحاق بما كان يُسمى (تكوين المكونين)، وحينها بدأ مشوار البحث العلمي الجاد. في السنة الثانية من (تكوين المكونين)، سنة (1986/1987)، قدر الله له أن يختار الإمام أبا إسحاق الشاطبي موضوعا ومنهلا، والأستاذ الدكتور الشاهد البوشخي مرشدا ومشرفا، والدراسة المصطلحية أداة ومنهجا، ثم واصل على هذا المنوال في بحث الدكتوراه حتى ناقشها سنة (1999 م). يحكي، رحمه الله، عن منهجه في التعامل مع البحث، أنه كان يأخذ فيه بسنة التعامل مع العبادة، فلم يكن يغلو ولا يجفو. إذ كثير من الباحثين تجدهم ينكبون على بحوثهم انكبابا عظيما، فيُسهرون ليلهم، وينقطعون له انقطاعا، حتى إذا مرت مدة من الزمن، انقطعوا عما كانوا فيه، وبقوا على فترتهم تلك إلى أجل غير معلوم، فلما يستأنفون يستأنفون من البدء كما لو لم يكن لهم سابق عهد بموضوعهم وبحثهم. كان يحذر الباحثين من هذا الأسلوب، أسلوب الموسمية في التعامل مع البحث، فليس الأهم أن يقرأ الطالب كثيرا، بقدر ما الأهم أن يقارب بين فترات قراءاته، حتى لا ينقطع له خيط النور العلمي، ويتشتت عليه موضوع بحثه، فهذا أول رهان على الباحث أن يكسبه في تعامله مع البحث؛ بإتقان طريقة المراوحة بين الاستراحة والبحث، فيتصيد أوقات نشاطه ويعمل فيها، فإن تعب استراح إلى حين تجدد الشرة. كان، رحمه الله، قد يسهر ليلة كاملة على بحث مسألة، لكنه لم يكن يتخذ ذلك ديدنا مستمرا، بل كان معتدلا، يترك الكتابة والفهم يأتيان على سجيتهما، ولم يكن يتكلفهما تكلف المُنبَتّ. وهذه الطريقة المستلهمة من السنة، هي الكفيلة بأن تجعل الباحث تنهال عليه الإشراقات دون أن يتكلفها، وفي جميع أحواله المعيشية، من أكل وشرب واستراحة… تروي عنه زوجه أنه قد ينهض من فراش النوم ليلا، فيدون بضعة أسطر، ثم يرجع للنوم بعدها! ويقول إن مثل هذه الخواطر كالنفحات، من لم يقيدها بقيد الكتابة في وقتها، فقد لن تتأتى له بعدُ أبدا! من يقرأ أي مؤلف لفريد الأنصاري يستحلي أسلوبه ويستلذه، ويجد نفسه يقرأ كثيرا مستزيدا، ولا شك أن قراءاته الأدبية كان لها أثر بالغ في ذلك، إلا انه معروف أن الكاتب البليغ غالبا ما يكون له أصل يستقي منه خصائص أسلوبه، بسبب كثرة معاشرته له قراءة وتتلمذا، وأحسب أن لو حاولنا تقريبا وتسديدا، نسبة أسلوب أبي أيوب الأنصاري لأصل مال إليه، لكان أبا إسحاق الشاطبي، وليس هذا اعتمادا على كونه صحبه في بحوثه زمانا فقط، ولكن بالنظر إلى التشابه الخصائصي بين الأسلوبين، فأسلوب الإمام الشاطبي امتزجت فيه الفحولة مع السهولة امتزاجا طبعه ببصمة خاصة، وهو من النوع الذي قد تستطيع التعرف على صاحبه، على فرض أنه مغيب عنك، اعتمادا فقط على قراءة نصه، فتتعرف من الأثر على الصانع. وهذه الخصائص عينها واضحة أيضا في أسلوب فريد الأنصاري، وهي ما تسمه بتميزه وفرادته. يؤكد هذا ما كان، رحمه الله، ينصح به طلبة الدراسات الشرعية من قراءة كتب المتقدمين من مفسرين وأصوليين وفقهاء، حتى يرتاضوا على أساليب البلاغة، كان يقول بأن فيها غنية عن كتب الأدب، وكثيرون صلب عود الكتابة لديهم بهذا المسلك، و(صحبة الفحول تفحِّل) كما يقول أ.