|
|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
التنوع الثقافي في عملية الترجمة
التنوع الثقافي في عملية الترجمة أسامة طبش إنَّ من الحقائق التي لا مراء فيها أنَّ المترجم يجد نفسَه أثناء ممارسته لعمله الترجمي، يتعامل مع لغتين، وبالتالي ثقافتي هاتين اللغتين، على اعتبار أنَّ اللغة هي وليدة ثقافة بعينها، وهذه الثَّقافة تنتج من بيئة لها خصائصها المتميزة عن غيرها من البيئات، في إطار التنوُّع الثقافي والإنساني، الذي زودنا به خالِقُنا سبحانه وتعالى، كما تقول الآية الكريمة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]. وتكملة للمقدمة التي أسلفتُها، نؤكِّد بأن الترجمة تخوض معركتها في ظلِّ ثقافتين وبيئتين متنوعتين، وهنا يبرز لنا دور المترجم في ظلِّ هذا التنوع، والصيغة التي يوجدها حتى يتعامل مع هذا الاختِلاف المفروض عليه. وأسوق إلى القارئ الكريم ما يقوله المنظر "جيديان توري Gedeon Toury" في هذا الصدد: (إنَّ الترجمة هي ذلك النشاط الذي لا بدَّ أن يتناول لغتين وثقافتين بشروطهما)؛ إذًا، على اعتبار أنَّ العمل الترجمي يتعامل مع لغتين - لا لغة واحدة حصرًا - فالمترجم بطبيعة الحال يجد نفسه وسيطًا بين الثقافة المَصدَر والثقافة الهدف؛ هذا هو بالضبط الدور المنوط به في عمليَّة الترجمة، فلا يسعى إلى تَغليب الثقافة المصدر على حساب الثَّقافة الهدف؛ حتى لا يثير إشكالًا في ذِهن القارئ، وأيضًا لا يعطي أهميَّة أكبر للنصِّ الهدف على حساب النصِّ المصدر، وبالتالي يقضي على أمانته تجاه لغة وثقافة النص المصدر، هذا ما يبرز لنا عظم المسؤوليَّة التي تقع على عاتق المترجِم، وحساسية مهمَّته في عملية ترجمة النصِّ الذي يتعامل معه. إنَّ "فريدريششلايماخر Schleiermacher Freidrich "، الذي يعدُّ من الذين ينتمون إلى مدرسة الرومانسيين الألمان، يمنحنا قاعدة ترجميَّة، قد تكون قابلة للتطبيق؛ حيث يرى بأنَّ المترجم إما أن يترك النصَّ كما هو ويأتي إليه بالقارئ، وإما أن يترك القارئ على حاله ويأتي إليه بالنص، وكأنه يقول لنا: إنَّنا إمَّا أن لا نعدِّل في النصِّ المصدر ولغته ونحفظ طابع الغرابة فيه؛ سواء من حيث المعنى أو المبنى، ونجلب القارئ إليه حتى يَستزيد من هذه اللغة والثقافة في إطار التبادل الثقافي في الترجمة، أو العكس؛ نترك القارئ على حاله ونأتي إليه بالنصِّ ونحاول تطويعه من حيث الأسلوب وإيجاد المكافآت الثقافيَّة، فيستسيغ النصَّ ويهضمه، ولا يثير في ذهنه التساؤل ولا الغرابة، وبذلك تبلغ الرسالة إليه، ولكن بعد تطويعها وتوطينها بحسب لغة وثقافة القارئ الهدف، وكأننا بـ "شلايماخر" يقول لنا بأن المترجم يتعامل مع عاملين، فيحاول أن يرضي هذا ولا يثير غضبَ ذاك؛ امتثالًا لما تلزمنا به الترجمة من وساطة، في خضم المعترك اللغوي والثقافي الترجمي. وحتى نلقي الضوء أكثر على هذا الموضوع، أتناول كلام المنظر "ماتيو غيدار Mathieu Guidère" حيث يقول: (نلحظ في زمننا المعاصر فصلًا في الأدوار بين الكاتب والمترجم؛ حيث لم يكن موجودًا فيما سبق من زمن، فدومًا كان الكاتب مترجمًا، والمترجم كاتبًا)، لو حلَّلنا هذه المقولة، لوجدنا أنه بالفعل في الماضي كان الكاتب مترجمًا والمترجم كاتبًا، أعود بأذهانكم إلى زمن ظاهرة الخائنات الجميلات Les Belles Infidèles، التي ازدهرَت بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، فكانت الترجمات غاية في الجمال والروعة الأسلوبيَّة إلى درجة أنها تخون النص الأصلي!وهذا ما لا يفلِح في القيام به إلَّا مترجم هو كاتب بالأساس، فيمنحنا نصًّا جديدًا تمَّت ترجمته بتصرف كبير، بغية أن لا يحسَّ ويستشف القارئ الهدف أنَّه ترجمة، ويستسيغه وفق ذوق لغته وما تفرضه عليه لغتُه من ثقافة، بينما في الزمن الحديث - ويمكن تحديده بمطلع القرن العشرين - أصبحت للترجمة نظريَّات، وتأسَّست كعلمٍ قائم بحدِّ ذاته، وهنا تمخض لنا المترجم برسالته ودوره المختلف عن دور الكاتب، فهو لا يتعامل مع القارئ حصرًا، فتنهار الأمانة التي تَقع على عاتقه، بل لديه نص ولغة مصدر، فيمارس دورَ الوساطة ويحاول أن يربط ويثري معارفَ القارئ بالترجمة في أفضل الظروف، دون هضم لحقِّ النصِّ المصدر، ولا إعاقة فهم القارئ الهدف للنص المترجم. تجدر الإشارة إلى أنَّ المفكِّر الكبير الراحل "مالك بن نبي" دومًا كان يكرِّر أن استعمال كلمة ثقافة عند العرب في العصر الحديث، يتم ربطها بترجمتها Culture؛ حيث تتم مماثلتها كما وردَت إلينا من الغرب، وعلى هذا فإنَّ مفهوم الثقافة المتداول حاليًّا، لم يرد بنفس الشكل في اللغة العربيَّة وثقافتها لا قديمًا ولا حديثًا، فلم يرِد هذا اللفظ بصيغته الحالية، ولا مفهومه كان متداولًا، والذي هو مستمد أصلًا كما ورد إلينا، فأخذنا نعمل به ونتداوله في فنون الأدب وغيره من مجالات الفكر والثقافة. من روائع الترجمة أنها تَجعلنا نكتشف عوالمَ جديدة ونسبر أغوارها، وهنا يبرز لنا المترجم كالفارس المغوار في أداء دوره؛ فإن كان مترجما مُتمرِّسًا وحاذقًا، أفلح في عمله وتجاوز عقبةَ التنوُّع الثقافي الذي يَفرضه عليه تنوُّع اللغات، أمَّا إن لم يكن بذلك المستوى الذي يؤهِّله لأن يكون وسيطًا أمينًا، سواء بعدم تمكُّنه من ميدان الترجمة أو إخلاله في الإيفاء بأحد متطلباته، فهنا نَحكم عليه بالفشل، وأنَّه لم يؤدِّ الدور المنوط به في عمله؛ لأن الترجمة أصلًا وليدة لغتين، وهذه اللغة لها متطلَّباتها من ثقافة وبيئة، وقيم وعادات وتقاليد، وهلمَّ جرًّا، فلا سبيل للمترجم إلَّا التعامل مع ذلك، وإلَّا فإنه لن يستطيع القيام برسالته، التي هي مستمدَّة من صَميم الترجمة، في الربط والتواصل والتلاقح بين مختلف الثقافات والشعوب.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |