|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
هل الإنسان مخير أم مسير؟
هل الإنسان مُخيَّر أم مُسيَّر؟ (1) هبة حلمي الجابري سؤال قد يدور في ذهن البعض ممن لم يفهموا معنى القضاء والقدر، وهو شبهة أثارها الكُفَّار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل قالها الكفار لرسلهم من قبلهم، حيث قالوا: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النحل: 35]. فهل الإنسان مُخيَّر أم مُسيَّر؟ وإذا كانت إرادة الإنسان تابعة لمشيئة وإرادة الله فكيف يعاقب على معاصيه السيئة؟ وقد تحتار بعض العقول حين تقرأ قول الله تعالى: ﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النحل: 93]، والآيات بهذا المعنى كثيرة في القرآن، ويطرح هنا العديد من الأسئلة، منها: إذا كان الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء إذًا كيف يحاسب الكافر والعاصي؟وكيف يكون كل ما سيحدث إلى قيام الساعة مكتوبًا مسبقًا في اللوح المحفوظ ثم يحاسب الكافر على كفره والعاصي على عصيانه والمؤمن على إيمانه؟ وحتى نجيب عن هذه الأسئلة نسأل سؤالًا فيه مِفْتاح فهم المقصود: هل الإنسان له إرادة ومشيئة يختار بها أعماله؟ هذا سؤال مهم في العقيدة، والاختلاف في تفسيره أدى إلى ظهور فرق دينية مثل القدرية الذين ينفُون قدر الله تعالى، ويقولون: إن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد، ويجعلون العبد خالقَ فِعْل نفسه، ويقولون: إن الله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه. والجبرية الذين يقولون: إن الناس لا اختيار لهم في أفعالهم، ولا قدرة لهم على أن يغيِّروا مما هم فيه شيئًا، وإنما الأفعال لله سبحانه؛ فهو الذي يفعل بهم ما يفعلونه، وجعلوا هذا مطلقًا في جميع أفعالهم، فإذا آمن العبد أو كفر فإن الإيمان أو الكفر الذي وقع منه، والطاعة أو المعصية، ليست فِعْلَه إلا على سبيل المجاز، وإنما الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه؛ لأن العبد لا يستطيع أن يُغيِّر شيئًا من ذلك. لكن في الحقيقة إن قلنا: إنه ليس للإنسان إرادة ولا مشيئة مطلقة، فهذا يعني أنه مجبور على كل أفعاله، وهذه إجابة خاطئة. وإن قلنا: إن له إرادة ومشيئة فى كل حركاته وسكناته، فهذا يعني أنه المتصرف فى أمر كل شيء في حياته كتنَفُّسه مثلًا، ودقَّات قلبه وجريان دمه إلى غير ذلك من الأعمال، وهذا أيضًا غير صحيح. لذا علينا أن نقسم الأعمال المرتبطة بالإنسان إلى أفعال اضطرارية؛ وهي التي ليس للإنسان فيها قدرة ولا إرادة، بل تقع بفعل الله سبحانه وتعالى دون تدخُّل من الإنسان؛ كدقَّات القلب والدورة الدموية وغيرها من أمور الجسم البيولوجية، فمن رحمة الله أنه لم يجعلها باختيار الإنسان، والحمد لله أنها ليست بإرادتنا؛ لأن الاختيار منوط بالعقل والناس متفاوتون في هذا العقل؛ فالصغير مثلًا عقله ليس كالكبير، فهل يختار أن تكون دقَّات قلبه ١٠٠ دقة في الدقيقة أم 60أم 120؟ فالحمد لله أن لم يجعل أمر أعضاء جسدنا بيدنا. وبالطبع يدخل في الأفعال الاضطرارية كل ما لا يد للإنسان فيه من الحوادث والكوارث وموته وصحته ومرضه ونسبه وغيرها من الأمور القدرية التي لا دخل للإنسان فيها. وهذه الأفعال الاضطرارية يصح أن يقال إن الإنسان مجبور عليها، وهي ليست موضع حديثنا، وإنما موضع حديثنا القسم الآخر من أفعال الإنسان وهي الأفعال الاختيارية؛ كالجلوس والقيام والمشي والصلاة والصوم والكذب وشرب الخمر والقتل وغيرها. فللإنسان إرادة ومشيئة يختار بها فعل هذه الأمور أو عدم فعلها. يختار أن يأكل أو يقلل من كمية الطعام إذا أراد خفض وزنه وقد يختار أن يصوم. يختار أن يشرب عصير برتقال أو فراولة. يختار أن يصلي أو لا يصلي. يختار فعل الطاعة أو المعصية. يختار الكفر أو الإيمان. لكن هذه الإرادة الاختيارية تحت إرادة الله ومشيئته وقدرته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 29]؛ ولذلك نقول إن عقيدة الإسلام الصحيحة تثبت أن لله سبحانه وتعالى إرادة وللإنسان إرادة. فهل هناك علاقة بين الإرادتين؟ إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يكون هناك طفل من زوجين لا بد من أن يريد هذان الشخصان ذلك فيحدث بينهما زواج ثم حمل ثم مولود، وقد يريد هذان الشخصان الإنجاب لكن الله لا يريد ذلك لحكمة هو يعلمها سبحانه، فلا يمكن أن يحدث ما لم يشَأْهُ الله تعالى؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الإنسان: 30]. الفلاح يحرث الأرض ويبذر البذور ويسقيها، وهنا يكون قد فعل ما عليه، ثم ينتظر الإنبات، فمن الذي ينبت الحبة والزرعة؟ إنه الله عز وجل، ولكن مع ذلك يقال للفلاح زارع، ويكون هذا القول صادقًا باعتبار إرادته وفعله، بينما الزارع في الحقيقة هو الله: ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ [الواقعة: 63 - 65]. إذا لا يمكن أن يحدث شيء في هذا الكون إلا بمشيئة الله وإرادته، ومن ثم فإن للإنسان إرادة ومشيئة حقيقية ولها تأثير ولكنها تابعة لإرادة الله عز وجل، فإذا لم يرد الله حدوث ما يريده الإنسان لن يحدث. وفي الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: (يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ).
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: هل الإنسان مخير أم مسير؟
هل الإنسان مُخيَّر أم مُسيَّر؟ (2) هبة حلمي الجابري يتساءل البعض ويقول: كيف تكون مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى، ثم نقر بأن العبد مخيرٌ في أفعاله إن كانت أفعال العبد لن تخرج عن مشيئة الله ولا حيلة للعبد في تغيير المشيئة؟ إن للإنسان مشيئةً ولكنها في نفس الوقت مشيئة تابعة لإرادة الله تعالى، ولا يستلزم من وجود مشيئتين مرتبطتين أن تكون إحداهما مُلغية للأخرى، وأن تكون الإرادة إرادة شكلية. وحتى تتضح العلاقة لنضرب مثالًا: لنفرض أن أمًّا أمرت ابنها أن يجلب لها كوبًا من الماء، فالولد عندما يحضر الكوب لأمه هو يفعل هذا بإرادته – وبالتأكيد الأم أرادت ذلك أيضًا- فهل كانت إرادة الولد خاضعة لإرادة الأم؟ بالتدقيق نجدها بالفعل تابعة لإرادة الأم؛ لأن الولد لو لم يأتِ بهذا الطلب فإن الأم ستؤثر عليه بأحد المؤثرات، فقد تعاقبه بالضرب أو التوبيخ أو حتى نظرة بالعين؛ فتجبر الولد على إحضاره لها بطريقة أو بأخرى، إذًا هو فعل ذلك بإرادته ولكن إرادته تابعة لإرادة الأم. أو لنفرض أن رجلًا طلب من ابنه أن يشتري له شيئًا من السوق، الابن يلتزم بالأوامر ويذهب للسوق بإرادته ومحض اختياره، ووالده أعطاه تفويضًا ليفعل ما يشاء في اختيار هذا الشيء، ولكن إرادة هذا الابن متعلقة بإرادة والده، فما زال هناك سلطة وتأثير يشعر بها هذا الابن داخليًّا، فإذا لم يشترِ هذا الشيء ولم ينفذ أوامر والده فسيُعاقبه بطريقة أو بأخرى. وعندما نتحدث عن العلاقة بين إرادة الله سبحانه تعالى، وإرادة العبد الذي هو الإنسان، فلا بد أن نعرف أن هناك فرقًا كبيرًا بين الذات الإلهية والذات البشرية المخلوقة، بين الخالق والمخلوق، والإعجاز في أن هذه العلاقة بين الإرادتين هي العلاقة الوحيدة بين إرادتين بينهما علاقة ولا يشعر فيها الطرف الثاني بقيد على إرادته الحقيقية التي وهبها الله له. أما كيف يحدث ذلك، فهذا ما لا نستطيع إدراكه؛ لأن صفات الله من سمعه وبصره وإحاطته لمخلوقاته وجميع صفاته سبحانه وتعالى مستعصية على فهم الإنسان، وكيفيتها غير معلومة وغير مفهومة، فكذلك لماذا نستغرب أن تكون علاقة بين إرادة الله سبحانه وتعالى وإرادة الإنسان وهي غير مؤثرة عليها؟ فمن كمال صفات الخالق أن الله سبحانه وتعالى هو السيد الوحيد الذي له إرادة فوق إرادة العبد ولا يشعر العبد بقيد في إرادته. إذًا حتى نعرف الإجابة الصحيحة نحتاج إلى أن نصيغ السؤال بشكل صحيح بحيث نوجهه لأمور نستطيع إدراكها وفهم المقصود منها. هذا السؤال الغرض منه الخوف من وقوع الظلم على العبد، وهل العبد مُحاسَبٌ على ما هو مجبور عليه ابتداءً ولا حيلة له في تغييره؟ أليس كذلك؟ إذًا الصياغة الصحيحة للسؤال: هل العبد مجبور على أفعاله التي شاءها الله تعالى له؟أوهل يجبر الله تعالى عبده على أفعاله ثم يحاسبه عليها؟ وهذا هو ما يهمنا نحن العباد، فكل ما يعنينا هو ضمان العدل، وألا نُحاسَب إلا وفق أعمالنا التي اخترناها بمحض إرادتنا، أما ما يخص مشيئة الله تعالى مثل كيفيتها، وماهيتها، وسببها، فهذا مما ليس من شأننا نحن العباد، كما أنه لا سبيل لنا للإحاطة بالعلم بما يخص المشيئة الإلهية؛ ولذلك نتحدَّث فيما نقدر على فهمه، ونستطيع البحث عنه، والعلم به وفي نفس الوقت فيه الإجابة عن سؤالنا. وحتى نستطيع الإجابة عن هذا السؤال نلقي الضوء سريعًا على الإيمان بالقضاء والقدر ومراتبه، فعندما نسمع أو نقرأ عن هذه المراتب دون فهم لها، قد نقع في كثير من الشبهات، فهيَّا بنا نحاول الوصول للشبهات فيها، ونحاول الإجابة عنها خطوة خطوة. ولنبدأ بالفرق بين القضاء والقدر: في الواقع اختلف العلماء في تعريفهما، وسنأخذ الرأي الذي يقول: إن القدر وهو وضع معالم الشيء وحدوده، والقضاء هو إحكام الشيء وتنفيذه. ويمكننا أن نمثل للفرق بينهما بأن القدر يشبه ما يفعله المهندس الذي يرسم المنشأة ليتصور معالمها، فيكون هذا من باب التقدير، ثم إذا قضى أن ينفذ هذا التصور وذلك التقدير كان هذا من باب القضاء، ولله المثل الأعلى. والقدر له مكونات يتكون منها كي يحدث ذلك القدر، وهي ما يعرف بمراتب القدر، ويمكننا أن نتصور القدر على الشكل التالي: المرتبة الأولى: العلم: فقد علم الله بعلمه الأزلي ما الناس عاملون، وعلم مقادير جميع الخلائق قبل أن يخلقهم. فالله العليم وحده يعلم ما حصل للخلائق منذ بدء الخلق، ولا أحد سواه يعلم، والله وحده يعلم ما يكون الآن وما سيكون في المستقبل على التحديد والتفصيل، والله وحده يعلم بالأمور التي لم تقع لو وقعت كيف سيكون شأنها، والإيمان بعلم الله هو مقتضى الفطرة والعقل السليم. والله ليس عليمًا فقط؛ بل هو العليم الخبير، لو أن إنسانًا برع في صناعة الأجهزة الذكية كالحواسيب حتى ذاع صيته وذاع صيت شركته وأبهر العالم بإتقانه؛ لا شك أننا لن نطلق عليه اسم العالم فحسب؛ بل هو خبير بما يمكن أن تقوم به تلك الأجهزة، ولله المثل الأعلى. فالله سبحانه لم يخلق العالم من العدم فحسب؛ وإنما أتقن كل مصنوع على أكمل وجه، وهذا هو دليل الإتقان المستلزم لعلم الله الأزلي بل ولخبرته بأفعال مخلوقاته كما قال عن نفسه ﴿ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 88]. إذًا نحن متفقون على أن الخالق عليم خبير بخلقه وأحوالهم وأفعالهم، فهل لهذا العلم المسبق دخل في التأثير على فعل العباد؟ المعلم قد يضع أسئلة الاختبار وفيها مسألة صعبة، يعرف مسبقًا بخبرته بمستوى تلاميذه، من منهم له القدرة على حلها، ومن لا يستطيع، فهل معنى هذا أن علمه بحال طلابه كان له تأثير على إجابتهم؟ لو ذهب رجل ليزور صديقه فوجده قد جلس بين أولاده الثلاثة، فأعطى الرجل لكل ولد من أولاده دينارًا، ثم صرفهم، وأعطى كل ولد حريته في ديناره، ثم أقبل على صاحبه، وقال له: أنا أعلم ماذا سيصنع كل واحد بديناره، فقال له: وماذا سيصنعون؟ فقال: أما الأول: فإنه سيدَّخِره كله، ولن ينفق منه فَلْسًا واحدًا؛ فهو محبٌّ للمال، حريص عليه، ولا تأسره شهوته، ولا تجره معدته. أما الثاني: فلن يُبْقِ من ديناره فَلْسًا واحدًا، وسينفق الدينار كله على الثياب؛ فهو مأسور بحب الثياب، مسحور بها، لا يملك نفسه أمام النفيس منها. أما الثالث، فهو متلاف للمال، لا يشتهي شيئًا إلا اشتراه، فسينفق ماله كله على شيء واحد، وهو نوع من أنواع الحلوى اسمه كذا. ثم جاء الأولاد بعد فترة قصيرة فسألهم أبوهم عما صنعوا بأموالهم، فكانت المفاجأة أمام صديقه بأن كل ولد صنع ما حكى أبوه، وكأنه كان ينفذ خطة مدروسة، أو تمثيلية مرسومة. فكيف عرف هذا الوالد ما سيصنعه أبناؤه، أليس من خلال معايشته معهم، وخبرته بهم، ومعرفته التامة بميولهم وأهوائهم وآمالهم وآلامهم؟ أيقال: إن هذا الأب أجبر أولاده على ما صنعوا؟ بالطبع لا. ولله المثل الأعلى، علم ما سيصنع كل عبد في دنياه قبل أن يخلق بمقتضى علمه المحيط، فكان قضاؤه وقدره سبق علم، وليس سبق جبر. إذًا ما كتب في اللوح المحفوظ من باب علم الله سبحانه وتعالى بما سنختار فعله ونفعله، وليس معناه أننا نعمل العمل الصالح أو المعصية؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى كتبها علينا. هذا عن علم الله تعالى بما سيحدث، ولكن ماذا عن المكتوب في اللوح المحفوظ؟ المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: الكتابة: حيث كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. وصور هذه الكتابة متعددة، وليست في اللوح المحفوظ فقط، منها على سبيل المثال: • كتابة الملك لأقدار الجنين وهو في بطن أمه: يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (إنَّ أحدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يبعثُ اللهُ إليه ملَكًا، ويُؤمرُ بأربعِ كلماتٍ، ويُقالُ له: اكتبْ عملَه، ورِزْقَه، وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ؛ ثم ينفخُ فيه الروح). وشقاوته وسعادته المذكورة في الحديث يراد بها ما يتعلق بأمر الآخرة، مع ضرورة الإدراك واليقين التام بأن هذه النهاية المكتوبة عليه لا تؤثر في اختياراته وقراراته؛ لأنه لا يعلم مصيره؛ أي: إن اختياراته وقراراته هي التي حددت مصيره، بمعنى أدق، هو من يحدد إن كان صاحب نهاية سعيدة أم نهاية شقية، والله سبحانه وتعالى بعلمه الواسع يخبر الملك بما سيترتب على اختيارات هذا الإنسان. • ومنها الكتابة اليومية لأقدار الخلائق: يقول تعالى في سورة الرحمن: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]. • ومنها الكتابة السنوية في ليلة القدر: يقول الله تعالى في سورة القدر: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]. وهذه كلها كتابات مستقبلية. • هناك أيضًا كتابة الملكين عن اليمين والشمال: وهي كتابة تتعلق بما حدث في الماضي أو وقت وقوع الفعل. فعل يمكن أن يتغير المكتوب؟ هل يمكن أن يزداد عمر الإنسان المكتوب مثلًا أو ألَّا يحدث القدر المكتوب على الإنسان؟ الكتابة نوعان: نوع لا يتبدَّل ولا يتغيَّر وهو ما في اللوح المحفوظ، ونوع يتغير ويتبدل وهو ما بأيدي الملائكة، وما يستقر أمره أخيرًا عندهم هو الذي قد كتب في اللوح المحفوظ، وهو أحد معاني قوله تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39]. ومن هنا يمكننا فهم ما جاء في السنة الصحيحة من كون صلة الرحم تزيد في الأجل أو تُبسط في الرزق؛ فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)، أو ما جاء في أن الدعاء يرد القضاء (لا يَرُدُّ القَضَاءَ إلا الدُّعاء)؛ رواه ابن ماجه. فيكون مكتوب في صُحُف الملائكة أن فلانًا سيمرض، فيدعو بدعاء، فيعافيه الله ولا يمرض، أو يكون فيها أن عمره ستون سنة، فيَصِل رَحِمَه، فيزيد عمره إلى سبعين سنة. فهذا تغيير لما في صُحُف الملائكة، وهو ممكن لا مانع منه، وليس هذا تغييرًا لما في اللوح المحفوظ، ولا تغييرًا لما في علم الله، فقد علم الله تعالى أنه سيدعو بالدعاء فيُعافى، أو أنه سيَصِل رَحِمَه فيزيد عمره. وهذان -يعني: ما في اللوح المحفوظ، وما في علم الله- لا تغيير لما فيهما. المرتبة الثالثة: المشيئة أو الإرادة: أراد الله سبحانه إنفاذ هذا القدر بعدله وحكمته وقدرته. وإرادة الله نوعان: النوع الأول: الإرادة الكونية: وتتعلق بكل ما يشاء الله تعالى فعله وإحداثه، سواء أحبَّه أو لم يرضه من الكفر والمعاصي؛ مثل جريان الأنهار، ونزول المطر، وإيمان المؤمن، وكفر الكافر، وعصيان العاصي؛ إذًا هي تتضمن كل ما يشاء في هذا الكون من خير أو شر، وهو بإرداة الله سواء أحَبَّه أو كرهه. ولا بد أن تقع هذه الإرادة الكونية. النوع الثاني: الإرادة الشرعية: هي إرادة الله تعالى المتضمنة للمحبة والرضا، فهي تتعلق بكل ما يأمر الله تعالى به عباده ممَّا يحبُّه ويرضاه؛ إذًا هي تتضمن كل ما يحبه الله أن يحدث من العبادات، وهذه الإرادة قد تقع وقد لا تقع، قد يطيع العبد أوامر الله وقد يعصيه، فإذا أطاعه فقد حقَّق الإرادة الشرعية. المرتبة الرابعة: الخلق: خلق للكائنات إرادة بها يفعلون أفعالهم، وفي الوقت ذاته خلق أفعال العباد التي فعلوها بإرادتهم؛ لأن هذه الأفعال مما يحدث في ملكه، وكل ما يحدث في ملكه مخلوق. فقد خلق الله أفعال العباد، الحركات والسكنات، واليقظة والنوم، والأصوات وغيرها، فكل ذلك خلقه الله جل وعلا، حتى وضعك يدك على خدك خلقها الله جل وعلا، والضحك فعل من أفعال العبد، والبكاء فعل من أفعال العبد، والله جل وعلا هو الذي أضحكك وهو الذي أبكاك. هذه هي مراتب القدر الأربعة باختصار، ولا بد أننا توقفنا كثيرًا عند مرتبة الكتابة، فهي التي تثير في عقولنا الكثير من التساؤلات. هذه التساؤلات تثار في عقولنا عندما نقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كتابة أقدار الجنين في رحم أمه كاملًا: (إنَّ أحدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يبعثُ اللهُ إليه ملَكًا، ويُؤمرُ بأربعِ كلماتٍ، ويُقالُ له: اكتبْ عملَه، ورزقَه، وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ؛ ثم يُنفخُ فيه الروح، فإنَّ الرجلَ منكم ليعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ، حتى لا يكونَ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ النارِ، فيدخلُ النارَ. وإنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ النارِ، حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ، فيدخلُ الجنةَ). حديث عظيم قد يتوهم البعض منه أن ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ له دخل في اختيارات الإنسان، وأن التقدير بكونه من أهل النار أو الجنة يؤثر في مصير الإنسان، لكن في الواقع نصوص الآيات والأحاديث يوضح بعضُها بعضًا، وإذا أردنا أن نصل لرؤية حول مسألة ما فلا بد أن نقرأ ونفهم ونجمع بين النصوص الواردة في هذه المسألة كلها، ولا يكفي أخذ الحكم من نصٍّ واحدٍ. وهذه الصورة الموجودة في الحديث يُفسِّرها ويُوضِّحها حديث آخر رواه سهل بن سعد الساعدي نجد فيه: (إنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ الجَنَّةِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ النَّارِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ الجَنَّةِ)؛ فالظاهر للناس غير الباطن الذي يعلمه الله سبحانه. ولنقرأ الحديث الذي رواه البخاري ومسلم كاملًا، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: الْتَقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَاقْتَتَلُوا، فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ مِن الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا، فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالُوا: أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِن الْقَوْمِ: لَأَتَّبِعَنَّهُ، فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ، حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ). قد يكون أمام الناس يصلي ولكنه يصلي رياء، قد يكون أمام الناس يُعَلِّم الناس الشرع لا لله؛ وإنما ليُقال له عالم، يجاهد لا لله؛ وإنما ليُقال عنه شجاع وهكذا. قال ابن القيم رحمه الله في "الفوائد" ص 163: "وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملًا صالحًا مقبولًا للجنة قد أحَبَّه الله ورضيه لم يبطله عليه. وقوله: (لم يبق بينه وبينها إلا ذراع) يشكل على هذا التأويل، فيُقال: لما كان العمل بآخره وخاتمته، لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له، بل كان فيه آفة كامنة ونكتة خُذل بها في آخر عمره، فخانته تلك الآفة والداهية الباطنة في وقت الحاجة، فرجع إلى موجبها، وعملت عملها، ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه... والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض". وقال ابن رجب رحمه الله: وقوله: (فيما يبدو للناس) إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطَّلِع عليها الناس؛ إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت. وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار، وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة. وأما من يعمل بعمل أهل الجنة حقيقة، إخلاصًا وإيمانًا، فالله تعالى أعدل وأكرم وأرحم من أن يخذله في نهاية عمره. بل هذا أهل للتوفيق والتسديد والتثبيت، كما قال تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]، وقال: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، وقال: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90]، وقال: ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 171].
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
رد: هل الإنسان مخير أم مسير؟
هل الإنسان مُخيَّر أم مُسيَّر؟ (3) هبة حلمي الجابري في صحيح البخاري حديث قد يثير التساؤلات: كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جَنَازَةٍ، فأخَذَ شيئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ به الأرْضَ، فَقالَ: "ما مِنكُم مِن أحَدٍ إلَّا وقدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، ومَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ"، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أفلا نَتَّكِلُ علَى كِتَابِنَا، ونَدَعُ العَمَلَ؟ قالَ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، أمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ السَّعَادَةِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ، وأَمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ الشَّقَاءِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ"، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ [الليل: 5، 6] الآيَةَ. سبحان الله! الصحابة أنفسهم يسألون، الصحابة وقع في بالهم ما قد يقع في بال البعض: لماذا نعمل وكل إنسان منا مصيره معلوم إما إلى جنة أو نار؟ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أجابهم إجابة تحتاج إلى وقفة معها: - أولًا: لم يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسألة الكتابة التي سألها عنه الصحابة، وإنما التفت إلى مسألة العمل، فقال لهم: "اعملوا". - ثانيًا: أنه قال: "فكل مُيَسَّر لما خُلِق له"، فذكر مسألة أخرى وهي مسألة التيسير؛ أي: إن وقوع الفعل سيحصل بشيئين اثنين، أو أن هناك محركين رئيسيين للفعل هما: عمل الإنسان، وتيسير الله له؛ أي: ييسره الله إما إلى هذا أو إلى هذا، وقد ذكر الله جل وعلا تيسير الناس إلى ما قدر لهم في قوله: ﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾ [الليل: 4]؛ أي: مختلف متنوع ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: ٥-١٠]، إذًا هذا التيسير تابع لعمل العبد. وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة مسألة الكتابة؛ لئلا يظن الصحابة أن بيدهم وحدهم مقاليد أمورهم، وإنما هم دائمًا محتاجون في ذلك إلى الله تعالى الذي سبق علمه وسبقت كتابته كل شيء، فلا بد مع العمل من استحضار عون الله للعبد والاستعانة به والتوكُّل عليه. إذًا الإنسان في هذا بين العمل وبين تيسير الله له إنما ينتقل من قدر الله إلى قدر الله؛ ولذلك لما قال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت أدوية نتداوى بها ورُقى نسترقيها وتقاة نتقيها - نحاذر ونحتاط - هل تُغيِّر من قدر الله من شيء؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "هي من قدر الله"؛ رواه الترمذي. نضيف في مسألة الكتابة أمرًا مهمًّا وهو إذا قلنا: إن الله سبقت كتابته لمصائر العباد كما في الحديث، وأن هذا في النار وهذا في الجنة، فنفس الكتابة كتبت أن ذلك لن يقع إلا بالأسباب الكونية، ولن تحدث تلك النتيجة إلا إذا حصلت مقدماتها، وهذه المقدمات إنما هي أسباب من فعل البشر. فلو كُتِبَ مثلًا في اللوح المحفوظ أن هذين الزوجين سينجبان ولدًا ثم بنتًا ثم ولدًا، فهل ستقع تلك الكتابة إلا إذا تزوَّج هذا الرجل بتلك المرأة وحصل بينهما اللقاء؟! وفي الحقيقة لا حجة لأحد بأسبقية الكتابة؛ لأنه كما تقدم علم الله وتقدمت كتابته، فكذلك تقدم علمه، وتقدمت كتابته بربط الأسباب بنتائجها، وقد ركز القرآن كثيرًا على هذه القضية؛ قال تعالى عن الماء إنه سبب لا بد منه لإنبات الزرع ولا يكفي أن يكون ذلك مكتوبًا في اللوح المحفوظ، يقول تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ﴾ [ق: 9] والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن. النقطة الثالثة والمتعلقة بطبيعة الكتابة أن الكتابة لا يقوم عليها الحساب وإنما يقوم الحساب على العمل، كما قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [غافر: 17]. ولم يقل الله عز وجل بما كتب لها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ﴾ [الكهف: 49]؛ ولذلك من الخطأ الظن بأن الله يحاسبنا على شيء قد كتبه علينا؛ وإنما يحاسبنا على شيء عملناه بإرادتنا. فعلم الله سابق لا سائق، ولا يحاسب الله الإنسان على علمه وإنما يحاسبه على ما وقع منه بمحض اختياره، وما كان من غير قصد؛ كالجهل والخطأ والنسيان وغياب العقل حتى وإن كان في علم الله هذا الأمر. وما كتب في اللوح المحفوظ فإن الإنسان لا يؤاخذ عليه؛ بل إن رحمة الله سبقت غضبه، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، فهل بعد ذلك من رحمة؟ ثم إن طبيعة هذه الكتابة غيب أخفاه الله عن الخلائق؛ ولذلك ليس لأحد أن يستدل بمجهول على معلوم، هذه الكتابة مجهولة وفعلك أنت الآن معلوم. تمامًا كمن تخبره والدته من كثرة ما رأت من إهماله وتقصيره في دروسه أنه لن ينجح في اختبارات العام الدراسي في هذه السنة، فلما رسب هرول إلى أمه مسرعًا قائلًا: أنتِ السبب يا أمي، فعَلَّق رسوبه على كلام أمِّه. كما أننا نرى الإنسان يحرص على ما ينفعه في أمور دنياه حتى يدركه، ولا نجد شخصًا يترك ما يصلح أمور دنياه، ويعمل بما يضره فيها بحجة القدر، فلماذا يترك ما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟! فلو أن إنسانًا أراد السفر إلى بلد، وهذا البلد له طريقان، أحدهما آمن مطمئن، والآخر كله فوضى واضطراب، وقتل، وسلب، فأيهما سيسلك؟ لا شك أنه سيسلك الطريق الأول، فلماذا لا يسلك في أمر الآخرة طريق الجنة دون طريق النار؟ والقائل بهذا نقول له: لماذا تتزوَّج؟ فإن كان الله قد قضى لك بولد فسيأتيك، وإلا فلن يأتيه، ولماذا تأكل وتشرب، فإن قدر الله لك شبعًا وريًّا فسيكون، وإلا فلن يكون، وإذا هاجمك حيوان مفترس فلا تفرَّ منه، فإن قدر الله لك النجاة فستنجو، وإن لم يقدرها لك فلن ينفعك الفرار، وإذا مرضت فلا تتداوَ، فإن قدر الله لك شفاءً شفيت، وإلا فلن ينفعك الدواء، وهذا بالطبع لا يفعله عاقل. ولو كان القدر حجة على المعاصي والذنوب لتعَطَّلت مصالح الناس، ولَعَمَّتِ الفوضى، ولما كان هناك داعٍ للحدود، والتعزيرات، والجزاءات، والعقوبات، والمحاكم والقضاء؛ لأن المسيء سيحتج بالقدر، ويقول: إن كل ما وقع إنما وقع بقدر الله، وهذا لا يقول به عاقل.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |