|
ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
شهوات محلها فمك
شهوات محلها فمك محمد شلبي محمد في كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، ذكر سلطان العلماء عز الدين بن عبدالسلام فصلاً لطيفًا بعنوان: ما يتعلق به الأحكام من الجوارح، ثم شرَع يُبين فيه الأحكام التي تنزَّلت على سائر الجوارح؛ من فروض ومندوبات، ومباحات ومكروهات ومحرَّمات، فاللسان يُفعل به كذا وكذا، واليد عليها كذا وكذا، والرِّجْل كذا وكذا. واللافت في هذا التأليف أمران: الأول: أن الكلام كأنه جاء مقلوبًا؛ فكل تبويبات الفقه لدى الفقهاء تذكر الحكم دون التركيز على ما يؤدَّى به من آلة، فربما اشترك فيه عضو أو عضوان من الجسد، وربما اشترك فيه الجسد كله، فهم يذكرون التكليف قبل ذكر المكَلَّف، بينما نجد ابن عبدالسلام ينظر للمسألة بمنظور مقلوب، يذكر المكلَّف قبل ذكر التكليف. وهذا النوع من المعالجة الفقهية يزيد على مجرد معرفة الفقه جانبًا وعظيًّا عظيمًا؛ لأنه يظهر كل جزء منك كأنه مكلف تكليفًا خاصًّا؛ مما يستدعي طاقة أعلى على أداء التكاليف؛ حيث إن شحذ النفس شحذة واحدة لجميع الأعمال، سيكون بالضرورة أضعف من شحْذها لكل عمل خاص. الأمر الثاني: أنه بدأ بذكر اللسان رغم كون اللسان في الترتيب الخلقي الطبيعي، يأتي بعد الرأس والعينين والأذنين والأنف، ولكلٍّ منها أحكام تتعلَّق بها، وهذا يعكس مباشرة تقدير ابن عبدالسلام لقيمة اللسان الكبرى، وخطورته العظمى. إن كل شيء تتوقف قيمته على توظيفه؛ ولذلك يمكننا القول بأن كثيرًا من الإمكانات ليست خيرًا محضًا ولا شرًّا محضًا؛ حتى يُعملَ بها، فتَبِين، ومن هذه الإمكانات: إمكانات الفم التي بدأ بها سلطان العلماء. لا شك أنه عنصر كمالي في الإنسان، ولكن له من الآفات ما أطال الناس في ذمِّه، ولعل إحصاء العز بن عبدالسلام أكمل ما يمكن ذِكره في سياق واحد. قال فيما يذم من اللسان: "الإكراه على الكبائر والصغائر بأسْرها، والأمر بكل منكر، والنهي عن كل معروف، والقذف، وتكذيب من لا يجوز تكذيبه، وتصديق من لا يجوز تصديقه، والكفر وشهادة الزور، والحُكم بالباطل والسحر، والهجو، وكل كلمة محرَّمة: كالغيبة والنميمة، والطعن في الأنساب، والتفاخر بالأحساب، والنياحة"؛ قواعد الأحكام (190). واللسان أحد أجزاء الفم، وإذا كان ما مضى من مذام كثيرًا، كثيرًا، فإن للفم كذلك مذامَّ لم يذكرها ابن عبدالسلام. إنها شهوات تُقْضَى بهذا الفم، وإنها لا تقل خطرًا عن شهوة الفروج، بل إنها أشد خطرًا من شهوة الفروج، إن الفرج شهوته مكبوتة بضوابط المجتمع، وإنكار الناس، ولا تُقضى في الحرام إلا في خفاءٍ، بيد أن شهوات الفم غير مكبوتة بشيء، ومن هذه الشهوات الخطيرة مما يتواتر على لسان الناس: شهوة ملء البطن. إن اللذة التي يوصلها الفم إلى نفس الآكل، كفيلة لأن يشحن بطنه بأسباب الموت، ولكن فيه شهوة من الشهوات هي من خفايا الشهوات، إنها شهوة الكلام. لا أتكلم عن الغيبة والنميمة، ولا عن السب والشتيمة، وإنما أتكلم عن نفس تحب أن تقول لغاية هي الكلام، وكفى بذلك خطيئة ومزلَّة. إن الكلام لشهوة أكبر من أي شهوة، إنه شهوة لا يقطعها الشِّبع. إنها شهوة هي أسوأ الأعمال إذا كان العزوف عنها هو أفضل الأعمال"، يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسانه، ثم وضع إصبعه عليه، فاسترجع معاذ"؛ صحيح الترغيب والترهيب (2866). إنها شهوة تُحيق بك الهزيمة: ((رحم الله امرأ تكلَّم فغنِم، أو سكت فسَلِم))؛ حسنه الألباني؛ صحيح الجامع الصغير، فإما أن تغنم، وإما أن تُهزَم. شهوة تكاد تذهب بالإيمان: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمُت)). شهوة قد تكب الإنسان في النار: ((وهل يكبُّ الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن صمت، نجا))؛ صحيح وضعيف الجامع الصغير (11313)). إن ما دعاني لكتابة هذه السطور، أني رأيت أناسًا إذا تكلموا لم يسكتوا، وهذه الشهوة ينفس عنها في مظهرين: الأول: الإطناب الذي لا نهاية له: وإذا كان هذا مذمومًا عند من يركبون توافه المعاني، فإنه أشد ذمًّا عند من يتكلمون في أمور العلم والوعظ؛ وذلك لأن من يتكلم في التفاهات يَنصدُّ عنه الناس طبعًا. أما من يتكلم في أمور الدين والوعظ، يحبس الناس على ما يقول من كلام هُم يعظمونه بينهم وبين أنفسهم، ويستحيون أن ينصرفوا عنه، فحبس الناس على مقتضى شهوة الكلام، قد يُورثهم كُره الاستماع إلى كلام الدين، خصوصًا أن من يُطيلون الكلام يُكثرون التكرار، ويُكثرون الخطأ، ويَبثون المَلل في النفوس. فإن مَن يتصدى لهذه المضامين العظيمة، لحَرِيٌّ به أن يختصر للناس اختصارًا، وأن يُوقع على آذانهم خلاصة الحكم وضمائر المعاني، وفلذات التجارب. إن الإطناب وإن كان عنصرًا بلاغيًّا، إلا أن الزمان أصبح زمان الاقتضاب، والذي يريد أن يصل للناس لا ينبغي أن يمد المسافة بينه وبينهم. وهذا مع مَن تكلم مريدًا نفْع السامعين، فمَن يتكلم شهوةً لمجرَّد الكلام، أشد بُعدًا عن مقصد الدعوة إلى الله. الثاني: التكلُّم في غير مناسبة: بعض الناس يحشرون أنفسهم حشرًا في المواقف، يتكلمون دون إذنٍ، ويتكلمون في غير مناسبة للكلام، وربما تدخَّل بين اثنين لم يحضر نقاشهما أصلاً! ثمة كلمة جميلة أحفظها: ليس كل ما يُعرف يقال، ولا كل ما يُقال حضَر أهله، ولا كل ما حضَر أهله، حضَر وقته. فشهوة الكلام تُوقع صاحبها في الخطأ والخطَل، وتَزج به في مضايق لا يستطيع الخروج منها، كما استطاع الدخول فيها، فالفم وعاء ممتلئ بكثير من الأمور التي تَسلك بصاحبه ذات اليمين، أو تسلك به ذات الشمال. أعاذنا الله وإياكم من سَقطات النفوس وسقطات الألسِنة.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |