تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 211 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28455 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60073 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 847 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 28-07-2021, 04:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (11)

سُورَةُ الْبَقَرَةِ (10)

أما التداوي بها فمشهور المذهب أنه لا يحل : وإذا قلنا : إنه لا يجوز التداوي بها ، ويجوز استعمالها لإساغة الغصة فالفرق أن التداوي بها لا يتيقن به البرء من الجوع والعطش . اه . بنقل المواق في شرح قول خليل : وخمر لغصة ، وما نقلنا عن مالك من أن الخمر لا تزيد إلا عطشا ، نقل نحوه النووي عن الشافعي ، قال : وقد نقل الروياني أن الشافعي - رحمه الله - نص على المنع من شربها [ ص: 71 ] للعطش ; معللا بأنها تجيع وتعطش .

وقال القاضي أبو الطيب : سألت من يعرف ذلك فقال : الأمر كما قال الشافعي : إنها تروي في الحال ، ثم تثير عطشا عظيما .

وقال القاضي حسين في " تعليقه " : قالت الأطباء : الخمر تزيد في العطش وأهل الشرب يحرصون على الماء البارد ، فجعل بما ذكرناه أنها لا تنفع في دفع العطش .

وحصل بالحديث الصحيح السابق في هذه المسألة أنها لا تنفع في الدواء فثبت تحريمها مطلقا ، والله تعالى أعلم . ا ه من " شرح المهذب " .

وبه تعلم أن ما اختاره الغزالي ، وإمام الحرمين من الشافعية ، والأبهري من المالكية من جوازها للعطش خلاف الصواب ، وما ذكره إمام الحرمين والأبهري من أنها تنفع في العطش خلاف الصواب أيضا ، والعلم عند الله تعالى .

ومن مر ببستان لغيره فيه ثمار وزرع ، أو بماشية فيها لبن ، فإن كان مضطرا اضطرارا يبيح الميتة فله الأكل بقدر ما يرد جوعه إجماعا ، ولا يجوز له حمل شيء منه ، وإن كان غير مضطر فقد اختلف العلماء في جواز أكله منه .

فقيل : له أن يأكل في بطنه من غير أن يحمل منه شيئا ، وقيل ليس له ذلك ، وقيل بالفرق بين المحوط عليه فيمنع ، وبين غيره فيجوز ، وحجة من قال بالمنع مطلقا ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عموم قوله : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا " وعموم قوله تعالى : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) [ 4 \ 29 ] ونحو ذلك من الأدلة .

وحجة من قال بالإباحة مطلقا ما أخرجه أبو داود عن الحسن ، عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا أتى أحدكم على ماشية ، فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه ، فإن أذن فليحتلب وليشرب ، وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا ، فإن أجاب فليستأذنه ، فإن أذن له وإلا فليحتلب وليشرب ، ولا يحمل " ا ه .

وما رواه الترمذي ، عن يحيى بن سليم ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من دخل حائطا فليأكل ، ولا يتخذ خبنة " قال : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم . وما رواه الترمذي أيضا من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الثمر المعلق فقال : " من أصاب منه من ذي [ ص: 72 ] حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه " قال فيه : حديث حسن .

وما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : " إذا مر أحدكم بحائط فليأكل منه ، ولا يتخذ ثبانا " .

قال أبو عبيد : قال أبو عمرو : هو يحمل الوعاء الذي يحمل فيه الشيء ، فإن حملته بين يديك فهو ثبان ، يقال : قد تثبنت ثبانا ، فإن حملته على ظهرك فهو الحال ، يقال : منه قد تحولت كسائي ، إذا جعلت فيه شيئا ثم حملته على ظهرك ، فإن جعلته في حضنك فهو خبنة ، ومنه حديث عمرو بن شعيب المرفوع : " ولا يتخذ خبنة " يقال : فيه خبنت أخبن خبنا ، قاله القرطبي .

وما روي عن أبي زينب التيمي ، قال : سافرت مع أنس بن مالك ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وأبي بردة ، فكانوا يمرون بالثمار ، فيأكلون بأفواههم ، نقله صاحب " المغني " ، وحمل أهل القول الأول هذه الأحاديث والآثار على حال الضرورة ، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح عن عباد بن شرحبيل اليشكري الغبري - رضي الله عنه - قال : أصابتنا عاما مخمصة فأتيت المدينة ، فأتيت حائطا من حيطانها ، فأخذت سنبلا ففركته وأكلته ، وجعلته في كسائي ، فجاء صاحب الحائط فضربني ، وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته فقال : " ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا " ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد إليه ثوبه ، وأمر له بوسق من طعام ، أو نصف وسق ، فإن في هذا الحديث الدلالة على أن نفي القطع والأدب إنما هو من أجل المخمصة .

وقال القرطبي في " تفسيره " عقب نقله لما قدمنا عن عمر - رضي الله عنه - قال أبو عبيد : وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر ، الذي لا شيء معه يشتري به ، ألا يحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته ، ثم قال : قلت : لأن الأصل المتفق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب نفس منه .

فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أول الإسلام أو كما هو الآن في بعض البلدان فذلك جائز . ويحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة ، كما تقدم ، والله أعلم . ا ه منه .

وحجة من قال بالفرق بين المحوط وبين غيره ، أن إحرازه بالحائط دليل على شح [ ص: 73 ] صاحبه به وعدم مسامحته فيه ، وقول ابن عباس : إن كان عليها حائط فهو حرام فلا تأكل ، وإن لم يكن عليها حائط فلا بأس ، نقله صاحب " المغني " وغيره ، وما ذكره بعض أهل العلم من الفرق بين مال المسلم فيجوز عند الضرورة ، وبين مال الكتابي ( الذمي ) فلا يجوز بحال غير ظاهر .

ويجب حمل حديث العرباض بن سارية عند أبي داود الوارد في المنع من دخول بيوت أهل الكتاب ، ومنع الأكل من ثمارهم إلا بإذن على عدم الضرورة الملجئة إلى أكل الميتة ، والعلم عند الله تعالى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ) الْآيَةَ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ هَذَا الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى ( مَنْ أَتَى الْمَالَ ) ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا ، أَوْ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْمَالِ ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ ، وَأَنَّ الْمَعْنَى ( عَلَى حُبِّهِ ) أَيْ : حُبِّ مُؤْتِي الْمَالَ لِذَلِكَ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) [ 3 \ 92 ] وَلَا يَخْفَى أَنَّ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ تَلَازُمًا فِي الْمَعْنَى .

قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَحِينَ الْبَأْسِ ) ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا الْمُرَادُ بِالْبَأْسِ ؟ وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْبَأْسَ الْقِتَالُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ) [ 33 \ 18 ] كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ )

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هِيَ ثَلَاثَةٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وَعَاشُورَاءُ .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هِيَ رَمَضَانُ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ بَيَّنَهَا تَعَالَى بِقَوْلِهِ : ( شَهْرُ رَمَضَانَ ) الْآيَةَ [ 2 \ 185 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ أُنْزِلَ فِي اللَّيْلِ مِنْهُ أَوِ النَّهَارِ ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ رَمَضَانَ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) [ 97 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) [ ص: 74 ] [ 44 \ 3 ] ; لِأَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عَلَى التَّحْقِيقِ ، وَفِي مَعْنَى إِنْزَالِهِ وَجْهَانِ :

لْأَوَّلُ : أَنَّهُ أُنْزِلَ فِيهَا جُمْلَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .

وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى إِنْزَالِهِ فِيهَا ابْتِدَاءُ نُزُولِهِ كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ )

ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَرِيبٌ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي وَبَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى تَعْلِيقَ ذَلِكَ عَلَى مَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا وَهِيَ قَوْلُهُ : ( فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ ) الْآيَةَ [ 6 \ 41 ] .

وَقَالَ بَعْضُهُمُ : التَّعْلِيقُ بِالْمَشِيئَةِ فِي دُعَاءِ الْكُفَّارِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْآيَةِ ، وَالْوَعْدُ الْمُطْلَقُ فِي دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَعَلَيْهِ فَدُعَاؤُهُمْ لَا يُرَدُّ ، إِمَّا أَنْ يُعْطُوا مَا سَأَلُوا أَوْ يُدَّخَرَ لَهُمْ خَيْرٌ مِنْهُ أَوْ يُدْفَعَ عَنْهُمْ مِنَ السُّوءِ بِقَدْرِهِ .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ الْعِبَادَةُ ، وَبِالْإِجَابَةِ الثَّوَابُ ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ) ، بَيَّنَهُ قَوْلُهُ : ( مِنَ الْفَجْرِ ) [ 2 \ 187 ] وَالْعَرَبُ تُسَمِّي ضَوْءَ الصُّبْحِ خَيْطًا ، وَظَلَامَ اللَّيْلِ الْمُخْتَلِطَ بِهِ خَيْطًا ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي دُوَادَ الْإِيَادِيِّ : [ الْمُتَقَارِبِ ]


فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا سُدْفَةٌ وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا

وَقَوْلُ الْآخَرِ : [ الْبَسِيطِ ]
الْخَيْطُ الْأَبَيْضُ ضَوْءُ الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ وَالْخَيْطُ الْأَسْوَدُ جُنْحُ اللَّيْلِ مَكْتُومُ
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى )

لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِالْمُرَادِ بِمَنِ اتَّقَى ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) [ 2 \ 177 ] وَالْكَلَامُ فِي الْآيَةِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ؛ أَيْ : وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ مَنِ اتَّقَى ، وَقِيلَ وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنِ اتَّقَى ، وَنَظِيرُ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ : [ الْبَسِيطِ ] [ ص: 75 ]
لَا تَسْأَمِ الدَّهْرَ مِنْهُ كُلَّمَا ذَكَرَتْ فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ


أَيْ : ذَاتُ إِقْبَالٍ ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الْمُتَقَارِبِ ]
وَكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ خِلَالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ


أَيْ : كَخِلَالَةِ أَبِي مَرْحَبٍ . وَقَوْلُ الْآخَرِ : [ الطَّوِيلِ ] لَعَمْرُكَ مَا الْفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى وَلَكِنَّمَا الْفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدَى


أَيْ : لَيْسَ الْفِتْيَانُ فِتْيَانَ نَبَاتِ اللِّحَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِلْعُلَمَاءِ :

لْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ - بِالَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ مِنْ شَأْنِهِمُ الْقِتَالُ ؛ أَيْ : دُونَ غَيْرِهِمْ ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ الْفَانِيَةِ وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ .

الثَّانِي : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ الدَّالَّةِ عَلَى قِتَالِهِمْ مُطْلَقًا .

الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ تَهْيِيجُ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْرِيضُهُمْ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالِهِمْ ، هُمْ خُصُومُكُمْ وَأَعْدَاؤُكُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ، وَأَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ فَالْمَعْنَى يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) [ 9 \ 36 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) .

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ صَدُّ الْعَدُوِّ الْمُحْرِمِ ، وَمَنْعُهُ إِيَّاهُ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ .

وَقَالَ قَوْمٌ : الْمُرَادُ بِهِ حَبْسُ الْمُحْرِمِ بِسَبَبِ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ .

وَقَالَ قَوْمٌ : الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ مِنْ عَدُوٍّ وَمَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ .

وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا : ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ ) [ 2 \ 196 ] يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ هُنَا صَدُّ الْعَدُوِّ الْمُحْرِمِ ; لِأَنَّ الْأَمْنَ إِذَا أُطْلِقَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ انْصَرَفَ إِلَى الْأَمْنِ مِنَ الْخَوْفِ لَا إِلَى الشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرِ الشَّيْءُ الَّذِي مِنْهُ الْأَمْنُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِحْصَارِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ الْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ ، فَمَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْأَمْنَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَمْنِ مِنَ الْمَرَضِ ، كَمَا فِي حَدِيثِ " مَنْ [ ص: 76 ] سَبَقَ الْعَاطِسَ بِالْحَمْدِ أَمِنَ مِنَ الشَّوْصِ ، وَاللَّوْصِ ، وَالْعِلَّوْصِ " أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ الْأَمْنَ فِيهِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ مِنَ الْمَرَضِ ، فَلَوْ أُطْلِقَ لَانْصَرَفَ إِلَى الْأَمْنِ مِنَ الْخَوْفِ . وَقَدْ يُجَابُ أَيْضًا بِأَنَّهُ يَخَافُ وُقُوعَ الْمَذْكُورِ مِنَ الشَّوْصِ الَّذِي هُوَ وَجَعُ السِّنِّ ، وَاللَّوْصِ الَّذِي هُوَ وَجَعُ الْأُذُنِ ، وَالْعِلَّوْصِ الَّذِي هُوَ وَجَعُ الْبَطْنِ ; لِأَنَّهُ قَبْلَ وُقُوعِهَا بِهِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَائِفٌ مِنْ وُقُوعِهَا ، فَإِذَا أَمِنَ مِنْ وُقُوعِهَا بِهِ فَقَدْ أَمِنَ مِنْ خَوْفٍ .

أَمَّا لَوْ كَانَتْ وَقَعَتْ بِهِ بِالْفِعْلِ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ أَمِنَ مِنْهَا ; لَأَنَّ الْخَوْفَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ الْغَمُّ مِنْ أَمْرٍ مُسْتَقْبِلٍ لَا وَاقِعٍ بِالْفِعْلِ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ زَعْمَ إِمْكَانِ إِطْلَاقِ الْأَمْنِ عَلَى الشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ خِلَافُ الظَّاهِرِ . وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَبْحَثَيْنِ : الْأَوَّلُ : فِي مَعْنَى الْإِحْصَارِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ .

الثَّانِي : فِي تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِهِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَأَدِلَّتِهَا فِي ذَلِكَ ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ : إِنَّ الْإِحْصَارَ هُوَ مَا كَانَ عَنْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ ، قَالُوا : تَقُولُ الْعَرَبُ : أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ يُحْصِرُهُ بِضَمِّ الْيَاءِ ، وَكَسْرِ الصَّادِ إِحْصَارًا ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ فَهُوَ الْحَصْرُ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : حَصَرَ الْعَدُوُّ يَحْصُرُهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الصَّادِ حَصْرًا بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْحَصْرِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ ) وَمِنْ إِطْلَاقِ الْإِحْصَارِ عَلَى غَيْرِ الْعَدُوِّ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) الْآيَةَ [ 2 \ 273 ] وَقَوْلُ ابْنِ مَيَّادَةَ : [ الطَّوِيلِ ]
وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شَغُولُ


وَعَكَسَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ . فَقَالَ : الْإِحْصَارُ مِنَ الْعَدُوِّ ، وَالْحَصْرُ مِنَ الْمَرَضِ ، قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي " الْمُجْمَلِ " نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَنَقَلَ الْبَغَوِيُّ نَحْوَهُ عَنْ ثَعْلَبٍ .

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ : إِنَّ الْإِحْصَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجَمِيعِ ، وَكَذَلِكَ الْحَصْرُ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِاسْتِعْمَالِ الْإِحْصَارِ فِي الْجَمِيعِ الْفَرَّاءُ ، وَمِمَّنْ قَالَ : بِأَنَّ الْحَصْرَ [ ص: 77 ] وَالْإِحْصَارَ يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْجَمِيعِ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : لَا شَكَّ فِي جَوَازِ إِطْلَاقِ الْإِحْصَارِ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ كَمَا سَتَرَى تَحْقِيقَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى الْإِحْصَارِ . وَأَمَّا الْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَصْرُ الْعَدُوِّ خَاصَّةً دُونَ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ مَرْوَانُ ، وَإِسْحَاقُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ خَاصَّةً ، فَمَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ ، وَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى ، فَيَكُونُ مُتَحَلِّلًا بِعُمْرَةٍ ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مُتَرَكِّبَةٌ مِنْ أَمْرَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) [ 2 \ 196 ] نَزَلَتْ فِي صَدِّ الْمُشْرِكِينَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ وَهُمْ مُحْرِمُونَ بِعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَامَ سِتٍّ بِإِطْبَاقِ الْعُلَمَاءِ .

وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةَ الدُّخُولِ فَلَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهَا بِمُخَصَّصٍ ، فَشُمُولُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ ، الَّذِي هُوَ سَبَبُ نُزُولِهَا قَطْعِيٌّ ، فَلَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْآيَةِ بِوَجْهٍ ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ ظَنِّيَّةُ الدُّخُولِ لَا قَطْعِيَّتُهُ ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
وَاجْزِمْ بِإِدْخَالِ ذَوَاتِ السَّبَبِ وَارْوِ عَنِ الْإِمَامِ ظَنًّا تُصِبِ


وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِحْصَارِ بِصِيغَةِ الرُّبَاعِيِّ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَدُوٍّ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِلَا شَكَّ كَمَا تَرَى ، وَأَنَّهُ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي هُوَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْفَصَاحَةِ وَالْإِعْجَازِ .

الْأَمْرُ الثَّانِي : مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ فِي أَنَّ الْمُحْصَرَ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ لَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرَ الْعَدُوِّ .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 28-07-2021, 04:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (12)

سُورَةُ الْبَقَرَةِ (11)



وَقَالَ جَمَاعَةٌ : إِنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ فَلَهُ بَدَلٌ ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي بَدَلِ الْهَدْيِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ قِيَاسًا عَلَى مَنْ عَجَزَ عَمَّا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فِي التَّمَتُّعِ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي بَدَلِ هَدْيِ الْمُحْصَرِ أَنَّهُ بِالْإِطْعَامِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " كِتَابِ الْأَوْسَطِ " فَتُقَوَّمُ الشَّاةُ وَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهَا طَعَامًا ، فَإِنْ عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَقِيلَ إِطْعَامٌ كَإِطْعَامِ فِدْيَةِ الْأَذَى وَهُوَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ ، وَقِيلَ : بَدَلُهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، [ ص: 86 ] وَقِيلَ : بَدَلُهُ صَوْمٌ بِالتَّعْدِيلِ ، تُقَوَّمُ الشَّاةُ وَيُعْرَفُ قَدْرُ مَا تُسَاوِي قِيمَتُهَا مِنَ الْأَمْدَادِ ، فَيَصُومُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا ، وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ ، وَأَقْرَبُهَا قِيَاسُهُ عَلَى التَّمَتُّعِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْفَرْعُ الثَّالِثُ : هَلْ يَلْزَمُ الْمُحْصَرُ إِذَا أَرَادَ التَّحَلُّلَ حَلْقٌ أَوْ تَقْصِيرٌ ، أَوْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؟

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا ، فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لَا حَلْقَ عَلَيْهِ وَلَا تَقْصِيرَ ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ قَالَ : ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَلْقَ وَلَوْ كَانَ لَازِمًا لَبَيَّنَهُ ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لِعَدَمِ لُزُومِ الْحَلْقِ ; بِأَنَّ الْحَلْقَ لَمْ يُعْرَفْ كَوْنُهُ نُسُكًا إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ ، وَقَبْلُهُ جِنَايَةٌ ، فَلَا يُؤْمَرُ بِهِ ، وَلِهَذَا الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ إِذَا مَنَعَهُمَا السَّيِّدُ وَالزَّوْجُ لَا يُؤْمَرَانِ بِالْحَلْقِ إِجْمَاعًا .

وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي حَلْقِ الْمُحْصَرِ رِوَايَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَلْقِ ، هَلْ هُوَ نُسُكٌ أَوْ إِطْلَاقٌ مِنْ مَحْظُورٍ ؟ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ : إِلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ : هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْ لُزُومِ الْحَلْقِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) .



[ ص: 78 ] قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا ابْنُ حَجَرٍ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، ثُمَّ يَحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا فَيُهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا " وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَإِذَا اضْطُرَّ إِلَى لُبْسِ شَيْءٍ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا أَوِ الدَّوَاءِ صَنَعَ ذَلِكَ وَافْتَدَى " وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ كَانَ قَدِيمًا أَنَّهُ قَالَ : خَرَجْتُ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ كُسِرَتْ فَخِذِي ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى مَكَّةَ وَبِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَالنَّاسُ فَلَمْ يُرَخِّصْ لِي أَحَدٌ أَنْ أُحِلَّ ، فَأَقَمْتُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى أَحْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ . وَالرَّجُلُ الْبَصْرِيُّ الْمَذْكُورُ الَّذِي أَبْهَمَهُ مَالِكٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هُوَ أَبُو قِلَابَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْجَرْمِيُّ شَيْخُ أَيُّوبَ ، وَمُعَلِّمُهُ كَمَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرَقٍ ، وَسَمَّى الرَّجُلَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ .

وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ : " أَنَّ سَعِيدَ بْنَ حُزَابَةَ الْمَخْزُومِيَّ صُرِعَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَسَأَلَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ ، فَوَجَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ، وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ ، فَذَكَرَ لَهُمُ الَّذِي عَرَضَ لَهُ فَكُلُّهُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَدَاوَى بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، وَيَفْتَدِيَ فَإِذَا صَحَّ اعْتَمَرَ فَحَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ ، ثُمَّ عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلُ ، وَيَهْدِي مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ " .

قَالَ مَالِكٌ : وَعَلَى هَذَا الْأَمْرِ عِنْدَنَا فِيمَنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ وَهَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ حِينَ فَاتَهُمَا الْحَجُّ وَأَتَيَا يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَحِلَّا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ يَرْجِعَا حَلَالًا ، ثُمَّ يَحُجَّانِ عَامًا قَابِلًا وَيَهْدِيَانِ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ .

وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ : " الْمُحْرِمُ لَا يُحِلُّهُ إِلَّا الْبَيْتُ " وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَعْنِي غَيْرَ الْمُحْصَرِ بِعَدُوٍّ ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الزَّرْقَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ " هَذَا هُوَ حَاصِلُ أَدِلَّةِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ فِي الْآيَةِ هُوَ مَا كَانَ مِنْ خُصُوصِ الْعَدُوِّ دُونَ مَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ .
[ ص: 79 ] الْقَوْلُ الثَّانِي : فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ أَنَّهُ يَشْمَلُ مَا كَانَ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ ، مِنْ جَمِيعِ الْعَوَائِقِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْحَرَمِ . وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَلْقَمَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِهَةِ شُمُولِهِ لِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي حُجَّةِ الَّذِي قَبْلَهُ .

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ شُمُولِهِ لِلْإِحْصَارِ بِمَرَضٍ فَهِيَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى " فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَا : صَدَقَ .

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ : " مَنْ عَرِجَ ، أَوْ كُسِرَ ، أَوْ مَرِضَ " فَذَكَرَ مَعْنَاهُ .

وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ : " مَنْ حُبِسَ بِكَسْرٍ أَوْ مَرَضٍ " هَذَا الْحَدِيثُ سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ ، وَالْمُنْذِرِيُّ ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ .

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ هَذَا : رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ قُوَّةَ حُجَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ ، وَرَدَّ الْمُخَالِفُونَ الِاحْتِجَاجَ بِحَدِيثِ عِكْرِمَةَ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " قَالَ : وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ بَعْدَ فَوَاتِهِ بِمَا يَحِلُّ بِهِ مَنْ يَفُوتُهُ الْحَجُّ بِغَيْرِ مَرَضٍ . فَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَابِتًا عَنْهُ ، قَالَ : لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ عَدُوٍّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ حَمْلُ حِلِّهِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَطَ فِي إِحْرَامِهِ أَنَّهُ يَحِلُّ حَيْثُ حَبَسَهُ اللَّهُ بِالْعُذْرِ ، وَالتَّحْقِيقُ : جَوَازُ الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ بِأَنْ يُحْرِمَ وَيَشْتَرِطَ أَنَّ مَحِلَّهُ حَيْثُ حَبَسَهُ اللَّهُ ، وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ مَنْ مَنَعَ الِاشْتِرَاطَ ; لِثُبُوتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ ، فَقَالَ لَهَا : " لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ ؟ " قَالَتْ : وَاللَّهِ مَا أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعَةً . فَقَالَ لَهَا : " حُجِّي وَاشْتَرِطِي ، وَقُولِي : اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي " وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ .

[ ص: 80 ] وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنْ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَأُهِلُّ ؟ قَالَ : " أَهِلِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي " ، قَالَ : فَأَدْرَكَتْ .

وَلِلنَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةٍ : وَقَالَ : " فَإِنَّ لَكَ عَلَى رَبِّكِ مَا اسْتَثْنَيْتِ " .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ : فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ أَنَّهُ مَا كَانَ مِنَ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ خَاصَّةً ، دُونَ مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ الْمَنْقُولُ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ ، وَإِنَّمَا جَازَ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْصَارِ الْعَدُوِّ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّهُ مِنْ إِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَأَخْذِ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ ، فَإِحْصَارُ الْعَدُوِّ عِنْدَهُمْ مُلْحَقٌ بِإِحْصَارِ الْمَرَضِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ .

وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا الْقَوْلِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ نَزَلَتْ فِي إِحْصَارِ الْعَدُوِّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَأَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ ، كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الْحَقُّ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ فِي الْآيَةِ إِحْصَارُ الْعَدُوِّ ، وَأَنَّ مَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ نَحْوُهُ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِعُمْرَةٍ ; لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ ) [ 2 \ 196 ] .

وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَدَّى مَحِلَّهَا ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .

وَأَمَّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَا تَنْهَضُ بِهِ حُجَّةٌ ; لِتَعَيُّنِ حَمْلِهِ عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ; بِدَلِيلِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ ، وَأَصْحَابِ السُّنَنِ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ : " حُجِّي وَاشْتَرِطِي " وَلَوْ كَانَ التَّحَلُّلُ جَائِزًا دُونَ شَرْطٍ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو لَمَا كَانَ لِلِاشْتِرَاطِ فَائِدَةٌ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ بِالِاشْتِرَاطِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ] [ ص: 81 ]
وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَا إِلَّا فَلِلْأَخِيرِ نَسْخٌ بَيِّنَا


وَهُوَ مُمْكِنٌ فِي الْحَدِيثَيْنِ بِحَمْلِ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ ، فَيَتَّفِقُ مَعَ الْحَدِيثَيْنِ الثَّابِتَيْنِ فِي الصَّحِيحِ ، فَإِنْ قِيلَ : يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِغَيْرِ هَذَا ، وَهُوَ حَمْلُ أَحَادِيثِ الِاشْتِرَاطِ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَلْزَمَهُ حُجَّةً أُخْرَى ، وَحُمِلَ حَدِيثُ عِكْرِمَةَ ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ ، وَعَلَيْهِ حُجَّةٌ أُخْرَى ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْجَمْعِ أَنَّ أَحَادِيثَ الِاشْتِرَاطِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ حَجَّةٍ أُخْرَى .

وَحَدِيثُ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى " .

فَالْجَوَابُ أَنَّ وُجُوبَ الْبَدَلِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى أَوْ عُمْرَةٍ أُخْرَى لَوْ كَانَ يَلْزَمُ ، لَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يَقْضُوا عُمْرَتَهُمُ الَّتِي صَدَّهُمْ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ .

قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " فِي بَابِ " مَنْ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ " مَا نَصُّهُ : وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ يَنْحَرُ هَدْيَهُ ، وَيَحْلِقُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إِلَى الْبَيْتِ ، ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا ، وَلَا يَعُودُوا لَهُ وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ مِنَ الْحَرَمِ . انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ ، فَنَحَرُوا الْهَدْيَ ، وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ ، وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْهَدْيُ ، ثُمَّ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا ، وَلَا يَعُودُوا لِشَيْءٍ . انْتَهَى بِلَفْظِهِ مِنَ [ الْمُوَطَّأِ ] . وَلَا يُعَارَضُ مَا ذَكَرْنَا بِمَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ وَغَيْرِهِمَا ، قَالُوا : أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يَعْتَمِرُوا فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قُتِلَ بِخَيْبَرَ ، أَوْ مَاتَ ، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مُعْتَمِرِينَ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدُوا الْحُدَيْبِيَةَ ، وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ أَلْفَيْنِ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ : وَالَّذِي أَعْقِلُهُ فِي أَخْبَارِ أَهْلِ الْمَغَازِي شَبِيهٌ بِمَا ذَكَرْتُ ; لِأَنَّا عَلِمْنَا مِنْ مُتَوَاطِئِ أَحَادِيثِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ عَامُ الْحُدَيْبِيَةِ رِجَالٌ مَعْرُوفُونَ ، ثُمَّ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ، فَتَخَلَّفَ بَعْضُهُمْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ ، ا ه .

فَهَذَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَزَمَ بِأَنَّهُمْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ رِجَالٌ مَعْرُوفُونَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ . وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي .

[ ص: 82 ] وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " : وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا إِنْ صَحَّ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ ، بِأَنَّ الْأَمْرَ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ جَازِمٌ بِأَنَّ جَمَاعَةً تَخَلَّفُوا بِغَيْرِ عُذْرٍ .

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَالْقَضِيَّةِ لِلْمُقَاضَاةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ ، لَا عَلَى أَنَّهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ تِلْكَ الْعُمْرَةِ ، ا ه .

وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ نَحْوَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ .

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ : " وَقَالَ رَوْحٌ ، عَنْ شِبْلٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ ، وَلَا يَرْجِعُ " . انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ هَذَا بِإِسْنَادٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ ، وَفِيهِ : فَإِنْ كَانَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ الْفَرِيضَةِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، ا ه . فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا وَعَلِمْتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ عِكْرِمَةُ الْحَدِيثَ الَّذِي رُوِيَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو ، وَأَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِ ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي دَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَلِّمَهُ التَّأْوِيلَ ، وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى ، مَحِلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، تَعْلَمُ أَنَّ الْجَمْعَ الْأَوَّلَ الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الْمُتَعَيِّنُ ، وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ ، وَأَنَّ الْجَمْعَ الْأَخِيرَ لَا يَصِحُّ ; لِتَعَيُّنِ حَمْلِ الْحَجَّةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، ا ه .

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ لَا إِحْصَارَ إِلَّا بِالْعَدُوِّ خَاصَّةً ، وَأَنَّ الْمُحْصَرَ بِمَرَضٍ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَبْرَأَ ، وَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، ثُمَّ يَحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا ، فَيَهْدِي أَوْ يَصُومُ ، إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا كَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ .

فَهُوَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمَرِيضَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مُحْصَرٍ ، فَهُوَ كَمَنْ أَحْرَمَ وَفَاتَهُ وُقُوفُ عَرَفَةَ يَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ ، وَيَهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا ، ا ه .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ رَابِعٌ : وَهُوَ أَنَّهُ لَا إِحْصَارَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُذْرٍ كَائِنًا مَا كَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا ، وَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْإِحْصَارِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي [ ص: 83 ] الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَسْخٌ ، فَادِّعَاءُ دَفْعِهِ بِلَا دَلِيلٍ وَاضِحُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى ، هَذَا هُوَ خُلَاصَةُ الْبَحْثِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ) [ 2 \ 196 ] .

وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَاةٌ فَمَا فَوْقَهَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَغَيْرُهُمْ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ .

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ إِنَّمَا هُوَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ دُونَ الْغَنَمِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَسَالِمٍ ، وَالْقَاسِمِ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ .

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْتَنَدَ هَؤُلَاءِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ قِصَّةُ الْحُدَيْبِيَةِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ ذَبَحَ فِي تَحَلُّلِهِ ذَلِكَ شَاةً ، وَإِنَّمَا ذَبَحُوا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ .

فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَقَرَةٍ " .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَخْفَى أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ مَا تَيَسَّرَ مِمَّا يُسَمَّى هَدْيًا ، وَذَلِكَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَنْعَامِ : مِنْ إِبِلٍ ، وَبَقَرٍ ، وَغَنَمٍ ، فَإِنْ تَيَسَّرَتْ شَاةٌ أَجْزَأَتْ ، وَالنَّاقَةُ وَالْبَقَرَةُ أَوْلَى بِالْإِجْزَاءِ .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : " أَهْدَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً غَنَمًا " .
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ

الْفَرْعُ الْأَوَّلِ : إِذَا كَانَ مَعَ الْمُحْصَرِ هَدْيٌ لَزِمَهُ نَحْرُهُ إِجْمَاعًا ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَنْحَرُهُ فِي الْمَحِلِّ الَّذِي حُصِرَ فِيهِ ، حِلًّا كَانَ أَوْ حَرَمَا ، وَقَدْ نَحَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ ، وَجَزَمَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَحَرُوا فِيهِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْحِلِّ لَا مِنَ الْحَرَمِ ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) [ 48 \ 25 ] فَهُوَ نَصٌّ [ ص: 84 ] صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْهَدْيَ لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْحَرَمِ لَكَانَ بَالِغًا مَحِلَّهُ ، وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ مِنْ طَرِيقِ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : " لَمَّا حُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ نَحَرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ ، وَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا فَحَمَلَتْ شُعُورَهُمْ ، فَأَلْقَتْهَا فِي الْحَرَمِ " وَعَقَدَهُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
وَنَحَرُوا وَحَلَّقُوا وَحَمَلَتْ شُعُورَهُمْ لِلْبَيْتِ رِيحٌ قَدْ غَلَتْ


قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " الِاسْتِذْكَارِ " : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ نَحَرُوا فِي الْحِلِّ ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " : بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا أَرْسَلُوا هَدْيَهُمْ مَعَ مَنْ يَنْحَرُهُ فِي الْحَرَمِ ، قَالَ : وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ جُنْدَبِ بْنِ جُنْدَبٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْعَثْ مَعِي الْهَدْيَ حَتَّى أَنْحَرَهُ فِي الْحَرَمِ . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ ، عَنْ مَجْزَأَةَ بْنِ زَاهِرٍ ، عَنْ نَاجِيَةَ ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، عَنْ إِسْرَائِيلَ ، لَكِنْ قَالَ عَنْ نَاجِيَةَ ، عَنْ أَبِيهِ : لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ هَذَا وُجُوبُهُ ، بَلْ ظَاهِرُ الْقِصَّةِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ نَحَرَ فِي مَكَانِهِ وَكَانُوا فِي الْحِلِّ ، وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى الْجَوَازِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ . وَخَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْجُمْهُورَ ، وَقَالَ : لَا يَنْحَرُ الْمُحْصَرُ هَدْيَهُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إِلَى الْحَرَمِ ، فَإِذَا بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ حَلَّ ، وَقَالَ : إِنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَحَرَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ طَرَفِ الْحَرَمِ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ : ( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) [ 2 \ 196 ] وَرُدَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ نَحَرَ فِي الْحِلِّ ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ : ( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) ، لَا عَلَى قَوْلِهِ : ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَحِلِّهِ الْمَحِلُّ الَّذِي يَجُوزُ نَحْرَهُ فِيهِ ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحْصَرِ حَيْثُ أُحْصِرَ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْحِلِّ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ أَنَّهُ إِنِ اسْتَطَاعَ إِرْسَالَ الْهَدْيِ إِلَى الْحَرَمِ أَرْسَلَهُ وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ، إِذْ لَا وَجْهَ لِنَحْرِ الْهَدْيِ فِي الْحِلِّ مَعَ تَيَسُّرِ الْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ إِرْسَالَهُ إِلَى الْحَرَمِ نَحَرَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ مِنَ الْحِلِّ .

قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي [ صَحِيحِهِ ] فِي " بَابِ مَنْ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ " مَا نَصُّهُ : [ ص: 85 ] وَقَالَ رَوْحٌ ، عَنْ شِبْلٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ ، وَلَا يَرْجِعُ " وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ إِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ ، وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ، ا ه ، مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ ; لِظُهُورِ وَجْهِهِ كَمَا تَرَى .
الْفَرْعُ الثَّانِي : إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُحْصَرِ هَدْيٌ ، فَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْهَدْيَ وَلَا يَحِلَّ حَتَّى يَهْدِيَ ، أَوْ لَهُ أَنْ يَحِلَّ بِدُونِ هَدْيٍ ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْهَدْيَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ بِدُونِهِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ أَشْهَبُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَخَالَفَ مَالِكٌ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَقَالَا : لَا هَدْيَ عَلَى الْمُحْصَرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَهُ مَعَهُ قَبْلَ الْإِحْصَارِ .

وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ وَاضِحَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) فَتَعْلِيقُهُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عَلَى الْإِحْصَارِ تَعْلِيقُ الْجَزَاءِ عَلَى شَرْطِهِ ، يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْهَدْيِ بِالْإِحْصَارِ لِمَنْ أَرَادَ التَّحَلُّلَ بِهِ ، دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ كَمَا تَرَى ، فَإِنْ عَجَزَ الْمُحْصَرُ عَنِ الْهَدْيِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ بَدَلٌ عَنْهُ أَوْ لَا ؟

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 28-07-2021, 04:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (13)

سُورَةُ الْبَقَرَةِ (12)


وَلِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ حَلَقَ لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْلِقُوا ، وَقَالَ : " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ " قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ " قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " وَالْمُقَصِّرِينَ " .

فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْحَلْقِ عَنِ الْمُحْصَرِ . وَقِيَاسُ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ اللُّزُومِ الْحَلْقَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ النُّسُكِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ، وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَثَلًا ، كُلُّ ذَلِكَ مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْصَرُ وَصُدَّ عَنْهُ ، فَسَقَطَ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، وَمُنِعَ مِنْهُ .

وَأَمَّا الْحِلَاقُ فَلَمْ يُحَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ ; فَلَا وَجْهَ لِسُقُوطِهِ ، وَلَا [ ص: 87 ] شَكَّ أَنَّ الَّذِي تَدُلُّ نُصُوصُ الشَّرْعِ عَلَى رُجْحَانِهِ ، أَنَّ الْحِلَاقَ نُسُكٌ عَلَى مَنْ أَتَمَّ نُسُكَهُ ، وَعَلَى مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ ، وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِعَدُوٍّ ، وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ .

وَعَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ الْحِلَاقَ نُسُكٌ ، فَالْمُحْصَرُ يَتَحَلَّلُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : وَهِيَ النِّيَّةُ ، وَذَبْحُ الْهَدْيِ ، وَالْحِلَاقُ . وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ يَتَحَلَّلُ بِالنِّيَّةِ وَالذَّبْحِ .
الْفَرْعُ الرَّابِعُ : قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الْحَلْقِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) .

وَالثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْحَجِّ " : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ) [ الْآيَةَ : 28 ] .

فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : ( لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ ) الْآيَةَ [ 22 \ 34 ] ذِكْرُ اسْمِهِ تَعَالَى عِنْدَ نَحْرِ الْبُدْنِ إِجْمَاعًا ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ عَاطِفًا بِثُمَّ الَّتِي هِيَ لِلتَّرْتِيبِ ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) [ 22 \ 29 ] . وَقَضَاءُ التَّفَثِ يَدْخُلُ فِيهِ بِلَا نِزَاعٍ إِزَالَةُ الشَّعْرِ بِالْحَلْقِ ، فَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِتَقْدِيمِ النَّحْرِ عَلَى الْحَلَقِ ، وَمِنْ إِطْلَاقِ التَّفَثِ عَلَى الشَّعْرِ وَنَحْوِهِ ، قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ : [ الْبَسِيطِ ]
حَفُّوا رُؤُوسَهُمُ لَمْ يَحْلِقُوا تَفَثًا وَلَمْ يَسَلُّوا لَهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا


وَرَوَى بَعْضُهُمْ بَيْتَ أُمَيَّةَ الْمَذْكُورِ هَكَذَا : [ الْبَسِيطِ ]
سَاخِينَ آبَاطِهِمْ لَمْ يَقْذِفُوا تَفَثًا وَيَنْزِعُوا عَنْهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا


وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ : [ الْوَافِرِ ]
قَضَوْا تَفَثًا وَنَحْبًا ثُمَّ سَارُوا إِلَى نَجْدٍ وَمَا انْتَظَرُوا عَلِيًّا


فَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ دَلَالَةً لَا لَبْسَ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ بَعْدَ النَّحْرِ ، وَلَكِنْ إِذَا عَكَسَ الْحَاجُّ أَوِ الْمُعْتَمِرُ ، فَحَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّ ذَلِكَ لَا حَرَجَ فِيهِ ، وَالتَّعْبِيرُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى سُقُوطِ الْإِثْمِ وَالدَّمِ مَعًا ، وَقِيلَ فِيمَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحِرَ مُحْصَرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ : إِنَّهُ عَلَيْهِ دَمٌ ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، قَالَ : عَلَيْهِ دَمٌ . قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ . ذَكَرَهُ فِي الْمُحْصَرِ .

[ ص: 88 ] قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " : وَالظَّاهِرُ عَدَمُ وُجُوبِ الدَّمِ ; لِعَدَمِ الدَّلِيلِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الظَّاهِرُ : أَنَّ الدَّلِيلَ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ هُوَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ نَحَرَ قَبْلَ الْحَلْقِ ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ ، عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ فِي حَدِيثِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَالصُّلْحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : " قُومُوا فَانْحَرُوا ، ثُمَّ احْلِقُوا " .

وَلِلْبُخَارِيِّ عَنِ الْمِسْوَرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ ، ا هـ . فَدَلَّ فِعْلُهُ وَأَمْرُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ اللَّازِمُ لِلْمُحْصَرِ ، وَمَنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى النَّحْرِ فَقَدْ عَكَسَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَنْ أَخَلَّ بِنُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ نُصُوصُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّحْرَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَلْقِ ، وَلَكِنْ مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ مِنْ إِثْمٍ وَلَا دَمٍ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَابَ مَنْ سَأَلَهُ ، بِأَنَّهُ ظَنَّ الْحَلْقَ قَبْلَ النَّحْرِ فَنَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ ، بِأَنْ قَالَ لَهُ : " افْعَلْ وَلَا حَرَجَ " .

وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ فِي الذَّبْحِ ، وَالْحَلْقِ ، وَالرَّمْيِ ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَقَالَ : " لَا حَرَجَ " .

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ ، وَأَبِي دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيِّ ، وَابْنِ مَاجَهْ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ، قَالَ : " اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ " ، وَقَالَ : رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ ، فَقَالَ : " افْعَلْ وَلَا حَرَجَ " .

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ ، قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ، قَالَ : " لَا حَرَجَ " ، قَالَ : حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ، قَالَ : " لَا حَرَجَ " ، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ . وَهِيَ تَدُلُّ دَلَالَةً لَا لَبْسَ فِيهَا عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ إِثْمٍ وَلَا فِدْيَةَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : " لَا حَرَجَ " نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ رُكِّبَتْ مَعَ لَا فَبُنِيَتْ عَلَى الْفَتْحِ ، وَالنَّكِرَةُ إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْعُمُومِ ، فَالْأَحَادِيثُ إِذَنْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي عُمُومِ النَّفْيِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَرَجِ مِنْ إِثْمٍ وَفِدْيَةٍ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَلَا يَتَّضِحُ حَمْلُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا ، وَإِنْ كَانَ سِيَاقُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّائِلَ جَاهِلٌ ; لِأَنَّ بَعْضَ [ ص: 89 ] تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الصَّحِيحِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ النِّسْيَانِ وَلَا الْجَهْلِ ، فَيَجِبُ اسْتِصْحَابُ عُمُومِهَا حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ . وَقَدْ تَقَرَّرَ أَيْضًا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ جَوَابَ الْمَسْئُولِ لِمَنْ سَأَلَهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمَنْطُوطِ بِالذِّكْرِ لِمُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ لِإِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " فِي مَبْحَثِ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَهُ : [ الرَّجَزِ ]
أَوْ جَهْلُ الْحُكْمِ أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبْ لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبْ


كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ) الْآيَةَ [ 2 \ 229 ] وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ وَصْفَ عَدَمِ الشُّعُورِ الْوَارِدِ فِي السُّؤَالِ لَا مَفْهُومَ لَهُ .

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ : وَتَعْلِيقُ سُؤَالِ بَعْضِهِمْ بِعَدَمِ الشُّعُورِ لَا يَسْتَلْزِمُ سُؤَالَ غَيْرِهِ بِهِ حَتَّى يُقَالَ : إِنَّهُ يَخْتَصُّ الْحُكْمَ بِحَالَةِ عَدَمِ الشُّعُورِ ، وَلَا يَجُوزُ اطِّرَاحُهَا بِإِلْحَاقِ الْعَمْدِ بِهَا .

وَلِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ التَّعْوِيلَ فِي التَّخْصِيصِ عَلَى وَصْفِ عَدَمِ الشُّعُورِ الْمَذْكُورِ فِي سُؤَالِ بَعْضِ السَّائِلِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْمَطْلُوبِ ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذَا الْفَضْلُ الَّذِي لَا جُنَاحَ فِي ابْتِغَائِهِ أَثْنَاءَ الْحَجِّ . وَأَشَارَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ إِلَى أَنَّهُ رِبْحُ التِّجَارَةِ كَقَوْلِهِ : ( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ) [ 62 \ 10 ] لِأَنَّ الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ ، فَمَعْنَى الْآيَةِ يُسَافِرُونَ يَطْلُبُونَ رِبْحَ التِّجَارَةِ . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ) [ 62 \ 9 ] أَيْ : بِالْبَيْعِ وَالتِّجَارَةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ : ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) [ 92 \ 9 ] أَيْ : فَإِذَا انْقَضَتْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَاطْلُبُوا الرِّبْحَ الَّذِي كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ عِنْدَ النِّدَاءِ لَهَا .

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ غَلَبَةَ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْمُعَيَّنِ فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْغَالِبِ أَوْلَى ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَضْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ رِبْحُ التِّجَارَةِ كَمَا ذَكَرْنَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) [ 2 \ 199 ] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمَكَانَ الْمَأْمُورَ بِالْإِفَاضَةِ مِنْهُ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظَةِ [ ص: 90 ] ( حَيْثُ ) الَّتِي هِيَ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَكَانِ ، كَمَا تَدُلُّ " حِينَ " عَلَى الزَّمَانِ .

وَلَكِنَّهُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ) [ 2 \ 198 ] وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَقِفُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، وَيَقُولُونَ : نَحْنُ قُطَّانُ بَيْتِ اللَّهِ ، وَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ ; لِأَنَّ عَرَفَاتَ خَارِجٌ عَنِ الْحَرَمِ وَعَامَّةُ النَّاسِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ ، فَأَمَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ ، أَنْ يُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، وَهُوَ عَرَفَاتٌ لَا مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ كَفِعْلِ قُرَيْشٍ .

وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ ، وَعَلَيْهِ فَلَفْظَةُ " ثُمَّ " لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ بِمَعْنَى عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ ، وَتَرْتِيبِهَا عَلَيْهَا فِي مُطْلَقِ الذِّكْرِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [ 90 \ 13 ، 14 ، 15 ، 16 ، 17 ] .

وَقَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الْخَفِيفِ ]
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ


وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ أَفِيضُوا الْآيَةَ ؛ أَيْ : مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى ، وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ .

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ : وَلَوْلَا إِجْمَاعُ الْحُجَّةِ عَلَى خِلَافِهِ لَكَانَ هُوَ الْأَرْجَحَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) [ 2 \ 212 ] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سُخْرِيَةَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا الضَّحِكُ مِنْهُمْ وَالتَّغَامُزُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [ 83 \ 34 ، 35 ] .

قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا فَوْقِيَّةَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ [ 83 \ 34 ، 35 ] .

وَقَوْلِهِ : أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [ 7 \ 49 ] .
[ ص: 91 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) لَمْ يَصِفْ هَذَا الْخَيْرَ هُنَا بِالْكَثْرَةِ وَقَدْ وَصَفَهُ بِهَا فِي قَوْلِهِ : فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [ 4 \ 19 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ) [ 2 \ 217 ] ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلِ اسْتَطَاعُوا ذَلِكَ أَوْ لَا ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا ، وَأَنَّهُمْ حَصَلَ لَهُمُ الْيَأْسُ مِنْ رَدِّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ الْآيَةَ [ 5 \ 3 ] . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مُظْهِرٌ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى كُلِّ دِينٍ كَقَوْلِهِ فِي " بَرَاءَةٌ " وَ " الصَّفِّ " ، وَ " الْفَتْحِ " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [ 9 \ 33 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذَا الْإِثْمُ الْكَبِيرُ ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إِيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ ، وَالصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [ 5 \ 91 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ ) الْآيَةَ ، ظَاهِرُ عُمُومِهِ شُمُولُ الْكِتَابِيَّاتِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْكِتَابِيَّاتِ لَسْنَ دَاخِلَاتٍ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [ 5 \ 5 ] فَإِنْ قِيلَ : الْكِتَابِيَّاتُ لَا يَدْخُلْنَ فِي اسْمِ الْمُشْرِكَاتِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [ 98 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ [ 98 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ : مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [ 2 \ 105 ] ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ دَاخِلُونَ فِي اسْمِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [ 9 \ 30 ، 31 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الْمَكَانَ [ ص: 92 ] الْمَأْمُورَ بِالْإِتْيَانِ مِنْهُ ، الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِلَفْظَةِ " حَيْثُ " وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِتْيَانُ فِي الْقُبُلِ فِي آيَتَيْنِ :

إِحْدَاهُمَا : هِيَ قَوْلُهُ هُنَا : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ [ 2 \ 223 ] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : ( فَأْتُوا ) أَمْرٌ بِالْإِتْيَانِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ ، وَقَوْلِهِ : ( حَرْثَكُمْ ) ، يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِتْيَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ يَعْنِي بَذْرَ الْوَلَدِ بِالنُّطْفَةِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْقُبُلُ دُونَ الدُّبُرِ كَمَا لَا يَخْفَى ; لِأَنَّ الدُّبُرَ لَيْسَ مَحَلُّ بَذْرٍ لِلْأَوْلَادِ ، كَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ .

الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [ 2 \ 187 ] لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمُ الْوَلَدُ ، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ ، وَقَدْ نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَكَمِ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالسُّدِّيِّ ، وَالرَّبِيعِ وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ابْتِغَاءَ الْوَلَدِ إِنَّمَا هُوَ بِالْجِمَاعِ فِي الْقُبُلِ . فَالْقُبُلُ إِذَنْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِيهِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَلْتَكُنْ تِلْكَ الْمُبَاشَرَةُ فِي مَحَلِّ ابْتِغَاءِ الْوَلَدِ ، الَّذِي هُوَ الْقُبُلُ دُونَ غَيْرِهِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [ 2 \ 187 ] ، يَعْنِي الْوَلَدَ .

وَيَتَّضِحُ لَكَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : أَنَّى شِئْتُمْ [ 2 \ 223 ] يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ شَاءَ الرَّجُلُ ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُسْتَلْقِيَةً ، أَوْ بَارِكَةً ، أَوْ عَلَى جَنْبٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ : إِذَا جَامَعَهَا مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ ، فَنَزَلَتْ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ .

فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ جَابِرًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : فَأْتُوهُنَّ فِي الْقُبُلِ عَلَى أَيَّةِ حَالَةٍ شِئْتُمْ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ وَرَائِهَا .

وَالْمُقَرَّرُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي لَهُ تَعَلُّقٌ بِسَبَبِ النُّزُولِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ كَمَا عَقَدَهُ صَاحِبُ " طَلْعَةِ الْأَنْوَارِ " ، بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
تَفْسِيرُ صَاحِبٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالسَّبَبِ الرَّفْعُ لَهُ مُحَقِّقٌ


وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ مَا نَصُّهُ : وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَّى شِئْتُمْ شَامِلٌ لِلْمَسَالِكِ بِحُكْمِ عُمُومِهَا ، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا ; إِذْ هِيَ مُخَصَّصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَبِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ حِسَانٍ [ ص: 93 ] شَهِيرَةٍ ، رَوَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثْنَا عَشَرَ صَحَابِيًّا ، بِمُتُونٍ مُخْتَلِفَةٍ ، كُلُّهَا مُتَوَارِدَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْأَدْبَارِ ، ذَكَرَهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي " مُسْنَدِهِ " وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ .

وَقَدْ جَمَعَهَا أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ بِطُرُقِهَا فِي جُزْءٍ سَمَّاهُ " تَحْرِيمُ الْمَحَلِّ الْمَكْرُوهِ " .

وَلِشَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ جُزْءٌ سَمَّاهُ " إِظْهَارُ إِدْبَارِ مَنْ أَجَازَ الْوَطْءَ فِي الْأَدْبَارِ " قُلْتُ : وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُتَّبَعُ ، وَالصَّحِيحُ فِي الْمَسْأَلَةِ .

وَلَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَعْرُجَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ عَلَى زَلَّةِ عَالِمٍ بَعْدَ أَنْ تَصِحَّ عَنْهُ ، وَقَدْ حَذَّرْنَا مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلَافُ هَذَا ، وَتَكْفِيرُ مَنْ فَعَلَهُ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ كَذَّبَ نَافِعٌ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِذَلِكَ ، كَمَا ذَكَرَ النَّسَائِيُّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَاسْتَعْظَمَهُ ، وَكَذَّبَ مَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ ، وَرَوَى الدَّارِمِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَبِي الْحُبَابِ ، قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ : مَا تَقُولُ فِي الْجَوَارِي حِينَ أُحَمِّضُ لَهُنَّ ؟ قَالَ : وَمَا التَّحْمِيضُ ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ الدُّبُرَ . فَقَالَ : هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ؟ وَأَسْنَدَ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ " وَمِثْلَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ ، وَأَسْنَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " .

وَرُوِيَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " تِلْكَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى " يَعْنِي إِتْيَانَ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا . وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ بِدْءُ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَإِذَا ثَبَتَ الشَّيْءُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَغْنَى بِهِ عَمَّا سِوَاهُ ، مِنَ الْقُرْطُبِيِّ بِلَفْظِهِ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا مَا نَصُّهُ : وَقَالَ مَالِكٌ لِابْنِ وَهْبٍ ، وَعَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ ، لَمَّا أَخْبَرَاهُ أَنَّ نَاسًا بِمِصْرَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ أَنَّهُ يُجِيزُ ذَلِكَ ، فَنَفَرَ مِنْ ذَلِكَ وَبَادَرَ إِلَى تَكْذِيبِ النَّاقِلِ ، فَقَالَ : كَذَبُوا عَلَيَّ ، كَذَبُوا عَلَيَّ ، كَذَبُوا عَلَيَّ ، ثُمَّ قَالَ : أَلَسْتُمْ قَوْمًا عَرَبًا ؟ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ، وَهَلْ يَكُونُ الْحَرْثُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْمَنْبَتِ ؟ مِنْهُ بِلَفْظِهِ أَيْضًا .

[ ص: 94 ] وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْفَرْجَ فِي الْحَيْضِ ; لِأَجْلِ الْقَذَرِ الْعَارِضِ لَهُ ، مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ الْقَذَرَ هُوَ عِلَّةُ الْمَنْعِ بِقَوْلِهِ : قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [ 2 \ 222 ] فَمِنْ بَابِ أَوْلَى تَحْرِيمُ الدُّبُرِ لِلْقَذَرِ وَالنَّجَاسَةِ اللَّازِمَةِ ، وَلَا يَنْتَقِضُ ذَلِكَ بِجَوَازِ وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَةِ ; لِأَنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ لَيْسَ فِي الِاسْتِقْذَارِ كَدَمِ الْحَيْضِ ، وَلَا كَنَجَاسَةِ الدُّبُرِ ; لِأَنَّهُ دَمُ انْفِجَارِ الْعِرْقِ فَهُوَ كَدَمِ الْجُرْحِ ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَنْعَ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ إِطْبَاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرَّتْقَاءَ الَّتِي لَا يُوصَلُ إِلَى وَطْئِهَا مَعِيبَةٌ تُرَدُّ بِذَلِكَ الْعَيْبِ .

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، إِلَّا شَيْئًا جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَنَّ الرَّتْقَاءَ لَا تُرَدُّ بِالرَّتْقِ . وَالْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ .

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَفِي إِجْمَاعِهِمْ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدُّبُرَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ وَطْءٍ وَلَوْ كَانَ مَوْضِعًا لِلْوَطْءِ مَا رُدَّتْ مَنْ لَا يُوصَلُ إِلَى وَطْئِهَا فِي الْفَرْجِ ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَكُونُ رَدُّ الرَّتْقَاءِ لِعِلَّةِ عَدَمِ النَّسْلِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا تُوطَأُ فِي الدُّبُرِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُقْمَ لَا يُرَدُّ بِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ عِلَّةُ رَدِّ الرَّتْقَاءِ عَدَمَ النَّسْلِ لَكَانَ الْعُقْمُ مُوجِبًا لِلرَّدِّ .

وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْعُقْمَ لَا يُرَدُّ بِهِ ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ وَطْءَ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا حَرَامٌ فَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ كَابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي سَعِيدٍ وَجَمَاعَاتٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ ، يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ مَرَادَهُمْ بِالْإِتْيَانِ فِي الدُّبُرِ إِتْيَانُهَا فِي الْفَرْجِ مِنْ جِهَةِ الدُّبُرِ ، كَمَا يُبَيِّنُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ ، وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ مَا نَصُّهُ : قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّارِمِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَبِي الْحُبَابِ ، قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ : مَا تَقُولُ فِي الْجَوَارِي أَيُحَمَّضُ لَهُنَّ ؟ قَالَ : وَمَا التَّحْمِيضُ ؟ فَذَكَرَ الدُّبُرَ ، فَقَالَ : وَهَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ؟ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٌ ، وَقُتَيْبَةُ ، عَنِ اللَّيْثِ .

وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَنَصٌّ صَرِيحٌ مِنْهُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ ، فَكُلُّ مَا وَرَدَ عَنْهُ مِمَّا يُحْتَمَلُ ، وَيُحْتَمَلُ فَهُوَ مَرْدُودٌ إِلَى هَذَا الْمُحْكَمِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ : أَنَّى شِئْتُمْ ، [ ص: 95 ] لَا دَلِيلَ فِيهِ لِلْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ ; لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ بِالْفَاءِ التَّعْقِيبِيَّةِ ، عَلَى قَوْلِهِ : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدُّبُرَ لَيْسَ مَحَلَّ حَرْثٍ ، وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِجَوَازِ الْجِمَاعِ فِي عُكَنِ الْبَطْنِ ، وَفِي الْفَخِذَيْنِ ، وَالسَّاقَيْنِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ لَيْسَ مَحَلَّ حَرْثٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى اسْتِمْنَاءً لَا جِمَاعًا . وَالْكَلَامُ فِي الْجِمَاعِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِتْيَانِ فِي قَوْلِهِ : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ الْجِمَاعُ ، وَالْفَارِقُ مَوْجُودٌ ; لِأَنَّ عُكَنَ الْبَطْنِ وَنَحْوَهَا لَا قَذَرَ فِيهَا ، وَالدُّبُرُ فِيهِ الْقَذَرُ الدَّائِمُ ، وَالنَّجَسُ الْمُلَازِمُ .

وَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ قَوْلِهِ : قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ [ 2 \ 222 ] أَنَّ الْوَطْءَ فِي مَحَلِّ الْأَذَى لَا يَجُوزُ .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَعْنَى قَوْلِهِ : مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ، أَيْ : مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَجَنُّبِهِ ; لِعَارِضِ الْأَذَى وَهُوَ الْفَرْجُ وَلَا تَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَالرَّبِيعِ وَغَيْرِهِمْ ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ : مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يُبَيِّنُهُ : قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ الْآيَةَ ; لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَحَلَّ الْأَذَى الَّذِي هُوَ الْحَيْضُ إِنَّمَا هُوَ الْقُبُلُ ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ ; لِأَنَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ أَمَرَ بِضِدِّهِ ، وَلِذَا تَصِحُّ الْإِحَالَةُ فِي قَوْلِهِ : أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَلَى النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ : وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ وَالْخِلَافُ فِي النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ أَمْرٌ بِضِدِّهِ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
وَالنَّهْيُ فِيهِ غَابِرُ الْخِلَافِ أَوْ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالِائْتِلَافِ



وَقِيلَ لَا قَطْعًا كَمَا فِي الْمُخْتَصَرْ وَهُوَ لَدَى السُّبْكِيِّ رَأْيٌ مَا انْتَصَرَ


وَمُرَادُهُ بِغَابِرِ الْخِلَافِ : هُوَ مَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا مِنَ الْخِلَافِ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ ، هَلْ هُوَ عَيْنُ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ ، أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ أَوْ لَيْسَ عَيْنَهُ وَلَا مُسْتَلْزِمًا لَهُ ؟ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ أَيْضًا فِي النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ هَلْ هُوَ عَيْنُ الْأَمْرِ بِضِدِّهِ ؟ أَوْ ضِدٌّ مِنْ أَضْدَادِهِ إِنْ تَعَدَّدَتْ ؟ أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ ؟ أَوْ لَيْسَ عَيْنَهُ وَلَا مُسْتَلْزِمًا لَهُ ؟ وَزَادَ فِي النَّهْيِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَمَرَ بِالضِّدِّ اتِّفَاقًا .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا بِهِ قَطْعًا ، وَعَزَا الْأَخِيرَ لِابْنِ الْحَاجِبِ فِي " مُخْتَصَرِهِ " ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ السُّبْكِيَّ فِي " جَمْعِ الْجَوَامِعِ " ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ ذَلِكَ الْقَوْلَ لِغَيْرِ ابْنِ الْحَاجِبِ .

[ ص: 96 ] وَقَالَ الزَّجَّاجُ : مَعْنَى مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَيْ : مِنَ الْجِهَاتِ الَّتِي يَحِلُّ فِيهَا أَنْ تُقْرَبَ الْمَرْأَةُ ، وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ لَا يَحِلُّ ، كَمَا إِذَا كُنَّ صَائِمَاتٍ ، أَوْ مُحْرِمَاتٍ ، أَوْ مُعْتَكِفَاتٍ .

وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ : مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يَعْنِي طَاهِرَاتٍ غَيْرِ حُيَّضٍ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 28-07-2021, 04:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (14)

سُورَةُ الْبَقَرَةِ (13)

قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ )

لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِالْمُرَادِ بِمَا كَسَبَتْهُ قُلُوبُهُمْ ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ إِذَا حَنِثَ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ " أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا كَسَبَتِ الْقُلُوبُ ، هُوَ عَقْدُ الْيَمِينِ بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ ، وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّازِمَ فِي ذَلِكَ إِذَا حَنِثَ كَفَّارَةٌ ، هِيَ : إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ فَصَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ الْآيَةَ [ 5 \ 89 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ) ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ شُمُولُهَا لِجَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ خُرُوجَ بَعْضِ الْمُطَلَّقَاتِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ ، كَالْحَوَامِلِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهُنَّ وَضْعُ الْحَمْلِ ، فِي قَوْلِهِ : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ 65 \ 4 ] وَكَالْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الدُّخُولِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَنَّهُنَّ لَا عِدَّةَ عَلَيْهِنَّ أَصْلًا ، بِقَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [ 33 \ 49 ] .

أَمَّا اللَّوَاتِي لَا يَحِضْنَ ، لِكِبَرٍ أَوْ صِغَرٍ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ عِدَّتَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فِي قَوْلِهِ : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [ 65 \ 4 ] .

قَوْلُهُ تَعَالَى : ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فِيهِ إِجْمَالٌ ; لِأَنَّ الْقُرْءَ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى الْحَيْضِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " . وَيُطْلَقُ الْقُرْءُ لُغَةً أَيْضًا عَلَى الطُّهْرِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى : [ الطَّوِيلِ ]
أَفِي كُلِّ يَوْمٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا


[ ص: 97 ]
مُوَرِّثَةٍ مَالًا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةً لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا


وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَرْءَ الَّذِي يَضِيعُ عَلَى الْغَازِي مِنْ نِسَائِهِ هُوَ الطُّهْرُ دُونَ الْحَيْضِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْقُرُوءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، هَلْ هُوَ الْأَطْهَارُ أَوِ الْحَيْضَاتُ ؟

وَسَبَبُ الْخِلَافِ اشْتِرَاكُ الْقَرْءِ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْءِ فِي الْآيَةِ الطُّهْرُ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، وَمِمَّنْ قَالَ : بِأَنَّ الْقُرُوءَ الْحَيْضَاتُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْأَرْبَعَةُ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو مُوسَى ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَغَيْرُهُمْ ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ أَحْمَدَ .

وَاحْتَجَّ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِكِتَابٍ وَسُنَّةٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّنَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ نُرَجِّحُ مَا يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ دَلِيلَهُ أَرْجَحُ أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا الْقُرُوءُ الْحَيْضَاتُ ، فَاحْتَجُّوا بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ قَالُوا : فَتَرْتِيبُ الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ عَلَى عَدَمِ الْحَيْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ ، وَالْأَشْهُرُ بَدَلٌ مِنَ الْحَيْضَاتِ عِنْدَ عَدَمِهَا ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ : وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [ 2 \ 228 ] .

قَالُوا : هُوَ الْوَلَدُ أَوِ الْحَيْضُ ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ " دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " قَالُوا : إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مُبَيِّنُ الْوَحْيِ وَقَدْ أَطْلَقَ الْقَرْءَ عَلَى الْحَيْضِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ اعْتِدَادِ الْأَمَةِ بِحَيْضَتَيْنِ ، وَحَدِيثِ اسْتِبْرَائِهَا بِحَيْضَةٍ .

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ ، فَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ 65 \ 1 ] قَالُوا : عِدَّتُهُنَّ الْمَأْمُورُ بِطَلَاقِهِنَّ لَهَا ، الطُّهْرُ لَا الْحَيْضُ كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ ، وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ " قَالُوا : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، بِأَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ ، مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَهُوَ نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ دَلِيلَ هَؤُلَاءِ هَذَا - فَصْلٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ - [ ص: 98 ] لِأَنَّ مَدَارَ الْخِلَافِ هَلِ الْقُرُوءُ الْحَيْضَاتُ أَوِ الْأَطْهَارُ ؟ وَهَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلَّا عَلَى أَنَّهَا الْأَطْهَارُ .

وَلَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ يُقَاوِمُ هَذَا الدَّلِيلَ ، لَا مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الصَّرَاحَةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّهُ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ بَيَانِ مَعْنَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى .

وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِأَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الْعِدَّةُ مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، بِقَوْلِهِ : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ، فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَتِلْكَ الْعِدَّةُ " رَاجِعَةٌ إِلَى حَالِ الطُّهْرِ الْوَاقِعِ فِيهِ الطَّلَاقُ ; لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا " أَيْ : فِي حَالِ كَوْنِهَا طَاهِرًا ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَالَ الَّذِي هُوَ الطُّهْرُ هُوَ الْعِدَّةُ مُصَرِّحًا بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ . وَأَنَّثَ بِالْإِشَارَةِ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ ، وَلَا تَخَلُّصَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ لِمَنْ يَقُولُ هِيَ الْحَيْضَاتُ إِلَّا إِذَا قَالَ : الْعِدَّةُ غَيْرُ الْقُرُوءِ ، وَالنِّزَاعُ فِي خُصُوصِ الْقُرُوءِ كَمَا قَالَ بِهَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ .

وَهَذَا الْقَوْلُ يَرُدُّهُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ ، عَلَى أَنَّ عِدَّةَ مَنْ تَعْتَدُّ بِالْقُرُوءِ هِيَ نَفْسُ الْقُرُوءِ لَا شَيْءَ آخَرَ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [ 65 \ 1 ] وَهِيَ زَمَنُ التَّرَبُّصِ إِجْمَاعًا ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ، الَّتِي هِيَ مَعْمُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى : يَتَرَبَّصْنَ [ 2 \ 228 ] فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : إِنَّ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الَّتِي تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ شَيْئًا يُسَمَّى الْعِدَّةَ زَائِدًا عَلَى ثَلَاثَةِ الْقُرُوءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْبَتَّةَ ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ .
وَفِي الْقَامُوسِ : وَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ أَيَّامُ أَقْرَائِهَا ، وَأَيَّامُ إِحْدَادِهَا عَلَى الزَّوْجِ ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِأَنَّ الْعِدَّةَ هِيَ نَفْسُ الْقُرُوءِ لَا شَيْءَ زَائِدٌ عَلَيْهَا ، وَفِي اللِّسَانِ : وَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ أَيَّامُ أَقْرَائِهَا ، وَعِدَّتُهَا أَيْضًا أَيَّامُ إِحْدَادِهَا عَلَى بَعْلِهَا ، وَإِمْسَاكُهَا عَنِ الزِّينَةِ شُهُورًا كَانَ أَوْ أَقْرَاءً أَوْ وَضْعُ حَمْلٍ حَمَلَتْهُ مِنْ زَوْجِهَا .

فَهَذَا بَيَانٌ بَالِغٌ مِنَ الصِّحَّةِ وَالْوُضُوحِ وَالصَّرَاحَةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، مَا لَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى كَلَامٍ آخَرَ . وَتُؤَيِّدُهُ قَرِينَةُ زِيَادَةِ التَّاءِ فِي قَوْلِهِ : ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لِدَلَالَتِهَا عَلَى تَذْكِيرِ الْمَعْدُودِ وَهُوَ الْأَطْهَارُ ; لِأَنَّهَا مُذَكَّرَةٌ وَالْحَيْضَاتُ مُؤَنَّثَةٌ .

وَجَوَابُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا بِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْءِ مُذَكَّرٌ وَمُسَمَّاهُ مُؤَنَّثٌ وَهُوَ الْحَيْضَةُ ، [ ص: 99 ] وَأَنَّ التَّاءَ إِنَّمَا جِيءَ بِهَا مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لَا لِلْمَعْنَى الْمُؤَنَّثِ .

يُقَالُ فِيهِ : إِنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ مُذَكَّرًا ، وَمَعْنَاهُ مُؤَنَّثًا لَا تَلْزَمُ التَّاءُ فِي عَدَدِهِ ، بَلْ تَجُوزُ فِيهِ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى ، فَيُجَرَّدُ الْعَدَدُ مِنَ التَّاءِ كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ : [ الطَّوِيلِ ]
وَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أَتَّقِي ثَلَاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمَعْصِرُ


فَجَرَّدَ لَفْظَ الثَّلَاثِ مِنَ التَّاءِ ; نَظَرًا إِلَى أَنَّ مُسَمَّى الْعَدَدِ نِسَاءً ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ الشَّخْصِ الَّذِي أَطْلَقَهُ عَلَى الْأُنْثَى مُذَكَّرٌ ، وَقَوْلِ الْآخَرِ : [ الطَّوِيلِ ]
وَإِنَّ كِلَابًا هَذِهِ عَشْرُ أَبْطُنٍ وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلِهَا الْعَشْرِ


فَمُجَرَّدُ الْعَدَدِ مِنَ التَّاءِ مَعَ أَنَّ الْبَطْنَ مُذَكَّرٌ ; نَظَرًا إِلَى مَعْنَى الْقَبِيلَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ ، كَقَوْلِهِ : [ الْوَافِرِ ]
ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ لَقَدْ عَالَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي


فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ لَفْظَ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّ الْأَنْفُسَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا ; نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنْفُسُ ذُكُورٍ ، وَتَجُوزُ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ فَيُجَرَّدُ مِنَ التَّاءِ فِي الْأَخِيرِ ، وَتَلْحَقُهُ التَّاءُ فِي الْأَوَّلِ ، وَلُحُوقُهَا إِذَنْ مُطْلَقُ احْتِمَالٍ ، وَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ دُونَ قَرِينَةٍ تُعِينُهُ ، بِخِلَافِ عَدَدِ الْمُذَكَّرِ لَفْظًا وَمَعْنًى ، كَالْقُرْءِ بِمَعْنَى الطُّهْرِ ، فَلُحُوقُهَا لَهُ لَازِمٌ بِلَا شَكٍّ ، وَاللَّازِمُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنَ الْمُحْتَمَلِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ بَدَلًا عَنْهُ ، وَلَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ كَمَا تَرَى .

فَإِنْ قِيلَ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي تَذْكِيرِ وَاحِدِ الْمَعْدُودِ وَتَأْنِيثِهِ إِنَّمَا هِيَ بِاللَّفْظِ ، وَلَا تَجُوزُ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى إِلَّا إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ ، أَوْ كَانَ قَصَدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَثِيرًا ، وَالْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ ، قَالَ الْأَشْمُونِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ : [ الرَّجَزِ ]
ثَلَاثَةٌ بِالتَّاءِ قُلْ لِلْعَشَرَهْ فِي عَدِّ مَا آحَادُهُ مُذَكَّرَهْ


فِي الضِّدِّ جَرِّدْ إِلَخْ . . . مَا نَصُّهُ : الثَّانِي اعْتِبَارُ التَّأْنِيثِ فِي وَاحِدِ الْمَعْدُودِ إِنْ كَانَ اسْمًا فَبِلَفْظِهِ ، تَقُولُ : ثَلَاثَةُ أَشْخُصٍ ، قَاصِدًا " نِسْوَةٍ " ، وَثَلَاثُ أَعْيُنٍ قَاصِدًا " رِجَالٍ " ; لِأَنَّ لَفْظَ شَخْصٍ مُذَكَّرٌ ، وَلَفْظُ عَيْنٍ مُؤَنَّثٌ ، هَذَا مَا لَمْ يَتَّصِلُ بِالْكَلَامِ مَا يُقَوِّي الْمَعْنَى ; أَوْ يَكْثُرْ فِيهِ قَصْدُ الْمَعْنَى . فَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ ذَلِكَ جَازَ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ : [ ص: 100 ]
ثَلَاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمُعْصِرُ


وَكَقَوْلِهِ : وَإِنَّ كِلَابًا . . الْبَيْتَ .

وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ :
ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ
. ا هـ مِنْهُ .

وَقَالَ الصَّبَّانُ فِي " حَاشِيَتِهِ " عَلَيْهِ : وَبِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ يَرُدُّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ 2 \ 228 ] . بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [ 24 \ 4 ] عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ لَا الْحَيْضُ ، وَعَلَى أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ; لِأَنَّ الْحَيْضَ جَمْعُ حَيْضَةٍ ; فَلَوْ أُرِيدَ الْحَيْضُ لَقِيلَ ثَلَاثٌ ، وَلَوْ أُرِيدَ النِّسَاءُ لَقِيلَ بِأَرْبَعٍ .

وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا اللَّفْظُ ، وَلَفْظُ قُرْءٍ وَشَهِيدٍ مُذَكَّرَيْنَ ، مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

فَالْجَوَابُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا خِلَافَ التَّحْقِيقِ ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِقْرَاءُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ جَوَازُ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى مُطْلَقًا ، وَجَزَمَ بِجَوَازِ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى فِي لَفْظِ الْعَدَدِ ابْنُ هِشَامٍ ، نَقَلَهُ عَنْهُ السُّيُوطِيُّ ، بَلْ جَزَمَ صَاحِبُ " التَّسْهِيلِ " وَشَارِحُهُ الدَّمَامِينِيُّ : بِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَعْنَى فِي وَاحِدِ الْمَعْدُودِ مُتَعَيِّنَةٌ .

قَالَ الصَّبَّانُ فِي " حَاشِيَتِهِ " ، مَا نَصُّهُ : قَوْلُهُ فَبِلَفْظِهِ ظَاهِرُهُ : أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ ، وَيُخَالِفُهُ مَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ مَا كَانَ لَفْظُهُ مُذَكَّرًا ، وَمَعْنَاهُ مُؤَنَّثًا ، أَوْ بِالْعَكْسِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ وَجْهَانِ ا ه .

وَيُخَالِفُهُ أَيْضًا مَا فِي " التَّسْهِيلِ " وَشَرْحِهِ لِلدَّمَامِينِيِّ . وَعِبَارَةُ " التَّسْهِيلِ " تَحْذِفُ تَاءَ الثَّلَاثَةِ وَأَخَوَاتِهَا ، إِنْ كَانَ وَاحِدُ الْمَعْدُودِ مُؤَنَّثَ الْمَعْنَى حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا .

قَالَ الدَّمَامِينِيُّ : اسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْوَاحِدِ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ ، فَلِهَذَا يُقَالُ : ثَلَاثَةُ طَلَحَاتٍ ، ثُمَّ قَالَ فِي " التَّسْهِيلِ " وَرُبَّمَا أُوِّلَ مُذَكَّرٌ بِمُؤَنَّثٍ ، وَمُؤَنَّثٌ بِمُذَكَّرٍ ، فَجِيءَ بِالْعَدَدِ عَلَى حَسَبِ التَّأْوِيلِ ، وَمَثَّلَ الدَّمَامِينِيُّ الْأَوَّلَ بِنَحْوِ ثَلَاثِ شُخُوصٍ ، يُرِيدُ نِسْوَةً وَعَشْرِ وَأَبْطُنَ يُرِيدُ قَبَائِلَ .

وَالثَّانِي بِنَحْوِ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ ؛ أَيْ : أَشْخَاصٍ وَتِسْعَةِ وَقَائِعَ أَيْ : مَشَاهِدَ ، فَتَأَمَّلْ . انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ . وَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ " التَّسْهِيلِ " وَشَارِحُهُ ، مِنْ تَعَيُّنِ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى ، يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَعَيُّنُ كَوْنِ الْقُرْءِ فِي الْآيَةِ هُوَ الطُّهْرُ ، كَمَا ذَكَرْنَا .

وَفِي " حَاشِيَةِ الصَّبَّانِ " أَيْضًا مَا نَصُّهُ : قَوْلُهُ جَازَ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى فِي التَّوْضِيحِ أَنَّ [ ص: 101 ] ذَلِكَ لَيْسَ قِيَاسِيًّا ، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ ، مِنْ أَنَّ مَا كَانَ لَفْظُهُ مُذَكَّرًا وَمَعْنَاهُ مُؤَنَّثًا أَوْ بِالْعَكْسِ ، يَجُوزُ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَيْ : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُرَجِّحٌ لِلْمَعْنَى ، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ [ التَّسْهِيلِ ] وَشَرْحِهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْمَعْنَى ، فَتَأَمَّلْ . ا ه مِنْهُ .

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّهَا الْحَيْضَاتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الْآيَةَ [ 65 \ 4 ] ، فَيُقَالُ فِيهِ : إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُعَيِّنُ أَنَّ الْقُرُوءَ الْحَيْضَاتُ ; لِأَنَّ الْأَقْرَاءَ لَا تُقَالُ فِي الْأَطْهَارِ إِلَّا فِي الْأَطْهَارِ الَّتِي يَتَخَلَّلُهَا حَيْضٌ ، فَإِنْ عُدِمَ الْحَيْضُ عُدِمَ مَعَهُ اسْمُ الْأَطْهَارِ ، وَلَا مَانِعَ إِذَنْ مِنْ تَرْتِيبِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهَرِ عَلَى عَدَمِ الْحَيْضِ مَعَ كَوْنِ الْعِدَّةِ بِالطُّهْرِ ; لِأَنَّ الطُّهْرَ الْمُرَادَ يَلْزَمُهُ وُجُودُ الْحَيْضِ وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ ، فَانْتِفَاءُ الْحَيْضِ يَلْزَمُهُ انْتِفَاءُ الْأَطْهَارِ فَكَأَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَشْهُرِ مُرَتَّبَةٌ أَيْضًا عَلَى انْتِفَاءِ الْأَطْهَارِ ، الْمَدْلُولُ عَلَّهُ بِانْتِفَاءِ الْحَيْضِ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِآيَةٍ : وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ كَوْنَ الْقُرُوءِ الْأَطْهَارُ لَا يُبِيحُ لِلْمُعْتَدَّةِ كَتْمَ الْحَيْضِ ; لِأَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَطْهَارِ لَا تُمَكَّنُ إِلَّا بِتَخَلُّلِ الْحَيْضِ لَهَا ، فَلَوْ كَتَمَتِ الْحَيْضَ لَكَانَتْ كَاتِمَةً انْقِضَاءَ الطُّهْرِ ، وَلَوِ ادَّعَتْ حَيْضًا لَمْ يَكُنْ كَانَتْ كَاتِمَةً ; لِعَدَمِ انْقِضَاءِ الطُّهْرِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ .

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ " دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " فَيُقَالُ فِيهِ : إِنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْبَتَّةَ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ يُطْلَقُ عَلَى الْحَيْضِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ .

أَمَّا كَوْنُهُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ إِطْلَاقِ الْقُرْءِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى الطُّهْرِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِلَا نِزَاعٍ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ : بِوُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ فِي : أَنَّ إِطْلَاقَ الْمُشْتَرَكِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ فِي مَوْضِعٍ ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَنْعُ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْآخَرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .

أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْعَيْنِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبَاصِرَةِ وَالْجَارِيَةِ مَثَلًا ، فَهَلْ تَقُولُ إِنَّ إِطْلَاقَهُ تَعَالَى لَفْظَ الْعَيْنِ عَلَى الْبَاصِرَةِ فِي قَوْلِهِ : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ الْآيَةَ [ 5 \ 45 ] يَمْنَعُ إِطْلَاقَ الْعَيْنِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى الْجَارِيَةِ ، كَقَوْلِهِ : فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ [ 88 \ 12 ] .

وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ ، أَوْ مَعَانِيهِ فِي الْحَالِ الْمُنَاسِبَةِ لِذَلِكَ ، وَالْقُرْءُ فِي حَدِيثِ " دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " مُنَاسِبٌ لِلْحَيْضِ [ ص: 102 ] دُونَ الطُّهْرِ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ إِنَّمَا تُتْرَكُ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ دُونَ وَقْتِ الطُّهْرِ .

وَلَوْ كَانَ إِطْلَاقُ الْمُشْتَرَكِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ يُفِيدُ مَنْعَ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْآخَرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، لَمْ يَكُنْ فِي اللُّغَةِ اشْتَرَاكٌ أَصْلًا ; لِأَنَّهُ كُلُّ مَا أَطْلَقَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَنَعَ إِطْلَاقَهُ لَهُ عَلَى الْآخَرِ ، فَيُبْطِلُ اسْمَ الِاشْتِرَاكِ مِنْ أَصْلِهِ مَعَ أَنَّا قَدَّمْنَا تَصْرِيحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " بِأَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الْعِدَّةُ " وَكُلُّ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ حَدِيثِ " دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " لِأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ ضَعَّفَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهُ .

وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَ طُرُقِهِ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْقَبُولِ ، إِلَّا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ .

وَلَوْ كَانَ فِيهِ لَكَانَ مَرْدُودًا بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَصْرَحُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَا . وَكَذَلِكَ اعْتِدَادُ الْأَمَةِ بِحَيْضَتَيْنِ عَلَى تَقْرِيرِ ثُبُوتِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَا يُعَارِضُ مَا قَدَّمْنَا ; لِأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْهُ وَأَصْرَحُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، وَاسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعِدَّةِ لَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ . وَرَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الدَّالَّيْنِ عَلَى أَنَّهَا الْأَطْهَارُ ، بِأَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ الِاعْتِدَادُ بِالطُّهْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ كَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْقَائِلِينَ : بِأَنَّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ ، فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ كَوْنُ الْعِدَّةِ قُرْءَيْنِ وَكَسْرًا مِنَ الثَّالِثِ ، وَذَلِكَ خِلَافَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ كَامِلَةٍ مَرْدُودٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا تُعَارَضُ بِهِ نُصُوصُ الْوَحْيِ الصَّرِيحَةُ ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ إِطْلَاقُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَالْمُرَادُ شَهْرَانِ وَكَسْرٍ .

وَادِّعَاءُ أَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي أَسْمَاءِ الْعَدَدِ يُقَالُ فِيهِ : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي ذَكَرَ إِنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الْوَاقِعِ فِيهِ الطَّلَاقُ عِدَّةٌ ، مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ الْمَذْكُورَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضَاتُ بَعِيدٌ جِدًّا مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ كَمَا تَرَى .

بَلْ لَفْظُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورَيْنِ صَرِيحٌ فِي نَقِيضِهِ ، هَذَا هُوَ مَا ظَهَرَ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَنِسْبَةُ الْعِلْمُ إِلَيْهِ أَسْلَمُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا [ 2 \ 228 ] ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَزْوَاجَ كَلِّ الْمُطَلَّقَاتِ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ رَجْعِيَّةٍ وَغَيْرِهَا .

[ ص: 103 ] وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْبَائِنَ لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [ 33 \ 49 ] .

وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَائِنٌ ، كَمَا أَنَّهُ أَشَارَ هُنَا إِلَى أَنَّهَا إِذَا بَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ : ( ذَلِكَ ) رَاجِعَةٌ إِلَى زَمَنِ الْعِدَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِـ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ .

وَاشْتَرَطَ هُنَا فِي كَوْنِ بُعُولَةِ الرَّجْعِيَّاتِ أَحَقَّ بِرَدِّهِنَّ إِرَادَتَهُمُ الْإِصْلَاحَ بِتِلْكَ الرَّجْعَةِ ، فِي قَوْلِهِ : إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَفْهُومِ هَذَا الشَّرْطِ هُنَا ، وَلَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ زَوْجَ الرَّجْعِيَّةِ إِذَا ارْتَجَعَهَا لَا بِنْيَةَ الْإِصْلَاحِ بَلْ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ بِهَا ; لِتُخَالِعَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، أَنَّ رَجْعَتَهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ ، كَمَا هُوَ مَدْلُولُ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [ 2 \ 231 ] .

فَالرَّجْعَةُ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ حَرَامٌ إِجْمَاعًا ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَفْهُومُ الشَّرْطِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي قَوْلِهِ : وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا الْآيَةَ ، وَصِحَّةُ رَجَعَتِهِ حِينَئِذٍ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ ، فَلَوْ صَرَّحَ لِلْحَاكِمِ بِأَنَّهُ ارْتَجَعَهَا بِقَصْدِ الضَّرَرِ ، لَأَبْطَلَ رَجَعَتَهُ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )

لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الدَّرَجَةُ الَّتِي لِلرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ لَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [ 4 \ 34 ] فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الرَّجُلَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الذُّكُورَةَ شَرَفٌ وَكَمَالٌ ، وَالْأُنُوثَةَ نَقْصٌ خَلْقِيٌّ طَبِيعِيٌّ ، وَالْخَلْقُ كَأَنَّهُ مُجْمِعٌ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأُنْثَى يَجْعَلُ لَهَا جَمِيعُ النَّاسِ أَنْوَاعَ الزِّينَةِ وَالْحُلِيِّ ، وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِجَبْرِ النَّقْصِ الْخُلُقِيِّ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي هُوَ الْأُنُوثَةُ ، بِخِلَافِ الذَّكَرِ فَجَمَالُ ذُكُورَتَهِ يَكْفِيهِ عَنِ الْحُلِيِّ وَنَحْوِهِ .

وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى نَقْصِ الْمَرْأَةِ وَضَعْفِهَا الْخُلُقِيَّيْنِ الطَّبِيعِيَّيْنِ بِقَوْلِهِ : أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [ 43 \ 18 ] [ ص: 104 ] لِأَنَّ نَشْأَتَهَا فِي الْحِلْيَةِ دَلِيلٌ عَلَى نَقْصِهَا الْمُرَادُ جَبْرُهُ وَالتَّغْطِيَةُ عَلَيْهِ بِالْحُلِيِّ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : [ الطَّوِيلِ ]
وَمَا الْحَلْيُ إِلَّا زِينَةً مِنْ نَقِيصَةٍ يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحَسَنُ قَصَّرَا


وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفَّرًا كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوَّرَا

وَلِأَنَّ عَدَمَ إِبَانَتِهَا فِي الْخِصَامِ إِذَا ظُلِمَتْ دَلِيلٌ عَلَى الضَّعْفِ الْخَلْقِيِّ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : [ الطَّوِيلِ ]
بِنَفْسِي وَأَهْلِي مَنْ إِذَا عَرَضُوا لَهُ بِبَعْضِ الْأَذَى لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُجِيبُ



فَلَمْ يَعْتَذِرْ عُذْرَ الْبَرِيءِ وَلَمْ تَزَلْ بِهِ سَكْتَةٌ حَتَّى يُقَالَ مُرِيبٌ


وَلَا عِبْرَةَ بِنَوَادِرِ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ النَّادِرَ لَا حُكْمَ لَهُ .

وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ : وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَى أَنَّ الْكَامِلَ فِي وَصْفِهِ وَقُوَّتِهِ وَخِلْقَتِهِ يُنَاسِبُ حَالَهُ ، أَنْ يَكُونَ قَائِمًا عَلَى الضَّعِيفِ النَّاقِصِ خِلْقَةً .

وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا جُعِلَ مِيرَاثُهُ مُضَاعَفًا عَلَى مِيرَاثِهَا ; لِأَنَّ مَنْ يَقُومُ عَلَى غَيْرِهِ مُتَرَقِّبٌ لِلنَّقْصِ ، وَمَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مُتَرَقِّبٌ لِلزِّيَادَةِ ، وَإِيثَارُ مُتَرَقِّبِ النَّقْصِ عَلَى مُتَرَقِّبِ الزِّيَادَةِ ظَاهِرُ الْحِكْمَةِ .

كَمَا أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حِكْمَةِ كَوْنِ الطَّلَاقِ بِيَدِ الرَّجُلِ دُونَ إِذْنِ الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ حَقْلَهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلزِّرَاعَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْغَمَ عَلَى الِازْدِرَاعِ فِي حَقْلٍ لَا يُنَاسِبُ الزِّرَاعَةَ . وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ آلَةَ الِازْدِرَاعِ بِيَدِ الرَّجُلِ ، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْبَقَاءِ مَعَ مَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ فِيهَا حَتَّى تَرْضَى بِذَلِكَ ، فَإِنَّهَا إِنْ أَرَادَتْ أَنْ تُجَامِعَهُ لَا يَقُومُ ذَكَرُهُ وَلَا يَنْتَشِرُ إِلَيْهَا ، فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى تَحْصِيلِ النَّسْلِ مِنْهُ ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْغَرَضِ مِنَ النِّكَاحِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ ; فَإِنَّهُ يُوَلِّدُهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ كَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ) ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ كُلَّهُ مُنْحَصِرٌ فِي الْمَرَّتَيْنِ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمُنْحَصِرَ فِي الْمَرَّتَيْنِ هُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي تُمْلَكُ بَعْدَهُ الرَّجْعَةُ لَا مُطْلَقًا ، وَذَلِكَ بِذِكْرِهِ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةُ الَّتِي لَا تَحِلُّ بَعْدَهَا الْمُرَاجَعَةُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ [ 2 \ 230 ] ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ : أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [ 2 \ 229 ] يَعْنِي بِهِ عَدَمَ الرَّجْعَةِ .

[ ص: 105 ] وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
تَنْبِيهٌ

ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ يُؤْخَذُ مِنْهَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ : " بَابُ مَنْ جَوَّزَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) .

وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ الْمُرَادَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ هُوَ مَا قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [ 2 \ 229 ] عَلِمْنَا أَنَّ إِحْدَى الْمَرَّتَيْنِ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ تَطْلِيقَتَيْنِ ، وَإِذَا جَازَ جَمْعُ التَّطْلِيقَتَيْنِ دَفْعَةً ، جَازَ جَمْعُ الثَّلَاثِ ، وَرَدَّ ابْنُ حَجَرٍ هَذَا بِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ ، وَجَعَلَ الْآيَةَ دَلِيلًا لِنَقِيضِ ذَلِكَ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ غَيْرُ نَاهِضٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ الطَّلَاقِ كُلَّهُ فِي الْمَرَّتَيْنِ حَتَّى يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ فِي إِحْدَى التَّطْلِيقَتَيِنِ كَمَا ذَكَرَ ، بَلِ الْمُرَادُ بِالطَّلَاقِ الْمَحْصُورِ هُوَ خُصُوصُ الطَّلَاقِ الَّذِي تُمْلَكُ بَعْدَهُ الرَّجْعَةُ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَكَمَا فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ جَمَاهِيرُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَجْهُ الدَّلِيلِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ ، وَلَكِنَّ كَوْنَ الْآيَةِ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، لَا يُنَافِي أَنْ تَقُومَ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةٌ ، وَسَنَذْكُرُ أَدِلَّةَ ذَلِكَ وَأَدِلَّةَ مَنْ خَالَفَ فِيهِ ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ إِيضَاحِ خُلَاصَةِ الْبَحْثِ كُلِّهِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ إِيضَاحًا تَامًّا .

فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ نَسْتَعِينُ : اعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ مُجْتَمِعَةً حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ، الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ لِعَانِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَزَوْجِهِ ; فَإِنَّ فِيهِ : " فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ : كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَكَانَتْ سُنَّةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ " .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 28-07-2021, 04:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (15)

سُورَةُ الْبَقَرَةِ (14)



أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْهُ ، وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ : أَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَرَدَّ الْمُخَالِفُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ ; بِأَنَّ الْمُفَارَقَةَ وَقَعَتْ بِنَفْسِ اللِّعَانِ فَلَمْ [ ص: 106 ] يُصَادِفْ تَطْلِيقَهُ الثَّلَاثَ مَحَلًّا ، وَرَدَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ ; بِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْحَدِيثِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ مَجْمُوعَةً ، فَلَوْ كَانَ مَمْنُوعًا لَأَنْكَرَهُ ، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَبِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ صَرِيحَةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ .

فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِلِعَانِ الزَّوْجَيْنِ مَعًا ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ ، وَتَقَعُ عِنْدَ فَرَاغِ الزَّوْجِ مِنْ أَيْمَانِهِ قَبْلَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ .

وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَتْبَاعُهُمَا إِلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ حَتَّى يُوقِعَهَا الْحَاكِمُ ; وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ مَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثِ اللِّعَانِ ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَذَفَهَا ، وَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . وَأَخْرَجَ أَيْضًا فِي " صَحِيحِهِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِنَّهُ قَالَ : " لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا " وَرَوَاهُ بَاقِي الْجَمَاعَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ : إِنَّ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ " فَرَّقَ " بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ خَطَأٌ ، يَعْنِي فِي خُصُوصِ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمُتَقَدِّمِ ، لَا مُطْلَقًا ، بِدَلِيلِ ثُبُوتِهَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَرَى . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : إِنْ أَرَادَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ فَسَهْلٌ ، وَإِلَّا فَمَرْدُودٌ . وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " مَا نَصُّهُ : وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ إِطْلَاقَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ تَخْطِئَةَ الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ " فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ " إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ بِخُصُوصِهِ ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَقَالَ بَعْدَهُ لَمْ يُتَابِعِ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ : " فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ " ا ه ، مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظٍ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ : " فَكَانَتْ سُنَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ " .

وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا اللَّفْظِ هَلْ هُوَ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ فَيَكُونُ مُرْسَلًا ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ؟ أَوْ هُوَ مِنْ كَلَامِ سَهْلٍ فَهُوَ مَرْفُوعٌ مُتَّصِلٌ ؟ وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ مِنْ كَلَامِ سَهْلٍ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ : فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ مَا صُنِعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةً .


قَالَ سَهْلٌ : حَضَرْتُ هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ ، أَنْ [ ص: 107 ] يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا .

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " : وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ عِنْدَهُ الْحَسَنُ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، وَبِهَا تَعْلَمُ أَنَّ احْتِجَاجَ الْبُخَارِيِّ لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً بِحَدِيثِ سَهْلٍ الْمَذْكُورِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ ; لِأَنَّ الْمُطَّلِعَ عَلَى غَوَامِضِ إِشَارَاتِ الْبُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَفْهَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الثَّابِتَ فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مُطَابِقٌ لِتَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ ، وَأَنَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يُخَرِّجْهَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِهِ ، فَتَصْرِيحُ هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ : " بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْفَذَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً " يَبْطُلُ بِإِيضَاحٍ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِسُكُوتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرِهِ لَهُ ; بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ كَمَا تَرَى .

وَذَهَبَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ الْبَصْرِيُّ ، أَحَدُ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ حَتَّى يُوقِعَهَا الزَّوْجُ ، وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّهَا تَقَعُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ كَوْنَ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ لَيْسَ أَمْرًا قَطْعِيًّا ، حَتَّى تَرِدَ بِهِ دَلَالَةُ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ ، عَلَى إِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً ، الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ ذَلِكَ ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثٍ لِأَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَضَى أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ قُوتٌ وَلَا سُكْنَى ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا .

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لِعَدَمِ إِيجَابِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى ; لِلْمُلَاعَنَةِ بِعَدَمِ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَيْسَ مَرْفُوعًا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ الْعِلَّةَ لِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَدَمِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى ، وَأَرَاهُ اجْتِهَادَهُ أَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ عَدَمُ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ .

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى هِيَ الْبَيْنُونَةُ بِمَعْنَاهَا الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ وُقُوعِهَا بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْفَسْخِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْبَائِنَ بِالطَّلَاقِ لَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا .

فَعُلِمَ أَنَّ عَدَمَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ الطَّلَاقِ .

وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ فِي ذَلِكَ مَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ [ ص: 108 ] عَنْهَا : " أَنَّهَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ فِي أَنَّ الْبَائِنَ بِالطَّلَاقِ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ .

وَصَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنَ السُّنَّةِ مَا يُخَالِفُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ هَذَا ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَهَا : " السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ " . فَقَالَ : قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : لَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ .

وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : السُّنَّةُ بِيَدِ فَاطِمَةَ قَطْعًا ، وَأَيْضًا تِلْكَ الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَمَوْلِدُهُ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بِسَنَتَيْنِ .

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ شَهَادَةً نُسْأَلُ عَنْهَا إِذَا لَقِينَاهُ ، أَنَّهَا كَذِبٌ عَلَى عُمَرَ ، وَكَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا حُقِّقَتْ أَنَّ السُّنَّةَ مَعَهَا وَأَنَّهَا صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ ، فَاعْلَمْ أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ قَوْلَ عُمَرَ لَا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِ امْرَأَةٍ ، لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ ، قَالَتْ : بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ . قَالَ اللَّهُ : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ 65 \ 1 ] ، حَتَّى قَالَ : لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [ 65 \ 1 ] . فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ . فَتَحَصَّلَ أَنَّ السُّنَّةَ بِيَدِهَا وَكِتَابَ اللَّهِ مَعَهَا .

وَهَذَا الْمَذْهَبُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ هُوَ أَوْضَحُ الْمَذَاهِبِ وَأَصْوَبُهَا . وَلِلْعُلَمَاءِ فِي نَفَقَةِ الْبَائِنِ وَسُكْنَاهَا أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُمَا مَعًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ .

فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ هَذَا يَرُدُّ تَعْلِيلَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ ، وَأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِهِ ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ سُقُوطَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ الطَّلَاقِ ، بَلْ يَكُونُ مَعَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ ، وَأَيْضًا فَالتَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ الثَّلَاثَ دَفْعَةً فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ ، وَهَذَا الصَّحَابِيُّ حَفِظَ إِنْفَاذَ الثَّلَاثِ ، وَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي .

فَإِنْ قِيلَ : إِنْفَاذُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَ دَفْعَةً مِنَ الْمُلَاعِنِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي غَيْرِ اللِّعَانِ ; لِأَنَّ اللِّعَانَ تَجِبُ فِيهِ الْفُرْقَةُ الْأَبَدِيَّةُ . فَإِنْفَاذُ الثَّلَاثِ مُؤَكِّدٌ لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ [ ص: 109 ] بِخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي غَيْرِ اللِّعَانِ .

وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَضِبَ مِنْ إِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً فِي غَيْرِ اللِّعَانِ ، وَقَالَ : " أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ ! " كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ ، فَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : الْكَلَامُ فِي حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ ، فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ مِنْ جِهَتَيْنِ : الْأُولَى : أَنَّهُ مُرْسَلٌ ; لِأَنَّ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَتْ وِلَادَتُهُ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذِكْرُهُ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ أَجْلِ الرُّؤْيَةِ ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ ، وَأَخْرَجَ لَهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ صَرَّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ .

الثَّانِيَةُ : أَنَّ النَّسَائِيَّ قَالَ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرُ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ يَعْنِي ابْنَ الْأَشَجِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، وَرِوَايَةُ مَخْرَمَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، وِجَادَةٌ مِنْ كِتَابِهِ ، قَالَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا .

وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ : سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ قَلِيلًا ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِيهِ وِجَادَةٌ مِنْ كِتَابِهِ ، قَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ : سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ قَلِيلًا .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا الْإِعْلَالُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ ، فَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ وَمَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ لَهَا حُكْمُ الْوَصْلِ ، وَمَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ الْمَذْكُورُ جُلُّ رِوَايَتِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " وَغَيْرِهِ .

وَالْإِعْلَالُ الثَّانِي بِأَنَّ رِوَايَةَ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ وِجَادَةٌ مِنْ كِتَابِهِ فِيهِ أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ فِي " صَحِيحِهِ " عِدَّةَ أَحَادِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مَخْرَمَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، وَالْمُسْلِمُونَ مُجْمِعُونَ عَلَى قَبُولِ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ إِلَّا بِمُوجِبٍ صَرِيحٍ يَقْتَضِي الرَّدَّ ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ إِلَّا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ يَرُدُّهُ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ حَدِيثَ مَحْمُودٍ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ الثَّلَاثَ ، وَلَا أَنَّهُ لَمْ يُنْفِذْهَا ، وَحَدِيثُ سَهْلٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ أَنْفَذَهَا ، وَالْمُبَيَّنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُجْمَلِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ بَلْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ احْتَجَّ لِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً ، بِحَدِيثِ مَحْمُودٍ هَذَا .

وَوَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِهِ أَنَّهُ طَلَّقَ ثَلَاثًا يَظُنُّ لُزُومَهَا ، فَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ لِبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ ص: 110 ] أَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ ; لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ إِمَامَ الْمُحَدِّثِينَ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخْرَجَ حَدِيثَ سَهْلٍ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ : " بَابُ مَنْ جَوَّزَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ " وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الْفَرْقِ بَيْنَ اللِّعَانِ وَغَيْرِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِإِنْفَاذِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ : هُوَ مَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً ، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لَا يَخْلُو مِنْ كَلَامٍ . وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ اللِّعَانَ طَلَاقٌ لَا فَسْخٌ : أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَحَمَّادٌ ، وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، كَمَا نَقَلَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ : إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ رُدَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ .

وَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ رَدَّ الِاحْتِجَاجِ بِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُوَيْمِرَ الْعَجْلَانِيَّ ، عَلَى إِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً ، بِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سُكُوتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا دَلِيلَ فِيهِ ، بَلْ نَقُولُ : لَوْ كَانَتْ لَا تَقَعُ دَفْعَةً لَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَقَعُ دَفْعَةً ، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ وَامْرَأَتِهِ ، فَإِنَّ فِيهِ : " فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنْ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي " الْحَدِيثَ . وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَإِنَّ قَوْلَهَا " فَبَتَّ طَلَاقِي " ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ الْبَتَّةَ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ نَاهِضٍ فِيمَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ مُرَادَهَا بِقَوْلِهَا : فَبَتَّ طَلَاقِي ؛ أَيْ : بِحُصُولِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ .

وَيُبَيِّنُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهَا قَالَتْ : طَلَّقَنِي آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهَا فَبَتَّ طَلَاقِي ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ . وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا : " أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ، فَتَزَوَّجَتْ فَطَلَّقَ ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ ؟ قَالَ : " لَا ، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الْأَوَّلُ " فَإِنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثًا ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا مَجْمُوعَةً ، وَاعْتَرَضَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ قِصَّةِ رِفَاعَةَ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثٌ مُفَرَّقَةٌ لَا مَجْمُوعَةٌ ، وَرَدَّ هَذَا [ ص: 111 ] الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ غَيْرَ رِفَاعَةَ قَدْ وَقَعَ لَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ لِرِفَاعَةَ ، فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّعَدُّدِ ، وَكَوْنُ الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجْرٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ رِفَاعَةَ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا مَا نَصُّهُ : وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَالْوَاضِحُ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّهَا قِصَّةٌ أُخْرَى ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ ، وَرِفَاعَةَ النَّضْرِيِّ وَقَعَ لَهُ مَعَ زَوْجَةٍ لَهُ طَلَاقٌ ، فَتَزَوَّجَ كُلًّا مِنْهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا ، فَالْحُكْمُ فِي قِصَّتِهِمَا مُتَّحِدٌ مَعَ تَغَايُرِ الْأَشْخَاصِ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ خَطَأُ مَنْ وَحَّدَ بَيْنَهُمَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سَمَوْأَلٍ هُوَ رَفَاعَةُ بْنُ وَهْبٍ . ا ه ، مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ : " أُخْبِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا ، فَقَامَ مُغْضَبًا ، فَقَالَ : " أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ ! " وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ : أَنَّ الْمُطَلِّقَ يَظُنُّ الثَّلَاثَ الْمَجْمُوعَةَ وَاقِعَةً ، فَلَوْ كَانَتْ لَا تَقَعُ لَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا لَا تَقَعُ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ .

وَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي حَدِيثِ مَحْمُودٍ هَذَا : إِنَّ إِسْنَادَهُ جَيِّدٌ ، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي " بُلُوغِ الْمَرَامِ " : رُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ ، وَقَالَ فِي " الْفَتْحِ " : رِجَالُهُ ثِقَاتٌ ، فَإِنْ قِيلَ : غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَصْرِيحُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْجَمْعَ لِلطَّلَقَاتِ لَعِبٌ بِكِتَابِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " ، وَفِي رِوَايَةِ " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " ، فَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَهُ مَمْنُوعًا ابْتِدَاءً لَا يُنَافِي وُقُوعَهُ بَعْدَ الْإِيقَاعِ ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ : وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ ، وَعَصَيْتَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكِ ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ : إِنَّهُ مَرْفُوعٌ ، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحِ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا مِنْ حَدِيثِهِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ : " كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ وَتَكُونُ مَعْصِيَةٌ " وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ ثَلَاثٍ أَوْقَعَهَا دَفْعَةً : " إِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلُ لَكَ مَخْرَجًا ، عَصَيْتَ رَبَّكَ ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ " .

وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُنَاسِبُ لِمُرْتَكِبِ الْمَعْصِيَةِ التَّشْدِيدُ لَا التَّخْفِيفُ بِعَدَمِ الْإِلْزَامِ ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِنَّهُ قَالَ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا ؟ قَالَ : " لَا ، كَانَتْ [ ص: 112 ] تَبِينُ مِنْكَ وَتَكُونُ مَعْصِيَةٌ " وَفِي إِسْنَادِهِ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَقَدْ وَثَّقَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ ، وَأَبُو حَاتِمٍ : لَا بَأْسَ بِهِ ، وَكَذَّبَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : لَيْسَ فِيمَنْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّرْكَ غَيْرُهُ ، وَقَالَ شُعْبَةُ : كَانَ نَسِيًّا ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : كَانَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ كَثِيرُ الْوَهْمِ سَيِّئُ الْحِفْظِ ، يُخْطِئُ وَلَا يَدْرِي ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ فِي رِوَايَتِهِ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ . وَأَيْضًا الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْحُجَّةِ مِنَ الْحَدِيثِ أَعْنِي قَوْلَهُ : " أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا " إِلَخْ ، مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ عَطَاءٌ الْمَذْكُورُ . وَقَدْ شَارَكَهُ الْحُفَّاظُ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ . وَفِي إِسْنَادِهَا شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ الشَّامِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَأَعَلَّ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ هَذَا الْحَدِيثَ ، بِأَنَّ فِي إِسِنَادِهِ مُعَلَّى بْنَ مَنْصُورٍ ، وَقَالَ : رَمَاهُ أَحْمَدُ بِالْكَذِبِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ الْمَذْكُورُ فَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ فِي " صَحِيحِهِ " وَأَمَّا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ فَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : ثِقَةٌ سُنِّيٌّ فَقِيهٌ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ ، أَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحْمَدَ رَمَاهُ بِالْكَذِبِ ، أَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ . وَأَمَّا شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ أَبُو شَيْبَةَ الشَّامِيِّ فَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ يُخْطِئُ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ مَرْدُودَ الْحَدِيثِ ، لَا سِيَّمَا وَقَدِ اعْتَضَدَتْ رِوَايَتُهُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ ، وَبِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ قَالَ فِي [ السُّنَنِ الْكُبْرَى ] مَا نَصُّهُ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ : أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارِ ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ ، أَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ ، قَالَ : كَانَتْ عَائِشَةُ الْخَثْعَمِيَّةُ عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَتْ : لِتَهْنِكَ الْخِلَافَةُ ، قَالَ : بِقَتْلِ عَلِيٍّ تُظْهِرِينَ الشَّمَاتَةَ ، اذْهَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، يَعْنِي ثَلَاثًا قَالَ : فَتَلَفَّعَتْ بِثِيَابِهَا ، وَقَعَدَتْ حَتَّى قَضَتْ عِدَّتَهَا ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِبَقِيَّةٍ بَقِيَتْ لَهَا مِنْ صَدَاقِهَا وَعَشَرَةِ آلَافٍ صَدَقَةً ، فَلَمَّا جَاءَهَا الرَّسُولُ قَالَتْ : مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقٍ ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُهَا بَكَى ، ثُمَّ قَالَ : لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ جَدِّي أَوْ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي يَقُولُ : " أَيُّمَا رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْأَقْرَاءِ " أَوْ " ثَلَاثًا مُبْهَمَةً لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ " لَرَاجَعْتُهَا .

وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شَمِرٍ ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُسْلِمٍ ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ . ا ه مِنْهُ بِلَفْظِهِ . وَضِعْفُ هَذَا الْإِسْنَادِ بِأَنَّ فِيهِ مُحَمَّدَ بْنَ [ ص: 113 ] حُمَيْدِ بْنِ حَيَّانَ الرَّازِيَّ ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : حَافِظٌ ضَعِيفٌ ، وَكَانَ ابْنُ مَعِينٍ حَسَنَ الرَّأْيِ فِيهِ ، أَنَّ فِيهِ أَيْضًا سَلَمَةَ بْنَ الْفَضْلِ الْأَبْرَشَ ، مَوْلَى الْأَنْصَارِ قَاضِي الرَّيِّ قَالَ فِيهِ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ كَثِيرُ الْخَطَأِ وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَرَوَى نَحْوَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ ، وَضَعَّفَ الْحَدِيثَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ ، وَيُؤَيِّدُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ أَيْضًا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ إِنَّهُ قَالَ : " وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ ، وَعَصَيْتَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ " . وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ : إِنَّهُ مَرْفُوعٌ ، وَعَلَى ثُبُوتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ .
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 28-07-2021, 04:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

فَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ ; بِنَاءً عَلَى حَمْلِهِ عَلَى كَوْنِ الثَّلَاثِ مُفَرَّقَةً لَا مُجْتَمِعَةً ، فَهُوَ بَعِيدٌ . وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا مُجْتَمِعَةً ; لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَا يَسْأَلُ عَنِ الثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ، وَلَيْسَ مَحَلُّ نِزَاعٍ . وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي " مُصَنَّفِهِ " ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : " طَلَّقَ جَدِّي امْرَأَةً لَهُ أَلْفَ تَطْلِيقَةٍ ، فَانْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا اتَّقَى اللَّهَ جَدُّكَ ، أَمَّا ثَلَاثٌ فَلَهُ ، وَأَمَّا تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ فَعُدْوَانٌ وَظُلْمٌ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ " . وَفِي رِوَايَةٍ : " إِنَّ أَبَاكَ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا ، بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ ، وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ إِثْمٌ فِي عُنُقِهِ " وَفِي إِسْنَادِهِ يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، وَلَا يُحْتَجُّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ .

وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ . وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ : قُلْتُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : حَدِّثِينِي عَنْ طَلَاقِكِ ، قَالَتْ : طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا ، وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى الْيَمَنِ ، فَأَجَازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوِّجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا ، فَأَخَافُ أَنْ يَقْتَحِمَ عَلَيَّ فَأَمَرَهَا فَتَحَوَّلَتْ " .

وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْيَمَنِ إِلَخْ . . . وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ : " فَطَلَّقَنِي الْبَتَّةَ " .

قَالُوا : فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ بِالثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ ، وَلَا سِيَّمَا [ ص: 114 ] حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ ; لِقَوْلِهَا فِيهِ : فَأَجَازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِإِجَازَتِهِ إِلَّا الثَّلَاثَ الْمُجْتَمِعَةَ ، وَرَدَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ ، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ أَيْضًا : أَنَّ فَاطِمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ .

فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفَسِّرُ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَتُظْهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مُفَرَّقًا لَا دَفْعَةً ، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَفْرِيقِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ بَيْنَ صِيَغِ الْبَيْنُونَةِ الثَّلَاثِ ، يَعْنُونَ لَفْظَ الْبَتَّةَ وَالثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ ، وَالثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ ; لِتَعْبِيرِهَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا ، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ : طَلَّقَنِي الْبَتَّةَ ، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظٍ : فَطَلَّقَنِي آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ . فَلَمْ تَخُصَّ لَفْظًا مِنْهَا عَنْ لَفْظٍ ; لِعِلْمِهَا بِتَسَاوِي الصِّيَغِ .

وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَحْرُمُ لَاحْتَرَزَتْ مِنْهُ .

قَالُوا : وَالشَّعْبِيُّ قَالَ لَهَا : حَدِّثِينِي عَنْ طَلَاقِكِ ، أَيْ : عَنْ كَيْفِيَّتِهِ وَحَالِهِ . فَكَيْفَ يَسْأَلُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَيَقْبَلُ الْجَوَابَ بِمَا فِيهِ عِنْدَهُ إِجْمَالٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَفْسِرَ عَنْهُ ، وَأَبُو سَلَمَةَ رَوَى عَنْهَا الصِّيَغَ الثَّلَاثَ ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُ عِنْدَهُ تَفَاوُتٌ لَاعْتَرَضَ عَلَيْهَا بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا ، وَتَثَبَّتَ حَتَّى يَعْلَمَ مِنْهَا بِأَيِّ الصِّيَغِ وَقَعَتْ بَيْنُونَتُهَا ، فَتَرْكُهُ لِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَسَاوِي الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُ هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَجِلَّاءِ .

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا إِجْمَالٌ بَيَّنَتْهَا الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الْأُخْرَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ : قَالَ أَبُو دَاوُدَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ عَنْ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ . فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً " ؟ فَقَالَ رُكَانَةُ : وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً ، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ ، فَهَذَا الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ .

وَقَالَ فِيهِ ابْنُ مَاجَهْ : سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيَّ يَقُولُ : مَا أَشْرَفَ هَذَا الْحَدِيثِ .

[ ص: 115 ] وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " : قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : قَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخَرُ ، فَهُوَ حَسَنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . وَهُوَ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّ تَحْلِيفَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرُكَانَةَ مَا أَرَادَ بِلَفْظِ الْبَتَّةَ إِلَّا وَاحِدَةً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِهَا أَكْثَرَ مِنَ الْوَاحِدَةِ لَوَقَعَ ، وَالثَّلَاثُ أَصْرَحُ فِي ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْبَتَّةَ ; لِأَنَّ الْبَتَّةَ كِنَايَةٌ وَالثَّلَاثَ صَرِيحٌ ، وَلَوْ كَانَ لَا يَقَعُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ ، لَمَا كَانَ لِتَحْلِيفِهِ مَعْنًى مَعَ اعْتِضَادِ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ ، وَبِمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لَا يَخْلُو مِنْ كَلَامٍ ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ تَكَلَّمَ فِيهِ : بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ الزُّبَيْرَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيَّ .

قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : لَيِّنُ الْحَدِيثِ ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ . وَقِيلَ : إِنَّهُ مَتْرُوكٌ ، وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ لَيِّنُ الْحَدِيثِ .

وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ فِيهِ . يُقَالُ ثَلَاثًا ، وَتَارَةً قِيلَ وَاحِدَةً . وَأَصَحُّهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ ، وَأَنَّ الثَّلَاثَ ذُكِرَتْ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى .

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " : تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا آنِفًا تَصْحِيحَ أَبِي دَاوُدَ ، وَابْنِ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمِ لَهُ ، وَأَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَالَ : إِنَّهُ حَسَنٌ ، وَإِنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ ، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ ، وَحَدِيثِ الْحَسَنِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ ، وَحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدِ السَّاعِدِيِّ فِي لِعَانِ عُوَيْمِرٍ وَزَوْجِهِ ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى رِوَايَةِ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَيَعْتَضِدُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : قُلْتُ لِأَيُّوبَ : هَلْ عَلِمْتَ أَحَدًا قَالَ فِي أَمْرِكَ بِيَدِكَ إِنَّهَا ثَلَاثٌ غَيْرَ الْحَسَنِ ؟ قَالَ : لَا ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ غُفْرًا إِلَّا مَا حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ كَثِيرٍ - مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ - عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " ثَلَاثٌ " . فَلَقِيتُ كَثِيرًا فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ ، فَرَجَعْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ : نَسِيَ .

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، وَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ : الْأُولَى : أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَعْرِفْهُ مَرْفُوعًا ، وَقَالَ إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَيُجَابُ عَنْ هَذَا : بِأَنَّ الرَّفْعَ زِيَادَةٌ ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ ، وَقَدْ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ، عَنْ [ ص: 116 ] حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا ، وَجَلَالَتُهُمَا مَعْرُوفَةٌ .

قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزِ ]
وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزِيدَ اللَّفْظُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ


الثَّانِيَةُ : أَنَّ كَثِيرًا نَسِيَهُ ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ نِسْيَانَ الشَّيْخِ لَا يُبْطِلُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى عَنْهُ ; لِأَنَّهُ يَقِلُّ رَاوٍ يَحْفَظُ طُولَ الزَّمَانِ مَا يَرْوِيهِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ .

وَقَدْ رَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَنَسِيَهُ ، فَكَانَ يَقُولُ : حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
وَإِنْ يُرِدْهُ بِلَا أَذْكُرُ أَوْ مَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ فَقَدْ رَأَوْا



الْحُكْمَ لِلذَّاكِرِ عِنْدَ الْمُعْظَمِ وَحُكِيَ الْإِسْقَاطُ عَنْ بَعْضِهِمُ



كَقِصَّةِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إِذْ نَسِيَهُ سُهَيْلٌ الَّذِي أَخَذْ



عَنْهُ فَكَانَ بَعْدُ عَنْ رَبِيعِهِ عَنْ نَفْسِهِ يَرْوِيهِ لَنْ يُضِيعَهُ


الثَّالِثَةُ : تَضْعِيفُهُ بِكَثِيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ ، كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ إِنَّهُ مَجْهُولٌ ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ فِي " التَّقْرِيبِ " : إِنَّهُ مَقْبُولٌ ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَاذَانَ ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا طَلَّقَ الْبَتَّةَ فَغَضِبَ ، وَقَالَ : " أَتَتَّخِذُونَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ؟ أَوْ دِينَ اللَّهِ هُزُوًا ، أَوْ لَعِبًا ؟ مَنْ طَلَّقَ الْبَتَّةَ أَلْزَمْنَاهُ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ " وَفِيهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ ، قَالَ فِيهِ الدَّارَقُطْنِيُّ : كُوفِيٌّ ضَعِيفٌ .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " يَا مُعَاذُ مَنْ طَلَّقَ لِلْبِدْعَةِ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَلْزَمْنَاهُ بِدَعَتَهُ " وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ الذَّارِعُ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَإِنْ كَانَتْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ فَإِنَّ كَثْرَتَهَا وَاخْتِلَافَ طُرُقِهَا ، وَتَبَايُنَ مَخَارِجِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا ، وَالضِّعَافُ الْمُعْتَبَرُ بِهَا إِذَا تَبَايَنَتْ مَخَارِجُهَا شَدَّ بَعْضُهَا بَعْضًا فَصَلَحَ مَجْمُوعَهَا لِلِاحْتِجَاجِ ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ مِنْهَا مَا صَحَّحَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَحَدِيثِ طَلَاقِ رُكَانَةَ الْبَتَّةَ ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ ، وَهُوَ رِوَايَةُ إِنْفَاذِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَاقَ عُوَيْمِرٍ ثَلَاثًا ، [ ص: 117 ] مَجْمُوعَةً عِنْدٍ أَبِي دَاوُدَ .

وَقَدْ عَلِمْتَ مُعَارَضَةَ تَضْعِيفِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ جِهَةِ عَطَاءِ الْخُرَاسَانِيِّ ، وَمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ ، وَشُعَيْبِ بْنِ زُرَيْقٍ ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ : [ الْخَفِيفِ ]
لَا تُخَاصِمْ بِوَاحِدٍ أَهْلَ بَيْتٍ فَضَعِيفَانِ يَغْلِبَانِ قَوِيًّا


وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " مَا نَصُّهُ : وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [ 65 \ 1 ] .

قَالُوا : مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُطَلِّقَ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ نَدَمٌ فَلَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكَهُ ; لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ ، فَلَوْ كَانَتِ الثَّلَاثُ لَا تَقَعُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ هَذَا إِلَّا رَجْعِيًّا ، فَلَا يَنْدَمُ . ا ه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ الْقُرْآنِيَّ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَرُدُّهَا إِلَيْهِ ، فَقَالَ : يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْأُحْمُوقَةَ ، ثُمَّ يَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [ 65 \ 2 ] وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ ، فَلَا أَجِدُ لَكَ مَخْرَجًا ، عَصَيْتَ رَبَّكَ ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ . وَأَخْرَجَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ مُتَابَعَاتٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْآيَةِ بِأَنَّهَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ وَلَمْ يَجْمَعِ الطَّلَاقَ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا بِالرَّجْعَةِ ، وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فِي ذَلِكَ بِأَنْ جَمَعَ الطَّلَقَاتِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا بِالرَّجْعَةِ ; لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ بِهَا مُجْتَمِعَةً ، هَذَا هُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ ، الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ . وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّهُ مُفَسِّرٌ بِهِ قُرْآنًا ، وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ " وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جُلُّ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةِ . وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ ، وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ بِأَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ ؛ الْأَوَّلُ : حَدِيثُ ابْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ قَالَ : طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَيْفَ طَلَّقْتَهَا " ؟ قَالَ : ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ ، فَارْتَجِعْهَا إِنْ شِئْتَ " فَارْتَجَعَهَا .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَرْدُودٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : [ ص: 118 ] الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ الْبَتَّةَ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ ، لَا بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ ، وَلَا بِدَلَالَةِ التَّضَمُّنِ ، وَلَا بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الْمَتْنِ أَنَّ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ وَاقِعَةٌ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، فَادِّعَاءُ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ كَمَا تَرَى ; إِذْ لَمْ يَدُلَّ كَوْنُهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عَلَى كَوْنِهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ بِنَقْلٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا لُغَةٍ ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ، بَلِ الْحَدِيثُ أَظْهَرُ فِي كَوْنِهَا لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، إِذْ لَوْ كَانَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ؛ لَقَالَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَتَرَكَ ذِكْرَ الْمَجْلِسِ ; إِذْ لَا دَاعِيَ لِتَرْكِ الْأَخَصِّ وَالتَّعْبِيرِ بِالْأَعَمِّ بِلَا مُوجِبٍ كَمَا تَرَى .

وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الدَّلِيلُ يُقْدَحُ فِيهِ بِالْقَادِحِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ ، فَيُقَالُ : سَلَّمْنَا أَنَّهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَلَكِنَّ مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَافْهَمْ . وَسَتَرَى تَمَامَ هَذَا الْمَبْحَثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ طَاوُسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ .

الثَّانِي : أَنَّ دَاوُدَ بْنَ الْحُصَيْنِ الَّذِي هُوَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عِكْرِمَةَ لَيْسَ بِثِقَةٍ فِي عِكْرِمَةَ .

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو سُلَيْمَانَ الْمَدَنِيُّ ثِقَةٌ إِلَّا فِي عِكْرِمَةَ ، وَرُمِيَ بِرَأْيِ الْخَوَارِجِ ا ه . وَإِذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فِي عِكْرِمَةَ كَانَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ ثِقَةٍ . مَعَ أَنَّهُ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ .

الثَّالِثُ : مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ : الثَّالِثُ : أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَجَّحَ أَنَّ رُكَانَةَ إِنَّمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ كَمَا أَخْرَجَهُ هُوَ مِنْ طَرِيقِ آلِ بَيْتِ رُكَانَةَ ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ قَوِيٌّ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ رُوَاتِهِ حَمَلَ الْبَتَّةَ عَلَى الثَّلَاثِ ، فَقَالَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، فَبِهَذِهِ النُّكْتَةِ يَقِفُ الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ . ا ه مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ الْمَذْكُورِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، مَعَ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهِ أَصْلًا عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ . وَبِمَا ذَكَرْنَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورِ .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 28-07-2021, 04:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (16)

سُورَةُ الْبَقَرَةِ (15)

الحديث الثاني من الأحاديث الأربعة التي استدل بها من جعل الثلاث واحدة : هو [ ص: 119 ] ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر ، من أنه طلق امرأته في الحيض ثلاثا ، فاحتسب بواحدة ، ولا يخفى سقوط هذا الاستدلال ، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة ، كما جاء في الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره .

وقال النووي في " شرح مسلم " ما نصه : وأما حديث ابن عمر فالروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره أنه طلقها واحدة .

وقال القرطبي في " تفسيره " ما نصه : والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض .

قال عبد الله : وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة . وكذلك قال صالح بن كيسان ، وموسى بن عقبة ، وإسماعيل بن أمية ، وليث بن سعد ، وابن أبي ذئب ، وابن جريج ، وجابر ، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن نافع ، أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة .

وكذا قال الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، ويونس بن جبير والشعبي والحسن . اه منه بلفظه . فسقوط الاستدلال بحديث ابن عمر في غاية الظهور .
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ : هُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : طَلَّقَ عَبْدُ يَزِيدَ أَبُو رُكَانَةَ وَإِخْوَتُهُ أُمَّ رُكَانَةَ ، وَنَكَحَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ ، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : مَا يُغْنِي عَنِّي إِلَّا كَمَا تُغْنِي هَذِهِ الشَّعْرَةُ - لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ رَأْسِهَا - فَفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ . فَأَخَذَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمِيَّةٌ ، فَدَعَا بِرُكَانَةَ وَإِخْوَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِجُلَسَائِهِ : " أَتَرَوْنَ فُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ عَبْدِ يَزِيدَ ؟ وَفُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا " ؟ قَالُوا : نَعَمْ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " طَلِّقْهَا " فَفَعَلَ ، فَقَالَ : " رَاجِعِ امْرَأَتَكَ أُمَّ رُكَانَةَ " فَقَالَ : إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " قَدْ عَلِمْتُ رَاجِعْهَا " وَتَلَا : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [ 65 \ 1 ] " .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أَبِي رَافِعٍ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَجْهُولٍ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ ، فَسُقُوطُهَا كَمَا تَرَى . وَلَا شَكَّ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ هَذَا الَّذِي لَا خِلَافَ فِي [ ص: 120 ] ضَعْفِهِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْلَفَهُ مَا أَرَادَ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى نُفُوذِ الطَّلَقَاتِ الْمُجْتَمِعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ هُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ ، قَالَ إِسْحَاقُ : أَخْبَرَنَا وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ وَاللَّفْظُ لَهُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ، أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَتَعْلَمُ إِنَّمَا كَانَتِ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَعَمْ .

وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ ، عَنْ طَاوُسٍ ، أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ ، أَلَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ ، فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَايَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ ، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي " صَحِيحِهِ " .

وَهَذِهِ الطَّرِيقُ الْأَخِيرَةُ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ وَلَكِنْ لَمْ يُسَمِّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مَيْسَرَةَ .

وَقَالَ بَدَلَهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ ، وَلَفْظُ الْمَتْنِ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ ؟

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بَلَى ، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ - يَعْنِي عُمَرَ - قَدْ تَتَايَعُوا فِيهَا ، قَالَ : أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ
، وَلِلْجُمْهُورِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ :

[ ص: 121 ] الْأَوَّلُ : أَنَّ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ الَّتِي كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَلَفْظُ طَلَاقِ الثَّلَاثِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ لُغَةً وَلَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا أَنْ تَكُونَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، فَطَلَاقُهُ هَذَا طَلَاقُ الثَّلَاثِ ; لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالطَّلَاقِ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَإِذَا قِيلَ لِمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ إِيقَاعُ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ كَوْنَهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ فَهَلْ فِي لَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ وَهَلْ يَمْنَعُ إِطْلَاقُ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ عَلَى الطَّلَاقِ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ؟ فَإِنْ قَالَ : لَا . يُقَالُ لَهُ طَلَاقُ الثَّلَاثِ إِلَّا إِذَا كَانَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ دَعْوَاهُ هَذِهِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ وَقَالَ : يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَا أَوْقَعَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَعَلَى مَا أَوْقَعَ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، وَهُوَ أَشَدُّ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ ، قِيلَ لَهُ : وَإِذَنْ فَجَزْمُكَ بِكَوْنِهِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا وَجْهَ لَهُ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْحَدِيثِ كَوْنُ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ أَصْلِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ لَفْظِ طَلَاقِ الثَّلَاثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَوْنُهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيَّ مَعَ جَلَالَتِهِ وَعِلْمِهِ وَشِدَّةِ فَهْمِهِ مَا فَهِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِطَلَاقِ الثَّلَاثِ فِيهِ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، بِتَفْرِيقِ الطَّلَقَاتِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الثَّلَاثِ أَظْهَرُ فِي إِيقَاعِ الطَّلَاقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَلِذَا تَرْجَمَ فِي " سُنَنِهِ " لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ : " بَابُ طَلَاقِ الثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ " ثُمَّ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ قَالَ : حَدَّثْنَا أَبُو عَاصِمٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ جَاءَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ تُرَدُّ إِلَى الْوَاحِدَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَتَرَى هَذَا الْإِمَامَ الْجَلِيلَ صَرَّحَ بِأَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ بَلْ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا فَهِمَهُ النَّسَائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ الْحَدِيثِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي " زَادِ الْمَعَادِ " فِي الرَّدِّ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً بِحَدِيثِ عَائِشَةَ : أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ . الْحَدِيثَ . فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ : وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَلَّقَ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ ؟ بَلِ الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَقَالَ : ثَلَاثًا ، إِلَّا مَنْ فَعَلَ وَقَالَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي لُغَاتِ الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ ، كَمَا يُقَالُ قَذَفَهُ ثَلَاثًا وَشَتَمَهُ ثَلَاثًا وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا . ا ه مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

[ ص: 122 ] وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِصِحَّةِ مَا فَهِمَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الثَّلَاثِ فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِهِ أَظْهَرُ فِي أَنَّهَا طَلَقَاتٌ ثَلَاثٌ وَاقِعَةٌ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، كَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا .

وَمِمَّنْ قَالَ : بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ ، الثَّلَاثُ الْمُفَرَّقَةُ بِأَلْفَاظٍ نَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، ابْنُ سُرَيْجٍ فَإِنَّهُ قَالَ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي تَكْرِيرِ اللَّفْظِ ، كَأَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ . وَكَانُوا أَوَّلًا عَلَى سَلَامَةِ صُدُورِهِمْ ، يُقْبَلُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّأْكِيدَ ، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُمَرَ ، وَكَثُرَ فِيهِمُ الْخِدَاعُ وَنَحْوُهُ ; مِمَّا يَمْنَعُ قَبُولُ مَنِ ادَّعَى التَّأْكِيدَ حَمَلَ عُمَرُ اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِ التَّكْرَارِ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ . قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " وَقَالَ : إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ ارْتَضَاهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَقَوَّاهُ بِقَوْلِ عُمَرَ : إِنَّ النَّاسَ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ .

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٌ " مَا نَصُّهُ : وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَابِهِ وَتَأْوِيلِهِ ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، وَلَمْ يَنْوِ تَأْكِيدًا وَلَا اسْتِئْنَافًا يَحْكُمُ بِوُقُوعِ طَلْقَةٍ ; لِقِلَّةِ إِرَادَتِهِمُ الِاسْتِئْنَافَ بِذَلِكَ ، فَحَمَلَ عَلَى الْغَالِبِ الَّذِي هُوَ إِرَادَةُ التَّأْكِيدِ . فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ لِهَذِهِ الصِّيغَةِ ، وَغَلَبَ مِنْهُمْ إِرَادَةُ الِاسْتِئْنَافِ بِهَا ، حُمِلَتْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ ; عَمَلًا بِالْغَالِبِ السَّابِقِ إِلَى الْفَهْمِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الْوَجْهُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِجَوَازِ تَغَيُّرِ الْحَالِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْقَصْدِ ; لِأَنَّ " الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ " وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ لِهَذَا كَمَا قَدَّمْنَا .

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَادِّعَاءُ الْجَزْمِ بِأَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ادِّعَاءٌ خَالٍ مِنْ دَلِيلٍ كَمَا رَأَيْتَ ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ مَنْ تَجَرَّأَ عَلَى عَزْوِ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ كَوْنُ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ مِنَ اللُّغَةِ ، وَلَا مِنَ الشَّرْعِ ، وَلَا مِنَ الْعَقْلِ كَمَا تَرَى .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَيَدُلُّ لِكَوْنِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ أَحْمَدَ ، وَأَبِي يَعْلَى مِنْ قَوْلِهِ : طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَيْفَ طَلَّقْتَهَا " ؟ [ ص: 123 ] قَالَ : ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ الْمَجْلِسِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، إِذْ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ وَاحِدًا لَقَالَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْمَجْلِسِ ، إِذْ لَا دَاعِيَ لِذِكْرِ الْوَصْفِ الْأَعَمِّ وَتَرْكِ الْأَخَصِّ بِلَا مُوجِبٍ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ الثَّانِي عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ : أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الطَّلَاقَ الْوَاقِعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ ثَلَاثًا كَانَ يَقَعُ قَبْلَ ذَلِكَ وَاحِدَةً ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْتَعْمِلُونَ الثَّلَاثَ أَصْلًا ، أَوْ يَسْتَعْمِلُونَهَا نَادِرًا . وَأَمَّا فِي عَهْدِ عُمَرَ فَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا .

وَمَعْنَى قَوْلِهِ : فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، أَنَّهُ صَنَعَ فِيهِ مِنَ الْحُكْمِ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ مَا كَانَ يُصْنَعُ قَبْلَهُ ، وَرَجَّحَ هَذَا التَّأْوِيلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ . وَكَذَا أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُ قَالَ : مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدِي إِنَّمَا تُطَلِّقُونَ أَنْتُمْ ثَلَاثًا ، كَانُوا يُطَلِّقُونَ وَاحِدَةً . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْخَبَرُ وَقَعَ عَنِ اخْتِلَافِ عَادَةِ النَّاسِ خَاصَّةً ، لَا عَنْ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَهَذَا الْجَوَابُ نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [ 2 \ 229 ] عَنِ الْمُحَقِّقِ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ ، وَالْكِيَا الطَّبَرِيِّ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ التَّعَسُّفِ ، وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ .
الْجَوَابُ الثَّالِثُ : عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ ، وَأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى النَّسْخِ إِلَّا فِي عَهْدِ عُمَرَ ، فَقَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " فِي بَابِ مَنْ جَعَلَ الثَّلَاثَ وَاحِدَةً عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ مَا نَصُّهُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدَةً ؛ يَعْنِي أَنَّهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالَّذِي يُشْبِهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِمَ أَنْ كَانَ شَيْئًا فَنُسِخَ ، فَإِنْ قِيلَ : فَمَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْتَ ؟ قِيلَ : لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَعْلَمْهُ كَانَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافٌ . قَالَ الشَّيْخُ : وَرِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ مَضَتْ فِي النَّسْخِ وَفِيهَا تَأْكِيدٌ لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ قِيلَ : فَلَعَلَّ هَذَا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، فَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قِيلَ : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُخَالِفُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، وَفِي بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ ، وَفِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِ ، فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي شَيْءٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافُهُ ؟ ا ه [ ص: 124 ] مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِهِ .
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 28-07-2021, 04:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " مَا نَصُّهُ : الْجَوَابُ الثَّالِثُ دَعْوَى النَّسْخِ ، فَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِمَ شَيْئًا نَسَخَ ذَلِكَ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَيُقَوِّيهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا ، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ . وَالتَّرْجَمَةُ الَّتِي ذَكَرَ تَحْتَهَا أَبُو دَاوُدَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ هِيَ قَوْلُهُ : " بَابُ نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ " .

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ الْآيَةَ ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَ آنِفًا مَا نَصُّهُ : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِهِ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ يَعْنِي : ابْنَ سُلَيْمَانَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : لَا أُطَلِّقُكِ أَبَدًا ، وَلَا آوِيكِ أَبَدًا ، قَالَتْ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : أُطَلِّقُ حَتَّى إِذَا دَنَا أَجَلُكِ رَاجَعْتُكِ ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ قَالَ : فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ مَنْ كَانَ طَلَّقَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ طَلَّقَ ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبِيبٍ مَوْلَى الزُّبَيْرِ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ : فَذَكَرَهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبِيبٍ بِهِ ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ ، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا وَقَالَ : هَذَا أَصَحُّ . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبِيبٍ بِهِ ، وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .

ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ وَقْتٌ ، يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا ، مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ ، وَكَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَتْرُكَنَّكِ لَا أَيِّمًا ، وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ ، فَجَعَلَ يُطَلِّقُهَا حَتَّى إِذَا كَادَتِ الْعِدَّةُ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعَهَا ، فَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَوَقَّتَ الطَّلَاقَ ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا ، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ [ ص: 125 ] وَابْنُ جَرِيرٍ كَذَلِكَ وَاخْتَارَ أَنَّ هَذَا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ . ا ه مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ .

وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ لِنَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الثَّلَاثِ ، وَإِنْكَارُ الْمَازِرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ادِّعَاءَ النَّسْخِ مَرْدُودٌ بِمَا رَدَّهُ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فَإِنَّهُ لَمَّا نَقَلَ عَنِ الْمَازَرِيِّ إِنْكَارَهُ لِلنَّسْخِ مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، قَالَ بَعْدَهُ مَا نَصُّهُ : قُلْتُ : نَقَلَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْفَصْلَ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " وَأَقَرَّهُ ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ فِي مَوَاضِعَ : أَحُدُهَا : أَنَّ الَّذِي ادَّعَى نَسْخَ الْحُكْمِ لَمْ يَقُلْ : إِنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي نَسَخَ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ مَا ذَكَرَ ، وَإِنَّمَا قَالَ مَا تَقَدَّمَ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نُسِخَ ؛ أَيِ : اطَّلَعَ عَلَى نَاسِخٍ لِلْحُكْمِ الَّذِي رَوَاهُ مَرْفُوعًا ، وَلِذَلِكَ أَفْتَى بِخِلَافِهِ ، وَقَدْ سَلَّمَ الْمَازَرِيُّ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ يَدُلُّ عَلَى نَاسِخٍ ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ مَنِ ادَّعَى النَّسْخَ .

الثَّانِي : إِنْكَارُهُ الْخُرُوجَ عَنِ الظَّاهِرِ عَجِيبٌ ; فَإِنَّ الَّذِي يُحَاوِلُ الْجَمْعَ بِالتَّأْوِيلِ يَرْتَكِبُ خِلَافَ الظَّاهِرِ حَتْمًا .

الثَّالِثُ : أَنَّ تَغْلِيطَهُ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ ظُهُورُ النَّسْخِ عَجِيبٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِظُهُورِهِ انْتِشَارُهُ ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُفْعَلُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ . ا ه مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْ " فَتْحِ الْبَارِي " بِلَفْظِهِ ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ اطَّلَعَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، فَأَبُو بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ، وَعُمَرُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دِيَةِ الْجَنِينِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الْمَذْكُورَانِ قَبْلُ ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ أَخْذِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَلَا مِنَ الِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا ، حَتَّى أَخْبَرَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ، وَعُثْمَانُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ السُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ ، حَتَّى أَخْبَرَتْهُ فُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ .

وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَفَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا عِلْمٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنَّا مَعَاشِرُ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ " الْحَدِيثَ ، حَتَّى طَلَبَا مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ عَنِ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ الْمَذْكُورِ وُقُوعُ مِثْلِهِ ، وَاعْتِرَافُ الْمُخَالِفِ بِهِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، فَإِنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْ جَابِرٍ [ ص: 126 ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَنَّ مُتْعَةَ النِّسَاءِ كَانَتْ تُفْعَلُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ، قَالَ : ثُمَّ نَهَانَا عُمَرُ عَنْهَا فَانْتَهَيْنَا وَهَذَا مِثْلُ مَا وَقَعَ فِي طَلَاقِ الثَّلَاثِ طِبْقًا " مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ " : [ الطَّوِيلِ ]
فَإِلَّا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا


فَمِنَ الْغَرِيبِ أَنْ يُسَلِّمَ مُنْصِفٌ إِمْكَانَ النَّسْخِ فِي إِحْدَاهُمَا ، وَيَدَّعِي اسْتِحَالَتَهُ فِي الْأُخْرَى ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِيهَا عَنْ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ : أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ كَانَ يُفْعَلُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ، فِي مَسْأَلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْفُرُوجِ ثُمَّ غَيَّرَهُ عُمَرُ .

وَمَنْ أَجَازَ نَسْخَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، وَأَحَالَ نَسْخَ جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، يُقَالُ لَهُ : مَا لِبَائِكَ تَجُرُّ وَبَائِي لَا تَجُرُّ ؟ فَإِنْ قِيلَ : نِكَاحُ الْمُتْعَةِ صَحَّ النَّصُّ بِنَسْخِهِ قُلْنَا : قَدْ رَأَيْتَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ بِنَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الثَّلَاثِ ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِنَسْخِ جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَأَى أَنَّ جَعْلَهَا وَاحِدَةً إِنَّمَا هُوَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَ يَرْتَجِعُ فِيهِ بَعْدَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَأَكْثَرَ ، قَالَ فِي " سُنَنِهِ " : " بَابُ نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ " ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ الْآيَةَ [ 2 \ 228 ] وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ ، وَقَالَ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ الْآيَةَ . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ يَهِمُ ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، ثُمَّ ارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ فَعَمَدَ رَجُلٌ إِلَى امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا أَشْرَفَتْ عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا ، ثُمَّ قَالَ : لَا آوِيكِ وَلَا أُطَلِّقُكِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ جَدِيدًا مِنْ يَوْمِئِذٍ ، مَنْ كَانَ طَلَّقَ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ .

وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيقَاعَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ ، وَوَرَعِهِمْ ، وَيُؤَيِّدُهُ : أَنَّ كَثِيرًا جِدًّا مِنَ الصَّحَابَةِ الْأَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ صَحَّ عَنْهُمُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ ، كَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعُمَرَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَخَلْقٍ لَا يُحْصَى .

[ ص: 127 ] وَالنَّاسِخُ الَّذِي نَسَخَ الْمُرَاجَعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَلَا مَانِعَ عَقْلًا وَلَا عَادَةً مِنْ أَنْ يَجْهَلَ مِثْلَ هَذَا النَّاسِخِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِنَسْخِهَا وَتَحْرِيمِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ ، وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيْضًا ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ .

وَمَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالسُّرِّيَّةِ بِقَوْلِهِ : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) [ 23 \ 5 ، 6 ] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَمَتَّعَ بِهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا سُرِّيَّةٍ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ الْآيَةَ [ 4 \ 24 ] وَالَّذِينَ قَالُوا : بِالنَّسْخِ قَالُوا : فِي مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ : إِنَّ النَّاسَ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنَاةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَنَّوْنَ فِي الطَّلَاقِ فَلَا يُوقِعُونَ الثَّلَاثَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ . وَمَعْنَى اسْتِعْجَالِهِمْ أَنَّهُمْ صَارُوا يُوقِعُونَهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ هُوَ مَعْنَاهُ ، وَإِمْضَاؤُهُ لَهُ عَلَيْهِمْ إِذَنْ هُوَ اللَّازِمُ ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ ، يَعْنِي أَلْزَمْنَاهُمْ بِمُقْتَضَى مَا قَالُوا ، وَنَظِيرُهُ : قَوْلُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ : فَنَهَانَا عَنْهَا عُمَرُ . فَظَاهِرُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْ عُمَرَ ، وَالنَّسْخُ ثَابِتٌ فِيهِمَا مَعًا كَمَا رَأَيْتَ ، وَلَيْسَتِ الْأَنَاةُ فِي الْمَنْسُوخِ ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي عَدَمِ الِاسْتِعْجَالِ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً . وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ : إِنَّ الْمُرَادَ بِالثَّلَاثِ الَّتِي كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ . فَالظَّاهِرُ فِي إِمْضَائِهِ لَهَا عَلَيْهِمْ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَغَيَّرَ قَصْدُهُمْ مِنَ التَّأْكِيدِ إِلَى التَّأْسِيسِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ .

أَمَّا كَوْنُ عُمَرَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْعَلُ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةً ، فَتَعَمَّدَ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَهَا ثَلَاثًا ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، فَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْجَوَابُ الرَّابِعُ : عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رِوَايَةَ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُخَالِفَةٌ لِمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ لُزُومَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَمَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ الْأَنْصَارِيُّ ، كَمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 28-07-2021, 04:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (17)

سُورَةُ الْبَقَرَةِ (16)

[ ص: 128 ] وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " : إِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْ هَذَا الْحَدِيثَ ; لِمُخَالَفَةِ هَؤُلَاءِ لِرِوَايَةِ طَاوُسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، بِأَيِّ شَيْءٍ تَدْفَعُهُ ؟ قَالَ : بِرِوَايَةِ النَّاسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وُجُوهٍ خِلَافَهُ ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ ، قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : فَهَذَا إِمَامُ الْمُحَدِّثِينَ وَسَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِهِ الَّذِي تَدَارَكَ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا كَادَ تَتَزَلْزَلُ قَوَاعِدُهُ ، وَتُغَيَّرُ عَقَائِدُهُ ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ لِلْأَثْرَمِ وَابْنِ مَنْصُورٍ : إِنَّهُ رَفَضَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَصْدًا ; لِأَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي لُزُومِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ; لِرِوَايَةِ الْحُفَّاظِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ ، وَهَذَا الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ ، وَهُوَ هُوَ ، ذَكَرَ عَنْهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْحَدِيثَ عَمْدًا ; لِذَلِكَ الْمُوجِبِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنْ أَجْلِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ . وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا مَا تَرَكَاهُ إِلَّا لِمُوجِبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، فَإِنْ قِيلَ : رِوَايَةُ طَاوُسٍ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ، وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورِينَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْمَرْفُوعُ لَا يُعَارَضُ بِالْمَوْقُوفِ .

فَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا خَالَفَ مَا رُوِيَ ، فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ : وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْأُولَى : أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ ; لِأَنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ رَاوِيهِ وَقَدْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ ، وَهُوَ عَدْلٌ عَارِفٌ ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَلَا إِشْكَالَ .

وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِرِوَايَتِهِ لَا بِقَوْلِهِ . فَإِنَّهُ لَا تُقَدَّمُ رِوَايَتُهُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ صَرِيحَةَ الْمَعْنَى ، أَوْ ظَاهِرَةً فِيهِ ظُهُورًا يَضْعُفُ مَعَهُ احْتِمَالُ مُقَابِلِهِ ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى احْتِمَالًا قَوِيًّا فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الرَّاوِي لِمَا رَوَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلَ الَّذِي تُرِكَ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى مَا رَوَى ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ طَلَاقِ الثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ مُحْتَمِلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا لِأَنْ تَكُونَ الطَّلَقَاتُ مُفَرَّقَةً ، كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ سُرَيْجٍ ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ تَرْكَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِجَعْلِ الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةً ؛ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ لَيْسَ [ ص: 129 ] كَوْنَهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَمَا سَتَرَى بَيَانَهُ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ فِي الْمُفْهِمِ فِي الْجَوَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا .

وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ أَفْتَى فِي الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ ، وَمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِفَمٍ وَاحِدٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ نَفْسُهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عِكْرِمَةَ لَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَتُرَجَّحُ رِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى رِوَايَةِ حَمَّادٍ بِمُوَافَقَةِ الْحُفَّاظِ لِإِسْمَاعِيلَ ، فِي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَجْعَلُهَا ثَلَاثًا لَا وَاحِدَةً .
الْجَوَابُ الْخَامِسُ : هُوَ ادِّعَاءُ ضَعْفِهِ وَمِمَّنْ حَاوَلَ تَضْعِيفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَالْقُرْطُبِيُّ .

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ : زَلَّ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَقَالُوا : إِنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي كَلِمَةٍ لَا يَلْزَمُ ، وَجَعَلُوهُ وَاحِدَةً وَنَسَبُوهُ إِلَى السَّلَفِ الْأَوَّلِ فَحَكَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَالزُّبَيْرِ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَزَوْهُ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ الضَّعِيفِ الْمَنْزِلَةِ ، الْمَغْمُورِ الْمَرْتَبَةِ ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ، وَغَوَى قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَسَائِلِ فَتَتَبَّعُوا الْأَهْوَاءَ الْمُبْتَدَعَةَ فِيهِ وَقَالُوا : إِنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا كَذِبٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : طَلَّقْتُ ثَلَاثًا وَلَمْ يُطَلِّقْ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَكَمَا لَوْ قَالَ : أَحْلِفُ ثَلَاثًا كَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً .

وَلَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ ، وَلَقِيتُ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ ، وَأَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ كُلَّ صَادِقٍ ، فَمَا سَمِعْتُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخَبَرٍ ، وَلَا أَحْسَسْتُ لَهَا بِأَثَرٍ ، إِلَّا الشِّيعَةَ الَّذِينَ يَرَوْنَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ جَائِزًا ، وَلَا يَرَوْنَ الطَّلَاقَ وَاقِعًا ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمُ ابْنُ سُكَّرَةَ الْهَاشِمِيُّ : [ السَّرِيعِ ]
يَا مَنْ يَرَى الْمُتْعَةَ فِي دِينِهِ حِلًّا وَإِنْ كَانَتْ بِلَا مَهْرٍ وَلَا يَرَى تِسْعِينَ تَطْلِيقَةً
تُبِينُ مِنْهُ رَبَّةُ الْخِدْرِ مِنْ هَاهُنَا طَابَتْ مَوَالِيدُكُمْ
فَاغْتَنِمُوهَا يَا بَنِي الْفِطْرِ
وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ ، وَأَرْبَابُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي كَلِمَةٍ ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ ، وَبِدْعَةً فِي قَوْلِ الْآخَرِينَ ، لَازِمٌ . وَأَيْنَ هَؤُلَاءِ الْبُؤَسَاءُ مِنْ عَالِمِ الدِّينِ ، وَعَلَمِ الْإِسْلَامِ ، مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ ، وَقَدْ قَالَ فِي [ ص: 130 ] " صَحِيحِهِ " : " بَابُ جَوَازِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ " ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ .

وَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ : فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُقِرُّ عَلَى الْبَاطِلِ ; وَلِأَنَّهُ جَمَعَ مَا فَسَحَ لَهُ فِي تَفْرِيقِهِ ، فَأَلْزَمَتْهُ الشَّرِيعَةُ حُكْمَهُ وَمَا نَسَبُوهُ إِلَى الصَّحَابَةِ كَذِبٌ بَحْتٌ ، لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابٍ وَلَا رِوَايَةَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ .

وَقَدْ أَدْخَلَ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْحَرَامَ ثَلَاثٌ لَازِمَةٌ فِي كَلِمَةٍ ، فَهَذَا فِي مَعْنَاهَا ، فَكَيْفَ إِذَا صَرَّحَ بِهَا . وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الْمِلَّةِ ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْمَذْكُورِ ، قُلْنَا : هَذَا لَا مُتَعَلِّقَ فِيهِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ؟ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ إِلَّا عَنْ قَوْمٍ انْحَطُّوا عَنْ رُتْبَةِ التَّابِعِينَ وَقَدْ سَبَقَ الْعَصْرَانِ الْكَرِيمَانِ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى لُزُومِ الثَّلَاثِ ، فَإِنْ رَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَقْبَلُونَ مِنْكُمْ : نَقْلُ الْعَدْلِ عَنِ الْعَدْلِ . وَلَا تَجِدْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَنْسُوبَةً إِلَى أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ أَبَدًا .

الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يُرْوَ إِلَّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ مَا لَمْ يَرْوِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا وَاحِدٌ وَمَا لَمْ يَرْوِهِ عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ إِلَّا وَاحِدٌ ؟ وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَسَكَتُوا عَنْهُ إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ ؟ وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا طَاوُسًا ؟ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَرِوَايَةُ طَاوُسٍ وَهْمٌ وَغَلَطٌ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ ، وَالشَّامِ ، وَالْعِرَاقِ ، وَالْمَشْرِقِ ، وَالْمَغْرِبِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ لَا يُعْرَفُ فِي مَوَالِي ابْنِ عَبَّاسٍ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِ تَضْعِيفُ هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ كَمَعْمَرٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمَا رَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ إِمَامٌ ، عَنْ طَاوُسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرَوَاهُ عَنْ طَاوُسٍ أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ . وَانْفِرَادُ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ وَلَوْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ أَصْلًا إِلَّا وَاحِدٌ ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعِرَاقِيُّ فِي " أَلْفِيَّتِهِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
فِي الصَّحِيحِ أَخْرَجَا الْمُسَيَّبَا وَأَخْرَجَ الْجُعْفِيُّ لِابْنِ تَغْلِبَا


[ ص: 131 ] يَعْنِي : أَنَّ الشَّيْخَيْنِ أَخْرَجَا حَدِيثَ الْمُسَيَّبِ بْنِ حَزْنٍ ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ أَحَدٌ غَيْرُ ابْنِهِ سَعِيدٍ .

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ النَّمَرِيِّ ، وَيُقَالُ الْعَبْدِيُّ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ هَذَا مُرَادُهُ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ تَغْلِبَ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا الْحَكَمُ بْنُ الْأَعْرَجِ ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا .

وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَ طَاوُسٍ ثَابِتٌ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " بِسَنَدٍ صَحِيحٍ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَضْعِيفُهُ إِلَّا بِأَمْرٍ وَاضِحٍ ، نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إِنَّ خَبَرَ الْآحَادِ إِذَا كَانَتِ الدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةً إِلَى نَقْلِهِ وَلَمْ يَنْقُلْهُ إِلَّا وَاحِدٌ وَنَحْوُهُ ، أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ . وَوَجْهُهُ أَنَّ تَوَفُّرَ الدَّوَاعِي يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ النَّقْلَ تَوَاتُرًا وَالِاشْتِهَارَ ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ ; لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي الْأُصُولِ ، أَشَارَ إِلَيْهَا فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُحْكَمُ فِيهِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْخَبَرِ : [ الرَجَزِ ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَخَبَرُ الْآحَادِ فِي السُّنِّيِّ حَيْثُ دَوَاعِي نَقْلِهِ تَوَاتُرًا
نَرَى لَهَا لَوْ قَالَهُ تَقَرُّرَا
وَجَزَمَ بِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ ، وَقَالَ صَاحِبُ " جَمْعِ الْجَوَامِعِ " عَاطِفًا عَلَى مَا يُجْزَمُ فِيهِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْخَبَرِ . وَالْمَنْقُولُ آحَادًا فِيمَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ . اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

وَمُرَادُهُ أَنَّ مِمَّا يُجْزَمُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ الْخَبَرُ الْمَنْقُولُ آحَادًا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ .

وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " مُخْتَصَرِهِ الْأُصُولِيِّ " مَسْأَلَةٌ : إِذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ فِيمَا يَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ ، وَقَدْ شَارَكَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ . كَمَا لَوِ انْفَرَدَ وَاحِدٌ بِقَتْلِ خَطِيبٍ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي مَدِينَةٍ فَهُوَ كَاذِبٌ قَطْعًا خِلَافًا لِلشِّيعَةِ . اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ مُنَاقَشَاتٌ وَأَجْوِبَةٌ عَنْهَا مَعْرُوفَةٌ فِي الْأُصُولِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ غَيَّرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ ، وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ أَوْ جُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ . فَالدَّوَاعِي إِلَى نَقْلٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِهِ ، مُتَوَفِّرَةٌ تَوَفُّرًا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ ، لِأَنْ يَرُدَّ بِذَلِكَ التَّغْيِيرِ الَّذِي أَحْدَثَهُ [ ص: 133 ] عُمَرُ فَسُكُوتُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ عَنْهُ وَكَوْنُ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ مِنْهُ حَرْفٌ عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَدِيثَ طَاوُسٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، بَلْ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَمَا قَدَّمْنَا ، وَكَمَا جَزَمَ بِهِ النَّسَائِيُّ ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ سُرَيْجٍ . وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّ تَغْيِيرَ عُمَرَ لِلْحُكْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَغْيِيرِ قَصْدِهِمْ ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " فَمَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، وَنَوَى التَّأْكِيدَ فَوَاحِدَةٌ ، وَإِنْ نَوَى الِاسْتِئْنَافَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ فَثَلَاثٌ . وَاخْتِلَافُ مَحَامِلِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ لِاخْتِلَافِ نِيَّاتِ اللَّافِظِينَ بِهِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " .

وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ غَيْرَ مَحْكُومٍ بِصِحَّتِهِ لِنَقْلِهِ آحَادًا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَخَفُّ مِنَ الثَّانِي ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ : وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ يَقْتَضِي عَنْ جَمِيعِهِمْ أَنَّ مُعْظَمَهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ ، وَالْعَادَةُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَفْشُوَ الْحُكْمُ وَيَنْتَشِرَ فَكَيْفَ يَنْفَرِدُ بِهِ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : فَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ عَنِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ ، إِنْ لَمْ يَقْتَضِ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِهِ . اهـ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " عَنْهُ ، وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا بِحَسَبِ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ كَمَا تَرَى .
الْجَوَابُ السَّادِسُ : عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُوَ حَمْلُ لَفْظِ الثَّلَاثِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْبَتَّةَ كَمَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ رُكَانَةَ ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ مَا نَصُّهُ : وَهُوَ قَوِيٌّ وَيُؤَيِّدُهُ إِدْخَالُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ ، الْآثَارَ الَّتِي فِيهَا الْبَتَّةَ ، وَالْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالثَّلَاثِ ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَأَنَّ الْبَتَّةَ إِذَا أُطْلِقَتْ حُمِلَ عَلَى الثَّلَاثِ إِلَّا إِنْ أَرَادَ الْمُطَلِّقُ وَاحِدَةً فَيُقْبَلُ ، فَكَأَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ حَمَلَ لَفْظَ الْبَتَّةَ عَلَى الثَّلَاثِ ; لِاشْتِهَارِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا ، فَرَوَاهَا بِلَفْظِ الثَّلَاثِ . وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَفْظَةُ الْبَتَّةَ ، وَكَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ يَقْبَلُونَ مِمَّنْ قَالَ أَرَدْتُ بِالْبَتَّةِ وَاحِدَةً ، فَلَمَّا كَانَ عَهْدُ عُمَرَ أَمْضَى الثَّلَاثَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ . اهـ مِنْ " فَتْحِ الْبَارِي " بِلَفْظِهِ ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَمَا يَذْكُرُهُ كُلٌّ مِمَّنْ قَالَ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً ، وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ لُزُومِهَا مِنَ الْأُمُورِ النَّظَرِيَّةِ لِيُصَحِّحَ بِهِ كُلٌّ مَذْهَبَهُ ، لَمْ نُطِلْ بِهِ الْكَلَامَ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ سُقُوطُ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ [ ص: 133 ] تَحْقِيقُهَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ ، وَقِيَاسُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى أَيْمَانِ اللِّعَانِ فِي أَنَّهُ لَوْ حَلَفَهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَمْ تَجُزْ ، قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ ; لَأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ اللِّعَانِ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا ، بِخِلَافِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا اعْتُبِرَتْ إِجْمَاعًا ، وَحَصَلَتْ بِهَا الْبَيْنُونَةُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِجْمَاعًا .
الْجَوَابُ السَّابِعُ : هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ حَدِيثَ طَاوُسٍ الْمَذْكُورَ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَهُ ، وَالدَّلِيلُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا عَلِمَ بِهِ وَأَقَرَّهُ ، لَا فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْجَوَابِ ; لِأَنَّ جَمَاهِيرَ الْمُحَدِّثِينَ ، وَالْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ مَا أَسْنَدَهُ الصَّحَابِيُّ إِلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ بَلَغَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَرَّهُ .

الْجَوَابُ الثَّامِنُ : أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً ; لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ بَانَتْ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ ، فَلَوْ قَالَ ثَلَاثًا لَمْ يُصَادِفْ لَفْظُ الثَّلَاثِ مَحِلًّا ; لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ قَبْلَهَا . وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ كَرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ جَاءَ فِيهَا التَّقْيِيدُ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ هُوَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزِ ]
وَحَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى ذَاكَ وَجَبَ إِنْ فِيهِمَا اتَّحَدَ حُكْمٌ وَالسَّبَبُ

وَمَا ذَكَرَهُ الْأَبِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَدِيثَيْنِ ، أَمَّا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ فَمِنْ زِيَادَةِ الْعَدْلِ فَمَرْدُودٌ ; بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ كَلَامِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَلَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا . وَمَا ذَكَرَهُ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " مِنْ أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي فِيهَا التَّقْيِيدُ بِعَدَمِ الدُّخُولِ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الرِّوَايَاتِ الْعَامَّةِ ، وَذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ لَا يُخَصِّصُهُ ، لَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ ، لَا مِنْ مَسَائِلِ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ ، فَالرِّوَايَاتُ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مُطْلَقَةٌ عَنْ قَيْدِ عَدَمِ الدُّخُولِ ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الدُّخُولِ كَمَا تَرَى ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَلَا سِيَّمَا إِنِ اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا . نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَ وَارِدٌ عَلَى سُؤَالِ أَبِي الصَّهْبَاءِ ، وَأَبُو الصَّهْبَاءِ لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا عَنْ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، فَجَوَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لِمُطَابَقَةِ [ ص: 134 ] الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ .
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 28-07-2021, 04:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ دَلِيلِ الْخِطَابِ أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ ، كَوْنَ الْكَلَامِ وَارِدًا جَوَابًا لِسُؤَالٍ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمَنْطُوقِ بِالذِّكْرِ لِمُطَابَقَةِ السُّؤَالِ فَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ لِإِخْرَاجِ حُكْمِ الْمَفْهُومِ عَنِ الْمَنْطُوقِ . وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " فِي ذِكْرِ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ بِقَوْلِهِ :
أَوْ جَهْلُ الْحُكْمِ أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبَ لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبَ


وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ : أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبَ لِلسُّؤْلِ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةَ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ ، عَنْ طَاوُسٍ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ رَوَى عَنْهُمْ أَيُّوبُ مَجْهُولُونَ ، وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ مَنْ هُوَ ، لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِرِوَايَتِهِ . وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " مَا نَصُّهُ : وَأَمَّا هَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي لِأَبِي دَاوُدَ فَضَعِيفَةٌ ، رَوَاهَا أَيُّوبُ عَنْ قَوْمٍ مَجْهُولِينَ ، عَنْ طَاوُسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ . وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي " مُخْتَصَرِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مَا نَصُّهُ : الرُّوَاةُ عَنْ طَاوُسٍ مَجَاهِيلُ ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ ، وَضَعْفُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ هَذِهِ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى لِلْجَهْلِ بِمَنْ رَوَى عَنْ طَاوُسٍ فِيهَا ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي " زَادِ الْمَعَادِ " بَعْدَ أَنْ سَاقَ لَفْظَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا نَصُّهُ : وَهَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ وَهُوَ بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ فَانْظُرْهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ . هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا صَوَابُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ فِيهَا دَائِرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ كَوْنُ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ .

الثَّانِي : أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَلَمْ يَشْتَهِرِ الْعِلْمُ بِنَسْخِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا فِي زَمَانِ عُمَرَ ، كَمَا وَقَعَ نَظِيرُهُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ .

أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " مَا نَصُّهُ : فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدَةً ، يَعْنِي أَنَّهُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَالَّذِي يُشْبِهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ عَلِمَ أَنْ كَانَ شَيْءٌ [ ص: 135 ] فَنُسِخَ ، فَإِنْ قِيلَ : فَمَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْتَ ؟ قِيلَ : لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَعْلَمْهُ ، كَانَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافٌ .

قَالَ الشَّيْخُ : رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ مَضَتْ فِي النَّسْخِ وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ قِيلَ فَلَعَلَّ هَذَا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قِيلَ : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُخَالِفُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، وَفِي بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ ، وَفِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِ ، فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي شَيْءٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافُ مَا قَالَ ؟ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

وَمَعْنَاهُ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْحَقَّ دَائِرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ . . . إِلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ ، وَعَلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا ثَلَاثٌ بِفَمٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جَعْلِهَا وَاحِدَةً ، فَالَّذِي يُشْبِهُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إِنَّ الظَّاهِرَ لَنَا دَوَرَانُ الْحَقِّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ الثَّلَاثَ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، بَلْ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِنَسَقٍ وَاحِدٍ كَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ . وَهَذِهِ الصُّورَةُ تَدْخُلُ لُغَةً فِي مَعْنَى طَلَاقِ الثَّلَاثِ دُخُولًا لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ الَّتِي جَزَمَ ابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّ إِسْنَادَهَا أَصَحُّ إِسْنَادًا ، فَإِنَّ لَفْظَهَا : أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بَلَى ! كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ تَتَايِعُوا فِيهَا قَالَ : أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهُوَ أَظْهَرُ فِي كَوْنِهَا مُتَفَرِّقَةً بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي رَدِّهِ الِاسْتِدْلَالَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ . فَقَدْ قَالَ فِي " زَادِ الْمَعَادَ " مَا نَصُّهُ : وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ ؟ قَالَ : " لَا ، حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ " فَهَذَا مِمَّا لَا نُنَازِعُكُمْ فِيهِ ، نَعَمْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الثَّانِي . وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَلَّقَ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ ؟ بَلِ الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا ، وَقَالَ ثَلَاثًا ، إِلَّا مَنْ فَعَلَ وَقَالَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي لُغَاتِ الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ ، كَمَا يُقَالُ قَذَفَهُ ثَلَاثًا ، وَشَتَمَهُ ثَلَاثًا ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

[ ص: 136 ] وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي جَزَمَ فِيهِ ابْنُ الْقَيِّمِ ، بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ ، بَلْ دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ مُتَعَيِّنَةٍ فِي جَمِيعِ لُغَاتِ الْأُمَمِ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " قَالَ مَا نَصُّهُ : وَذَهَبَ أَبُو يَحْيَى السَّاجِيُّ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا قَالَ لِلْبِكْرِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ . كَانَتْ وَاحِدَةً فَغَلَّظَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَعَلَهَا ثَلَاثًا ، قَالَ الشَّيْخُ : وَرِوَايَةُ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ ، اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

وَرِوَايَةُ أَيُّوبَ الْمَذْكُورَةُ هِيَ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ وَهِيَ الْمُطَابِقُ لَفْظُهَا حَدِيثَ عَائِشَةَ الَّذِي جَزَمَ فِيهِ ابْنُ الْقَيِّمِ ، بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ الطَّلَقَاتِ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ بِفَمٍ وَاحِدٍ ، بَلْ وَاقِعَةٌ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَهِيَ وَاضِحَةٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ نَقَلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ بِأَلْفَاظٍ مُتَتَابِعَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، مُبَيِّنٌ أَنَّ الثَّلَاثَ الَّتِي تَكُونُ وَاحِدَةً هِيَ الْمَسْرُودَةُ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; لِأَنَّهَا تَأْكِيدٌ لِلصِّيغَةِ الْأُولَى .

فَفِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " لِلْبَيْهَقِيِّ مَا نَصُّهُ : قَالَ الشَّيْخُ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا تَتْرَى ، رَوَى جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ، قَالَ عُقْدَةٌ كَانَتْ بِيَدِهِ أَرْسَلَهَا جَمِيعًا . وَإِذَا كَانَتْ تَتْرَى فَلَيْسَ بِشَيْءٍ . قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ تَتْرَى يَعْنِي أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ . فَإِنَّهَا تَبِينُ بِالْأَوْلَى ، وَالثِّنْتَانِ لَيْسَتَا بِشَيْءٍ ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ . فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، بَلْ مَسْرُودَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ النَّسَائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ ، وَالْقُرْطُبِيُّ ، وَابْنُ سُرَيْجٍ ، وَأَبُو يَحْيَى السَّاجِيُّ ، وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَيُّوبَ الَّتِي صَحَّحَهَا ابْنُ الْقَيِّمِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَوْضَحْنَاهُ آنِفًا مَعَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ دَلِيلٌ يُعَيِّنُ كَوْنَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، لَا مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ ، وَلَا مِنَ الْعُرْفِ ، وَلَا مِنَ الشَّرْعِ ، وَلَا مِنَ الْعَقْلِ ; لِأَنَّ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ وَاقِعَةٌ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَمُجَرَّدُ لَفْظِ الثَّلَاثِ ، أَوْ طَلَاقُ الثَّلَاثِ ، أَوِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثِ ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِصِدْقِ كُلِّ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ عَلَى الثَّلَاثِ الْوَاقِعَةِ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا [ ص: 137 ] رَأَيْتَ ، وَنَحْنُ لَا نُفَرِّقُ فِي هَذَا بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ ، وَلَا بَيْنَ زَمَنٍ وَزَمَنٍ ، وَإِنَّمَا نُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ نَوَى التَّأْكِيدَ ، وَمَنْ نَوَى التَّأْسِيسَ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ ، وَنَقُولُ : الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ إِنَّمَا هُوَ لِمَا عَلِمَ مِنْ كَثْرَةِ قَصْدِ التَّأْسِيسِ فِي زَمَنِهِ ، بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي قَبْلَهُ قَصْدُ التَّأْكِيدِ هُوَ الْأَغْلَبَ كَمَا قَدَّمْنَا ، وَتَغْيِيرُ مَعْنَى اللَّفْظِ لِتَغَيُّرِ قَصْدِ اللَّافِظِينَ بِهِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ، فَقُوَّةُ هَذَا الْوَجْهِ وَاتِّجَاهُهُ وَجَرَيَانُهُ عَلَى اللُّغَةِ ، مَعَ عَدَمِ إِشْكَالٍ فِيهِ كَمَا تَرَى . وَبِالْجُمْلَةِ بِلَفْظِ رِوَايَةِ أَيُّوبَ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ .

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : إِنَّهَا بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ مُطَابِقٍ لِلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " ، الَّذِي فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا الثَّانِي كَمَا ذَاقَهَا الْأَوَّلُ . وَبِهِ تُعْرَفُ أَنَّ جَعْلَ الثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مُتَفَرِّقَةً فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ ، وَجَعْلَهَا فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ تَفْرِيقٌ لَا وَجْهَ لَهُ مَعَ اتِّحَادِ لَفْظِ الْمَتْنِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ ، وَمَعَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِرَدِّ الثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ إِلَى وَاحِدَةٍ لَا يَجِدُونَ فَرْقًا فِي الْمَعْنَى بَيْنَ رِوَايَةِ أَيُّوبَ وَغَيْرِهَا مِنْ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ .

وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْقَائِلِينَ بِرَدِّ الثَّلَاثِ إِلَى وَاحِدَةٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَحَدِيثِ طَاوُسٍ أَنَّهَا مُجْتَمِعَةٌ أَوْ مُفَرَّقَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً فَحَدِيثُ عَائِشَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تِلْكَ الثَّلَاثَ تُحَرِّمُهَا وَلَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فَلَا حُجَّةَ لَكُمْ أَصْلًا فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي خُصُوصِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ . أَمَّا جَعْلُكُمُ الثَّلَاثَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مُفَرَّقَةً ، وَفِي حَدِيثِ طَاوُسٍ مُجْتَمِعَةً فَلَا وَجْهَ لَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ بَعْضَ رِوَايَاتِهِ مُطَابِقٌ لَفْظُهُ لِلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَ فَرْقًا بَيْنَ مَعَانِي أَلْفَاظِ رِوَايَاتِهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الثَّلَاثِ مُجْتَمِعَةً لَا مُتَفَرِّقَةً .

وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ أَنَّ الثَّلَاثَ الَّتِي كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ ، هِيَ الْمَجْمُوعَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ النَّسْخُ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ ، وَقَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ .

وَقَدْ رَأَيْتَ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى النَّسْخِ الَّتِي تُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِجَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، أَنَّهُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ وَاحِدَةٍ وَثَلَاثٍ ، وَلَوْ مُتَفَرِّقَةً ; لِجَوَازِ الرَّجْعَةِ وَلَوْ بَعْدَ مِائَةِ تَطْلِيقَةٍ ، مُتَفَرِّقَةً كَانَتْ أَوْ لَا . وَأَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ كَانَ يَفْعَلُهُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ هُوَ مَنْ [ ص: 138 ] لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ ، وَفِي زَمَنِ عُمَرَ اشْتُهِرَ النَّسْخُ بَيْنَ الْجَمِيعِ . وَادِّعَاءُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَصِحُّ يَرُدُّهُ بِإِيضَاحٍ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، فَإِنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْ جَابِرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُفْعَلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَفِي بَعْضٍ مِنْ زَمَنِ عُمَرَ قَالَ : فَنَهَانَا عَنْهَا عُمَرُ . وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، وَالنَّسْخُ ثَابِتٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَادِّعَاءُ إِمْكَانِ إِحْدَاهُمَا وَاسْتِحَالَةِ الْأُخْرَى فِي غَايَةِ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، رَوَى فِيهَا مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ ، أَنَّ مَسْأَلَةً تَتَعَلَّقُ بِالْفُرُوجِ كَانَتْ تُفْعَلُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ ، ثُمَّ غَيَّرَ حُكْمَهَا عُمَرُ ، وَالنَّسْخُ ثَابِتٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا . وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ ; لِأَنَّ نِسْبَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَخَلْقٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَجَاءُوا بِمَا يُخَالِفُهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ عَمْدًا غَيْرُ لَائِقٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ .

وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ عَلَى نُفُوذِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً وَاحِدَةً .

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُدَّعِي لِهَذَا الْإِجْمَاعِ هُوَ الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَبِي بَكْرٍ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْقَائِلِ : بِأَنَّ نِسْبَةَ ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَذِبٌ بَحْتٌ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ جَعْلَ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةً ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا أَوْقَعَ عَلَيْهِمُ الثَّلَاثَ مُجْتَمِعَةً عُقُوبَةً لَهُمْ ، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَالظَّاهِرُ عَدَمُ نُهُوضِهِ ; لِأَنَّ عُمَرَ لَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُحَرِّمَ فَرْجًا أَحَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبِيحُ ذَلِكَ الْفَرْجَ بِجَوَازِ الرَّجْعَةِ ، وَيَتَجَرَّأُ هُوَ عَلَى مَنْعِهِ بِالْبَيْنُونَةِ الْكُبْرَى ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ [ 95 \ 7 ] ، وَيَقُولُ : آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [ 01 \ 95 ] ، وَيَقُولُ : أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [ 24 \ 12 ] .

وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ فِي عُقُوبَةِ مَنْ فَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الطَّلَاقِ هُوَ التَّعْزِيرُ الشَّرْعِيُّ الْمَعْرُوفُ ، كَالضَّرْبِ . أَمَّا تَحْرِيمُ الْمُبَاحِ مِنَ الْفُرُوجِ فَلَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرَاتِ ; لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى حُرْمَتِهِ عَلَى مَنْ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ وَإِبَاحَتُهُ لِمَنْ حَرَّمُهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ أُكْرِهَ عَلَى إِبَانَتِهَا [ ص: 139 ] وَهِيَ غَيْرُ بَائِنٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ زَوْجَهَا لَمْ يُبِنْهَا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ وَفَتْوَاهُ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ أَمِّ سَلَمَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَإِنَّ فِيهِ : " فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا ، فَكَأَنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ " وَيُشِيرُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [ 33 ] ; لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتْرُكْهَا اخْتِيَارًا لِقَضَائِهِ وَطَرَهُ مِنْهَا مَا حَلَّتْ لِغَيْرِهِ .

وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " مَا نَصُّهُ : وَفِي الْجُمْلَةِ فَالَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتْعَةِ سَوَاءٌ ، أَعْنِيَ قَوْلَ جَابِرٍ ، إِنَّهَا كَانَتْ تُفْعَلُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ، قَالَ : ثُمَّ نَهَانَا عُمَرُ عَنْهَا فَانْتَهَيْنَا ، فَالرَّاجِحُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ وَإِيقَاعُ الثَّلَاثِ لِلْإِجْمَاعِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي عَهْدِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ .

وَلَا يُحْفَظُ أَنَّ أَحَدًا فِي عَهْدِ عُمَرَ خَالَفَهُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَقَدْ دَلَّ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى وُجُودِ نَاسِخٍ وَإِنْ كَانَ خَفِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى ظَهَرَ لِجَمِيعِهِمْ فِي عَهْدِ عُمَرَ ، فَالْمُخَالِفُ بَعْدَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنَّا بِذِلَّةٍ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَنْ أَحْدَثَ الِاخْتِلَافَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 376.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 370.79 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (1.62%)]