الملحد وتشكيكه في مصدرية الدين للأخلاق - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4416 - عددالزوار : 852404 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3947 - عددالزوار : 387709 )           »          هل لليهود تراث عريق في القدس وفلسطين؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 1051 )           »          أوليــاء اللــه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          المشكلات النفسية عند الأطفال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          هل المديرون بحاجة للحب؟هل تحب وظيفتك ومكان عملك؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          وأنت راكع وساجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          لماذا تصاب المرأة بالقولون العصبي بــعد الــزواج؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          لطائف تأخير إجابة الدعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26-02-2020, 02:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي الملحد وتشكيكه في مصدرية الدين للأخلاق

الملحد وتشكيكه في مصدرية الدين للأخلاق

د. ربيع أحمد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة؛ إذ يفتِك بالإيمان، ويُعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريض به يجادل في البديهيات، ويجمع بين النقيضين، ويفرق بين المتماثلين، ويجعل من الظن علمًا، ومن العلم جهلًا، ومن الحق باطلًا، ومن الباطل حقًّا.

ومن عوامل انتشار هذا المرض:
الجهل بالدين، وضعفُ العقيدة واليقين، والاسترسالُ في الوساوس الكفرية، والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل.

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل، وادعاءات بلا مستند، ورغم ضعفها وبطلانها فإنها قد تؤثر في بعض المسلمين؛ لقلة العلم، وازدياد الجهل بالدين؛ ولذلك كان لا بد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوى أهل الإلحاد، شبهة تلو الأخرى، ومغالطة تلو المغالطة، ودعوى تلو الدعوى؛ حتى لا ينخدعَ أحد بكلامهم وشُبَههم.

وفي هذا المقال سنتناول تشكيك الملاحدة واللادينيين في مصدرية الدين للأخلاق بالعرض والنقد، وقبل بيان دعاواهم والرد عليها لا بد من معرفة مفهوم الأخلاق ومفهوم الدين.

مفهوم الأخلاق
الأخلاق: جمع كلمة خُلُق، والخُلق: عبارة عن هيئة للنفس راسخة، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويُسر، من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خُلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سُمِّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خُلقًا سيئًا، وإنما قلنا: إنه هيئة راسخة؛ لأن مَن يصدُر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال: خُلقه السَّخاء، ما لم يثبت ذلك في نفسه[1].

والذي يفصل الأخلاق ويميزها عن غيرها هو الآثار القابلة للمدح أو الذم، وبذلك يتميز الخُلق الحسن عن الغريزة؛ فالأكل مثلًا غريزة، والإنسان عند الجوع يأكل بدافع الغريزة، وليس مما يمدح به أو يُذَم، لكن لو أن إنسانًا أكل زائدًا عن حاجته الغريزية، صار فعله مذمومًا؛ لأنه أثرٌ لخُلق في النفس مذموم، وهو الطمع، وعكس ذلك أثرٌ لخُلق في النفس محمود، وهو القناعة.

كذلك، فإن مسألة حب البقاء ليست محلًّا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثرٌ لخُلق في النفس مذموم، وهو الجبن، أما الإقدام الذي لا يصِل إلى حد التهور، فهو أثر لخُلق في النفس محمود، وهو الشجاعة.

وهكذا سائر الغرائز والدوافع النفسية التي لا تدخل في باب الأخلاق، إنما يميزها عن الأخلاق كونُ آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم[2].

مفهوم الدين
الدين له عدة تعريفات، منها: الشرع الإلهي المتلقَّى عن طريق الوحي[3]، ومن تعريفات الدين: وضعٌ إلهي سائق لذوي العقول - باختيارهم إياه - إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل[4]، ومن تعريفات الدِّين: كل ما يتخذه الناس ويتعبدون له، سواء كان صحيحًا أو باطلًا [5].
الشُّبَه التي لجأ إليها الملاحدة للتشكيك في مصدرية الدين للأخلاق


لجأ الملاحدة للعديد من الشُّبَه للتشكيك في مصدرية الدِّين للأخلاق، فقالوا: وُجِدت الأخلاق قبل الدِّين، واختُرِع الدِّين لتنظيم المسيرة الأخلاقية؛ فالأخلاق مستمدة من احتياجات الإنسان واهتماماته، بل الإنسان إذا وجد بعض القيم الخلقية في الدِّين، فإنها مأخوذة من المجتمع الذي ظهر به هذا الدِّين.

وقال آخرون: وجود بعض الأخلاق في بلاد لا تَدين بدين سماوي، ووجود بعض الأخلاق في بلاد يكثر فيها الإلحاد، وانتشار الفساد في البلاد الإسلامية الأخلاق؛ أي: يوجد مَن هو متدين وليس لديه أخلاق، بينما يوجد من هو لاديني ولديه أخلاق - هذا دليل على عدم مصدرية الدِّين للأخلاق.

واحتج بعضهم: أن الدِّين ثابت، وأخلاقيات بعض المنتسبين إلى الدِّين تتغير مع الوقت.

وقال البعض: ليس من الأخلاق قطعُ يد السارق ورجم الزاني، وكيف يكون الدِّين مصدرًا للأخلاق ويشترط شهادة أربعة رجال لتطبيق حد الزنا؟! فلو فعلها الشخص دون علم أحدٍ أو أمام سيدات لا بأس بذلك!

وقال البعض: ليس الدِّين مصدر الأخلاق؛ إذ كيف يضبط السلوك الاجتماعي عن طريق التهديد بالعذاب الأبدي بواسطة كائن فوق الطبيعة؟ وعدم التخلق بالخلق السيئ خوفًا من النار، كأنه تقديم رشوة للرب، وأسلوب الترغيب في الأخلاق الحسنة بدخول الجنة، والترهيب من الأخلاق السيئة بدخول النار - ليس من الأخلاق في شيء.

وقال البعض: لا يحق لأي دين أن يفرض رؤيته للفضيلة الأخلاقية، والإثم، والسلوك الجنسي، والزواج والطلاق، والتحكم في النسل أو الإجهاض، أو أن تسن القوانين بحسب تلك الرؤية على بقية المجتمع، والمبادئ الأخلاقية من الممكن أن تكتشف في سياق التشاور الأخلاقي والديموقراطية.

وقال البعض: العقل والإنسانية كفيلانِ بجعل الإنسان يتخلق بالخُلق الحسَن، ومن طبائع الإنسانية - ودون حاجة لتوجيه ديني مباشر أو غير مباشر - مسائل مثل: تجريم القتل، والسرقة، والخيانة المالية والزوجية، والعلاقات الممنوعة بين المحارم، والأخلاق موجودة في الضمير الإنساني، والحاجة للدين؛ كي يبين أن ممارسة جنس المحارم وقتل الإنسان هي شيء خاطئ يصور الإنسان كأنه كائن لاأخلاقي وحشي، وإذا كان هذا الوحش موجودًا داخل أي إنسان، فلن ينفع لا الدِّين ولا القوانين في القضاء عليه.

وقال البعض: الافتراض بأن الخوف والطمع يدفعان الإنسان لعمل الخير أو اجتناب الشر، يصور الإنسان كأنه شريرٌ بالفطرة؛ لذلك لا بد من ترويضه بالقوة، كالحيوان المتوحش.

وقال البعض: القول بأن الأديان مصدر الأخلاق مسألة غير عملية، لا تصمُدُ أمام التجارِب الحقيقية على أرض الواقع.


وقال البعض: إن خصصنا الأديان كمصدر للأخلاق لوجود نصوص أخلاقية، فعليه سنقول: الأديان مصدر القتل؛ لوجود تعاليم ترتبط بالقتل، وإنها مصدر الحرب؛ لوجود تعاليمَ ترتبط بالحرب.

وقال البعض: لنفرض أن أمامنا عدة كتب (التوراة، الإنجيل، القرآن، ...) كل منها يزعم أنه الصحيح ويحتوي على الأخلاق الصحيحة، وهو فقط يمتلك هذه المعرفة، كيف سيكون بإمكاننا معرفة أي منها هو الصادق إذا لم نعرف أصلًا ما تعنيه الأخلاق؟ أي: كيف يمكننا أن نقول: إن كتابًا معينًا هو الصحيح من وجهة نظر أخلاقية إذا لم تكن لدينا فكرة مسبقة مستقلة عما يعنيه أن يكون حكمٌ ما أخلاقيًّا أو لا؟ بأي معيار أستطيع أن أقول: إن كتابًا معينًا صادق في حكم أخلاقي ما (أو في كل أحكامه الأخلاقية) بدون أن أعرف ما تعنيه الأخلاق؟ بالتالي من هنا ضرورة أن تكون المعرفة الأخلاقية سابقةً ومستقلة وذات أولية على الدِّين، ما يؤدي إلى أن الكتب الدينية لا يمكنها أن تكون مصدرًا للأخلاق.

وقال البعض: الدِّين هو مصدر الأخلاق، هي مقولة خاطئة؛ لأنها تؤدي إلى تناقض ذاتي، لنفرض أن إنسان أ1 يتبع الأخلاق التي يمليها عليه دِينه د1، وأما الإنسان أ2 فيتبع الأخلاق التي يمليها عليه دينه د2، في حال اختلاف الدينين فيما يطالبان به بخصوص حالة معينة (كضرورة أو عدم ضرورة رجم الزانية مثلاً)، فإن هذا العمل ذاته سيكون أخلاقيًّا من منظور الدِّين الأول، وغير أخلاقي من منظور الدِّين الثاني؛ أي: إن الحكم الموضوعي على العمل نفسه لن يكون ممكنًا إذا كان مرجعنا فيما يجب فعله، أو الاستنكاف عن عمله - هو فقط ما يسوِّغه دينٌ معين أو غيره.

الأخلاق قيمة مطلقة ثابتة
الأخلاق قيمة مطلقة ثابتة، لا يعتريها التبديل من عصر لعصر، ولا من بلد لبلد، ولا من شخص لشخص، شأنها شأن الأفلاك والمدارات التي تتحرك فيها الكواكب لا تتغيَّر بتغيُّر الزمان.

ورغم أن العديد من الناس لديهم ممارسات أخلاقية مختلفة، فإنهم يتشاركون في مبادئ أخلاقية عامة مثلاً، يتفق مناصِرو الإجهاض ومعارضوه على أن القتل أمر خاطئ، ولكنهم يختلفون حول ما إذا كان الإجهاض يعتبر قتلًا أم لا؛ لهذا، حتى في هذه الحالة تثبت حقيقة وجود الأخلاقيات العامة المطلقة، ولا يوجد مجتمع بكامله يمكن أن يرى أن زنا المحارم مسألةٌ عادية وليس أمرًا مَشينًا، نعم قد يوجد بعض الأفراد الشواذ الذي يرون أن زنا المحارم مسألة عادية؛ فالعيب في هؤلاء الأفراد الشاذين، وليس في المجتمع.

ويوجد قيم أخلاقية تحتفظ بقدرٍ من التوافق العام والتصور المشترك على أنها خيرٌ عند جميع الأمم؛ كالعدالة، والأمانة، والكرم، ويوجد قيمٌ أخلاقية تحتفظ بقدر مِن التوافق العام والتصور المشترك على أنها شرٌّ عند جميع الأمم؛ كالكذب، والخيانة.

وتجد جميع الأمم والشعوب في كل الأزمان وكل الأماكن تحبُّ الخير وتمدحه وتكره الشر وتذُمُّه، وتحب الفضيلة وتكره الرذيلة، وتحب الصدق وتمدحه وتكره الكذِبَ وتذُمُّه، وتحب الأمانة وتمدحها وتكره الخيانة وتذُمُّها، وتحب الشجاعة وتمدحها وتكره الجبن وتذُمُّه، وتحب الكرم وتمدحه وتكره البخل وتذُمُّه، وتحب الاحترام وتمدحه وتكره الاحتقار وتذُمُّه، وتحب العدل وتمدحه وتكره الظلم وتذُمُّه، ولا معنى للمدح والذم، ولا معنى لحب الخير وكُرهِ الشر إذا لم تكن الأخلاق مطلقة.

وتجد جميع الأمم والشعوب تُشيد أو تكافئ على فعل بعض السلوكيات الحسنة؛ كالشجاعة، والوفاء، والإخلاص، وتجرِّم أو تندِّد أو تعاقب على فعل بعض السلوكيات السيئة؛ كالسِّباب، والفساد، والقتل، والغش، ولا معنى للثواب والعقاب إذا لم تكن الأخلاق مطلقة، ولا معنى للمكافأة والمعاقبة والتجريم في غياب الأخلاق المطلقة.

ولا توجد أمة من الأمم في أي وقت وأي زمان تجعل السرقة عملاً بطوليًّا، ولا توجد أمة من الأمم في أي وقت وأي زمان تمتدح الكذِبَ، ولا توجد أمة من الأمم في أي وقت وأي زمان تعظم الخيانة.

وإذا كان الواحد منا يرى بعض السلوكيات فيرفضها، ويقول: إنها منافية للأخلاق؛ كقتل الرجل لأبيه، أو سبِّ الرجل لشخص - فهذا دليلٌ على مطلقية الأخلاق، ومن خلال مطلقيتها حكمنا على بعض السلوك أنه مُنَافٍ للأخلاق.
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26-02-2020, 03:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الملحد وتشكيكه في مصدرية الدين للأخلاق

الملحد وتشكيكه في مصدرية الدين للأخلاق

د. ربيع أحمد



أهمية وجود قِيَم أخلاقية مطلقة وثابتة
إن وجود قِيم أخلاقية مطلقة وثابتة يجعل من السهل الحكمَ على بعض السلوكيات بالخير أو الشر، بالخطأ أو الصواب، بالحُسن أو القُبح؛ لوجود مبادئَ أخلاقية مطلقة وثابتة يمكن أن نحتكم إليها، ونستند في حكمِنا على السلوكيات إليها.

وفي وجود قِيَم أخلاقية مطلقة وثابتة يسهل التمييز بين السلوك المحمود والسلوك المذموم، ويسهل التمييز بين السلوك الحسَن والسلوك القبيح؛ لوجود معايير أخلاقية مطلقة وثابتة يمكن أن تدلَّنا على السلوك الحسَن والسلوك القبيح.

وفي وجود قيم أخلاقية مطلقة وثابتة يسهل التحفيز على فعل السلوك المحمود، والتنفير من فعل السلوك المذموم، ويسهل الالتزام بالقيم الأخلاقية.

وفي وجود قيم أخلاقية مطلقة وثابتة يميز الإنسان بين السلوك الحسَن والسلوك القبيح، ويبحث عن أفضل العلاقات وأحسنِها في معاشرة الناس، وبذلك يتميز سلوك الإنسان عن سلوك البهائم، ويحافظ الإنسان على إنسانيَّته التي يرتفع بها عن الحيوان.

أهمية الالتزام بالقيم الأخلاقية
إن الالتزام بالقيم الأخلاقية ذو أهمية بالغة؛ إذ مع الالتزام بالقيم الأخلاقية يكثُر الخير والصلاح والصالحون، ويقل الشر والفساد والمفسدون.

وفي وجود قيم أخلاقية مطلقة وثابتة يتحلى أفراد المجتمع بها ويلتزمون بها: تجد الفرد والمجتمع يعيشون في سعادة؛ إذ الكل يفعل الخير ويجتنب الشر؛ فتنتشر الفضيلة وتختفي الرذيلة، والعيش في ظل الفضيلة يبعث السعادة والبهجة.

وفي وجود قيم أخلاقية مطلقة وثابتة يتحلى أفراد المجتمع بها ويلتزمون بها: تجد الفرد والمجتمع يعيشون في طمأنينة وأمان وسلام؛ إذ الكل يفعل الخير ويتوقَّعُه ممن حوله.

وفي وجود قيم أخلاقية مطلقة وثابتة يتحلى أفراد المجتمع بها ويلتزمون بها: يتخلص المجتمع من ظاهرة القلق والاضطرابات التي تسُوده؛ لانتشار الخير، والثقة المتبادلة والأُلفة والمحبة بين الناس.

أهمية الإلزام بالقيم الأخلاقية
القيم الأخلاقية لا معنى لها إذا لم تكن ملزِمة، ولا أخلاق بدون إلزام؛ إذ بدون الإلزام لا يهتم الإنسان بالأخلاق، ولا يُعِيرها اهتمامًا، وبانعدام الإلزام تنعدم المسؤولية الأخلاقية، وإذا انعدمت المسؤولية الأخلاقية التي تُلزم الإنسان بالعمل الخُلقي، ولا يوجد ما يحمله على الالتزام - ضاعت الأخلاق؛ فكلُّ شخص يفعل ما يحلو له.


مصدر الإلزام الأخلاقي في غياب الدِّين
إذا كانت الأخلاق لا معنى لها دون إلزام، فما مصدر الإلزام الأخلاقي في غياب الدِّين: هل هو الضمير أو العقل أو المجتمع أو المنفعة أو القانون؟
وإن قيل: مصدر الإلزام الضمير؛ فالجواب: لا يكفي وازعُ الضمير الإنساني وحده لحمل الإنسان على التحلي بالفضائل؛ فمِن الناس مَن يتميز بضعف الضمير، وكثيرًا ما تتحكَّمُ العواطف والانفعالات والعادات والتقاليد والمواقف الخاصة والمصالح الشخصية في ضمائر الناس وأحكامهم، وقد يخطئ الضمير بسبب العديد من المؤثرات، وقد ينحرف بسبب العديد من المؤثرات الخارجية، فيرى المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، والضمير ليس ملكة معصومة من الخطأ، بل يحتاج إلى مَن يرشده.

والضمير يختلف في البيئة الواحدة، وفي الجماعة الواحدة، فما يمليه ضمير شخص قد لا يمليه ضمير شخص آخر، وكما قيل: الناس في كل العصور، وفي جميع الأقطار، يستشيرون ضمائرهم، ولكنها لا تُسمِعهم جميعًا لحنًا واحدًا؛ إذ إن ما يظهر عدلًا وخيرًا لبعض النفوس المخلِصة في عصر خاص، لا يظهر عدلًا ولا خيرًا لنفوس أخرى، هي أيضًا مخلصة، ولكنها عاشت في عصر آخر أو مكان آخر.

وإن قيل: مصدر الإلزام الأخلاقي: العقل، فالجواب: لا يكفي وازع العقل وحده لحمل الإنسان على التحلي بالفضائل؛ فالعقول قاصرة لا تهدي أصحابها في جميع الأحوال، وأحكام العقول متناقضة، وما يحكم عليه شخص بأنه خيرٌ له يحكم عليه آخرُ بأنه شر له، والأخلاق عقليًّا من منظور مادي غير مربحة، بل ضارة، بل هي أكبر عبء على صاحبها.

وقد يخطئ العقل بسبب العديد من المؤثرات، وقد ينحرف بسبب العديد من المؤثرات الخارجية؛ فيرى المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، وقد يصاب عند بعض الناس بعلَّةٍ من العلل المرَضية، فيعشَى أو يعمَى، أو تختل عنده الرؤية، فيصدر أحكامًا فاسدة، والعقل ليس ملَكةً معصومة من الخطأ، بل يحتاج إلى من يرشده.

وإن قيل: مصدر الأخلاق والإلزام الأخلاقي هو المجتمع الذي يعيش فيه الفرد، فالجواب: لا يمكن أن يكون المجتمع مصدرًا للأخلاق، ولا مصدرًا للإلزام الأخلاقي إلا إذا اعتبرنا المجتمع مجتمعًا مثاليًّا، أضف إلى ذلك أن ليس كل فرد مندمجًا في المجتمع؛ فالقِيَم الأخلاقية تتباين داخل المجتمع الواحد، ولك أن ترجع إلى التاريخ لترى أن بعض الأفراد من أنبياءَ ورسلٍ ومصلحين كانوا مصدرًا لقيم أخلاقية ساعدتِ المجتمعات على النهوض والتقدم.

وأعراف الناس متغيرة وغير ثابتة؛ إذ تختلف الأعراف باختلاف الزمان والمكان، فما كان مألوفًا متعارَفًا عليه في زمان أو مكان قد يكون منكَرًا ومستهجنًا في زمان آخر أو مكان آخر، والأخلاق تتمتع بالمطلقية والثبات في كل زمان ومكان.

واعتبار المجتمع مصدر الأخلاق والإلزام الأخلاقي يجعل الأخلاق خاضعة لِما تواضَع عليه الناس في المجتمع، وبدلاً مِن أن تُحدِث القِيَمُ الأخلاقية تحولاتٍ في الواقع والمجتمع تصبح الأخلاق مجرد انعكاس لهذا الواقع، وتبريرًا له، وبالتالي تفقِد الأخلاق مطلقيتها وإلزامها، وماذا لو تواضع الناس على جواز الزنا، وجواز اللواط، وجواز زنا المحارم، هل يلتزم الفرد بمثل هذه السلوكيات الفاسدة أو يخالف مجتمعه؟!


وإن قيل: مصدر الأخلاق والإلزام الأخلاقي هو المنفعة، فالجواب: الأخلاق التي تُبنى على المنفعة هي الأخلاق النفعية، والأخلاق النفعية لا تحمل من الأخلاق إلا اسمها، واعتبار المنفعة مقياسًا للأخلاق يجعل الأخلاق نسبية ومتغيرة؛ فيصبح السلوك الواحد خيرًا وشرًّا في آنٍ واحد، خيرًا عند الذي حقق له منفعة، وشرًّا عند الذي لم يتحقق له منفعة، وبالتالي لا يوجد خُلق حميد، ولا خُلق رذيل، وهذا مخالف للواقع؛ بدليل وجود قيم أخلاقية تحتفظ بقدرٍ مِن التوافق العام والتصور المشترك؛ كالعدالة، والفضيلة، والكرم.

واعتبار المنفعة مقياسًا للأخلاق يُلغي الأخلاق؛ لأن المبدأ ‏الذي تستند إليه الأخلاق وتحتكم إليه مفقود؛ فالمنافع متعارضة، وما ينفعني قد لا ينفع غيري، مما يؤدي لحدوث التنازع، واصطدام مصالح الناس بعضها ببعض، وعموم الفوضى.

وربط الأخلاق بالمنفعة يحط من قيمة الأخلاق؛ لأنه ينزلها إلى مستوى الغرائز، والغرائز موجودة في الإنسان والحيوان معًا، فيصبح سلوك الإنسان لا يتميز عن سلوك الحيوان.

وإن قيل: مصدر الإلزام الأخلاقي هو القانون، فالجواب: لا يكفي القانون وحده وازعًا لحمل الناس على التحلي بالأخلاق؛ إذ يمكن التحايل عليه، ويستطيع الإنسان الإفلات منه، وتجاوزه، والهروب من العقوبة، وسلطان القانون على الظاهر لا على الباطن، والقانون قد يعاقب المسيء، لكنه لا يكافئ المحسن، وإذا كانت القوانين عاجزةً عن أن تزجر الإنسان عن الشر والفساد - بدليل كثرة الشر والفساد - فهي أشد عجزًا عن أن تدفعَ الإنسان إلى الخير والإصلاح.

ومن هنا لا يكفي كلٌّ من الضمير والعقل والمجتمع والمنفعة والقانون لأن يكون أحدهم مصدرًا للإلزام الأخلاقي، والاكتفاء بوضعِ باعثٍ واحد للالتزام أدعى إلى عدم الالتزام.


ولو جعلنا طرق الإلزام كلَّ هذه الطرق دون الإلزام بوازع الدِّين، فهذا لا يصح أيضًا؛ لأن الضمير متفاوت متغير، والعقول قاصرة متفاوتة في إدراك ما ينفعها، والمنفعة نسبية، فما ينفعني قد لا ينفع غيري، والمجتمع متغير، وما هو سائدٌ في هذا المجتمع قد لا يكون سائدًا في مجتمعي، والقانون سلطانه على الظاهر دون الباطن، فلا بد مِن مصدر مُتعالٍ يُهَيمِن على كل هذه المصادر، ويرشدها ويوجِّهها ويقوِّمها إذا اعوَجَّتْ.


الحاجة إلى الدِّين في تأسيس الأخلاق والإلزام بها
إن القيم الأخلاقية لا معنى لها إذا لم تكن مطلقة وملزِمة، ولا تكون القيم الأخلاقية كذلك إلا إذا استمدَّتْ وجودها وإلزاميتها من مصدر مُتعالٍ، وهذا المصدر المتعالي هو الدِّين[6]، وأمام الدِّين يصبح الإنسان أمام مرجعية عليا للأخلاق، بحيث يستند إليها في تقرير صحةِ القواعد والمبادئ الأخلاقية من ‏عدمها، والمبادئ التي جاء بها الدِّين في المجال الأخلاقي ‏مبادئُ ثابتة ومطلقة، وغير قابلة للتغيُّر والتبدل، وعزل القيم الأخلاقية عن هذا المصدر المتعالي يؤدِّي إلى زوال حقيقتها، فتصبح خاضعةً إما للضمير المتقلب المتغير، أو للعقل القاصر المتفاوت، أو للمنفعة النسبية، أو للمجتمع المتغير غيرِ المثالي.

وبغير الدِّين لا يهتم الإنسان بالأخلاق، ولا يُعِيرها اهتمامًا، ولم تُشهَدْ أمَّة أو جماعة التزمت القِيَم الأخلاقية وتقيَّدت بضوابطها دون الاعتماد على وازعٍ يقودها إلى ذلك، ولا يوجد وازع ينجح في حمل الناس على هذا الالتزام إلا الوازع الديني الذي يجعل الإنسانَ يشعر بمراقبة الله - سبحانه وتعالى - الدائمة والشاملة له؛ فالوازع الديني يعتبر أقوى إلزام للإنسان، وهو خيرُ ضمان لاستقامة الفرد في حياته.

وإن حضور الدِّين في مشاعر الحب والخوف، والرضا والغضب، والرغبة والكُرْه - ينمِّي في شخصية الإنسان مقاومة الانحراف والشر، بينما خلوُّ المشاعر من التدين يؤدي إلى سهولة انحراف الإنسان، والذي يستشعر أن اللهَ سبحانه هو الحسيب والرقيب يكون مِن أبعدِ الناس عن الغش والكذب والظلم، والذي لا يؤمن بإلهٍ خالق حسيب ورقيب يكون مِن أقربِ الناس إلى الغش والكذب والظلم، ويقول البعض: إذا لم يكن إلهٌ ولا دِين فليس غريبًا ولا مجافيًـا للواقع أن تعيث في الأرض فسادًا، ولو على حساب الآباء والأبناء، ويقول آخرون: إذا لم يكن لك دينٌ فلا مانع أن تخونَك زوجتك، ويسرقَك خادمك.

وفي المجتمعات غيرِ الملتزمة بالدِّين يمكن أن يُقدِم الناس على ارتكاب جميع أنواع الأعمال المنافية للأخلاق، لكن الشخص المتدين حقَّ التدين لا يمكن أن يفعل الأعمال المنافية للأخلاق، مثلاً لا يقبل أن يتعامل بالرشوة أو القِمار، أو أن يحسُدَ أحدًا، أو أن يكذب؛ لأنه يعلم أن عليه مراقبة أعماله، وتذكر الحساب بعد الموت، أما الشخص غير المتدين فلا يمنعه شيء عن ارتكاب هذه الأعمال.

وليس كافيًا أن يقول الشخص غير المتدين: أنا لا أؤمن بالله، ولكنني لا آخذ رشوة، أو أن يقول: أنا لا أؤمن بالله، ولكنني لا أقامر، أو أن يقول: أنا لا أؤمن بالله، ولكنني لا أسرق، أو أن يقول: أنا لا أؤمن بالله، ولكنني لا أزني، والسبب أن الإنسان الملحد الذي لا يخشى الله، ولا يستشعر رقابته، ولا يخاف الحساب بعد الموت - قد يرتكب أي فعل من هذه الأفعال عند تغيُّر المواقف أو الأوضاع من حوله.

وإذا قال شخص ما: أنا ملحد، ولكنني لا أزني؛ فالشخص نفسه قد يرتكب الزنا في مكان يعتبر فيه الزنا أمرًا عاديًّا، وممكن للشخص الذي لا يأخذ رشوة أن يقول: إني أحتاج المال، فعلَيَّ أن أقبل الرشوة، هذا إذا لم يكن في قلبه خوف من الله تعالى.

وفي حالة غياب الدِّين، فإن السرقة نفسها يمكن أن تصبح أمرًا مشروعًا تحت ظروف معينة؛ فالإنسان الذين لا دين له يمكن ألا يعتبر - حسب رأيه - أن أخذ المناشف وأدوات الزينة من الفنادق سرقة.

ومن ناحية أخرى، فإن الشخص المتدين لا يُظهر مثل هذا العمل؛ لأنه يخشى الله، ويعلم أن الله يعلم سرَّه وعلانيته؛ فالمؤمن يعمل بإخلاص، ويتجنب المعاصي، ويمكن لملحد أن يقول: أنا ملحد، ولكنني أتسامح مع الناس؛ فأنا لا أشعر برغبة في الانتقام، ولا أكره أحدًا، ولكن في يوم ما يمكن أن يحدث شيء ما يجعله يُظهِر تصرفًا غير متوقع منه؛ كأن يحاول قتل شخص ما، أو إيذاءَه؛ لأن الأخلاق التي لديه تتغير بحسب البيئة والظروف التي يوجد فيها، وانعدام الوازع الديني عند الملحد يجعله كلما تحركت في نفسه شهوةٌ أو نزوةٌ سارَعَ إلى قضائها.

أما الإنسان المؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان، فلا يَحيد أبدًا عن الأخلاق الفاضلة مهما كانت المؤثرات؛ فأخلاقه غير متقلبة، والوازع الديني عنده ومراقبة الله والخوف من ارتكاب الإثم، يجعَلُه يتجنب الوقوع في رذائل الأخلاق.
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26-02-2020, 03:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الملحد وتشكيكه في مصدرية الدين للأخلاق


الملحد وتشكيكه في مصدرية الدين للأخلاق

د. ربيع أحمد




نظرات في كلام الملاحدة واللادينيين
قال بعضهم: (وُجِدت الأخلاق قبل الدِّين، واخترع الدِّين لتنظيم المسيرة الأخلاقية؛ فالأخلاق مستمدة من احتياجات الإنسان واهتماماته، بل الإنسان إذا وجد بعض القيم الخُلقية في الدِّين، فإنها مأخوذة من المجتمع الذي ظهر به هذا الدِّين)، وهذا الكلام غير صحيح؛ إذ مبناه على أن الدِّين جاء بعد فترة زمنية من وجود البشر، والدين موجود منذ أن وجدت البشرية، ولا يوجد على الإطلاق في أيِّ عصر من العصور، ولا في أي أمة من الأمم مجتمع بلا دين، ولا بلا إله معبود، حقًّا كان أو باطلًا، فهناك اتجاه فطري إلى أن يكون هناك دين، وإله معبود، وكما قال البعض: لقد وُجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، ولم توجد جماعة بغير ديانة، وذكر آخرون أن فكرة التدين لم تخلُ منها أمةٌ مِن الأمم في القديم والحديث.

ولا يضير الدِّين الحق وجودُ أديان باطلة؛ فكل هذه أمور طارئة، والإنسان قد تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف عن الدِّين الحق، فإذا لم يهتدِ الإنسان إلى الله تعالى وإلى الدِّين الحق، فإنه يعبِّدُ نفسَه لأي معبود آخر؛ ليشبِع في ذلك نهمته إلى التدين، وذلك كمن استبد به الجوع، فإنه إذا لم يجدِ الطعام الطيب الذي يناسبه، فإنه يتناول كل ما يمكن أكله، ولو كان خبيثًا؛ ليسُدَّ به جوعته.

والدين ليس اختراعًا بشريًّا، بل عطاءً ربانيًّا من الله للبشر؛ ليهدي البشرية ويوجهها ويرشدها إلى خيرِ الدنيا والآخرة.

ولا يختص الدِّين بتنظيم السلوكيات الأخلاقية، بل يختص بتنظيم جميع السلوكيات وجميع أمور الناس؛ إذ يوجد بالدِّين جميع أنواع التشريعات؛ من تشريعات اجتماعية، وتشريعات اقتصادية، وتشريعات دولية، وتشريعات جنائية، وتشريعات أسرية، وتشريعات سياسية، وغير ذلك من التشريعات؛ فالدين منهج حياة.

والزعم بأن الأخلاق مستمدة من احتياجات الإنسان واهتماماته: زعمٌ باطل، وكلام بلا دليل، فأين الحاجة للتضحية والفداء؟ وأين الحاجة للكرم والجود؟ وأين الحاجة للإيثار؟ وأين الحاجة للعطف على الحيوانات؟ وأين الحاجة للعطف على الفقراء والمساكين والمرضى؟ وأين الحاجة للتعاطف مع الناس؟!

والزعم بأن القيم الأخلاقية الموجودة في الدِّين مأخوذة من المجتمع الذي ظهر به هذا الدِّين: زعمٌ باطل، وكلام عارٍ عن الصحة، فكم عارَض الدِّين أخلاقيات المجتمع الذي وجد فيه! والدين يصحح أخلاقيات المجتمع، فيرفض الأخلاقيات السيئة؛ كالعُرْيِ، وزنا المحارم، وزواج المِثْليِّين، واللواط، وتبرج النساء، والظلم، والعدوان.

وقال بعضهم: (وجود بعض الأخلاق في بلاد لا تدين بدين سماوي، ووجود بعض الأخلاق في بلاد يكثر فيها الإلحاد، وانتشار الفساد في البلاد الإسلامية؛ أي: يوجد مَن هو متدين بدين وليس لديه أخلاق، بينما يوجد من هو لاديني ولديه أخلاق - هذا دليل على عدم مصدرية الدِّين للأخلاق).

وهذا قول باطل؛ إذ وجود بعض الأخلاق في بلاد لا تدين بدين سماوي، ووجود بعض الأخلاق في بلاد يكثر فيها الإلحاد، ليس دليلاً على عدم مصدرية الدِّين للأخلاق، بل دليل على وجود دين كانت تدين به هذه البلاد، وهذه الأخلاق من بقايا آثار هذا الدِّين.

وإن كان مصدر الأخلاق هو الدِّين فإن ممارسة الأخلاق قد تستمر مع غياب هذا الدِّين أو اندثاره، فتظل الأخلاق موروثًا دينيًّا يمتد حتى بعد غياب الدِّين، أو تشوُّهِ حقائقه، كما تظل بعض التقاليد والعادات تنتقل بين الأجيال برغم تغيُّر الأديان والعقائد والثقافات، فتظل موروثًا ثقافيًّا مستمرًّا، وإن جهِلْنا أصله ومنشأه.

وقولهم: يوجد من هو متدين بدين وليس لديه أخلاق، بينما يوجد من هو لاديني ولديه أخلاق - ليس دليلاً على عدم مصدرية الدِّين للأخلاق؛ إذ الأخلاق - كمبدأ - لا يمكن وجودها بغير دين، أما الأخلاق - كممارسة أو حالة معينة من السلوك - فإنها لا تعتمد مباشرة على التدين[7].

والتصديق بالشيء لا يستلزم العمل له حتى يصبح إرادة جازمة، وإن كان دافعًا على العمل له؛ فالناس تعلم وتتيقن أن النار محرقة، وبعضهم يحرق نفسه بالنار، وأيضًا قد تجد أن الولد الذي يعلم أن فلانًا أبوه لا يبَرُّ هذا الأب، وأيضًا قد تجد أن المَدِينَ لا يعطي المال للدائن، وبعض الناس يعلم أن الزنا يكون سببًا في العديد من الأمراض الجنسية، ومع ذلك يرتكبه، وبعض الناس يعلم أن مَن قتَل سيعاقب من الحكومة، ومع ذلك يقتل.

واحتج بعضهم: (أن الدِّين ثابت، وأخلاقيات بعض المنتسبين إلى الدِّين تتغير مع الوقت).
والجواب: أن تغير أخلاقيات بعض المنتسبين إلى الدِّين دليلٌ على ضعف التدين عندهم، وليس دليلاً على عدم مصدرية الدِّين للأخلاق؛ ففرقٌ بين العلم بالدِّين وبين العمل بالدين، أو ممارسة الدِّين؛ فقد لا يعمل الشخص بما علِم بسبب هوًى في النفس، أو شُبهة، أو مغالطة، أو تعلق قلبه بشيء آخر، وعلى سبيل المثال كثير ممن يدخِّن يعلم الآثار السيئة للتدخين، ومع ذلك يدخن، ومن يقتل شخصًا يعلم أن القتل مجرَّمٌ دينيًّا وقانونيًّا، ومع ذلك يقتل.

وقال بعضهم: (ليس من الأخلاق قطع يد السارق ورجم الزاني، وكيف يكون الدِّين مصدرًا للأخلاق ويشترط شهادة أربعة رجال لتطبيق حد الزنا، فلو فعلها الشخص دون علم أحد أو أمام سيدات لا بأس بذلك؟).

وقطع يد السارق ورجم الزاني من الأحكام الدينية، وليس من الأحكام الأخلاقية؛ فإدخاله في الأخلاق مغالَطة وتزييف، والعقوبة على قدر الجريمة، وغلظة العقوبة بسبب غلظة الجريمة، وهذه العقوبات المغلظة الهدف منها: التخويفُ والردع، وهؤلاء الملاحدة نظروا إلى غلظة العقوبة، ولم ينظروا إلى شناعة الجريمة، وهذا ليس من العدل والإنصاف في شيء.

أما قول بعضهم: (ويشترط شَهادة أربعة رجال لتطبيق حد الزنا، فلو فعلها الشخص دون علم أحد أو أمام سيدات لا بأس بذلك؟) فهذا الكلام ينم عن الجهل الشديد بالشريعة الإسلامية وأحكامها؛ فقد اشترط الشرع شَهادةَ أربعة رجال لتطبيق حد الزنا؛ تغليظًا على من يرمي شخصًا بالزنا؛ لأن شهادة المدَّعي قد يترتب عليها قتلٌ وعارٌ دائم، وليس هذا الشرط لجواز الزنا، بل لسدِّ السبيل على الذين يتهمون الأبرياء ظلمًا، وكذلك سد السبيل على الذين يريدون إشاعةَ الفاحشة في المجتمع.

والإسلام قد حرم الزنا؛ فقد قال تعالى: ï´؟ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ï´¾ [الإسراء: 32]، وقال تعالى: ï´؟ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ï´¾ [الفرقان: 68]، وقال تعالى: ï´؟ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ï´¾ [الأعراف: 33]، ومِن المعلوم أن الزِّنا مِن أفحش الفواحش وأشدِّ الجرائم، وأبشعِ المعاصي، وأقبح الذنوب.

وقال البعض: (ليس الدِّين مصدر الأخلاق؛ إذ كيف يضبط السلوك الاجتماعي عن طريق التهديد بالعذاب الأبدي بواسطة كائن فوق الطبيعة؟ وعدم التخلق بالخُلق السيئ خوفًا من النار، كأنه تقديم رشوة للرب، وأسلوب الترغيب في الأخلاق الحسنة بدخول الجنة، والترهيب من الأخلاق السيئة بدخول النار ليس من الأخلاق في شيء).

ودعواهم أن السلوك الاجتماعي لا يضبط عن طريق التهديد بالعذاب، كلامٌ مخالف للواقع؛ فكم من شخص ارتدع عن فعل معصية خوفًا من عذاب الله يوم القيامة! لكن الناس طبائع شتى، منهم من يرتدع بالترهيب، ومنهم من يرتدع بالترغيب، ومنهم من يرتدع بوازع الضمير، ومنهم من يرتدع بوازع العقل، ومنهم من يرتدع بوازع السلطان، والدِّين قد عدد طرق الإلزام؛ لمعرفتِه بطبيعة النفس البشرية.

وقول بعضهم: (عدم التخلُّق بالخُلق السيئ خوفًا من النار، كأنه تقديم رشوة للرب، وأسلوب الترغيب في الأخلاق الحسنة بدخول الجنة، والترهيب من الأخلاق السيئة بدخول النار، ليس من الأخلاق في شيء) فيه تشويه للحقائق؛ فالمؤمن يعبد الله، ويتخلق بالخُلق الحسن؛ طاعة لله المتفضل عليه بالنعم، وخوفًا من العذاب، وطمعًا في الثواب، فأين هذا الحال من حال المرتشي والراشي الذي يفعل فعلاً مَشينًا؟! والناس تحب وتمدَح من يعبد الله خوفًا من العذاب، وطمعًا في الثواب، لكنها تذُمُّ المرتشي والراشي، فأين هذا من هذا؟

والرشوة كل مال دُفِع لذي جاه عونًا على ما لا يحل، أما التخلق بالخُلق الحسن خوفًا من العذاب وطمعًا في الثواب، فهو فِعل ما يستحسن أن يفعل - أي التحلي بالخُلق الحسن - ويستقبح ألا يفعل - أي عدم التحلي بالخُلق الحسن - فأين هذا من هذا؟ والرشوة يترتب عليها ضياعُ الحقوق، وفساد المجتمعات، والعبادة والتخلق بالخُلق الحسن طاعةً لله وخوفًا من العذاب وطمعًا في الثواب يترتَّبُ عليها سعادة الفرد والمجتمع، وصلاح الفرد والمجتمع، فأين هذا من هذا؟

والملحد يتوهَّمُ أن أسلوب الترغيب والترهيب يقلِّل مِن الأخلاق، وكأنه يريد أن يقول: إن الأخلاق الحسَنة يجب فعلُها، بصرف النظر عما يترتب عليها مِن جزاء أو مكافأة، وإن الأخلاق السيئة يجب تركها، بصرف النظر عما يترتب عليها مِن عقاب، وهذه أخلاق كانط، ومثل هذه الأخلاق إن تصلح لفئة خاصة أمثال كانط، فإنها لا تصلح لجميع الفئات، والأخلاق الإسلامية جاءت لجميع الفئات، مراعيةً لجميع النفوس، ولجميع الفروق الفردية[8].

ومن طبيعة النفس البشرية: محبة ما فيه نفعها ومصلحتها، والإقبال عليه، وكُرْه ما يضرها ويؤذيها ويُفسِد عليها أمرها، والنفور منه، ويُعَدُّ الثواب والعقاب هو الأسلوبَ الذي يتفق مع الفطرة الإنسانية، والذي ثبتت صلاحيته في كل زمان ومكان[9]، وربط الأخلاق بالجزاء أمر ضروري؛ لأنه يَزيد قيمة الأخلاق، كما تَزيد قيمةَ الشجرة ثمرتُها، وبذلك اختلفت الأخلاق الإسلامية عن الأخلاق الكانطية، التي لا تربط الأخلاق بالجزاء والمكافأة، والأخلاق من غير جزاء ومكافأة جافَّة لا طعم فيها، أو قليلة الفائدة وناقصة القيمة[10].

وقال البعض: (لا يحِقُّ لأي دين أن يفرض رؤيته للفضيلة الأخلاقية، والإثم، والسلوك الجنسي، والزواج والطلاق، والتحكم في النسل أو الإجهاض، أو أن تسن القوانين بحسب تلك الرؤية على بقية المجتمع، والمبادئ الأخلاقية من الممكن أن تكتشف في سياق التشاور الأخلاقي والديموقراطية).

وهذا الكلام فيه إجحاف لحق الخالق؛ فالخالق له الحقُّ أن يشرَعَ لخلقه ما يصلحهم، وهو أعلم بمصالح خَلقِه منهم، ولو أن كل فرد في المجتمع له الحق في أن يفعل ما يريد ويشتهي، ولا يحق للدين أن يمنعه، فإن ذلك سيستلزم حدوث الهرج والمرج.

وقول بعضهم: (والمبادئ الأخلاقية من الممكن أن تكتشف في سياق التشاور الأخلاقي والديموقراطية) كلام في غاية السُّخف والسقوط، والناس بفطرتهم يحبون الأخلاق الحسنة؛ كالعدل، والكرم، والوفاء، كما ينفِرون بفطرتهم من الأخلاق السيئة؛ كالكذب، والغدر، والخيانة، وهل مثل هذه الأمور تحتاج للتشاور؟ إن من يريد التشاور في معرفة الأخلاق الحسنة والسيئة كمن يريد التشاور في معرفة أن الواحد نصف الاثنين، وأن النقيضينِ لا يجتمعان.

وإن أرادوا التشاور في الإلزام بالأخلاق الحسنة، واجتناب الأخلاق السيئة عن طريق وضع قانون - فهذا القانون سلطانه على بعض الظاهر، فضلاً عن الباطن، وهذا القانون من الممكن التحايلُ عليه، والإفلات منه، والقانون من الصعب أن يطبَّق على كل الأخلاق.

والقوانين ليس لها سلطان على النفوس، ولا تقوم على أساس من العقيدة والإيمان، كما هو الحال بالنسبة للإسلام؛ ولهذا فإن النفوس تجرؤ على مخالفة القانون الوضعي كلما وجدت فرصة لذلك، وقدرةً على الإفلات من ملاحقة القانون وسلطان القضاء، ورأت في هذه المخالفة اتباعًا لأهوائها، وتحقيقًا لرغباتها.

إن القانون لا يكفي أن يكون صالحًا، بل لا بد له من ضمانات تكفل حُسن تطبيقه، ومن أول هذه الضمانات: إيجاد ما يصل هذا القانون بنفوس الناس، ويحمِلهم على الرضا به، والانقياد له عن طواعيةٍ واختيار.

ولا يحقِّق مِثلَ هذه الضمانة مثلُ الإسلام؛ لأنه أقام تشريعاته على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الالتزام الاختياري بهذه التشريعات واحترامها هو مقتضى هذا الإيمان[11].

وقال البعض: (العقل والإنسانية كفيلان بجعل الإنسان يتخلق بالخلق الحسَن، ومن طبائع الإنسانية - ودون حاجة لتوجيه ديني مباشر أو غير مباشر - مسائل مثل: تجريم القتل، والسرقة، والخيانة المالية والزوجية، والعلاقات الممنوعة بين المحارم، والأخلاق موجودة في الضمير الإنساني، والحاجة للدين؛ كي يبين أن ممارسة جنس المحارم وقتل الإنسان هي شيء خاطئ، يصور الإنسان كأنه كائن لاأخلاقي وحشي، وإذا كان هذا الوحش موجودًا داخل أي إنسان، فلن ينفع لا الدِّين ولا القوانين في القضاء عليه).

وهذا الكلام باطل ومخالف للواقع؛ فمن الناس مَن لا ينفع معه وازع العقل، ولا ينفع معه وازع الضمير الإنساني، وكم مِن أناس خالفوا عقولهم، وباعوا ضمائرهم بسبب الهوى والشهوة! ومن الممكن أن ينحرف العقل والضمير عن الحق بسبب بعض المؤثرات؛ ولذلك لا بد من موجِّه ومرشد للعقل والضمير؛ حتى لا يحيدا عن الحق.

أما قول بعضهم: (الحاجة للدين؛ كي يبين أن ممارسة جنس المحارم وقتل الإنسان هي شيء خاطئ، يصور الإنسان كأنه كائن لاأخلاقي وحشي) فهذا الكلام ينمُّ عن الجهل الشديد بالدِّين؛ فالدِّين لا يعرِّفنا الأخلاق الحسنة والأخلاق السيئة فقط، بل يُلزمنا بفعل الخُلق الحسن، واجتناب الخُلق الرذيل، ويعرِّفنا ثواب الخُلق الحسن، وعقاب الخُلق الرذيل، ويشجِّعنا على فعل الخلق الحسن، واجتناب الخُلق الرذيل، وبذلك يكون الدِّين عونًا في إيقاظ الدوافع النبيلة في النفس البشرية، وعونًا في إخمادِ دوافع الشرِّ في النفس البشرية.

ولأن مِن الناس مَن يقلُّ عنده الوازع الديني، ومنهم من لا يجدي معه وازع الترغيب والترهيب، ومنهم من لا يجدي معه وازع العقل، ومنهم من لا يجدي معه وازع الضمير؛ لذلك نوَّع الشرع طرق الإلزام، فمن لا يجدي معه وازع الدِّين قد يجدي معه وازع المجتمع الآمرِ بالمعروف الناهي عن المنكَر، ومن لا يجدي معه وازع الدِّين قد يجدي معه وازع السلطان.

أما قول بعضهم: (وإذا كان هذا الوحش موجودًا داخل أي إنسان، فلن ينفع لا الدِّين ولا القوانين في القضاء عليه) فهذا الكلام مخالفٌ للواقع والتاريخ، فكم غيَّر الدِّين مجتمعاتٍ كانت تألَفُ المحرَّمات، وترتكب المحظورات، وتفعل الموبِقات! وكم غيَّر بعضُ المصلحين مجتمعاتهم!

وقال البعض: (الافتراض بأن الخوف والطمع يدفعان الإنسان لعمل الخير أو اجتناب الشر، يصوِّر الإنسان كأنه شريرٌ بالفطرة؛ لذلك لا بد من ترويضه بالقوة، كالحيوان المتوحِّش)، وهذا الكلام فيه تشويهٌ للحقائق؛ إذ مِن طبيعة النفس البشرية محبة ما فيه نفعها ومصلحتها، والإقبال عليه، وكُرْهُ ما يضرها ويؤذيها ويُفسِد عليها أمرها، والنفور منه، ويُعَدُّ الثواب والعقاب هو الأسلوبَ الذي يتفق مع الفطرة الإنسانية، والذي ثبتت صلاحيتُه في كل زمان ومكان[12].

والجزاءات المترتبة على السلوكيات الأخلاقية تُعَد من أقوى الحوافز والدوافع القوية إلى الالتزام الدائم بالقيم الأخلاقية؛ ذلك أنه بقدر ما يعرف الإنسان قيمة الشيء يلتزم به، وبقدر ما يعرف العواقب الوخيمة لسلوكيات سيئة يتجنبها، وهذا وذلك يدفعانِه إلى مزيدٍ من التضحية مِن أجل التمسك بالقيم في هذه الحياة [13].

والإنسان بطبيعته يتصرف - في كثير من الأحيان - وَفْقَ الخوف والطمع؛ فهو يفعل أمرًا طمعًا في شيء معين، ولا يفعل أمرًا آخرَ خوفًا مِن شيء معين، وعلى سبيل المثال يعمل الإنسان طلبًا للمال، ويَزيد في عمله ويجِدُّ طمعًا في الحوافز والترقيات، ولا يتأخَّر عن عمله خوفًا من الجزاءات، فهل هذا السلوك سلوك مذموم؟ والطالب يذاكر طمعًا في النجاح، وخوفًا من الرسوب، فهل هذا السلوك سلوك مذموم؟ والسائق يلتزم بإشاراتِ المرور خوفًا من الغرامة، فهل هذا السلوك سلوك مذموم؟

وقال البعض: (القول بأن الأديان مصدر الأخلاق مسألة غير عملية لا تصمُدُ أمام التجارِبِ الحقيقية على أرض الواقع)، وهذا الكلام مخالفٌ للحقائق؛ إذ الدِّين موجودٌ منذ أن وجدت البشرية، ولا يوجد على الإطلاق في أي عصر من العصور، ولا في أي أمة من الأمم مجتمعٌ بلا دين، ويمثل الاهتمامُ بالأخلاق قاسمًا مشتركًا في جميع الأديان، ولا توجد ديانة إلا وهي تدعو أتباعَها إلى الالتزام بالقيم الأخلاقية، على اختلاف في التفاصيل.

ولم تُشهَدْ أمةٌ أو جماعة التزمت القِيَم الأخلاقية وتقيدت بضوابطها دون الاعتماد على وازع يقودها إلى ذلك، ولا يوجد وازع ينجح في حمل الناس على هذا الالتزام إلا الوازع الديني، الذي يجعل الإنسان يشعر بمراقبة الله - سبحانه وتعالى - الدائمة والشاملة له؛ فالوازع الديني يعتبر أقوى إلزام للإنسان، وهو خيرُ ضمانٍ لاستقامة الفرد في حياته، وبغير الدِّين لا يهتمُّ الإنسان بالأخلاق، ولا يُعِيرها اهتمامًا.

وقال البعض: (إن خصصنا الأديانَ كمصدر للأخلاق لوجود نصوص أخلاقية، فعليه سنقول: الأديانُ مصدر القتل؛ لوجود تعاليم ترتبط بالقتل، وإنها مصدر الحرب؛ لوجود تعاليمَ ترتبط بالحرب)، وهذا الكلام تشويهٌ للحقائق؛ فالدِّينُ مصدر الأخلاق؛ لأنه منهجُ حياةٍ وضَعه الله للبشر؛ لسعادة الدارين، والدِّين عقيدة وعمل، والدِّين عقيدة وعبادات، ومعاملات وأخلاق، والكلام عن الأخلاق الدينية فرع عن الكلام عن الدِّين، فإذا ثبت بالأدلة أن دينًا معيَّنًا هو الدِّين الحق، فلا بدَّ مِن الإيمان والانقياد والتسليم لكل ما جاء به هذا الدِّين من عقائدَ وعبادات، ومعاملات وأخلاق، وعزلُ القِيَم الأخلاقية عن الدِّين يؤدي إلى زوال حقيقتها، فتصبح خاضعة إما للضمير المتقلب المتغير، أو للعقل القاصر المتفاوت، أو للمنفعة النسبية، أو للمجتمع المتغيِّر غير المثالي.

وقال البعض: (لنفرض أن أمامنا عدة كتب (التوراة، الإنجيل، القرآن، ...) كل منها يزعم أنه الصحيح، ويحتوي على الأخلاق الصحيحة، وهو فقط يمتلك هذه المعرفة، كيف سيكون بإمكاننا معرفة أي منها هو الصادق إذا لم نعرف أصلًا ما تَعنيه الأخلاق؟ أي: كيف يمكننا أن نقول: إن كتابًا معينًا هو الصحيح من وجهة نظر أخلاقية إذا لم تكن لدينا فكرةٌ مسبقة مستقلة عما يَعنيه أن يكون حكمٌ ما أخلاقيًّا أو لا؟ بأي معيار أستطيع أن أقول: إن كتابًا معينًا صادق في حكم أخلاقي ما (أو في كل أحكامه الأخلاقية) بدون أن أعرف ما تعنيه الأخلاق؟ بالتالي من هنا ضرورة أن تكون المعرفة الأخلاقية سابقة ومستقلة وذات أولية على الدِّين، ما يؤدي إلى أن الكتب الدينية لا يمكنها أن تكون مصدرًا للأخلاق)، وهذا الكلام سفسطةٌ باطلةٌ؛ إذ الكلام عن الأخلاق الدينية فرع عن الكلام عن الدِّين، فإذا ثبت بالأدلة أن دينًا معينًا هو الدِّين الحق، فلا بد من الإيمان والانقياد والتسليم لكل ما جاء به هذا الدِّين؛ من عقائد وعبادات، ومعاملات وأخلاق، وصِدق الدِّين يستلزم صدق التعاليم التي جاء بها، والتي من ضمنها التعاليمُ الأخلاقية، وصِدق الدِّين يستلزم أن تكون تعاليمُه مصدرًا للعقيدة، ومصدرًا للعبادات، ومصدرًا للمعاملات، ومصدرًا للأخلاق.

والمعرفة الأخلاقية لا تستقل بنفسها في تأسيس الأخلاق، بل تحتاج إلى الدِّين، ولا يمكن أن نستغنيَ بها عن الدِّين؛ إذ القضيةُ ليست مجرد معرفة الحُسن والقُبح للسلوك الأخلاقي فقط، فما فائدة العلم بحُسن الصدق مع عدم التحلي به؟ وما فائدة العلم بقُبح الكذب مع اقترافه؟ وعليه فالمعرفة الأخلاقية لا تؤتي ثمرتها إذا لم يعمل بمقتضاها، وكي تؤتيَ المعرفة ثمارها لا بد أن تكون ملزِمة، وهذا قدر زائد على المعرفة يتميز به الدِّين عن المعرفة؛ إذ الأخلاق الدينية ملزِمة، والأخلاق الدينية يترتب عليها ثواب وعقاب؛ أي: مرتبطة بالجزاء، وربط الأخلاق بالجزاء يَزيد قيمةَ الأخلاق، والأخلاق من غير جزاء ومكافأة قليلةُ الفائدة، وناقصة القيمة.

والدِّين يعرِّفنا الأخلاق المحمودة، ويلزِمنا بها، ويحث على فعلها، ويبيِّن ثواب الامتثال بالفعل، ويكون عونًا في إيقاظ دوافع السلوك الحميد في النفس البشرية، ويعرِّفنا الدِّين أيضًا الأخلاق المذمومة، ويلزِمنا بتركها، ويحثُّنا على تركها، ويبيِّن عقاب عدمِ الامتثال بالترك، ويكون عونًا في إخمادِ دوافع السلوك المذموم في النفس البشرية.

ولم تُشهَدْ أمةٌ أو جماعة التزمت القيم الأخلاقية وتقيدت بضوابطها دون الاعتماد على وازع يقودها إلى ذلك، ولا يوجد وازع ينجح في حمل الناس على هذا الالتزام إلا الوازع الديني، الذي يجعل الإنسان يشعر بمراقبة الله - سبحانه وتعالى - الدائمة والشاملة له؛ فالوازع الديني يعتبر أقوى إلزام للإنسان، وهو خيرُ ضمان لاستقامة الفرد في حياته، وبغير الدِّين لا يهتم الإنسان بالأخلاق، ولا يُعِيرها اهتمامًا.

وقال البعض: (الدِّين هو مصدر الأخلاق: هي مقولة خاطئة؛ لأنها تؤدي إلى تناقض ذاتي، لنفرض أن إنسان (أ1) يتبع الأخلاق التي يمليها عليه دينه (د1)، وأما الإنسان (أ2) فيتبع الأخلاق التي يمليها عليه دينه (د2)، في حال اختلاف الدينين فيما يطالبان به بخصوص حالة معينة (كضرورة أو عدم ضرورة رجم الزانية مثلاً) فإن هذا العمل ذاته سيكون أخلاقيًّا من منظور الدِّين الأول، وغير أخلاقي من منظور الدِّين الثاني؛ أي: إن الحكم الموضوعي على العمل نفسه لن يكون ممكنًا إذا كان مرجعنا فيما يجب فعله، أو الاستنكاف عن عمله - هو فقط ما يسوِّغه دينٌ معين أو غيره)، وهذا الكلام سفسطة؛ فمن المشاهد أن أهل كل مجال معين قد يختلفون في الحكم على شيء معين، لكن هذا لا ينفي مصدريتَهم في الحكم على هذا الشيء، وعلى سبيل المثال مريض يشتكي من أعراض مرَضية لمرض معين، يمكن أن يذهب إلى خمسة أطباء، كل منهم يشخصه غير الآخر، بل عكس الآخر، هل يمكن أن ننفي مصدرية الأطباء في الحكم على المسائل الطبية بسبب هذا الاختلاف؟ ومثال آخر: مسألة قانونية تعرض على عشرة مستشارين، كل منهم يحكم فيها غير الآخر، بل عكس الآخر، هل يمكن أن ننفي مصدرية المستشارين في الحكم على المسائل القانونية بسبب هذا الاختلاف؟

هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.


مراجع المقال:
أصول الدعوة للدكتور عبدالكريم زيدان.
الإسلام بين الشرق والغرب للفيلسوف علي عزت.
التعريفات للجرجاني.
بناء المجتمع الإسلامي للدكتور نبيل السمالوطي.
دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبدالعزيز الخلف.
علم الأخلاق الإسلامية لمقداد يالجن.
موسوعة الأخلاق لخالد عثمان الخراز.


[1] التعريفات للجرجاني ص 104.

[2] موسوعة الأخلاق لخالد عثمان الخراز ص 22 - 23.

[3] دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبدالعزيز الخلف ص 9.

[4] دائرة المعارف للبستاني مادة (دين).

[5] دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبدالعزيز الخلف ص 10.

[6] نحن نتكلم عن الدين السماوي لا الأديان الوضعية، وبالأخص الدين الإسلامي.

[7] الإسلام بين الشرق والغرب للفيلسوف علي عزت ص 193.

[8] علم الأخلاق الإسلامية لمقداد يالجن ص 289.

[9] بناء المجتمع الإسلامي للدكتور نبيل السمالوطي ص 45.

[10] علم الأخلاق الإسلامية لمقداد يالجن ص 288.

[11] أصول الدعوة للدكتور عبدالكريم زيدان ص 49 - 50.

[12] بناء المجتمع الإسلامي للدكتور نبيل السمالوطي ص 45.

[13] علم الأخلاق الإسلامية لمقداد يالجن ص 289.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 108.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 105.39 كيلو بايت... تم توفير 2.81 كيلو بايت...بمعدل (2.60%)]