أنيس (قصة للأطفال)

[ابوالوليد المسلم]

أنيس (قصة للأطفال)

أحمد بلقاسم

بعدما استنفد وقتَ فراغِه كُلَّه، متنقِّلًا بين مشاهدة الرسوم المتحركة، والتسلِّي بألعاب الحاسوب تارة، وألعاب اللوحة الإلكترونية، دلف أحمد يجرجر رجليه مُنهَكًا إلى غرفته، وبينما هو يستعدُّ للاسترخاء على سريره، بعدما أطفأ الضوء، سمِعَ صوتًا خفيضًا يندلق من مكتبته، ويُحيِّيه، صوتًا أشبه ما يكون بحفيف أوراق.

ردَّ أحمد التحية متلعثمًا متوجِّسًا، ثم أعقبها متسائلًا ويده البضَّة تتحسَّس في العتمة طريقها للضغط على زرِّ الإنارة:

• مَنْ معي؟

• لا تخف يا أحمد!

ردَّ أحمد ويده على قلبه، أحسَّ به يخفق نظير أرنب مذعور نجا من رصاصة قنَّاص:
• مَنْ أنت يا هذا؟

• ألم تعرفني؟

• كيف لي أن أعرفك وسط هذا الظلام الدامس؟!

• سأُضيء الغرفة لأراك.

• لن تراني وإن أضأت الغرفة.

• كيف لا أستطيع أن أراك، هل أنت شبح؟

ضحك صاحب الصوت الشبيه بحفيف الورق ضحكةً لطيفةً، ثم استأنف حديثه يقول:
•أنا لست شبحًا يا صديقي!

• إن لم تكن شبحًا، فمَنْ تكون إذن؟

• ألم تسمعني أُحيِّيك باسمك يا أحمد، أنا صديقك؟

• أجل سمِعتُ هذا؛ ولكن أصوات جُلِّ أصدقائي أستطيع أن أُميِّزها بكُلِّ يُسْرٍ وسهولةٍ، أما صوتك فهو غير مألوفٍ لديَّ.

• طبيعي أن يصير صوتي غير مألوف لديك؛ بسبب نفورك مني، وتجاهُلك لصداقتي.

• أرجوك قل لي: مَنْ أنت؟

• أنا صديقك القديم.

• ليس لي صديقٌ قديمٌ، كل أصدقائي سكنوا حيَّنا حديثًا.

• يُحزنني يا أحمد أنك زججت بصداقتنا في خضمِّ النسيان بكل هذه السهولة.

• هلا أفصحت عن اسمك؛ لعلِّي أعرفك.

• اسمي أنيس، هل عرفتني الآن؟

• للأسف لا، أنا ليس لي أي صديق اسمه أنيس.

• مع العلم أنت مَنْ أطلق عليَّ هذا الاسم عند أول لقاء تعارُف بيننا، ومع ذلك تمعن في نسيانه.

• أصحيح ما تقول؟! أنا مَنْ سمَّاك "أنيسًا"؟

• أجل، أنت.

• ومتى وأين تمَّ هذا؟

• عند انتهاء أحد المواسم الدراسية، وبالضبط فور عودتك من المدرسة إلى المنزل.

• كيف حدث ذلك؟

• عندما تبوَّأتَ المرتبة الأولى في قائمة التلاميذ الناجحين، وأحرزتَ الجائزة المدرسية الأولى.

• صحيح أنني حُزْتُ جوائزَ مدرسيةً؛ ولكن...

• ولكنك لم تعد تتذكَّرني، وهذا ما يحزُّ في نفسي، ويُؤلمني إيلامًا شديدًا.

• ...... !

• أمر بديهيٌّ أن تنساني يا صديقي، لقد أصبحت شغوفًا بأصدقائك الجُدُد.

• هل تعرف أيضًا أصدقائي؟

• كيف لا أعرفهم، وأنا أرى بأُمِّ عيني كل يوم كيف يصرفونك عني، فتنفرد بهم مزهوًّا بصداقتهم، مانحًا إيَّاهم كل وقتك واهتمامك، تاركًا إياي للوحدة تفترسني، ولغبار النسيان يخنقني؟!

• عمَّ تتحدَّث يا أنيس؟

• أتحدَّث عن أصدقائك هؤلاء الأنانيِّين، الذين فتنوك فتونًا حتى صِرْتَ لا تُفارقهم إلا في أوقات الدراسة.

• لن أسمح لك بأن تصِفَ أصدقائي بأنهم أنانيُّون، فمهما يكن من أمرٍ فهم أصدقائي، يا أنيس!

• أنا لا أقصد أصدقاءك في الحي والمدرسة، يا أحمد!

• فعمَّن تتكلَّم إذن؟

• أقصد أصدقاءك داخل البيت.

• ماذا تعني؟

• أعني، جهاز التلفاز، والحاسوب، واللوحة الإلكترونية، هؤلاء هم الأنانيُّون الذين استحوذوا على ذهنك لا سيَّما في وقت فراغك من الدراسة.

• هذه أجهزة أشتغل وأتسلَّى بها ليس إلَّا.

• لا يا أحمد، أنا أرى أن الأمر أخطر ممَّا تقول، فهي سحرت لُبَّكَ بطريقة عملها؛ بل وأخذت تستنزف وقتَكَ بلا هوادةٍ، لدرجة أنك أنكرت صداقتي لك.

• غريب أمرك يا أنيس، أرجوك قل مَنْ أنت؟

• أنا الكتاب يا أحمد!

• الكتاب!

• أجل، يا أحمد، أنسيت يوم فتحتُ لك أحضاني وضمَمْتُك بين دفتي، وطفقت تنهل من معيني العَذْب المعارف، وتتلذَّذ بروائع قصصي، وتتغنَّى وتطرب بجميل أشعاري، ألم تقل لي حينئذٍ إنني خيرُ أنيسٍ لك؟

• أذكر ذلك جيدًا الآن يا خير أنيس، وأنني أطلقت عليك اسم أنيس.

كفكف أحمد عبراته، وضمَّ إلى صدره صديقه أنيسًا بكل رِفْقٍ وحنان، وأنار الغرفة بعد أن أماط الكرى من عينيه الوسنانتين، وشرع ينهل من معين أنيس العذب، بنَهَمٍ شديدٍ كأنه لم يتذوَّقْه من قبل.