مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12547 - عددالزوار : 216189 )           »          معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7836 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 62 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859757 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 394088 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 89 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 69 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > ملتقى اخبار الشفاء والحدث والموضوعات المميزة > فلسطين والأقصى الجريح
التسجيل التعليمـــات التقويم

فلسطين والأقصى الجريح ملتقى يختص بالقضية الفلسطينية واقصانا الجريح ( تابع آخر الأخبار في غزة )

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26-03-2024, 01:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام

مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام (1)
محمّد عبد الله دراز



يكاد ينعقد الآن اتفاق المتشرعين من علماء الغرب ومتابعيهم على أن فكرة القانون الدولي العام فكرة حديثة العهد ابتدعتها أوروبا أخيرًا.

هذا الحكم صحيح في الجملة، ويلوح لنا بمنأى عن الجدال ما دمنا نبعد بموضوعه عن محيط التاريخ الإسلامي، فالنظام الدولي لم يكن معروفًا حقيقة في العصر القديم اليوناني والروماني، ولا في العصور الدينية الأولى في اليهودية والمسيحية.
أما العصور الدينية المذكورة فمن الميسور أن نتبين فيها هذا الفراغ، وأن ندرك أسبابه، ذلك أنه حين تأسيس هاتين الديانتين لم يكن أمامهما علاقات دولية تتطلب هذا التشريع، فكان كل نشاطهما مركزًا في بث الدعوة الدينية في نطاق محلى محدود، نعم إن نشر الدعوة الموسوية في بني إسرائيل لم يلبث أن حمل هذا الشعب على الهجرة، وجعله يتصل بأمة مجاورة، غير أن هذه الصلة الوقتية لم تكن إلا صراعًا خاطفًا انتهي إلى استئصال شأفة تلك الأمة وحلوله محلها، ولم يترك لنا التاريخ القواعد التي بني عليها هذا الصراع والتحول.
وأما العصور اليونانية والرومانية القديمة فإن خلوها من هذا التشريع مرده إلى أسباب تختلف عن ذلك كل الاختلاف، فليست المسألة مسألة انقطاع الصلة بين هاتين الدولتين وبين العالم الخارجي، إذ أن تلك العلاقات الخارجية لم تعوز هاتين الدولتين يومًا ما، ولكن نظرتهما نفسها إلى الحياة لم تكن لتسمح لهما يوضع تشريع كهذا، ذلك أن فكرة القانون الدولي تفترض قبل كل شيء الاعتراف بضرب من المساواة واشتراك المصالح وتبادل الحقوق والواجبات بين مختلف الأمم. وهذا لم يكن ليتفق والنظريات اليونانية والرومانية. فأما قدماء اليونان فإنهم، وإن كانوا يتعاملون فيما بينهم على قدم المساواة أو يكادون -على رغم الصراع الدائم بين مملكتي أسبارطة وأثينا- كانوا ينظرون إلى الشعوب غير اليونانية نظرتهم إلى كائنات جد منحطة، حتى أن أرسطو كان يرى أن البرابرة (ويعنى بهم الأجانب) ما خلقوا إلا ليقرعوا بالعصا، ويسلبوا ويستعبدوا، وكذلك كان الأمر في التشريع الروماني، فإنه لم يكتف بأن وضع نوعين متباينين من القوانين، أحدهما: للمواطنين (القانون المدني) والآخر: لسكان البلاد الممتلكة (قانون الشعوب)، بل إنه لم يكن يعرف في الصلات الخارجية إلا قانون القوة الباطشة، فلم يجعل للأمم الأخرى حقًا في دفاعها عن نفسها، ولا في أمنها ودعتها، وإنما كان دستورها في نظره: العبودية أو الفناء، وإذا كان قد اتفق لروما في بعض الأحيان أن وضعت معاهدات سلمية على وجه دون وجه، فلم يكن ذلك راجعًا إلى أن هناك قانونًا يقضى بهذا الشرط المعين أو ذاك، بل كان مصدره محض التفضل أو السعي وراء الأغراض والمنافع.
ولو أننا بحثنا فكرة القانون الدولي في أوروبا في العصور الحديثة ما وجدنا كبير فرق بينها وبين تلك العصور الأولى، على رغم التقدم الفعلي في تدوين قواعد هذا التشريع العام، ذلك أن فكرة تساوى الناس أمام القانون -تلك الفكرة التي طالما طالبت بها الشعوب وتشدقت بها الحكومات- لم تتخذ بعد في نظر الغربيين صبغة القانون العام الشامل، ألم يقل استيوارت مل باستحالة تطبيق القانون على الشعوب الهمجية؟ أو لم يحدد لوريمير على وجه الأرض مناطق ثلاثًا تخضع كل منها لقانون مختلف؟ فالعالم المتمدين يجب أن يتمتع في نظره بحقوق سياسية كاملة، والعالم نصف المتمدين يكفي أن يتمتع بحقوق سياسية جزئية، بينما الشعوب غير المتحضرة ليس لها إلا حقوق عرفية لا تحمل إلزامًا قانونيًا.
وجاء ميثاق عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى فأقر هذا التقسيم الثلاثي وأكسبه سلطة القانون، بل لقد فرق في قلب المدنيات الأوربية نفسها بين الحقوق السياسية للدول الكبرى والدول الصغرى، وأيًا كان فإن منظمة السلام هذه لم تحظر غزو منشوريا، ولا فتح بلاد الحبشة. وأخيرًا شكلت جمعية الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، فماذا رأينا؟ أليس روح التفريق وعدم المساواة لا يزال مسيطرًا فيها على عقول السادة الذين يتحكمون في مصير الإنسانية؟ أنه لا حاجة بنا إلى محاولة إقامة البرهان على ذلك، فهذه الحوادث التي تجرى تحت سمعنا وبصرنا، وهذه الحلول العرجاء التي تطبق عليها في أحضان هذه الجمعية الحديثة تنطق -بأفصح بيان- بأن الضعفاء والمظلومين الذين كانوا يبنون آمالهم على مثل هذه المؤسسات لم ينلهم حتى الآن إلا حسرات تتلوها حسرات!
* * *
إذا أردنا أن نظفر بتشريع دولي عام يصطبغ بالصبغة العالمية الحقيقية، فعلينا أن نصعد بذاكرتنا إلى عصر رسول الإسلام.
كلنا نعرف أن محمدًا، عليه الصلاة والسلام، لبث في الدعوة زهاء عشر سنين في اتصال دائم بأمم وديانات معادية طورًا ومسالمة طورًا، وطبيعي أن هذه الظروف الخاصة التي جعلت للإسلام سلطانًا زمنيًا وحكمًا عالميًا -إلى جانب كونه عقيدة روحية، ومبدأ أخلاقيًا- كانت تتقاضاه أن يضع تشريعًا لقانون السلم والحرب بين الأمم، فماذا فعل؟ وهل كانت إجابته لهذه الحاجة الملحة شافية لغلة المتشرعين، مرضية للضمائر السليمة لدى الحكماء وذوي الخلق الكريم؟.
لا شك أن دراسة مستوعبة لهذه الناحية من التشريع الإسلامي تتطلب بحثًا عميقًا، لا للعهود والأقضية النبوية وحدها، بل للمعاهدات التي وضعها الخلفاء والملوك الإسلاميون أيضًا في غضون التاريخ، ولكنه ليس من غرضنا في هذا البحث أن نجعل مجال بحثنا بهذه المثابة من السعة والاستقصاء، وكل ما يعنينا الآن هو أن نستخلص ما في القرآن والسنة النبوية من المبادئ الأساسية والخطوط الأساسية الرئيسية في هذا الشأن.
1) تصحيح خطأ مشهور:
وقبل كل شيء يجب أن نصحح خطأ ذائعًا في الأوساط الأوربية، وهو الزعم بأن الشعوب الإسلامية يباح لها -بل يجب عليها امتثالًا لدستورها الديني- أن تحمل السلاح لإكراه الناس على الإسلام، وسحق الشعوب الأخرى التي لا تعتنق هذا الدين.
لئن كان هذا الرأي حقًا وجب أن تمحى كلمة القانون الدولي من التشريع الإسلامي إذ لا يبقي لها فيه مدلول تشير إليه، ولا يبقي لغير المسلمين أمامه حق يطالبون فيه بحرياتهم ولا بحياتهم.
ولكن الرجوع إلى نصوص القرآن الكريم يكشف لنا عن الحقيقة التي تخالف هذا الزعم على خط مستقيم، فالقرآن لا يكتفي بأن يحظر -حظرًا أدبيًا- كل محاولة لإكراه الناس على الإيمان [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] [البقرة: 257]، بل يقرر أنه من المستحيل وقوعيًا أن يسيطر على العالم دين واحد [وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ([هود: 118]، [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] [يوسف: 103]. ألا تكون محاولة فرض عقيدة واحدة على الناس -والحالة هذه- ضربًا من التناقض والإحالة الظاهرة؟ إن القرآن لم يفته أن يبرز ما في هذه الغاية الطموحة من غرور خداع، وذلك حيث يقول: [{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].
ومن هنا نرى كتاب الإسلام المطهر يحدد رسالة نبيه بأدق ما يكون من العبارات الحاصرة، مبينًا أن مهمته إنما هي الموعظة والتذكير {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22] بل إن هذه الدعوة السلمية نفسها لم يتركها القرآن حتى رسم حدودها وطريقتها، وأوجب أن تؤدي بأكرم أسلوب، ومن ألطف طريق: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46].

ورب قائل يقول لنا: سلمنا أن كل إكراه ديني يجب أن يستبعد من أهداف الإسلام، فما الذي يمنع أن يكون من بين هذه الأهداف فكرة الفتح والتوسع التي يكون المسلمون قد دفعوا إليها بسبب من الأسباب الأخرى كداعية الثروة الاقتصادية أو الاستعلاء السياسي، أو غير ذلك؟ فلندع القرآن يقدم لنا الجواب عن هذا السؤال، وها هو ذا يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
هكذا يقضى القرآن في حزم على تلك الروح الاستعمارية الجبارة، وبوجه عام على تلك النزعة المادية المتطرفة التي انتشرت انتشارًا وبائيًا في عصرنا هذا، والتي هي المنبع الأول لكل ما نشكو منه الآن.
ولكن هل نأخذ من كل ما تقدم أن الحروب ليس لها وجود قانوني في نظر الإسلام؟
هيهات! فها هي ذي نصوص القرآن، لا تجعل الجهاد عملًا فاضلًا فحسب، بل تعده غالبًا من الواجبات الأولية.
فالسؤال الذي يجب وضعه الآن هو هذا: ما الأحوال والشروط التي يبرر بها الإسلام اتخاذ تلك المواقف الحربية، ويجعلها حقًا مشروعًا؟
***
(*) نُشر هذا البحث في مجلة دراسات عربية وإسلامية والتي تصدر عن مركز اللغات الأجنبية والترجمة التخصصية بجامعة القاهرة في العدد رقم (54) سنة 2015.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26-03-2024, 01:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام

مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام (2)
محمّد عبد الله دراز

2) تعريف الحرب المشروعة:

ليس من غرضنا قط أن نعمل الفكر والقياس الدقيق للتوفيق بين هاتين المجموعتين من النصوص القرآنية المتعارضة في الظاهر. فالنص القرآني نفسه يعفينا من هذه المهمة بما يقدمه لنا من الصيغ المحددة للمقصود: تمييزًا بين الحرب المشروعة، وغير المشروعة، وإليك طائفة من هذه النصوص:
  • {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
  • {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 192، 193].
  • {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90].
  • {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
واقرأ على الخصوص آية براءة التالية، فإن تحديدها لأهداف الإسلام في هذا الشأن أوضح وأصرح: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13].
ومن هذه النصوص التي سردناها، ومن نصوص كثيرة أخرى، يخلص لنا تعريف الحرب المشروعة في الإسلام، وأنها هي الحرب الدفاعية.
ويجعل بنا أن نشير إلى أن كلمة الدفاع، ينطوي تحتها نوعان قد أشار القرآن إلى كليهما:
1) الدفاع عن النفس:
وفيه يقول الكتاب المجيد:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} ( [الحج: 39، 40].
2) الإغاثة الواجبة لشعب مسلم أو حليف عاجز عن الدفاع عن نفسه:
وهذا هو ما حث عليه القرآن في قوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75].
وغني عن البيان أن المفروض في كلتا الحالتين أن يكون العدو قد اتخذ بالفعل موقفًا عدائيًا، وأن يكون في حالة هجوم أو تأهب للهجوم. فالمظاهر غير الودية والإساءات الأدبية، والمقاومات العنيدة لأمانينا المشروعة، كل ذلك لا يسوغ لنا أن نتخذه ذريعة لإعلان الحرب. وإنه لمن أكبر مفاخر الإسلام أن يكون القرآن نفسه هو الذي وضع هذا التحديد في صراحة حيث يقول: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
3) الصلح المجحف خير من الانتصار الدامي:
من هنا نرى أن الحرب في نظر الإسلام شر لا يلجأ إليه إلا المضطر. فلأن ينتهي المسلمون بالمفاوضة إلى صلح مجحف بشيء من حقوقهم، ولكنه في الوقت نفسه يحقن الدماء، خير من انتصار باهر للحق تزهق فيه الأرواح.
وإن لنا في موقف الرسول في غزوة الحُديبية لنموذجًا حسنًا لهذا الروح العالي في التسامح والصفح، حرصًا على السلام من جانب الطرف الأقوى، فهو لم يكتف بالرجوع مع جيشه من حيث أتوا، وبتأجيل ما كانوا أجمعوا على أدائه في ذلك العام من المناسك زيارة الأماكن المقدسة.. لم يكتف بأن رضي بتجريد اسمه في نصوص الهدنة من كل لقب تشريفي هو أهله، ولكنه فوق ذلك كله، قبل مختارًا مقترحات الهدنة التي لا يعامل فيها الطرفان على قدم المساواة، بل تخول للأعداء حقوقًا لا تخولها للمسلمين، ناهيك بالشرط الذي يلزم المسلمين بإعادة من يلجأ إليهم فرارًا من معسكر قريش، بينما يجعل للهاربين من معسكر المسلمين حق البقاء في معسكر قريش دون إزعاج ولا رد! ونحن نعرف كم كان هذا الموقف البالغ الحدة في المسألة مثيرًا لاستفسارات الصحابة واعتراضاتهم، ولكن كل هذه المآخذ لم تكن لترجح كفة الحرب في نظر قائدهم الأعلى، ولم تكن لتعدل به عن طريق السلام الذي يحفظ به دماء الناس وأرواحهم، ولنستمع له حين يقول مصممًا في جواب السائلين له عن السر في هذا العدول عن دخول مكة: والله لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم، إلا أعطيتهم إياها.
4) قواعد الحرب:
هكذا يوصينا الإسلام بالمصابرة ما بقي في قوس الصبر منزع، ويخولنا حق الالتجاء إلى القتال، إلا حيث يفرضه علينا العدو فرضًا، وحيث يكون القعود معناه الإلقاء باليد إلى التهلكة.
لكنه -حتى في هذه الحال المشروعة- لا يبيح لأحد أن يخوض غمار الحرب منقادًا بسورة الغضب، أسيرًا لغريزة الانتقام، دون تعقل ولا عاطفة إنسانية، بل يوجب أن يسير فيها الجيشان، وفق قانون معين يضبط هذه الانفعالات وينظمها.
فلنعرض الآن بعض تلك التعاليم التي أراد الإسلام لا أقول أن يمحو بها إلى الأبد تلك الكارثة العالمية، فذلك ما لا يمكن تحقيقه ما بقي على الأرض شريرون لا يقمع نشاطهم الإجرامي إلا بالقوة- ولكن أراد الإسلام بها تضييق مجال الحروب، وتخفيف عواقبها الوخيمة:
أ. الأهداف الحربية:
رأينا كيف أن القرآن حين أباح الحرب الدفاعية المشروعة قد ميز تمييزًا واضحًا بين المحاربين وغير المحاربين، فأمر بألا يقاتل إلا المقاتل. ولابد أن نفهم كلمة المقاتلين: أنهم الذين يحضرون ميدان القتال بالفعل، ويستخدمون فيه قوتهم العدوانية.
لقد استرشد التشريع الإسلامي بتعاليم النبوة في هذا الشأن، فحدد هذه الشرط على وجه يزيل كل لبس، ويكفل إبعاد شرور الحروب عن الضعفاء، ويجنب المدنيين كل ويلاتها، فالأطفال والشيوخ والنساء والمرضي والمعتوهين، بل حتى الفلاحون في حرثهم والرهبان في معابدهم(1) كل أولئك معصومون بحصانة القانون من أخطار الحروب.
والذي يلفت نظرنا بوجه خاص في هذا المقام هو حرص الإسلام، لا على حماية هؤلاء الضعفاء من الأضرار المادية فحسب، بل على حمايتهم أيضًا من التعرض لكل ألم نفسي. يبدو لنا ذلك جليًا بتأمل المثال التالي الذي ترويه لنا الآثار عن واقعة خيبر، ذلك أنه حين انتهى حصار هذه المدينة بنصر المسلمين، وقعت امرأتان يهوديتان في أسر بلال فمضى بهما بلال إلى مركز القيادة، مارًا بميدان المعركة حيث سقطت جثث القتلى من اليهود، وكان لهذا المشهد أثره العميق في نفس إحدى الأسيرتين، فصاحت وأجهشت بالبكاء، وما أن علم النبي بسلوك بلال هذا، حتى استنكر فعلته، ووجه إليه اللوم العنيف قائلًا له: هل نزعت منك الرحمة يا بلال حين تمر بامرأتين على قتلي رجالهم؟.
وينساق بنا الحديث في هذا المعنى إلى التنويه بالقاعدة الإسلامية المتعلقة بأسرى الحرب والتي تحرم الفصل بين المرأة الأسيرة وأبنائها، وتوجب الجمع بينهم في مكان واحد، فيا لها من عناية رحيمة حتى في معمعة البأس!
ب. النهي عن حبس الطعام عن المدن:
ويظهر أن الإسلام لا يستحسن -بل لا يبيح- فرض حصار يرمي إلى حبس الطعام عن مدن الأعداء، أو أن هذا على الأقل، هو ما تدل عليه حادثة ثمامة (أحد أشراف بني حنيفة)، فقد صمم هذا الرجل وهو في حداثة إسلامه، وأقسم مندفعًا بحرارة إيمانه الغض على منع تموين مكة بالحبوب التي كانت تنتجها بلاده (اليمامة) ما لم ينهه النبي عن ذلك نهيًا صريحًا، فلما عاني أهل مكة ما عانوا من بأس هذا الحصار وجهوا إلى النبي رسالة موجزة يقولون فيها: إنك تأمر بصلة الرحم، ولكنك قطعت أرحامنا فقتلت الآباء وجوعت الأبناء، فبعث النبي على الفور إلى ثمامة يأمره برفع هذا الحظر، وبأن يدع أهل مكة يتمتعون بمواردهم العادية.
ج. تقييد مرمى الأسلحة:
ومن ثمرات القاعدة التي توجب حصر العمليات الحربية في الأهداف العسكرية: النهي عن استعمال الأسلحة البعيدة المدي، خاصة كل وسيلة عامة للتدمير كالتفريق والتحريق.
د. حظر وسائل الانتقام الوحشية:
يستنكر القرآن في أكثر من موضع تلك العادة الهمجية التي يشيع استعمالها في أثناء الحروب، ألا وهي تعذيب الأعداء ومعاملتهم بالقسوة والخشونة. وأنه ليصل في استنكار هذه الفعلة إلى حد أن يعد تعذيب العدو أشد جرمًا من القتل: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]، {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
ثم إننا نجد تعاليم الرسول التي كان يوجهها إلى قواد حملاته الحربية زاخرة بنصائحه لهم على النظام وحسن السلوك في قتالهم. ومن بين هذه النصائح: تحذيره المتكرر لهم من السلب والنهب والقتل غدرًا، التمثيل بجثث القتلى. نعم إنه ذات مرة اشتد غضبه من أهل مكة لتمثيلهم بجثة عمه حمزة الذي استشهد في غزوة أحد، وحمله ذلك الغضب على التفكير في مضاعفة الانتقام منهم في واقعة مقبلة، ولكن القرآن لم يلبث أن نفره من هذه المحاولة، محذرًا إياه من مجاوزة الحد في الانتقام، مرغبًا له في الصبر والصفح {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 126، 127]، فلم يسع النبي عليه الصلاة والسلام إلا العدول عن هذه الفكرة، واختار ما هو أليق بخلقه الكريم، فشمل مجرمي الحرب هؤلاء بكرمه وصفحه.

ولقد بلغت به دقة تطبيقه لحكم القرآن الذي يأمر بالعفو عن الأعداء متي انتهوا عن عدوانهم أن نهي عن تعقب من يفر منهم من الحرب، فما بالك بمن يلقي سلاحه ويتقدم إلينا في صراحة بعبارات السلام والاستسلام؟ إن القرآن ليحرم علينا إيذاءه تحريمًا قاطعًا حتى لو كان ذلك بحجة الشك في صدق إيمانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94].
تلك كلها أدلة ملموسة على أن الإسلام لا يرمي قط إلى القضاء على أعدائه، ولا إلى الاستيلاء عليهم بالقهر، ولكن إلى تجنب خطرهم، فمتي تحقق هذا الغرض لم يبق للصراع في نظره مبرر.

هـالهدنة الإجبارية في الأشهر الحرام:
وهذا أسلوب آخر من أساليب تخفيف ويلات الحروب فنحن نعرف مدى ما تستنفذه الحروب الطويلة الأمد، من جهود الشعوب وقواها، وكيف أنها تصيب نشاطها التعميري بالجمود والشلل. وعلاجًا لهذه الحال سن القرآن، أو بالأحرى أحيا تلك السُنَّة القديمة التي توجب عدم استمرار الحروب حولًا بأكمله، فتقرر في أثنائه هدنة جبرية تعود فيها العلاقات السلمية، وتأخذ الحياة مجراها الطبيعي بين الأمم في مدة أقلها أربعة أشهر، هذا الوضع الذي تكف به أعمال الحرب جبرًا خلال ثلث العام لا تنحصر مزيته في إشعار المتحاربين بلذة السلم في هذه المدة فحسب، بل إنه بما يتركه من الأثر في نفوس الجماهير يثبطهم عن الشر، ويغريهم بإطالة أمد الصلح، وتحويله من هدنة مؤقتة إلى هدنة حقيقية، أو إلى سلم دائم.
و التسامح:
من أنواع العلاج الواقي الذي يوصي به ساسة الغرب في العصور الحديثة منعًا لنشوب الصراع بين الدول: مشروع منع التسلح أو تقييده، غير أن هذا العلاج لم يتخذ قط حتى الآن صفة القانون الدولي ولم تطبق مبادئه تطبيقًا عادلًا على الجميع، وإنما كان يفرض على المغلوب وحده، بل يمكن القول بأن تطبيق هذا المبدأ الذي يتعارض وغريزة البقاء سيظل دائمًا حلمًا مستحيل التحقق.
أما القرآن فإن نظرته الواقعية النفاذة جعلته على العكس من ذلك، يحضنا على أن نعد للطاغين كل ما استطعنا من قوة، على أن تلك النظرة الواقعية إلى الوسائل التي يجب اتخاذها لم تكن لتحول دون نظرته التالية إلى الغايات العليا التي يهدف إليها من وراء الاستعداد الحربي، وهي غاية تختلف كل الاختلاف عن الغايات التي يسعى إليها الغزاة الطامحون. فالمسألة في نظر القرآن ليست مسألة للهجوم على الأعداء، بل التحصن من شرهم، وإنذارهم بالقوة الباطشة التي تنتظرهم إذا لم يقفوا عند حدهم {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26-03-2024, 01:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام

مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام (3)
محمّد عبد الله دراز

5) العلاقات السياسية:

ههنا يكمن أنجع علاج في نظرنا لآلام الإنسانية الحاضرة، فليس الشأن في أن نقلل من مقادير عتادنا الحربي، أو نغير من طبيعته، وإنما الأمر في أن نعدل أسلوبنا الفكري من أساسه.. علينا أن ننظر إلى الحياة نظرة جديدة تخضع فيها المادة للروح، وتسمو فيها المعنويات على الجثمانيات، وكل حل ينقصه هذا العنصر، إنما هو حل سطحي واه لا بقاء له.
رأينا في الأسطر القليلة السابقة كيف نظم الإسلام حالة الحرب. فلننظر الآن كيف نظم علائق السلم:
وأول ما يعنينا من ذلك طريقة معاملته لمبعوثي أعدائه، وحاملي رسائلهم، وممثليهم السياسيين، وهي معاملة يحق لنا أن نقول فيها إنها سديدة مستقيمة. فالإسلام فوق ما يكفله لهم من صيانة وأمن على الأرواح يمنحهم نوعًا من الحصانة الاجتماعية التي تخولهم حرية العودة إلى أوطانهم متى شاءوا، ولا يدع سبيلًا إلى حجزهم في بلادنا بحجة أنهم قوم، عدو لنا.
هذا هو أحد الأدلة الساطعة على أن هدف الحرب الإسلامية ليس هو محو الديانات الأخرى، فها نحن أولاء نراه على العكس من ذلك يحرص على تحصين أبناء تلك الديانات وحماية رؤسائها -الذين هم أبرز من يمثلها- من كل عدوان ما داموا بعيدين عن إشعال نار الحروب.
يلي ذلك طريقته في الاستماع لهؤلاء المفاوضين وحسن استعداده للتفاهم والتعاقد معهم. فالقرآن يحض الرسول على قبول مبدأ الصلح متى وجد من العدو ميلًا إليه {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61].
أما شرائط الصلح وطرائقه، فقد رأينا بصدد هدنة الحديبية، كيف أن روح المسالمة التي تعمر قلب رسول الإسلام، قد جعلته يضحي بكثير من التفاصيل المتعلقة بألقابه الأدبية، وبالسمعة الحربية لجيشه، وببعض الحقوق الفردية لأتباعه، على أنه ليس معنى ذلك أنه يوجب قبول كل اقتراح من جانب الأعداء، مهما كان شاذًا، أو ضارًا بحقوق الأمة والأجيال المقبلة، فقد رأينا هذا الرسول الرحيم نفسه حين عرض عليه مسيلمة الكذاب تقسيم الأرض بينه وبينه يرفض {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128].
فإذا نحن درسنا الوثائق التي تركتها لنا السير عن العلاقات السياسية النبوية استطعنا أن نتبين فيها أنواعًا مختلفة من المواثيق!
أ. إعلان الأمن والحماية:
لعل أبسط العقود السياسية هو التصريح الذي يصدر من جانب واحد، ولا يلزم إلا الطرف الذي أصدره، كإعلان دولة ما: أنها تلتزم الأمن والحماية لدولة أخرى.. وأننا لنجد من هذا النوع مثالًا واضحًا في ذلك العهد الذي أعطاه النبي لأهل سوريا ومن معهم في أثناء غزوة تبوك، وضمن لهم فيه حرية انتقالهم، وأمن قوافلهم البرية والبحرية، وحرية استعمالهم للطرق ومجاري المياه على شريطة واحدة، وهي ألا يثيروا على المسلمين شغبًا.
ب. ميثاق عدم الاعتداء من الجانبين:
لكن المعاهدة بالمعنى الصحيح تتطلب اتفاقًا وتبادلًا للمنافع يقبله طرفا العقد جميعًا، وأن أقل ما يتحقق فيه هذا النوع من العهود، هو التعاقد الذي لا يتضمن إلا التزامات سلبية تنحصر في امتناع كلا الطرفين عن كل فعل ضار بالآخر. وقد نقل لنا المؤرخون أمثلة لمواثيق من هذا النوع عقدها النبي والتزم فيها الطرفان -إما المدة غير محصورة، وإما إلى أجل معلوم- ألا يهاجم أحدهما الآخر، ولا يحالف عدوًا له، ولا يساعد معتديًا عليه. فمن هذا القبيل ميثاقه إلى أجل غير مسمى مع بني ضمرة في السنة الثانية من الهجرة، ومنه أيضًا ميثاق الهدنة التي عقدها مع قريش في السنة السادسة من الهجرة لمدة عشرة أعوام.
ج. المحالفة:
على أن الحقوق والواجبات المتبادلة إنما تبرز في أكمل مظاهرها في عهود الحلف، ومن أمثلة هذه العهود في حياة الرسول: هاتان المحالفتان اللتان مهد لهما صلح الحديبية، حيث خول كلًا من الفريقين أن يختار حليفًا له من بين القبائل العربية، فاختارت خزاعة أن تحالف محمدًا، واختارت بنو بكر أن تحالف قريشًا، ولقد كان من نتائج تطبيق هاتين المحالفتين أن نهض المسلمون في السنة الثامنة لنجدة خزاعة حين نقضت قريش عهدها بإزائها، وينبغي أن يلاحظ أن هذا النقض لم يكن بقتال مباشر موجه علانية لخزاعة، وإنما كان معاونة سرية بالمال والسلاح لبني بكر عليها، ومن هنا تعرف وجهة نظر الإسلام في هذه النقطة القانونية.
د. الإعارة والتأخير:
وهذا مثال طريف لنوع من المواثيق لا نجده بعد إلا في العصر الحديث: ذلك هو العهد الذي أعطاه النبي لنصارى نجران باليمن، وهو وإن كان عهدًا مليًا أكثر منه عهدًا دوليًا، إلا أن فيه شرطًا يذكرنا بميثاق الإعارة والتأجير الذي عقدته الولايات المتحدة الأمريكية مع بريطانيا لتموين الجيوش الإنجليزية في الحرب العالمية الثانية.
6)الوفاء بالعهود:
فهذا العهد النبوي إذا نظرنا إليه من وجهتيه الاجتماعية والدينية، نراه يلتزم للنجرانيين بحرية عقيدتهم وعبادتهم، وسلامة معابدهم، وعدم المساس بمساكن كهنتهم ما داموا لا يحدثون اضطرابًا، ولكن الناحية الاقتصادية لهذا العهد أكثر طرافة، فإنه ينص على ضرورة تقديم مساعدة مادية معينة منهم للمسلمين في حالة حدوث نزاع بين المسلمين، وبين طرف ثالث في اليمن، ومن بين هذه المساعدات: إعارة جيش المسلمين ثلاثين وحدة من كل صنف من أصناف السلاح، على أن يقوم المسلمون برد هذه الأسلحة إلى حلفائهم النجرانيين بمجرد انتهاء الحرب.
وبعد: فإن من المقرر المعترف به عند الجميع أنه يجب على طرفي العقد -مهما كان نوع المعاهدة التي بينهما- أن يحافظا بدقة وأمانة على تنفيذ كل شروط الميثاق بنصها وروحها.
غير أن هذا الالتزام يأخذ في نصوص القرآن طابعًا خاصًا من التشديد ومن القدسية يجعله فرضًا دينيًا بالمعنى الحقيقي. فالميثاق الذي يعقده المسلم لا يرتبط به أمام الناس فحسب، بل إنه يعقده في الوقت نفسه بينه وبين الله تعالى، إذ يجعل المسلم ربه شهيدًا وكفيلًا على عقوده والتزاماته، ومن هنا يصبح احترام هذه الالتزامات أمرًا متغلغلًا في النفوس، متصلًا أوثق اتصال بعقد الإيمان، بحيث لا يبقى لقوة في الأرض أن تحلله منه، سواء في ذلك دوافع المنفعة أو طلب النفوذ، أو زيادة الرخاء، أو المجال الحيوي، أو التوسع الاقتصادي، أو التوازن السياسي، أو غير ذلك.
وإلى هذا كله يشير القرآن حيث يقول: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} [النحل: 91، 92].
فإذا نحن رجعنا إلى السنة النبوية وجدناها قد بلغت من الدقة في تطبيقها لهذه التعليمات القرآنية مبلغًا يكفي في وصفه أن نورد بعض الأمثلة منه:
كان أبو جندل من المسلمين المحصورين في مكة، فبينما كانت تكتب شروط صلح الحديبية أقبل يرسف في قيوده ليقيم مع المسلمين، وإذ كانت هذه المعاهدة لم توقع بعد، كان من الممكن ألا يطبق عليه شرط رد اللاجئين، ولكن ممثل قريش عارض في ذلك بحجة أن الاتفاق الشفوي قد تم آنفًا قبل قدوم هذا اللاجئ، فصدقه النبي، صلى الله عليه وسلم، وتركه يأخذ بتلابيب المهاجر ليرده إلى مكة، ولم يكن صياح أبي جندل وشكواه وإعلان خوفه من أن يفتنه المشركون عن دينه إذا رجع إليهم، ولا الألم النفسي الذي أصاب المسلمين بسبب هذا التنازل -لم يكن كل ذلك- ليغير من موقف النبي، وما زاد على أن قال: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، ولكننا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك عهدًا، وإننا لا نغدر بهم -أو- وأنه لا يصلح في ديننا الغدر، ولقد تكرر مثل هذا الحادث بعد في شأن أسير آخر وهو أبو بصير، وكان الحل هو الحل.
وإليك مثال من نوع آخر كان القادم فيه من المشركين لا من المسلمين، وجاء مبعوثًا لا هاربًا، ذلك هو أبو رافع الذي قدم برسالة من قريش إلى النبي، فما هو إلا أن رأي النبي حتى وقع في قلبه الإسلام وأراد ألا يرجع إلى قومه، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: أنا لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد.
بل هناك ما هو أعظم من ذلك دلالة على قدسية العهود والمواثيق في نظر رسول الإسلام، وأنه لم يكن حرصه على الوفاء بعهوده أشد منه على وفاء أتباعه بعهودهم الشخصية، مهما شقت على ضمير المؤمنين، ومن أطرف الأمثلة في ذلك وأشدها غرابة حادثة حذيفة وأبيه، فقد كانا قطعا على نفسيهما لبعض الأعداء عهدًا -بدون استئذان الرسول- ألا يقاتلاهم، فلما جاء وقت القتال استفتيا في ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فما كان جوابه إلا أن قال: انصرفا ففيا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم.
  • قطع العلائق السياسية:
هناك شرطان فقط لابد منهما في نظر القرآن لإباحة نقض حلف سابق:
1. هذا النقض لا يصح أن يحدث اعتباطًا وابتكارًا من قبلنا تحت تأثير الأغراض والمنافع، أو بباعث الهوى والعاطفة، بل لابد أن يكون مسبوقًا باستفزاز من قبل الخصم، وبأمارات تدل على أنه ينوي خيانة العهد.
2. ولا يصح أن يكون قطع العلائق عمليًا فقط، وبدون سابق إنذار، وإلا كان غسلًا للخيانة بالخيانة، بل لابد أن يكون نبذًا للمعاهدة صريحًا واضحًا، وأن يصل إلى علم الخصم في الوقت المناسب ليكون على بينة من نيتنا نحوه حتى نكون وإياه سواء في ذلك، هذا هو صريح نص القرآن {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].

3. خاتمة:
هكذا نرى أن التشريع الدولي الإسلامي يستوحي في كل خطوة من خطواته روح العدالة والمساواة بين الناس أمام القانون. بل يستمد من ينابيع أشد عمقًا من ذلك كله: يستمد من منابع الإيمان الصحيح، والخلق الكامل. ونستطيع أن نقول -ووثائق التاريخ بين أيدينا-: إن هذا التشريع الدولي العام بمعناه الصحيح لم يكن له وجود قبل الإسلام ولم يصل إليه تشريع آخر بعد الإسلام إلى يومنا هذا.
***

* نُشر هذا البحث في مجلة “دراسات عربية وإسلامية” والتي تصدر عن مركز اللغات الأجنبية والترجمة التخصصية بجامعة القاهرة في العدد رقم (54) سنة 2015.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 96.17 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 93.54 كيلو بايت... تم توفير 2.63 كيلو بايت...بمعدل (2.74%)]