كان رجل عامة! - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12495 - عددالزوار : 213355 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-11-2019, 04:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي كان رجل عامة!

كان رجل عامة!
فيصل بن علي البعداني

لقد وَسَمَ أهل التاريخ والتراجم عدداً من الأجلاء بكونهم (رجال عامةٍ)، ومن هؤلاء:الصحابي الجليل عمران بن حصين - رضي الله عنه -، وإماما أهل الشام: الأوزاعي، وأبو إسحاق الفزاري، والحافظ الثبت خالد بن عبد الله الطحان.
ففي تاريخ الطبري: " دعا عثمانُ بن حنيف عمرانَ بن حصين وكان رجلَ عامةٍ، وألزَّه بأبي الأسود الدؤلي وكان رجلَ خاصةٍ" (1).
وقال علي بن بكار: سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: "ما رأيت مثل الأوزاعي والثوري! فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، وأما الثوري فكان رجلَ خاصةِ نفسِهِ، ولو خيرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي"(2).
وقال إبراهيم الجوهري: " قلت لأبي أسامة: أيهما أفضل: فضيل بن عياض، أو أبو إسحاق الفزاري؟ فقال: كان فضيل رجل نفسه، وكان أبو إسحاق رجل عامة"(3).
وقال إسحاق الأزرق: "ما أدركت أفضل من خالد الطحان، قيل: قد رأيت سفيان (يعني الثوري)؟ قال: كان سفيان رجل نفسه، وكان خالد رجل عامة"(4).
فدفعني ذلك إلى حب التعرف على سمات ذلك الرجل الذي وقف نفسه على الناس حاضراً بوضوح بينهم: يعلمهم وينصح لهم، ويحمل همومهم؛ ساعياً لنفعهم، ومتصدراً لخدمتهم وحل مشكلاتهم، بكل رحابة صدر وبشاشة وجه، والمزايا التي يفضل بها على غيره من خلال مطالعة سير هؤلاء الأئمة الموسومين بذلك، فوجدت أنها على نوعين: نوعٍ يشترك فيه رجل العامة مع غيره من العلماء المهديين والعباد الصالحين، ونوعٍ يختص به هذا الصنف من القادة المصلحين والأئمة الربانيين.
ولعل من أبرز خلال النوع الأول الذي يشترك فيه رجل العامة مع غيره؛ ما يلي:
1- كثرة الخشوع واليقظة والتقدم في العمل:
إذ لا تستطيع حمل هموم الناس والعمل على نفعهم وتبنِّي قضاياهم - مع ما في ذلك من إسقاط حظوظ النفس وتقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة - نفْسٌ غافلة، وشخصية شحيحة الزاد هزيلة الراحلة، وخير الزاد التقوى.
فمن كان رقيقَ المحبة والتعظيم لخالقه، قليلَ الخشية منه - سبحانه -، ضعيف رجاء ما أعده الله -تعالى- لأوليائه، مقِلاّ من تزكية نفسه وإصلاح قلبه وتقوية الصلة بخالقه؛ لم يقوَ على المضي الطويل في هذا السبيل على وجهه مهما أراده وتاقت إليه نفسه.
فلا بد للرواحل من خشوع وبكاء، واستكثار من عبادة القلب، قال بشر بن المنذر: "رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع"(5)، وقال عمرو بن عون: "ما صليت خلف ابن عبد الله إلا سمعت قطر دموعه على الباريَّة"(6).
ولا بد للمتصدر لقضايا الناس من صلاة، وقراءة، وذكر، وطول قيام، قال أبو مسهر: "كان الأوزاعي يحيي الليل صلاة وقرآناً وبكاء"(7)، وقال الوليد بن مسلم: "رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه، يذكر الله حتى تطلع الشمس، ويخبرنا عن السلف: أن ذلك كان هديهم، فإذا طلعت الشمس، قام بعضهم إلى بعض، فأفاضوا في ذكر الله، والتفقه في دينه"(8)، وقال: "ما رأيت أكثر اجتهاداً في العبادة من الأوزاعي"(9).
ولا بد لرجل العامة الحامل لهموم الأمة من حضور قلب وبُعد عن الغفلة، وحذر من الاغترار بمتع الحياة وشهواتها ورضا أربابها، سواء أكان ذلك في الليل أم النهار، في الحضر أم السفر. قال ابن عيينة: قال هارون الرشيد لأبي إسحاق الفزاري: "أيها الشيخ! إنك في موضع من القرب، قال: إن ذاك لا يغني عني يوم القيامة من الله شيئاً"(10)، وقال الوليد بن مزيد: "كان الأوزاعي من العبادة على شيء ما سمعنا بأحد قوِيَ عليه، ما أتى عليه زوالٌ قطُّ إلا وهو قائم يصلي"(11)، ويخبر ضمرة بن ربيعة فيقول: "حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة، فما رأيته مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار قطّ، كان يصلي، فإذا غلبه النوم، استند إلى القَتَب"(12)، وعن سلمة بن سلام قال: "نزل الأوزاعي على أبي، ففرشنا له فراشاً، فأصبح على حاله"(13).
2- الزهد والورع:
فُطِرَت النفوس على عدم محبة الالتفاف حول نفوسٍ نسيت الآخرة، وتعلقت بشدةٍ بأوحال هذه الدنيا الفانية، وجسرت على سلوك أي طريق وخوض أي مفازة ما دام ذلك موصلاً لها إلى تحصيل الملذات والظفر بالرئاسات.
فالزهد والورع ركيزتان أساسيتان في شخصية رجل العامة، إذ يُمَكِّنان المرء من احتساب الأجر، والصبر على الأذى، وسلامة الصدر، ونزع الغل، وعدم الحديث عن النفس، وتوقِّي رؤية العمل واستعظامه، وحذر التعالم والخوض فيما يُجْهَل، وعدم انتظار الثناء والشكر، وترك الانتقام للنفس والوقيعة في الناس، أو السماح للآخرين بالتكلم في مجلسه بحديث غيبة، كما يحولان بين المرء والمنة على الناس بما قدمه لهم وأحسن به إليهم، أو أن يلج في المزاحمة لهم على دنياهم.
ومن مظاهر ذلك في حياة رجال العامة ما جاء عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - حين كان قاضياً على البصرة؛ أنه قضى على رجل بقضية، فقال: واللهِ، قضيتَ عليّ بجَوْر، وما أَلَوْتَ، قال: وكيف؟ قال: شُهِد عليّ بزور قال: فهو في مالي، ووالله لا أجلس مجلسي هذا أبداً (14)، وقال عقبة بن علقمة: "أرادوا الأوزاعي على القضاء، فامتنع وأبى، فتركوه"(15).
ولم يكن ورع هذا الصنف من الناس قاصراً على توقِّي القضاء، بل شمل حتى ترك الفتيا فيما لا يتيقن علمه. يقول سلمة بن كلثوم: "كتب أبو حنيفة إلى الأوزاعي تسعين مسألة؛ فما أجاب منها إلا بمسألتين"(16).
وأشد الزهد والورع على هذا الصنف من الناس ما تعلق بجانب المال، وذلك لما يلاقيه أحدهم من ضغط العامة وكثرة إلحاحهم وشدة احتياجهم. وفي هذا السياق ذكر الأصمعي أن الرشيد أمر خادمه قائلاً: "ثلاثة آلاف دينار لأبي إسحاق. فأُتِي بها، فوضعها في يده وخرج، فانصرف، ولقيه ابن المبارك فقال: أنا عن هذه الدنانير غني، فقال: إن كان في نفسك منها شيء فتصدق بها، فما خرج من سوق الرافقة حتى تصدق بها"(17).
ولظهور هاتين السمتين الجليلتين في حياة هذا الصنف من الناس، انظر إلى هاتين الشهادتين الجليلتين:
أورد الحافظ ابن كثير في سياق ترجمته للأوزاعي ما نصه: "وتأدب بنفسه، فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه، ولا أورع، ولا أعلم، ولا أفصح، ولا أوقر، ولا أحلم، ولا أكثر صمتاً منه، ما تكلم بكلمة إلا كان المتعيّن على من سمعها من جلسائه أن يكتبها عنه من حسنها"(18).
وقال الحسن بن الربيع: "ما رأيت أورع من أبي إسحاق الفزاري؛ هو أفضل من معمر"(19).
3- الحلم والتواضع:
وهما خصلتان مُمَكِّنتان للعبد من الاتزان والتُّؤَدة، والرفق واللين، وسعة الصدر واحتمال دواعي الغضب، والتبسم وطيب المحيا وإظهار البشاشة، والخلطة الواعية للناس بكافة مستوياتهم وأطيافهم، وحسن الإنصات لهم وسماع همومهم وقضاياهم، والبدار بقدر المستطاع إلى معونتهم وحل مشكلاتهم، مع الستر عليهم، وترك الحديث غير المسؤول عن قضاياهم.
وقد كان هذا جليّاً في حياة أرباب هذا الشأن، يقول عطاء بن مسلم: قلت لأبي إسحاق الفزاري: "ألا تسب من ضربك؟ قال: إذاً أحبه"(20)، وقال: صدقة بن عبد الله: "ما رأيت أحداً أحلم ولا أكمل ولا أجمل من الأوزاعي"(21).
وقال ضمرة: "صليت إلى جانب الأوزاعي بمكة، فلما قام حرّكني، فذهبت معه إلى منزله، فأتانا بثريد عليه فول مسلوق"(22).
4- الجود وكثرة التصدق:
فمن لم يكن طويلَ اليد، كثيرَ الصدقة، كريماً باذلاً للمعروف؛ بَغَضَه الخلقُ، وانجفلوا عنه؛ إذ الجود مسوِّدٌ للوضيع، رافعٌ للشريف، حارسٌ للأعراض، محببٌ العبدَ لدى الأضداد، ولذا قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذا السياق: " لَساداتُ الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء"(23).
فالسخاء وكثرة الإنفاق والعطاء صفات لازمة لرجل العامة، وإلا فكيف له أن يظفر بقبول الناس وينال محبتهم؟
ولذا فإن الأوزاعي - مثلاً - كان من أكرم الناس وأسخاهم؛ إذ صار إليه من خلفاء بني أمية وبني العباس نحو من سبعين ألف دينار، فما ترك يوم مات سوى ستة دنانير فضلت من عطائه، كل ذلك كان ينفقه من سبيل الله(24).
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبي: "كان خالد الطحان ثقة صالحاً، من أفاضل المسلمين، اشترى نفسه من الله أربع مرات؛ فتصدق بوزن نفسه فضة أربع مرات"(25)، وعن محبوب بن موسى قال: "لقيت الفضيل بن عياض فعزَّاني بأبي إسحاق، وقال: كان والله كريماً"(26).
5- الاحتساب والصدع بالحق:
فمن ترك مقولة الحق وداهن الواقع في منكرٍ، مع علمه وقدرته، من دون تأوُّلٍ سائغٍ في ترك الأمر والنهي؛ أغضب الحق وسقط من أعين الخلق؛ ومن ثَمَّ يكون قد افتقد بتقصيره ذلك أهمَّ عوامل النجاح ومكونات القدرة على توجيه الآخرين وصناعة وجهتهم.
وكلما كان الموقف أرضى للرب، وأصدع بالحق - كثرة أو جرأة في عقل - وأنصح للأمة وألصق بهمومها وقضاياها؛ كان أملكَ لقلوب العامة، وأقدر على ولوجها والتأثير فيها ونيل مودتها.
قال الأوزاعي: "بعث عبد الله بن علي (يعني: السفاح) إليّ، فاشتد ذلك عليّ، وقدِمت، فدخلت والناس سماطان، فقال: ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه؟ قلت: أصلح الله الأمير! قد كان بيني وبين داود بن علي مودة قال: لَتُخْبِرَنِّي! فتفكرت، ثم قلت: لأصدُقنّه، واستبسلت للموت، ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث: (الأعمال)، وبيده قضيب ينكت به، ثم قال: يا عبد الرحمن: ما تقول في قتل أهل هذا البيت؟ قلت: حدثني محمد بن مروان، عن مطرف بن الشخير، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحل قتل المسلم إلا في ثلاث..)) وساق الحديث.
