الوظائف الدعوية لمقاصد الأحكام الفقهية - ملتقى الشفاء الإسلامي
 
اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12534 - عددالزوار : 215314 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          زوجي مصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 182 - عددالزوار : 61189 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 123 - عددالزوار : 29163 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20-02-2020, 12:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,059
الدولة : Egypt
افتراضي الوظائف الدعوية لمقاصد الأحكام الفقهية

الوظائف الدعوية لمقاصد الأحكام الفقهية


د. وصفي عاشور أبو زيد




تمثل مقاصد الشريعة الإسلامية مرجعية معتبرة للتجديد في الفكر الإسلامي بشكل عام، وفي الفقه والأصول بشكل خاص، وتتميز هذه المرجعية بأنها قادرة على تقديم الإجابات المناسبة لما ينزل بالأمة من نوازل، سواء كانت نوازل عامة في جوانب حياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية والحضارية، أم نوازل فقهية تمس حياة الناس من الناحية الشرعية المباشرة.




وتحت هذه المظلة الواسعة تنطلق حركة الاجتهاد والتجديد انطلاقة رحيبة تأخذ مداها، لتحتضن كل جديد، وتستوعب كل حادث، ولا تقف مكتوفة الأيدي أمام أي نازلة، إنما تقوم بتوصيف واقعها، وتستنزل حكمها في ضوء هذه المظلة مع مراعاة النصوص الجزئية الخاصة والعامة.




وما مِن شك في أن هذه المظلة الكبرى التي تمثل ساحة واسعة للمجتهد المعاصر تتكون - بداية تكوينها - من المقاصد الجزئية التي تعتبر مهادًا لتكوين المقاصد الخاصة، وتكونان - بدورهما - المقاصد الكلية والمفاهيم التأسيسية والمقاصد العالية التي ترتكز عليها عملية التجديد الفكري في النسق الإسلامي العام.




إن نظرية المقاصد هي الرؤية الكلية التي تندرج في إطارها كل الرؤى الفكرية والقواعد الفقهية، ولا تتعلق باستنباط الأحكام الشرعية فحسب، "بل إنها تشكل المفهوم الكلي الذي يحكم طريقة التفكير الإسلامية، والتي توائم موائمة فريدة بين هداية النقل ودراية العقل؛ فهي منهج لتجديد الفكر الإسلامي على هديِ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج صحابته عليهم الرضوان في النظر المقاصدي... الذي يوفر منهجًا للأحكام العقلية كما هي منهج للأحكام العملية"[1]، وهذا يقتضي كون النظر المقاصدي صالحًا لإحداث الفاعلية والتجديد، ومرتكزًا أساسيًّا في صناعة تنمية دائمة، ونهضة إسلامية شاملة.




وهذا التجديد لا بد أن يصدر من أهله وفي محله: من أهله الذين سبروا أغوار الشريعة بمقاصدها ونصوصها، بمواردها ومصادرها، بكلياتها وجزئياتها، ثم آتاهم الله فهمًا وبصيرة لتوصيف الواقع وفهمه فهمًا دقيقًا وتوصيفًا صحيحًا يطابق الواقع، ثم تكون عندهم قدرة فائقة على ممارسة عملية التنزيل بكل أبعادها المعقدة في واقعنا المعاصر، وفي محله الذي يقتضي أن يكون في مساحات الاجتهاد المشروعة.




المطلب الثاني: الرد على المتشككين وتفنيد الشبهات:

إن الشبهات التي يلقيها المتشككون والمبتدعة[2] على العقيدة والشريعة تتردد بين الحين والآخر منذ أول يوم نزلت فيه الرسالة، وقد أورد القرآن الكريم العديد من هذه الشبهات حول الرسول والرسالة التي يثيرها غير المسلمين من ملاحدة وأهل كتاب، ثم يورد الرد عليها ويفندها، وهو في القرآن أكثر من أن يحصى.




وهذه الشبهات تتطلب علماء على قدر كبير من الوعي بأهداف وغايات ومقاصد الرسالة، ولديهم تفنن في بيان فلسفة الأحكام ومقاصدها؛ إذ لا يبلِّغ الدعوةَ ويقيم الحجة ويرد الشبهة ويكشف زيفها إلا المتعمقون في مقاصد الشريعة، المستوعبون لأهداف الرسالة وغاياتها.




ولأن أهداف الرسالة أهداف إنسانية نبيلة[3]، ومقاصد إسلامية شريفة، فإنها تمثل قاسمًا مشتركًا بين البشر، ولا يختلف عليها أحد.

وحسبنا قول الله تعالى مبينًا أهداف إرسال الرسول: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].

وقول جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - حينما قال له النجاشي: "ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من الملل؟!"، قال جعفر - رضي الله عنه -: "أيها الملِك، كنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعَث الله لنا رسولًا كما بعث الرسل إلى مَن قبلنا، وذلك الرسول منا، نعرف نسَبَه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحِّده ونعبده، ونخلع - أي نترك - ما كان يعبد آباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله تعالى وحده، وأمَرنا بالصلاة - أي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي - والزكاة - أي مطلق الصدقة - والصيام - أي ثلاثة أيام من كل شهر؛ أي: وهي البِيض، أو أي ثلاثة على الخلاف في ذلك - وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، فصدَّقناه، وآمنَّا به، واتبعناه على ما جاء به، فعدا علينا قومنا؛ ليردُّونا إلى عبادة الأصنام، واستحلال الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا، وحالُوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَن سواك، ورجوناك ألا نظلم عندك يا أيها الملك، فقال النجاشي لجعفر: هل عندك مما جاء به شيء؟ قلت: نعم، قال: فقرأت عليه صدرًا من "كهيعص"، فبكى والله النجاشي حتى أخضل - أي بلَّ لحيته - وبكت أساقفته"[4].




ففي هذه الآيات الكريمة، وفي قول جعفر لا نجد أجمع للخير وأوعب لصالح الإنسانية من هذه المقاصد التي ذكرتها الآيات، وبيَّنها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.




بل إن للفكر المقاصدي دورًا كبيرًا في المناظرات والحِجاج الشرعي والعقلي، الأصولي والفقهي، والمتأمل لمناظرات الإمام مالك الأصولية والفقهية - سواء كانت شفهية أم تحريرية - مع فقهاء عصره يقف على أهمية المقاصد في هذا المجال[5].




وإذا كان الوعي بالمقاصد بكل مراتبها من الضروريات لتبليغ الدعوة وتفنيد الشبهات في كل عصر؛ فإن ذلك أوجبُ في عصرنا الذي أضحى من أهم خصائصه: ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، وفي ظل هذا الانفتاح "العنكبوتي والفضائي" غير المحدود يصبح لزامًا على كل ناطق باسم الإسلام أن يكون له أوفى نصيب من الغايات التي جاءت في الآيات الكريمة، وفصلها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.




ولذلك كان هذا هو منهجَ الراسخين في العلم؛ يقول شيخنا د.يوسف القرضاوي: إن من منهجه ذكر "الحكم مقرونًا بحكمته وعلته، مربوطًا بالفلسفة العامة للإسلام، وهذا ما التزمته في فتاواي وكتاباتي بصفة عامة؛ وذلك لأمرين:

الأول: أن هذه هي طريقة القرآن والسنة...الثاني: أن الشاكين والمشككين في عصرنا كثيرون، ولم يعد أغلب الناس يقبلون الحكم دون أن يعرفوا مأخذه ومغزاه، ويعُوا حكمته وهدفه، وخاصة فيما لم يكن من التعبدات المحضة، ولا بد أن نعرف طبيعة عصرنا، وطبيعة الناس فيه، ونزيل الحرج من صدورهم ببيان حكمة الله فيما شرع، وبذلك يتقبَّلون الحكم راضين منشرحين، فمن كان مرتابًا ذهب رَيبُه، ومن كان مؤمنًا ازداد إيمانًا"[6].

وقال عن إحدى الخطوات المنهجية التي سلكها في بحثه "فقه الزكاة" من قبل: "لم أكتفِ ببيان الحكم الشرعي مجردًا في كل مسألة، بل عنيت بتفسير الحكمة من وراء تشريعه، والسر فيما أوجبه الشارع أو استحبه، أو نهى عنه أو أذن فيه، وهذا اقتداء بالشارع نفسه الذي عُني بتعليل الأحكام، وبيان مقاصدها ومنافعها للبشر أفرادًا وجماعات، ولم يكتفِ بالتكليف المجرد، والإلزام الصارم، اعتمادًا على التزام المكلفين - بحكم إيمانهم - بامتثال كل ما يصدر عن الشارع، عقَلوا حكمته أو لم يعقلوها، وإذا كان بيان الحكمة من التشريع أمرًا محمودًا على كل حال، فهو في عصرنا أمر لازم؛ لغلبة الأفكار المفسدة، والتيارات المضللة، والوافدة من الشرق والغرب، فلم يعد يكفي إصدار الحكم المجرد، وانتظار صيحات المكلفين بعده: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [البقرة: 285]"[7].




ويقول د.الريسوني - بحق -: "إننا اليوم في ظل التحديات الفكرية والثقافية والإعلامية التي تواجهنا وتحاصرنا أصبحنا أكثر اضطرارًا إلى أن نعرض على الناس ونشرح لهم مقاصد شريعتنا ومحاسن ديننا؛ فهذا هو الكفيل بإنصاف ديننا المفترى عليه، وإبرازه بما هو عليه، وما هو أهله، وهو الكفيل بدفع الشبهات، ورفع الإشكالات، وإقامة الحجة كاملة ناصعة؛ ليَهلِك من هلك عن بينة، ويحيا من حَيَّ عن بينة"[8].




إن معرفة مقاصد الشريعة "تعطي المسلم القناعة التامة والمناعة الكافية ضد الحرب الضروس التي تقام اليوم ضد الإسلام عن طريق الغزو الفكري والعقدي والتيارات المنحرفة، والدعوات البراقة، والأفكار الهدامة التي تطلق من هنا وهناك عبر وسائل الإعلام التي تنوعت وتعددت في عصرنا الحاضر، وأصبحت السلامة منها أمرًا متعذرًا، وليس هناك من وسيلة لمواجهتها إلا عبر تحصين المسلم عن طريق القناعة بهذا الدِّين، وبيان مقاصده، مما يعطي المسلم هذه الحصانة"[9].




ولقد بينا في فصل التأريخ أنه لا يخلو مجدِّد أو مصلِح من الاهتمام بالفكر المقاصدي، وأن الاهتمام بهذا الفكر يبرز في حالات الرغبة في النهضة والتجديد والحفاظ على الهوية ونشر الدعوة والإصلاح، وفي ضوء هذه الحقيقة نفهم ما رواه البيهقي عن إبراهيم بن عبدالرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يرِثُ هذا العلم من كل خلَف عدولُه؛ ينفُون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطِلين، وتحريف الغالين))[10].




قال المناوي: "وهذا إخبار منه بصيانة العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وأنه تعالى يوفق له في كل عصر خلقًا من العدول يحملونه، وينفون عنه التحريف، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر"[11].




ولا يتصور أن يكون هؤلاء الفضلاء الأخيار عدولًا ثم يخلون من فقه مقاصد الشريعة وإدراك غايات الرسالة؛ لأنهم لا يستطيعون رد تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين إلا بالتمكن من غايات الشريعة ومقاصد الرسالة، وهذا من وظائف المقاصد بكل مراتبها.




وحين يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108]، فمن معاني البصيرة في هذا السياق - والله أعلم بمراده - أن يكون متبصرًا بمقاصد الشريعة وغايات الرسالة، فيكون قوي الحجة ظاهر البرهان، فينقاد إليه الناس بما معه من حقائق ورسوخ وتبصر بما يدعو إليه، وهذا لا ينفك عن مقاصد الشريعة.




ولهذا يقرر العلامة ولي الله الدهلوي: أن علم الأسرار والحكم المقاصد "أحق العلوم بأن يصرف فيه من طاقة نفائس الأوقات، ويتخذه عدة لمعاده بعدما فرض عليه من الطاعات؛ إذ به يصير الإنسان على بصيرة فيما جاء به الشرع"[12].




وحين يقول أيضًا: ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17]، فإن الزَّبَد هو ما يطفو فوق سطح الماء، وهو إشارة إلى عدم الثبات والقوة والعمق، وهذا شبيه بالظاهرية في فهم النصوص التي ترفض التقصيد والتعليل، وتقف عند ظاهر النص دون سبر أغواره والوقوف على مقاصده وغاياته؛ ولهذا قال الدهلوي: "ومن عجز أن يعرف أن الأعمال معتبرة بالنيات...فإنه لم يمسه من العلم إلا كما يمس الإبرة من الماء حين تغمس في البحر وتخرج، وهو بأن يبكي على نفسه أحق من أن يعتد بقوله"[13].




لكن الراسخين في العلم المتعمقين في فهم الدين والفقه فيه فلا شك أن فقههم هو الذي ينفع الناس، ويمكث في الأرض، والآخر هو الذي يذهب جُفاءً كما يذهب زَبَد السيل.




وإذا كان كثير من الأصوليين احتجوا لمشروعية القياس بقوله تعالى: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2]، والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13]، ويقول: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]، ويقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]، ويقول: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [غافر: 53، 54]- فإنه يعني - والله أعلم بمراده - أن العبرة - وهي ما يعبر به الإنسان من الماضي إلى الحاضر والمستقبل - والآيات والهدى والذكرى لا تكون ولا ينتفع بها إلا أولو الأبصار والألباب، ولا يمكن أن نتصور أولي الألباب والأبصار إلا والفكر المقاصدي في القلب من تكوينهم وفكرهم ومنهجهم.




المطلب الثالث: الترشيد في مجال العمل الإسلامي:

من الوظائف العامة الهامة للمقاصد الجزئية أنها ترشِّدُ الحركة الإسلامية، وتعمل - إلى حد كبير - على وَحدة الأمة[14]، فضلًا عن العاملين في ساحة العمل الإسلامي، وتجعل جميع العاملين متفاهمين متفقين متعاونين، يعذِر بعضهم بعضًا في الفروع، ما كانت قائمة على أدلة معتبرة من الشرع.




وإذا كانت المقاصد عمومًا لعبت دورًا مشكورًا ومقدورًا في ساحة الاجتهاد الفقهي المعاصر، تأصيلًا وتنزيلًا، فإننا ندعو إلى أن تلعب دورًا أكبر في التقريب بين الدعوات المعاصرة ومناهجها المتنوعة؛ إذ إن هذا الدور لم يأخذ مداه حتى الآن، ولم تصدر نداءات تدعو إلى تفعيل المقاصد في التقريب والتوحيد بين الدعاة إلى الله تعالى.




إن معرفة مقاصد الشريعة تظهر أهميتها كذلك في "ترتيب الأولويات بالنسبة للداعية في الدعوة إلى الله تعالى؛ فيقدم الضروريات على الحاجيات، والحاجيات على التحسينيات، ويقدم ما فيه مصلحة عامة على ما فيه مصلحة خاصة، ويقدم الأهم على المهم، كما يحذر الناس من الضرر الأكثر خطورة قبل تحذيره لهم من الضرر الأقل خطورة، كما يخاطب كل أناس على حسب عقولهم، وبالخطاب الذي يناسب أفهامهم"[15].




ولا يخفى أن معظم الخلاف بين العاملين للإسلام يكون في فروع الدين وجزئياته؛ أي في الأحكام الفقهية العملية، ولو تفقه هؤلاء بمقاصد الأحكام الفرعية، وعلموا أنه متى اتضح المقصد فلا بأس من تعدد الصور وتنوعها - لزالت إشكالات كبيرة، وتوفرت طاقات هائلة، ونقلنا معاركنا إلى ساحاتها الحقيقية.




وإذا كانت المقاصد تقرب بين الفقهاء، وتقلل مساحات الخلاف، فلا يستغرب أن يكون لها دور فاعل في تقليل الخلاف بين العاملين والدعاة، والقضاء على الشغب في ساحة العمل للإسلام، وكما قال ابن عاشور: "إن أعظم ما يهم المتفقهين إيجاد ثلة من المقاصد القطعية؛ ليجعلوها أصلًا يصار إليه في الفقه والجدل"[16].




وسيظل العمل الإسلامي - رموزه وقواعده - في محنة كبيرة ما لم نتدارك هذا الأمر بنشر ثقافة المقاصد، وتمكين الوعي المقاصدي بينهم؛ لأن هذا ضمانة كبيرة لسلامة البدن الإسلامي، واستعادة العافية للدعوة الإسلامية بكل شرائحها وفصائلها، وأرجى لأن يحقق العمل الإسلامي مقاصده، ويصل لغاياته.




المطلب الرابع: التصحيح والمعيارية والتقييم:

ومن أهم الوظائف التي تثمرها رعاية المقاصد: وظائف التصحيح والمعيارية والتقييم والتقويم، وإذا كان المطلب الأول والثاني أقرب إلى إفادة المكلف، فإن هذا الفرع أقربُ إلى حسن التعامل مع التكليف نفسه.

فالمعرفة بمقاصد الأحكام الفرعية العملية هي صلب الفقه والفهم والاستيعاب والوضوح، وهذا الفهم والوضوح هو الذي يمكن المكلف من كل ما سبق.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20-02-2020, 12:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,059
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوظائف الدعوية لمقاصد الأحكام الفقهية



ولنضرب مثالًا في تصحيح المواقف وتقييمها وتقويمها بموقف هارون من موسى حين ترك القوم يعبدون العجل، ولنورد القصة كاملة من القرآن الكريم؛ قال تعالى: ï´؟ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ï´¾ [الأعراف: 148 - 151].




وقال - عز وجل - في مقام آخر موضحًا نهيَ هارون لهم عن اتخاذهم العجل، وأن ربهم الرحمن: ï´؟ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ï´¾ [طه: 90 - 94].




فانظر إلى نبي الله موسى - عليه السلام - حين علم وأتى ورأى قومه عاكفين على العجل يعبدونه من دون الله، ماذا فعل؟ رجع غضبان أسفًا، ونهر قومه وعنفهم في الخطاب: ï´؟ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ï´¾ [الأعراف: 150]، ولم يكتفِ بذلك، بل ألقى الألواح - وهي المقدسة التي فيها التوراة - وأخذ برأس أخيه ولحيته يجره إليه!




وما ذلك إلا لأن موسى - عليه السلام - لم يعرف من هارون أهدافه ومقاصده من هذا الفعل، فلما شرح له هارون - عليه السلام - وجه فعله ومقصد تصرفه من أن القوم استضعفوه، وكادوا يقتلونه، وبيَّن له خشيته من أن يقول له موسى: ï´؟ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ï´¾ [طه: 94] - حين وضَّح له هارون هذه المقاصد، وكشف له هذه الغايات: ï´؟ سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ï´¾ [الأعراف: 154] وï´؟ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ï´¾ [الأعراف: 154]، وقال: ï´؟ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ï´¾ [الأعراف: 151].




ومثال آخر من السنة النبوية، وهو حديث الأنصار والمهاجرين، الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: "لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريشٍ وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيءٌ، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت؛ قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيءٌ، قال: ((فأين أنت من ذلك يا سعد؟))، قال: يا رسول الله، ما أنا إلا امرؤٌ من قومي، وما أنا، قال: ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة))، قال: فخرج سعدٌ، فجمع الناس في تلك الحظيرة، قال: فجاء رجالٌ من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعدٌ، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمِد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهلٌ، ثم قال: ((يا معشر الأنصار، ما قالةٌ بلغتني عنكم، وجدةٌ وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلَّالًا فهداكم الله، وعالةً فأغناكم الله، وأعداءً فألَّف الله بين قلوبكم؟!))، قالوا: بل الله ورسوله أمَنُّ وأفضل، قال: ((ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟))، قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله ولله ولرسوله المنُّ والفضل؟ قال: ((أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدَقْتُم وصُدِّقْتُم: أتيتَنا مكذَّبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فأغنيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لُعاعةٍ من الدنيا تألَّفتُ بها قومًا ليسلِموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمدٍ بيده، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعبًا وسلكت الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار))، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قِسمًا وحظًّا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرَّقنا"[17].




هذا مثال يبين مدى ما يمكن أن يصل إليه المسلم حين لا يعلم مقصد الحكم أو غاية التصرف، حتى وصل بالبعض الحال إلى أن يقول: "لقي رسولُ الله قومَه"، وهي قالة قد تقدح في إيمان المسلم.




فلما جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وبيَّن لهم مقصد تصرفه، وهو أنه يتألف بالعطايا - وهي لعاعة من الدنيا - قومًا ليسلِموا، ووكل الأنصار إلى إيمانهم - بكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وطابت نفوسهم، ورضوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قِسمًا وحظا، فضلًا عن أن الطريقة التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف تعبر عن منهجية فريدة في التربية.




يقول د.الريسوني معلقًا على ذلك في سياق مقاصدي معبر: "فهؤلاء الأنصار الفضلاء الأخيار حين لم يدركوا مغزى ما فعله رسول الله استاؤوا وتشوشوا، وحين بيَّن لهم صلى الله عليه وسلم مقاصده ومراميه انشرحوا ورضوا واطمأنوا، ولقد كان من الممكن أن يقال لهم: هذا حكم الله ورسوله، فارضَوْا به وسلِّموا تسليمًا، وليس لكم أن تتقدموا ولا أن تتكلموا، وهذا كلام صحيح لا غبار عليه، ولكن حين يكون معززًا ببيان المقاصد والحِكم، ولا سيما في موارد الاستشكال والالتباس، يكون أصح وأتم، ويكون التصرف اللازم أنسب وأسلم"[18].




إذًا فمعرفة المقصد من الحِكم أو الغاية من التصرف تصحح المواقف، وتعدل التصورات، وتطمئن النفوس، وتطيب الخواطر، وتقوِّم المسار، وتنزع فتيل الفتنة - والفتنة أشد وأكبر من القتل! - وبغير معرفة المقصد ووضوحه يَضِلُّ الإنسان، ويقع في مهاوي الهلاك، وأكل لحوم الناس، ويأخذ ما ليس له، ويترك ما هو له، بل يقترف ما قد يقدح في معتقده وإيمانه، فيَضِلُّ ضلالًا بعيدًا.




وهذا يبين لنا أن استحضار المقصد قبل العمل وأثناءه وبعده يُعَدُّ - بلا شك - معيارًا يقيس مدى صحة العمل من خطئه، ومدى نجاحه من فشله، ومدى ما حققه من إنجاز ونفع، كما أننا يمكن أن نقيم أعمالنا وممارساتنا وتصرفاتنا في ضوء المقصد منها؛ فالمقاصد عمومًا - والجزئية منها خصوصًا - تضبط السلوك وتقيمه، كما أنها تصححه وتقومه.




المطلب الخامس: توسيع الوسائل وتجديدها:

وهذه واحدة من أهم الوظائف التي تؤديها المقاصد الجزئية، وهي أننا متى ظهر المقصد واتضح فلا يَضِيرنا بأي الوسائل أقمناه، متى كانت الوسيلة مشروعة، غير عائدة على المقصد بالإبطال.




وهذه الوظيفة أو ذلك الأثر تصدُقُ المقاصدُ فيه على مجالات لا حصر لها، تتجاوز المجال الأصولي والفقهي إلى مجالات العلوم كافة، بل مجالات الحياة جميعًا، وكذلك تصدق وسائلها على المجالات نفسها، وليس الأمر محصورًا في الأصول، أو مقصورًا على الفقه والفتوى فحسب.




وهذا من مقومات صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وخلودها وعمومها، يقول ابن عاشور: "معنى صلوحية شريعة الإسلام لكل زمان: أن تكون أحكامها كلياتٍ ومعانيَ مشتملةً على حكم ومصالح صالحة لأن تتفرع منها أحكامٌ مختلفة الصور متحدة المقصد"[19].




وربما يختلف الأمر في العبادات عن غيرها، فوسائل العبادات لا بد من الإتيان بها على وجهها كما شرعها الله تعالى، أما في غير العبادات فإن الأمر مختلف، فلا يكاد يوجد حكم فيها واضح المقصد إلا وتتعدد وتتنوع صوره ووسائله.

ولا يعني هذا أن الأمر في العبادات هكذا بإطلاق، وإنما هناك من وسائل العبادات ما يتنوع صوره أو وسائله.




وإذا كانت المقاصد ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، فإن الوسائل تمثل عنصر المرونة والتغير والسَّعة في الشريعة الإسلامية لاستيعاب المستجدات، واحتضان التطورات، وتحقيق الغايات.




وأحوج من يحتاج إلى فقه الوسائل هم الدعاة إلى الله تعالى؛ إذ إن الدعوة مجال خصب ورحب، ويحتاج إلى مرونة في المواقف والوسائل، وإلى سَعة أفق، وبخاصة في عصرنا الذي أصبحت سمته التعقيد والتضييق والتشابك.




ولقد سلك سيدنا نوح - عليه السلام - وسائل متعددة ومتنوعة لتحقيق مقصده، وهو تبليغ الرسالة مع عناد قومه وإصرارهم على رفض الدعوة: ï´؟ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ï´¾ [نوح: 5 - 12].




ونحن نعلم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من تنوع الوسائل وتعددها وتجددها وسَعتها ما لا نعلمه عن نبي مع قومه، ولا رسول مع رسالته، والمطالع لسيرته الشريفة لا يخطئه هذا المعنى في مراحلها جميعًا[20].




ولا تقلُّ حاجة الفقه عن حاجة الدعوة في هذا المعنى، وبخاصة في مجال السياسة الشرعية[21]، الذي يحكمه "فقه المصالح والمفاسد" بما يحقق مقاصد الشريعة ومصالح الناس، وفي ظل هذا الفقه تتجلى البراعة في استخدام الوسائل وتنوعها وتجددها لتحقيق الأهداف والغايات، وليس هناك باب أرحب في الفقه الإسلامي من باب السياسة الشرعية؛ لابتنائه وقيامه على فقه المصالح والمفاسد، وسَعة منطقة العفو فيه.




فلو ضربنا مثلًا في هذا السياق باختيار الحاكم، فليس بالضرورة أن يتم اختياره كما تم اختيار الخليفة الأول أبي بكر - رضي الله عنه - في سقيفة بني ساعدة، ولكن يمكن أن يتعدد ويتنوع شكل اختيار الحاكم؛ كالأشكال التي نراها في عصرنا من خلال صناديق الاقتراع، والمهم في هذا أن تتحقق الشورى، وأن يختار الناس حكامهم بكامل إرادتهم وتمام حريتهم؛ ليكون الاختيار صحيحًا تترتب عليه آثاره، وتتحقق به مقتضياته.




ولا مانع كذلك من تعدد وتنوع شكل الحكم نفسه، كما يتنوع ويتعدد في بلاد الغرب، المهم أن يتحقق المقصد من قيام الحكام والحكومات، وهو حراسة الدين وسياسة الدنيا به.




وإذا كانت المقاصد تعمل على تجديد الوسائل وتنويعها، فإنها أيضًا تفيد في اختيار أنسب الوسائل لتحقيق مقصود الشرع، كما تعمل على هدايتنا للواجب منها والمندوب والمباح؛ نظرًا لأن للوسائل حكم المقاصد.




وهكذا فإننا نجد أن وضوح المقصد ووجوده وظهوره يعود على الوسائل بالمرونة والتجدد والتنوع، ويعمل على اختيار أنسبها وأصلحها، وأوفقها حكمًا للمقصود، وفي هذا من العمل على سعة الفقه الإسلامي ومرونته واستيعابه ما لا يمكن معه أن تَنِدَّ حادثة من مستجدات العصور بعيدًا عن مظلة الشريعة.




تبيَّن لنا من خلال هذا الفصل الأهمية البالغة لمقاصد الأحكام الجزئية، وأن وظائفها متنوعة ومتعددة، وأن الآثار المترتبة على العمل بها كثيرة، وربما لو دققنا النظر وأمعنا الفكر لاستخرجنا وظائف أخرى متنوعة غير ما أوردناه، تتوزعها المجالات المختلفة، الأصولية والفقهية والتربوية والاجتماعية والدعوية والسياسية والقانونية، وغيرها من المجالات، ولعل فيما سبق ما يعطي الطريقة والمنهجية التي يمكن أن نستنبط بها وظائف أخرى، والله أعلم.





[1] مقاصد الشريعة إطارًا ووسيلة للإصلاح والتجديد في المجتمعات الإسلامية، د. أمين حسن عمر، ضمن الندوة العالمية عن الفقه الإسلامي وأصوله وتحديات القرن الواحد والعشرين، مقاصد الشريعة وسبل تحقيقها في المجتمعات المعاصرة: 1/ 464، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، كوالالمبور، (14 - 16 رجب 1427هـ - 8 - 10 أغسطس 2006م).




[2] انظر حجة الله البالغة: 1/ 8، طبعة دار التراث.




[3] انظر: الأبعاد الإنسانية للمقاصد الإسلامية، د. إبراهيم أحمد مهنا، ضمن الندوة العالمية عن الفقه الإسلامي وأصوله وتحديات القرن الواحد والعشرين، مقاصد الشريعة وسبل تحقيقها في المجتمعات المعاصرة: 1/ 525 - 541، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، كوالالمبور، (14 - 16 رجب 1427هـ - 8 - 10 أغسطس 2006م).




[4] السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون: 2/ 31، علي بن برهان الدين الحلبي، (المتوفى: 1044هـ)، دار المعرفة، بيروت .1400هـ.




[5] الفكر المقاصدي عند الإمام مالك وعلاقته بالمناظرات الأصولية والفقهية في القرن الثاني الهجري: 591 - 679.




[6] فتاوى معاصرة: 1/ 16 - 17، وعقب الشيخ في نفس الموضع على قوله تعقيبًا مهمًّا فقال: "ومع هذا لا بد أن نؤكد للناس: أن من حق الله تعالى أن يكلف عباده ما شاء، بحكم ربوبيته لهم، وعبوديتهم له؛ فهو وحده له الأمر، كما له الخلق؛ولهذا لا بد أن يطيعوه فيما أمر، ويصدقوه فيما أخبر، وإن لم يدركوا علة أمره، أو كُنْهَ خبره، وعليهم أن يقولوا في الأول: ï´؟ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ï´¾ [البقرة: 285]، وفي الثاني: ï´؟ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ï´¾ [آل عمران: 7]، إن الله لا يأمر بشيء، ولا ينهى عن شيء، إلا لحكمة، هذه قضية ثابتة جازمة، ولكن لسنا دائمًا قادرين على أن نتبين حكمة الله بالتفصيل، وهذا مقتضى الابتلاء الذي قام عليه أمر التكليف، بل أمرُ الإنسان؛ ï´؟ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ï´¾ [الإنسان: 2].




[7] فقه الزكاة: 1/ 21، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثامنة، 1405هـ/ 1985م.




[8] مدخل إلى مقاصد الشريعة: 19، د. أحمد الريسوني، دار الأمان بالرباط، ودار السلام بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1431هـ/ 2010م.




[9] مقاصد الشريعة وأثرها في الإصلاح والتشريع ووحدة الأمة، د. عبدالله الزير، ضمن الندوة العالمية عن الفقه الإسلامي وأصوله وتحديات القرن الواحد والعشرين، مقاصد الشريعة وسبل تحقيقها في المجتمعات المعاصرة: 1/ 572، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، كوالالمبور، (14 - 16 رجب 1427هـ - 8 - 10 أغسطس 2006م)، وراجع: الدليل الإرشادي إلى مقاصد الشريعة الإسلامية: 2/ 11 - 12.




[10] سنن البيهقي الكبرى: كتاب الشهادات، باب: باب الرجل من أهل الفقه يسأل عن الرجل من أهل الحديث فيقول: كفوا عن حديثه؛ لأنه يغلط أو يحدث بما لم يسمع، أو أنه لا يبصر الفتيا، رقم (20700)، راجع سنن البيهقي الكبرى: 10/ 209، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى، أبو بكر البيهقي، تحقيق: محمد عبدالقادر عطا، مكتبة دار الباز، مكة المكرمة، 1414هـ/ 1994م، ورواه الطبراني في مسند الشاميين عن أبي هريرة، رقم (599)، انظر مسند الشاميين: 1/ 344، سليمان بن أحمد بن أيوب، أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ/ 1984م.




[11] فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير: 6/ 514، للعلامة محمد عبدالرؤوف المناوي، ضبطه وصححه أحمد عبدالسلام، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1415هـ/ 1994م.




[12] حجة الله البالغة: 1/ 3.




[13] حجة الله البالغة: 1/ 5.




[14] راجع: تحقيق وحدة الأمة الإسلامية وفق المقاصد الشرعية، د. عبدالرحمن بن جميل بن عبدالرحمن، ضمن الندوة العالمية عن الفقه الإسلامي وأصوله وتحديات القرن الواحد والعشرين، مقاصد الشريعة وسبل تحقيقها في المجتمعات المعاصرة: 1/ 474 - 487، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، كوالالمبور، (14 - 16 رجب 1427هـ - 8 - 10 أغسطس 2006م)، وانظر أيضًا: مقاصد التشريع في القرآن الكريم ودورها في توحيد الأمة الإسلامية، د. إحسان موسى حسن الربيعي، نفس المصدر: 1/ 488 - 502.




[15] مقاصد الشريعة وأثرها في الإصلاح والتشريع ووحدة الأمة، د. عبدالله الزير، ضمن الندوة العالمية عن الفقه الإسلامي وأصوله وتحديات القرن الواحد والعشرين، مقاصد الشريعة وسبل تحقيقها في المجتمعات المعاصرة: 1/ 573، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، كوالالمبور، (14 - 16 رجب 1427هـ - 8 - 10 أغسطس 2006م).




[16] مقاصد الشريعة: 37،




[17] مسند الإمام أحمد: مسند أبي سعيد الخدري، رقم (11748)، 3/ 76، مؤسسة قرطبة، القاهرة، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.




[18] مدخل إلى مقاصد الشريعة: 18 - 19.




[19] مقاصد الشريعة: 92، طبعة دار السلام.




[20] راجع في هذا المعنى: الفكر المقاصدي للريسوني: 104، وقد ضرب مثالًا على الوسائل بالديموقراطية.




[21] انظر: دور مقاصد الشريعة في السياسة الشرعية منهجًا وممارسة، رحيمة بن حمو، مخبر الدراسات الشرعية، جامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، الجزائر، العدد الرابع: 2/ 600 - 615، صفر 1426هـ/ مارس 2005، وانظر: دور الاجتهاد المقاصدي في السياسة الشرعية، د. أم نائل بركاني، ضمن الندوة العالمية عن الفقه الإسلامي وأصوله وتحديات القرن الواحد والعشرين، مقاصد الشريعة وسبل تحقيقها في المجتمعات المعاصرة: 1/ 474 - 487، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، كوالالمبور، (14 - 16 رجب 1427هـ - 8 - 10 أغسطس 2006م)، وعلاقة مقاصد الشريعة بعلم السياسة الشرعية، د. خالد بن إبراهيم بن محمد الحصين، نفس المرجع.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 104.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 102.78 كيلو بايت... تم توفير 2.12 كيلو بايت...بمعدل (2.02%)]