منافع الحج - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 211 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28440 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60061 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 842 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > ملتقى الحج والعمرة

ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-12-2019, 04:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي منافع الحج

منافع الحج


الدكتور محمد ولد سيدي عبدالقادر





قال - تعالى -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27، 28].


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسل رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الهداة المهتدين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.



وبعدُ:
فإن الحج إلى بيت الله الحرام عبادة جليلة، فرضها الله - تعالى - في كتابه الكريم؛ فقال - تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وهو رُكْن مِن أركان الإسلام التي بُني عليها؛ قال رسولُ - صلى الله عليه وسلم -: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصَوْم رمضان))[1].




والحجُّ هو: القصْد إلى بيت الله الحرام؛ لأداء عبادة مخصوصة، ذات أفعال مخصوصة، في أماكن مخصوصة.



والحج من العبادات التي قد يظهر للناظر المستعجل أن فيها مشقة وكُلفة، ومن ذلك:
1- مشقة السفر، وفراق الأهل والأحبة والأوطان، وبُعد الشقَّة كما هو صريح قوله - تعالى -: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]، والحال أن الحاج لا يركبها ضوامر، وإنما بُعْد الشُّقَّة وطول الرِّحلة أضْمرَها وأنهكها، حتى صيرها كالأهلة.
2- حظْر ملاذ النفس وشهواتها أثناء التلبُّس بهذه العبادة، فلا ينكح المحرم، ولا يتطيَّب، ولا يلبس المخيط، ولا يرفُث، ولا يفسق، ولا يُجادل؛ انتصارًا لنَفْسِه.
3- محدودية المكان والزمان، فلا يستطيع الحاجُّ أن يؤدِّيَ هذه العبادة إلا في مكانها المخصوص، وزمانها المحدد لها.




ولما كان في الحج بعضُ مشقة، هوَّن الله أمره وخففه ويسره بتَيْسيرات عدَّة؛ منها:
1- أنه على المستطيع قوتًا وقوة: قال - تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، وفي رواية لحديث أركان الإسلام المتقدِّم: ((وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً)).
2- أنه عِبادة قديمة فرَضها الله على مَن قبلنا؛ قال - تعالى -: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 26 -28]؛ وإذا عم الأمر هان وسهل.
3- أنه أيام معدودة قد لا تتجاوز الأسبوع لمن هو خارج مكة، فكيف بمن جاورها؟!
4- أنه لا يجب إلا مرَّة واحدة في العمر كله؛ لِمَا ثبَتَ في "صحيح مسلم"، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا، فقال رجل[2]: أَكُل عام يا سول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو قلتُ: نعم، لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه))[3].
5- أن الله - عزَّ وجَلَّ - علق القلوب بِحُب هذا البيت، وجعل الأفئدة تهوي إليه؛ استجابة لدعاء إبراهيم الخليل - عليه السلام - حين دعا لهذا البيت؛ فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]؛ والوصول إلى الحبيب ينسي كل عنَتٍ ومشقة.
6- أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - علَّل الأمر بقصد هذا البيت بحصول المنافع للقاصد، حتى كأنَّه لم يأمره بهذا القصد إلا لتحصيل تلك المنافع؛ فقال - تعالى -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27، 28]؛ وقد نكَّر المنافع؛ لتعُمَّ كل منافع الحج الدنيوية والأخروية؛ "فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]؛ منافع الدُّنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرِضْوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع الذبائح والتجارات"[4]، وكذلك قال مجاهد، وغير واحد منَ السلَف - رحمهم الله[5].




وقال الطبري - بعد أن ذكَر الخلاف في تعيين هذه المنافع: هل هي منافع دنيوية أو أخروية أو هما معًا؟ -: "وأَوْلَى الأقوال بالصواب قَوْلُ مَن قال: عني بذلك ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتجارة؛ وذلك أن الله عمَّ لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئًا من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت"[6].



وقال الزمخشري: "نكَّر المنافع؛ لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة؛ دينية ودنيوية، لا توجد في غيرها من العبادات، وعن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحجَّ، فلما حج فضَّل الحج على جميع العبادات؛ لما شاهد من تلك الخصائص"[7].



والذي دلَّتْ عليه هذه الآية هو أنَّ الله - عز وجل - جعل في الحج منافع؛ كأنه لم يأمر به إلا لتحصيلها؛ لِما تقتضيه اللام في قوله - تعالى -: {لِيَشْهَدُوا} من التعليل، ثم هي منافع للحاج خالصة، لا يشاركه فيها غيره كما يدل عليه التعبير بـ{لَهُمْ}.



وإنك لتعجَب من هذا الأسلوب الحكيم، وهذا الانتقال من تصوُّر حال الحاج، وهو أشعث أغبر، قد أُتِي به من فجاج الأرض، وأُنْهِك مرْكوبه؛ {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]؛ ليفاجئك السياق قبل أن تتساءل عن سرِّ عبادة تكلف هذا العنَت الظاهر بأن هذه المشقة لا تفي بما جعل في هذه العبادة من منافع دنيوية وأخروية، تضرب لها أكباد الإبل، فلا يفي ذلك بشُكر التوفيق للخروج لها، والاصطفاء للتوفيق لأدائها، والفوز بمنافعها الجمة: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]، فتتساءل عن هذه المنافع في لَهْفة واشْتِياق.


وأنا في هذا المقال لا أستطيع تَعداد منافع عبَّر عنها الخالقُ بهذه الصورة العامة، ولم يحصرها ولا حصرها رسولُه - صلى الله عليه وسلم - في منافع محددة معلومة، وإنما يتم للمفسر الكشف عن تلك المنافع، بقَدْر ما يفتح الله له مِن فَهم في كتابه، وهو أمر متجدد لا يأخذ منه المتقدِّم ما هو مذخور لمن بعده، ويبقى النص الكريم على عمومه؛ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] يغترف منه كلُّ وارد بحسب دلوه وسقائه، فلم يبقَ لي إلا محاولة التعرُّف على بعض تلك المنافع، مستدلاًّ على ما أذكره منها بما تيسَّر من معنى يُعضدها من كتاب الله - عزَّ وجلَّ - أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فأقول - ومن الله ألتمس العون والتسديد -: منَ المنافع التي تدخل في عُموم هذه الآية الكريمة المنافع الآتية:

أولاً: التوفيق لإكمال المسلم دعائم دينه؛ فإنَّ الحج رُكن من أركان هذا الدِّين؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)).



ثانيًا: تعوُّد الانقياد والاستسلام لأوامر الله - عز وجل - وإن لَم يظهر لعقلك وجْه الحكمة فيها؛ فأنت - أخي الحاج - في هذا المكان المخصوص من بين بقاع الأرض كلها، ولأداء هذه العبادة في هذا الوقت المحدَّد لها، وتطُوف بهذا البيت، وتقبِّل هذا الحجر، وترمي الجمرات، كلُّ ذلك انقيادًا لأمر الله - عز وجل - بذلك؛ فيهون عليك تنفيذُ كلِّ الأحكام الشرعية، وإن لم يظهر لعقلك وجه الحكمة منها، وتنقاد لكل ما مِن شأنه أن يعليَ هذا الدين، وإن لَم يظهر لك أنت ما ظهر لغيركَ في ذلك.


ثالثًا: التذكيرُ ببعض الأمور المرْحلية التي سيمُر بها المرء لا محالة؛ كالموت، والبعث، والجزاء، فيعد لها العُدَّة اللازمة مِن زاد ومركب، ينجيه من مهالك الطريق، ويجنبه عثراته، وفي الحج صور مُصَغَّرة لبعض تلك الأمور المرحلية؛ فأنت بِخُروجك - أخي الحاج - من بلدك لابسًا ثوب الإحرام، وقد سكب الأهْلُ العبرات عند توديعك - تتذكَّر خروجك من بينهم من دار الدنيا إلى الدار الآخرة، خروجًا لا لقاء بعده في هذه الحياة، فيهون عليك هذا الخروج الذي ترجو بعده اللقاء والوصال، وتعد العدة لذلك السفر، كما تعدها لهذا السفر، وأنت بعدُ في مهلةٍ من أمرك، وبوقوفك بصعيد عرفة في هذا الجمِّ الغفير تتذكَّر موقفك في الحشر، حين يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، وتدنو الشمس، ويلجم الناس العرقُ، ويشتد الكربُ والخطب، فتعد العدَّة لذلك الموقف، وأنت ما زلتَ في مهلة مِن أمرك.


وبانصرافك من عرَفة عشية دنو الرب ومغفرته لعباده في هذا اليوم العظيم، تتذكَّر الوقوف بين يدي الله - عز وجل - وانصرافك من ذلك الموقف، إما إلى جنة، وإما إلى نار؛ فتنشط لإعداد العدة، وأنت بعدُ في مهلةٍ لإدراك الخلَل، قبل أن تتمنَّى الرجوع، فلا تُمَكَّن من ذلك؛ قال - تعالى -: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون} [المؤمنون: 99، 100]، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 36، 37].



رابعًا: غفران الذنوب لِمن حجَّ هذا البيت مخلصًا لله في حجِّه، متبعًا أوامر الله، ومجتنبًا نواهيه؛ قال - تعالى -: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، قال إمام المفسرين أبو جعفر الطبري - رحمه الله - بعد أن ذكر خلاف المفسرين في معنى هذه الآية -: "وأَوْلَى هذه الأقوال بالصِّحة قولُ مَن قال في تأويل ذلك: فمن تعجل في يومين من أيام منى الثلاثة، فنفر في اليوم الثاني، فلا إثم عليه؛ لحط الله ذنوبه إن كان قد اتقى في حجه، فاجتنب فيه ما أمر الله باجتنابه، وفعَل فيه ما أمَر الله بفعله، وأطاعه بأدائه ما كلفه من حدوده، ومَن تأخَّر إلى اليوم الثالث منهن فلم ينفر النفر الثاني حتى نفر من غد النفر الأول، فلا إثم عليه؛ لتكفير الله ما سلف مِن آثامه وإجرامه، وإن كان قد اتقى الله في حجه بأدائه حدوده، ثم ساق الطبري - رحمه الله - جملةً منَ الأحاديث الدالَّة على تكفير الحج للذنوب[8].

وفي الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيومٍ ولدتْه أمُّه))[9].
وفي رواية مسلم لهذا الحديث: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن أتى هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه))[10]؛ والإتيان أعمُّ منَ الحج؛ إذ تدْخُل فيه العمرة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((رجع كيوم ولدتْه أمه))؛ يعني: غفران ذنبه، وأنه خرج من حجه مغفور الذنب، كالمولود الذي لم يجر عليه قلم التكاليف، وقد جاء التصريحُ بغفران ذنب الحاج في رواية الترمذي لهذا الحديث بلفظ: ((مَن حجَّ فلم يرفث، ولم يفسق، غُفِر له ما تقدَّمَ من ذنبه))[11].




خامسًا: الفوز بالوُقُوف في صعيد عرَفة في ذلك اليوم العظيم، والمكان المشهود، عشية يدنو الرب - جل وعلا - فيُباهي بأهْل ذلك الموقف ملائكته، ويغْفر الذنوب، ويصفح عنِ الزَّلاَّت ويُحقق الآمال والمطالب، ويعتق الرِّقاب من النار؛ فعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يُباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟))[12].
وأخرج مالك في "الموطأ"، عن طلحة بن عبيدالله بن كريز: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما رؤي الشيطان يومًا هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما أري يوم بدر، قيل: ما رأى يوم بدر، يا رسول الله؟ قال: أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة))[13]، وقال أبو عمر بن عبدالبر: "هذا حديث حسَن في فضل شُهُود ذلك الموقف المبارك، وفيه دليلٌ على الترغيب في الحج، ومعنى هذا الحديث محفوظ من وُجوه كثيرة، وفيه دليل على أن كل مَن شهد تلك المشاهد يغفر الله له إن شاء"[14].


سادسًا: نفي الفقر والذنوب؛ فعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينْفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكيرُ خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة))[15]؛ وأي مطلب للمرء أغلى من نفْي الفقر والآثام، ودخول الجنة دار السلام؟!



سابعًا: أن الحجَّ مَوْسم تجارة، وحصاد عالَمي؛ حيث المكان الذي تُجبى إليه ثمرات كل شيء؛ كما نطق به قوله - تعالى -: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57]، إنه المكان الذي تجتمع فيه خيرات الأرض كلها، ويتبادل الحجيج فيه منافع التجارة، ويعقدون الصفقات المُربحة، ويبدو منَ السياق الكريم، والأحاديث النبوية، أن الحج قد عرفته العرب سوقًا عالمية، ومعرضًا للإنتاج والحصاد السنوي، فلما أُمروا بالحج على ما شرَعه الله، تحرجوا مما كانوا يزاولونه في هذا الموسم من أمور التجارة، ورغبوا أن يكون موسمًا خالصًا للذكر والدعاء، فجاء القرآن ليرفعَ ذلك الحرج الكامن في نفوسهم، من كل ما هو موروث جاهلي؛ فقال - تعالى -: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقد أخرج البخاري في الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال - في سبب نزول هذه الآية -: ((كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم، فنزلتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]))[16].
وأخرج أبو داود عن ابن عباس: أن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحج، فخافوا البيع، وهم حُرُم، فأنزل الله - سبحانه -: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}[17]، في مواسم الحج، وأخرج أبو داود أيضًا، عن أبي أمامة التيمي، قال: كنت رجلاً أكري في هذا الوجه، وكان ناس يقولون لي: إنه ليس لك حج، فلقيت ابن عمر فقلتُ: يا أبا عبدالرحمن، إني رجل أكري في هذا الوجه، وإن ناسًا يقولون لي: إنَّه ليس لك حج، فقال ابن عمر: أليس تحرم، وتلبِّي، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمي الجمار؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن لك حجًّا؛ جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن مثل ما سألتني عنه، فسكت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، فأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأ عليه هذه الآية وقال: ((لك حج))[18]، ولكننا مِن خلال هذه الآية وما ذكر في سبب نزولها، نشعر بأن الإذن في التجارة في مواسم الحج كأنه قد ضيق مسلكه؛ بحيث لا ينبغي أن يكون على حساب تأدية المناسك والذكر والدعاء في هذه الأماكن والأوقات، التي هي ظرف لذلك، فالتعبير برفْع الحرَج في الآية، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لك حج))، كالظاهر في أن ذلك ليس هو الأصْل الذي تقصد له هذه العبادة، وإن كان يأتي تبعًا بما لا يخل بهذه العبادة ومناسكها المحددة المعلومة.


وقد شاهدت في الأزمنة الأخيرة مَن حضر هذه المواسم، فوقف بعرفات، وبات بالمزدلفة، وفاض منها إلى منى، ولم يحرم بحج، وإنما خرج لمنافع التجارة، فكأنه في حسه قد قيل: ليس عليكم جناح أن تبتغوا حجًّا.
ومع هذا كله، فإننا نتطلع إلى اليوم الذي يحس فيه رجال التجارة والاقتصاد الإسلامي بأهمية هذا الموسم، فيتخذون منه مناسبات للاجتماع والتشاوُر في كلِّ ما من شأنه أن يرفعَ من اقتصاديات أمتهم، ويرون في ذلك من التعبد ما يرونه في تأدية المناسك؛ فإن حياة المسلم كلها عبادة، إن هو أخلَص فيها النية لله؛ {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].




ثامنًا: أن الحجَّ مُؤتمر ديني كبير، فيه يجتمع المسلمون مِن كلِّ بقاع الأرض؛ لتأدية هذه العبادة العظيمة، فتمتلئ بهم الجبال والسهول، وتسيل بهم البطاح والأودية في موكب مهيب، هتافهم واحد، رغم اختلاف الأجناس والألسنة، فالكل يُرَدِّد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك[19]؛ فتظهر بذلك مقومات وحدة هذه الأمة في تلاحمها، وتآزرها، وعبادتها، ولغتها، وهي العناصر الأساسية التي تحفظ للأمة قوتها وسيادتها وهيبتها بين الأمم.


تاسعًا: أن الحج موسم دعوي كبير، فيه يتوافَد المسلمون من كلِّ أقطار الأرض، فيجتمعون في أفضل الأيام، وأطهر البقاع، في جوٍّ من الرقة واللين، والانكسار بين يدي الله - تعالى - والاطِّراح ببابه؛ ليغفرَ الذنوب، ويصفح عن الزلات، ويُحقق الآمال، ويقيل العثرات؛ ومؤمن بهذا الحس لا شك أنه على أتمِّ الاستعداد لتحقيق ما يأمره به ربه، وكيف لا وهو إنما بذل المال وتحمل الصعاب من أجل أن يرضى عنه مولاه ويقبله؟! فعلى الدعاة المخلصين أن يغتنموا هذه الفرصة، ولا يضيعوها، فيعلموا الحاج - قبل أن يرجع إلى موطنه وتكتنفه شياطين الإنس والجن - أن الذي يغفر الذنوب هنا هو الذي يغفرها هناك، وأن المعبود هنا هو المعبود هناك، والذي أمر بالحج هو الذي أمر بالصلاة، والزكاة، والصوم، ونهى عن الربا، وكل المحرمات ما ظهر منها وما بطن، وأن الشعور بالأخُوة والتلاحُم والتراحُم هنا أمر مطلوب هناك.


وقد كان سيِّدُ الدُّعاة - صلى الله عليه وسلم - يغتنم هذا الموسم رغم عناد قومه، واستكبارهم، ومحاربتهم لدعوته، وإيذائهم له مِن أجلها، ولم يثنِه ذلك عن دعوته والصدع بها؛ لأنها دعوة أكبر من كل عناد، والإيذاء من أجلها منحةٌ وتكريم؛ أخرج الإمام أحمد في "المسند"، عن جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبث عشر سنين يتَّبَّع الحاجَّ في منازلهم في الموسم وبمجنة وبعكاظ وبمنازلهم بمنى، يقول: ((مَن يؤويني، من ينصرني، حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة؟))، فلا يجد أحدًا ينصره ويؤويه، حتى إن الرجل يرحل من مضر أو من اليمن إلى ذي رحمه، فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله - عزَّ وجلَّ - يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله - عز وجل - له من يثرب، فيأتيه الرجل فيؤمن به، فيقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دُور يثرب إلا فيها رهط من المسلمين، يظهرون الإسلام، ثم بعثنا الله، فأتمرنا واجتمعنا سبعون رجلاً منا فقلنا: حتى متى نذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطرد في جبال مكة ويخاف؟! فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فقال عمه العباس: يا ابن أخي، إني لا أدري ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك؟ إنِّي ذو معرفة بأهل يثرب، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا قال: هؤلاء قوم لا أعرفهم، هؤلاء أحداث، فقلنا: يا رسول الله، علامَ نُبايعك؟ قال: ((تُبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العُسر واليُسر، وعلى الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت يثرب فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة))، فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين، فقال: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تَعَضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة، فخُذُوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر عند الله، قالوا: يا أسعد بن زرارة، أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها، فقمنا إليه رجلاً رجلاً يأخذ علينا بشرطة العباس[20]، ويعطينا على ذلك الجنة [21].



فهذا حديث صحيح عظيم القدْر، يُبَيِّن ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحرص على هداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، رغم ما يضعونه في سبيله من العقبات والعراقيل؛ فعلى الدعاة المخلصين أن يتأمَّلوا هذا الحديث، ويستخلصوا منه الدروس والعبر؛ لتوظيف هذا الموسم العظيم في ما يُعلي من شأن الإسلام وأهله.


ومن الدروس والعبَر التي يُمكن استخلاصها من هذا الحديث ما يلي:
1- أن على الداعية أن يغشى الناس في منازلهم وأنديتهم؛ ليعرض عليهم الإسلام وأحكامه، لا أن يحبس نفسه في مقصورة مكيفة، إن جاءه سائل يستفتيه أفتاه بأيِّ أسلوب تيسر، مرغبًا كان أو منفرًا.




2- أن هذا الدين لا بد له من الجماعة التي تقوم به، وتحمي دعاته، حتى يبلغوا رسالة ربهم؛ ((من يؤويني؟ مَن ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي؟))، ولا يعني هذا الأمر أن ننتظرَ حتى توجد تلك الجماعة التي تحمي الدعاة، وإنما على الدعاة إيجادها ممن استجاب لهم بدءًا بالواحد والاثنين، حتى تكتملَ الجماعةُ التي تنصر هذا الدين، وتحميه - بإذن الله تعالى.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-12-2019, 04:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: منافع الحج





3- عدم الاستعجال، وترك الدعوة؛ بحجة أن الناس لم يستجيبوا؛ فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أبلغ الدعاة، وأرحمهم، وأحسنهم خَلْقًا وخُلُقًا، وأحلاهم منطقًا، وأبهجهم منظرًا، وأكرمهم نسبًا وموقعا - يدعو عشر سنين، فلا يجد أحدًا يؤويه، بل إن الرجل ليرْحل إلى ذي رحمه ليحذره منه ومن دعوته، فلم يثنه ذلك - صلى الله عليه وسلم - عن دعوته حتى استجابتْ له العصبة التي أقامتْ دولة الإسلام.


4- أنَّ طريق الدعوة طريق كثير الأشواك والعقبات، يؤذى صاحبه في جسده وعرضه؛ فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي بين القوم، يدعوهم إلى الهدى والنور، وهم يشيرون إليه بالأصابع والأكف، نبزًا، وهمزًا، ولمزًا، واستهزاء، ويطرد في جبال مكة، ويخاف وهو ابن سيد الوادي بلا مُنازع، لكن ذلك لم يُثنه بل زاده عزمًا وإصرارًا؛ لأنَّ الأذية في سبيل هذا الدِّين منحة لا محنة؛ قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].



5- أن لهذا الدِّين واجبات ينْبغي القيام بها، ولا يصحُّ الانتساب إليه مع إهمالها: علام نبايعك؟ ((تبايعوني على السَّمْع والطاعة في النَّشاط والكسَل، وعلى النفَقة في العُسر واليُسر، وعلى الأمر بالمعروف، والنهْي عن المُنْكر، وعلى أن تَقُولوا في الله، لا تأخذكم فيه لَوْمة لائِم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة)).


6- أنَّ الاستجابة لهذا الدِّين تعني الاستعداد الكامل لنصرته وإعلائه، مهما كلف ذلك من ثمن، "إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه فهو أعذر لكم عند الله.


7- أن جزاء نُصرة هذا الدين، وما أعده الله للمجاهدين لإعلائه - جزاء عظيم، ينسي كل العراقيل والمتاعب التي اعترضت وتعرض لأنصاره: يا أسعد بن زرارة، أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها، فقمنا إليه رجلاً رجلاً، يأخذ علينا بشرطة العباس ويعطينا على ذلك الجنة.


8- أن الداعية الذي يحمل همَّ هذا الدِّين، ويريد أن يبلغه حيث بلغ الليل والنهار، ولا يتسع وقته وزاده لذلك - يتحتم عليه أن يحضر هذا الموسم العظيم، فإنه واجد فيه من كل الأجناس البشرية، من كل أقطار الأرض، فإن هو أفلح في دعوتهم فهم سفراؤه في كل المعمورة، وإلا فسيحضر من بلادهم في العام المقبل مثلهم أو أكثر، فيكون قد بلغ من الجميع ما لا يتسنى له في غير هذا الموسم والموقع، لذا كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أحرص الناس على حضور هذا الموسم والتطواف بين أهله مبلغًا رسالة ربِّه، ففيمَ العُدُول عن هديه وسنته في ذلك؟! أولا يطمع الداعية أن يكسبَ لدين الله في هذا الموسم رجالاً كرجال الأنصار الذين كسبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموسم، فآمنوا بهذا الدين، وحملوه إلى بلدهم، فسار فيه الإيمان سير النور في المصباح، وما هي إلا سنوات قليلة حتى استقبلت المدينة هذا الداعية العظيم، بكل إجلال وتعظيم وابتهاج، كلٌّ يريد أن يكونَ له شرف نزول هذا الداعية في بيته.


والتفَّ الرجال حول هذا الداعية، ينهلون من مَعين الإيمان والتربية الزكيّة، ويدفعون المهج رخيصة بين يديه؛ للدفاع عن هذا الدين، وبدأت حقبة جديدة أعز الله فيها الإسلام وأهله، وأكرم هذا الداعية برؤية ثمار دعوته وجهاده وصبره، وقد صوَّر ذلك أبو قيس بن صرمة الأنصاري في لوحة شعرية رائعة؛ فقال - وهو يصور بُعد ما بين الحقبتين: حقبة الاضطهاد والإيذاء، وحقبة العزة والتمكين -:



ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً يُذَكَّرُ لَوْ يَلْقَى حَبِيبًا مُوَاتِيَا
وَيَعْرِضُ فِي أَهْلِ المَوَاسِمِ نَفْسَهُ فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤْوِي وَلَمْ يَرَ دَاعِيَا
فَلَمَّا أَتَانَا وَاسْتَقَرَّتْ بِهِ النَّوَى وَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِطَيْبَةَ رَاضِيَا
وَأَصْبَحَ لاَ يَخْشَى ظُلاَمَةَ ظَالِمٍ بَعِيدٍ وَلاَ يَخْشَى مِنَ النَّاسِ بَاغِيَا
بَذَلْنَا لَهُ الأَمْوَالَ مِنْ حِلِّ مَالِنَا وَأَنْفُسِنَا عِنْدَ الوَغَى وَالتَّآسِيَا
نُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الحِبِيبَ المُصَافِيَا
وَنَعْلَمُ أَنَّ اللهَ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ وَأَنَّ كِتَابَ اللهِ أَصْبَحَ هَادِيَا[22]



عاشرًا: أن الحج مؤتمر سياسيٌّ كبيرٌ، فيه تلتقي كلُّ الفئات المؤمِنة مِنْ كُلِّ الطبَقات المفكرة السياسية الفاعِلة، فلو جعلت من هذا الموسم لقاء قِمم إسلامية فاعلة، يتباحَثُ فيها المجتمعون، كلّ ما مِنْ شَأْنِه أن يرفع الأمة منَ الحضيض الذي تعيشه إلى القمَّة السامقة - لما كانت الأمةُ على ما هي عليه مِن ضعْف وتأخُّر في كثير من الميادين، ولهم في ذلك أُسْوة حسنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يلتقي في هذا الموسم بِمَن آمن به، فالتقى فيه بالأنصار ثلاث مرات، حتى كانت بيعة العقبة الكبرى، وما كان فيها مِنْ عُهُود ومواثيق غيرتْ مجْرَى تاريخ البشرية جمعاء، وهُم يومئذ قلَّة؛ كما في حديث جابر المتقدم: ثم بعثنا الله فأتمرنا، واجتمعنا سبعون رجلاً منَّا، فقلنا: حتى متى نذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطرد في جبال مكة ويخاف؟! فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة.