د. الشاهد البوشيخي. كان، رحمه الله، يرقن كتبه مباشرة على الحاسوب، وقد اتخذ حاسوبا منذ منتصف التسعينات، إذ كان يستعمل (الماكينطوش) في الأول، كان يقول عن مؤلفاته بأنها تخرج من المطبعة طبقا للصورة التي يراها عليها وهي ملفات (وورد) ينظر إليها بين يديه، وكان يثني على ما وفره الله له بهذه التقنية الحديثة، التي مكنته من التحكم في الإخراج النهائي لكتبه وهي في مرحلة التدوين. ومن أواخر ما اشتغل به، رحمه الله، من البحوث، تحقيق كتاب (القوانين الفقهية) لابن جزي، فقبل أكثر من سنتين من وفاته، كان بلغ منتصف الكتاب تحقيقا، وكان يشتغل بمعدل صفحة في اليوم، وكانت نيته، رحمه الله، متجهة إلى تضمين عمله شرحا للكتاب أيضا، فكما قال، بدلا من أن يؤلف كتابا في الفقه المالكي، اختار أن يشتغل على تحقيق (القوانين الفقهية) ثم يشرحه؛ فيكون قد أتى بمجامع الخير. وعند مرضه، رحمه الله، أوقف كل مشاريعه العلمية، وانقطع إلى تفسير كتاب الله، وكأنه، رحمه الله، كان يسابق الموت! بدأ، رحمه الله، مسيرة الكتابة شاعرا، وانتهى مفسرا! ختم الله له عمله مشتغلا بتفسير سورة آل عمران، بعد أن أتم تفسير البقرة وبعض سور المفصل. * مسيرة العروج نحو القـرآن إن السلفية المنهجية في فقه الدين قد قادت أبا أيوب الأنصاري إلى الرسو في مرابع القرآن. أستطيع القول بأنه، على مستوى التصور الفكري العام، لم يحدث انعطاف منهجي كبير في فكر الأستاذ فريد الأنصاري رحمه الله. إن أول انطلاقة دعوية كانت له، رحمه الله، بعدما صار من منظري الدعوة الإسلامية، كانت بالاشتغال على مفهوم (التوحيد والوساطة)، الذي يرتكز على فكرة واضحة وعميقة، هي التشديد على أن يكون القرآن أساس التربية لدى الحركة الإسلامية، فلا يُخلط بشيء ينافسه، ولا يُتوسط إليه بشيء يحجبه، وقد كان هذا منهج النبي ، إذ كان يأمر من كتب شيئا غير القرآن أن يمحوه. فقبل صدور كتاب (التوحيد والوساطة في التربية الدعوية) بمدة، كان مضمونه، وبنفس عنوانه، مادة تربوية معتمدة لدى روافد (رابطة المستقبل الإسلامي)، وكانت على شكل شريط فيديو، مازلت أتذكره جيدا. إن الطابع الغالب على خطابه في الكتاب هو التوجه إلى مخاطبة أبناء الحركة الإسلامية، إذ كان يرى فيهم، رحمه الله، إن هم ساروا على جادة التمسك بالكتاب، قوة كبيرة للدعوة الإسلامية، سواء بما هم عليه من هيكل تنظيمي، أو بما هم فيه من كمٍّ عددي شبابي، إذ كانوا آنذاك يشكلون غالب الشباب المتدين. ثم إنه أوكلت له مسؤولية تنظيمية على المستوى الوطني، فكان طبيعيا أن يهتم بما هو مسؤول عنه؛ إلى أين يتجه!؟ كان رحمه الله يتحدث عن كتابه (التوحيد والوساطة في التربية الدعوية)، محاججا عن تهمة قصده منه مجرد مهاجمة هذه الجماعة أو تلك؛ مما هو محسوب على من يخالفه في المنهج، بأن أول ظاهرة ينتقدها في الكتاب، إنما تحسسها أول مرة لدى جماعته التي احتضنته، وبقي فيها زمنا إلى حدوث الوحدة المعروفة، وهي ظاهرة (الوساطة العلمية)، إذ معلوم لدى من قرأ الكتاب أنه قسم الوساطة المشوشِة على نور القرآن إلى وساطتين: وساطة علمية، ووساطة روحية. ومن ثَم يمكن القول بأن أول نقد نهضت له همته، رحمه الله، كان (ذاتيا)، ينظر إلى المحيط القريب، قبل النظر إلى ما يليه في القرب. لقد بدأ عمله أستاذا بكلية الآداب بالمحمدية، سنة (1987 م)، واستمر فيها سبع سنوات، وكان والده، رحمهما الله، يحثه على السعي للانتقال إلى مدينة مكناس، باعتبار قربها النسبي من إقليم الرشيدية، فقدر الله ذلك الأمر سنة (1994م). فشهدت مكناسة، بطابعها الشعبي، مرحلة تحوله من داعية يجالس الخاصة من طلبة العلم الشرعي وشباب الحركة الإسلامية، إلى داعية يخالط العامة، ولا يحتكر نفسه لصالح أحد. ولا يبعد أن يكون وجوده، رحمه الله، بمدينة مكناس، بما هو معروف عنها لدى عامة الناس من شرور تضخها، قد أسهم، إضافة إلى قناعاته في فقه الأولويات الدينية، في الانتباه إلى السيل الجارف من المنكرات، الذي يقلع أمامه طلائع الخير ويدوسها دوسا، فكان كتابه (الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب) استبصارا مبكرا بالوضع الذي نعيشه في هذه الفترة. ثم جاء بعد ذلك كتاب (البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي)، الذي يعتبر من الناحية المنهجية التصورية تفريعا على مفهوم التوحيد والوساطة، فإذا كان الوحي القرآني لا ينبغي أن نخلطه بغيره مما قد يشوش عليه، ومما يعرض لنا عادة في سياق خدمة الوحي وشرحه، فكيف بما هو خارج عن مجال الوحي قرآنا وسنة، وداخل في مجال الاجتهاديات التي مازالت إشكالات لم تتجل التجلي الكافي لبناء عمل عليها، كيف بهذه الأخيرة إذا سيطرت على ذهن الداعية وصارت محرك مسيره!؟ ولقد كان للكتاب قصة.. بُعيد قيام الوحدة بين حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي، انسحب بعض الإخوة، لاعتراضهم على بعض الترتيبات العملية التي يرون أنها حاسمة في تصويب خطوات الوحدة، كان، رحمه الله، يقرهم على صواب المعتمد الذي استندوا عليه، لكنه خالفهم في القرار الذي بنوه عليه، ولقد كان سببا قويا في رد كثيرين عن التراجع عن الوحدة. إذ كان، رحمه الله، ميالا إلى التمهل في اتخاذ القرارات الحادة، ويُغَلِّب حسن الظن ما وجد إلى ذلك سبيلا، لكن الذي تبين له حسب روايته، رحمه الله، وبعد مدة من التبين كافية، أن المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح، كان يسطر في الأوراق برنامجا، ويسير عمليا وفق برنامج آخر، تأخذ فيه السياسة زمام المبادرة. ولقد خرج كتاب (البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي)، متزامنا مع الفترة التي كان مؤلفه، رحمه الله، يصرح فيها بأنه لم تعد له أي علاقة بأي جهة تنظيمية. هنا أدرك الأستاذ، رحمه الله، من طريقه الدعوي منزلا! فكان عليه تبين علاماتها، ليسلم له ما هو آت منها! فإذا كانت السياسة لها نصيب من المشروع الدعوي محصور في مجال الاجتهاديات، فما حقيقة النصيب الأكبر من مشروع الدعوة، وما مداه مفهوما ومنهجا؟ فكان كتاب (بلاغ الرسالة القرآنية من أجل إبصار لآيات الطريق). جاء بعدُ (سيماء المرأة في الإسلام)، الذي يمكن اعتباره لبنة تصحيحية في فقه التدين، وهو يذكِّر بكتاب (الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب). ثم كتاب (ميثاق العهد في مسالك التعرف إلى الله)، الذي يمكن اعتباره، بالنظر إلى مضمونه وتاريخ صدوره، بمثابة الشق التطبيقي ل(بلاغ الرسالة القرآنية). أما كتاب (الأخطاء الستة للحركة الإسلامية) والذي أثار ضجة سياسية، فلا جديد فيه من الناحية التصورية، وكله متعلق بالتنزيل وفقه الواقع، لا ببناء التصورات، فغاية ما فيه تنزيل الجانب التصوري الذي أسسه كتابا (البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي) و(الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب)، على واقع الحركة الإسلامية بالمغرب. ومن غريب ما قاله، رحمه الله، عن عنوان الكتاب، وقبل مساجلته مع أ.الدكتور أحمد الريسوني، أنه خشي تسميته في الأول (الأخطاء السبعة)، لما للرقم سبعة من دلالات شرعية… فأراد أن يتفاءل.. وأنقص واحدا من سبعة!!! تلا (الأخطاء الستة) في الطبع والنشر، وإن كان سابقا عنه في التأليف والرقن، كتابُ (الفطرية: من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام)، الذي أبان فيه مؤلفه، رحمه الله، عن تصوره الذي خلص إليه من تجربته الدعوية، واختاره مسلكا راشدا لحركة الدين في المجتمع: تداول القرآن بين الناس قراءة وحفظا وتدبرا، يقودهم في ذلك علماء الأمة. فأما تداول القرآن فتولى شرح منهاجه كتابُ (مجالس القرآن؛ من التلقي إلى التزكية)، وأما قيادة المشروع ففصَّل في إنتاجها كتابُ (مفهوم العالمية؛ من الكتاب إلى الربانية). وسبْق كتاب (الفطرية)، بتمامه كتابةً ورقنا، ل(الأخطاء الستة)، فيه دلالة واضحة على منهج الأستاذ، رحمه الله، إذ يبدأ بالبناء أولا، ويصوغ البديل صياغة كاملة، قبل أن يعالج المسارات المرتبكة تبيانا وإيضاحا. فإن كان قدم هذا على ذاك في الصدور، فأحسبه إنما أراد بذلك، رحمه الله، أن يبدأ بخطه الدعوي الخالص وقد نفض عنه كل المشوشات التي قد ترجعه إلى عهد مضى! ثم تلا ذلك التطبيق العملي لهذا، بأن شرع الأستاذ، رحمه الله، في تدبر القرآن في جلسات خالية عن أي أغلال تنظيمية، فأتم سورة البقرة تفسيرا، وقد سُجلت تلك الجلسات كاملة تسجيلا صوتيا. حكى لي أحد محبيه أن أبا أيوب الأنصاري لما أراد أن يشرع في تدوين تفسيره، هاب الأمر لجلالته… فكأن الله أراد أن يهيئه للحال التي يكون الفقيه بها خاضعا لله، لابسا لبوس الرقة التي تحتاجها الآي لفهمها، والاغتراف من أسرارها، فقدر الله عليه المرض.. زاره وهو في حاله هذه شيخه أ.الدكتور الشاهد البوشيخي، فسأله عما يكتب؟ فأخبره، رحمه الله، بأنه أنهى تفسير البقرة وشرع في آل عمران، فعلق فضيلة الدكتور متمنيا لو يقوم مؤلف بتأليف كتاب (العلماء المرضى)، على غرار (العلماء العزاب) لعبد الفتاح أبي غدة! فبين كتاب (التوحيد والوساطة) والرتوع في حياض القرآن، مسيرة بين طرفين توسطتهما محطات ووقفات، فأما الطرف الأول فهو التأسيس التصوري المتمثل في (التوحيد والوساطة)، وأما الطرف الثاني فهو تنزيل عملي للطرف الأول بمباشرة الغوص في كتاب الله مكابدة وتفسيرا. وهذه المسيرة التي وصلت الطرفين جديرة بالدراسة المفصلة. * الدراسة المصطلحية براق الإسراء إن أثر المنهج الدراسي المصطلحي واضح جدا في كتبه، رحمه الله، وقد قاده الله به إلى خاتمتين جميلتين: تفسير القرآن، والأرض التي قُبض بها! كما أن منهج تبيين المصطلحات والمفاهيم وتبيّنها واضح جدا في مسيرته الدعوية، رحمه الله، فمثلا في المرحلة التي تولى فيها رئاسة المجلس العلمي بمكناس، جعل مناقشة مفاهيم (السلفية)، و(الصوفية)، وغيرها من المفاهيم التي كان في نيته الاشتغال عليها… جعل ذلك مقدمة ضرورية لبدء البيان الدعوي بين الناس بعدُ. فالمصطلح أول ما يبدأ به كتبه ودعوته، فإما أن ينفض غبار الدَخَن عن مصطلح قرآني شرعي، ك(الحكم)، و(الإبصار)… أو يسكّ مصطلحا جديدا، ويُنتج لغة فريدة، ذات تأصيل شرعي متين، ك(التوحيد والوساطة)، و(الفطرية)… أو يستجلي مصطلحات فقيه أو مفسر، كما صار به القدر إلى تأليف كتاب (مفاتح النور)، بتكليف من معهد الدراسات المصطلحية، فحقق الله بذلك للأستاذ، رحمه الله، ما تيمن به في تكنيه بأبي أيوب الأنصاري، فتوفاه الله بالأرض التي استشهد بها أبو أيوب الأنصاري ]. كانت نيته، رحمه الله، في التفسير، بادئ الأمر، أن يشتغل على نماذج تكون بمثابة الشق التطبيقي لكتاب (مجالس القرآن)، فآل الأمر إلى العزم على السفر عبر القرآن حرفا حرفا إلى تمام الختمة، لكن لله في تدبيره حِكَم. * الرجـل الفريــد كان، رحمه الله، ذا طابع شاعري في حياته، وفي جميع أحواله، مما يعرفه عنه كل من رافقه، وكان يتأمل تأملات حتى يحدث له شبه فناء غير متكلف عما حوله.. قد يحاضر في الكلية، فيجلس على سطح مكتبه حينا، وحينا يرفع قدميه متربعا فوقه كما لو كان جالسا على الأرض! يحدث ذلك بتلقائية تامة، ولو فعلها غيره لبدا عليه التكلف، وربما التعالي! وكان مرة في مكان عام يناقش أمرا، فجلس القرفصاء بطريقة (صحراوية)! فأُحرجت وعرضت عليه إحضار كرسي، فرفض متعللا بارتياح نفسه لجِلسته تلك! كان، رحمه الله، يتحاشى أن يحرج أحدا، صغيرا كان أم كبيرا، وكان ينتبه إلى انفعالات الناس غير الظاهرة، فيتفرسها ليرفع عن مخاطبه الحرج الذي لم يستطع البوح به، وذلك من بالغ الأدب منه، رحمه الله، وأحدب العطف. كان شديد البعد عن سوء الظن، وكان حليما عمن يتحايل عليه، مع افتطانه إلى حباله الخفية.. يجيئه الرجل في أمر من أمور الدين أو الدنيا، فيتحايل بعض الاحتيال في وسيلته وكلامه، أو في غايته ومقصوده، ويخلط خيرا بشر، ثم يُلين الأستاذ له القول، ويقضي الحسن مما يريده منه الرجل، حتى لتمتلئن نفسك غيظا مما ترى، ثم تعلم بعد حين أن الأستاذ، رحمه الله، تفطن إلى أدق مما فطنتَ به من احتيال الرجل، لكنه تغافل عنه تغافلا حليما كريما. في صغره، كان يساعد والدته في أشغال البيت مساعدة عجيبة… وكذلك كان يصنع مع أهله بعد زواجه. ربما أتى عليه حين، تجده فيه، حاملا بيده ريشة يرسم بها مواجيده أصباغا على لوحة بين يديه.. لم تكن يده ماهرة جدا في فن الرسم، لكنها كانت تتحرك بوحي من روحه، لتخط لوحات يتطاير منها غبار الحركة والانفعال، وأخرى تتوقف عندها العين لتمتلئ من هدوئها وسكينتها. وقد درس دراسة خاطفة الفن التشكيلي بقواعده، إذ كانت عنده كتب، أحسبه استعارها، تتحدث عن الظلال والأضواء، والمذاهب الفنية في ذلك. غلاف رواية (كشف المحجوب) هو، رحمه الله، من صممه. كان يتجنب ذوات الأرواح ويرجح حرمة رسمها، فإن فعل فيحتال على رأسها بحيلة فنية يغطيها بها. وأحسب أن أجمل لوحة رأيتها له، فرس تركض في جو السماء، وقد اكتنف جوانبها سحاب غامق، والبرق ينقدح من سنابكها، وفي موضع الرأس نار أو نور يتدفق منه سيل منحدر باستقامة وميلان باتجاه الأرض! عند ركوعه أو سجوده، كانت تصدر منه تسبيحات عميقة حتى لتسمع تنهده عن بعد منك وهو في المسجد، من غير قصد منه إلى ذلك، وكانت هذه علامة أعرف بها ما إذا كان موجودا في المسجد الذي أكون فيه حينها! كان في بيته ديك! وكلما مات له ديك اتخذ ديكا جديدا.. كان يحب صوته! لكني ما عرفت حقيقة السر في ذلك إلا بعد وفاته، رحمه الله.. فلقد بِت ليلة في آخر بيت استقر به، فقدر الله علي أرقا، حينها علمت الأنس الذي يجده في آذان الديك من يكون مستيقظا في آخر الليل، وكذلك كان حاله، رحمه الله، حسب ما يرويه عنه أهله. من طريف ما حدث له، رحمه الله، أنه لما اتجه العزم لديه، إلى ترقي منبر الجمعة، كان مطلوبا منه أن يجتاز مباراة للحصول على الترخيص الرسمي، فاجتازها وأُسقط فيها! ولما أراد أن يصعد المنبر أول مرة، سارع أحدهم، فصعد درج المنبر قبله، فحيل بين أبي أيوب وبين الخطبة في المسجد الذي عُيِّن فيه! كانت خطب الجُمَع الأُوَل، التي ألقاها يغلب عليها الطابع الأكاديمي قليلا، لكنها صارت بعدُ قريبة من الناس جدا، فجعل الناس يتوافدون على دروسه، فكانت مجالسه في المسجد عامرة. وفي أواخر دروسه قبل وفاته، رحمه الله، صار المسجد يمتلئ بالناس امتلاء لم أر له مثيلا في مكناس، في أي درس من دروس المساجد، ولقد كانت سبعة دروس، ختم بها، ثم مضى إلى ربه. أسأل الله أن يرحم الشيخ ويسكنه فسيح جنانه ويرحم جميع موتى المسلمين ولي عودة للوقوف على جوانب أخرى من سيرة الشيخ العطر لنتعرف عليه رحمه الله مربيا قرآنيا .. باحثا مصطلحيا .. فقهيا أصوليا .. أديبا ناقدا .. أديبا إسلاميا .. وأستاذا مربيا في أمان الله وحفظه
__________________
( ![]() {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}[الأعراف: 156] اللَّهُمَّ مَغْفِرَتِكَ أَوْسَعُ مِنْ ذُنُوبِي وَرَحْمَتَكَ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ عَمَلِي ![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |