يعجبه الثفل صلى الله عليه وسلم: نظرة حديثية تحليلية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         ماذا يأكل المسلمون حول العالم؟ استكشف سفرة عيد الأضحى من مصر إلى كينيا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          طريقة عمل الفتة بخطوات سريعة.. الطبق الرسمى على سفرة عيد الأضحى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          مقاصد الحج (ليشهدوا منافع لهم) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          آللَّهِ ما أَجْلَسَكُمْ إلَّا ذَاكَ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          أحكام وفضائل يوم النحر وأيام التشريق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          أحكام الأضحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          الحوار آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          خطبة الأضحى 1445 هـ: الكلمة مغنم أو مغرم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          خطبة عيد الأضحى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23-05-2024, 01:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,519
الدولة : Egypt
افتراضي يعجبه الثفل صلى الله عليه وسلم: نظرة حديثية تحليلية

يعجبه الثُّفْل صلى الله عليه وسلم: نظرة حديثية تحليلية

أ. د. فهمي أحمد عبدالرحمن القزاز
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فالسنة هي: الجنة الحصينة لمن تدرعها، والشرعة المنيعة لمن تشرعها، وردها صافٍ، وظِلُّها ضافٍ، وبيانها وافٍ، وبرهانها شافٍ، وهي الكافلة بالاستقامة، والكافية في السلامة، والسلم إلى درجات دار المقامة، والوسيلة إلى الموافاة بصنوف الكرامة، قدوة المتنسِّك، وعروة المتمسِّك، وبحر البحث وعلم العلم، ومعدن الجواهر السنية، ومنبع الآداب الدنيوية، حافظها محفوظ، وملاحظها ملحوظ، والمقتدي بها على صراط مستقيم، والمهتدي بمعالمها صائر إلى محل النعيم المقيم، أهَّل الله لخدمتها خواصَّ خلقه، وسهل عليهم في طلبها متوعر طرقه؛ فمنهم من حملها واقتصر، ومنهم من هز أفنانها فاجتنى الثمر لما هصر.

فمن ثم كان من الحقوق الواجب نشرها على الناس قاطبةً، يحملها الآخذ إلى الغالب، ويبلغها الشاهد إلى الغائب... فوظيفة الحامل غير العالم بها أن يؤديها إلى أهلها بالوفاء والتسليم، ووظيفة الحامل الحاذق أن يؤديها إلى من عساه أحذق منه في الفهم والتفهيم، وليحذر أن يحجب عن المزيد باعتقاد أنه ذلك العظيم، ففوق كل ذي علم عليم [1].

ومن هذا المنطلق وهذا الوصف الشريف للسنة النبوية، فإن من شمائله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعجبه أنواع من الطعام دون غيرها، كما ذكر ذلك أهل التصانيف الخاصة بالشمائل؛ ومنها أنه كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الثفل وهو ما اختلف العلماء والأفاضل في تفسيره، فأحببت توضيح ذلك محبة بسيد الأنام والمرسلين للتأسي والاقتداء به، ومعلوم أن هذه من العادات التي يُثاب فاعلها بنية الاقتداء به صلى الله عليه وسلم لا بذات الفعل، ومن أحَبَّ شيئًا تعلَّق به، وسرى في وجدانه وروحه، وفاض ذلك على جوارحه، وهذا هو سمت المحبين من الصحابة والتابعين ومن تبعهمإلى يوم الدين، فأقول:
أخرج الإمام أحمد [2] والترمذي في الشمائل [3]، وأبو الشيخ [4]، والحاكم [5] والبيهقي [6] والضياء المقدسي [7] والبغوي[8] عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الثُّفْل".

وأخرجه ابن سعد في الطبقات بزيادة: الثُّفْل: يعني الثريد[9].

و"الثُّفْل": بضم المثلثة ويكسر، وسكون الفاء. والضم في الثاء أفصح[10].

الحكم على الحديث:
قال المناوي: إسناده جيد[11].

واختلف العلماء في تفسير معنى: "الثُّفْل" على أقوال:
الأول هو: الثريد، وهو ما يوافق زيادة ابن سعد...وهو أيضًا ما ذهب إليه ابن خزيمة فيما أسنده عنه الحاكم[12] والبيهقي[13]. وتبويب البغوي يشهد له، فقال: "باب الثريد والتلبينة"[14]، وهو ما مال إليه ابن الأثير[15].


الثاني هو: باقي المرق؛ قال عباد بن العوام-أحد رواة الحديث -يعني: ثفل المرق[16].

والثالث: هو الدقيق، وما لا يشرب؛ وهو ما نقله البيهقي عن بعض العلماء فقال: هو الدقيق، وما لا يشرب..."[17].

والرابع هو: ما بقي من الطعام عمومًا: وهو ما نقله الترمذي عن شيخه الدارمي -عبدالله بنعبدالرحمن -قوله: "الثُّفْل" يعني: ما بقي من الطعام[18]، وهو ما نقله ابن الأثير عنه[19].

وأقول: لا تضاد بين الأقوال المذكورة آنفًا؛ فالثُّفْل في أصل اللغة: ما يرسب من كل شيء من الأطعمة وغيرها، وفي هذا الموضع يشمل كل ما بقي من الأطعمة من الثريد والسويق والدقيق والمرق وأي طعام فيه شيء من الحبوب ونحوه مما يقتات به من المطبوخ مما يلتصق بالقِدْر، ويبقى في آخر الوعاء، وهو المشهور عند أهل الحديث، والمسموع من أفواههم، وما نقل عنهم غير ذلك فهو داخل بهذا المعنى والمغزى، وهذا ما ذهب إليه المظهر ورجحه القاري وغيرهما ممن سبقهما من العلماء وإن لم يصرحوا بذلك كما صرحا به وإليك التفصيل:
قال أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت 224هـ): و"الثُّفْل" الذي يكون أسفل اللبن هو الخلوص [20].

وقال الزمخشري (ت 538 هـ): الثُّفْل: ما رسب تحت الشيء من خثورة وكدرة؛ كثفل الزيت والعصير والمرق...ثم قيل لكل ما لا يشرب كالخبز ونحوه: ثفل[21].

وقال أبو العباس، محب الدين الطبري (ت 694 هـ): يعني ما بقي من الطعام[22].

وقال حسام الدين السغناقي (ت 711 هـ): (الثُّفْل) ما يسفل من كل شيء؛ أي: يرسب[23].

وقال المظهري (727 هـ)الثُّفْل) وهو: ما يلصق من المطبوخ بأسفل القِدْر، يقال له القدرة[24].

وقال الطيبي (743هـ): (الثُّفْل) هو في الأصل ما يرسب من كل شيء...قال في الحديبية: ((من كان معه ثفل فليصطنع)) أراد بالثفل الدقيق والسويق ونحوهما... وقيل: الثفل هنا: الثريد، وأنشد:
يحلف بالله وإن لم يسأل
ما ذاق ثُفْلًا منذ عام أول[25]




وقال ابن مفلح (ت 763هـ): والثفل: ما يثقل من كل شيء[26].

وقال الفيروزآبادي (ت 817هـ): والثافل: ما استقر تحت الشيء من كدرة[27].

وقال ابن الملك (ت 854 هـ): وهو ما رسب من الطعام في أسفل القصعة، وقيل: ما بقي في أسفل القدر والتصق فيها[28].

وقال ابن حجر الهيتمي(ت 974هـ): وأصل الثفل ما يرسب من كل شيء، وقد يطلق على نحو الدقيق والسويق[29].

وقال علي القاري: وهو في الأصل: ما يرسب من كل شيء أو يبقى بعد العصر، وفسر في الحديث بالثريد، وبما يقتات، وبما يلتصق بالقِدْر، وبطعام فيه شيء من الحبوب والدقيق، ونحوه مما بقي في آخر الوعاء.

قال المظهر: أي بما بقي في القدر، وهو المشهور عند أهل الحديث والمسموع من أفواه المشايخ.


وقال زين العرب[30]: أي ما بقي في القصعة....

والأظهر قول المظهر؛ لأنه يجمع المعاني السابقة[31].
قلت: وهذا ما نفهمه من حديث وفد عبد قيس؛ إذ سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمهم أنهم يصيبون ويشربون من أسفل الأسقية وهو نهاية الشراب المترسب في هذه الأنواع من الأسقية؛ فعن قيس بن حبتر، قال: سألت ابن عباس عن الجر الأبيض، والجر الأخضر، والجر الأحمر؟ فقال: إن أول من سأل النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس، فقالوا: إنا نصيب من الثفل، فأي الأسقية؟ فقال: «لا تشربوا في الدباء، والمزفت، والنقير، والحنتم، واشربوا في الأسقية»[32].

وهذا الذي ذهبنا إليه مقتضى كلام الفقهاء؛ فنقل ابن الأثير عن الإمام الشافعي تقييده بما بقي من الأقوات دون غيره؛ فقال: ومنه كلام الشافعي رضي الله عنه «قال: وبين في سنته صلى الله عليه وسلم أن زكاة الفطر من الثُّفْل مما يقتات الرجل وما فيه الزكاة».

وعلق عليه بقوله: وإنما سمي ثُفْلًا؛ لأنه من الأقوات التي يكون لها ثفل، بخلاف المائعات[33].

وقال البغوي: ومعنى قوله: «إنما الرضاعة من المجاعة»؛ أي: الرضاعة التي تثبت بها الحرمة ما يكون في الصغر حين يكون الرضيع طفلًا يسد اللبن جوعته، فأما ما كان بعد بلوغ الصبي حدًّا لا يسد اللبن جوعته، ولا يشبعه إلا الحب وما في معناه من الثُّفْل، فلا تثبت به الحرمة[34].

وقال النووي: (...أو لما حوى من الرقة واللطافة التي لا توجد في غيره، بدليل أنه لا يرسب للصافي منه ثفل بإغلائه، بخلاف الصافي من غيره.

قال الرملي: (قوله: ثفل بإغلائه) الثُّفل بضم المثلثة: ما سفل من كل شيء[35].

وألمح الكمال ابن الهمام (861 هـ) إلى هذا المعنى وهو يقيده بما بقي من الشيء فقال: (والجوز بدهنه، واللبن بسمنه، والعنب بعصيره، والتمر بدبسه على هذا الاعتبار) يعني إن كان الدهن المفرد والسمن والدبس أكثر مما يخرج من الجوز واللبن والتمر جاز، وقد علمت تقييده بما إذا كان الثفل له قيمة، وأظن أن لا قيمة لثُفْل الجوز إلا أن يكون بيع بقشره فيوقد، وكذا العنب لا قيمة لثفله فلا تشترط زيادة العصير على ما يخرج[36].

قلت: وبما نقلنا من كلام الأفاضل كفاية في بيان المقصود بما ذهبنا إليه، والله أعلم بالصواب.


ومما ينبغي الإشارة اليه أن ابن حجر الهيتمي بين سبب ذكر الترمذي قول شيخه الدارمي في تفسيره للثفل فقال: وفيه ما فيه؛ بل في تعبيره بالثُّفْل ما قد يخشى منه؛ إذ في القاموس: الثُّفْل ما استقرضت الشيء من كدره، وكأنه هذا هو الحاصل على تفسير الراوي، إنما ذكر هكذا من أن يتوهم منه أيضًا لهذا المعنى غير المراد[37].

وأما بيان الحكمة من إعجابه صلى الله عليه وسلم بالثُّفْل، فقال علي القاري: ويقال: في وجه إعجابه ما بقي في القدر أنه أقل دهانةً، فيكون أسرع انهضامًا.

وقيل: لأنه يجمع طعومًا في القدر فيكون ألذَّ، ولما تقرر أن دأبه صلى الله عليه وسلم الإيثار، وملاحظة الغير من الأهل والعيال والضيفان، وأرباب الحوائج، وتقديمهم على نفسه لا جرم كان يصرف الطعام الواقع في أعالي القِدْر والظروف إليهم، ويختار لخاصته ما بقي منه في الأسافل رعايةً لسلوك سبيل التواضع، وكثير من أغبياء الأغنياء يتكبرون ويأنفون من أكل الثُّفْل، ويصبونه، والله تعالى جعل بجميل حكمته في جميع أقواله وأفعاله وأحواله صلى الله عليه وسلم صنوف اللطائف، وألوف المعارف والظرائف، فطوبى لمن عرف قدره، واقتفى أثره، والله الموفق[38].

وقال في موضع آخر: وفيه إشارة إلى تواضُع، وإيماء إلى القناعة، وإشعار إلى قوله صلى الله عليه وسلم برواية الترمذي وغيره: «ساقي القوم آخِرُهم شربًا»[39].

وأما عن بيان الحكمة من إخراج الترمذي لهذا الحديث وجعله آخر حديث في "باب ما جاء في صفة إدام رسول الله صلى الله عليه وسلم" في كتابه الشمائل.

فقال ابن حجر الهيتمي: لقد أعجب المصنف بختمه بهذا الحديث إشارةً إلى أنه نقل الأحاديث وما بقي منها انتهى [40].

وقال علي القاري بعد ما نقل قول الهيتمي: الأظهر أن يقال في إيراد هذا الحديث المشتمل آخره على ما بقي من الطعام صنعة حسن المقطع، ختمًا للباب، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب[41].

ومما ينبغي أن يعلم في هذا المقام أن إعجابه صلى الله عليه وسلم بالثُّفْل، وهو ما يطلق عليه في زماننا –الحكاكة[42]- لم يكن منقولًا من قولهصلى الله عليه وسلم وإنما هو من نقل سيدنا أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا النقل لا يتأتَّى تصوُّره من مرة أو مرتين، وإنما هو من متابعته رضي الله عنه لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وميله ومحبته وإعجابه بأنواع من الطعام دون غيره.

فالتكرار لهذا الفعل هو ما شكل هذا التصوُّر عند سيدنا أنس؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم؛ في رواية أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه»"[43]، ولكن سيدنا أنس لاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل من أسفل القِدْر وليس من أعلاه بعد أن يطعم غيره من أعالي القدر أو مما يجده في بيوتاته صلى الله عليه وسلم في القدر؛ فلذلك نقله بأمانة ومحبة لسائر الأمة المتبعة، وفي هذا النقل دليل على التكرار أكثر من مرة مما ولد قناعة لدى سيدنا أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الثُّفْل، وفي هذا النقل تعليم للأمة وإرشادهم إلى ما يحبه صلى الله عليه وسلم، وهو رسالة واضحة للأمة المقتدية والمتبعة لرسول اللهصلى الله عليه وسلم أن يحذو كلٌّ منهم حذوه في هذا المزاج وهذا الميل، وإلا لما نقله رضي الله عنه وأرضاه، ولا يخفى على ذي لُبٍّ أن الاقتداء هنا صاحبه مأجور بنية الاقتداء، لا بذات الفعل كما هو مقرر عند علماء الأصول، فهي من العادات لا العبادات التي لم تقترن ببيان فضلها على غيرها، ففاعلها مأجور بالنية وهي حسبه، ونبراسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه ذلك، والله أعلم بالصواب.

وفي الختام أدعو الأحبة الكرام ممن يحبون أن يأكلوا ما بقي من الطعام أسفل القِدْر ويعدونه خلاصة الطعام، أو يحبونه فطرةً وذوقًا أن يقرنوا النية مع ذلك بالاقتداء بسيد الأنام لحبه لهذا الطعام فستتحول عادتهم إلى عبادة بهذه النية، ويؤجرون عليها، وأدعو من لا يحب ذلك ولا يعجبه أن يطوع نفسه على محبته لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ولهم في راوي الحديث سيدنا أنس قدوة في ذلك؛ فعن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه، يقول: إن خياطًا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس بن مالك: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام، فقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزًا ومرقًا، فيه دباء وقديد، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم «يتتبع الدباء من حوالي القصعة»، قال: «فلم أزل أحب الدباء من يومئذ»[44].

قال ابن عبدالبر: ومن صريح الإيمان حب ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه واتِّباع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، ألا ترى إلى قول أنس: "فلم أزل أحب الدباء بعد ذلك اليوم"[45].

ومن هنا أخال أن حب الثُّفْل-ما بقي من الطعام في القِدْر-قد أثر في نفس الفاروق عمر فكان يعجبه أيضًا، وهو ما نقله عنه راوي الحديث سيدنا أنس فقال: كان أحبَّ الطعامإلى عمر الثُّفْل وأحب الشراب إليه النبيذ[46].
فائدة نفيسة:
قال الإمام الطحاوي: (وإن ما في حديث أنس بن مالك من أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ما يليه من القصعة التي كان يأكل فيها إنما كان لأكله وحده، فخرج بذلك جميع ما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب عن التضاد وعقلنا أنه على معنيين، كل واحد منهما خلاف المعنى الآخر، والله نسأله التوفيق)[47].

قلت: ويؤيد ذلك ما ذهب إليه الطحاوي رحمه الله في رواية البخاري عن أنس قال: دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على غلام له خياط، فقدم إليه قصعةً فيها ثريد، قال: وأقبل على عمله، قال: «فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتتبَّع الدباء» قال: فجعلت أتتبعه فأضعه بين يديه، قال: فما زلت بعد أُحِبَّ الدباء[48].

فقوله: "وأقبل على عمله" دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل من القصعة بمفرده، وأن صاحب الدعوة قدم القصعة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف إلى عمله، وهذا هو دليل الجواز، وهذا من أدب هذا الخياط مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأكل معه مخافة أن تقع يده على شيء يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتسبق يده إليه، والله أعلم بالصواب. وهذا الخياط لم يُعرَف اسمه كما صرَّح بذلك الشُّرَّاح، وبقي ذكره وفعله وأدبه مخلدًا، فرضي الله عنه وأرضاه. ومن هذا الكثير من فعل الأصحاب وأدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطعام كما أخرج الإمام أحمد من حديث جابر لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته فقال: «يا جابر، ائتني بطهور» فلم يفرغ من طهوره حتى وضعت العناق عنده، فنظر إليَّ فقال: «كأنك قد علمت حبنا للحم، ادْعُ لي أبا بكر» قال: ثم دعا حوارييه الذين معه فدخلوا، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه وقال: «بسم الله كلوا»، فأكلوا حتى شبعوا، وفضل لحم منها كثير، قال: والله، إن مجلس بني سلمة لينظرون إليه، وهو أحب إليهم من أعينهم، ما يقربه رجل منهم مخافة أن يؤذوه..."[49].

وقال ابن بطال: (وفيه: أن المؤاكل لأهله وخدمه مباح له أن يتبع شهوته حيث رآها إذا علم أن ذلك لا يكره منه، وإذا لم يعلم ذلك فلا يأكل إلا مما يليه، وقد سُئل مالك عن هذه المسألة، فأجاب بهذا الجواب)[50].

وقال ابن عبدالبر: (وفي هذا الحديث أيضًا إباحة إجالة اليد في الصحفة، وهذا عند أهل العلم على وجهين؛ أحدهما: أن ذلك لا يحسن ولا يجمل إلا بالرئيس ورب البيت. والآخر: أن المرق والإدام وسائر الطعام إذا كان فيه نوعان أو أنواع فلا بأس أن تجول اليد فيه للتخير مما وضع في المائدة والصحفة من صنوف الطعام؛ لأنه لذلك قدم ليأكل كل ما أراد، وهذا كله مأخوذ من هذا الحديث، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جالت يده في الصحفة يتبع الدباء، فكذلك سائر الرؤساء، ولما كان في الصحفة نوعان وهما اللحم والدباء حسن بالآكل أن تجول يده فيما اشتهى من ذلك بدليل هذا الحديث، ولا يجوز ذلك على غير هذين الوجهين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة[51]: "سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك"، وإنما أمره أن يأكل مما يليه؛ لأن الطعام كله كان نوعًا واحدًا، والله أعلم) [52].

قلت: ليس هذا فحسب وإنما كانت القصعة واحدةً وليست متعددةً؛ وعليه أقول: في زماننا عند تعدد المواعين والآنية التي يوضع فيها ألوان الطعام المتنوعة في المائدة الواحدة لا بأس من التخيير منها، ولا سيَّما إذا انفرد صاحبها بماعون خاص يجمع فيه الأطايب المتنوعة فلا يدخل في النهي في هذه الحالة، والله أعلم بالصواب.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] ينظر: المتواري على أبواب البخاري؛ لابن المنير (ت 683هـ) (ص: 3).

[2] مسند أحمد، ط الرسالة (21/ 26) (13300).

[3] الشمائل المحمدية للترمذي، ط إحياء التراث (ص: 114) (175).

[4] "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم"، ص 191.

[5] المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 129) (7116).

[6] شعب الإيمان (8/ 80) (5524)، وقال: وهذا الحديث قد خولف عباد في رفعه.

[7] الأحاديث المختارة (6/ 48) (2020)، وقال: ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من حديث أبي قتادة وأبي هريرة.

[8] شرح السنة للبغوي (11/ 302)2857 - باب الثريد والتلبينة.

[9] الطبقات الكبرى، ط العلمية (1/ 300).

[10] ينظر: القاموس المحيط (ص: 972)، شرح السنة للبغوي (11/ 302) 2857 -باب الثريد والتلبينة، المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 517) (3246)، الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 225)، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 2718).

[11] التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 279)، فيض القدير (5/ 229) (7088).

[12] المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 129) (7116).

[13] شعب الإيمان (8/ 80) (5524).

[14] شرح السنة للبغوي (11/ 302)2857 -باب الثريد والتلبينة.

[15] النهاية في غريب الحديث: (ج 1 / ص 621).

[16] مسند أحمد، ط الرسالة (21/ 26) (13300)، وقال الشيخ شعيب: حديث صحيح، وهذا إسناد حسن، أبو جعفر المدائني-وهو محمد بن جعفر البزاز-صدوق، حسن الحديث، وهو من رجال مسلم؛ لكن فيه كلام ينزله عن رتبة الصحيح، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين.

[17] شعب الإيمان (8/ 80) (5524).

[18] الشمائل المحمدية للترمذي، ط إحياء التراث (ص: 114) (175)، شرح السنة للبغوي (11/ 302) (2857).

[19] النهاية في غريب الحديث: (ج 1 / ص 621).

[20] ينظر: الغريب المصنف (2/ 478).

[21] ينظر: الفائق في غريب الحديث (1/ 169).

[22] ينظر: خلاصة سير سيد البشر (ص: 96).

[23] ينظر: الكافي شرح البزدوي (2/ 780).

[24] المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 517) (3246).

[25] شرح المشكاة للطيبي، الكاشف عن حقائق السنن (9/ 2857).

[26] الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 225).

[27] القاموس المحيط (ص: 972).

[28] شرح المصابيح لابن الملك (4/ 564) (3246).

[29] ينظر: أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل (ص: 262).

[30] هو: علي بن أحمد بن عبيدالله المصري ( ت 758هـ) صاحب كتاب شرح المصابيح.

[31] ينظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 2718).

[32] مسند أحمد مخرجًا (4/ 279) (2476).

[33] النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 215).

[34] شرح السنة للبغوي (9/ 83).

[35] ينظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (1/ 62).

[36] ينظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام (7/ 33).

[37] ينظر: أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل (ص: 262).

[38] ينظر: جمع الوسائل في شرح الشمائل (1/ 229).

[39] ينظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 2718).

[40] ينظر: أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل (ص: 262).

[41] ينظر: جمع الوسائل في شرح الشمائل (1/ 229).

[42] وهي كلمة معروفة تدل على هذا المعنى عند أهل العراق.

[43] صحيح البخاري (4/ 190) (3563).

[44] صحيح البخاري (3/ 61) (2092)، صحيح مسلم (3/ 1615) (2041)، ورواية البخاري ومسلم من طريق الإمام مالك، وهو في الموطأ؛ موطأ مالك، ت الأعظمي (3/ 785) (510).
والدباء هو القرع-اليقطين وهو القرع الجبلي-كما يعرف في زماننا- لأنه حلو المذاق هذا من جهة، ومن جهة أخرى يكثر به الطعام كما ورد في النص، وهو من تواضعه صلى الله عليه وسلم وتقشُّفه بالمعيشة؛ فعن حكيم بن جابر، عن أبيه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فرأيت عنده قرعًا، فقلت: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: "هذا قرع نكثر به طعامنا"؛ مسند أحمد، ط الرسالة (31/ 448) (19101).

[45] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 276).

[46] الطبقات الكبرى، ط العلمية (3/ 242)، شعب الإيمان (8/ 81) (5525).

[47] شرح مشكل الآثار (1/ 151).

[48] صحيح البخاري (7/ 75) (5420).

[49] ينظر مسند أحمد مخرجًا (23/ 419) (15281)، وينظر كتابنا "قواعد نورانية في مدح خير البرية في القرآن والسنة النبوية" في قاعدة الأدب؛ ففيها تفصيل دقيق لهذا الموضوع.

[50] شرح صحيح البخاري لابن بطال (6/ 224).

[51] عمر بن أبي سلمة من ربائب النبي الذي رباه المصطفى صلى الله عليه وسلم بحجره الشريف، وهو من نقل هذا الأدب لتعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك، وهو بحث واسع أتممته ولله الحمد والمنة، أسميته "ربائب النبي صلى الله عليه وسلم ومروياتهم في كتب السنة: دراسة تحليلية"، فليُنظَر؛ فإنه نفيس.

[52] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 276).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 66.72 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 65.05 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.50%)]