العناية بالتربية والعبادة والبناء الخلقي - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 171 - عددالزوار : 59756 )           »          شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 161 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 112 - عددالزوار : 28256 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 791 )           »          طرق تساعد على تنمية ذكاء الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          السلفيون ومراعاة المصالح والمفاسد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 684 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 98 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 16027 )           »          افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 5 - عددالزوار : 65 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى حراس الفضيلة

ملتقى حراس الفضيلة قسم يهتم ببناء القيم والفضيلة بمجتمعنا الاسلامي بين الشباب المسلم , معاً لإزالة الصدأ عن القلوب ولننعم بعيشة هنية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-10-2020, 09:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي العناية بالتربية والعبادة والبناء الخلقي

العناية بالتربية والعبادة والبناء الخلقي
محمود العشري





هذا موضوع مُهمٌّ جدًّا، ويحتاج إلى معالجة خاصة غير التي أَعرِضها هنا، ولكنِّي أشير إلى جوانبَ منه؛ استكمالاً للموضوع.

وأول ما يُنتبَه إليه هنا هو: أن يَحرص المُتفقِّه على الالتزام بالشرع، والجمع بين العلم والعمل، وأن يكون قدوة للعامَّة وغيرهم؛ بشخصِه وعمله، وعبادته وخلُقه، قبل أن يكون قدوة بعلمه وفتواه.

والفقه الحق هو العمل والانقياد؛ ولهذا لم يكن سلف هذه الأمة يُسمُّون الرجل: "فقيهًا" أو "عالمًا" لمجرَّد علمه وحفظه؛ حتى يضمَّ إلى ذلك العملَ، والخشية، والورع، والتقوى؛ ففي الحديث الذي أخرَجه الدارمي والترمذي والحاكم عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشخَص ببصره إلى السماء، ثم قال: ((هذا أوان يُختلس العلم من الناس حتى لا يَقدروا منه على شيء))، فقال زياد بن لبيد الأنصاري - رضي الله عنه -: يا رسول الله، وكيف يُختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنَّه ولنُقرئنَّه نساءنا وأبناءنا! فقال: ((ثكلتْك أمُّك يا زياد، إن كنتُ لأعدُّك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا يُغني عنهم؟)).

قال جُبير: فلقيت عُبادة بن الصامت، قال: قلتُ: ألا تسمَع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرتُه بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئتَ لأحدثنَّك بأول علم يُرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تَدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعًا!"؛ والحديث أخرجه البيهقي أيضًا في "المدخل إلى السنن الكُبرى".

ولقد انتفع أبو الدرداء - رضي الله عنه - بما سَمع، فجَرَتْ على لسانه الحِكمة، فقال فيما رواه الدارمي: "إن مِن أشرِّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة عالم لا يَنتفِع بعِلمِه".

وأول مراتب العمل: النيَّة الخالصة في طلب العلم لوجه الله -تعالى- لا رياء ولا سُمعةً، ولا مُفاخرة ولا استِكثارًا مِن الأتباع، ولا غير ذلك، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - فيما رواه الدارمي: "لا تعلَّموا العِلم لثلاث: لتُماروا به السفهاء، وتُجادلوا به العلماء، ولتَصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم ما عند الله؛ فإنه يَدوم ويَبقى، ويَنفَد ما سِواه".

ثم يكون العلم - بعد النيَّة - بالخشوع والخشية، والتقوى والمُراقبة، والزهد في الدنيا، وموافقة العمل للقول، وكلما ازداد العبد علمًا صحيحًا، زادت لدَيه هذه الخِصال.

رَوى ابن عبدالبر عن الحسن - رحمه الله - أنه قال: "كان الرجل إذا طلب العلم لم يَلبَث أن يُرى ذلك في تخشُّعه وبصَره، ولسانه ويدِه، وصلاته وزهده".

وروى أيضًا عن أبي قلابة - رحمه الله - أنه قال لأيوب السختياني: "إذا أحدَث الله لك علمًا، فأحدِثْ له عِبادة، ولا يكن همك أن تُحدِّث به".

وإذا كان المرء مُتعلقًا بالدنيا كَلِفًا بها، لم ينَل العلم، فقد روى ابن عبدالبر عن الحسن بن صالح - رحمه الله - أنه قال: "إنك لا تفقَه حتى لا تُبالي في يدَي مَنْ كانت الدنيا!".

وهذه الخصال كانت من شروط المتعلِّمين في شيوخهم، فكانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه، نظَروا إلى صلاته، وإلى سمته، وإلى هيئته، ثم يأخذون عنه - كما أخرج ذلك الدارمي عن إبراهيم - فهم لا يتتلمَذون إلا على يدَي شيخ، يَقتدون بسمته وهديه، قبل أن يَنتفِعوا بعلمِه وروايته وفقهِه النظريِّ؛ ولذلك ما كانوا يعرفون العالِم بالمطَّلع، أو الباحث، أو الراوي؛ بل بالعامل المُقبِل على الله، المُنصرِف عما سواه.

ومن أقوالهم في ذلك: "إنما العالِم مَن خاف الله - سبحانه وتعالى - كما رَوى ابن عبدالبر، وروى الدارمي عن الحسن: "إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخِرة، البصير بأمر دينه، المُداوم على عبادة ربه"، وعند ابن عبدالبر: "إنما الفَقيه مَن يَخاف الله".

وسُئل سعد بن إبراهيم الزهري: مَن أفقه أهلِ المدينة؟ فقال: "أتقاهُم لربِّه"؛ كما روى الدارمي.

إذًا؛ الفقه والتقوى قرينان لا يَفترقان، ومَن اتَّصف بالعلم والحفظ دون انتفاع بما يَحمل، ولا تأثُّر عمَلي به، فليس بفقيه، كما أن العابد الجاهل المُتخبِّط ليس بعابد على التحقيق، وهذان الصنفان فيهما شبه مِن اليهود والنصارى؛ فمَن ضلَّ مِن علماء الأمة، ففيه شبه مِن اليهود، ومَن ضلَّ مِن عُبادها، ففيه شبه من النصارى.

ومِن المؤسف أن هذا التعريف قد أصبح في عداد المصطلحات التاريخية المرتبطة بفترة زمنية مُعيَّنة ينتهي بانتهائها، وأصبح العالِم أو الفقيه هو مَن يَحمل شهادة مُعيَّنة في هذا التخصُّص.

والخطوة الثانية - بعد التجرُّد، وإخلاص النيَّة، ومواطأة العمل للعلم - هي: ألا تَقتصِر مهمَّة الفقيه على الفُتيا بين الناس في الأحكام الفرعية، أو فضِّ الخصومات والمُنازَعات بين الناس فحسب؛ بل يتعدَّى ذلك ليُصبِح رائدًا للمجتمع الإسلامي، موجِّهًا إلى الله والدار الآخِرة، مُحرِّكًا للهِمم والعزائم، مُرغِّبًا في الخير، مُرهِّبًا من الشرِّ، راصدًا لحركة المجتمع في كافة جوانبها، موجِّهًا لجوانب الخير فيها، مُعارضًا - كلَّ المعارضة - لجوانِب الشرِّ والسلب فيها.

لقد آن الأوان أن تَنتهي حالة السلبية والانزواء والتواري، التي يَعيشها كثير من القيادات العِلمية الإسلامية، وأن تحل محلها حالة التصدُّر والقيادة والتوجيه مِن كافة المنابر.

ولم يعدْ مقبولاً أن يترك العلماء المُخلِصون قيادةَ المجتمعات للشيوعيِّين، أو القَوميِّين، أو الطواغيت الذين يَلعبون بمُستقبَل الشعوب الإسلامية، وهذه مسؤولية تاريخيَّة عُظمى، وهي أعظم تَحَدٍّ يواجه العلماء المُخلِصين، ويَطيب لي - ولو استرسلتُ - أن أنقل صورة تاريخيَّة عن حياة فقيه من فقهاء المَغرب، تكشف عن دور العالم المسلم في الحياة.

قال الإمام الكبير القاضي عياض بن موسى اليَحصبي المالكي في ترجمة للإمام "سُحنون بن سعيد التنوخي" في كتابه "ترتيب المدارك وتقريب المسالك في تراجم أصحاب الإمام مالك": "قال سُحنون: لم أكن أرى قَبول هذا الأمر - يعني ولاية القضاء - حتى كان مِن الأمير مَعنَيان: أذكر في أحدهما أنه أعطاني كلَّ ما طلبتُ، وأطلَقَ يدي في كل ما رغبتُ، حتى إني قلتُ له: أَبْدأُ بأهل بيتِك وقرابتِك وأعوانك؛ فإنَّ قِبَلهم ظلامات للناس وأموالاً لهم منذ زمن طويل؛ إذ لم يَجترئ عليهم مَن كان قبلي، فقال لي: نعم، لا تبدأ إلا بهم، وأَجْرِ الحق على مَفرق رأسي! فقلت له: آلله؟! فقال لي: آلله - ثلاثًا - وجاءني من عزمه - مع هذا - ما يَخاف المرء على نفسه، وفكَّرتُ فلم أجد أحدًا يستحق هذا الأمر، ولم أجد لنفسي سعة في ردِّه".

قال سليمان بن سالم: "لما تمَّت ولاية سحنون تلقاه الناس، فرأيتُه راكبًا على دابة، ما عليه كسوة ولا قلنسوة، والكآبة في وجهه، ما يتجرَّأ أحد يُهنِّيه، فسار حتى دخل على ابنته خديجة - وكانت من خيار النساء - فقال لها: اليوم ذُبح أبوك بغير سكِّين!"، وفى حياة الرجل - رحمه الله - عجائب، فليُراجعها مَن يريد في ترتيب المدارك وغيره.

إن ما نراه من هذا الإمام مِن عزوف عن ولاية القضاء ليس هروبًا من المسؤولية، ولا تَخليًا عن قيادة المجتمع؛ بل الأمر على النقيض من ذلك، فهو يعلم أن القاضي يُضطرُّ - أحيانًا - بحكم منصبه الرسمي إلى مُداهنة السلاطين ومجاملتهم، وهذا يَتنافى مع مسؤولية العالِم، ويحطُّ مكانته عند الناس، ويَدعو إلى عدم قبول ما يدعو إليه؛ ولذلك - ولغيره من الأسباب الأخرى المُتعلِّقة بالورع - رفض الولاية، حتى أذعَن الأمير له بالشروط التي تجعل حُكمَه نافذًا على حاشية الأمير، وخَدمِه وأولاده؛ بل على الأمير نفسه!

ومع مُراعاة الفارق التاريخي، والمتغيِّرات الكثيرة التي طرأت على حياة المسلمين؛ فإن المسلمين يَنتظرون مِن علمائهم دورًا كهذا الدور؛ بل دورًا كدور الإمام أحمد الذي ظلَّ مُنافِحًا عن عقيدة أهل السنَّة والجماعة، في الوقت الذي كان الخليفة نفسه يعتقد مذهب المعتزلة الضالَّ، حتى صار الإمام أحمد رمزًا من رموز الحق والثبات، وصار الرجل حين يريد نِسبة نفسه لأهل السنَّة يقول: إنه يرى في الأسماء والصفات والعقائد ما يَدين به الإمام أحمد - رحمه الله.

وإذا كان من الواضح - بعدما ذكرت بعض الأقوال عن علماء السلف وفقهائهم - أن الفقه المتعلِّق ببيان الأحكام والفرعيات مُرتبط بيقظة القلب، وإشراق النفْس، وصدق الإيمان، ومرتبط بالعمل الظاهر؛ مِن عبادة، وزهد، ودعوة للناس، وغير ذلك، فإننا نلحظ أنه مرَّ على المسلمين فترات اضمحلَّ فيها دور الفقيه أو العالِم الذي ذكرتُ، وصار دوره هو تقرير الأحكام الفرعية من زاوية مذهبيَّة لا أكثر، فلم تعدْ مُهمَّته إحياءَ قلوب الناس، وربطهم بالإسلام ربطًا حقيقيًّا، ولم يعد يُمارس دوره في توجيه المُجتمعات وريادتها، وأصبح الفقيه - كما يقول الغزالي في الإحياء -: "معزولاً عن ولاية القلب"، وصار إذا تحدَّث في القضايا الخلُقية أو التربوية فكأنما تحدَّث في غير فنِّه، ويَخوض فيما ليس مِن شأنه كما لو خاض في الكلام والطب!

ووُجد طوائف من المنسوبين إلى الفقه والعلم الشرعي يصفهم الغزالي بقوله: "ولو سُئل فقيه عن معنًى مِن هذه المعاني - حتى عن الإخلاص مثلاً - أو عن التوكُّل، أو عن وجه الاحتراز من الرياء، لتوقَّف فيه، مع أنه فرْضُ عينِه الذي في إهماله هلاكُه في الآخرة، ولو سألتَه عن اللعان والظِّهار والسبق والرمي، لسرد عليك مُجلدات من التفريعات الدقيقة التي تَنقضي الدهور ولا يُحتاج إلى شيء منها، وإن احتيج لم تخلُ البلد عمَّن يقوم بها، ويَكفيه مؤونة التعب فيها، فلا يزال يتعَب فيها ليلاً ونهارًا، وفي حفظه ودرسه يَغفل عما هو مُهمٌّ في نفسه من الدين، وإذا روجع فيه قال: اشتغلتُ به؛ لأنه علم الدين، وفَرضُ الكفاية، ويُلبِّس على نفسه وعلى غيره في تعلمه، والفَطِن يعلم أنه لو كان غرَضُه أداء حق الأمر في فرض الكفاية، لقدَّم عليه فرض العين؛ بل قدَّم عليه كثيرًا من فروض الكفايات؛ فكم مِن بلدة ليس فيها طبيب إلا مِن أهل الذمَّة، ولا يَجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه، ثم لا ترى أحدًا يشتغل به، ويَتهاتَرون على علم الفِقه، لاسيما الخلافيات والجدليات، والبلد مشحون مِن الفقهاء بمَن يَشتغِل بالفتوى والجواب عن الوقائع.

فليتَ شِعري: كيف يُرخِّص فقهاء الدين في الاشتغال بفَرض كفاية قد قام به جماعة، وإهمال ما لا قائم به؟! هل لهذا سبب إلا أن الطبَّ ليس يتيسَّر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا، وحيازة مال الأيتام، وتقلُّد القضاء والحكومة، والتقدُّم به على الأقران، والتسلُّط به على الأعداء؟".

والغزالي في كلامه هذا لا يَقصد كافة الفقهاء؛ بل ولا غالبهم فيما أَعتقِد؛ بل يقصد طائفة معيَّنةً يعيش معها ويتحدَّث عنها؛ بدليل أنه بعد هذا الكلام قام بتقسيم الفقهاء إلى أقسام: قسم أراد وجه الله، فهم أهل رضوانه.. إلخ.

ويتحدَّث عن الأئمَّة الأربعة - رحمة الله عليهم أجمعين - وفضلِهم وزهادتهم، واستيلائهم على الذِّروة من علم الفقه وعِلم القلوب.

وسواء كان ما رأيته في شأن كلامه صحيحًا أو غير صحيح، فلستُ أقصد من سوق كلامه الطعن في الفُقهاء عامَّة، ولا مُوافَقة الغزالي في كل ما ذهب إليه، فإن الغزالي قد وقَف في الطرف الآخَر بعيدًا عن العلم الصحيح المبني على الدليل، فاضطرب في باب العقائد أيما اضطِراب، وأكثر من الاستدلال على الفروع بالأحاديث الضعيفة؛ بل والموضوعة.

ولكن الذي أعنيه وأَقصِده بأوضح عبارة هو: أننا بحاجة إلى الفقيه المسلم الذي انطبع فِقهه وعلمه على جوارحه، فصار ترجمانًا لعلمه، ومِن ثَمَّ لم يُصبِح الفقه عنده عبارات جافَّة مُقتصِرة على بيان الفروع؛ بل أضفى على ذلك مِن الرشحات العاطفية، والتأثيرات الوجدانية، ما يُعيد الفقه إلى طبيعته الأولى التي كان مُرتبطًا فيها بالتربية.

إننا بحاجة إلى الفقيه المسلم الذي يُعيد للفقه الإسلامي قوَّته ونضارته، وارتباطه بالحياة العمَليَّة، ومُعالجته للإنسان كإنسان مُتكامل يَحتاج إلى التقويم الخلُقي، والتوجيه العِباديِّ، والتربية الروحية، والإقناع العَقلي، والإلزام القانوني.

ويُمكن تحديد بعض الجوانب التي مِن شأنها أن تَنحو بالفقه المَنحى الذي نريد في الفقرات التالية:
1- العناية بربط الأحكام بالعقائد، فليس يَكفي أن نقول للناس: هذا حَرام؛ حتى نَحشُد له ما أمكَن مِن المؤثِّرات العاطفيَّة الوجدانية التي تَحجز الناسَ عن الوقوع فيه.

فليس إقدام الناس على الحرام ناتجًا عن الجهل بحُرمتِه فقط؛ بل أكثر الخَلق يُقدِمون عليه وهم عارفون بتحريمه، لكن لغياب الوعي الأُخرويِّ، وتلاشي مراقبة الله - سبحانه وتعالى - في الضمير؛ هان عليهم مُقارَفة المُنكَر.

فالعلاج - إذًا - يَنبغي أن يَنطلِق مِن تشخيص صحيح كامل للمَرض، ونحن لو تأمَّلنا طريق القرآن الكريم في هذا، لوجدنا ربط الأحكام الشرعية بأصولها العقَديَّة، وخاصة في المُجتمع المدني الذي كَثُر فيه تشريع الأحكام الفرعية بحكم نشأة المجتمع المسلم، الذي يَصوغ حياته وفق هدي الله - سبحانه وتعالى - وشَرعِه، فصارت الأحكام تَنـزِل مُتلاحِمة مع التأكيد على العقائد وتركيزها في النفوس، فكان تَنفيذ الحكم التزامًا بمُقتضى العقيدة، وكانت العقيدة حارسًا على تنفيذ الحكْم.

وبحكم أننا نُخاطب ناسًا مسلمين؛ فإننا نَنطلِق مِن أرضية معيَّنة، هي اقتناعهم بهذا الدِّين، وإيمانهم بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمُحمَّد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا، وإيمانهم بالبعث والجنَّة والنار، والغَيب كله، وإيمانهم بالقضاء والقدر، فلا بدَّ مِن إحياء هذه المعاني المُتوارية، وربط الأحكام بها؛ حتى يُدرِك المسلم أن الأخذ بهذه الأشياء هو مُقتضى كونه مُسلمًا، وحتى يُدرك المأخوذُ ببهرجِ الحَضارة الغربية، المُشرب حب الشهوات والشبهات، حقيقةَ الحال التي يَعيشها، فإما أن يَنحاز للإسلام فيَلتزم به، وإما أن يَنحاز للمُعسكَر الآخَر المُحاد لله - سبحانه وتعالى - ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- فلا يُحسب على الإسلام وعلى المسلمين.

فلا بدَّ مِن التأكيد على الأصل الذي تَنبثِق عنه سائر الأوامر والنواهي، وهو أصل الاستِسلام لله - سبحانه وتعالى - والخُضوع لأمرِه، وتَرسيخ هذا المَعنى بكل وسيلة، وفي كل مُناسَبة.

ولا شك أن عزل الأحكام عن العقائد هو أمر فني مَحضٌ، يتعلَّق بطريقة التأليف والدراسة؛ بل كان كثير مِن المُتقدِّمين يَجمعون في تأليفهم بين الأحكام والعقائد؛ لأنه لا غِنى بأحدِهما دون الآخِر.

فالعقائد لا توجَد حقيقة بدون عمل، ولو زعَم زاعم وجود عقد القلب لدَيه بدون عمل، لم يصدق، ولم يُغنِ عنه مِن الله شيئًا، والأعمال الخيريَّة التي يعملها الإنسان بدافع غير دافع العقيدة لا قيمَة لها ألبتَّة - عند الله - بل هي كالغصنِ المَبتوت عن أصله.

وإذًا فربط الأحكام بأصولِها العقديَّة، وإحياء مَشاعر القلوب من خلال عرض الأحكام، هو وضع للشيء في موضِعه، وهو من الحكمة التي مَن أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا.

2- الاهتمام بمسألة الترغيب والترهيب، وربط المسلم بالخوف والرجاء؛ فالإنسان - بطبيعته - يَخاف ويَرجو، فمُهمَّة الباحث والفقيه المسلم هي استثمار هذه الغريزة الفِطرية - أولاً - في مَجالها الشرعي، وربطها بقضية الاستقامة على الدِّين أو الانحِراف عنه.

ومُهمَّته - ثانيًا - هي إحداث التوازُن بين هذَين الجانبين، وهذا التوازن هو ضمانة للاستقامة المَطلوبة دون غُلوٍّ أو تَفريط.

والترهيب أو الترغيب وسيلة في أيدي الدعاة إلى الله - سبحانه وتعالى - لا يَملكها غيرهم، فالداعية يَملِك ترغيب الناس في الخير؛ بربطهم بالجزاء الأُخرويِّ عند الله، وبوعدهم برضوان الله، وبرعايته لعبيده الطائعين في الدنيا وفي الآخِرة، ويَملك ترغيبهم بما وعد الله به المؤمنين في الدنيا من السعادة والعِيشة الهنيَّة والحياة الطيبة، ويَجد الناس مِصداق ذلك كله في حياة الطائعين المُنحازين إلى حزب الله وصفِّه.

كما يَملك الداعية ترهيب الناس مِن سخط الله وسطوته، ونِقمته وعذابه، الذي توعَّد به العاصين في الآخِرة، ويَملك ترهيب الناس مِن آثار المعصية الدنيوية العاجلة؛ من ضيق الحياة، ونكَد العيش، وتسليط بعضِهم على بعض، وغير ذلك مما يَراه الناس عيانًا لا خفاءَ فيه.

وأنَّى ذلك لدعاة المَذاهب الأرضية الذين لا يَملكون شيئًا أكثر من وعد الناس بمغنم مادي زهيد موقوت، ولا يَملكون شيئًا أكثر مما يَملِكه فرعون حين قال: ﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ [طه: 71]، فردَّ عليه السحَرة الذين آمنوا بقولهم: ﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72]؟

ومِن المؤكَّد أن قضية الموت ونهاية الإنسان من القضايا الكبرى التي تُلحُّ على كل إنسان - بلا استثناء - وتُحيِّر الكثيرين من الفلاسفة والمُفكِّرين، فضلاً عن دهماء الناس وعامَّتهم، وليس لدى أصحاب المذاهب الأرضية جواب عن هذا الأمر المُحيِّر، لكن دعاة الإسلام يَملكون الجواب، ويَملكون استثمار هذا الجواب في مواجَهة جيش الشهوات الزاحف، وفي دعوة الناس إلى اتخاذ مواقف جادَّة صادقة مِن قضية الدِّين، وفي القرآن الكريم من هذا وذاك الشيءُ الكثير.

3- تلمُّس بعض الآثار والحِكم والمقاصد الشرعية؛ فجمهور المسلمين على أن جميع الأحكام الشرعية مُعلَّلة بجلب المَصالح وتحصيلها، ودفع المفاسد وتقليلها.

ووضع أيدي الناس على طرفٍ مما وصَل إليه العقلُ البشريُّ في تلمُّس الحِكم الإلهية وراء الأوامر والنواهي، مما تشهَد له النصوص والوقائع التاريخية - يُرسِّخ في نفوس الناس الاطمئنان، ويَطرُد عنهم ما قد يَعرِض لهم من أوهام أو وساوس.

ومِن ذلك عرض بعض الآثار المادية المترتِّبة على امتثال حكم شرعي أمرًا أو نهيًا؛ كالحديث عن الأضرار الجسمية المترتِّبة على الزنا أو الشذوذ أو تعاطي المخدرات ونحوها، والحديث عن الفوائد الطبية والصحية للوضوء والغسل والسواك وغيرها.

ولا يَعني هذا ربط الحكم بعلَّته ربطًا كليًّا؛ بحيث تُصبِح المسألة محضَ امتِثال لنصيحة دُنيويَّة طبية أو اقتصادية أو غيرها، كلا؛ فالأصل في المسلم الاستسلام والانصياع لأوامر الله ونواهيه، دون تردُّد ولا تلعثُم، ولكن تَضافُر الأدلة وتَكاثُرها مما يَنشرِح له القلب، ويثلج له الصدر، ويَهدأ به البال، خاصة في عصرٍ تربَّدَ وادْلَهمَّ وأوحشَت أرجاؤه.

وقد يَستعين الإنسان في هذا بعلوم خارجة عن نطاق الفقه واختصاصه؛ كالطب والاجتماع والاقتصاد وعلم النفسِ وغيره، دون أن يتكلَّف ما لا يُستَساغ، ودون لهاث وراء البحث عن علل خفية مَوهومة، ودون غفلة عن أن هذه العلوم، وإن كان للمسلمين فيها إسهامات تاريخيَّة، إلا أنها نضجَتْ وتطوَّرت على أيدي الجاهليين، الذين وجَّهوا كثيرًا منها الوجهة التي تُناسِب معتقداتهم وأوضاعهم الفِكرية والاجتماعية والجغرافية.

كما يَنبغي أن تُخص المسائل التي كَثُر الحديث حولها من قِبَل بعض الطاعنين المُغرِضين، أو المُنهزِمين، بمزيد من البحث والبيان، وتفنيد آراء المخالِفين، وإقامة الحُجَّة على المُعاندين.

4- إبراز الجانب العمَلي في الإسلام، كما يَتجلى في تاريخه الطويل، وخاصة في العهد النبوي، ووضع النصوص في إطارها الواقعي التاريخي الذي نزلت فيه، وإدراك الأبعاد والملابسات المُختلفة التي تَكتنِف النصَّ، وهذا يُعين على وضع النصوص في موضعها، وعلى الجَمع بين ما ظاهِرُه التعارُض منها، ويُحول الفقه الإسلامي إلى منهج عملي قابل للتطبيق في أي مرحلة وفي جميع الظروف، بمعنى أنه يضَع خطوات المسلم الجاد على طريق التغيير، ويُعرفه بالمنهج الذي يمكن أن يعود الإسلام من خلاله إلى الدنيا، حاكمًا مُهيمِنًا على الأديان والأوطان كلها.

ومن الأمثلة التي توضح ذلك: الحديث عن (الضرورة وحدودها)، أو عن (وسائل الإنكار؛ ما يجوز منها، وما لا يجوز)، أو عن (الجهاد في سبيل الله)، أو عن (الهجرة وأحكامها وحالاتها)، أو عن (ملابسة المشركين، ومشابهتهم، وضوابطها وأحوالها، واستثناءاتها) إلى عشرات الموضوعات من هذا القَبيل.


ولكن مِن الخطورة بمكان أن يفهم البعض أن ذلك يعني التدرج في أخذ الشرائع المُحكمة المَنصوصة، فيأخذ المسلم المُستضعَف ما جاء مِن تشريعات في الفترة المكيَّة، وهكذا، فهذه بدعة غليظة، وضلالة يوشِك أن تؤدي بصاحبها إلى هاوية الخُروج من الدِّين بالكلية - والعياذ بالله - والشرعُ قد تمَّ واكتمل، وما لأحد أن يَزيد فيه أو ينقص، وقد انقطع الوحي بموت الرسول - صلى الله عليه وسلم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 73.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 71.42 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.56%)]