|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#111
|
||||
|
||||
رد: سلسلة كيف نفهم القرآن؟ ____ متجدد إن شاء الله
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [*] رامي حنفي محمود تفسير الربع الخامس من سورة النحل الآية 90: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ ﴾ عباده في هذا القرآن ﴿بِالْعَدْلِ﴾ في حقه تعالى (وذلك بأن يُعبَد وحده ولا يُعبَدُ غيره، لأنه هو الخالق المُنعِم، وأما غيره فلم يَخلّق شيئاً ولم يُنعِم بشيء)، وكذلك يأمر بالعدل في حق عباده (بإعطاء كل ذي حَقٍّ حقه)، ﴿وَالْإِحْسَانِ﴾ أي: ويأمر سبحانه بالإحسان في حقه (وذلك باجتناب المُحرَّمات، وأداء الفرائض كما شَرَع، مع مراقبة اللهِ تعالى في ذلك، حتى يكون الأداء على الوجه المطلوب إتقاناً وجَودة)، وكذلك يأمر سبحانه بالإحسان إلى الخَلق في الأقوال والمُعاملات، ﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾: أي ويأمر بإعطاء الأقرباء حقوقهم من الصلة والبِرّ، ﴿وَيَنْهَى﴾ سبحانه ﴿عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾ وهو كل ما قَبُحَ قولاً وعملاً، ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ وهو كل ما يُنكِره الشرع وتُنكِره الفِطَر السليمة والعقول الراجحة السديدة، ﴿وَالْبَغْيِ﴾: أي ويَنهى سبحانه عن ظلم الناس والتعدي عليهم، واللهُ تعالى - بهذا الأمر وهذا النهي - ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾: أي لكي تتذكروا أوامره وتنتفعوا بها. ♦ واعلم أنّ هذه الآية تُفَسِّر قوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ﴾ أي أمَرناهم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ولكنهم فسقوا في القرية، ولم يَمتثلوا لأوامر اللهِ تعالى فأهلكهم. الآية 91: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾: أي التزِموا بالوفاء بكل عهدٍ أوْجبتموه على أنفسكم (بينكم وبين اللهِ تعالى، أو بينكم وبين الناس)، فيما لا يُخالف شرع الله، ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾: أي ولا ترجعوا في الحَلف بعد أن أكَّدْتموهُ بذِكر لفظ الجلالة (واللهِ) أثناء القَسَم ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ أي شاهداً وضامنًا ووكيلاً، عندما حلفتم به وأنتم تعاهدون الناس، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (هذه الجملة تحمل وعيداً شديداً لمن ينقض العهد). ♦ واعلم أنّ هذه الآية قد حَرَّمتْ نقض العهد وعدم الالتزام بالحَلف (إذا كان ذلك لمصالح مادية)، أمّا إذا حلف العبد على شيء، ثم رأى شيئاً خيراً منه، فإنه يَنقض يمينه ويُكَفِّر كفّارة يمين، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إني واللهِ لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها، إلا كَفَّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير) (انظر صحيح سنن النسائي ج: 9/7). الآية 92: ﴿وَلَا تَكُونُوا﴾ - برُجوعكم في عهودكم وحَلفكم - ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾: أي كامرأةٍ غزلتْ غَزْلاً وأحْكَمَتْهُ بقوة، ثم حَلَّتْهُ وأفسَدَتْهُ، فجعلتْهُ ﴿أَنْكَاثًا﴾: أي مَنقوضاً (يعني أصبح خيوطاً عديدة، كما كان قبل الغزْل)، وذلك حينَ ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾: أي تجعلونَ حَلِفكم - أثناء التعاهد - وسيلة إلى خِداع مَن عاهدتموه، كأنْ تعاهدوا جماعة معينة، وتحلفوا لهم باللهِ فيُصَدِّقوكم، ثم تنقضوا عهدكم معهم بسبب: ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾: يعني لأنّ هناك جماعة أخرى أكثر مالاً ومَنفعة من الذين عاهدتموهم، ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ﴾: يعني إنما يَختبركم اللهُ بهذه الأحوال، ويُهيئ هذه الأسباب، ليرى الصادق الوفي، من الخائن الذي يُفَضِّل الدنيا على الانقياد لأمْر ربه، ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ﴾ أي: وسوف يُبَيّنُ سبحانه لكم ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ مِن أمْر الدين (ومن ذلك اختلاف أحوالكم في العهود)، فيُعطي الصادق الوفي ما يَستحقه من النعيم، ويُجازي الكاذب الخائن بما يَستحقه من العذاب. الآية 93: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي على دينٍ واحد، وهو الإسلام، ﴿وَلَكِنْ يُضِلُّ﴾ سبحانه ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ مِمَّن عَلِمَ أنه يُفَضِّل الضلال على الهدى، والدنيا على الآخرة، ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ مِمَّن عَلِمَ أنه يُفَضِّل الهدى على الضلال، ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. الآية 94: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ أي: ولا تجعلوا حَلِفكم خَديعةً لمن حلفتم له ليُصَدِّقكم، ثم تنقضوا عهدكم معه مِن أجْل غرض دُنيوي حقير، فإياكم والوقوع في هذه الكبيرة ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾: أي حتى لا تَزِلّ قدمُ أحدكم عن الإسلام بعد أن رَسَخَتْ فيه، فتَهلَكوا بعد أن كنتم آمنين، ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾: أي وتذوقوا ما يَسُوؤكم من العذاب في الدنيا ﴿بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي بما تسببتم فيه مِن مَنْع الناس عن الدخول في الإسلام (عندما رأوا غَدْركم وخيانتكم)، ﴿وَلَكُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. الآية 95: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: ولا تنقضوا عهد اللهِ لتأخذوا مكانه عَرَضًا قليلاً مِن متاع الدنيا، ﴿إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾: يعني إنّ ما عند اللهِ من الثواب على الوفاء بالعهد ﴿هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من هذا الثمن القليل ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الفرق بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة. الآية 96: ﴿مَا عِنْدَكُمْ﴾ مِن حُطام الدنيا﴿يَنْفَدُ﴾ أي يَذهب، ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من النعيم ﴿بَاقٍ﴾ لا يزول ولا يَنقص، فاذكروا هذا ولا تبيعوا الغالي بالرخيص والباقي بالفاني، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على التكاليف الشاقة - ومنها الوفاء بالعهد - فنُعطيهم ﴿أَجْرَهُمْ﴾ في الآخرة على عباداتهم ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي بمِثل جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه في الدنيا (حتى يكون أجر النافلة كأجر الفريضة). الآية 97: ﴿مَنْ عَمِلَ﴾ عملاً ﴿صَالِحًا﴾﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ (يعني سواء كان العاملُ ذكرًا أو أنثى)، ولكنْ بشرط: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ باللهِ ورسوله والدار الآخرة، ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ﴾ في الدنيا ﴿حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ أي حياة سعيدة مطمئنة (بالقناعة والرزق الحلال، والتوفيق إلى الطاعة المُوجِبة لرضوان اللهِ تعالى)، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ في الجنة على عباداتهم ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي بمِثل جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه في الدنيا (واعلم أنّ الجزاء يكون بحسب أحسن عمل عملوه مِن كل نوع، ففي الصلاة يُعطَى جزاء أفضل صلاة صلاَّها، وفي الصدقات بأفضل صدقة أعطاها وهكذا). الآية 98، والآية 99، والآية 100: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ﴾: يعني فإذا أردتَ - أيها المؤمن - أن تقرأ شيئًا من القرآن: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ أي المطرود مِن رحمة الله، وذلك بأن تقول: (أعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم)، ليَحميك اللهُ تعالى من وسوسته أثناء القراءة، ﴿إِنَّهُ﴾ أي الشيطان﴿لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ أي ليس له تَحَكُّم أو تسلُّطٌ على إضلال الذين آمنوا ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أي والذين هم يَعتمدون على اللهِ وحده في كل أمورهم، (وقد قيل في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ أي لا يُوقعهم في ذنبٍ لا يَتوبونَ منه). ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾: يعني إنما تَحَكُّمه وتَسَلُّطه يكون على الذين أطاعوه ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾: أي والذين هم - بسبب طاعته - مُشركونَ باللهِ تعالى (فهؤلاء هم الذين يَتسلط الشيطان عليهم فيُضِلَّهم حتى يُهلِكَهم). الآية 101، والآية 102: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ﴾: يعني وإذا نَسَخَ اللهُ حُكماً في آيةٍ مُعَيّنة من القرآن، واستبدله بحُكمٍ آخر في آيةٍ أخرى ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ أي: وهو سبحانه الأعلم بمَا يُصلِحُ خَلْقه، فيُنَزِّل لهم الأحكام في أوقاتٍ مختلفة (تدريجاً لهم ورحمةً بهم): ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾: أي قال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنت مُختَلِق على اللهِ ما لم يَقُلْه ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يعني: بل هم الذين لا عِلْمَ لهم بحِكمة ربهم سبحانه، ﴿قُلْ﴾ لهم - أيها الرسول -: ﴿نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي نَزَلَ جبريلُ بالقرآنَ مِن عند ربك ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي مُشتمِلاً على الحق الواضح، فلستَ أنت الذي تقولُ ما تشاء، وإنما هو وَحْي اللهِ وكلامه ﴿لِيُثَبِّتَ﴾ بِهِ ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ على إيمانهم (إذ كلما نَزَلَ قرآنٌ: ازدادَ المؤمنون إيماناً، فقلوبهم تحيا بالقرآن، كما تحيا الأرض بالمطر)،﴿وَهُدًى﴾ أي ونَزَلَ القرآنُ هدايةً مِن الضَلال ﴿وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ بالفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة، (واعلم أنّ معنى روح القُدُس: أي الروح المُطهَّر، وهو جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)). ♦ ويُلاحَظ أنَّ اللهَ تعالى قال: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ﴾ رغم أنه كان المتوقع مِن السياق أن يقول له: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ من ربي)، وذلك لأنّ في هذه الآية تصبير ومُواساة للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم وافترائهم، فخرج الكلام عن أسلوب التلقين إلى أسلوب التكريم والتشريف، واللهُ أعلم. الآية 103: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ أي نَعلم أنّ المشركين قد زعموا أنك تتلقى القرآن مِن بَشَر (يَعنُونَ بذلك (حداداً) نصرانياً في مكة)، وهم يَعلمون أنهم كاذبون في هذا الافتراء، فـ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾: أي لسان الذي نَسَبوا إليه تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أعجمي لا يُحسن التحدث باللغة العربية ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾: أي والقرآن عربي، في غاية الفصاحة والبلاغة والوضوح والبيان، فكيف يُعلمه أعجمي؟! الآية 104: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ﴾ يعني إنّ الذين لا يؤمنون بآيات القرآن (التي هي نورٌ وهدى، وحُجَج قاطعة وبراهين ساطعة)، أولئك المُكَذِّبون ﴿لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾ لأنهم أعرضوا عن طريق الهداية، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في نار جهنم. الآية 105، والآية 106، والآية 107: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ﴾ يعني: إنما يَصدر افتراء الكذب من ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ﴾ كالمُعاندين الذين كَذَّبوا بما جاءهم من الآيات الواضحة، فهؤلاء لا يَسَعُهم إلا الافتراء لترويج كَذبهم وباطلهم ليَخدعوا به الناس، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ أي: الكذب مُنحَصِرٌ فيهم وهم أوْلَى به مِن غيرهم، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد وَصَفه أعداؤه قبل الرسالة بالصدق والأمانة، ولم يُجَرِّبوا عليه كذبة واحدة، فكيف يَترك الكذب عليهم ويَكذب على ربه؟! (وهذا رَدٌّ مِن اللهِ تعالى على وَصْفِهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالكذب، فأخبَرَهم تعالى أنّ الكاذب حقاً هو الكافر بآيات الله، لأنه لا يرجو ثوابَ اللهِ ولا يَخافُ عقابه، فلهذا لا يَمنعه شيءٌ عن الكذب). ♦ ثم يُخبر تعالى عن قُبح حال ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ وارتدَّ من بعد ما تبَيَّنَ له الحق، وفَضَّلَ الدنيا على الآخرة، واختار الانقياد للشهوات والمَلَذَّات على الانقياد لرب العباد، ولكنه سبحانه استثتى طائفة منهم فقال: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾: يعني إلا مَن أُجبِرَ على النُطق بالكفر، فنَطَقَ به خوفًاً من الهلاك (وقلبه ثابتٌ على الإيمان)، فهذا لا لوم عليه، ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾: يعني ولكنْ مَن نَطَقَ بالكفر، وفتَحَ صدره له، ورَضِيَ به: ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، و﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ﴾ أي بسبب أنهم ﴿اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ واختاروها ﴿عَلَى الْآَخِرَةِ﴾ لاعتقادهم الفاسد بأنهم سيَتحَرّرون من التقيُّد بالعبادات والحلال والحرام وغير ذلك، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ أي وبسبب أنّ اللهَ ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ أي لا يُوَفقهم للحق والصواب (عقوبةً لهم على اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه). الآية 108، والآية 109: ﴿أُولَئِكَ﴾ هم﴿الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾: أي خَتَمَ اللهُ على قلوبهم بالكفر واتِّباع الأهواء والشهوات، فلا يَصل إليها نور الهداية، ﴿وَسَمْعِهِمْ﴾: أي وأصَمّ اللهُ سَمْعهم عن آياته فلا يَسمعونها سماعَ تدبُّر وانتفاع، ﴿وَأَبْصَارِهِمْ﴾: أي وأعمى اللهُ أبصارهم، فلا يرون البراهين الدالة على استحقاقه وحده للعبادة، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ عمَّا أعدَّ اللهُ لهم من العذاب،﴿لَا جَرَمَ﴾: أي حقًا ولا شك ﴿أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ الذين استبدلوا النعيم المُقيم بالعذاب الأليم. الآية 110: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾ وهم المُستضعَفون الذين عَذَّبهم المشركون في "مكة"، حتى وافقوهم على ما هم عليه ظاهرًا، ففتنوهم بالتلفظ بما يُرضيهم، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولمَّا تمكنوا من الخَلاص منهم، هاجروا إلى "المدينة" ﴿ثُمَّ جَاهَدُوا﴾ في سبيل الله ﴿وَصَبَرُوا﴾ على التكاليف الشاقة (ومنها الجهاد): ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ - أي مِن بعد هِجرتهم وجهادهم وصَبرهم - ﴿لَغَفُورٌ﴾ لجميع ذنوبهم، ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم، فلا يخافوا ولا يحزنوا. [1] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير. • واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
__________________
|
#112
|
||||
|
||||
رد: سلسلة كيف نفهم القرآن؟ ____ متجدد إن شاء الله
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [*] رامي حنفي محمود تفسير الربع الأخير من سورة النحل • الآية 111:﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ ﴾: أي ذَكِّرهم - أيها الرسول - بيوم القيامة حينَ تأتي كُلُّ نَفسٍ ﴿ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ﴾ وتعتذر بكل المَعاذير، ﴿ وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ ﴾: أي ويُوَفي اللهُ كل نفسٍ جزاءَ ما عَمِلَتْه في الدنيا ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾. •الآية 112، والآية 113: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ﴾بعذابه في الدنيا - للمُنكِرين لنِعَم اللهِ عليهم - وهو: ﴿ قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً ﴾ وهي هنا "مكة" التي كانت في أمانٍ مِن أيّ اعتداء، ﴿ مُطْمَئِنَّةً ﴾ مِن أن يُصيبها ضِيقٌ في العيش، وكانَ ﴿ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا ﴾ أي هَنيئًا سهلاً ﴿ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ﴾ أي مِن أماكن كثيرة (لأنّ كلمة: (كل) تأتي أحياناً بمعنى الكثرة، كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا ﴾، فكانت مكة يأتيها الرزق من البرّ والبحر (وذلك أثناء رِحلتَيهما - صيفاً وشتاءً - إلى الشام واليمن)، ﴿ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ﴾: أي فجحد أهلُها نِعَمَ اللهِ عليهم فلم يَشكروه، بل أشركوا به سبحانه، وكفروا برسوله وبكتابه ﴿ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ ﴾: أي فعاقبهم اللهُ بالجوع (حيثُ أصابهم القحط سبع سنين حتى أكلوا الصوف)، ﴿ وَالْخَوْفِ ﴾ أي وأذاقهم اللهُ الخوفَ من جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك ﴿ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾: أي بسبب كُفرهم وصَنيعهم الباطل. ﴿ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ ﴾ وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يَعرفون نَسَبَه وصِدقه وأمانته وأخلاقه ﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾ ولم يَقبلوا ما جاءهم به ﴿ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ﴾ من الشدائد والجوع والخوف، وقَتْل عظمائهم في "بدر" ﴿ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ لأنفسهم بشِركهم باللهِ تعالى، وصَدِّهم عن سبيله. ♦ ولَعَلَّ اللهَ تعالى عَبَّرَ عن الجوع والخوف باللباس، للإشارة إلى شدة ما أصابهم، فكأنه قد أحاطَ بهم كما تُحيطُ المَلابس بالجسد، واللهُ أعلم. • الآية 114، والآية 115: ﴿ فَكُلُوا ﴾ - أيها المؤمنون - ﴿ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ وجَعَله لكم ﴿ حَلَالًا طَيِّبًا ﴾ ﴿ وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ﴾ عليكم بالاعتراف بها، وباستخدامها في طاعته سبحانه، ولا تكونوا كالذين كفروا بنعمته (كما في المثال السابق) حتى لا يُصيبكم ما أصابهم، هذا ﴿ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾: يعني إن كنتم حقًّا مُطيعين له، تعبدونه وحده لا شريك له. ♦ إذاً فاشكروا نِعَمه عليكم، وذلك إغاظةً للشيطان الذي قال: ﴿ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾، وأكثِروا مِن قول: (الحمد لله) بألسنتكم وقلوبكم، فقد قال صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم -: (والحمد لله تملأ الميزان)، فهي كلمةٌ يُدفَعُ بها عنا العذاب، كما قال تعالى: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ ﴾. ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ ﴾ سبحانه ﴿ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ﴾ وهو الحيوان الذي تُفارقه الحياة بدون ذبْح شرعي، (ويُستثنَى مِن ذلك مَيْتة الجَراد والسمك، فإنهما حلال، كما ثبتَ ذلك في السُنَّة)، ولَعَلَّ الحكمة من تحريم المَيْتة: هو احتقان الدم في جَوْفها ولَحْمها، مِمَّا يَتسبب في إضرار مَن يأكلُ منها. ﴿وَالدَّمَ﴾: يعني وحَرَّمَ سبحانه عليكم شُرب الدم، ويُستَثنى من الدم: (الكبد والطحال) فإنّ أكْلهما حلال، كما ثبت ذلك في السُنَّة (واعلم أنّ المقصود بالدم المُحَرَّم هنا هو الدم المَسفوح (أي السائل المُراق)، كما ذَكَر تعالى ذلك في آيةٍ أخرى فقال: ﴿ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ﴾، (وأما الدم غير المُراق، وهو الذي يَختلط باللحم أو يكون في المخ والعروق وما شابَه ذلك، فإنه لا شيءَ فيه). ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾: يعني وكذلك حَرّمَ سبحانه عليكم لحم الخنزير، فلا تغتروا بمَن يَستحلونه (افتراءً على الله)، بل هو مُحَرَّم مِن جُملة الخبائث، ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾: يعني وكذلك حَرَّمَ عليكم الذبائح التي ذُبِحتْ لغير الله، وكذلك ما ذُكِرَ عند ذبْحِهِ اسمُ غيرِهِ تعالى، ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾: يعني فمَن ألجأتْهُ الضرورة إلى أكْل شيءٍ من هذه المُحَرَّمات ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾: أي غيرَ طالبٍ للمُحرَّم - لِلذَّةٍ أو غير ذلك، ﴿وَلا عَادٍ﴾: يعني ولا مُتجاوز - في أكْله - ما يَسُدُّ حاجتَه ويَرفع اضطراره ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ له، ﴿رَحِيمٌ﴾ به، حيث رَخَّصَ له في أكْل تلك المُحَرَّمات عند الضرورة حتى لا يموت. • الآية 116، والآية 117: ﴿ وَلَا تَقُولُوا ﴾ - أيها المشركون - ﴿ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ ﴾ أي لا تقولوا الكَذِبَ الذي تَصِفُهُ ألسنتكم، وذلك بأن تقولوا لِمَا حَرَّمه الله: ﴿ هَذَا حَلَالٌ ﴾ (وَ) تقولوا لِمَا أحَلَّه الله: ﴿ هَذَا حَرَامٌ ﴾ ﴿ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ أي ليؤدي بكم هذا القول الكاذب إلى الافتراء على اللهِ تعالى (بنسبة التحليل والتحريم إليه) فتستحقوا العذاب، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾: أي لا يفوزون في الدنيا ولا في الآخرة، فإنما هو ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾ في الدنيا، وسوف يَزولُ عنهم عن قريب، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ في نار جهنم. • الآية 118:﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ ﴾: أي ولقد حَرَّمنا على اليهود ما أخبرناك به - أيها الرسول - ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ أي مِن قبل هذه الآية، وهو كل ذي ظُفُر (يعني كل ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير، كالإبل والنَّعام)، وكذلك حرّمنا عليهم شحوم البقر والغنم (إلا الشحم الذي عَلِقَ بظهورها فإنه حلالٌ لهم، وكذلك الشحم الذي عَلِقَ بأمعائها، والشحم الذي اختلط بعظم الجنب ونحو ذلك، فإنه حلالٌ لهم)، ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ﴾ بتحريم ذلك عليهم، ﴿ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾: أي ولكنهم كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي، فاستحقوا ذلك التحريم عقوبةً لهم. • الآية 119:﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ﴾ أي فعلوا المعاصي بجهلٍ منهم لِسُوء عاقبة هذه الذنوب، (وبجهلهم بقدْر ربهم الذي عصوه)، ولكنْ بشرط: ﴿ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ أي مِن بعد ذلك العمل السيئ، وندموا عليه ﴿ وَأَصْلَحُوا ﴾ نفوسهم وأعمالهم، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا ﴾ أي مِن بعد توبتهم وإصلاحهم ﴿ لَغَفُورٌ ﴾ لهم، ﴿ رَحِيمٌ ﴾ بهم. • من الآية 120 إلى الآية 124:﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ أي كان إمامًا في الخير، وكان ﴿ قَانِتًا لِلَّهِ ﴾ أي طائعا خاضعًا للهِ تعالى، وكان ﴿ حَنِيفًا ﴾: أي لا يَميل عن دينالإسلام، فكانَ عليه السلام مُوَحِّدًا للهِ تعالى ﴿ وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، بل كانَ ﴿ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ ﴾ أي شاكرًا لنعم اللهِ عليه، ولذلك ﴿ اجْتَبَاهُ ﴾ ربه(أي اختاره لرسالته ومَحَبَّته) ﴿ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ أي: وأرشَدَه إلى الطريق المستقيم (وهو الإسلام)، ﴿ وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾: أي وأعطاه اللهُ نعمة حسنة في الدنيا (من الولد الصالح، والثناء عليه من كل أهل الشرائع السماوية واقتداءهم به، وغير ذلك من أمور الدين والدنيا)، ﴿ وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ الذين لهم الدرجات العالية في الجنة، ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ - أيها الرسول - ﴿ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾: أي اتَّبع دينَ الإسلام كما اتَّبعه إبراهيم عليه السلام ، فإنه كانَ ﴿ حَنِيفًا ﴾ أي مائلاً عن أيّ دينٍ باطل ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ (وهذه أعظم صفة لإبراهيم عليه السلام: التوحيد الخالص، ولذلك أعادَ سبحانه ذِكْر هذه الصفة للتأكيد على وجوب اتِّباعها، واللهُ أعلم). ♦ وعندما ادَّعَى اليهود أنهم على دين إبراهيم عليه السلام، أبطلَ اللهُ هذه الدعوى بأنْ ذَكَرَ تعظيمهم ليوم السبت، وتعظيم السبت لم يكن من دين إبراهيم، فقد كان دين إبراهيم سَمْحاً لا تغليظ فيه، وأما السبت فكان تغليظاً على اليهود بترْك الصيد فيه، وذلك بسبب عِصيانهم وتمَرُّدهم، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ ﴾: يعني إنما جَعَلَ اللهُ تعظيم يوم السبت ﴿ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ وهم اليهود الذين اختلفوافيه على نبيّهم، واختاروه بدلاً من يوم الجمعة (الذي أُمِروا بتعظيمه)، ففرض اللهُ عليهم تعظيم السبت، وشَدّدَ عليهم بعدم الصيد فيه (عقوبةً لهم)، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ ﴾ - أيهاالرسول - ﴿ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ أي سوف يَحكم بين المختلفين ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ فيُجازيهم بما يَستحقون بسبب تمَرُّدهم على أنبيائهم. • الآية 125: ﴿ ادْعُ ﴾ الناسَ - أيها الرسول - أنت ومَنِ اتَّبعك ﴿ (إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ﴾: يعني إلى دين ربك وطريقه المستقيم ﴿ بِالْحِكْمَةِ ﴾: أي بالطريقة الحكيمة التي أوحاها اللهُ إليك في الكتاب والسُنّة، وخاطِب الناس بالأسلوب المناسب لهم ﴿ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾: أي وانصحهم نُصحًا حسنًا، يُرَغِّبهم في الخير، ويُنَفِّرهم من الشر. ♦ واعلم أنه من آداب النصيحة أنْ تُقَدِّمها بالأسلوب الطيب الذي تُحِبّ أن يَنصحك به الآخرون (كالابتسامة أثناء النصيحة، والدعاء للمنصوح وأنت تُحَدِّثه، وغير ذلك)، حتى وإن لم يَقبل الناس نصيحتك، فإنك تنصحهم لوجه اللهِ تعالى، وطالما أنها لوجه الله، فلا تغضب لنفسك إذا لم يَقبلوها منك، حتى لا يَضيع أجرك، وكذلك على المنصوح أن يَستمع إلى النصيحة، حتى وانْ لم يُعجبه أسلوب الناصح، لأنه - وإن لم يكن قد تَعَلَّم أسلوب النصيحة الحسنة - فإنه بالتأكيد يَنصحك لمصلحتك، فلا تَرُدُّه، بل احمد اللهَ الذي عَلَّمك الأسلوب الطيب ولم يُعَلِّمه لغيرك، رغم كثرة ذنوبك. ♦ واحذر أن تنصح أحداً أمام الناس، أو أن تنصحه بغضب وشدة (بحُجّة أنك خائفٌ عليه)، فهذا لن يَقبل منك أبداً، وكذلك الحال إذا أردتَ أن تعاتب أحداً، فعليك ألاَّ تعاتبه بشدة وغِلظة حتى لا يَتكبر ويُعانِد، وإنما عليك أن تسأله برفق: (لماذا فعلتَ كذا؟) (هل ترضى أن أفعل ذلك معك؟)، فحينئذٍ سيَعتذر لك ويَعترف بخطئه، فإذا كَسَرَ كِبريائه واعتذر: فاقبل عُذره فوراً. ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾: أي جادِلهم بأحسن طرق المُجادَلة (مِن الرِفق واللين وتَجنُّب الغضب أثناء الجدال)، واعلم أنه ليس عليك إلا البلاغ، وقد بلَّغْتَهم، وأمّا هدايتهم فعلى اللهِ وحده، فـ ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾. • الآية 126: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ﴾: يعني وإن أردتم - أيها المؤمنون - القصاص مِمّن اعتدى عليكم: ﴿ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾، ولا تزيدوا عَمّا فعلوه بكم، ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ ﴾ وتركتم المُعاقَبة: ﴿ لَهُوَ ﴾ أي الصبر ﴿ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ أي خيرٌ لهم من الانتقام، فهو خيرٌ لهم في الدنيا بالنصر، وفي الآخرة بالأجر العظيم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾. •الآية 127:﴿ وَاصْبِرْ ﴾ - أيها الرسول - على ما أصابك مِن الأذى في سبيل اللهِ حتى يأتيك الفرج، ﴿ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ أي استمِدّ الصبر منه سبحانه، وذلك بلزوم طاعته ودعاءه، لأنه هو الذي يُعِينك على الصبر ويُثَبِّتك عليه. ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي: ولا تحزن على مَن خالفك ولم يَستجب لدَعْوتك، ﴿ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ أي: ولا تحزن مِن كيدهم لك، ولا تهتم به، فإنّ ذلك سيعود عليهم بالشر والهلاك. • الآية 128:﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ﴾ بامتثال أوامر ربهم واجتناب نواهيه ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ أي يُحسنون أداء فرائضه والقيام بحقوقه، وكذلك يُحسنون معاملة خلقه، فهو سبحانه معهم بالنصر والتأييد والعون والتوفيق. ♦ واعلم أنّ الإحسانَ قد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مُسلِم -: "أنْ تعبُدَ اللهَ كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراهُ، فإنه يَراك"، فالإحسان يَتناول المعنيين: (التقوى وإتقان العمل) لأنّ مَن راقبَ اللهَ تعالى، أتقَنَ عمله وحَسَّنه. [1] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير. - واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
__________________
|
#113
|
||||
|
||||
رد: سلسلة كيف نفهم القرآن؟ ____ متجدد إن شاء الله
__________________
|
#114
|
||||
|
||||
رد: سلسلة كيف نفهم القرآن؟ ____ متجدد إن شاء الله
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [*] رامي حنفي محمود تفسير الربع الثاني من سورة الإسراء • الآية 23، والآية 24، والآية 25: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ يعني: ولقد أمَرَ ربك - أيها الرسول - ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ فلا تُشرِكوا به أحداً مِن خَلقه في عبادته، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾: أي وكذلك أمَرَكم سبحانه بالإحسان إلى الأب والأم (وذلك بتأدية حقوقهما، وبطاعة أمْرهما - في غير معصية الله - وبالإنفاق عليهما، وإكرام صديقهما، وصلة رَحِمِهما، والدعاء لهما، وطلب رِضاهما)، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 3507)، وخُصوصاً: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾ - أي حال الشيخوخة - إذا بلغ ﴿أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾ سن الكِبَر وهم عندك (أي في بيتك أو في حال وجودك بينهما) ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾: أي فلا تُسمِعهما قولاً سيئًا، حتى ولو كانَ كلمة (أف) (التي هي أقل مراتب القول السيئ)، ولا يَضِق صدرك مِن أيّ شيئٍ تراه منهما في هذا السن، بل يَجب عليك أن تَخدمهما كما كانا يَخدمانك وأنت طفل (حِينما كانا يَغسلان ويُنَظِّفان ولا يَتضايقان أو يَتأففان)، ﴿وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾ أي لا ترفع صوتك عليهما، ولكن ارفق بهما ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ أي قولا لطيفًا لَيِّنًا يُسعِدهما، ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ﴾ يعني كُنْ لأمك وأبيك ذليلاً متواضعًا. • وقوله تعالى: ﴿مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ أي تواضُعاً ناشئاً مِن رحمتك بهما، ﴿وَقُلْ﴾ - داعياً ربك -: ﴿رَبِّ ارْحَمْهُمَا﴾ أحياءً وأمواتًا ﴿كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾: يعني كما صَبَرا على تربيتي وأنا صغير، ضعيف الحول والقوة. ♦ واعلم أنّ الفعل (قَضَى) يأتي بأكثر مِن مَعنى، فهنا قد أتى بمعنى (أمَرَ وَوَصَّى)، وأحياناً يأتي بمعنى: (انتهى)، كقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ ﴾، وأحياناً يأتي بمعنى: (حَكَمَ وقدَّر)، كقوله تعالى: ﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ﴾، وأحياناً يأتي بمعنى: (خَلَقَ)، كقوله تعالى: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ﴾. ♦ واعلم أيضاً أنّ قوله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنّ) مَعناه: إنْ يَبلغ، و(ما) تُسَمّى (ما الزائدة لتقوية الكلام)، والنون في ﴿ يَبْلُغَنّ ﴾ هي نون التوكيد. ♦ ثم أخبَرَ تعالى أنه أعلم بما في نفوس العباد، فمَن كان يَكتم بداخله السخط على والديه والضِيق من خِدمتهما، فإنّ اللهَ يُعاقبه على ذلك، ومَن كان يَكتم حُبّهما واحترامهما ويَتذكر جَميلهما، فإنّ اللهَ يَجزيه بالإحسان، قال تعالى: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ﴾ - سواء كانَ خيراً أو شراً - فـ﴿إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ﴾ يعني إن تنووا بأعمالكم الصالحة: رضا اللهِ عنكم ودخول جنته ﴿فَإِنَّهُ﴾ سبحانه ﴿كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾ :أي كتبَ تعالى على نفسهِ أنه غفورٌ للتائبينَ إليه بصِدق، الراجعينَ إليه في كل وقت، (واعلم أنّ الأوّاب: هو الذي كلما أذنبَ تاب، وكلما ذَكَرَ ذنبه استغفر). ♦ ولعل اللهَ تعالى ذَكَرَ مَغفرته للتائبين بعد أنْ أمَرَ ببِرّ الوالدين، لأنه سبحانه يَعلم انّ الإنسان قد يَضعف مَرّة ويَكتم بداخله الضِيق مِن خدمة والديه (وهما في هذا السن) أو قد يَعلو صوته عليهما مَرّة - وهو في الأصل صالح، مُؤَدٍّ لحقوق اللهِ تعالى وحقوق والديه وحقوق الناس - فهذا العبد الصالح يَغفر اللهُ له متى رَجَعَ إليه مُستغفراً نادماً. • الآية 26: ﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾: يعني وأعطِ الأقرباء حقوقهم من الصلة والبِرّ، وكذلك أعطِ الفقير المُحتاج مِن مالك، وكذلك المسافر الذي فَقَدَ ماله - أو نَفَذ ماله - واحتاجَ للنفقة، ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ أي: ولا تُنفِق مالك في غير ما يُحبه الله، أو على وَجْه الإسراف والتبذير، (وقد ذَكَرَ سبحانه كلمة ﴿ تَبْذِيرًا ﴾ لتأكيد النهي، يعني كأنه قيل: (لا تبذر، لا تبذر)، وذلك لكثرة ما في التبذير من المفاسد). • الآية 27: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ أي هُم أشباه الشياطين في هذا الفعل القبيح (لأنهم بتبذيرهم للمال في المعاصي، كانوا خارجينَ عن أمْر ربهم مِثل الشياطين)، وقد كان العرب يُسَمُّونَ المُواظب على الشيء: أخاً له، فيقولون مَثَلاً: (فلان أخو الكرم)، وغير ذلك، ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ أي كثير الكُفران، شديدَ الجحود لنعمة ربه (فكذلك المُبَذِّر للمال في المعاصي: لم يَشكر نعمة ربه عليه، وضَيَّعَ المال). ♦ واعلم أنّ الفعل (كان) إذا جاء مع صفة معينة، فإنه يدل على أنّ هذه الصفة مُلازِمة لصاحبها، كقوله تعالى - واصفاً نفسه بالرحمة والمغفرة -: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ أي كانَ - أزَلاً وأبَداً - غفوراً رحيماً. • الآية 28: ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ﴾: يعني وإن أعرضتَ عن إعطاء هؤلاء (الذين أمَرَكَ اللهُ بإعطائهم، لعدم وجود ما تعطيهم منه)، فتباعدتَ عن لقائهم حياءً منهم، و﴿ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا﴾: أي انتظاراً لرزقٍ ترجوه مِن اللهِ تعالى ﴿فَقُلْ لَهُمْ﴾ يعني وأنتَ تُعرِض عنهم قل لهم ﴿قَوْلًا مَيْسُورًا﴾: أي قولا ليِّنًا لطيفًا سهلاً (كالدعاء لهم بسعة الرزق، وبأنْ تَعِدهم أنّ اللهَ إذا يَسَّرَ مِن فضله رزقًاً أن تعطيهم منه)، فيكون ذلك أشبه بالعطاء العاجل لهم (فيَفرحوا به ولا يَحزنوا). • الآية 29: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾: أي لا تُمسِك يدك عن الإنفاق في وجوه الخير - مُضَيِّقًا على نفسك وعلى أهلك وعلى المحتاجين - كأنّ يدك مربوطة إلى عنقك (لا تستطيع أن تعطي بها شيئاً)، ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ أي: ولا تنفق كل ما بيدك ﴿فَتَقْعُدَ﴾ أي فتصير ﴿مَلُومًا﴾ يَلومك الناس على ما فعلتَ، ويَلومك مَن حَرَمتهم من الإنفاق، ﴿مَحْسُورًا﴾ أي نادمًا على ضياع مالك. • الآية 30، والآية 31: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ أي يُوَسِّع الرزق على مَن يشاءُ مِن عباده ويُضَيِّقه على مَن يَشاءُ منهم (وذلك بحسب حِكْمته البالغة؛ إذ هو سبحانه الأعلمُ بما يُصلِح عباده مِن الفقر والغنى)، ﴿إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾: أي هوالمُطَّلِع على خَفايا عباده، لا يَغيب عن عِلمه شيءٌ من أحوالهم. ♦ فإذا علمتم أنّ الرزق بيَد اللهِ سبحانه، إذاً: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾: أي لا تقتلوا أولادكم خوفًا من الفقر، فـ ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾: يعني إنّ اللهَ سبحانه هو الرزاق لعباده، فيَرزق الأبناء كما يَرزق الآباء، ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾: يعني إنَّ قَتْلَ الأولاد كانَ ذنباً عظيماً عند اللهِ تعالى. • الآية 32: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ أي ابتعدوا عن أسبابه وعن الطرق المُوصلة إليه حتى لا تقعوا فيه، ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ يعني إنّ الزنا شيئٌ بالغ القبح ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ أي: وبئس الطريق طريقه (لأنه يؤدي بصاحبه إلى النار). • الآية 33: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ﴾ قَتْلها﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾: يعني إلا بالحق الشرعي (كالقِصاص، ورَجْم الزاني المتزوج، وقتل المُرتَدّ)، واعلم أنّ تنفيذ هذا القِصاص يكون عن طريق وَلِيِّ الأمر (وهو حاكِمُ البلد). ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا﴾: يعني ومَن قُتِلَ بغير حقٍّ شرعي: ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ﴾ أي جعلنا لِوَرَثَة المقتول ﴿سُلْطَانًا﴾ أي حُجَّة في أن يَطلبوا من الحاكم قَتْلَ القاتل أو يَطلبوا منه الدِيَة (وهي مائة من الإبل، أو ألف دينار ذهب، أو اثنا عشر ألف درهم فضة) يَدفعها القاتل إلى أهل المقتول، ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾: أي فلا يَصِحّ لِوَلِيّ المقتول أن يَتجاوز حَدَّ اللهِ في القِصاص (كأن يُشَوِّه جُثَّة القاتل، أو أن يَقتل - مقابل الواحد - اثنين أو جماعة، أو أن يَقتل غير القاتل)، ﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾: أي قد وَعَدَ اللهُ وليّ المقتول أن يُعِينه على القاتل حتى يَتمكن مِن قَتْله (بالقِصاص عن طريق الحاكم) أو بأخْذ الدِيَة. • الآية 34: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ - الذي صارَ في أمانتكم وكَفالتكم - ﴿إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾: يعني إلا بما يُصلِح أمواله لِيَنتفِع بها (وذلك باستثمارها له) والإنفاق عليه منها ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾: أي حتى يصل إلى سنَّ البلوغ وحُسن التصرف في المال، فعندئذٍ أعطوه ماله، ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ﴾: يعني وأوفوا بكل عهدٍ عاهدتم اللهَ عليه أو عاهدتم عليه العباد ﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ أي مسئولاً عنه، بمعنى أنّ الله سيَسأل صاحب العهد يوم القيامة: (لماذا نقضتَ عهدك؟)، ثم يُثِيبه إذا أتَمَّهُ ووَفَّاه، ويعاقبه إذا غَدَرَ وخان. • الآية 35: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ﴾ أي لا تُنقِصوا الكيلَ ﴿إِذَا كِلْتُمْ﴾ للناس، ولو كانَ شيئاً يسيراً (ما دامَ في الإمكان عدم نَقصه)، أما ما يَصعب الاحتراس منه: فهو مَعفو عنه، لقوله تعالى: ﴿ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾، ﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾: أي زِنوا بالميزان العادل، ﴿ذَلِكَ﴾ أي العدل في الكيل والوزن، هو ﴿خَيْرٌ﴾ لكم في الدنيا (إذ يُبارك اللهُ في ذلك المال الحلال بأنواعٍ من البركات لا يَعلمها إلا هو سبحانه)، ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ أي: وذلك أحسنُ عاقبةً في الآخرة، (فإنّ مَن تَرَكَ المعصية وهو قادرٌ على فِعلها: أثابهُ اللهُ تعالى بأحسن الثواب في الجنة). • الآية 36: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي لا تَتَّبِع الظن في أمورك - وهذا كقوله تعالى: ﴿ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾ - فلا تَحكم على شيءٍ بمجرد الظن، ولا تَشهد إلا بما رأيته بعينك وسَمِعْته بأذنك وفهِمْته بقلبك، فـ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾: يعني إنّ الإنسان مسؤولٌ عما استعمَل فيه سَمْعه وبصره وقلبه، فإذا استعمَلهم في الخير نالَ الثواب، وإذا استعملهم في الشر نالَ العقاب. ♦ واعلم أنّ مِن الأعمال القلبية التي يُعاقب اللهُ عليها: (سُوء الظن بغير دليل، ومَيْل القلب إلى الحُكم بالهوى (أي مِن غير بيِّنة)، وكِتمان الشهادة، وتَبْييت الشر للمسلمين، والفرح بما يَحدث لهم مِن مكروهٍ أو خِصام، والغل، والحسد، والإعجاب والغرور بالعمل الصالح، والرياء، والكِبر، والنية السيئة التي يَترتب عليها العمل الفاسد). ♦ واعلم أيضاً أنّ هذا النهي: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ قد وَضَعَ حَدّاً لكثير مِن المَفاسد التي تقع بسبب القول بدون عِلم (كالكَذب، وشهادة الزور، واتّهام الناس بالفاحشة لمجرد الظن، وغير ذلك)، فللهِ الحمدُ على تشريعه الحكيم. • الآية 37: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ أي مُختالاً مُتكبراً، فـ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ﴾ بالمشي عليها (لأنّ المُتكبر يَضرب الأرض برجليه اعتزازاً واهتزازاً)، ﴿وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ مَهما تعاليتَ وتطاولتَ على الناس، إذاً فلماذا التكبر عليهم وأنت بَشَرٌ مثلهم؟!، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم -: (لا يَدخل الجنة مَن كانَ في قلبه مِثقال ذرةٍ مِن كِبْر)، فقال رجل: (إنّ الرجل يُحب أن يكون ثوبه حَسَناً ونَعْله حسناً)، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنّ اللهَ تعالى جميلٌ يُحب الجمال، الكِبْر: بَطَر الحق - (أي التكبر على الحق وعدم قبوله) - وغَمْط الناس - أي: احتقارهم). • الآية 38: ﴿كُلُّ ذَلِكَ﴾ أي جميع ما تقدَّم ذِكْرُه مِن أوامر ونَوَاهٍ: ﴿كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ (واعلم أنّ المقصود بكلمة ﴿ سَيِّئُهُ ﴾ أي الأفعال القبيحة التي ذُكِرَتْ في الآيات السابقة (كالتبذير، والبُخل، وقتْل الأولاد، والزنا، وقتْل النفس، وأكْل مال اليتيم، ونقص الكيل والميزان، والقول بلا عِلم، والتكبر)، فكل هذه الأشياء مَكروهة عند اللهِ تعالى، ويُعاقب عليها في نار جهنم). ♦ وأمّا ما كانَ حَسَناً في الآيات السابقة (كعبادة اللهِ تعالى وحده، وبِرّ الوالدين، والإحسان إلى الأقرباء والمساكين وابن السبيل، والوعد الحَسَن بإعطائهم متى تيَسَّر)، فكل هذه الأشياء يُحبُّها اللهُ ويَرضاها، ويُعطي ثوابها في جنات النعيم. • الآية 39: ﴿ذَلِكَ﴾ أي الأمر بمَحاسن الأعمال، والنهي عن سَيّئ الأخلاق، هو ﴿مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾ يعني: هو مِن الحِكَم التي وَصَّى اللهُ بها عباده ليَهتدوا بها، ويَسعَدوا في الدنيا والآخرة، ﴿وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ﴾ (هذه هي أُمّ الحِكَم، حيثُ بدأ بها سبحانه الآيات السابقة عندما قال: ﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ﴾، ثم خَتَمَها بها تأكيداً للتوحيد)، إذاً فلا تُشرك أيها الإنسان بعبادة ربك شيئاً ﴿فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا﴾ أي تَلومك نفسك على شِرْكك بربك، وتَصيرُ ﴿مَدْحُورًا﴾ أي مَطرودًا مُبعدًا من الجنة. • الآية 40: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ﴾: يعني أفخَصَّكم ربكم أيها المشركون بإعطائكم البنين ﴿وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا﴾: أي واتّخذ سبحانه الملائكة بناتٍ لنفسه؟! (والاستفهام غرضه التوبيخ والإنكار على الكفار الذين قالوا: الملائكة بنات الله) ﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا﴾: يعني إنّ قولكم هذا بالغ القُبح والبَشاعة، إذ تَكرهون لأنفسكم البنات وتَنسبونها كَذِباً وافتراءً للهِ تعالى. • الآية 41: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ﴾ أي وَضّحنا فيه الأحكام والحُجج، ونَوَّعْنا فيه المَواعظ والأمثال والوعد والوعيد ﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾ أي ليَتّعظ الناس ويَتدبروا (فيَأخذوا ما يَنفعهم، ويَتركوا ما يَضُرّهم)، ﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ أي: ولكنّ هذا البَيان والتوضيح لا يَزيدُ الظالمين إلا تَباعُدًا عن الحق، وغفلةً عن التأمل والاعتبار (وذلك لِعِنادهم وتقليدهم الأعمى بغير دليل). • الآية 42، والآية 43، والآية 44: ﴿قُلْ﴾ - أيها الرسول - لهؤلاء المُشركين: ﴿لَوْ كَانَ مَعَهُ﴾ سبحانه ﴿آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ﴾ - افتراءً وكذباً على اللهِ تعالى -: ﴿إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا﴾: أي لَطَلبَتْ تلك الآلهة طريقًا إلى مُغالَبة اللهِ ذي العرش العظيم ليُزِيلوا مُلْكَه (كما يَفعل ملوك الدنيا)، ثم بَرَّأَ تعالى نفسه مِن أن يكون معه آلهة فقال: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾، (واعلم أنّ بعض المُفسرين قد قالوا في قوله تعالى: ﴿ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ﴾ أي لَطَلَبوا طريقاً إلى اللهِ تعالى ليَلتمسوا رضاه، ويَطلبوا التقرب إليه، وذلك لجَلاله وكَماله، وغِناه عنهم وحاجتهم إليه، واللهُ أعلم). ♦ وهو سبحانه ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ - مِن الملائكة والجنّ والإنس - ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ﴾: أي: وما مِن شيءٍ مِن سائر المخلوقات ﴿إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ أي يُسَبِّحُ اللهَ تعالى تسبيحاً مَقرونًا بالثناء والحمد ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾: أي ولكنكم أيها الناس لا تفهمونَ تسبيحهم. ♦ واعلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تَستقل الشمس - أي ما ترتفع الشمس في يومٍ ما - فيَبقى شيءٌ مِن خَلق اللهِ إلا سَبَّحَ اللهَ بحمده، إلا ما كانَ مِن الشياطين وأغبياء بني آدم) (أي قَليلِي الفِطنة، فهؤلاء لا يُسَبّحونَ ربهم) (انظر حديث رقم: 5599 في صحيح الجامع)، (واعلم أنّ أتْباع إبليس - وإن لم يُسَبّحوا اللهَ بلسانهم - فإنهم يُسَبّحونه بحالهم (إذ يَشهدون بفِطرتهم أنّ اللهَ سبحانه هو الخالق القادر)، ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه ﴿كَانَ حَلِيمًا﴾ بعباده، فلا يُعاجل مَن عَصاهُ بالعقوبة، ﴿غَفُورًا﴾ لمَن تابَ إليه منهم (إذ لو لم يَكن سبحانه حَليماً: لَعَجَّلَ عقوبة مُشركي مكة، ولكنه أَمْهَلهم حتى تابَ أكثرهم). [1] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير. • واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
__________________
|
#115
|
||||
|
||||
رد: سلسلة كيف نفهم القرآن؟ ____ متجدد إن شاء الله
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [*] رامي حنفي محمود تفسير الربع الثالث من سورة الإسراء • الآية 45، والآية 46: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ ﴾ يا محمد، فسَمِعَه هؤلاء المشركون: ﴿ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا ﴾ أي حاجزًا يَحجُب عقولهم عن فَهْم القرآن (عقابًا لهم على كُفرهم واستهزائهم)، وقد جعل اللهُ هذا الحجابَ ﴿ مَسْتُورًا ﴾ أي لا يُرَى، ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ﴾ يعني أغطيةً ﴿ أَنْ يَفْقَهُوهُ ﴾: أي حتى لا يَفهموا القرآن، ﴿ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾: أي وجعلنا في آذانهم ما يُشبه الصَّمَم، حتى لا يَسمعوا القرآن سماعَ تدبُّر وانتفاع، (وهذا كله عقوبةٌ لهم مِن اللهِ تعالى، بسبب إيذائهم للرسول صلى الله عليه وسلم وكَراهيتهم لِمَا جاءَ به من الحق). ﴿ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ ﴾ يعني إذا ذَكَرْته سبحانه - داعيًا إلى توحيده، ناهيًا عن الشِرك به -: ﴿ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴾: أي يَجْرونَ نافرينَ مِن قولك، مُستكبرينَ أنْ يُوَحِّدوا اللهَ في عبادته (بسبب تَعلُّق قلوبهم بالشِرك). • الآية 47، والآية 48: ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ ﴾: أي نحن أعلم بالغرض الحقيقي الذي بسببه يَستمع رؤساء قريش لقراءتك (وهو السُخرية منك ومِمّا تَتلوه) ﴿ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ ومَقاصدهم سيئة (فليس استماعهم لأجل الاسترشاد وطلب الوصول إلى الحق)، ﴿ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ﴾: أي وكذلك نَعلم ما يَقولونه سِرًّا فيما بينهم ﴿ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ﴾ أي يقول السادة لِمَتبُوعيهم: (ما تَتَّبعونَ إلا رَجُلًا قد أصابه السِحر فأصبح مَخدوعًا به، فلا تتأثروا بكلامه ولا تلتفتوا إليه). ﴿ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ﴾: أي تأمَّل أيها الرسول، وتعجَّب مِن قولهم عنك بأنك ساحر شاعر مجنون!! وذلك حتى يُلقوا الشُكوك حولك، باحثينَ بذلك عن طريقٍ يُخَلِّصهم مِن دعوة التوحيد، ولكنهم لم يستطيعوا، ولذلك قال تعالى: ﴿ فَضَلُّوا ﴾ أي ضَلُّوا عن طريق الحق والصواب بسبب هذه الأقوال الكاذبة ﴿ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ﴾ أي فلا يَجدونَ طريقًا يَرجعونَ به إلى الحق الذي تَرَكوه، أو يَتمكنوا به مِن صَرْف الناس عن دَعْوَتك (والذي أَوْقعهم في ذلك تَكَبُّرهم وعِنادهم). • من الآية 49 إلى الآية 52:﴿ وَقَالُوا ﴾ أي وقال المُشركونَ المُنكِرونَ للبعث: ﴿ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا ﴾ مُتَحللة ﴿ وَرُفَاتًا ﴾ أي ترابًا وأجزاءً مُفتتة: ﴿ أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ بعد ذلك ﴿ خَلْقًا جَدِيدًا ﴾ بعد الموت؟، ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول - على سبيل التعجيز -: ﴿ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ﴾ أي كونوا كالحجارة في شِدَّتها، أو كالحديد في قوَّته، فإنّ اللهَ سيُعيدكم كما بدأكم، وذلك يسيرٌ عليه سبحانه، ﴿ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾: يعني أو كونوا خلقًا تَستعظمه نفوسكم، وتَستبعده عقولكم أن يُبعَث مَرّة أخرى (كالسموات والأرض والجبال)، فإنّ اللهَ تعالى قادرٌ على إعادتكم وبَعْثكم، ﴿ فَسَيَقُولُونَ ﴾ - مُنكِرين -: ﴿ مَنْ يُعِيدُنَا ﴾: يعني مَن يَرُدُّنا إلى الحياة بعد الموت؟ ﴿ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾: أي يُعيدكم اللهُ الذي أنشأكم مِن العدم أول مَرّة. ♦ فإذا سَمِعوا هذا الرد، وقامت عليهم الحُجّة: ﴿ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ﴾: أي فسوف يَهُزُّون رؤوسهم ساخرينَ ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ - مُستبعِدين -: ﴿ مَتَى هُوَ ﴾ يعني متى يقع هذا البعث؟ ﴿ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ﴾ أي هو قريب؛ فإنّ كل آتٍ قريب، ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ﴾ سبحانه للخروج من قبوركم ﴿ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ﴾: أي فتستجيبونَ له مُنقادينَ لأمْره، قائلينَ: (سبحانك اللهم وبحمدك)، كما قال سعيد بن جبير رحمه الله: (يَخرج الكفار مِن قبورهم وهم يقولون: سبحانك وبحمدك) ﴿ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ﴾: أي وتظنون - لهَول يوم القيامة وطُوله - أنكم ما أقمتم في الدنيا (وأنتم أحياء)، ولا في قبوركم (وأنتم أموات) إلا زمنًا قليلًا. ♦ فكأنهم قد نَسوا في تلك اللحظة كل ما مَرّ بهم في الدنيا، وكُلّ ما مَرَّ بهم في القبر، وذلك لِمَا شاهَدوه من أهوال القيامة، ولطُول وقوفهم في حر الشمس، ولتغطية العَرَق لجميع جسدهم، وبسبب رؤيتهم لجهنم التي سيُعَذَّبونَ فيها (والإنسانُ إذا اشتدّ خَوْفه: نَسِيَ كل ما مَرَّ به مِن نعيمٍ أو عذاب، خاصةً إذا قارنَ ذلك بعذاب الآخرة الأبدي). • الآية 53:﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي ﴾ المؤمنين ﴿ يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾: أي يقولوا الكلمة التي هي أحسن مِن غيرها (وذلك أثناء حديثهم مع الناس)؛ فإنهم إنْ لم يَفعلوا ذلك، فـ ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾: يعني فإنّ الشيطان يُلقى بينهم العداوة والإفساد ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ أي عداوته ظاهرة للإنسان. ♦ والمقصود أن يَتفكَّروا في كلامهم قبل أن يقولوه للناس، وذلك حتى لا يُؤذوهم به، ولأنّ ذلك سوف يؤدي إلى دخول الشيطان في صَدر مَن تأذَّى بكلامهم، فيَنشأ عنده الغِلّ والغضب والكَراهية لهم. •الآية 54، والآية 55: ﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ﴾ يعني هو سبحانه أعلم بمَن يَستحق الرحمة منكم، ومَن يَستحق العذاب، فـ ﴿ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ﴾ بفَضله، ﴿ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ﴾ بعَدله، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ﴾ أي: وما أرسلناك - أيها الرسول - عليهم وكيلًا تُجبِرُهم على الإيمان أو تُجازيهم على أفعالهم، وإنما عليك فقط: (تبليغ ما أُرْسلتَ به، وبيان الطريق المستقيم)، ﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾فهو سبحانه أعلم بمَن يَستحق الهِداية ومَن يَستحق الضلال، فلذلك فَوِّض أمْرَ الهِداية إليه. ﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ﴾ (هذه الجُملة لبَيان أنّ اللهَ تعالى أعلم بخَلقه، وأنه سبحانه يُعطي كل عبد ما يَستحقه، حتى إنه فضَّلَ بعض أنبيائه على بعض، في الخصائص والفضائل والكتب وغير ذلك) ﴿ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾: أي وأعطينا داود كتابًا اسمه الزَبور، وهو كتابٌ لم يُذكَر فيه الحلال والحرام والفرائض والحدود (لعدم الحاجة إلى ذلك لوجود التوراة بين اليهود)، وإنما هو كتابُ دعاءٍ وأذكار ومَواعظ (وهذا نوع من أنواع التفضيل). • الآية 56:﴿ قُلِ ﴾ - أيها الرسول - لمُشرِكي قومك: ﴿ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ﴾: أي ادعوا مَن تعبدونهم من دون اللهِ إذا مَسَّكم الضرِّ: ﴿ فَلَا يَمْلِكُونَ ﴾: أي فإنهم لا يستطيعونَ ﴿ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ﴾ أي إزالته عنكم (بشفاء المريض مَثَلًا) ﴿ وَلَا تَحْوِيلًا ﴾ أي ولا يَقدرون على تحويل هذا الضر مِن حالٍ إلى حال، أو مِن شخصٍ إلى شخص (كأن يُحَوِّلوا المرض مَثَلًا مِن الشخص المريض إلى شخصٍ آخر - عدو له - ليَمرض به)، فالقادر على ذلك هو اللهُ وحده. ♦ واعلم أنّ هذه الآية عامة في كل ما يُدْعَى مِن دون اللهِ تعالى - من الأنبياء والصالحين وغيرهم - مِمّن يَتقرب الناس إليهم، أو يُنادونهم بلفظ الاستغاثة أو الدعاء (إذ لا يَكشف الضر إلا الله). ♦ وهنا يَنبغي أن نَعرف معنى كلمة: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها كنز من كنوز الجنة، وذلك حتى نقولها بخشوعٍ للهِ تعالى - ونحن نَستشعر معناها - فتكون أدعَى للقبول عند الله. - فأمّا معنى (لا حَول): أي لا تَحوُّل عن مَعصية اللهِ إلى طاعته إلاّ بإعانته سبحانه، وأمّا معنى (لا قوة) أي لا قوة على أداء الطاعة - كما يُحب ربنا ويَرضى ويَقبل - إلا بإعانته سبحانه، (وبالجُملة فإنه لا تحوُّل عن شيئٍ إلا بالله، ولا قوة على شيئٍ إلا بالله، واللهُ أعلم). • الآية 57:﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ﴾: يعني أولئك الذين يُناديهم المشركون - مِن الصالحين وغيرهم - هم أنفسهم ﴿ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾: أي يَطلبون القُربَ من ربهم بالطاعات وأنواع القُرُبات، ويَتنافسون في الحصول على رضاه عنهم بما يَقدرون عليه، ﴿ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ﴾ سبحانه ﴿ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾. ♦ واعلم أنّ سبب نزول قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُون يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ﴾ - كما ثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه - أنّ أُناسًا من العرب كانوا يَعبدونَ بعض الجنّ، فأَسْلَمَ الجِنيّون، ولم يَشعر الذين يَعبدونهم بإسلامهم، فبَقوا يَعبدونهم. ♦ وفي الآية بيان حقيقة عقلية وهي أنّ دعاء الأولياء والاستغاثة بهم والتقرب إليهم: هو أمْرٌ باطل، لأنّ الأولياء كانوا قبل مَوتهم يَطلبون القُرب مِن ربهم بأنواع الطاعات والقُرُبات، ومَن كان يَعبُد لا يُعبَد، ومَن كان يَتَقرّب لا يُتقَرَّب إليه، ومَن كان يَتَوَسَّل لا يُتَوسَّل به، بل يُعبَد الذي كانَ يَعْبُدُه الأولياء، ويُتَقرَّب إلى الذي كانوا يَتَقرَّبونَ إليه، وهو اللهُ سبحانه وتعالى. ♦ واعلم أنّ هذه الآية قد جمعتْ بين الخوف والرجاء، وهُما كَجِناحَي الطائر، إذا انكسر أحدهما: لم يَطِر الآخر، ولذلك لابد للمؤمن منهما، فالخوف يَدفعه إلى أداء الفرائض واجتناب المُحَرَّمات، والرجاء يَدفعه إلى المسابقة في الخيرات، وبذلك تتم ولايته لربه ويأمَن عاقبة أمْره (وأمّا رأس الطائر - كما يقول العلماء - فهو حُبّ اللهِ تعالى). ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾: يعني إنّ عذابَ ربك هو الذي يَجب أن يَحذره العباد - بتَرك المعاصي - لأنّ عذابه تعالى لا يُطاق ولا يُحتمَل. • الآية 58:﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ ﴾: يعني وما مِن قريةٍ ظالمة مُكَذِّبة للرُسُل ﴿ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ ﴿ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ ببلاءٍ شديدٍ يُصِيبُ أهلها الكفار، ﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾: يعني وهذا قضاءٌ كَتَبَهُ اللهُ في اللوح المحفوظ، ولابد مِن وقوعه. • الآية 59:﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ ﴾: يعني وما مَنَعَنا مِن إنزال المُعجزات التي طلبها كفار مكة ﴿ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ﴾ يعني إلا تكذيب مَن سَبَقهم من الأمم (فقد أجابهم اللهُ إلى ما طلبوا، فكَذَّبوا، فأهلكهم الله)، فلو أعطى اللهُ كفارَ قريش تلك المعجزات التي طلبوها، ثم كَذَّبوا بها لأََهلكهم، وهو سبحانه لا يريد إهلاكهم، بل يريد هدايتهم، ليَهتدي على أيديهم خلقًا كثيرًا من العرب وغيرهم، ﴿ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ﴾: أي ولقد أعطينا ثمود - وهم قوم صالح - مُعجزةً واضحة (وهي الناقة) ﴿ فَظَلَمُوا بِهَا ﴾ أي كَذَّبوا بها وذبحوها، فظلموا بذلك أنفسهم (واعلم أنّ ظُلم النفس هو تعريضها لعذاب اللهِ تعالى)، ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾: يعني وما نُرسِلُ الرُسُل بالمعجزات إلا لنُخَوِّف العباد مِن التكذيب بها حتى يؤمنوا ويطيعوا. • الآية 60: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ ﴾ أي اذكر - أيها الرسول - حين قلنا لك: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ﴾ أي إنه سبحانه مُحيطٌ بعباده، قادرٌ عليهم، وهم تحت قهره وسلطانه، فلا تَخَف منهم أحدًا، فإنّ اللهَ سيَنصرك على مَن استمر منهم في الظلم والعناد، ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ ﴾: يعني وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها بعَينك - من عجائب المخلوقات - ليلة الإسراء والمعراج ﴿ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ﴾ أي اختبارًا لهم، ليَتميز الكافر مِن المُؤمن، (واعلم أنّ لفظ الرؤيا يُطلق على الرؤيا في المنام، وكذلك يُطلق على رؤية العين، وقد قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما - كما في صحيح البخاري -: (هي رؤيا عين - أي: رؤيا حقيقية بالعين - أُرِيَها النبي صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسْرِيَ به إلى بيت المقدس). ﴿ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ ﴾ أي: وكذلك شجرة الزقوم الملعونة، التي ذُكِرَتْ ﴿ فِي الْقُرْآَنِ ﴾ جعلناها فتنةً لأهل مكة، إذ أخبر تعالى أنها شجرةٌ تخرج في أصل الجحيم، فقالوا: (كيف يَصِحّ وجود نخلة في وسط النار، والنار لا تحرقها)؟، (وقد قيل إنها (ملعونة) لأنّ العرب كانوا يقولون في كل طعامٍ مَكروه: (إنه ملعون)، ويُحتمَل أن يكون المقصود باللعن هنا: (لَعْن آكِلها)، أي: الشجرةُ الملعون آكلها، واللهُ أعلم)، ﴿ وَنُخَوِّفُهُمْ ﴾ بهذه الشجرة، وأنها تغلي في البطون كغَلي الحميم (وهو الماء الساخن)، وكذلك نُخَوِّفهم بمختلف أنواع العذاب ﴿ فَمَا يَزِيدُهُمْ ﴾ ذلك التخويف ﴿ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ أي لا يَزيدهم إلا استمرارًا في الكفر والتكبر عن قبول الحق. • الآية 61، والآية 62: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ ﴾ أي اذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين - الذين أطاعوا عدوهم وعدو أبيهم، وعصوا ربهم مِن أجْله - اذكر لهم حين قلنا للملائكة: ﴿ اسْجُدُوا لِآَدَمَ ﴾ (سجود تحيةٍ وتكريم، وليس سجود عبادةٍ وخضوع)، ﴿ فَسَجَدُوا ﴾ جميعًا ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ الذي كان يَعبد اللهَ معهم،فإنه ﴿ قَالَ ﴾ للهِ تعالى - مُظهِرًا كِبْره وحسده -: ﴿ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ﴾ يعني أأسجد لهذا الضعيف، المخلوق من الطين؟، و ﴿ قَالَ ﴾ إبليس للهِ تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ﴾: يعني أرأيتَ هذا المخلوق الذي فضَّلتَهُ عليَّ بالأمر بالسجود له: ﴿ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ ﴾ يعني لئن أبقيتَني حيًا ﴿ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ﴾ يعني لأستولينَّ على ذريته، فأقودهم إلى الضَلال والإفساد، (كالدابّة التي يقودها راكبها وهو يضع اللجام في حَنَكها، أي في فمها) ﴿ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ منهم، وهم الذين أخلصوا عبادتهم لك (كما جاء ذلك في آيةٍ أخرى)، (واعلم أنّ قول إبليس: (إلا قليلًا) كانَ ظنًّا منه فقط، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾. • الآية 63، والآية 64، والآية 65: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى مُهَدِّدًا إبليس وأتْباعه: ﴿ اذْهَبْ ﴾ مَطرودًا من الجنة، مُمهَلًا إلى وقت النفخة الأولى، ﴿ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ ﴾ أي فمَن أطاعك مِن ذرية آدم: ﴿ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ﴾: يعني فإنّ عقابكم سيكون وافرًا كاملًا في نار جهنم، ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ ﴾: أي اخدع كل مَن تستطيع خداعه منهم ﴿ بِصَوْتِكَ ﴾ أي بدعوتك لهم إلى المعاصي، ﴿ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ﴾: أي اجمع عليهم مَن استطعتَ مِن جنودك (مِن كل راكبٍ وماشي) لإضلالهم، (واعلم أنّ الإجلاب هو الصياح بصوت مسموع للتحريض على فِعل شيئ)، ﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ ﴾: أي كُن شريكًا لهم في أموالهم (بتزيين الكسب الحرام لهم)، وشريكًا لهم في أولادهم (بتزيين الزنا لهم)، ﴿ وَعِدْهُمْ ﴾ بالوعود الكاذبة (بأنهم لن يُعذَّبوا، أو بأنه سيُغفَر لهم، حتى وإن استمروا على المعاصي ولم يتوبوا) ﴿ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ أي خِداعًا لا صِحَّة له، ولا دليلَ عليه. ♦ وقال تعالى له: ﴿ إِنَّ عِبَادِي ﴾ أي المُخلَصين، الذين أطاعوني واعتصموا بي منك ﴿ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ أي ليس لك قدرةٌ على إضلالهم، وليس لك قوة تتسلط بها على قلوبهم ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾: أي كفى بربك حافظًا للمؤمنين مِن كَيدك وإضلالك. • الآية 66: ﴿ رَبُّكُمُ ﴾ - أيها الناس - هو ﴿ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ﴾: أي يُسَيِّر لكم السفن في البحر بواسطة الرياح ﴿ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ﴾ أي لتطلبوا رِزقَ اللهِ في أسفاركم وتجاراتكم، ﴿ إِنَّهُ ﴾ سبحانه ﴿ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ أي كتبَ على نفسهِ أنه رحيمٌ بكم (ومِن رحمته بكم أنْ سَخَّرَ لكم البحر ليَحمل السفن رغم ثِقَلها). • الآية 67: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ﴾: يعني إذا أصابتكم شِدَّةٌ في البحر، حتى أشرفتم على الغرق والهلاك، فحينئذٍ: ﴿ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ﴾: أي غابَ عن عقولكم كل مَن تعبدونهم مِن دون الله، وتذكَّرتم اللهَ وحده ليُنقذكم، فأخلصتم له الدعاء والاستغاثة، ﴿ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ ﴾ سبحانه ﴿ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ﴾ عن الإيمان والعمل الصالح، وهذا مِن جَهْل الإنسان وكُفْره ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ أي جَحودًا لنعم اللهِ تعالى، مُعرِضًا عن شُكره (إلا مَن عَصَمَه اللهُ تعالى، وعَلَّمَه أن الذي يُنَجِّي من الشدائد والأهوال، هو الذي يَستحق أن تُخلَص له سائر الأعمال، في الشدة والرخاء). • الآية 68، والآية 69:﴿ أَفَأَمِنْتُمْ ﴾: يعني هل أَمِنتم - أيها الناس - إنْ كَفرتم بربكم وعَصيتموه ﴿ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ﴾: أي يَخسف بكم الأرض كما فعل بقارون ﴿ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ﴾: يعني أو يُمْطركم بحجارةٍ من السماء فتقتلكم ﴿ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ﴾ أي: ثم لا تجدوا أحدًا يَحفظكم مِن عذابه؟ ﴿ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى ﴾: يعني أم أمِنتم أن يُعيدكم في البحر مَرَّةً أخرى؟ ﴿ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ ﴾ أي يُرسل عليكم ريحًا شديدة تُكَسِّر كل ما جاءت عليه ﴿ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ﴾ أي بسبب كُفركم ﴿ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ﴾ أي: ثم لا تجدوا لكم أحدًا ينصركم علينا، أو يُطالبنا بحقٍ لكم علينا بسبب إغراقنا لكم، فإنّ الله لم يَظلمكم مِثقالَ ذرة. [1] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير. - واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحديًا لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحيانًا نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
__________________
|
#116
|
||||
|
||||
رد: سلسلة كيف نفهم القرآن؟ ____ متجدد إن شاء الله
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [*] رامي حنفي محمود تفسير الربع الرابع من سورة الإسراء • الآية 70: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ ﴾ بالعقل والعِلم والنُطق واعتدال الخلق، وسَخَّرنا لهم جميع ما في الكون ﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾: أي وسَخَّرنا لهم الدَوَابَّ (في البر) والسفن (في البحر) لتحملهم، ﴿ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ أي مِن طيبات المَطاعم والمَشارب (وفي هذا دليل على إبطال الزُهد في لذيد الطعام - كالعسل واللحوم والفواكه -، والاكتفاء بالخبز بالملح ونَحْوه (مع توفر طيِّب الطعام والشراب)، فهذا مُخالِفٌ لمَنهج السَلَف)، ﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ أي تفضيلاً كبيراً، (فالآدميون أفضل من الجن والحيوانات، والصالحون المُتَّقون - مِن بني آدم - أفضل من الملائكة). ♦ أفلا يقوم بنو آدم بشُكر ربهم على ذلك التفضيل بتوحيده وطاعته، وألاَّ يَنشغلوا بهذه النعم عن عبادة المُنعِم سبحانه، وألاَّ يَستعينوا بها على مَعاصيه! • الآية 71، والآية 72: ﴿ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾: أي اذكر - أيها الرسول - يوم القيامة، يوم يَدعو اللهُ كل جماعة من الناس مع إمامهم الذي كانوا يَقتدون به (في الخير أو الشر)، فيَتقدم ذلك الإمام ووراءه أتْباعه وتُوَزَّع الكتب عليهم واحداً واحداً، ﴿ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾: أي فمَن كان منهم صالحًا، وأُعطِيَ كتاب أعماله بيمينه: ﴿ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ ﴾ فَرِحين مُستبشِرين ﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾: أي ولا يُنْقَصونَ مِن ثواب أعمالهم الصالحة شيئًا (ولو كان مقدارَ الخيط الذي يكون في شَقِّ نواة التمرة). ♦ وأما الذين يأخذون كتابهم بشمالهم فقال سبحانه عنهم: ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ ﴾ الدنيا ﴿ أَعْمَى ﴾ يعني أعمى القلب عن آيات اللهِ تعالى، فلم يؤمن بها رغم وضوحها: ﴿ فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى ﴾ عن سلوك طريق الجنة، ﴿ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ مِن ضلال الدنيا (لأنّ ضَلال الآخرة ليس له مَخرج). • من الآية 73 إلى الآية 77: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ أي: ولقد قارَبَ المشركون أن يَصرفوك - أيها الرسول - عن القرآن الذي أنزلناه إليك ﴿ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ﴾: أي لتقول علينا غير الذي أوحيناه إليك، فتَجيء لهم بما يُوافق أهواءهم، وتترك ما أنزل اللهُ إليك (وذلك حين طلبوا منه أن يَترك تبليغ ما فيهِ سَبٌّ لآلهتهم، وأن يَتصالح معهم ولو مؤقتاً)، وهذا مَكْرٌ منهم وخديعة، إذ لو وافقهم على شيءٍ لَطالَبوه بآخر، ولقالوا: (إنه لا يُوحَى إليه، بدليل قبوله مِنَّا كذا، وتنازُله عن كذا)، ﴿ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ﴾ يعني ولو فعلتَ ما أرادوه: لاتَّخذوكَ حبيبًا خالصًا، ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴾: يعني ولولا أنْ ثبَّتناك على الحق، وعصمناك عن مُوافقتهم، لَقاربْتَ أن تميل إليهم مَيْلاً قليلاً (لِكثرة رغبتك في هدايتهم)، ﴿ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ﴾: يعني ولو رَكَنت إليهم ركونًاً قليلاً، ووافقتَهم على بعض اقتراحاتهم: لأذقناكَ ﴿ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ﴾ أي لَضاعَفنا عليك العذابَ في الدنيا والآخرة (وذلك لِعَظيم نعمة اللهِ عليك وكمال مَعرفتك)، (ويُحتمَل أن يكون المقصود بعذاب الدنيا: تراكم المصائب أثناء مُدّة الحياة)، ﴿ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴾ أي: ثم لا تجد أحدًا ينصرك ويَدفع عنك عذابنا. ♦ وفي هذه الآيات دليلٌ على أنه بحَسَب عِلم العبد ومَكانته: يَتضاعف عقابه (إذا فعل ما يُلامُ عليه)، كما قال تعالى لنساء النبي: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾. ♦ وفي الآيات أيضاً دليلٌ على شدة افتقار العبد إلى تثبيت اللهِ له، وأنه يَنبغي أن يَظل مُتذللاً لربه أن يُثبته على الإيمان، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم - وهو أكمل الخلق -، قال الله ُله: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ ﴾ فكيف بغيره؟ ♦ ولمّا فشلوا في المحاولات السِلمية مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أرادوا استعمال القوة، فقرروا إخراجه من مكة بالموت أو الطرد، فأخبره تعالى بذلك إعلاماً وإنذاراً فقال: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ﴾ أي: ولقد قارَبَ الكفار أن يُخرجوك من "مكة" بإزعاجهم لك، ﴿ وَإِذًا ﴾: يعني ولو أخرجوك منها كَرهاً: ﴿ لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ يعني ما أقاموا فيها خَلفك - أي بعدك - إلا زمنًا قليلاً حتى تَحِلّ بهم العقوبة العاجلة، ولكنَّ اللهَ صَرَفهم عنك حتى خرجتَ أنتَ باختيارك (عِلماً بأنّ اللهَ تعالى قد أوقع بهم يوم بدر، وقَتَلَ زعمائهم، وذلك بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فللهِ الحمد)، ﴿ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا ﴾: أي تلك هي سُنَّة اللهِ تعالى في إهلاك الأُمّة التي تُخرِجُ رسولها مِن بلده، ﴿ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾: يعني ولن تجد - أيها الرسول - لسُنَّتنا تغييرًا ولا تبديلاً، فوَعْدنا ثابتٌ لا يَتخلف. • من الآية 78 إلى الآية 81:﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ (هذا أمْرٌ من اللهِ لرسوله بأداء الصلاة بشروطها وأركانها، في خشوعٍ واطمئنان (فإنها مَأمن الخائفين، ومَنار السالكين، ومِعراج الأرواح إلى ساحة الأفراح)، وكذلك أمَرَهُ سبحانه أن يؤديها ﴿ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ﴾ أي ابتداءً من وقت تَحَرُّك الشمس عن وسط السماء (وهو وقت الظهر) ﴿ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ﴾: يعني إلى وقت اشتداد ظلام الليل (ويدخل في هذا صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء)، ﴿ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ ﴾ (والمقصود بقرآن الفجر هنا: أداء صلاة الفجر والقراءة فيها، لأنّ هذا عطفٌ على مواقيت صلاة الفريضة (من الظهر إلى العشاء))، (وقد يأتي لفظ "الصلاة" ويُراد به القراءة، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ ﴾ أي لا تَجهر بقراءتك في الصلاة)، (واعلم أنّ اللام التي في كلمة (لِدُلُوكِ) تسمى (لام التوقيت)، وهي بمعنى: عِندَ). ﴿ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾: يعني إنّ صلاة الفجر تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار، قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين -: (يَتعاقبون فيكم - أي يَتناوبون فيكم - ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يَعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: (كيف تركتم عبادي؟)، فيقولون: (تركناهم وهم يُصَلًّون، وأتيناهم وهم يُصَلًّون). ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ ﴾ يعني: وقم مِن نومك - أيها النبي - بعض الليل، لتتجهد بالقرآن (والمعنى أن تؤدي صلاة "قيام الليل" وتقرأ القرآن فيها)، حتى تكون صلاة الليل ﴿ نَافِلَةً لَكَ ﴾ أي زيادةً لك في عُلُوّ القدر ورَفع الدرجات. ♦ وبهذا قد جعل اللهُ قيام الليل واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة (زيادةً له في الثواب والتشريف)، ولهذا وَعَدَهُ بعدها أن يَبعثه مَقاماً محموداً، فقال: ﴿ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ أي: وسوف يأتي بك اللهُ شافعًا للناس يوم القيامة؛ ليَرحمهم سبحانه مِمّا يكونون فيه، (واعلم أنّ كلمة (عسى) إذا جاءت من اللهِ تعالى، فإنها تفيد الوجوب وتأكيد الوقوع)، ولِذا فقد بَشَّرَ اللهُ رسوله في هذه الآية بأن يُقِيمه يوم القيامة (مقاماً محموداً) يعني يَحمده عليه الأولون والآخرون (أي يُثنون عليه في ذلك الموقف)، فكما ثَبَتَ في الصحيحين أنّ آدم عليه السلام يَتخلى عن الشفاعة، وكذلك سائر الأنبياء، حتى تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: (أنا لها، أنا لها)، فيستأذن ربه في الشفاعة، فيَأذن اللهُ له، فيَشفع للخلائق في فصل القضاء، حتى يَستريحوا مِن شدة الموقف وطُوله وحَرِّه. ﴿ وَقُلْ ﴾ - أيها الرسولُ في دعائك -: ﴿ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ﴾: أي ربِّ أدخِلني المدينة - دارَ هِجرتي - إدخالاً مَرضياً لا أرى فيه مكروهاً، ﴿ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾ أي: وأخرِجني من مكة إخراجاً يَجعلني لا ألتفت إليها بقلبي شوقاً وحَنيناً (وهذه بشارةٌ من اللهِ تعالى لرسوله بأنه قد أَذِنَ له بالهجرة)، ﴿ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴾: أي اجعل لي مِن عندك حُجّة ثابتة، تنصرني بها على جميع مَن خالفني (وقد استجاب اللهُ دعائه فأيَّده بأعظم حُجّة، حيثُ حَفَظَ القرآن إلى قيام الساعة، وأَوْصَلَ الإسلام إلى جميع الناس، ليكون ذلك شاهداً على نُبُوّته صلى الله عليه وسلم). ﴿ وَقُلْ ﴾ - أيها الرسول -: ﴿ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ﴾: أي جاء الإسلام وذهب الشرك، ﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾: يعني إنّ الباطل لا بقاءَ له ولا ثبات، والحق هو الثابت الباقي الذي لا يزول، (وهذه بشارةٌ أخرى بأنّ اللهَ تعالى سيَفتح له مكة، ويُدخِله فيها منتصراً). • الآية 82: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ﴾: أي ونُنَزِّل من آيات القرآن ما يَشفي القلوبَ مِنَ الأمراض (كالشَكّ والنفاق والجهل)، وما يَشفي الأبدان (برُقْيتها به)، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رسول صلى الله عليه وسلم بَعَثهم - وكانوا ثلاثين راكباً - فنزلوا على قومٍ من العرب، فسألوهم أن يُضَيفوهم، فرفضوا، فلُدِغَ سيِّد الحَيّ (يعني إنّ سيد القوم قد لَدَغَه عقرب)، فجاء رجلٌ إلى الصحابة وقال لهم: (فِيكم مَن يَرقي من العقرب؟)، قالوا: (نعم، لكنْ حتى تُعطونا)، فقال: (إنّا نعطيكم ثلاثين شاة)، فرَقاهُ أحد الصحابة بفاتحة الكتاب، قرأها عليه سبع مرات، فشفاه الله. ﴿ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ يعني إنّ هذا القرآن رحمة للمؤمنين بصفة خاصة، وذلك لأنهم يَعملون به، فيَرحمهم اللهُ تعالى بسببه، ﴿ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾: أي ولكنّ الكفار لا يَزيدهم القرآن إلا هلاكاً، لأنه قد أقام عليهم الحُجّة. • الآية 83، والآية 84:﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ ﴾ بمالٍ وصحةٍ وغير ذلك: ﴿ أَعْرَضَ ﴾ عن الشكر فلم يَشكر، ﴿ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾: أي تباعَدَ عن طاعة ربه، وتكَبَّرَ على الناس، ﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ﴾: يعني وإذا أصابته شِدَّةٌ - مِن فقر أو مرض أو غير ذلك - فإنه يكون شديد اليأس مِن رحمة اللهِ تعالى وفَرَجه، ساخطٌاً على قضائه (إلا مَن عَصَمه اللهُ في حالتَي الرخاء والشدة)، كما قال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ أي على ما أصابهم من الضُرّ (احتسابًا للأجر عند اللهِ تعالى)، ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ شُكراً للهِ على نِعَمِه ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾. ﴿ قُلْ ﴾ - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين: ﴿ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ﴾: يعني كُلُّ واحدٍ منا ومنكم يَعمل على طريقته التي تليق بحاله من الهدى والضلال والشكر والكفر ﴿ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ﴾: أي فرَبُّكم أعلم بمَن هو أهدى منا ومنكم إلى طريق الحق فيُعطيه الثواب، ومَن هو أضَلّ سبيلاً فيُنزِل به العقاب. • الآية 85: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ﴾: يعني ويَسألك الكفار عن حقيقة الروح التي يَحيا بها الجسد، ﴿ قُلِ ﴾ لهم: ﴿ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾: يعني إنّ حقيقة الروح من الأمور التي اختَصَّ اللهُ بها نفسه وانفرد بعِلمها، ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾: يعني وما أُعطِيتم من العلم - أنتم وجميع الناس - إلا شيئًا قليلاً. ♦ واعلم أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ المشركين بَعَثوا النَضر بن الحارث وعُقبة بن أبي مُعَيْط إلى علماء اليهود في المدينة، ليَسألاهم عن أمْر النبي صلى الله عليه وسلم، فطلب اليهود منهما أن يسألوه عن ثلاثة أشياء (عن أهل الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح)، وقالوا لهم: (إنْ أَخْبَرَكم عن اثنين وأمْسَكَ - أي امتنع - عن واحدة فهو نبي)، فأنزل اللهُ سورة الكهف (وفيها الجواب عن أصحاب الكهف وذي القرنين)، وأنزل هذه الآية: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾، (ولمَّا كانَ سؤالهم هذا دالٌ على ادِّعائهم العلم، أخبرهم سبحانه أنَّ ما عندهم من العلم قليلٌ بجانب عِلم اللهِ تعالى). • الآية 86، والآية 87: ﴿ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ (وهو القرآن الذي حاولوا فِتنتك عنه)، فإنْ شِئنا أنْ نمحوه من قلبك - أيها الرسول - لَفَعَلنا ذلك (عقوبةً لهم على رَفْضهم للقرآن، وهو أعظم النعم)، ﴿ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا ﴾ أي: ثم لا تجد لنفسك ناصرًا يَمنعنا مِن محو القرآن، أو يأتيك به مرة أخرى إذا مَحوناه ﴿ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ يعني: لكنْ أبقَيناه في قلبك (رحمةً من ربك)، إذ جعله سبحانه شاهداً على صِدق نُبُوّتك إلى قيام الساعة ﴿ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ﴾ فقد أعطاك هذا القرآن العظيم، والمقام المحمود، وجَعَلَ رسالتك عامة لجميع الإنس والجن، وعَرَجَ بك إلى الملكوت الأعلى، ونَصَرَكَ بقذف الرعب في قلوب أعدائك، وغير ذلك مما لم يُعطه أحدًا من العالمين. • الآية 88: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول للناس: ﴿ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾ المُعجِز في الفصاحة والبلاغة، وما احتوى عليه من الغيوب والشرائع والأحكام: ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾: أي لا يَستطيعون الإتيان به، لأنه وَحْي اللهِ وكتابه، وحُجَّته على خَلقه إلى قيام الساعة، ﴿ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾: يعني ولو تعاونوا جميعاً على ذلك. • من الآية 89 إلى الآية 93: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ﴾ يعني بَيَّنَّا ونَوَّعنا ﴿ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ﴾ لِنُقيم عليهم الحُجّة، ولِيَعتبروا به ويؤمنوا ﴿ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾: أي فلم يَقبل أكثر الناس إلا الجحود بحُجَج اللهِ رغم وضوحها. ♦ ولمّا أعجَزَ القرآنُ مُشركي قريش وغَلَبهم، أخذوا يَطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم مُعجزات بحسب أهوائهم، قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ﴾ أي حتى تُفجِّر لنا من أرض "مكة" عَيْنًا جارية من الماء لا تَجِفّ،﴿ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ ﴾ أي حديقة ﴿ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ ﴾ (وقد خَصُّوا العنب والتمر لمكانتهما عند العرب وكثرة فوائدهما)، ﴿ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ﴾: أي فتجعل الأنهار تجري في وسط هذه الحديقة بغزارة، ﴿ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ﴾ أي قِطعًا من العذاب كما زعمتَ (يقصدون بذلك قوله تعالى: ﴿ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ﴾))، ﴿ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ﴾ يعني لنُشاهدهم مُقابَلةً وعِيانًاً بالبصر، ﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ﴾ أي مِن ذهب، ﴿ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ ﴾: يعني أو تصعد بسلم إلى السماء، ﴿ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ﴾: يعني ولن نُصَدِّقك في صعودك ﴿ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ﴾ أي حتى تعود ومعك كتابٌ من اللهِ نقرأ فيه أنك رسول الله حقا، ﴿ قُلْ ﴾ لهم - أيها الرسول - مُتَعَجبًا مِن عِنادهم: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّي ﴾!! ﴿ هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾: يعني هل أنا إلا عبدٌ من عباد اللهِ مُبَلِّغٌ لرسالته؟ فكيف أقدر على فِعل ما تطلبون؟! • الآية 94، والآية 95: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى ﴾: يعني وما مَنَعَ الكفارَ من الإيمان باللهِ ورسوله، حينَ جاءهم هذا البيان الكافي من عند اللهِ ﴿ إِلَّا أَنْ قَالُوا ﴾ - جَهلا واستكبارًا -: ﴿ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ﴾؟﴿ قُلْ ﴾ لهم - أيها الرسول -: ﴿ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ ﴾ عليها ﴿ مُطْمَئِنِّينَ ﴾ أي ساكنينَ في الأرض لا يُغادرونها: ﴿ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ مِن جِنسهم، ولكنَّ أهل الأرض بَشَر، ولذلك لابد أن يكون رسولهم بَشَر مِثلهم، حتى يَتمكنوا من مُخاطبته وفَهْم كلامه. • الآية 96: ﴿ قُلْ ﴾ لهم: ﴿ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ على صِدْق نُبوَّتي، فشهادته تعالى لي بالنُبُوّة هي ما أعطاه لي من المُعجزات الباهرات (كانشقاق القمر وغيرها)، وكذلك وَحْيُهُ إليّ بهذا القرآن الذي أنذركم به، والذي لا يستطيع أن يقوله بَشَر (وأنتم تعلمون ذلك لأنكم أبْلغ البشر)، ﴿ إِنَّهُ ﴾ سبحانه ﴿ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ لِذا فهو يَعلم الصادق من الكاذب، وسيَجزي كُلاً بما يَستحق. [1] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير. - واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
__________________
|
#117
|
||||
|
||||
رد: سلسلة كيف نفهم القرآن؟ ____ متجدد إن شاء الله
__________________
|
#118
|
||||
|
||||
رد: سلسلة كيف نفهم القرآن؟ ____ متجدد إن شاء الله
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [*] رامي حنفي محمود الربع الأول من سورة الكهف من الآية 1 إلى الآية 5: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ أي الثناء على اللهِ تعالى بصفاته التي كلُّها كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فهو سبحانه ﴿ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ - محمد صلى الله عليه وسلم - ﴿ الْكِتَابَ ﴾ أي أنزل عليه القرآن ﴿ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾: أي لم يَجعل في القرآن شيئًا مائلاً عن الحق، بل جَعَله كتابًا ﴿ قَيِّمًا ﴾ أي مستقيمًا معتدلاً (لا اختلافَ فيه ولا تناقض، ولا تَشَدُّد ولا تفريط)، وقد أنزله سبحانه ﴿ لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ ﴾: أي ليُنذر الكافرين مِن عذابٍ شديدٍ مِن عنده ﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ﴾ (وهو الجنة) التي يُقيمون في نعيمها، ويَظلونَ ﴿ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾ أي لا يُفارقونه أبدًا، ﴿ وَيُنْذِرَ ﴾ - بصفة خاصة - المُشركين ﴿ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾ (وكيف ذلك والكُلُّ مِلكُهُ وعَبيدُه، وهم خاضعونَ له، مُسَخَّرونَ تحتَ تدبيره، فكيف يكونُ له منهم ولد؟!). ﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ ﴾: أي ليس عند هؤلاء المشركين شيءٌ من العلم على ما يَنسبونه كذباً للهِ تعالى من اتِّخاذ الولد، وكذلك لم يكن عند آبائهم الذين قلَّدوهم عِلمٌ بذلك، ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً ﴾: أي عَظُمتْ هذه المقالة القبيحة التي ﴿ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ وهي نِسبة الولد للهِ تعالى، ﴿ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾: أي ما يقولونَ إلا قولاً كاذبًا (وَرِثوه عن آباءهم بغير دليل). الآية 6: ﴿ فَلَعَلَّكَ ﴾ - أيها الرسول - ﴿ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ ﴾ أي مُهْلِك نفسك على أثَر إعراض قومك (يعني بسبب إعراضهم عنك) ﴿ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ أي ستُهلِك نفسك غمًّا وحزنًا إنْ لم يُصَدِّقوا بهذا القرآن ويَعملوا به! الآية 7، والآية 8: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ ﴾ من المخلوقات ﴿ زِينَةً لَهَا ﴾ أي جَمالا لها، ومَنفعةً لأهلها ﴿ لِنَبْلُوَهُمْ ﴾ أي لنَختبر المُكَلَّفين من الإنس والجن: ﴿ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾: يعني أيُّهم أكثر اتِّباعاً لأمْرنا واجتناباً لنَهْينا وإتقاناً لطاعتنا، وأيُّهم الذي يَعصي ربه من أجل الدنيا، ﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا ﴾: أي سنجعل كل ما على الأرض ترابًا، ﴿ جُرُزًا ﴾ أي لا نباتَ فيه (وذلك عند انتهاء الدنيا)، إذاً فلا تَحزن أيها الرسول على ما تَلقاه مِن أذى قومك وتكذيبهم، فإنّ الدنيا - التي مِن أجلها يُعادونكَ - ستزولُ سريعاً، ثم يُجازيهم اللهُ يوم القيامة على تكذيبهم وعِصيانهم. من الآية 9 إلى الآية 12: ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ﴾: يعني أم ظننتَ أيها الرسول أنّ قصة أصحاب الكهف - واللوح الحَجَري الذي كُتِبَت فيه أسماؤهم - شيئاً مُنفرداً بالعجب من بين الآيات الأخرى؟! (والاستفهام للنفي) أي لا تظن ذلك، فإنّ خَلْق السماوات والأرض وما فيهما من الآيات أعجب من هذا بكثير. ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ﴾: أي اذكر أيها الرسول - للسائلينَ عن قصتهم - حين لجأ هؤلاء الشباب إلى الكهف (فِراراً بدينهم، وخوفاً من تعذيب قومهم لهم)، ﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ أي أعطنا مِن عندك رحمةً تُثَبِّتنا بها، وتحفظنا بها من الشر، ﴿ وَهَيِّئْ لَنَا ﴾ أي يَسِّر لنا ﴿ مِنْ أَمْرِنَا ﴾ الصعب الذي نحن فيه - مِن هِجرتنا لأهلنا وبيوتنا - ﴿ رَشَدًا ﴾: أي يَسِّر لنا ما يَصلُحُ به أمْر ديننا ودُنيانا. ♦ فاستجاب اللهُ دعاءهم ورَعَاهم، قال تعالى: ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ﴾: أي فألقينا عليهم النوم العميق في الكهف سنين كثيرة، حتى تغيَّرتْ الأحوال وتَبدَّلت الأجيال، ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ﴾ أي: ثم أيقظناهم مِن نومهم ﴿ لِنَعْلَمَ ﴾ أي لنُظهِر للناس ما عَلِمناه في قديم الأزل، فيَعلموا ﴿ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ﴾: يعني أيُّ الطائفتين المختلفتين في مدة بقاءهم في الكهف أضبَط في حساب هذه المدة؟ (والراجح أنّ الذين اختلفوا فيهم: هم فريقان من الأُمّة التي اكتشفتهم بعد سنين عديدة، واللهُ أعلم). من الآية 13 إلى الآية 17: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ﴾ أي نتلو عليك خبَرَ أصحاب الكهف بالصِدق واليقين، ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ ﴾: يعني إنهم شبابٌ صَدَّقوا بتوحيد ربهم وامتثلوا أمْره ﴿ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ أي زدناهم إيماناً وثباتًا، وذلك بسبب إيمانهم، كما قال تعالى: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾، ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ﴾: أي قوَّينا قلوبهم بالإيمان حين قاموا بين يدي المَلِك الكافر، وهو يَلومُهم على تَرْك عبادة الأصنام، ﴿ فَقَالُوا ﴾ له: ﴿ رَبُّنَا ﴾ الذي نعبده هو ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، و ﴿ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ﴾: أي لن نَعبد غيره من الآلهة المزعومة كذباً، ﴿ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ﴾: يعني لو قلنا غير هذا، لكُنَّا قائلينَ قولاً ظالماً بعيدًا عن الحق، ثم قالوا له: ﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً ﴾ يَعبدونهم، فـ ﴿ لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ﴾: يعني فهَلاَّ جاءوا بدليلٍ واضح يَدُلّ على استحقاقها للعبادة، ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ ﴾: أي فلا أحد أشد ظلمًا ﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ بأن يَنسبَ إليه شريكاً في عبادته. ♦ ثم بعد أن خرجوا مِن عند هذا المَلِك، قال بعضهم لبعض - وهم يَتناصحونَ ويَتشاورون -: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ يعني: بما أنكم فارَقتم قومكم بدينكم، وتركتم ما يَعبدونَ من دون الله، لم يَبقَ لكم إلا النجاة مِن شَرِّهم، إذاً ﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴾: أي الجؤوا إلى الكهف الذي في الجبل لعبادة ربكم وحده، وهَرَباً من أعدائكم المشركين، فحينئذٍ ﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾ أي يُنَزِّل عليكم ربكم مِن رحمته ما يُنَجِّيكم به مِمّا فررتم منه ﴿ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ﴾: أي ويُيَسِّر لكم مِن أمْركم ما تنتفعونَ به - من أسباب العيش - في مأواكم الجديد، (فلمَّا قالوا ذلك، وذهبوا إلى الكهف: ألقى اللهُ عليهم النوم وحَفِظهم). ﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ ﴾ يعني: وإذا نظرتَ إليهم - أيها الرسول - لَرأيتَ الشمسَ ﴿ إِذَا طَلَعَتْ ﴾ من المَشرق ﴿ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ﴾: أي تميل وتَتَنَحَّى عن مكانهم إلى جهة اليمين فلا تصيبهم، ﴿ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ أي تتجاوز عنهم إلى جهة اليسار، ﴿ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ﴾: أي وقد أنامهم اللهُ في مُتَسَّع من الكهف حتى لا يَنقطع عنهم الهواء، ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي فعلناه بهؤلاء الشباب - مِن حِفظهم من حرارة الشمس، وعدم نفاد الهواء عنهم - هو ﴿ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ ﴾ أي من دلائل قدرة اللهِ تعالى، ورحمته ولُطفه بأوليائه. ﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ﴾ يعني: مَن يُوفقه اللهُ للاهتداء بآياته، فهو المُوَفَّق إلى الحق، ﴿ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ﴾ يعني: ومن لم يُوَفِّقه لذلك، فلن تجد له مُعينًا يُرشده لإصابة الحق؛ لأنّ التوفيق والخِذْلان بيد اللهِ وحده، (إذاً فليَطلب العبد من ربه الهداية والثبات، وليَعتصم به من الزَيغ والضَلال). الآية 18: ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا ﴾ يعني: إذا نظرتَ إليهم - أيها الرسول - لَظننتَ أنهم مستيقظين (لأنّ أعْينهم كانت مُفَتَّحة) ﴿ وَهُمْ ﴾ في الحقيقة ﴿ رُقُودٌ ﴾ أي نائمونَ لا يشعرونَ بأحد، ﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ أي نُقَلِّبهم أثناء نومهم مَرّة للجنب الأيمن ومَرَّة للجنب الأيسر، حتى لا تأكلهم الأرض، ﴿ وَكَلْبُهُمْ ﴾ - الذي أخذوه معهم لحِراستهم - ﴿ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ﴾ أي قد مَدَّ ذراعيه بفناء الكهف (لأنه أصابه من النوم ما أصابهم وقت حِراسته)، ﴿ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا ﴾ أي لو شاهدتهم وهم نائمونَ وأعينهم مُفَتَّحة: لَرجعتَ فارّاً منهم ﴿ وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ﴾ (لأنّ اللهَ قد ألقى الخوف والفزع على مَن يَراهم، حتى لا يدخل عليهم). الآية 19، والآية 20: ﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ ﴾: يعني وكما أنمناهم وحفظناهم هذه المدة الطويلة، فكذلك أيقظناهم مِن نومهم على هيئتهم دونَ تغيُّر، وذلك ﴿ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ﴾: يعني لكي يَسأل بعضهم بعضًا، فيَزدادوا إيماناً باللهِ تعالى، ويَتيقنوا بحمايته لأوليائه، فـ ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ﴾: ﴿ كَمْ لَبِثْتُمْ ﴾: يعني كم من الوقت بقينا نائمين هنا؟ ﴿ قَالُوا ﴾ أي قال بعضهم: ﴿ لَبِثْنَا ﴾ أي مَكَثنا ﴿ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾، ﴿ قَالُوا ﴾ أي قال آخرونَ قد اختلط عليهم الأمر: فَوِّضوا ذلك إلى اللهِ تعالى، فـ ﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ﴾: أي فرَبُّكم أعلم بالوقت الذي مَكَثتموه. ♦ وقد كانوا جائعينَ فقالوا: ﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ﴾: أي فأرسِلوا أحدكم بنقودكم الفضية هذه إلى مَدِينتنا، ﴿ فَلْيَنْظُرْ ﴾: ﴿ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ﴾: يعني أيَّ أهْل المدينة طعامه حلالاً طيباً ﴿ فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ﴾ لتأكلوه سَدّاً لجوعكم ﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ ﴾ في ذهابه وعودته وشرائه مع البائع حتى لا ننكشف، ﴿ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ﴾ أي: ولا يَفعل فِعلاً يؤدى إلى معرفة أحدٍ من قومكم بوجودكم، فـ ﴿ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ﴾ يعني إن يَروكم: ﴿ يَرْجُمُوكُمْ ﴾ بالحجارة، فيقتلوكم ﴿ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ﴾: يعني أو يُرجعوكم إلى دينهم، فتَصيروا مُشركينَ مِثلهم ﴿ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾: أي ولن تفوزوا أبدًا بدخول الجنة والنجاة من النار، إن أطعتموهم فأشركتم بربكم. الآية 21: ﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ أي جعلنا أهل ذلك الزمان يَعثرون عليهم (وذلك بعد أن كَشَفَ البائع نوع الدراهم القديمة التي جاء بها مَبعوثهم)، وقد جعلنا الناس يَعثرونَ عليهم ﴿ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ ﴾ بالبعث ﴿ حَقٌّ ﴾ لأنّ الذي أنامهم كل هذه المدة ثم أيقظهم، قادرٌ سبحانه على أن يَبعثهم بعد موتهم، ليُحاسبهم ويُجازيهم بأعمالهم، ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا ﴾ يعني: ولِيَعلم الناس أنّ الساعة التي تقوم فيها القيامة آتيةٌ لا شك فيها، ﴿ إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ﴾: يعني إنهم عَثَروا عليهم في وقتٍ كان أهل البلد يَختلفون في أمْر القيامة: (فمِنهم مَن كانَ مؤمناً بها، ومنهم مَن كانَ مُنْكِراً لها)، فلمَّا اطَّلعوا جميعاً على أصحاب الكهف، جعل اللهُ اطّْلاعهم حُجَّةً للمؤمنين على الكافرين في قدرة اللهِ على البَعث والإحياء، وعلى أنّ البعث يكونُ بالأجسام والأرواح معاً وليس بالأرواح فقط. ♦ وبعد أن انكشف أمْرهم ماتوا ﴿ فَقَالُوا ﴾ أي فقال فريقٌ من المُطَّلِعينَ عليهم: ﴿ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ﴾: أي ابنوا على باب الكهف بناءً يَحجبهم عن الناس، واتركوهم وشأنهم، فـ ﴿ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ﴾: أي ربهم أعلم بحالهم، و ﴿ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ ﴾ وهم أصحاب الكلمة والنفوذ - الذين يُعرَفون بـ (الحكومة) -: ﴿ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ﴾: أي لَنَتّخِذنَّ على مكانهم مَسجدًا للعبادة، (وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، ولَعَنَ مَن فَعَلَ ذلك، لأن هذا قد يؤدي إلى عبادة مَن فيها). الآية 22: ﴿ سَيَقُولُونَ ﴾ أي سيقول بعض أهل الكتاب - الذين اختلفوا في عدد أصحاب الكهف -: هم ﴿ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ أي ويقول فريقٌ آخر منهم: هم ﴿ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾، وكلامُ الفريقين كانَ ﴿ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ﴾ أي رَمْياً بالكلام من غير تثبّت، وظناً مِن غير دليل، (فدَلَّ ذلك على بُطلان القولين السابقين) ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ أي وتقول جماعة ثالثة: هم ﴿ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ (وهذا هو الصواب - واللهُ أعلم - لأنّ اللهَ تعالى أبطل القولين السابقين، ولم يُبطِل القول الثالث، فدَلَّ ذلك على صحته). ♦ ولمّا كان هذا من الاختلاف الذي لا فائدة منه، وليس فيه مصلحة للناس (دينية أو دنيوية)، قال تعالى بعدها: ﴿ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ﴾ أي ربي هو الأعلم بعددهم، و ﴿ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾: أي ما يَعلم عددهم إلا قليلٌ من الناس ﴿ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا ﴾: أي فلا تُجادل أهل الكتاب في عددهم إلا جدالاً ظاهرًا لا عُمقَ فيه (وذلك بأن تَذكر لهم ما أخبرك به الوحي فقط، بدون أن تُكَذِّبهم أو تُوافقهم)، ﴿ وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ ﴾ أي لا تسأل في شأن أصحاب الكهف ﴿ مِنْهُمْ ﴾ أي مِن أهل الكتابِ ﴿ أَحَدًا ﴾ لأنهم لا يَعلمونَ ذلك وإنما يقولون بالظن والتخمين، لا بالعلم واليقين، (وفي هذا دليل على المنع مِن سؤال مَن لا يَصلح للفتوى). الآية 23، والآية 24: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ﴾ تَعزم على فِعله: ﴿ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ ﴾ الشيء ﴿ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ يعني إلا أن تُعَلِّق قولك بالمشيئة، فتقول: (إن شاء الله)، ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾: يعني وإذا نسيتَ قوْل: (إن شاء الله)، فاذكُره - ولو بعد فترة - لتَخرج به من الحرج (وكلما نسيتَ شيئاً فاذكر الله؛ فإنّ ذِكْرَ اللهِ يُذهِب النسيان). ♦ واعلم أنّ سبب اعتراض هذه الآية للسياق، أنّ المشركينَ لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين، قال لهم: (أُخبِركم بما سألتم عنه غداً)؛ ولم يقل (إن شاء الله)، فانقطع الوحي نصف شهر، ثم نزلتْ سورة الكهف وفيها جواب ما سألوا. ﴿ وَقُلْ ﴾ لهم - بعد قوْل (إن شاء الله) -: ﴿ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾: أي لعل اللهَ أن يُنعِمَ عليّ بشيئٍ أكثر إثباتاً لنبوتي - وأكثر هدايةً للناس - من قصة أصحاب الكهف، التي سألتموني عنها اختباراً لنُبُوّتي. الآية 25، والآية 26: ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ﴾ أي وبَقى الشُّبابُ نائمين في كَهْفهم ثلاثمائة سَنَة (بالحساب الشمسي)، وثلاثمائة سَنَة وتسع سنين (بالحساب القمري)، ﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ﴾: يعني وإذا سُئلت أيها الرسول عن مدة بقائهم في الكهف - وليس عندك عِلمٌ مِن اللهِ في ذلك - فلا تجتهد فيه بشيء، بل قل: (اللهُ أعلم بمدة بقائهم)، فإنه سبحانه ﴿ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ أي يَعلمُ جميع ما خَفِيَ عن حواس الناس في السماوات والأرض، ﴿ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ﴾: أي تعجَّب مِن كمال بصر ربك وسَمْعه وإحاطته بكل شيء (أو بصيغةٍ أخرى: ما أعظم بَصَرَهُ بخَلقه وما أعظم سَمْعه لأقوالهم، حيث لا يَخفى عليه شيءٌ من أحوالهم)، و ﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ﴾: أي ليس للخَلق أحدٌ غيره يَتولى أمورهم، ﴿ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾: أي وليس له شريكٌ في حُكمه وقضائه وتشريعه (لِغِناه سبحانه عَمّا سواه). الآية 27: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ﴾: أي اقرأ أيها الرسول ما أوحاه اللهُ إليك من القرآن (تَعَبُّداً به، وتعليماً للمؤمنين بما جاءَ فيه من الهدى، ودعوةً للناس إلى ربهم)، فإنه سبحانه ﴿ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي لا مُغيّر لكلماته، لا في ألفاظها ولا في معانيها ولا في أحكامها (ومِن ذلك ما وَعَدَكَ به من النصر على أعدائك)، ﴿ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ أي لن تجد مَلجأً تَميل إليه ليُنجيك من عقاب ربك (إن وافقتهم على شيئٍ من اقتراحاتهم). الآية 28: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ﴾ أي صَبِّر نفسك أيها النبي، واحبسها - حَبْسَ مُلازَمة - ﴿ مَعَ ﴾ أصحابك مِن فقراء المؤمنين ﴿ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾: أي الذين يَعبدونَ ربهم وحده، ويدعونه في الصباح والمساء، ﴿ يُرِيدُونَ ﴾ بذلك ﴿ وَجْهَهُ ﴾ أي يريدون بأعمالهم الصالحة رضا اللهِ تعالى وَجَنَّتِه، والنظر إلى وجهه الكريم، ﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾: أي ولا تصرف نظرك عنهم إلى غيرهم من الكفار الأغنياء، ﴿ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾؟ يعني: هل تريد مُجالستهم للشرف والفخر لأنهم أصحاب هيئة وزينة، وأصحابك ليس لهم ذلك؟ (وهذا استفهام غرضه النفي والإنكار) أي: لا تفعل هذا، ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾ أي: ولا تُطِعْ مَن جعلنا قلبه غافلاً عَمّا يَجب عليه مِن ذِكرنا وعبادتنا (عقوبةً له)، لأنه عانَدَ وتكَبَّر ﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ ففضَّله على طاعة مَولاه ﴿ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾: أي وصارَ أمْرُهُ في جميع أعماله ضَياعاً وهَلاكًا. ♦ واعلم أنّ هذا التوجيه قد نَزَلَ للرسول صلى الله عليه وسلم عندما عَرَضَ عليه المشركون إبعاد أصحابه الفقراء عنه (كَبِلال وصُهَيْب وغيرهما) ليَجلسوا إليه ويسمعوا منه، فنَهاه ربه عن ذلك، وأمَرَه بملازمة المؤمنين الفقراء الذين لا يريدون بصلاتهم وتسبيحهم ودعائهم عَرَضاً من الدنيا، وإنما يريدون رضا اللهِ عنهم، ومَحبته لهم. ♦ واعلم أنّ الفعل (كان) إذا جاء مع صفة معينة، فإنه يدل على أنّ هذه الصفة مُلازِمة لصاحبها، كقوله تعالى - واصفاً نفسه بالرحمة والمغفرة -: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ أي كانَ سبحانه - أزَلاً وأبداً - غفوراً رحيماً. الآية 29: ﴿ وَقُلِ ﴾ لهؤلاء الغافلين: ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ يعني: ما جئتكم به - من التوحيد والعمل الصالح - هو الحق من ربكم، ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ﴾: أي فمن أراد منكم أن يُصَدِّق بهذا الحق ويَعمل به، فليَفعل فهو خيرٌ له، ﴿ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾: أي ومَن أراد أن يَجحد فليَفعل، فما ظَلَمَ إلا نفسه، فـ ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ ﴾ أي للمُشركين، لأنَّ اللهَ تعالى قال: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾، فأولئك قد أعَدَّ اللهُ لهم ﴿ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ أي أحاطت بهم جُدرانها المُحرِقة، ﴿ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا ﴾ - بطَلَب الماء مِن شدة العطش - فإنهم ﴿ يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ﴾: أي يُؤتَ لهم بماءٍ يُشبه الزيت العَكِر - شديد الحرارة - ﴿ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾: يعني إذا قرّبوه مِن وجوههم ليَشربوا: شَوَى جلودهم ووجوههم، فإذا شربوه: قطَّعَ أمعاءهم، ﴿ بِئْسَ الشَّرَابُ ﴾: أي قَبُح هذا الشراب الذي لا يَروي ظمأهم بل يَزيده، ﴿ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾: أي وقَبُحَتْ النار مَنزلاً لهم ومُستقَرَّاً، (وفي هذا وعيدٌ شديد لمن أعرض عن الحق، فلم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ الأمر في قوله تعالى: (فليَكفر) هو للتهديد والوعيد، بدليل ذِكر العذاب الذي سيُصيبه إنْ كَفَر). الآية 30، والآية 31: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ لهم أعظم الثواب، فـ ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ أي لا نُضيع أجورهم على إيمانهم وإحسان أعمالهم، ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ أي لهم جنات الخلود التي يُقيمون فيها ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ﴾ أي تجري الأنهار مِن تحت قصورهم، ﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ﴾: أي يَلبسونَ فيها أساور من ذهب ﴿ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا ﴾ أي ثياباً ذات لون أخضر، قد نُسِجَت ﴿ مِنْ سُنْدُسٍ ﴾ وهو الحرير الرقيق ﴿ وَإِسْتَبْرَقٍ ﴾ وهو الحرير الغليظ، ﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ﴾ (والأرائك جمع أرِيكة، وهي السرير المُزَيّن بالستائر الجميلة)، ﴿ نِعْمَ الثَّوَابُ ﴾ ثوابهم، ﴿ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ﴾: أي وحَسُنتِ الجنة مَنزلا ومكانًا لهم. * وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير. • واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
__________________
|
#119
|
||||
|
||||
رد: سلسلة كيف نفهم القرآن؟ ____ متجدد إن شاء الله
__________________
|
#120
|
||||
|
||||
رد: سلسلة كيف نفهم القرآن؟ ____ متجدد إن شاء الله
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [*] رامي حنفي محمود الربع الثالث من سورة الكهف الآية 60، والآية 61، والآية 62: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ﴾ أي اذكر أيها الرسول حينَ قال موسى لخادمه "يُوشَع بن نون": ﴿ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ﴾: أي لا أزال أتابع السير حتى أصل إلى مكان التقاء البحرين ﴿ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾: يعني أو أسير زمنًا طويلاً حتى أصل إلى العبد الصالح - الذي أخبرني اللهُ تعالى به - لأتعلم منه ما ليس عندي من العلم. ♦ واعلم أنَّ سبب هذه القصة - كما ثَبَتَ في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنَّ موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل، فسُئِلَ: (أيّ الناس أعلم؟)، فقال: (أنا)، فعاتبه اللهُ على ذلك (لأنه أجابهم دونَ وَحْيٍ منه سبحانه)، فأوحى اللهُ إليه: (إنّ لي عبداً بمَجمع البحرين هو أعلم منك)، فقال موسى: (يا رب وكيف لي به)؟ - يعني كيف أصل إليه؟ - فقيل له: (احمل حوتا في مكتل - يعني احمل سمكة كبيرة في وعاء، (وفي رواية: أنه يُمَلِّحها، لتكون غذاءً له) - فإذا فَقَدته - (يعني في المكان الذي ستفقد فيه هذا الحوت) - فستجد هذا العبد هناك)، فانطلَقَ هو وفتاه "يُوشَع بن نون" حتى وجدا هذا العبد الصالح واسمه "الخَضِر"، (وسوف يَتِمّ شرح باقي الحديث في مَوْضعه مع التفسير). ♦ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ﴾: أي فلما اجتهدا في السَّيْر، ووصلا إلى مُلتَقى البحرين، جلسا عند صخرةٍ وناما عندها، و ﴿ نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾ عند هذه الصخرة ﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ﴾: يعني فإذا بالحوت يُصبِحُ حيًّا - بعد أن كانَ مَيّتاً - ويَنزل في البحر، ويَتخذ له فيه طريقًا (كالنفق في الجبل). ♦ واعلم أنّ موسى عليه السلام عندما نام، كانَ يُوشَع (شِبه نائم)، فرأى الحوت وهو يَخرج مِن وعاءه ويَشُق طريقه إلى البحر، ولكنّ يوشع غلبه النوم، فنام ونسي خروج الحوت من المِكتل ودخوله في البحر. ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا ﴾: يعني فلمّا تَجاوزا المكان الذي نسيا فيه الحوت، وشعر موسى بالجوع: ﴿ قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا ﴾ يعني أحضِر إلينا غداءنا، فـ ﴿ لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ أي تعبًا وإرهاقاً. الآية 63: ﴿ قَالَ ﴾ له خادمه: ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ ﴾: يعني أتذكر حين لجأنا إلى الصخرة التي استرحنا عندها؟ ﴿ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ﴾: يعني فإني نسيت أن أخبرك ما كانَ مِن أمْر الحوت، ﴿ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾: يعني وما أنساني أن أذكُر لك ذلك إلا الشيطان، فإنّ الحوت الميت قد دَبَّتْ فيه الحياة ﴿ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ﴾: أي وقفز في البحر، واتخذ له فيه طريقًا، وكان أمْرُه عجيباً. من الآية 64 إلى الآية 70: ﴿ قَالَ ﴾ موسى: ﴿ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ﴾ يعني: ما حصل هو ما كنا نطلبه، فإنه علامة لي على مكان العبد الصالح، ﴿ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾: أي فرجعا يَتتبعان آثار مَشْيهما حتى انتهيا إلى الصخرة، ﴿ فَوَجَدَا ﴾ هناك ﴿ عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ وهو "الخَضِر" عليه السلام (وهو نبي من أنبياء الله تعالى، وذلك على الراجح من أقوال العلماء)، والدليل على ذلك أنّ اللهَ علَّمه أشياءً مِن عِلم الغيب - كما سيأتي في القصة - وقد قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ﴾، والدليل على أنه ليس مَلَكاً أنه - كما سيأتي أيضاً في القصة - أراد أن يُضِّيفه أهل القرية بالطعام، ومعلومٌ أن الملائكة لا تأكل. ♦ وقد ﴿ آَتَيْنَاهُ ﴾ يعني أعطينا الخَضِر ﴿ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ﴾ - وهي النُبُوَّة -﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ﴾ أي مِن عندنا ﴿ عِلْمًا ﴾ عظيمًا (وهو بعض الأشياء مِن علم الغيب عن طريق الوحي)، فـ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى ﴾: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾: يعني هل تأذن لي أن أتَّبعك لتُعَلِّمني شيئاً - أسترشد به وأنتفع - من العلم الذي علَّمك اللهُ إياه؟، فـ﴿ قَالَ ﴾ له الخَضِر: ﴿ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ أي لن تطيق أن تصبر على اتِّباعي ومُلازمتي، (وقد أراد بذلك أنه سيَرى منه أموراً لا يُقِرّها موسى في شَريعته، والخَضِر لابد أن يَفعلها، فيَتضايق موسى بسببها ولا يطيق الصبر). ♦ وقال الخَضِر لموسى: ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾: يعني وكيف لك الصبر على ما سأفعله من أمورٍ يَخفى عليك عِلمها والحِكمة منها؟، فـ﴿ قَالَ ﴾ له موسى - وقد أصَرَّ على طلب العلم -: ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ﴾ على ما أراه منك ﴿ وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾، فوافق الخَضِر، و ﴿ قَالَ ﴾ له: ﴿ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي ﴾: يعني فإنْ صاحَبْتَني ﴿ فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ﴾ تُنكِرُه مِنِّي ﴿ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ أي حتى أكون أنا الذي يُبَيِّن لك حقيقته، دونَ سؤالٍ منك. الآية 71: ﴿ فَانْطَلَقَا ﴾ يَمشيان على الساحل، فمَرَّتْ بهما سفينة، فطلبا من أهلها أن يَركبا معهم، فعرفوا الخَضِر، فحملوهما بغير أجر ﴿ حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ﴾: يعني فلمّا ركبا: قَلَعَ الخَضِر لوحًا من السفينة فخرقها، فـ ﴿ قَالَ ﴾ له موسى: ﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ﴾ وقد حملونا بغير أجر؟! ﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾: يعني لقد فعلتَ أمرًا مُنكَرًا. الآية 72:﴿ قَالَ ﴾ له الخَضِر: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ على صُحبتي. الآية 73: ﴿ قَالَ ﴾ موسى مُعتذِرًا: ﴿ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ﴾: أي لا تؤاخذني بنسياني لشرطك عليَّ (فإنّ الناسي لا حرج عليه)، ﴿ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴾: أي ولا تشُقّ عليّ في تعلُّمي منك، وعامِلني برفقٍ ويُسر (فقبل الخَضِر عُذره). الآية 74: ﴿ فَانْطَلَقَا ﴾ يمشيان بعد أن نزلا من السفينة ﴿ حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ ﴾: يعني فبينما هما يمشيان على الساحل: لقيا غلامًا يلعب مع الغلمان، فقتله الخَضِر، فأنكر موسى ذلك عليه، و ﴿ قَالَ ﴾ له: ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ﴾: يعني كيف قتلتَ نفسًا طاهرة لم تبلغ حدَّ التكليف ولم تتلوث بالذنوب، ﴿ بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾: يعني وكيف قتلته وهو لم يَقتل نفسًا يَستحق بسببها هذا القتل (قِصاصاً)؟ ﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ﴾: أي لقد فَعَلْتَ أمرًا تُنكِره الشرائع والعقول، (ولم تكن هذه نِسياناً من موسى كالتي قبلها، بل كان هذه المرة متعمداً، لأنه لم يُطِق فِعلاً مُنكَراً كهذا). الآية 75: ﴿ قَالَ ﴾ الخَضِر لموسى مُعاتِبًا ومُذكِّرًا: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ على ما ترى من أفعالي؟ الآية 76: ﴿ قَالَ ﴾ له موسى: ﴿ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا ﴾ أي بعد هذه المرة ﴿ فَلَا تُصَاحِبْنِي ﴾ فـ ﴿ قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ﴾: أي قد بلغتَ العُذر في شأني ولم تقصِّر؛ حيثُ أخبرتَني أنني لن أستطيع معك صبرًا. ♦ واعلم أنّ العلماء قد اختلفوا في الفرق بين (شيئاً إمراً و شيئاً نُكراً)، ورجّح بعضهم أنّ الاثنان بمعنى واحد، وهو: (الأمر الفظيع المُنكَر)، ولكنّ النُكر أعظم من الإمر، لأنّ قتل النفس البريئة بغير ذنب هو أكبر مِن خَلْع لوح من السفينة (فاللوح يُمكِن أن يَتِمّ إصلاحه أو يُؤتَى بغيره، لكنّ المقتول لا يُمكِن إعادته). الآية 77: ﴿ فَانْطَلَقَا ﴾ يَمشيان ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ﴾ أي طلبا من بعض أهلها طعامًا على سبيل الضيافة، ﴿ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا ﴾: أي فامتنع أهل القرية عن ضيافتهما، ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا ﴾ مائلاً ﴿ يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ﴾ أي يُوشِك أن يَسقط ﴿ فَأَقَامَهُ ﴾: أي فعدَّله الخَضِر وأصلحه حتى لا يَسقط، فـ ﴿ قَالَ ﴾ له موسى: ﴿ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾: يعني لو شئتَ لأخذتَ أجرًا على هذا العمل - مِن صاحب الجدار - لتُحضِر لنا به طعامنا (إذ كيف تَبنيه لهم (مجاناً)، وقد كانوا بخلاء معنا ولم يُضيِّفونا؟). الآية 78، والآية 79: ﴿ قَالَ ﴾ الخَضِر لموسى: ﴿ هَذَا فِرَاقُ ﴾: أي هذا هو وقت الفراق ﴿ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾، و﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾: أي سأخبرك الآن بتفسير الأفعال التي أنكرتَها عليَّ ولم تستطع صبرًا على ترْك السؤال عنها، فـ ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ ﴾ التي خرقتُها ﴿ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ ﴾ عليها ﴿ فِي الْبَحْرِ ﴾ أي يؤجِّرونها للركاب طلباً للرزق، ﴿ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ بذلك الخرق، والسبب في ذلك: ﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾: يعني لأنه كان أمامهم مَلِكٌ يأخذ كل سفينة من أصحابها قهراً (فأردتُ أن أجعل بها عيباً حتى لا يَرغب فيها). ♦ واعلم أنّ لفظ "وراء" يُطلق على ما كان خلفاً وما كان أماماً، لأنّ كل ما وُورِيَ - أي: استُتِر - فهو وراء، كما قال تعالى: ﴿ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ﴾ أي مِن بعد موته. الآية 80، والآية 81: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ ﴾ الذي قتلتُه ﴿ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ﴾: يعني كان أبوه وأمه مؤمِنَيْن، وقد عَلِمَ اللهُ تعالى أنّ ذلك الولد إذا بَلَغَ وكَبَر سوف يَعُقُّهما ﴿ فَخَشِينَا ﴾ أي فخِفتُ إن بَقِيَ حَيّاً وكَبُرَ ﴿ أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ يعني أن يُوصل والديه إلى الكفر والطغيان؛ وذلك بسبب مَحبتهما له أو شدة حاجتهما إليه، فيُطيعا أمره، ويَميلا إلى ما هو عليه، ويُقِرَّاه على ما يَفعله (حتى ولو كان طغياناً وكفراً)، فيكونا بذلك مِثله، ﴿ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾: أي فأردتُ أن يكون قتلي له سبباً أرجو به من اللهِ تعالى أن يُبْدِلَ أبويه غلاماً خيراً منه صلاحًا وبِرًا بهما. ♦ واعلم أنّ الخضر عليه السلام قد قال اللفظين: ﴿فَخَشِينَا﴾، و ﴿ فَأَرَدْنَا﴾ بضمير الْمُتكَلِّم الْجَمْعِي (تواضعاً لا تعاظماً)، لأنه هنا قد أخبر أنّ اللهَ تعالى هو الذي علَّمه ذلك، فناسَبَ ذلك التواضع، فقال اللفظين: ﴿ فَخَشِينَا ﴾، و ﴿ فَأَرَدْنَا ﴾ بإظهار أنه قد عاوَنَهُ أحد في هذا الفعل، وذلك مِثل قوله تعالى - حكايةً عن يوسف عليه السلام -: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ﴾، وهذا أيضاً مِثل قول القائل: (لقد وفقنا اللهُ تعالى إلى فِعل كذا). الآية 82: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ ﴾ الذي عدَّلتُ مَيْلَه حتى اعتدل: ﴿ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ (أي في القرية التي فيها الجدار) ﴿ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا ﴾ ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا ﴾ رجلاً ﴿ صَالِحًا ﴾ ﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ﴾ أي يَكبَرا ويَبلغا قوتهما، ﴿ وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ﴾ بأيديهما، وقد كانَ ذلك ﴿ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ بهما، ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾: يعني وما كانت أفعالي هذه ناتجة عن إرادتي واختياري، وإنما فعلتها بأمْر اللهِ تعالى وتعليمه، ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي وَضَّحتُهُ لك هو ﴿ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾: أي هو تفسير الأمور التي لم تستطع صبرًا على ترك السؤال عنها والإنكار عليَّ فيها. ♦ واعلم أنّ الفعل (تَسْطِعْ) هو بمعنى (تَسْتَطِعْ)، ولكنْ حُذِفَتْ التاء هنا تخفيفاً لقربها مِن مَخرج الطاء، وذلك تجنُّباً لإعادة نفس اللفظ المذكور في قوله: ﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ حتى لا يَحدث ثِقَلٌ للسامع مِن تكراره، وهو ما يسمى في اللغة بـ (أسلوب التفنُّن)، كما سيأتي في قوله تعالى - حكايةً عن ذي القرنين -: ﴿ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴾. ♦ واعلم أيضاً أنه يُستفاد من هذه القصة أنّ الإنسان ينبغي ألاَّ يَحكم على الأمور بالظاهر، لأنّ هناك أشياء لا يَعلمها ولا يَعلم الحكمة منها، ولذلك ينبغي أن يقول دائماً: (قدَّرَ اللهُ وما شاءَ فعل)، ويُفَوِّض الأمر لربه العليم الحكيم، ويَتذكر هذه القصة. * وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير. - واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |