في فقه "اللّعن واللّعان والملاعنة" بيانٌ لحقيقة المباهلة وأحكامها الشَّرعيَّة - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         علاقة القرآن بشهر رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          ماهية الاعتصام بالله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          فوائد مختصرة منتقاة من المجلد الأول من الشرح الممتع على زاد المستقنع للعلامة العثيمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          سحر صلاة العشاء في رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          من أقوال السلف في السفر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          أساليب التعذيب النفسي في السجون الإسرائيلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          حق اليقين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          آل عمران.. المرابطون ببيت المقدس!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 51 - عددالزوار : 25015 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-11-2019, 06:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 130,367
الدولة : Egypt
افتراضي في فقه "اللّعن واللّعان والملاعنة" بيانٌ لحقيقة المباهلة وأحكامها الشَّرعيَّة

في فقه "اللّعن واللّعان والملاعنة" بيانٌ لحقيقة المباهلة وأحكامها الشَّرعيَّة
صلاح عباس فقير

بين يدي البحث:
يدور أصل هذا البحث حول فقه المباهلة أو الملاعنة، التي قد يدعو إليها أحد الخصمين في سياق الدّعوة والدّعوى والاحتجاج، ثمّ أضفتُ إليه خاتمةً تتضمّن ثمرةً أساسيّةً تولّدت في سياق البحث الأصليِّ، ألا وهي اكتشاف وجود علاقةٍ وثيقةٍ بين مفهومي "اللّعن والتَّألِّي على الله" من ناحيةٍ، ومفهومي اللّعان بين الزوجين، والملاعنة بين الخصوم، فالحكم الشرعيّ بحرمة التَّألِّي على الله - عز وجل -، وإيقاع اللّعن على الآخرين، هو الذي يمثّل القاعدة العامّة في هذا الباب، بينما يمثل الحكم الشَّرعيُّ بوجوب اللّعان بين الزوجين، والحكم الشرعيّ بجواز الملاعنة بين المؤمنين وغيرهم في سياق الدعوة والاحتجاج، استثناءً من تلك القاعدة العامّة.
وكان من الواجب عندئذٍ أن يتمّ إعادة كتابة البحث، الأمر الذي تحول دونه الشّواغل، فاكتفيتُ بإضافة خاتمةٍ إلى أصل البحث الّذي كتبتُه أولاً، والله وليُّ التّوفيق.
مقدمة:
المباهلة أسلوب من أساليب الدَّعوة، يلجأُ إليه الدَّاعية أو خصمُه[1] أو كلاهما، بأن يبتهلَ إلى الله - عز وجل - ويسألَهُ أن يُهلك الظالم أو المبطل منهما، ليكونَ في ذلك حجَّةٌ قاطعةٌ في حسم الخصومة بينهما[2].
وخلافاً للعادة المستقرّة بين النّاس، وهي أنَّ الجدال والحوار ودفعَ الله الناسَ بعضهم ببعض، هو السبيلُ إلى إحقاق الحقِّ وإبطالِ الباطل، تجيء المباهلة من أجل إحداث أمرٍ خارقٍ لمجرى العادة، يُطلب فيه من الله - عز وجل - استناداً إلى علمه وقدرته وجبروته، أن يُهلكَ أحدَ الخصمين، ليكونَ في ذلك علامةٌ على صدق الطَّرف الآخر.
ولجوءُ الدّاعية إلى استخدام هذا الأسلوب في الدعوة والمجادلة، إنّما يكون في مقام التّحدّي، وقد يكون على سبيل المبادرة منه ابتداءً، وقد يكون على سبيل الإجابة لدعوة خصمه.
والمباهلة بهذا المعنى يبدو مفهومُها بَدَهيَّاً، فكلُّ طرَفين إذا كانا يرجعانِ إلى مرجعٍ واحدٍ، وثار بينهما خلافٌ، فمن الطّبعيِّ أن يلوذا بذلك المرجع ليحسم الخصومةَ والخلافَ بينهما، فإذا كان ذلك المرجع هو الله - عز وجل - الَّذي يؤمنان به معاً، وهو يعلم بما في صدورهما ولا يُحيطان بشيءٍ من علمه، فمن الطّبعيِّ عندما يصل الخلاف بينهما إلى طريقٍ مسدود أن يلجآ إلى الله - عز وجل - ويسألاه أن يحسم الخلاف بينهما بهذه الطَّريقة القاطعة في الدِّلالة على الحقِّ في الخصومة بينهما.
وقد عُرفت المباهلة بهذا المعنى البدهيّ في الجاهلية، كما عُرفت في صدر الإسلام، ومن ثمَّ استخدمها كثيرٌ من الدُّعاة القدامَى في عصور الإسلام المختلفة، بل وكذلك استُخدمت في عصرنا هذا من قبل بعض الدُّعاة، الأمر الَّذي أثار بعض المسائل والإشكالات، حول هذا الأسلوب: من حيث حقيقتُهُ الشّرعيَّة، وشروطُ استخدامه، وأحكامه الفقهيّة.
وبناءً على ذلك يطمح هذا البحثُ إلى بناء رؤية فقهيةٍ شرعيّة لأسلوب المباهلة، تستند إلى نصوص الكتاب والسنة المطهّرة، وتسعى إلى تجاوز الإشكالات المثارة حول المباهلة، وردِّ الخلاف فيها إلى الله ورسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]
ويحتوي البحث بعد هذه المقدّمة، على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: المباهلة في اللُّغة العربية.
الفصل الثَّاني: المباهلة في النُّصوص الشّرعيّة.
الفصل الثّالث: مسائل في فقه المباهلة.
(الفصل الأول) المباهلة في اللُّغة العربيَّة
أ‌- مقدِّمة منهجيَّة:
إنَّ النّظر في المعاجم اللُّغويّة، من أجل تأصيل معاني المصطلحات والمفاهيم الشَّرعيَّة، ضرورةٌ منهجيّة، إذ إنَّ إدراك المعنى اللُّغويّ للمفهوم الشرعيّ، هو الخطوة الأولى نحو إدراك حقيقة معناه والمقصود به، وذلك كما يقول مجدّدُ أصول الفقه الإمام الشّاطبيُّ - رحمه الله - تعالى- لأنَّ "هذه الشريعة المباركة عربيَّة"، ويوضِّح: "أنَّ القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلبُ فهمه إنَّما يكون من هذا الطريق خاصَّةً، لأنَّ الله - تعالى - يقول: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [يوسف: 2].. فمن أراد تفهُّمهُ، فمن جهة لسان العرب يُفهم، ولا سبيل إلى تطلُّب فهمه من غير هذه الجهة، هذا هو المقصودُ من المسألة"[3].
بناءً على ذلك يتمُّ في هذا الفصل النّظرُ في المعنى اللُّغويِّ لمفهوم المباهلة.
ب‌- ثلاثة أصولٍ لغويّة تقومُ على مادة "بهل":
قال صاحبُ المقاييس: "الباء والهاء واللام، أصولٌ ثلاثةٌ:
أحدها التّخلية، والثاني جِنْسٌ من الدُّعَاء، والثَّالث قِلَّةٌ في الماء"[4].
وبناءً على ذلك يسوق ابنُ فارس الشَّواهد اللُّغويَّة الَّتي تشهد لكلِّ أصلٍ من الأصول الثلاثة الَّتي توصَّل إليها عبر استقرائه لموارد مادة "بهل".
وممَّا يؤكّد مصداقيَّة الاستقراء والاستنتاج اللّذين قام بهما ابن فارس، أنَّه يتَّفق مع المادة اللُّغويّة الَّتي جمعها صاحب القاموس المحيط، كما يتَّفق مع التَّحقيق الَّذي قام به صاحب "تاج العروس من جواهر القاموس"، ولإثبات ذلك سيتمُّ إيرادُ الشّواهد اللُّغويّة المذكورة في مادة "بهل" جميعِها كما وردت في "تاج العروس"[5]، وذلك مع إعادة ترتيبها وتوزيعها حسب المعاني الثلاثة الأصليَّة التي توصَّل إليها ابنُ فارس لمادة "بهل" الّتي منها اشتُقَّت كلمة المباهلة، لكي يتَّضح لنا بعدها مدى صحَّة استقراء ابن فارس واستنباطه، وذلك على النَّحو التالي:
أولاً: معنى التَّخلية:
يقول المرتضى الزَّبيديُّ: "وأَبْهَلَه: تَرَكهُ وخَلَّاه. أبْهَلَ النَّاقَة: أَهْمَلَها يَحْلُبها مَن شاء، وفي التهذيب: عَبهَلَ الإِبِلَ: أَهْمَلها، مِثْل أَبْهَلَها، والعَينُ مُبدَلةٌ من الهمزة. وناقَةٌ باهِلٌ: بَيِّنَةُ البَهَلِ مُحَرَّكَةً لا صِرارَ علَيها يَحْلُبها مَن شاء. أوْ لا خِطامَ عليها، تَرعَى حيث شاءت أو التي لا سِمَةَ عليها ج: بُهْلٌ كَبُرْدٍ ورُكَّعٍ قال الشَّنْفَرَي:
ولستُ بمِهْيافٍ يُعَشِّى سَوامَهُ *** مُجَدَّعةً سُقْبانُها وهي بُهَّلُ
وقيل: إنَّ دُرَيدَ بنَ الصِّمَّة أراد أن يُطلّقَ امرأته، فقالت: أبا فلان، أتطلِّقني وقد أطعمتُك مَأْدُومِي، وأبْثَثْتُك مَكتُومِي، وأتيتُكَ باهِلاً غيرَ ذاتِ صِرار أي أبحتُكَ مالِي. بَهِلَت الناقَةُ كفَرِحَتْ: حُلَّ صِرارُها وتُرِكَ ولَدُها يَرضَعُها، وقد أَبْهَلْتُها تَركتُها بَهَلاً فهي مُبهَلَةٌ كمُكْرَمةٍ ومُباهِلٌ، واسْتَبْهَلَها: احْتَلَبَها بِلا صِرارٍ، قال ابنُ مُقبِل:
فاسْتَبْهَلَ الحَرْبَ مِن حَرّانَ مُطَّرِدٍ *** حتّى يَظَلَّ على الكَفَّيْنِ مَرهُونا
أراد بالحَرّانِ الرمْحَ".
ثانياً: كونُها جنساً من الدُّعاء:
يقول المرتضى الزَّبيديُّ:
"البَهْلُ: اللَّعْن يقال: بَهَلَه: أي لَعَنه".
ثالثاً: قلَّةٌ في الماء:
يقول المرتضى الزّبيديّ:
"البَهْلُ مِن المالِ[6]: القَلِيلُ قاله الأُموِيُّ، كذا في المُجْمَل والمَقاييس، وأنشد ابنُ سِيدَهْ:
وأعطاكَ بَهْلاً مِنْهُما فرَضِيتَهُ *** وذُو اللُّبِّ لِلبَهْلِ الحَقِيرِ عَيُوفُ
قال أبو عمرو: البَهْلُ: الشيء اليَسِيرُ الحَقِيرُ. والتَّبَهُّلُ: العَناءُ بما يُطْلَبُ وفي المُحْكَم: بالطَّلَبِ" انتهى توزيع مادة "بهل" من "تاج العروس"، على المعاني الثلاثة الأصليّة التي ذكرها لها ابنُ فارس، وبناءً على ذلك لا نلحظ أدنى تكلُّفٍ فيما ذهب إليه ابن فارسٍ.
وبذلك يُمكن الاطمئنان إلى ما ذهب إليه عموماً، من أنَّ لمادة "بهل" ثلاثة معانٍ أصليّة، وهي: التَّخليةُ، جنسٌ من الدعاء، قليلٌ من الماء.
فما يتعلَّق بموضوع بحثنا هو الأصل الثّاني، فالمباهلة جنسٌ من الدعاء، وذلك لا يمنع من استعمال الأصلين الآخرين، أو أحدهما لإيضاح الأصل الأول، وسيجيء بإذن الله تطبيق لذلك[7].
ت‌- المباهلة باعتبارها جنساً من الدُّعاء:
وبخصوص معنى المباهلة باعتبارها جنساً من الدّعاء، يقول ابن منظور في "لسان العرب"[8]: "والبَهْل اللَّعْنُ" مورداً شواهدَ من اللُّغة تؤكد هذا المعنى، ويبني على ذلك فيقول: "وباهَلَ القومُ بعضُهم بعضاً وتَباهلوا وابتهلوا تَلاعنوا،... ومعنى المباهلة: أَن يجتمع القوم إِذا اختلفوا في شيءٍ، فيقولوا: لَعْنَةُ الله على الظَّالم منَّا. ".
ثمَّ يقول: "وأَصلُه أي الابتهال- التَضَرُّع والمبالغة في السُّؤال"، ويوردُ من شواهد اللُّغة والشِّعر ما يؤكد كلامه.
ثمّ يجمع بين المعنيين السّابقين -أي اللَّعن والتَّضرُّع- قائلاً: "والابتهالُ الاجتهاد في الدُّعاء وإِخْلاصُه لله - عز وجل - وفي التَّنزيل العزيز: (ثم نَبْتَهِلْ فنجعلْ لعنة الله على الكاذبين) أَي: يُخْلِصْ ويجتهدْ كلٌّ منا في الدُّعاء واللَّعْنِ على الكاذب منَّا".
ث- المباهلة عند العرب:
المباهلة بمعنى "أَن يجتمع القوم إِذا اختلفوا في شيءٍ، فيقولوا: لَعْنَةُ الله على الظَّالم منَّا. "[9]، إذا كان لها مكانٌ في لغة العرب، فمن المتوقَّع أن يكون لها مكانٌ كذلك في حياتهم، وهذا ما يُمكن أن نفهمه ممَّا رواه بسنده صاحبُ كتاب الأغاني "عن ابن الأعرابيِّ وأبي عمرو الشيَّباني، قالا: كان من حديث عبيد بن الأبرص أنه كان رجلاً محتاجاً ولم يكن له مالٌ، فأقبل ذات يوم ومعه غَنيمةٌ له، ومعه أخته ماوية، ليُوردا غنمها الماء؛ فمنعه رجلٌ من بني مالك بن ثعلبة وجبهه، فانطلق حزيناً مهموماً للذي صنع به المالكيُّ، حتى أتى شجراتٍ فاستظلَّ تحتهنَّ فنام هو وأخته، فزعموا أنَّ المالكيَّ نظر إليه وأختُه إلى جنبه، فقال:
ذاك عبيدٌ قد أصاب مَيّا... يا ليتَه ألقحها صبيًّا فحملت فوضعت ضاوياًّ...
فسمعه عَبيدٌ فرفع يديه ثم ابتهل فقال: اللهمَّ إن كان فلان ظلمني ورماني بالبهتان فأدِلْني منه، أي: اجعل لي منه دولة وانصرني عليه، ووضع رأسه فنام ولم يكن قبل ذلك يقول الشعر، فذُكر أنه أتاه آتٍ في المنام بكبة من شعر حتى ألقاها في فيه، ثم قال: قم، فقام وهو يرتجز يعني بني مالك، وكان يقال لهم بنو الزِّنية، يقول:
أيا بني الزِّنْية ما غرّكمُ *** فلكُم الويلُ بسربال حَجَرْ
ثم استمر بعد ذلك في الشِّعر، وكان شاعرَ بني أسد غير مدافع"[10].
الشّاهد في هذا النَّصّ المنسوب إلى الجاهليّة، هو قول الرّاوي عن عبيد بن الأبرص أنه: "ابتهل فقال: اللهمَّ إن كان فلان ظلمني ورماني بالبهتان فأدِلْني منه"، ففي هذا النَّصّ تضرُّع إلى الله، واحتكامٌ إلى عزَّته وجبروته، وهو إن لم يدُلَّ على وجود المباهلة في الجاهليّة، يُشير إلى وجود بعض مقوِّماتها: الابتهال إلى الله - عز وجل - وسؤاله النُّصرةَ على الخصم.
وفي هذا السّياق يمكن الاستئناس كذلك بما ذكره ابن جرير الطّبري في شرحه لبيتِ شعرٍ جاهليّ، حيث يقول: "وقال لبيد، وذكر قوماً هلكوا فقال: * نظر الدهر إليهم فابتهَل * يعني: دعا عليهم بالهلاك"[11].
"وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُحَيِّي مُلُوكَهَا: "أَبَيْتَ اللَّعْنَ" وَمَعْنَاهُ: أَبَيْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَنْ تَأْتِيَ مَا تُلْعَنُ عَلَيْهِ"[12].
ومن أقوى الأدلَّة على أنّ العرب في الجاهليّة كانوا يعرفون أسلوب المباهلة، ما ثبت في القرآن الكريم والسّيرة النّبويّة، من المباهلة الّتي دعا إليها مشركو مكة، في مواجهة الدَّعوة الإسلاميّة على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممَّا سوف يجيء بإذن الله مفصَّلاً في موضعه[13].
ث‌- خاتمة:
يتبيَّنُ من التّأمل في هذه المادة اللّغوية، أنَّ مادة "بهل" باعتبارها جنساً من الدُّعاء تدلُّ على معنيين أساسيين:
الأول: اللَّعنُ، ويختلف معناه بحسب ما إذا أُضيف إلى الله - عز وجل - أو إلى خلقه، فهو من اللهِ: "الإِبْعادُ والطَّرْد"، "ومن الخَلْق: السَّبُّ والدُّعاء"[14]، وقيل هو: "الإِبْعادُ والطَّرْد من الخير"[15] عموماً.
الثّاني: التَّضرُّع والمبالغة في السُّؤال.
ويمكن الآن رسم تصوّر مبدئيِّ للمباهلة: أنَّها جنسٌ من الدُّعاء فيه تضرُّعٌ ولعن.
الفصل الثَّاني المباهلة في النُّصوص الشّرعيّة
مقدمة:
يقول ابن القيِّم - رحمه الله -: "السُّنَّة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجَّةُ الله، ولم يرجعوا؛ بل أصرُّوا على العِناد أن يُدعَوا إلى المباهلة، وقد أمرَ الله - سبحانه - بذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم -"[16]، وهذا التّقرير القيِّمُ من ابن القيِّم، لا شكَّ يستند إلى استقراءٍ وتتبُّع لخطِّ الدَّعوة، في عهد النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذي بدأ بمكَّة حيث كانت مواجهةُ المشركين من أهل الباطل، ثمَّ انتقلت إلى المدينة حيث كانت مواجهةُ اليهود، ثمّ في أواخر العهد بالمدينة، كانت مواجهة النَّصارى، وذلك في عام الوفود من السّنة التّاسعة للهجرة، وقد أشار العلامة ابن كثير إلى هذه المباهلات عند تعليقه على قوله - تعالى -: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً) [مريم: 75]، قال ابن كثير: "وهذه مباهلة للمشركين... كما ذكر - تعالى - مباهلة اليهود في قوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الجمعة: 6]... وكما ذكر - تعالى -المباهلة مع النصارى في سورة "آل عمران"[17].
ويجيء الآن ذكرُ المباهلات بين أهل الحقِّ وأهل الباطل بأصنافهم الثّلاثة، في عهد الرّسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك على النَّحو التّالي:
أ‌. المباهلة مع المشركين:
لقد عُرفت المباهلةُ في عصر الدّعوة الأول بمكة، ولم تكن مباهلةً بمعنى أنَّ كلا الطَّرفين "المؤمن والمشرك" قد تداعيا لذلك بصورةٍ متقابلة في مجلسٍ واحد، ولكن بمعنى أنَّ سياق الدّعوة الإسلاميّة عموماً، كان يجمعُ بينهما جمعاً اعتباريّاً، ثبت في إطاره وجودُ معنى الابتهال إلى الله - عز وجل -، والطلبُ منه استناداً إلى علمه وقدرته وجبروته، أن يتدخّل تدخُّلاً مباشراً "إلهيًّا"، يحسمُ به هذا الخلافَ الكبيرَ بين الفريقين.
لقد قام المشركون بمباهلةٍ، كما صدرت عن المؤمنين مباهلةٌ أخرى، وذلك على النَّحو التالي:
أولاً: مباهلة المشركين:
تواترت النُّصوص الشرعيَّة، من الكتاب والسنة في الإشارة إلى ما أعلنه المشركون في مكة، من لجوءٍ إلى الله - عز وجل - واحتكامٍ إليه، في شأن الدّعوة الجديدة، فمن ذلك قوله - تعالى -: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال: 32].
ويذكر ابن كثير رواياتٍ مختلفة في تحديد شخص مَن دعا بهذا الدُّعاء الجاهل، فذكر: "عن أنس بن مالك قال: هو أبو جهل بن هشام... [و] عن ابن عبَّاس... قال: هو النَّضر بن الحارث بن كلدة،... وكذا قال مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والسدي... [و] عن ابن بُرَيْدة، عن أبيه قال: رأيتُ عمرو بن العاص واقفاً يوم أُحُدٍ على فرس، وهو يقول: اللهمَّ، إن كان ما يقولُ محمدٌ حقًّا، فاخسف بي وبفرسي"[18].
ثم يورد ابن كثير في ذلك قولاً جامعاً رواه عن قتادة يُفيد بأنَّ القائل لهذا القول هم: "سَفَهَةُ هذهِ الأمَّة وجهلتُها"[19]، وعلى رأسهم أبو جهلها عمرو بن هشام: الّذي ثبت في دواوين السّيرة النّبويّة، ما دعا إليه من مباهلةٍ يوم بدرٍ، حيث قال: "كلا، و الله لا نرجعُ حتى يحكمَ اللهُ بيننا وبين محمَّد! "[20] ثم قال مبتهلاً: "اللَّهمَّ، أقطعَنا للرَّحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحِنْه الغداةَ، اللَّهمَّ! أيُّنا كان أحبَّ إليك وأرضى عندك؛ فانصره اليوم"[21].
"وهذا ممَّا عِيبُوا به" كما قال العلامة ابن كثير، وقال: "كان الأولى لهم أن يقولوا: اللَّهمَّ، إن كان هذا هو الحقَّ من عندك، فاهدنا له، ووفِّقنا لاتِّباعه! "!.
بناءً على ما سبق يُمكن تقرير ما يلي:
أولاً: المعنى الجوهريُّ للابتهال، في سياق الدَّعوة لهذه المباهلة، يتمثّل في كونه جنساً خاصّاً من الدُّعاء، يلجأ فيه المبتهل إلى الله - عز وجل - طالباً منه النُّصرة، بتدخُّلٍ إلهيٍّ مباشر، يخرق حجاب السّببية، يُعتمد فيه على علم الله وقدرته وجبروته، لا على تهيئة أسباب القوّة مثلاً.
ثانياً: هذا الابتهال لم يكن تعبيراً ذاتياًّ، بل كان إعلاناً عامّاً يُعبِّر عن موقف واضح من الدّعوة الجديدة، ويواجهها بقوة، فالطرف الآخر كان حاضراً في وعي المباهل وفي واقعه.
ثالثاً: لو افترضنا أنَّ مضمون هذه المباهلة قد تحقّق لصالح المشركين، فلم تنزل عليهم حجارةٌ من السَّماء، لكان موقفُ كفار مكةَ قويّاً، إذ يثبت بناءً على ذلك: أنَّ هذا الّذي أتى به محمدٌ ليس هو الحقَّ من عند الله! ولكن ذلك لم يحصل لضعف المباهِل، كما سوف يأتي.
رابعاً: وهذا الافتراض يؤكد أنّ ذلك الإعلانَ من مشركي قريش كان مباهلةً حقيقيّة مكتملة العناصر، وإن صدرت بإرادة منفردة، لكن الطَّرف الآخر كان حاضراً فعلاً في سياق الدّعوة الَّذي وُلدت فيه المباهلة، كما كان حاضراً حُكماً في سياق المباهلة ذاتها، إذ لولا حضوره هذا لما كانت المباهلة ذاتها.
خامساً: تحقَّقت مباهلةُ المشركين، وكاد أن ينتج عنها أثرُها، الّذي هو نزول العذاب عليهم من السماء،
وهذا لا يتعارض مع حقيقة أنّ هذا الإعلان في ذاته كان متهافتاً..
إذن، تهافتُ الموقف القرشيِّ الداعي إلى المباهلة، لم يفرض على صاحب الدّعوة بذل جهدٍ كبيرٍ في ردّها أو الرّد عليها، فهم بمجرد إعلانهم المباهلةً صاروا مستحقّين للعذاب، ونزول الحجارة عليهم من السماء، لم يمنع من ذلك سوى وجوده - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيّهم، يقول الله - تعالى -بعد تقرير "موقفهم" وبيان مباهلتهم: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال].
يقول ابن كثير: "يخبر - تعالى - أنهم أهلٌ لأن يعذِّبهم، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم؛ ولهذا لما خرج من بين أظهرهم، أوقع الله بهم بأسَه يوم بدر، فقُتل صناديدُهم وأُسِرت سَراتهم.
وأرشدهم - تعالى - إلى الاستغفار من الذُّنوب، التي هم متلبِّسون بها من الشِّرك والفساد... فلولا ما كان بين أظهرُهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين، لأوقع بهم البأس الذي لا يُردُّ، ولكن دفع عنهم بسبب أولئك، كما قال - تعالى - في يوم الحديبية: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[الفتح: 25]. "[22].
ثانياً: مباهلة المؤمنين للكافرين:
وردت هذه المباهلة في قوله - تعالى -: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا) [مريم75].
ونقرأ في تفسير ابن كثير: "يقول - تعالى -: (قُلْ) يا محمد، لهؤلاء المشركين بربِّهم المدَّعين، أنَّهم على الحقِّ وأنَّكم على الباطل: (مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ) أي: منَّا ومنكم، (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) أي: فأمهله الرَّحمن فيما هو فيه، حتى يلقى ربه وينقضي أجله، (إِمَّا الْعَذَابَ) يُصيبه، (وَإِمَّا السَّاعَةَ) بغتةً تأتيه، (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا) [أي] في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن النَّدي"[23].
يقول العلامة ابن كثير: "وهذه مباهلةٌ للمشركين الَّذين يزعمون أنَّهم على هدىً فيما هم فيه"[24]. "أي: من كان في الضَّلالة منَّا أو منكم، فزاده الله ممَّا هو فيه ومَدّ له، واستدرجه"[25].
ويقول ابن جرير الطّبريّ في تفسير هذه الآية: "يقولُ - تعالى -ذكره لنبيِّه محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -: (قل) يا محمَّد، لهؤلاء المشركين بربِّهم -القائلين: إذا تُتلى عليهم آياتُنا، أيُّ الفريقين منَّا ومنكم خيرٌ مقاماً وأحسن نديًّا-: مَن كان منَّا ومنكم في الضَّلالة جائراً عن طريق الحقِّ، سالكاً غيرَ سبيل الهدى، فليمدُدْ له الرَّحمن مدًّا: يقول: فليُطوِّلْ له الله في ضلالته، وليُملِه فيها إملاءً"، قال ابن جرير: "وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل"، ثمّ روى بسنده "عن مجاهدٍ، في قوله: (فليمدُد له الرَّحمن مدَّا) فليَدَعْهُ الله في طغيانه"[26].
ونلحظ أنَّ المباهلة في هذه الآية، لم تكن عاقبتُها هلاكَ أهل الباطل، ولكن الإملاءُ لهم وإيكالهُم إلى أنفسهم، وذلك يتّفق مع معنى التّخلية، وهو أحد المعاني الثَّلاثة لمادة "بهل"، "وتحقيق معنى الكلمة: أنَّ البَهل إذا كان هو الإرسال والتَّخلية، فكان مَن بهله الله فقد خلاه الله ووكله إلى نفسه، ومن وكله إلى نفسه فهو هالك لا شكَّ فيه"[27]، إذن، فاشتراك الدِّلالتين -أي اللَّعن والتَّخلية- في أصلٍ واحدٍ، وهو مادَّة "بهل"، جعلَ إحداهما تُسهم في إيضاح معنى الأخرى[28].
وهذه المباهلة، وإن لم تجعل الهلاكَ عاقبةً للمُباهل المبطل في أوّل الحال، لكنّها أغلقت أمامه كلَّ سبيلٍ للهداية، ليظلَّ سادراً في غيِّه وطغيانه إلى أن يتنزَّل عليه العذاب في ثاني الحال، أو يلقى ربَّه، فيُوفِّيه حسابه، إذن فهذه المباهلةُ تسدُّ باب التّوبة، على أهل الباطل ما لم ينكُلوا.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 19-11-2019, 06:35 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 130,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: في فقه "اللّعن واللّعان والملاعنة" بيانٌ لحقيقة المباهلة وأحكامها الشَّرعيَّة

في فقه "اللّعن واللّعان والملاعنة" بيانٌ لحقيقة المباهلة وأحكامها الشَّرعيَّة
صلاح عباس فقير


ب. المباهلة مع اليهود:
وقد أُشير إليها في قوله - تعالى - من سورة البقرة: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 94].
يقول ابن جرير الطبري: "وهذه الآية مما احتجَّ الله بها لنبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم - على اليهود الذين كانوا بين ظهرانيِّ مُهاجَره، وفضحَ بها أحبارهم وعلماءهم، وذلك أنَّ الله جل ثناؤه أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى قضيَّة عادلة بينه وبينهم، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف،... إلى فاصلةٍ بينه وبينهم من المباهلة،... فامتنعت اليهودُ من إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك،... فبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أنَّ اليهود تمنَّوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون أهلاُ ولا مالاً...
قال أبو جعفر: فانكشف -لمن كان مشكلاً عليه أمرُ اليهود يومئذٍ- كذبُهم وبهتهم وبغيهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل" [29].
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه- قوله في تفسير الآية: "أي: اُدعوا بالموتِ على أيِّ الفريقين أكذبَ"[30].
وعلَّق الشيخ السّعدي على هذه الآية قائلاً: "وهذا نوعُ مباهلةٍ بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"[31].
كما دعا الله - سبحانه وتعالى -- رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى مباهلة اليهود في قوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الجمعة: 6].
يقول ابن كثير: "أي: اُدعوا على المبطل منَّا ومنكم بالموت، إن كنتم تدَّعون أنَّكم على الحقِّ"[32].
ت. المباهلة مع النَّصارى:
وهي المباهلة المشهورة، الَّتي أُمِرَ بها الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - في العام التَّاسع من الهجرة، لمَّا قدم إلى المدينةِ وفدٌ من نصارى نجرانَ، مكوَّنٌ من ستين راكباً فيهم أشرافُهم وأهلُ الحلِّ والعقد منهم، وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحاجُّونه في أمر المسيح - عليه السلام -، ويريدون أن يُثبتوا إلهيَّته بالادِّعاء الباطل[33]، فحاورهم الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم - وجادلهم ودعاهم إلى الإسلام، "فقالوا له: قد كنّا مسلمين قبلك!
فقَال -وهو يُخاطبُ اثنينِ من رؤسائهم-: كَذَبْتُمَا، مَنَعَ الإِْسْلاَمَ مِنْكُمَا ثَلاَثٌ: قَوْلُكُمَا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَسُجُودُكُمَا لِلصَّلِيبِ، وَأَكْلُكُمَا الْخِنْزِيرَ [34].
قَالاَ: مَنْ أَبُو عِيسَى؟ " " كُل آدَمِيٍّ لَهُ أَبٌ فَمَا شَأْنُ عِيسَى لاَ أَبَ لَهُ! "[35]
فأنزل الله - تعالى -نيِّفاً وثمانين آيةً صُدِّرت بها سورة آل عمران، وذلك رداً لباطلهم، وإقامةً للحجَّة عليهم، فلمَّا لم يستجيبوا للحُجج النَّبويَّة والقرآنيَّة، أمر الله - تعالى -رسوله بأن يُباهلهم، ونزل في ذلك قوله - تعالى -: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [سورة آل عمران61].
يقول ابن جرير الطَّبريُّ في تفسير هذه الآية: "يعني بقوله جلَّ ثناؤه: (فمن حاجَّك فيه)، فمن جادلك، يا محمَّد، في المسيح عيسى ابن مريم... ويعني بقوله: (من بعد ما جاءك من العلم)، من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بيَّنتُه لك في عيسى أنَّه عبد الله، (فقل تعالوا)، هلمُّوا فلنَدْعُ (أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل)، يقول: ثم نلتعن... (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) منَّا ومنكم في أنَّه عيسى"[36].
وبعد نزول هذا الأمر الإلهيِّ، قال لهم الرّسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رُوي عن ابن عبّاس رضي الله عنه-: "إنَّ الله قد أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم، فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك... وقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خرجَ ومعه عليٌّ والحسنُ والحسين وفاطمة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أنا دعوتُ فأمِّنُوا أنتم" [37].
فتملَّكهم الخوف، وقال بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: "إِنْ فَعَلْتُمُ اضْطَرَمَ الْوَادِي عَلَيْكُمْ نَارًا.. فَإِنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ جَاءَكُمْ بِالْفَصْل فِي أَمْرِ عِيسَى، فَقَالُوا أَمَا تَعْرِضُ عَلَيْنَا سِوَى هَذَا؟ فَقَال - صلى الله عليه وسلم -: الإِْسْلاَمُ أَوِ الْجِزْيَةُ أَوِ الْحَرْبُ فَأَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ "[38].
وروى البخاريُّ في "صحيحه" عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قوله: "جاء العاقبُ والسَّيد صاحبا نجرانَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُريدانِ أن يُلاعناه، فقال أحدُهُما لصاحبه: لا تفعل، فو اللهِ لئن كان نبياً فلاعنَّا لا نُفلح نحن و لا عقبُنا من بعدنا،..."[39].
وقيل فيما رُوي عن ابن عباسٍ، أنّهم قالوا للرَّسول - صلى الله عليه وسلم -: "أخِّرْنا ثلاثة أيام، فذهبوا إلى بني قريظة والنَّضير وبني قينقاع فاستشاروهم، فأشاروا عليهم أن يُصالحوه ولا يُلاعنوه، وهو النبي الذي نجده في التوراة"[40].
خاتمة:
ممّا سبق يتبيّنُ لنا أنَّ المباهلة ليست لها صورةٌ واحدة، ففي مباهلة المشركين أُمِرَ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يقولَ لهم: (مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً) [مريم: 75].
وفي مباهلة اليهود، أُمِرَ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يقولَ لهم: (إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 94].
وفي مباهلة النَّصارى، أُمِرَ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يقولَ لهم: (تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [سورة آل عمران، 61].
وكانت مباهلةُ المشركين أخفَّ وطأةً، ربّما لأنَّهم لم يكونوا أهل كتابٍ سابق، ما روي عن قتادة -رضي الله عنه- في قوله - تعالى -: (لتُنذِرَ قوماً ما أُنذِرَ آباؤهم)، "قال: قُريشٌ، لم يأتِ العربَ رسولٌ قبلَ محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، لم يأتِهم ولا آباءَهم رسولٌ قبله"[41]، فأُريد إمهالهم حتّى يسمعوا كلام الله.
وكانت مباهلتا اليهود والنَّصارى أشدَّ وطأةً، ربّما لأنهما أهلُ كتابٍ سابق، رغم تفاوُت ما بينهما: فاليهود هم: "(الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الَّذين عرفوا الحقَّ وتركوه"[42]، فلا يُرجَى كثيرٌ من الخير في إيمانِ من كفر منهم، فلذا كانت مباهلتُهم أخفَّ من مباهلة النَّصارى.
وربَّما أنَّ شدَّة المباهلة مع النَّصارى، واتِّخاذَها صورةً فيها اجتماعٌ ومقابلةٌ بين كلٍّ من الطَّرفين وأهله الأقربين، تعكسُ اهتماماً بحالهم عسى أن يتوبوا ويثوبوا إلى رشدهم، ذلك لأنَّهم "تركوا الحقَّ على جهل وضلال"[43] وكما قال ابن كثير في تعليقه على قوله - تعالى -: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) قال: "أي: الذين زعموا أنَّهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودةٌ للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح من الرِّقَّة والرَّأفة، كما قال - تعالى -: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) [الحديد: 27] وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر، وليس القتالُ مشروعًا في ملَّتهم؛ ولهذا قال - تعالى -: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي: يُوجد فيهم القسِّيسون، وهم خطباؤهم وعلماؤهم"[44].
ومن المعلوم أنَّ للمباهلة بالنسبة لأهل الباطل طرفين، فإمّا باهلوا فلقُوا عاقبة أمرهم السُّوأى، وإمّا أعرضوا عن المباهلة، ففي هذه الحالة يُرجَى أن يتوبوا، وأن يكون للمباهلة دورٌ كبيرٌ في أوبتهم إلى ربِّهم.
الفصل الثَّالث مسائل في فقه المباهلة
أ‌. تعريف المباهلة:
بناءً على ما تقدّم، يمكن تعريف المباهلة بأنَّها:
أسلوبٌ دعويٌّ، يلجأ إليه الدَّاعية أو خصمُه أو كلاهما -وهو في مقام التَّحدِّي، بأن يبتهلَ إلى الله - عز وجل - ويسألَهُ أن يحسم النِّزاع بينهما، استناداً إلى علمه وقدرته وجبروته، بأن يُهلك المبطل منهما هلاكاً عاجلاً، أو يَمُدَّ له في باطله حتَّى يأتيه عذابٌ آجل، أو حتَّى يلقى ربَّه؛ ليكون في ذلك حجّةٌ قاطعةٌ على باطله.
ويُشكلُ على هذا التّعريف أنَّ المباهلة مُفاعلةٌ من "البَهل"، وبالتالي فلا يُعتبر ما يلجأ إليه أحد الطَّرفين بإرادته المنفردة مباهلةً، بل الأولى أن يُسمّى ابتهالاً، وذلك للتَّمييز بينه وبين المباهلة التي تحدث بناءً على اتِّفاق الطرفين.
ويُقال دفعاً لهذا الإشكال:
أولاً: إنَّ أساس المباهلة هو اللُّجوء والابتهال إلى الله - عز وجل - وسؤالُه أن يفصل بين الخصمين بعزَّته وعلمه وقدرته، فصلاً قاطعاً للحجَّة بينهما، وذلك بأن يوقع اللعنَ على المبطل منهما عاجلاً أو آجلاً، وهذا المعنى متحقّقٌ في الحالة الّتي يقوم فيها أحد الطرفين فقط بـ"المباهلة"، ولذلك حدّد العلامة ابن كثير معنى المباهلة بقوله في سياق كلامه عن: "المباهلة لليهود،... أنَّ المرادَ أن يدعُوْا على الضَّالِّ من أنفسِهم أو خصومِهم"[45]، وابن كثير من القائلين بوجود المباهلة مع المشركين واليهود، وبالتالي فهو يقصد: أن يدعوَ اللهَ أيٌّ من الطَّرفين أو كلاهما.
ثانياً: إنَّ ذلك المعنى الّذي تُعبّر عنه آيات المباهلة مع المشركين ثم اليهود والنّصارى، لا يصلح أن يُطلق عليه لغةً اسمُ الابتهال، إلا مع مزيدٍ من الشّرح والتوضيح والتّقييد، بل الصَّحيح لغة أن يُقال: إنّه جنسٌ خاصٌّ من الدُُّعاء، فيستحقُّ اسماً خاصَّاً به، وليس هناك مانعٌ من أن يكون هذا الاسم الاصطلاحيُّ هو المباهلة، كما سار على ذلك ابن جرير وابن كثير، ومن رَوَيا عنهما من أئمّة السّلف، لأنَّهم رأوا اتّفاقاً جوهريّاً بين النَّوعين.
ثالثاً: إنَّ معنى المفاعلة متحقّقٌ في كلِّ "المباهلات" أو "الابتهالات المخصوصة" التي تمِّ الاستدلال بها من القرآن الكريم، ذلك أنَّ "تلك المباهلة" أو ذلك "الابتهال المخصوص"، ما كان ليكون لولا وجودُ الطرف الآخر، في سياق الدّعوة وواقعها أولاً، وفي وعي هذا المباهِل أو المبتهل لمّا أعلن مباهلته ثانياً.
هذا إضافةً إلى أنَّ صيغة المفاعلة تدلُّ في معناها اللُّغويِّ الأصليّ، على محاولة تحقيق الفعل من جانبين، كما تدلُّ على مشاركة "المفعول" في الحدث ومدافعته "للفاعل"، لكن "ليس من اليسير ردُّ كل معاني "فاعل" إلى المعنى الذي يُرجَّح أنَّه المعنى الأصلي"، بل قد وردت صيغةُ المفاعلة بدلالاتٍ أخرى، مثلاً: "ضاعف" بمعنى "ضعَّف"؛ "عافاك الله" بمعنى أعفاك، وباعدته بمعنى أبعدته، وقد يكون "فاعَل" بمعنى "فَعَلَ" المجرد مثل: "سافر"، و"هاجر".
ومن المصطلحات الفقهيّة التي صيغت على وزن "فاعل": المُزارعة، وهي "مفاعلة" من ا"لزَّرع"، وتقتضي بحسب الأصل فعلاً من الجانبين، ولكنَّ فعل الزَّرع في "المزارعة" يكونُ من أحد الجانبين فقط[46].
وقال الخليل: "والتلاعُنُ كالتَّشاتُم في اللفظ، وكلّ فعل على [تفاعل] فإن الفعل يكون [منهما][47]، غير أن التّلاعُنَ ربّما استعمل في فعل أحدهما، والتَّلاعُنُ يقع فعل كلّ واحدٍ منهما بنفسه ويجوز أن يقع كلُّ واحدٍ بصاحبه فهو على معنيين"[48].
ب. حكم المباهلة:
لا شكَّ في جواز المباهلة، عند وجود الضّرورة الّتي تقتضيها، وعند توفّر شروطها، وهذا ما ذهب إليه كثيرٌ من الأئمّة:
يقول ابن القيم: "السُّنَّة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجَّة الله، ولم يرجعوا؛ بل أصروا على العناد أن يُدعَوا إلى المباهلة، وقد أمر الله - سبحانه - بذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل إنَّ ذلك ليس لأمتك من بعدك"[49]. [زاد المعاد 3/557].
ويقرِّر الحافظ ابن حجر "مشروعية مباهلة المخالف، إذا أصرَّ، بعد ظهور الحجة"[50].
ويقول العلامة ابْنُ عَابِدِينَ: "الْمُبَاهَلَةُ بِمَعْنَى الْمُلاَعَنَةِ مَشْرُوعَةٌ فِي زَمَانِنَا. "[51].
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية: "هل المباهلة خاصَّة بين الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - والنَّصارى؟ "
فأجابت بأنها ليست خاصَّةً به - صلى الله عليه وسلم - مع النصارى، بل حكمها عامٌّ له ولأمَّته، مع النَّصارى أو غيرهم[52].
وقد تتعلَّق بالمباهلة الأحكامُ الشّرعيّة الأخرى، فتكون مندوبةً أو واجبةً، في بعض الأحوال، كما إذا كان أهلُ الباطل هم المبادرين والمتحدِّين بها، ففي هذه الحالة -وبعد أن يستفرغ أهل الحقِّ جهدهم في المجادلة وإقناع الخصم، وفي تحقيق شروط المباهلة عموماً- قد يُندب أو يجب القيامُ بها، وكذلك قد تكون المباهلة مكروهةً أو محرَّمة، كما إذا كان في أهل الحقِّ ضعفٌ في قوَّة المنطق والإقناع، وتقصيرٌ في بذل الجهد الدَّعويِّ اللازم.
ت‌. محلُّ المباهلة أو موضوعها:
لقد كان موضوع المباهلات الَّتي جرت في عهد النُّبوّة، هو العقيدةُ والدِّين كلُّه، وبناءً على ذلك ثار التَّساؤل عن محلِّ المباهلة وموضوعها، أهو العقيدة فقط من حيث الدَّعوة إليها، أم أنَّها تشملُ سائر الأمور، سواءٌ كانت قضايا علميَّة، أو قضايا عمليَّة؟!
سئل الشَّيخ الألبانيُّ - رحمه الله - عمَّا إذا كان من الممكن أن تشمل المباهلةُ قضايا عمليّة أو دنيويَّة بحتة، كما إذا كان لك على أخيك المسلم مالٌ فأنكره، أفيجوزُ لك أن تُباهله؟
فأجاب بأنّه لا يجوز تمديدُ الحكم بجواز المباهلة، ليشمل أموراً دنيويّةً أو مادِّيَّةً، وذلك لسببين اثنين:
الأول: أنَّ المباهلة إنَّما تعلَّقت في الأصل بأمورٍ عقديَّة.
والثّاني: أنّ قضايا الخلاف الدنيويّ المادّي، وُضعت لحلّها قاعدة "البيِّنة على المدَّعي و اليمين على المنكر".
ثم يقول: "و لكن إن كان و لا بدَّ من سحب القضيَّة إلى جانبٍ آخر، لم يُنصَّ على هذا الجانب في أثرٍ ما أو حديثٍ ما، فيُمكن سحبُها إلى خلافٍ بين طرفين من المسلمين، مختلفين في بعض الأفكار أو بعض العقائد، كالمعتزلة مثلاً و أهل السنة،... يمكن سحبُ تلك القضية إلى مثل هذه؛ للمجانسة الموجودة بينهما"[53].
هذا عن قضايا الخلاف الدُّنيويّ المادّي، ويُمكن كذلك إخراجُ قضايا الخلاف العلميِّ والفقهيِّ الَّذي لا يمسُّ أصول العقيدة، من باب المباهلة، ذلك أنّ هذه الخلافات تحكمها أصول البحث والحوار والنّظر في الأدلة، والاحتكام إلى المتخصّصين فيها، وردُّ الأمر إلى الله ورسوله، ولكن يرِد على ذلك أنَّ هناك أخباراً عن دعواتٍ للمباهلة أعلنها بعضُ الصّحابة -رضوان الله عليهم- وكانت في قضايا علميّة بحتة، ولم تكن تتعلّق بخلافاتٍ في أمورٍ عقديّة، فمن ذلك:
ما روي من أنَّ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما- دعا المخالفينَ له في إحدى مسائل الإرث، إلى المباهلة قائلاً: "فَإِنْ شَاءُوا فَلْنَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَهُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَهُمْ ثُمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ"[54]، وروي عنه قوله: "من شاء باهلته، إنَّ المسائل لا تعول، إنَّ الذي أحصى رمل عالج عدداً أعدلُ من أن يجعلَ في مالٍ نصفاً ونصفاً"[55].
وما روي عن ابن عباس-رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أنّه قَالَ: "مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلأَمَةِ ظِهَارٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ"[56].
وما رُوي عن عكرمة في قوله - تعالى -: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت)... أنّه قال: "من شاء باهلتُه، أنها نزلت في نساء النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً"[57].
وما رواه عبد الرزاق، عن ابن مسعود أنّه قال: "من شاء باهلتُه أو لاعنته، أنَّ الآية التي في سورة النِّساء القُصرى: (وأولات الأحمال أجلهنَّ أن يضعن حملهنَّ) [الطلاق، 4] نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة (والَّذين يُتوفَّون منكم) [البقرة 234]"[58].
هذا، وقد روي عن الشيخ محمد بن صالح العثيمين، أنَّه سُئل عن هذه الأخبار الّتي تدلُّ على جواز المباهلة في الفروع، فقال: "إنَّه اجتهادٌ منهم -رضي الله عنهم-[59]، ولعلَّ فضيلة الشيخ ابن عثيمين يقصد بذلك أنّه لا حجِّيَّة لها في هذا الباب، ويُمكن أن يُقال إنّها قد صدرت عنهم في مقام الجدال والمنافحة عمَّا يراه أحدُهم من رأيٍ، بدون أن يكون مقصودهم نفسَ ما تدلُّ عليه العبارة، فلا يُمكن للمسلم ناهيك عن صحابيٍّ أن يدعوَ على أخيه باللَّعن والطّرد من رحمة الله، بسبب خلافٍ في مسألةٍ علميَّة، بل غايةُ ما هنالك أن يؤكِّد أحدهم صحَّة المذهب الّذي ذهب إليه، والله - تعالى -أعلم.
ث. الملاعنة بين الزَّوجين وعلاقتها بالمباهلة:
ثبت اللّعانُ بين الزّوجين في الشّريعة الإسلامية، بحديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- أنَّ رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله أم كيف يفعل؟ فأنزل الله في شأنه ما ذُكر في القرآن من أمر المتلاعنين -أي قوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [النُّور6-9]- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد قضى الله فيك وفي امرأتك"قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد"[60].
صفة اللّعان: يقول الزوج عند الحاكم أمام جَمْعٍ من النَّاس: أشهدُ بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزِّنى، أربع مرات،... ثم يزيد في الشَّهادة الخامسة -بعد أن يعظه الحاكم ويحذره من الكذب-: وعليَّ لعنةُ الله، إن كنت من الكاذبين، ثم تقول المرأة أربع مرات: أشهدُ بالله لقد كذب فيما رماني به من الزِّنى، ثم تزيدُ في الشَّهادة الخامسة: وأنَّ غضب الله عليها إن كان من الصَّادقين.
وسُمِّي اللعانُ لأنَّ الرجل في الخامسة يوقع اللعنةَ على نفسه، إن كان من الكاذبين، والمرأةُ تستوجب غضبَ الله عليها إن كان من الصَّادقين.
ويترتّبُ على أيمان الملاعنة: سقوطُ حدِّ القذف عن الزَّوج [ما لم ينكل]، سقوط حدِّ الزِّنا عن المرأة [ما لم تنكل]، ثبوتُ الفرقة المؤبّدة بين الزوجين، انتفاء نسب الولد وإلحاقه بالزوجة[61].
والسؤال: هل تدخل الملاعنة بين الزَّوجين في مفهوم "المباهلة"؟
والجواب: نعم، فهي تتّفق معها في أنّ الطرفين قد ارتضيا رفع أمر الخلاف بينهما في هذا الأمر الحرج، إلى الله - عز وجل - ليُنزل غضبه ولعنته على الكاذب منهما، والحال أنَّ كليهما لا يملك دليلاً على دعواه أو إنكاره.
وهي تبقى صورةً خاصَّةً من صور المباهلة، تتميّز بكونها قد ضُبطت ضبطاً تشريعيّاً محكماً، ولم تعد محلاً للاجتهاد، وهي صورةٌ استثنائية بمعنى أنها تأتي استثناءً من مبدأ عدم جواز إيقاع اللّعن من المسلم على أخيه، وفي ذلك تأكيدٌ على أنَّه لا ينبغي التّوسّع في المباهلة، فإنَّها لمّا شُرعَت في غرضٍ لا علاقة له بأصل الدِّين والعقيدة، قُيِّدت بهذه القيود المُحكمة.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19-11-2019, 06:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 130,367
الدولة : Egypt
افتراضي رد: في فقه "اللّعن واللّعان والملاعنة" بيانٌ لحقيقة المباهلة وأحكامها الشَّرعيَّة

في فقه "اللّعن واللّعان والملاعنة" بيانٌ لحقيقة المباهلة وأحكامها الشَّرعيَّة
صلاح عباس فقير


ج‌. شروط المباهلة:
يقول الشّيخ إبراهيم الحميضي: "يُشترطُ للمباهلة شروطٌ خمسة، لا بدَّ من توافرها قبل أن يُقدم الإنسانُ عليها"، ويقول: "وقد اجتهدتُ في استنباط هذه الشُّروط من القرآن الكريم، والأحاديث، والآثار الواردة في قصة نصارى نجران، وكلام بعض العلماء على هذه الواقعة، ثم عرضتُها على فضيلة الشَّيخ محمد العثيمين - رحمه الله - تعالى- فأقرَّها"[62].
ولسوف يتمُّ الاعتماد في تحديد شروط المباهلة، على هذا الجهد المبارك بإذن الله - تعالى -، إذن:
الشَّرط الأول: "إخلاصُ النية لله - تعالى - فإن المباهلة دعاء وتضرُّعٌ إلى الله - تعالى -كما تقدم، ولا بد لقبول الدعاء من إخلاص النية فيه لله - تعالى - كما هو الشَّأنُ في جميع العباداتِ، فلا يجوز أن يكون الغرضُ منها الرغبةَ في الغلبة، والانتصارَ للهوى، أو حبَّ الظهور وانتشار الصيت، بل تكون للدِّفاع عن الحقِّ وأهله، وإظهارِ الحق، والدعوةِ إلى الله - تعالى - والذَّبِّ عن دينه".
ولا إشكال في هذا الشّرط، بل يجبُ التأكيدُ على أهميّته، خاصَّةً في مقام نُصرة العقيدة والدّفاع عنها.
الشرط الثّاني: "العلم؛ فإنَّ المباهلة لا بدَّ أن يسبقها حوار وجدال، ولا جدال بلا علم، والمُجادل الجاهل يُفسد أكثرَ مما يُصلح، وقد ذمَّ الله - تعالى - المجادل بغير علم، فقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ) [الحج: 8]، كما ذمَّ الله أهل الكتاب لمحاجَّتهم بغير علم، فقال - تعالى -: (يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[آل عمران: 65، 66].
قال القرطبيُّ: "في الآية دليلٌ على المنع عن الجدال لمن لا علم له ولا تحقيق عنده"[63].
وهذا الشَّرطُ كذلك لا إشكالَ في أهميّته وضرورته.
الشّرط الثَّالث: "أن يكون طالبُ المباهلةِ من أهل الصَّلاح والتُّقى"، وهو اللائق بهذا المقام، لأنَّ المباهِل بحكم مباهلته وما فيها من لجوءٍ إلى الله، يكون في مقام القرب منه.
الشرط الرابع: "أن تكون بعد إقامة الحجَّة على المخالف، وإظهارِ الحقِّ له بالأدلة الواضحة والبراهين القاطعة".
وهو شرطٌ ضروريٌّ كذلك، فلا ينبغي أن يلجأ إلى المباهلة مَن لم يستفرغ وُسعه في الفهم والتّفهيم والإقناع.
الشّرط الخامس: "أن تكون المباهلةُ في أمر مُهمٍّ من أمور الدِّين، ويُرجى في إقامتها حصولُ مصلحةٍ للإسلام والمسلمين، أو دفعُ مفسدةٍ كذلك".
وهو شرطٌ كذلك مهمّ جدّاً، وقد سبق الكلام عنه وتفصيلُه في مسألة "محل المباهلة".
وقد يرى البعض إمكانيّةَ إضافة شرطٍ سادس، استناداً إلى قوله - تعالى -: (قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [سورة آل عمران، 61][64].
وهي المباهلة التي أُمر الرّسول - صلى الله عليه وسلم - أن يباهل بها وفد نصارى نجران، وليست هي الصورةَ الوحيدة للمباهلة كما رأينا، فهذا الشّرط ليس بلازمٍ، إلا إذا اتّفق الطَّرفان على أن تكون المباهلةُ بحضور الأقربين من الأهل،
الشّرط المُهمّ الّذي يجب إضافتُه هو: أنَّ المباهلة لا ينبغي أن تكون مع العوامّ، ولكن مع سادة القوم وعقلائهم، فالنُّصوص والأحاديث الواردة في مباهلة النّصارى، فيها ما يدلُّ على أنّ الرّسول - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر بمباهلة كلّ وفد نصارى نجران، فمن ذلك:
ما ورد في السّيرة من أنَّ هذا الوفد، "فيهم أربعة عَشرَ رجلا من أشرافهم يؤول إليهم أمرهم، وأمْرُ هؤلاء [أي الأربعة عشر] يؤول إلى ثلاثةٍ منهم، وهم: العاقب وكان أميرَ القوم وذا رأيِهم وصاحبَ مشورتهم، والذي لا يَصدُرون إلا عن رأيه، والسَّيِّد وكان عالمهم وصاحب رَحْلهم ومُجتمعهم، وأبو حارثة بن علقمة، وكان أسْقُفَهم وحَبْرَهم وإمامهم وصاحب مدارسهم"، وتُشير جميع الروايات إلى أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخاطبُ القومَ جميعاً، ولكن كلّمه منهم اثنان: "أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، أو السيّد الأيهم"[65].
وكذلك من المعلوم أنّ الَّّذي كان سيُباهلُ هؤلاء النّصارى ليس المسلمون جميعاً، ولكن الرّسول - صلى الله عليه وسلم - وأهله الأقربين فقط.
فهذا كلُّه قد يؤكد أنّ المباهلة لم تُعرض على عوامِّ القوم، ولكن على رؤسائهم وذوي رأيِهم.
ح. مسألةُ عاقبة المباهلة:
ما الَّذي ينتج عن المباهلة، في حال ما إذا تباهل الخصمان: المُحِقُّ والمبطل؟ أسوف يكون هلاكُ المبطلُ أمراً محتّماً، خلال فترة زمنيّةٍ محدّدة؟
أجاب عن هذا السُّؤال ابنُ حجر قائلاً: "مما عُرف بالتَّجربة أنَّ مَن باهل، وكان مُبطلاً لا تمضي عليه سنةٌ من يوم المباهلة، وقد وقع لي ذلك مع شخصٍ كان يتعصَّبُ لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غيرَ شهرين"[66].
ويُعلِّق الشَّيخ إبراهيم الحميضيُّ، على كلام ابن حجر قائلاً: "وقد دلَّت السُّنة على ذلك؛ فقد أخرج الإمامُ أحمد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ولو خَرج الذين يُباهلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً"[67].
ولا شكَّ أنَّ هذا كان سيتحقّقُ بإذن الله - عز وجل - لو وافق أولئك النَّفرُ على مباهلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل يتحقّق بإذن الله - عز وجل - لكلِّ إمامٍ ربّانيٍّ، قام بمباهلة بعض أهل الباطل، واستفرغ وُسعه في تحقيق كلِّ شروط المباهلة المذكورة أعلاه.
لكنّ تحديد أجلٍ معيَّنٍ لتحقُّق عاقبة المباهلة، سواءٌ كان عاماً واحداً أو أقلَّ أو أكثر، أمرٌ لا دليل عليه، فلا ينبغي الجزم به.
بل، قد يُقال: إنَّ الجزم بتحقُّق مثل هذه العاقبة الموقوتة، سواءٌ كانت محدّدة أو غير محددة، لا يصُحُّ إلا في حقِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والَّذي يمكن الاطمئنانُ إلى تقريره: أنّه لا بدَّ أن يَلقى كلُّ مباهلٍ مُبطلٍ سوءَ العاقبة، ولكن ليس من الضّروريِّ أن يكون ذلك بهلاكه في غضونِ أجلٍ معيَّن، بل قد تكون عاقبتُه السُّوأى متمثِّلةً في المدِّ له في ضلالته، وإيكالِه إلى نفسه، كما هو الحال في "مباهلة المشركين"، وعندئذٍ فلا شَكَّ أنّه سيتجرَّعُ غُصصَ الحسرة والنّدم والشَّقاء، في الحياة الدنيا قبل الآخرة.
وذكر الشيخ إبراهيم الحميضي نماذج أخرى، ليؤكد بها ما ذهب إليه من مفهومٍ محدّدٍ لسوء عاقبة المباهل، فمن ذلك:
"قال صدِّيق حسن خان القِنَّوْجيّ: "أردت المباهلة في ذلك الباب، يعني باب صفات الله - تعالى -مع بعضهم، فلم يُقم المخالفُ غير شهرين حتى مات"[68]، ومما وقع أيضاً في هذا العصر: أنَّ المتنبئ غلام أحمد القادياني، الذي ظهر في شبه القارة الهندية في القرن المنصرم، باهل أحد العلماء الذين ناقشوه وناظروه وأظهروا كذبه وبطلان دعوته، وهو الشيخ الجليل ثناء الله الأمرتسري، فأهلك الله - عز وجل - المتنبِّئَ الكذَّاب بعد سنة من مباهلته، وبقي الشيخُ ثناء الله بعده قريباً من أربعين سنة، يهدم بنيان القاديانية ويجتثُّ جذورها"[69].
ولكن يُقال: تبقى هذه نماذج مليئة بالعِبرة، بيد أنّه يصعب بناءُ قاعدةٍ عامَّةٍ عليها، والله - تعالى -أعلم.
خاتمة في فقه اللّعن واللّعان والملاعنة
في هذه الخاتمة، نُشير إلى الثّمرة الأساسيّة التي نتجت عن سياق هذا البحث، والتي تتمثّل في إدراك العلاقة الكلية التي تربط مفهومي الملاعنة والمباهلة بمفهوم اللّعن، على النّحو التّالي:
أ‌. معنى اللَّعْن:
اللّعنُ "مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرْدُ وَالإْبْعَادُ عَلَى سَبِيل السُّخْطِ، وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ فِي الآْخِرَةِ عُقُوبَةٌ، وَفِي الدُّنْيَا انْقِطَاعٌ مِنْ قَبُول رَحْمَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَمِنَ الإْنْسَانِ دُعَاءٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَلاَ يَخْرُجُ الاِصْطِلاَحُ الْفِقْهِيُّ عَنْ ذَلِكَ"[70].
واللّعن بمعناه الثالث هو الذي يدخل معنا في سياق هذا البحث، وهو أن يدعو المسلمُ على أحدٍ من النّاس، بأن يطرده الله - عز وجل - من رحمته.
ب‌. حكم اللّعن:
تُشير النّصوص الشّرعية إلى أنّ اللّعن والطرد من رحمة الله - عز وجل -، هو أمرٌ إلهيٌّ، لا ينبغي لأحدٍ من البشر أن يُباشره، وإلا دخل في حدود دائرة التّألِّي على الله - عز وجل -، الذي ورد فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ - تعالى -قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ"[71].
بلى إنّ "مِن كمال العدل أن لا يُساوَى بين كافرٍ ومؤمن، بين مشرك ضالٍّ معرضٍ وبين موحِّد مستقيمٍ على الطاعة" كما يقول فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله: "لكن أخي المسلم، ومع عِلمِك بهذا فأنتَ في هذه الدنيا لا يصحُّ لك أن تحكمَ على أيِّ إنسانٍ بأنّه في النار، أو بأنه الله لا يغفِر له، أو بأنّه من المخلَّدين في النار، أو تحكم لشخصٍ أنه من أهل الجنة وأنّه من المغفورِ لهم. هذا الحكمُ منك في الدّنيا لا يصحّ؛ لأنّ هذا أمرٌ غيبيّ والله المطلِّع على العباد ومآلِ أمورهم، وله الحِكمة في ذلك، لكن أنت ترجو لأهلِ الإحسان والاستقامةِ، ترجو لهم المثوبةَ مِن عند الله، وتخاف على المخالِفين مِن عقاب الله، أمّا الحكم على المعيَّن بأنّ هذا في الجنّة أو أنّ هذا في النار أو أنّ هذا مغفور له ولا يعاقَب فذاك حكمٌ على أمرٍ أنت غيرُ مطِّلعٍ عليه، حكمه عند ربِّ العالمين أعدَل العادِلين وأكرم الأكرمين"[72].
وبناءً على ذلك، لم يرد في الشرع الحكم بجواز اللّعن إلا في ثلاث حالاتٍ:
الأولى: لعن من لعنه الله ورسوله.
الثانية: لعن أهل المعاصي بصيغة التّعميم.
الثّالثة: لعنُ الشّخص المعيّن الّذي عُلم أنّه مات كافراً.
ونشأ الخلافُ حول جواز لعن المعيّن إن كان فاسقاً أو داعياً إلى بدعته!.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " واللعنة تجوز مطلقا لمن لعنه الله ورسوله، وأما لعنة المعين فإن علم أنه مات كافرا جازت لعنته، وأما الفاسق المعين فلا تنبغي لعنته لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلعن عبد الله بن حمار الذي كان يشرب الخمر، مع أنه قد لعن شارب الخمر عموما، مع أن في لعنة المعين إذا كان فاسقا أو داعيا إلى بدعة نزاعاً "[73].
ت‌. الخلافُ حول جواز لعن المعيّن إن كان فاسقاً أو داعياً إلى بدعته:
بناءً على ما تقرّر في هذا البحث من مشروعية اللجوء إلى المباهلة، في سياق دعوة الآخرين، لا يبدو لهذا الخلاف من مسوّغٍ يُبرّره، فهذا الفاسق أو الداعي إلى بدعته، يقع في محلّ الدّعوة، وبالتالي فإنّ لأهل الحقّ، وهم يتصدّون لدعوته وبيان باطله، أن يلجؤوا إلى أسلوب المباهلة، عندما لا تُجدي الأساليب الأخرى من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، في درء خطره.
العلاقة بين [اللّعن والتَّألِّي] واللّعان والملاعنة [المباهلة]:
بناءً على ما سبق، نُقرّر الحقيقة الكلية التالية:
أنّ اللّعن سلطة إلهية مطلقة، لا ينبغي لأحدٍ مباشرتها دونه - سبحانه وتعالى -، وإيقاع اللّعن بأحدٍ من عباده، مسلماً كان أو غير مسلمٍ، إلا في حدود الحالات التالية التي ثبت استثناؤها من هذا المبدأ العام، ألا وهي:
أولاً: لعنُ من لعنه الله ورسوله.
ثانياً: لعنُ أهل المعاصي بصيغة التَّعميم.
ثالثاً: لعنُ الشّخص المعيّن الّذي عُلم أنّه مات كافراً.
رابعاً: اللّعان بين الزوجين.
خامساً: الملاعنة في سياق المجادلة والدّعوة.
ختاماً:
هذه حصيلةُ جهدٍ، أسأل الله أن يكون مباركاً، وأن يكون قد أزال بعض الإشكالات المتعلِّقة بهذا الموضوع المهمِّ، فإن أصَبتُ في شيءٍ من ذلك توفيقاً، فذاك من فضل الله - عز وجل -، وإن أصابني فيه الزّلل وسوء الرّأي والخطل، فذلك من نفسي ومن الشَّيطان وشركه.
والحمد لله ربِّ العالمين.
_______________
[1] - قد يُقال: إنّ المباهلة مفاعلة من البَهل، فيلزم أن تكون بين طرفين، سيجيء الرّد على هذا الإشكال لاحقاً.
[2] - قارن بإبراهيم الحميضي، في مقالته "حقيقة المباهلة" التي نشرها بالعدد 190 من مجلة البيان ص14، حيث يرى أنّ المباهلة "من المناهج التي سلكها القرآن الكريم في معاملة المخالفين المبطلين".
[3] - الموافقات، ج2، ص101، بحسب تنسيق المكتبة الشاملة.
[4] - مقاييس اللغة، ج8، ص310، 311.
[5] - تاج العروس، ج28، ص128.
[6] - في المقاييس، طبعة اتحاد الكتاب العرب، قال: "البهل من الماء القليل"، يبدو أنَّ ثمَّة تصحيفاً في أحد الكتابين، إما المقاييس أو تاج العروس، وبالتالي فقد يكون الصحيح: "المال" أو "الماء"، ولكن ذلك لا يؤثر على المعنى المقصود.
[7] - انظر لاحقاً ما ورد في [مباهلة المشركين].
[8] - ج11 ص 71.
[9] - لسان العرب، ج11 ص 71.
[10] - الأغاني ج22 ص86
[11] - تفسير الطبري: ج6 ص 476.
[12] - تاج العروس، وإعانة الطالبين: 2 / 250، ومنح الجليل 4 / 476.
[13] - الرحيق المختوم، ص175.
[14] - لسان العرب، ج13 ص 387.
[15] - لسان العرب، ج13 ص 387.
[16] - زاد المعاد ج3 ص 557.
[17] - تفسير ابن كثير، ج5 ص 258.
[18] - تفسير ابن كثير، ج 4 ص 47، 48.
[19] - ا لمرجع السابق، ص 47.
[20] - السِّيرة لابن حبان، ج1 ص 157.
[21] - الرحيق المختوم، ص175
[22] - تفسير ابن كثير، ج 4 ص 47، 48.
[23] - تفسير ابن كثير، ج 5 ص 258.
[24] - تفسير ابن كثير، ج5 ص 258.
[25] - تفسير ابن كثير، ج1 ص 232.
[26] - تفسير الطبري، ج18 ص 243.
[27] - مفاتيح الغيب، ج1 ص1166.
[28] - راجع الفصل الأول من هذا البحث، ومقدمة الدكتور عبد السلام هارون لكتاب مقاييس اللغة.
[29] - تفسير الطبري، ج2 ص 362.
[30] - تفسير ابن كثير، ج1 ص 332.
[31] - تفسير السعدي، ص59.
[32] - تفسير ابن كثير، ج5 ص 258.
[33] - أيسر التفاسير لكلام العليِّ الكبير، ج1 ص283.
[34] - الدر المنثور، ج3 ص 443.
[35] - الدر المنثور، ج3 ص 602.
[36] - تفسير الطبري، ج6 ص 473، 474.
[37] - الدر المنثور، ج3، ص609.
[38] - معاني القرآن للنحاس، ج1 ص416.
[39] - صحيح البخاري، ج5 ص 171، حديث رقم 4380.
[40] - الدر المنثور، ج3، ص609.
[41] - الدر المنثور، ج12 ص 322.
[42] - تفسير السعدي، ج1 ص39.
[43] - تفسير السَّعدي، ج1 ص39.
[44] - تفسير ابن كثير، ج3 ص 167.
[45] - تفسير ابن كثير، ج5 ص 258.
[46] - تعتمد هذه الفقرة بصورةٍ أساسيّة، على كتاب [معاني " الواو " العاطفة بين الاصطلاح المعنوي والتقعيد اللغوي الأصولي]، للأستاذ أحمد كروم، ج4 ص9، وما بعدها، حسب المكتبة الشاملة.
[47] - في الأصل [منها]، لكن سياق الكلام يُشير إلى أنّها قد تكون [منهما] فالغالب أنّ ثمّة تصحيفاً، ويؤكد ذلك وجود هذا المعنى في لسان العرب في قوله: "والتلاعن: كالتشاتم في اللفظ، غير أن التشاتم يستعمل في وقوع فعل كل واحد منهما بصاحبه، والتلاعن ربما استعمل في فعل أحدهما" لسان العرب: 13/388.
[48] العين، 2/142.
[49] - زاد المعاد، ج3 ص557.
[50] - فتح الباري، ج8 ص 95.
[51] - مختصر خليل، ج2 ص 541، 589.
[52] - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ج4، ص 160.
[53] - سلسلة الهدى و النور آخر الشريط رقم 703وانظر الرابط: http://www.islammont.com/showthread.php?t=2392
[54] - الفقيه والمتفقه للخطيب البغداديّ، ج1 ص410.
[55] - مختصر إرواء الغليل، ج1 ص337.
[56] - السنن الكبرى للبيهقي، ج7 ص 383.
[57] - مسند ابن راهوية، ج4 ص15، وفي تحفة الأحوذي، ج9 ص49.
[58] - التَّمهيد لابن عبد البر، ج 20 ص35.
[59] - ذكر إبراهيم الحميضي، في مقالته "حقيقة المباهلة" السّابقِ الإشارةُ إليه أنّه سأل الشيخ عن ذلك فأجابه بذلك.
[60] -
[61] - الأحكام الفقهية الواردة في هذه الفقرة هي تلخيص من كتاب: "الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة"، الصادر عن مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ص325 وما بعدها.
سنة الطبع: 1424هـ. عدد الأجزاء: 1
[62] - إبراهيم الحميضي، المرجع السابق.
[63] - تفسير القرطبي، ج4 ص70.
[64] - من مقال بعنوان مسائل في المباهلة لعبد اللطيف التويجري على الرابط: http://www.r3bh.com/showthread.php?p=7674].
[65] - تفسير ابن كثير، ج2 ص51.
[66] - فتح الباري، ج8 ص95.
[67] - مسند الإمام أحمد، ج1 ص248، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند، ج3 ص51.
[68] - عون الباري لحل أدلة صحيح البخاري، ج5 ص 334.
[69] - القاديانية دراسات وتحليل، للأستاذ إحسان إلهي ظهير، ص 154، 159.
[70] الموسوعة الفقهية الكويتية: 21/ 271
[71] صحيح مسلم [2621].
[72] موقع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله: http://www.mufti.af.org.sa/node/52.
[73] مجموع الفتاوى:6/511
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 135.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 133.10 كيلو بايت... تم توفير 2.81 كيلو بايت...بمعدل (2.06%)]