فقال: أخبرني عن الخلافة، وصية لنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقلت: لو كانت وصية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ترك علي - رضي الله عنه - أحداً يتقدمه، قال: فما تقول في أموال بني أمية؟ قلت: إن كانت لهم حلالاً فهي عليك حرام، وإن كانت عليهم حراماً فهي عليك أحرم؛ فأمرني، فأُخرِجت"(27).
وقال أبو شعيب: "قلت لأمية بن زيد: أين الأوزاعي من مكحول؟ فقال: هو عندنا أرفع من مكحول، فقلت له: إن مكحولاً قد رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: وإن كان قد رآهم، فأين فضل الأوزاعي في نفسه، وقد جمع العبادة، والورع، والعلم، والقول بالحق؟"(28).
وليس الأمر بقاصر على الحسبة على سلاطين الجور، بل إن ذلك شامل للاحتساب على زيغ العامة وما قد يقع فيه بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة من بدع وانحرافات ظاهرة، يقول العجلي في صفة أبي إسحاق الفزاري: "كان ثقة، صاحب سنة، صالحاً، هو الذي أدّب أهل الثغر وعلّمهم السنَّة، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه... أمر سلطاناً ونهاه، فضربه مائتي سوط"(29).
وعن أبي مسهر قال: "قدم أبو إسحاق الفزاري دمشق، فاجتمع الناس ليسمعوا منه، فقال: اخرج إلى الناس فقل لهم: من كان يرى القدر فلا يحضر مجلسنا، ومن كان يرى رأي فلان فلا يحضر مجلسنا، فخرجت، فأخبرتهم"(30).
6- الوقار وحسن المظهر:
جُبِلت النفوس على التعلُّق بجمال النفس، ورقة الكلمة، وحسن الزي، والسمت الحسن، والوحشة من ضد ذلك؛ ولذا لا بد لرجل العامة من ملاحظة رعاية زِيِّه، وتجميل مظهره، وتطييب لفظه، والاتسام بالهدوء والحشمة، وفي هذا المساق قال زرارة بن أوفى: "رأيت عمران بن حصين يلبس الخزَّ"(31).
وورد أن الأوزاعي كان يقول: "كنا قبل اليوم نضحك ونلعب، أما إذا صرنا أئمة يقتدَى بنا؛ فلا أرى أن يسعنا ذلك، وينبغي أن نتحفط"(32)، وقال الواصف لسيرته: "ما رُئي الأوزاعي ضاحكاً مقهقهاً قط، ولقد كان يعظ الناس فلا يبقى أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه، وما رأيناه يبكي في مجلسه قط"(33).
وليس هذا فحسب، بل على المتصدر لقضايا الناس السعيُ لتحصيل الملكة المعِينة على توقِّي ذلك قبل حدوثه. قال محمد بن الأوزاعي: قال لي أبي: "يا بني! لو كنا نقبل من الناس كل ما يعرضون علينا؛ لأوشك بنا أن نهون عليهم"(34).
أما أبرز خلال النوع الآخر الذي يختص به رجل العامة فهي الآتي:
1- الاجتهاد في بذل العلم والنصح للعامة والإجابة عن استفساراتها:
لا يكون طالب العلم مبارَكاً حتى يُعْنَى بالإكثار من بذل العلم والجود بالنصيحة، مستثمراً كل فرصة، متفنناً في اختيار الوسيلة النافذة إلى قلوب الناس وعقولهم، فهذا عمران بن حصين - رضي الله عنه - بعثه عمر الفاروق إلى البصرة ليفقِّه أهلها، فيبذل غاية الوسع في ذلك، حتى إن الحسن البصري كان يحلف: "ما قدم عليهم البصرة خير لهم من عمران بن الحصين"(35).
وتدليلاً على ظهور هذه السمة العظيمة في رجل العامة، قال أبو مسهر: "حدثني الهقل، قال: أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة، أو نحوها"(36)، وقال أبو زرعة: "روي عنه ستون ألف مسألة"(37)، وقال العجلي عن أبي إسحاق الفزاري: "كان كثير الحديث، وكان له فقه"(38).
وقال محمد بن عجلان: "لم أرَ أحداً أنصح للمسلمين من الأوزاعي"(39)، فلا يكون المرء مقبولاً من العامة مقدَّماً فيهم حتى لا يألو وُسْعاً في بذل النصيحة، والعناية بتقديم العلم والدعوة بالسبل الفردية والعامة.
2- العناية بخدمة الناس وبذل الوُسع في الشفاعة لهم والقيام بقضاياهم:
وهذا الجانب هو الشيء الملموس واللب الظاهر لرجل العامة، ولن يتمكن المرء من القيام بذلك ما لم يكن لديه احتساب ظاهر، وزاد عظيم من العلم والصبر والحكمة، وحسن الفهم، والتسامح، والشعور العالي بالمسؤولية تجاه هذه الأمة، وامتلاك الدافع القوي في إظهار محاسن الديانة، ورفع الظلم، وتحقيق العدالة لكل أحدٍ: قريبٍ أم بعيد، شريف أم وضيع، مسلم أم كافر.
وأن يرى المنة لله - تعالى - وحده بأن أتاح له مفاتيح إحسان وبوابات أجر(40)، وجعل الناس واقفين ببابه محتاجين إليه، ولم يجعله كذلك، مما يحمله على مزيد استغفار من التقصير، ويدعوه إلى الاجتهاد في التحلي بمرتبة الشكر.
وهو ما يتطلب منه: معايشةً أكثرَ للناس، والقيام ببذل النفس، وإعطاء الوقت، وعدم ادِّخار السبل والوسائل، واتخاذ مكان ظاهر يُمْكِن للعامة الوصول بسهولة إليه لعرض مشكلاتهم وطلب قضاء حوائجهم منه.
وقد ضرب الإمام الأوزاعي في هذا الباب أروع الأمثلة؛ إذ كتب إلى أمير المؤمنين المنصور في فك ألوف من المسلمين أسرى - وكان ملك الروم يحب أن يفادي بهم ويأبى أبو جعفر - واعظاً له ومذكراً، فلما وصل كتابه؛ أمر الخليفةُ بالفداء.
وكتب الأوزاعي رسالة إلى الخليفة يطلب منه زيادة أرزاق أهل الساحل لكونهم يحمون الثغر(41).
وكتب إلى والي الشام ينكر عليه إجلاء جميع أهل الذمة في جبل لبنان حين خرج بعضهم عن الطاعة قائلاً: "فكيف تؤخذ عامة بعمل خاصة، فيخرجون من ديارهم وأموالهم؟ وقد بلغنا أن من حكم الله - عز وجل - أنه لا يأخذ العامة بعمل الخاصة، ولكن يأخذ الخاصة بعمل العامة"(42).
وقال أحمد بن أبي الحواري: "بلغني أن نصرانياً أهدى إلى الأوزاعي جرة عسل، فقال له: يا أبا عمرو! تكتب لي إلى والي بعلبك؟ فقال: إن شئتَ رددتُ الجرة وكتبتُ لك، وإلا قبِلتُ الجرة ولم أكتب لك. قال: فردّ الجرة وكتب له، فوضع عنه ثلاثين ديناراً"(43).
والمتأمل في واقعنا الدعوي اليوم يرى بجلاء حاجة أمتنا إلى رجال عامة تحلَّوْا بهذه السمات العظيمة، فانبروا لخدمة الناس، وتحقيق مقاصد الديانة، والعمل على حفظ سياج الأمة من أن يتصدرها فكرياً أو اجتماعياً زائغٌ يقودها إلى التهلكة، أو صاحب شهوة ليس له من هدف إلا بناء مجده وسؤدده، وتحقيق أطماعه ومصالحه، وتأسيس أعمدة شرفه.
فاللهم ألهمنا رشدك، وهبنا بمنِّك وجودك ودقيق لطفك وعظيم إحسانك؛ توفيقَك وبركتك، واستخدمنا في طاعتك، واجعلنا من الذائدين عن دينك وكتابك وعرض نبيك، وصلى الله وسلم على النبي المختار، وعلى الصحب والآل والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
----------
الهوامش
(1) تاريخ الطبري، 3/14.
(2) تاريخ الإسلام، للذهبي، 1/1139.
(3) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 8/543.
(4) تاريخ بغداد، للخطيب، 8/294.
ومن الجلي أن وسم بعض أئمة الدين بأنهم رجال خاصة ليس بمنقص من قدرهم؛ لأنه وإن بزهم غيرهم في جانب قياد المجتمع والتصدر لقضايا العامة؛ فقد بزوا غيرهم في غيره؛ لأن المرء قد يكون إماماً فُتِح له في الفقه في الدين، وقرينه إمام فُتِح له في الزهد والورع، وذاك إمام فتح له في باب الاحتساب، وآخر إمام في جانب العطاء والإنفاق، وكل مسخر لما خُلِق له، وأكرم العباد على الله - تعالى - أتقاهم له، وكلٌ على بوابة ثغرٍ، والأمة محتاجةٌ إلى كلٍّ، رزقنا الله - تعالى - رضاه وعفوه.
(5) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 7/119.
(6) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 8/279، والبارية: بفتح الباء وتشديد الياء: الحصير المنسوج، فارسي معرب.
(7) تاريخ الإسلام، للذهبي، 1/ 1139.
(8) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 7/114.
(9) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 7/119
(10) حلية الأولياء، للأصبهاني، 8/253.
(11) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 7/119.
(12) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 7/119، قال الجوهري في الصحاح: 2/61: "القَتَب، بالتحريك: رَحْلٌ صغير على قدر السَنام. والقِتْبُ بالكسر: جميع أداة السانِية من أعلاقها وحبالها".
(13) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 7/119
(14) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 2/510.
(15) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 7/117.
(16) تاريخ الإسلام، للذهبي، 1/1140.
(17) تاريخ الإسلام، للذهبي، 1/1354.
(18) البداية والنهاية، لابن كثير، 10/115.
(19) تاريخ الإسلام، للذهبي، 1/1353.
(20) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 8/543.
(21) تاريخ الإسلام، للذهبي، 1/1139.
(22) مقدمة الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، 217.
(23) أدب الدنيا والدين، للماوردي، 226.
(24) انظر: تذكرة الحفاظ، للذهبي، 1/183، محاسن المساعي، 80-82.
(25) تاريخ الإسلام، للذهبي، 1/1368.
(26) تاريخ الإسلام، للذهبي، 1/1354.
(27) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 7/124-125، وقد قال الذهبي عقب ذلك: "قلت: قد كان عبد الله بن علي ملكاً جباراً، سفاكاً للدماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بأمر الحق كما ترى، لا كخلق من علماء السوء، الذين يحسنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقاً - قاتلهم الله - أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق".
(28) مختصر تاريخ دمشق، للطوفي، 7/111.
(29) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 8/540-541.
(30) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 8/541-542.
(31) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 2/508، وقال ابن الأثير في النهاية، 2/74 ما نصه: "الخز المعروف أولاً: ثياب تنسج من صوف وإبريسم، وهي مباحة، وقد لبسها الصحابة والتابعون...، وإن أريد بالخز النوع الآخر وهو المعروف الآن فهو حرام؛ لأن جميعه معمول من الإبريسم، وعليه يحمل الحديث: ((قوم يستحلون الخز والحرير))... ".
(32) البداية والنهاية، لابن كثير، 10/119، وانظر: حلية الأولياء، للأصبهاني، 6/143.
(33) البداية والنهاية، 10/116.
(34) تاريخ الإسلام، للذهبي، 1/1140.
(35) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 2/ 508.
(36) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 7/111.
(37) البداية والنهاية، 10/116.
(38) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 8/ 541.
(39) البداية والنهاية، 10/116.
(40) قال القرطبي في تفسيره، 3/339: "حكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيراً من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيراً، فقيل له في ذلك، فيقول: إنما فعلت مع نفسي، ويتلو: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ) (البقرة: 272).
(41) انظر: الجرح والتعديل، للرازي، 1/193.
(42) الأموال، لأبي عبيد، 440.
(43) حلية الأولياء، للأصبهاني، 6/143.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 75.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 73.28 كيلو بايت... تم توفير 1.93 كيلو بايت...بمعدل (2.57%)]