تأملات في سورة البينة - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11943 - عددالزوار : 191457 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 579 - عددالزوار : 92950 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 118 - عددالزوار : 56999 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 81 - عددالزوار : 26305 )           »          شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 35 - عددالزوار : 745 )           »          كلام جرايد د حسام عقل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 41 )           »          تأمل في قوله تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره... } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          بيان معجزة القرآن بعظيم أثره وتنوع أدلته وهداياته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25-11-2020, 10:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,678
الدولة : Egypt
افتراضي تأملات في سورة البينة

تأملات في سورة البينة


د. أمين بن عبدالله الشقاوي






الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
فمن سور القرآن الكريم التي تحتاج منا إلى وقفة تأمل وتدبر: سورةُ البينة، قال تعالى: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 1-8].

روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن كعب: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾"، قَالَ: وَسَمَّانِي؟ قَالَ:"نَعَمْ"، فَبَكَى [1].

قوله تعالى: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ: هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، سموا بذلك لأن صحفهم بقيت إلى أن بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ما فيها من التحريف والتبديل والتغيير، فاليهود لهم التوراة، والنصارى لهم الإنجيل.
والمشركون هم عبدة الأوثان من كل جنس، من بني إسرائيل ومن غيرهم، ولقد أخبر الله عن أهل الكتاب أنهم كانوا يستفتحون على العرب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث، أي يستنصرون به على مشركي العرب ويتحرون ظهوره لما هو مكتوب عندهم في كتبهم، فيتبعونه بزعمهم، قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
كما أخبر الله عن المشركين أنهم يقسمون أنه إذا بعث فيهم رسول أن يتبعوه، قال تعالى: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴾ [فاطر: 42].

قوله تعالى: ﴿ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ: أي تاركين لما هم عليه من الشرك والكفر حتى تأتيهم البينة، ثم فسر البينة بقوله: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً: يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مما يتلوه من القرآن العظيم الذي هو مكتوب في الملأ الأعلى في صحف مطهرة، كقوله: ﴿ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَة ﴾ [عبس: 12-16].

قوله تعالى:﴿ صُحُفًا مُطَهَّرَةً ﴾: أي منزهة من الباطل والتحريف، فالقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 41-42]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9].

قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾: قال إمام المفسرين ابن جرير - رحمه الله -: "أي: وما تفرق اليهود والنصارى في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - فكذبوا به ﴿ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، يعني: بيان أمر محمد أنه رسول بإرسال الله إياه إلى خلقه، يقول: فلما بعثه الله تفرقوا فيه، فكذب به بعضهم، وآمن بعضهم، وقد كانوا قبل أن يبعث غير مفترقين فيه أنه نبي"[2]، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105].

قوله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ: يقول تعالى: وما أمر الله هؤلاء اليهود والنصارى - الذين هم أهل الكتاب - إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، أي مفردين له الطاعة، لا يخلطون طاعة ربهم بشرك، فأشركت اليهود بربها بقولهم: إن عزيرًا ابن الله، والنصارى بقولهم في المسيح مثل ذلك، وجحودهم نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
﴿ حُنَفَاءَ ﴾: أي متحنفين[3] عن الشرك إلى التوحيد، كقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].
"وخص الصلاة والزكاة [بالذكر] مع أنهما داخلان في قوله: ﴿ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ ﴾ لفضلهما وشرفهما، وكونهما العبادتين اللتين من قام بهما قام بجميع شرائع الدين"[4].
قوله تعالى: ﴿ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ أي الملة المستقيمة العادلة، وقد استدل كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان، ولهذا قال: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾.

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾ [البينة: 6] قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: "وهذا يقتضي أن اليهود والنصارى كفار حين لم يؤمنوا برسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - وإن قالوا: أنهم مؤمنون بالله واليوم الآخر، ويدعون لموتاهم بالرحمة وما أشبه ذلك من العبادات التي يتزلفون بها، فإنهم كاذبون، إذ لو كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر لآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بل لآمنوا برسلهم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وجد وصفه في التوراة والإنجيل، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157]. بل إن عيسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: ﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6]. فلما جاء هذا الرسول الذي بشر به عيسى بالبينات قالوا: هذا سحر مبين، وكذبوه ولم يتبعوه، إلا نفرًا قليلًا من اليهود والنصارى آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واتبعوه"[5].
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ"[6].
قوله تعالى: ﴿ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾: "وسميت جهنم لبعد قعرها وسوادها، فهو مأخوذ من الجهمة، وقيل: إنه اسم أعجمي عرَّبته العرب، وهو اسم من أسماء النار.

قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾ أي: شر الخليقة لأن البرية هي الخليقة، وعلى هذا فيكون الكفار من بني آدم من اليهود والنصارى والمشركين، شر الخلائق، وقد بين الله ذلك تمامًا في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنفال: 55]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال: 22، 23]، وإذا كانوا هم شر البرية، فلن نتوقع منهم إلا كل شر؛ لأن الشرير ينبثق منه الشر، ولا يمكن أبدًا أن نحسن الظن بهم"[7].

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ لما ذكر في الآيات السابقة حال الأشقياء من الكفرة من المشركين واليهود والنصارى، ذكر حال المؤمنين الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بأبدانهم، فأخبر أنهم خير البرية، وقد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين من البرية على الملائكة لقوله ﴿ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾.

قوله تعالى: ﴿ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ جمعها لاختلاف أنواعها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن الجنات: "جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، وَآنِيَتُهُمَاوَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا"[8]. وإلى هذا يشير قول الله تعالى: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: 46]، ثم ذكر أوصاف هاتين الجنتين، ثم قال عز وجل: ﴿ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن: 62]. والجنات التي ذكرها جزاء للمؤمنين العاملين الصالحات، هي عبارة عن منازل عظيمة أعدها الله عز وجل للمؤمنين المتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا يمكن لإنسان في الدنيا أن يتصور كيف نعيم الآخرة أبدًا، لأنه أعلى وأجل مما يتصور، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء، لكن الحقائق تختلف اختلافًا عظيمًا.


ثم قال عز وجل: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍالعدن بمعنى الإقامة في المكان وعدم النزوح عنه، ومن تمام نعيم أهل الجنة أن كل واحد منهم لا يطلب تحولًا عما هو عليه من النعيم، لأنه لا يرى أن أحدًا أكمل منه، ولا يحس في قلبه أنه في غضاضة بالنسبة لمن هو أرقى منه وأكمل، قال تعالى: ﴿ لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ﴾ [الكهف: 108]، أي تحولًا عما هم عليه لأن الله قد أقنعهم بما أعطاهم فلا يجدون أحدًا أكمل نعيمًا منهم.

ثم قال تبارك وتعالى: ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، قال العلماء: من تحت قصورها وأشجارها، وإلا فهو على سطحها وليس أسفل، إنما هو من تحت هذه القصور والأشجار، والأنهار بيَّنها الله تعالى بقوله: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [محمد: 15].
روى ابن أبي الدنيا من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض؟ لا والله، إنها لسائحة على وجه الأرض، إحدى حافتيها اللؤلؤ، والأخرى الياقوت، وطينه المسك الأذفر، قال: قلت: ما الأذفر؟ قال: الذي لا خلط له[9].
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "أنها الجنة تفجر من جبل من مسك"[10].
وذكر ابن القيم - رحمه الله - في كتابه حادي الأرواح عن سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن مسروق في قوله تعالى: ﴿ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ ﴾ [الواقعة: 31]، قال: أنهار تجري في غير أخدود[11].
فالآثار السابقة تدل على أن النهر يجري على سطح الأرض يتوجه حيث وجهه الإنسان، ولا يحتاج شق خنادق ولا إلى بناء أخدود تمنع سيلان الماء يمينًا وشمالًا، وفي هذا يقول ابن القيم - رحمه الله - في كتابه النونية:
أَنْهَارُهَا مِنْ غَيْرِ أُخْدُودٍ جَرَتْ ♦♦♦ سُبْحَانَ مُمْسِكُهَا عَنِ الفَيَضَانِ


قوله تعالى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ أي: ماكثين فيها أبدًا، لا يموتون، ولا يمرضون، ولا يهرمون، ولا يبأسون، ولا يألمون، ولا يحزنون، ولا يمسهم فيها نصب، فهم في أكمل النعيم دائمًا وأبدًا أبد الآبدين، كما صحت بذلك الأحاديث. ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ وهذا أكمل نعيم أن الله تعالى يرضى عنهم فيحل عليهم رضوانه فلا يسخط بعده أبدًا.


قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة: 8]، أي ذلك الجزاء لمن خشي الله تعالى، والخشية هي خوف الله المقرون بالهيبة والتعظيم، ولا يصدر ذلك إلا من عالم بالله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]، فالخشية أخص من الخوف، والفرق بينهما يتضح بالمثال: إذا خفت من شخص لا تدري هل هو قادر عليك أم لا؟ فهذا خوف، وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية[12].

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] صحيح البخاري برقم 3809، وصحيح مسلم برقم 799.

[2] تفسير ابن جرير - رحمه الله - (10/ 8726).

[3] الحنفاء: جمع حنيف، وهو المائل إلى الإسلام الثابت عليه، والحنيف عند العرب: من كان على دين إبراهيمﮓ، وأصل الحنف الميل. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 451).

[4] تفسير الشيخ عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله - ص890.

[5] تفسير جزء عم ص283.

[6] برقم 153.

[7] تفسير جزء عم ص283-284.

[8] صحيح البخاري برقم 4878، وصحيح مسلم برقم 180.

[9] ص90، قال الشيخ الألباني - رحمه الله - كما في السلسلة الصحيحة حديث رقم 2513: الموقوف صحيح، وهو في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي، لا سيما وقد صح المرفوع من الطريق الأولى، وذكرها.

[10] مصنف ابن أبي شيبة (7/ 33958)، وذكره ابن القيم - رحمه الله - في كتابه حادي الأرواح وقال: موقوف صحيح (1/ 385).

[11] ص165، وقال الشيخ الألباني - رحمه الله -: إسناده مقطوع صحيح.

[12] انظر: تفسير جزء عم للشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - ص280-287، وتفسير ابن جرير الطبري - رحمه الله - (10/ 8726)، وتفسير ابن كثير - رحمه الله - (14/ 420-425)، وتفسير جزء عم وأحكامه وفوائده للشيخ عبدالرحمن البراك والشيخ عبدالمحسن العسكر ص245-251.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 70.47 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 68.59 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.67%)]