عصافير الغد (قصة قصيرة) - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 49 )           »          تعظيم خطاب الله عزوجل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          رسـائـل الإصـلاح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 54 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر > من بوح قلمي

من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-08-2020, 02:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي عصافير الغد (قصة قصيرة)

عصافير الغد (قصة قصيرة)


سجى رياض صالح




كانت تَنْظر من شباك غرفة ولَدِها، المطلِّ على حديقةٍ غَنَّاء يانعة بقطراتِ النَّدى، وشمس الصَّباح.. كان كلُّ شيءٍ يانعًا ولامِعًا وبرَّاقًا بعد ليلةٍ عاصفة غسلت الشَّجر، وعطَّرت الزَّهر، وأندت الأرض بِمَاء الحياة.

لكن "فاتن" لَم تكن تنظر إلى أيٍّ مِن ذلك، كان كلُّ تركيزها مُنصَبًّا على العُشِّ الذي في شجرة الليمون، إلى ثلاثة عصافير صغيرة وهي تحاول أن تأخذ أوَّل درسٍ لهم في الطَّيران، وإلى والديهم الواقِفَيْن بِجانبهم، أحسَّت كأنَّها ترى نَظْرة الحنان من الأمِّ، ونظرة الفخر من الأب، وهُما يعينان طيورهما الثلاثة الصغيرة على أَخْذ أوَّل خطوةٍ لَهم نحو الحريَّة والحياة.

كانت العصافيرُ جميلةً بريشها الأزرق النَّاعم، وكان الوالدان فخورَيْن بهم، يزقزقون ويرفرفون بأجنحتهم الرَّقيقة، متفائلين بيومٍ عَطِر، ومستقبل جميل.

كانت "فاتن" تُتابع رحلةَ هذه العائلة الصَّغيرة منذ عدَّة أسابيع، كانت ترى كيف كانت العصافيرُ تَلْتهم كلَّ ما يأتي به والداهم من دودٍ طري، وتوتٍ بري، مزقزقةً مَرِحة، وتذكَّرت قول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو أنَّكم كنتم تَوَكَّلون على الله حقَّ توَكُّلِه، لَرُزقتم كما يُرزَق الطَّيْر؛ تَغْدو خِماصًا، وتَرُوح بِطانًا))[1]، ما أبدعَ وصْفَهم بأنَّهم يَذْهبون في الصَّباح ببطونٍ فارغة، ويعودون في المساء ببطونٍ مملوءة برزقِ الله! سبحان الرزَّاق!

نظرَتْ "فاتن" إلى تلك الصُّورة الجميلة التي تُكوِّنُها هذه الطُّيور الخلاَّبة ببساطتها وعظَمتِها ولَونِها الرَّمادي الممزوج بالأزرق الياقوتي، نظرت وأطالت النَّظَر، ومع كلِّ نظرةٍ أحسَّت بأنَّ قلبها سوف يتفطَّر!

جرَّت نفَسًا عميقًا، واحترقَتْ عيناها بالدُّموع التي رفضَتْ أن تنهل، أحسَّت بضيقٍ في صدرها، وألَمٍ عميق في قلبها وهي تحسُّ بأمواجٍ عميقة من الشَّوق الطاغي إلى أن تحتضن وليدها.

نظرَتْ إلى زاوية الغرفة، وإلى المكان الذي فيه مَهْد مُهْجة قلبِها، وإلى بطانيته البيضاء المنقوشة بورودٍ ورديَّة، وطيورٍ زرقاء، وإلى دبِّه العسلي بعيونه الكسولة، وبَسْمته الهادئة.

تذكَّرت كيف كان شكل ولدها الحبيب عندما كان يضمُّه ذلك المهد، تذكَّرت كيف كانت هي تضمُّه إلى صدرها، وتشمُّ ريحته الزَّكية، وتُقبِّل جبينه النَّدي، تذكَّرت أول مرَّة ابتسم في وجهها، وكأنَّه قد بدأ يميزها عن بقيَّة العالَم كأمِّه.

ليتها تَقْدر أن تضمَّه إليها مرَّة أخرى.

ولكن أوَّاه! فات الأوان.

وضعَتْ ذراعَيْها حول خصرها، مُحاوِلةً أن تَدْفع هذا البَرْد الذي ألَمَّ بأضلاعها، برد انساب وتسَلْسل إلى أعماق قلبها.

فجأةً طوَّقَتْها ذِراعان قويَّتان من الوراء، أدارَها زوجُها بين ذِراعَيْه حتَّى تنظر في عينَيْه السَّوداوين المليئتين بالتفهُّم والحنان، عينيان كعينَيْ ولدها الرَّاحل، قال لها بلهجةٍ حنون مشفقة: "فاتن، إلى متَى وأنتعلى هذه الحال؟ إلى متَى يا حبيبتي وانتلا تأكلين ولا تنامين، تأتين في منتصَف اللَّيل، وتجلسين على كُرسيِّك الهزَّاز، وتُفكِّرين كأنَّك تبحثين عن سؤالٍ بلا جواب، إلى متَى هذا الحال يا حبيبتي؟!".

تنهَّد ثم قال بأسًى وندمٍ ظاهر: "لقد مرَّت ثلاثة شهور على وفاة ولَدِنا - رحمه الله".

هزَّ كتفَيْها، وقال لها بِلَومة توبيخ متفهِّمة: "إلى متَى وأنتعلى هذا الحال؛ صامتةً، مكتئبة، حزينة، تنظرين بعينين فارغتين إلى كلِّ ما حولك، أحيانًا أحسُّ أنَّك لا تريني حتَّى عندما أكون أمامَك، كأنَّك تنظرين من خلالي إلَى عالَم البَرْزخ بحثًا عن أجوبةٍ لأسئلة صعبة من الأحسن تَرْكها"!

نظرت إليه بصمتٍ ولَم تتكلَّم، ولكنَّه رأى الدُّموع تترَقْرَق في عينَيْها، قال لها: "بالله عليك، ابكي يا حبيبتي، أتمنَّى أن تبكي وتُخْرجي هذا الألَم من صدرك، دعي الدُّموع تَغْسل هَمَّك وحزنك على ولَدِنا، دعيها تطهِّرك من هذا الحمل الثَّقيل، لَيْتَك تبكين".

قالت له والعبَرات تخنقها: "لا أستطيع! أصبحَت الدُّنيا بدون ألوان، وأضحَتْ بلا طعم، وأمسَتْ بلا أمل، أحسُّ أنَّ السعادة بالحياة مفقودةٌ من عروقي، أحيانًا أتمنَّى الموت، ولكن الموت اختطف منِّي ولَدي، وترَكني وحدي، ولَم يأخُذْنِي معه".

قال لها: "حبيبتي، لَسْت في هذا المصاب وحدك؛ فأنا مثلك، أنا أيضًا فقدتُ ولدي، وفلذة قلبي ومهجة فؤادي، ولكنِّي أذكِّر نفسي بالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندما توُفِّي ولَدُه إبراهيم، وقال: ((إنَّ العين تَدْمع، والقلب يحزن، ولا نَقُول إلاَّ ما يُرضِي ربَّنا، وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لَمَحزونون))، لا تيئسي مِن رحمة الله تعالى؛ فما شاء الله كان، وما شاء فعل، تضرَّعي إلى الله أن يلتقينابِولَدِنا في بيت الحمد في الجنَّة".

تبسَّم، وقال: "أنا أتَخيَّله كصَبِي يجرُّ أذيال ثوبِه، ويجرُّنا معه عند باب الجنَّة، يريد أن يُدخِلنا الجنَّة برحمة الرَّحمن، ومغفرة الغفَّار، ادعي الله تعالى أن يرزقنا، ويُعوِّضنا خيرًا مِمَّا خسرنا، ولو أنَّ ما فقَدْناه لا عِوَض له".

تَملَّصَت من بين ذراعَيْه، ومشَتْ في أرجاء الغرفة تعدل ثوبًا معلَّقًا، وتَلْمسه إلى وجناتِها، تتذكَّر دِفءَ ولَدِها عندما كان يرتَدِيه، تنهَّدَت ثُمَّ قالت: "هل تَعْرف أصعب شيء أُعاني منه الآن؟ إنِّي فقدت إيماني".

رأى الألَم يَعْتصر في وجهها: "كم أحنُّ إلى أيَّام مضَت، كنتُ فيها أحسُّ بوجود الله معي أينما كنت، كنت أتمشى فأسمع وأرى خَلْق الله في صوت الرَّعد، ولَمْع البَرق، وصفير الريح".

نظرت إلى الشباك ثُم قالت: "كنت أرى الشَّجر وهو يرقص مسبِّحًا للخالق، وأرى الطُّيور تُرَفرف في ملكوت الله، وأرى الماء يَجْري بأمره، كنت أرى الزَّهر يتفتَّح ويبتَسِم للدُّنيا، كنت أقف وأتأمَّل وأسبح، كنت شاهدةً على إبداع الخالق وعظَمتِه".

تنهَّدت بِعُمقٍ ومسحَتْ بعض الدُّموع التي انسابَتْ على خدَّيها، وقالت: "ولكن بعد وفاة ولدي أحسُّ أنَّ الدنيا قد ضاقَتْ بِما رَحُبت، وأنَّ الجَمال قد اضْمحَل، وأن السَّواد والعواصف قد عمَتْ وطغَت على كلِّ شيءٍ جميل، أحسُّ أنَّ طعم العلقَم ماكثٌ في روحي وكياني، أحسُّ أنه - حاشا لله تعالى - تخلَّى عنِّي بشكلٍ ما، أحسُّ أنه ترَكني للوَساوِس والشَّياطين تَنْهش في روحي، وتُمزِّق أوصالي، وتَسْرق إيماني ويقيني، أحسُّ أنَّ الريح صارَتْ رياحًاتُدمِّر كلَّ ما حولها بأمر ربِّها، وأنَّ صوت البَرْق صار طبلاً يعزف أُغنية الموت والدَّمار والحرمان".

صرخت بِحُرقة وهي تقول: "لقد توقَّفت، ولَم أعد أستطيع أن أتَمتَّع بِما حولي من نِعَم، لَم تَعُد لي القدرة على الدُّعاء، وإن حاولت أحسَسْت بكلماتي فارغةً جوفاء، ما تكاد تتَجاوز لساني مِن دون أن تَلْمس أوتارَ قلبي، سابقًا كنتُ أحسُّ أنَّني قريبةٌ من ربِّي، وأنَّني أستطيع أن أقول له كلَّ شيء في صدري، وهو به عالِم، كنتُ أحسُّ أنَّ هناك خيطًا ما بيني وبين ربِّي وخالقي، كلَّما احتَجْت إليه، ما عليَّ إلاَّ أن أمُدَّ يدًا خفيةً إلى ذلك الخيط؛ فإذا به حبلٌ غليظ يشدُّني من أعماق الظُّلمة والتِّيه، كان هذا حَبْل الإيمان في قلبي، أحسُّ الآن أنَّ الحَبْل قد انقطَع، وأنَّ رأس الخيط قد ضاع وسط ظلام التِّيه والحيرة، الآن قلبي فارغٌ وهذا أشَدُّ ما يُؤلِمُنِي".

انهدَلَت الدُّموع مِن عينَيْها وهي تقول: "ماتَتْ روحي، ولكنَّها لَم تَمُت مرَّة واحدة، وإنَّما نُزعَتْ منِّي نفَسًا نفسًا؛ حتَّى تُقطِّع أوصالي، وتُهشِّم إيماني، وتُحطِّم يقيني، وإنْ حدَث وإن أجبَرْتُ نفسي على نُطْق كلمات الدُّعاء، فإنَّها لن تتَجاوز ذلك، مجرَّد كلمات وحرَكات تلقائيَّة للِساني، كلمات لا تتَجاوز الآذان، ولا تَلْمس شغاف القلب".

كان زَوجها يَسْمعها وقَلْبه مُتألِّم لها، قال لها بيقينٍ: "استهدي بالله تعالى، وثِقي أنَّ الله تعالى لا يَنْسى عبدَه، لا تَيْئسي مِن رحمة الله الَّتي وسِعَتْ كلَّ شيء، تذكَّري الأمَل، واحلمي بالغد، وبرحمة الله، تخيَّلي أنَّ ابنَنا مُسافرٌ في رحلةٍ يلتقي بِها بالخالق الرَّحمن، وأنَّه يوم يَلْقاك سيُقدِّم لك بِمَشيئة الله كأسًا باردة من رحيقٍ مَختوم، خِتامُه مِسْك، تُبلِّلين ريقك به، وتغسلين تعب الرحلة به، وتُعطِّرين نظرَك بِرُؤياه".

قالَتْ له بابتِسامةٍ صغيرة في زاويةِ فَمِها: "أتَمنَّى أن أستطيع أن أفكِّر هكذا، أو أقنع بِهذا، أقول لنفسي: أنا واثقةٌ أنَّ المكتوب نصيب، وأنَّ كل نَفْس لها قسمتها وحَظُّها من الدُّنيا من خيرٍ وشر، لكن الأمر صعبٌ عندما يتعلَّق بِفَقْد ولَدِك، وقُرَّة عينك الذي لَم يتجاوَزْ عمرُه بضعة شهور، الابتلاء صعب، ومُؤلِم.. بل قاسٍ".

قال لَها: "تذَكَّري أنَّ الحياة مُقسَّمة تقسيمًا عجيبًا، وأنَّ كلَّ شيءٍ له حِكْمة قد لا نَعْلمها، تذَكَّري قوله تعالى من سورة البقرة: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].

قالَتْ له والغضبُ يَلْمع في عينَيْها: "كيف تقول هذا الكلام؟ لا يُمكن لولدي أن يكون شرًّا لي، كنتُ سأربِّيه وأنشئه ولدًا صالِحًا يَخْدم الإسلام، ويُعلِي كلمةَ الحَق".

قال لَها: "وهل في يَدِك هداية الخَلْق، وهل تَضْمنين أن يَكون ولَدُنا صالِحًا، حتَّى وإن حاوَلْنا كلَّ ما في وُسْعِنا، أليس لنا عِبْرة في ولَدِ نوحٍ - عليه السَّلام - كان عمَلاً غيرَ صالِحٍ رغم أن والده نبِيٌّ مُرسَل، مؤمِنٌ بالله الواحدِ الأحد، أنتِ الآن تتكلَّمين بلسانِ الأسى والحزن، ولكن ما أن تدَعي نفسك تَمُرِّين بِهذه المرحلة، وتتقبَّلي الأمر على أنَّه أمرٌ واقع، وتبدئي لتعيشي من جديد، سوف ترَيْن الدُّنيا بلونٍ آخر".

ساد الصَّمتُ بينهما لعِدَّة دقائق، كان هو أوَّل مَن يقطعه قائلاً: "ربَّما تكون فكرة طيبة أن نُفكِّر في طفلٍ آخَر، رُبَّما ليس الآن، ولكن قريبًا - بإذن الله تعالى".

قالَتْ له بغضبٍ مَكْبوت وشفتَيْن باردتين: "لن يُعوِّضني أيُّ طفل عن ولَدي الذي خطفه الموت منِّي".

قال لها بصَبْر: "وأنا لن أقول أبدًا: إنَّ هذا الطِّفل سيكون تعويضًا عن الأوَّل، فالذي راحَ لَن يعود، ولا يُمكِن تعويضه، ولكن يُمكِن لنا أن نأمل، ونُحاول من جديدٍ لعلَّ الله تعالى يَزْرع في بذرتنا القادمة رُسوخًا ثابِتًا، وخيرًا عميمًا، فَكِّري في الأمر، وإن شاء الله نتكلَّم عن هذا الأمر فيما بعد".

في تلك الليلة، صحَتْ "فاتن" من نَوْمِها المُضطَرِب في منتصَف اللَّيل، أحسَّت كأنَّ هناك شيئًا ما يشدُّها إلى غرفة ولَدِها، خرجَتْ من غرفتِها بِخُطًى مرتَبِكة، فتحَت الباب إلى غرفة ولدها بيدين مرتعشتَيْن، نظرت إلى الغرفة، وإلى المهد المملوء بضوء القمَر، أحسَّت كأنَّ نور القمر الداخل من الشباك يركِّز، ويعمق نظرتها إلى الطائر الأزرق المرسوم على البطانيَّة البيضاء.

تقدَّمت بِخُطًى خائفة، مدَّت يدَها إلى البطانيَّة.. شمَّتْها، وعانقَتْها إلى صَدرِها، وبكت.

بكَتْ كما لَم تستَطِعْ أن تبكي منذ ثلاثة شهور، منذ اليوم الذي جاءت لِتُوقظ ولدَها من نومه؛ ليشرب من حليبها الدَّافئ، فإذا بِها تَجِده قد فارق الحياة.

كان الأمرُ مُخيفًا؛ كيف بالطِّفل الذي ابتسمَ في وَجهِها في المساء، عندما قبَّلتْه ووضعَتْه في سريره، يصبح هذا الصَّباح وهو في عالَم آخَر، كيف لها أن تُودِّع طِفْلها الأوَّل والوحيد؟ كيف لها أن تتقبَّل الموت وهو جاء فجأة، مِن دون ميعاد، ومن دون مقدِّمات، ومن دون إِذْن، سخرَتْ من نَفْسِها، "وهل يَطْلب الموت إذنًا إلاَّ مِن الَّذي نفخَ الرُّوح وهو مالِكُها!".

ما زالت تَذْكر كيف خُضَّت وهزَّت ولدها وهي تَصْرخ وتنادي زوجها بِذُعر، جرَّه جزعًا إليها ليعرف سبَبِ هلَعِها، اتَّصل هو بالإسعاف، وجاؤوا، وبعد وقتٍ قالوا لها ما كانت تعرفه: "إنَّا لله وإنا إليه راجعون، نأسف أن نقول لكم: إنَّ ولدَكم قد توُفِّي وهو نائم".

تذكَّرَت "فاتن" كيف أنَّها رفضَتْ تَفاسيرهم وقولَهم بأنَّ الذي حصلَ ليس بسبب أيِّ تقصير من جانب الأهل، كانت تقول: لعلَّه إن كان نائمًا في غرفتي، وأنا كنت بِقُربِه أحرسه، لعلَّ وعسى كنت أحسَسْتُ بشيءٍ وفعلتُ شيئًا لإنقاذِه.

قالوا لها: "هذه حالةٌ اسمها: Infant Sudden Death، تُصيب كثيرًا مِن الأطفال الرُّضَّع في أشهُرِهم الأُولى، وهي أنه يأتيهم الموت في نومهم من غير سببٍ ولا علَّة، وإنَّه حتَّى لو كنت معه فِي نفس الغرفة لَما منعَت مشيئة الله من أن تَحْدث".

تذكَّرت "فاتن" كيف أنَّ الأيَّام والأسابيع التي تلَتْ كانت كالكابوس، كالخيال، شيءٌ خارج عن نِطاق الواقع، تذكَّرَت العزَاء، ووالِدَيها، ووالِدَيْ زوجِها، تذكَّرت الأهل والأقارب والأصحاب، الكلُّ كانت الدُّموع تجري على خدودهم.

لكن هي لَم تستَطِع أن تَبْكي، كانت تحسُّ كأن الحسرة والألَم يخنقانِ الدُّموع في صدرِها.

لَم تستَطِع أن تبكي حتَّى الليلة، الحمد لله!

وبعد ساعاتٍ من البُكاء والنَّحيب، حلَّ على صدرها إحساسٌ غريب بالرَّاحة، كأنَّ ثقلاً قد انزاح عن صَدرِها، وكأنَّ الدُّموع غسلَتْ أساها وحُزنَها.

قامَتْ وتوضَّأت وصلَّتْ في منتصَف اللَّيل، داعيةً المَوْلى أن يُعينها على بَلْواها، وأن يُلهِمَها الصَّبْر والسَّلوى، وأن يبني لها عنده بيتَ الحمد في الجنَّة؛ حتَّى ترى فيه ولدَها مرَّة أخرى، أحسَّتْ بِخَيط الإيمان وهو يشتدُّ ويَقْوى، ودعَت المولى الَّذي يُقلِّب القلوب أن يُثبِّت قلبها على الإيمان والصَّبْر.

أحسَّتْ بالرَّاحة بعد أن صلَّت، وأحسَّت أنَّها التقَتْ بأعظم مَلِك؛ ربٍّ كريم، قادرٍ قدير، عالِم بالذي فيها، ربّ لن يدَعها وحْدَها، الحمد لله.

في الصَّباح، نظرَتْ "فاتن" من نافِذَتِها إلى العصافير الصَّغيرة، رأَتْ أنَّهم قد وقَفوا وبأرجُلٍ مرتَجِفة، وأجنِحَة واهنة، هزُّوا أجنحتَهم وطاروا.

يا الله! ما أجْملَهم وهم يَطِيرون، ابتسمَتْ وهي تمدُّ عينَيْها إلى السَّماء الزَّرقاء، خَلْق الله بديع، هذه بدايتهم وإن شاء الله سوف تكون بِدايتها هي أيضًا.

تعليق:
قصَّة عصافير الغد، تتكلَّم عن قضيَّة فقدان الولَد Child Loss.

كلُّنا يحلم بأن نرى أولادنا قد كبروا وبنَوْا حياةً جميلة مليئة بالسَّعادة والإيمان، وكم هو مُحزِنٌ عندما يموت بعضُ هؤلاء الأطفال، سواء نزَلوا مِن أرحام أمَّهاتِهم ميتين، أو توُفُّوا قليلاً بعد الولادة، أو بسبب مرض، أو حادث، أو بسبب موت الرَّضيع المُفاجِئ؛ "مثل: قصَّة فاتن هنا" Sudden Infant Death.

إنَّ تَجاوُزَ مرحلة Grief أو الحزن العميق؛ بسبب وفاة شخصٍ عزيز، "ولا أعز من الأولاد" هي مرحلةٌ طويلة وشاقَّة، قد يخفِّف وَطْءَ ألَمِها ما يلي:

الإيمان: التذكُّر بأنَّ ما حدثَ مكتوبٌ لنا، وإنَّنا إنْ بكَيْنا أو فَرِحْنا فلن يُغيِّر هذا من الأمر شيئًا، وأنه لن يُصيبنا إلا ما كتبَ الله لنا، والإيمان بالأَجْر والثَّواب على الصَّبْر، والإيمان برحمة الله، وأنَّه لله حكمةٌ في كلِّ شيء يَحْدث حولنا، حتَّى ولو عجزنا عن فَهْم هذه الحكمة في حينها.

قراءة سورة يوسف والتمعُّن في كلِّ المِحَن والهموم، والصِّعاب والأحزان الَّتي مرَّتْ على يوسف - عليه السَّلام - من إحساس بالظُّلم، والغَدْر، والخيانة، والسجن، والْهَم والحزن، وكيف تغلَّب عليها يوسفُ - عليه السَّلام - ونصرَه الله على مَن ظلَمَه، وأعلى مِن مكانتِه وشأنه، سبحان الله! أنزلَ الله تعالى سورة يوسف على رسولِنا الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - في عام الحزن عندما توُفِّيَت زوجتُه خديجة التي كانت خيرَ سنَدٍ وعون له، وتوُفِّي فيها أيضًا عمُّه أبو طالب الَّذي كان يَحْمي الرَّسول والمؤمنين مِن بَطْش أهل قريش، فكانت هذه السُّورة خيرَ داعمٍ وسنَد في نَزْع الهمِّ وإزالة الهم.

التذكُّر أنَّ ألَم فقدان الطِّفل يمرُّ بمراحل: عدم التَّصديق بما حدَث، عزل النَّفس عن الآخَرين، الغضب سواء تجاه النَّفْس أو الآخَرين، الإحساس أنَّ الله - سبحانه وتعالى - قد يُعاقب الوالِدَيْن في ولَدِهم، الإحساس بالذَّنْب، أو أنَّه رُبَّما لِتَقصيرٍ من الأمِّ أو الأب فقَدوا ولدَهم، نِهاية هذا الطَّريق الطويل يبدأ بِتقبُّل الواقع والتَّعايش معه.

البكاء نعمةٌ مِن نِعَم الله تعالى علَيْنا، وكما رأَيْنا من قِصَّة "فاتن" فإنَّ عدمَ قُدرتِها على البكاء جعلَ قضيَّةَ تأَقْلُمِها مع الواقع المرير أطول وأصعب.

تذكَّر أنَّك لستَ وحدك حزينًا على فقدان ولدِك؛ فهناك الوالدان والإخوة والأخَوات، والأجداد، والأعمام، والخالات، والأهل، والأصحاب، كُنْ معهم، وشارِكْهم في حزنك، اجلس معهم، وتذَكَّر فقيدك وادْعُ له بالرَّحمة.

حاول أن تتجنَّب أن تَكونَ وحْدَك حتَّى تتَجاوز الأسابيعَ الأولى.

اشغَلْ نفسك، وحاوِلْ أن تستمِرَّ في عمَلِك حتَّى وإن بدا الأمرُ صعبًا في البداية.

حاول أن تُساعد أحدًا يحتاج إلى مساعدة، إنَّه لإحساسٌ رائع أن تَكون أنت مَن يُقدِّم خدمة المساعدة، بدَلاً من أن تجلس وتضَع يدك على خَدِّك، وتندب حظَّك، قُمْ واصنع شيئًا، تعرَّفْ على أشخاصٍ مَرُّوا بِنَفس المِحْنة، وتعلَّم مِنهم وأعِنْهم، أقِمْ جمعيَّة تضمُّ مَن هم في حالتك، افتَحْ قلبك لَهم وتكلَّم معهم، واسمَعْ منهم.


توقَّع أنَّ ألَمَك سوف يضمحِلُّ بعد فترة، ولكنَّه أبدًا لن يتَلاشى، ستَبْقى هناك ذِكْريات وأحلام وأمنيات تُذكِّرُك بمصابك، ولكن تذكَّر أنَّ هناك أمَلاً في غَدٍ فيه سعادةٌ وبسمات وشكرٌ على نِعَم الله التي لا تُحصَى، تَذَكَّر أنَّ للغد أمَلاً.


[1] رواه النَّسائي وابنُ ماجهْ وابن حبَّان، والترمذيُّ، وقال عنه: حسَنٌ صحيح

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 72.46 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 70.58 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.60%)]