وإذا كان هؤلاء - على قلَّتهم - قد حملوا أمْر الدَّعْوة، وأعْلَوا مِن شأنها، وغيَّروا بها مجرى تاريخ البشريَّة جمعاء في فترة وجيزةٍ، فكيف بهذه الملايين لو وجدت من يدعوها دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويسوسها بسياسته، ويذكي في نفوسها حرارة الإيمان وعزته، ويُبين لها أنها حلقة من تاريخ مجيد؟!



ولقد كان الحج في عهد الخلفاء وأيام وحدة الأمة موسمًا يلتقي فيه الخلفاء بأمراء الأمصار، وقادة الجيوش، فترفع التقارير إلى الخلفاء وذوي الرأي والمشورة؛ ليتخذوا فيها القرارات المناسبة؛ فظلت الأمة مرهوبة الجانب، وظل الحج مصدر خوف وقلق لأعداء الأمة؛ لما يمثله للأمة من وحدة يرهبها الأعداء ويهابونها.



يقول لوثر ستودارد: "وقد غلب على رأي كثيرين مِن رجال الغرْب وَهْمٌ في هذا الموضوع، فهم ما برحوا يخالون الخلافة لا الحج العامل الأكبر والأشد، الذي بسببه يتشارك المسلمون ميولاً وعواطف تشاركًا مؤدِّيًا إلى الاعتزار بالوحدة، وازدياد منعتها، وامتدادها وانتشارها".



إن هذا لمن الوَهْم الصِّرف، فالأمر على الضد من ذلك، إن محمدًا - في زعمه وليس الله - قد فرض الحج على مَن استطاعه فرضًا مقدَّسًا؛ لذلك ما زالتْ مكة المكرمة حتى اليوم مجتمعًا يجتمع فيه كل عام أكثر من مائة ألف حاج[23]، وافدين من كل رقعة من رقاع العالم الإسلامي، وهناك وأمام الكعبة المقدَّسة في مكة المكرمة يتعارَف المسلمون على اختلاف الألسنة والأجناس ويتبادلون العواطف الدِّينية، ويتباحثون في الشؤون الإسلامية[24]، إن الأغراض الإسلامية التي ينالُها المسلمون منَ الحج الممهد لها السبيل معلومة، لا تحتاج إلى كبير إيضاح، بل يكفي أن نقول: إن الحج هو المؤتمر الإسلامي السنوي العام الذي فيه يتباحث النواب المسلمون الطارئون من أقطار المعمور الإسلامي كافة في مصالح الإسلام، وفيه يقوم هؤلاء بوضْع الخطط، ورسم الطرائق؛ للدفاع عن بيضة الإسلام، والذب عن حياض المسلمين، ونشر الدعوة في سبيل الرسالة".



هكذا يرى هذا المستشرق صورة الحج، وهي كما رأى في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء - رضي الله عنهم - وكل الغيورين على هذه الأمة، ونرجو منَ الله - عز وجل - أن تعود كذلك أنصع وأشرَق.



الحادي عشر: أن الحج مؤتمر اجتماعي فريد، يُرَبِّي في النفوس كل المعاني الاجتماعية التربوية؛ ففيه ترى التعاوُن والمواساة، وحنو الغني على الفقير، ورحمة القوي بالضعيف، والكبير بالصغير، والتجرُّد الكامل من مظاهر الفوارق الطبقية الدنيويَّة، فالكلُّ في صعيدٍ واحد متَّجه إلى الله - عز وجل - بكلِّ ذُل وفقر وحاجة، قد خلع الجاه والأَوْسِمة والمناصب الدنيوية؛ فتذوب تلك الفوارق ولو إلى حين، فيستفيد المسلمون مِن دُرُوسها العِبَر والتوجيهات التربوية الفريدة.

وفي الحج يجتمع هذا الحشدُ الهائل من كل طبقات الناس وأجناسهم، فتزدحم بهم الطرقات، وتغص بهم الأماكن العامة والخاصة، ومع ذلك فلا شجار، ولا جدال، ولا رفث، ولا فسوق، ولا تنافر، فالكل مبتَسم لأخيه، فرح بوجوده إلى جانبه في هذه العبادة العظيمة، فلا تسمع إلا قول قائلهم عن هذا البيت المزدَحم بالناس: "زاده الله شرَفًا".


وفي هذا الجو المفعم بروح الأخوة والتلاحُم والإيثار، يراجع المرءُ نفسه، ويتخذ من خلقه فيه خلقًا دائمًا مع إخوان له، طالما ضاقَ بهم في أماكن أقل ازدحامًا وتعبًا، وفقراء طالما ضنَّ عليهم بأقل مما أنفقه هنا.



تلك هي أهم المنافع التي سنح الخاطر المكدود بتسجيلها، ويبقى التعبير القرآني أشمل وأوسع، وتبقى المنافع الدنيوية والأخروية أعم؛ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}، وقد يدرك المرء في ذلك من المنافع الفردية ما لا يدركه غيره من توفيق لذكر الله في تلك الأماكن الفاضلة أكثر من غيره، أو توفيق لدعاء يسمع ويُستجاب، أو إغاثة لملْهوف، أو إعانة ضعيف، أو إطعام جائع، أو إرشاد ضال، أو تعليم جاهل، إلى غير ذلك من المنافع العظيمة، التي جعلها الله - عز وجل - في هذه العبادة العظيمة، ومن هنا يمكننا أن ندرك معنى ما رُوي عن الإمام أبي حنيفة – رحمه الله - من أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلمَّا حج، فضَّل الحجَّ على العبادات كلها؛ لما شاهده من تلك الخصائص والمنافع.



وفي الختام يجدر بنا التنبيه إلى أن كل دعائم الإسلام وواجباته مليئة بالتيسير والمنافع كما في الحج؛ مما جعل هذه الدعائم والواجبات منحة ومنة لا تكليفًا ومشقة.



اللهم لك الحمد على أن هديتنا للإسلام، وجعلتنا من أتباع سيد الأنام محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.



وآخر دعوانا: أنِ الحمد لله رب العالمين.











ـــــــــــــــــــــــ

[1] صحيح البخاري ج 8.

[2] هذا الرجل هو الأقرع بن حابس، كما جاء مصرحًا به عند أبي داود، وفي حديثه عند أبي داود التصريح بأنَّ فرض الحج مرة، وما زاد فهو تطوُّع؛ انظر: "سنن أبي داود" (12/139ح 1721).

[3] "صحيح مسلم مع شرح النووي" 100 - 101.

[4] انظر تفسير ابن كثير 3/226.

[5] انظر: "جامع البيان"؛ للطبري 17/147، و"تفسير ابن كثير" 3/226.

[6] "جامع البيان"؛ للطبري 17/147.

[7] "الكشاف"؛ للزمخشري 3/152 - 153.

[8] انظر: "جامع البيان"؛ للطبري 2/ 302 - 312.

[9] "صحيح البخاري" ح رقم 1521.

[10] "صحيح مسلم مع شرح النووي" 9/118 - 119.

[11] "سنن الترمذي" 3/176ح 811.

[12] "صحيح مسلم مع شرح النووي" 9/117.

[13] "موطأ الإمام مالك" 1/422، وهذا مرسل، وقد وصله البيهقي في الشعب (1/115)، من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - بعد أن أخرجه من طريق مالك مرسلاً، وحسنة ابن عبدالبر في "التمهيد" (1/91).

[14] "التمهيد"؛ لابن عبد البر 1/91.

[15] أخرجه التِّرمذي في "السُّنَن" (3/ 175 ح810)، وقال: حديثٌ حسن صحيح، وأخرجه النَّسائي في "السنن" (5/ 115 - 116).

[16] "صحيح البخاري" ح 4519.

[17] "سنن أبي داود" ح 1743.

[18] "سنن أبي داود" ح 1733.

[19] متَّفق من حديث صفة تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - (صحيح البخاري ح 1549، و"صحيح مسلم مع شرح النووي" 8: 87 - 88.

[20] شرطة العباس: يعني المواثيق التي أخذها العباس عليهم بالوفاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم.

[21] أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (3/322 - 323، 3/339 - 340)، و"صححه مُحَقِّقوا المسند": شعيب الأرناؤوط ورفاقه، وأخرجه مختصرًا أبو داود في السنن (ح 4734)، والترمذي في "السنن" (ح 2925)، وصحَّحه.

[22] انظر: "سيرة ابن هشام" 1/512، و"زاد المعاد"؛ لابن القيم 3/ 59 - 60.

[23] كان ذلك في عصر هذا المستشرق ويوم كانت وسائل النقل محدودة، وأما الآن فهم بالملايين - والحمد لله.

[24] هكذا كان الأمر في الصدر الأول، وهكذا ينبغي أن يكونَ الأمر في حس كل عاقل غيور، وهكذا سيكون يوم تتوحَّد الأمة - بإذن الله.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 92.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 89.67 كيلو بايت... تم توفير 2.39 كيلو بايت...بمعدل (2.60%)]