تأملات إيمانية في خواتيم سورة الحجر - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         السيول والأمطار دروس وعبر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          مضى رمضان.. فلا تبطلوا أعمالكم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          فضل علم الحديث ورجاله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          سورة العصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          الترهيب من قطيعة الرحم من السنة النبوية المباركة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          لمحات في عقيدة الإسماعيلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          عقيدة الشيعة فيك لم تتغير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          شرح حديث: تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          كيف تعود عزة المسلمين إليهم؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          أدومه وإن قل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-03-2020, 12:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي تأملات إيمانية في خواتيم سورة الحجر

تأملات إيمانية في خواتيم سورة الحجر (1)


كتبه/ أبو بكر القاضي




الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن المؤمن في هذه الحياة يعلم أنه مبتلى ومختبر في سيره إلى الله بفتنٍ شتى من الداخل والخارج.

فمِن داخله: معوقات في النفس الأمارة بالسوء، ووساوس شياطين الجن.

ومِن خارجه: معوقات من جنس آخر؛ مِن الصد عن سبيل الله، وتزيين الباطل، وهذا فعل أعداء الله شياطين الإنس من الكفرة والفجرة والمنافقين.

- فالمؤمن في طريق تحقيق العبودية يلزمه جهاد نفسه وهواه حتى يحجمها عن العصيان ويحضها على ملازمة طاعة الرحمن، وهكذا عليه جهاد أعداء الله بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بدعوة الحق.

- ومن هنا يحتدم الصراع بين الحق والباطل، والكفر والإيمان؛ تلك المعركة القديمة قدم إنزال الله آدم -عليه السلام- وإبليس إلى الأرض، وبعث الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- لأقوامهم المشركين عبر الأيام والعصور والأزمان.

- وكلما ارتقى العبدُ في سُلم العبودية؛ ازداد يقينه أن هذا الصراع والتدافع أثر من آثار حكمة لله وجلاله وجماله -تبارك وتعالى-، بل ويستحق عليه الحمد والثناء والتمجيد (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251).

- ويستحق أيضًا الحمدَ على جعل الظلمات والنور (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) (الأنعام:1).

قدر الله أن تكون الأيام دولًا يداولها بين المؤمنين والكافرين ابتلاءً وامتحانًا؛ ليرفع درجات هؤلاء، ويخفض دركات أولئك: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ . أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:140-142).

- والعلم هنا هو علم بأعمالهم بعد وقوعها؛ علم شهادة كما قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "علمًا يحاسبهم عليه"، غير العلم السابق على خلقهم وأفعالهم.

- فمن خلال ذلك التدافع يتعرف العبدُ على أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، ويفهم سننه الكونية والشرعية، ويعلم أن ربه عليم حكيم.

- هو العليم يعلم كل شيء؛ ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، يعلم الأحوال على ما فيها، والمآلات.

- هو الحكيم حكيم في أفعاله، يضع الشيء في موضعه، يضع النعمة في موضعها، ويضع العقابَ في موضعه.

- ومع ذلك لطيف بعباده يدبر لهم في خفاء، وجمعت كل هذه الأسماء آية حكاها الله على لسان الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف -عليه السلام- بعد ما لاقى من أنواع الأذى والبلاء ما لاقى، وآل أمره إلى العزة وعلو الشأن، فتأمل -عليه السلام- في تدبير ربه وفعله وقال: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف:100).

- على العبد الرباني ألا تزيده المحن إلا منحًا في الإقبال على الله وحبه، وحمده والرضا به.

- عليه أن يسير إلى ربه رغم العواصف والمعارك والتدافع حتى يصل إليه -تبارك وتعالى- "ومن عرف ما قصد هان عليه ما وجد"، وأعظم مؤنس له في ذلك كلام العزيز الحميد الذي يقعُ من القلوب موقع القطر من الأرض التي طال ظمؤها وتشققت أحشاؤها تضرعًا للسماء أن تهطل عليها بوابل رحمة وحياة، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا) (الإسراء:82)، (وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) (فصلت:52).

- والآن نقف على أعتاب بحر القرآن الفياض قدمًا من بوابة الغيب نرتشف سويًّا من لذيذ معينه مع سورة الحجر، وهي سورة مكية أصلًا وفصلًا، مع خواتيمها زبدة ما فيها مِن توجيه، وتربية ربانية إلهية.

فهل لدينا قلوب تملأ بكؤوس الهدى؟!

نسأل الله أن يهب لنا قلوبًا ندرك بها الحياة مع القرآن!

- لله الأمر مِن قبْل ومِن بعد، إليه يرجع الأمر كله، إليه تصير الأمور، فمَن أراد أن ينتصر في ذلك الصراع؛ فعليه بالرب القدير النصير؛ فالأمر من هاهنا؛ من السماء، وليس من هاهنا، أي: من الأرض وأسبابها.

- علينا أن نفهم كيف يُدار ذلك الصراع بأن نعتصم به -تبارك وتعالى-، ونلوذ برحمته ونستعين بعزته، فلا يُرد أمره، ولا يهزم جنده، سبحانه وبحمده.

- فلنعلم إذًا أن العزة والنصر في جواره -تبارك وتعالى-، واستمداد العون منه ومعرفة إرادته في خلق السماوات والأرض، والأخذ بأسباب النصر التي شرعها لنا، نحن عباده الضعفاء في مواجهة شياطين الإنس والجن، في ذلك التدافع والصراع، والذي بمقتضاه تظهر آثار أسمائه الجميلة الجلية؛ فأصغ سمعك إلى تلك الكلمات التي تنير الظلمات: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر:85).

فالله خلق السماوات والأرض بالحق، ولولا الحق لما خلقهم، وهذا الحق هو ما قال فيه -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، فخلق الخلق لغاية جليلة، وهي تحقيق العبودية، وإجراء الابتلاء على ذلك في الحياة الدنيا، ثم بعد ذلك يأتي الموت والدار الآخرة، فيحاسب العباد على ما اقترفته أيديهم، كما قال -تعالى-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك:2)؛ ولذلك عَقبَ الله ذكر الحق الذي خلق الله به السماوات والأرض بذكر الساعة، فقافلة المؤمنين الموقنين تسير بين الرغبة فيما عند الله والرهبة مما أعده للمجرمين.

وهذا الإيمان باليوم الآخر أصل جمال السير إلى الله -تعالى- خوفًا ورجاءً، وإخلاصًا، وبذلاً وتضحية، بل هذا الإيمان العميق يجعل المؤمن يستعلي على الكفر، ويرى موازين الأرض ضعيفة إذا قوبلت بجنود الله -تبارك وتعالى-: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:249).


وهنالك في ذلك اليوم العظيم يقتص للمظلوم من الظالم، ويُقضى بين الخلائق كلها بالحق، ويُقال: "الحمد لله رب العالمين".

رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو ذر -رضي الله عنه- شاتين تنطحان فقال: (يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ؟)، قُلْتُ: لَا، قَالَ: (لَكِنَّ اللهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

(الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (غافر:17).

ذلك اليوم المشهود؛ ذلك اليوم العظيم: الحاقة، الواقعة، القارعة، الصاخة، الطامة الكبرى، الله يتجلى ملكه وسلطانه وينادي: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (غافر:16)، بل جمْعُ العباد فيه مِن آثار رحمته -تبارك وتعالى-: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) (الأنعام:12)؛ هنالك شقي وسعيد، ففريق في الجنة، وفريق في السعير، فلتشخص الأبصار لذلك الهول الكبير والهم العظيم، ولا تلتفت إلى أذى أو تضييق أو تحكُّم أو استهزاء أو عدوان (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر:85).

وهو الصفح الذي لا عتاب معه، وهذا سر جماله، وهكذا العارف الذي استغنى -بما أفاض الله على قلبه- عن الناس ومطالبتهم بحقه، ولا يكون ذلك الاستغناء إلا بصدق معرفة الله بأسمائه وصفاته، كما كان حال يعقوب ويوسف -عليهما السلام- في صبر يعقوب: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف:18)، وإحسان يوسف: (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف:92)، فالتعلق بأسمائه وصفاته أهم من المطالبة والمعاتبة والمضاربة.

وكان شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "العارف لا يرى له على أحدٍ حقًّا، ولا يشهد له على غيره فضلًا؛ ولذلك لا يعاتب، ولا يطالب، ولا يضارب".

- (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) (الحجر:86): فتعرض لرذاذ المعرفة بإلهك الحق، فما الدنيا والآخرة إلا أثر من آثار خلقه وعلمه، فهو يخلق، ويميت ويحيي، ويعلم ما تنقص الأرض من الموتى، ويعيد الخلق مرة أخرى وهو أهون عليه (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) (ق:4)، (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء:104)، فهو رب العالمين وربك أنت، فتفيأ ظلال القرب لمشاهدة آثار خلقه ورحمته، (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (لقمان:11)، (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم:50).


- مطالعة تلك المشاهد تهب القلب قوة في مصاولة الباطل، وتصقل القلب وتملؤه نورًا، فيستعد لتلقي كلمات الله، القول الثقيل.

فاستعد للنعمة الكبرى والمنة العُظمى.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 30-03-2020, 03:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات إيمانية في خواتيم سورة الحجر

تأملات إيمانية في خواتيم سورة الحجر (2)

كتبه/ أبو بكر القاضي



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمَن يحمل القول الثقيل؟!
مَن يتهيأ لتلقي النبأ العظيم؟!
مَن يتلقى مصدر الحياة والنور والهدى؟!
إن قلب المؤمن بالله واليوم الآخر الذي يتسع للإيمان واليقين بالقرآن العظيم؛ كلام الملك تبارك وتعالى، وما أدراك ما كلام الله تعالى؟!
صفة من صفاته -تبارك وتعالى-، تكلم الله به حقيقة وسمعه منه جبريل -عليه السلام-، وأداه كما سمعه للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
كلام الله... الذي خلق الإنسان وخلق الأكوان، ومَن بيده ملكوت كل شيء، إنه الله العظيم.
فمَن يقف أمام المؤمن، وقد اتسع صدره لتلقي كلمات الله: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (النمل:6)؟! مَن يغلبه إذا كان متصلًا بالله؟! (بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) (القصص:35)، كيف يستخفه الذين لا يوقنون وهو قد ارتبط بالقول الثقيل في ميزان الحق (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (المزمل:5)؟!
إنها نعمة القرآن، وكفى بها نعمة!
وكفى بالقرآن معجزة لحسم الصراع بين الحق والباطل، فإن كانت عصا موسى قال عنها الله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ . فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف:117-118)، فما بالك بالذي قال فيه الحق -تبارك وتعالى-: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا) (الإسراء:105-106).
ما بالك بالذي قال عنه العزيز الحكيم الحميد: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:41-42).
إنه القرآن الذي يثبت فؤاد الداعية للحق رغم الصفعات المتلاحقة من الصد عن سبيل الله، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) (الفرقان:32)؛ ولذلك جاء الامتنان على النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلك العطية الهينة من الرب الرحيم -تبارك وتعالى-، (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ . لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر:87-88).
نعمة جزيلة، السبع المثاني وهم آيات سورة الفاتحة كما ورد في الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أُمُّ القُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ) (رواه البخاري)، وسُميت المثاني؛ لأنها تكرر في الصلوات، ومعانيها مبثوثة في القرآن، فتجمع حقائق القرآن ومجملات وأصول الاعتقاد والشريعة، وهي أفضل سورة في القرآن كما في حديث أبي سعيد بن المعلى الذي رواه البخاري.
والقرآن وصف بالعظمة لمعانٍ كثيرةٍ، منها: عظمته في رصانة ألفاظه وثقل معانيه، وبلاغة أسلوبه وبيانه، وجمال تراكيبه، وأسره للعقل والوجدان، وعظمة أثره في صناعة الرجال وتربية القلوب تربية ربانية على حقائق الإيمان، وصفاء الإرادات، واستقامة السلوكيات؛ كل ذلك تجده في القرآن غضًّا طريًّا؛ نعمة ورحمة من الله، وكل نعمة في القرآن يلحقها تكليف وأمر للقيام بالشكر لرب العالمين.
فجاء التكليف وفي طياته تسلية عن الدنيا ومتعها، وأمر بالارتفاع عن الخلود إلى الأرض، وعدم الالتفات عن هذا النور، (لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ) (الحجر:88).
فلو كانت تساوي الدنيا شيئًا يذكر لما سقى الله منها كافرًا شربة ماء، ولكنها جناح البعوضة يطيش بها، ولقد أعطاها لعدوه إبليس؛ فكيف ينظر إليها ولو بطرف عينه حبيب الله وولي الله؛ لا تجذبنَّك ألوانُها وزينتُها، فهي زهرة خلابة الألوان، سريعة الذبول؟! قال الله -تعالى-: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه:131).
فتطلع إلى رزق ربك -تبارك وتعالى-؛ رزق القلوب والأرواح، رزق الأعمال الصالحة، والقرب من الرحمن، رزق الدعوة إلى الله والعمل لديه وخدمته؛ فهذا أعظم الحظ والنصيب الذي يحصله العبد في هذه الحياة، أن يسلك طريق الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
ثم إذا سلكتَ ذلك المسلك؛ فعليك بهذين التوجيهين الربانيين من الرب الكريم:
- (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ . وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) (الحجر:88-89)؛ فلا تحزن على مَن لم يستجب لدعوتك بعد قيامك بالنصح والبلاغ المبين (وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ) (الأنفال:23)، ولا تذهب ويصيبك الحزن والأسى (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (فاطر:8)، وارتقِ إلى مشاهدة حكمة الجليل في وضع الأشياء في مواضعها؛ الخير في موضعه والشر في موضعه، يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء، يخلق ويختار ويصطفى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56)، (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأعراف:53).
فلا تحزن ولا يضيق صدرك (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) (النحل:127)؛ هذا في تعاملك مع المخالفين، أما الموافقون؛ فعليك بخفض الجناح، وهو تعبير كله تواضع ورفق، وحنان ولين ورقة؛ فهذا دأب المؤمنين (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة:45)، فلا تغلظ عليهم لا سيما في وقت الضيق والكرب، وعليك أن تكون طاقة النور، وسراجًا منيرًا حتى لا ينفضوا من حولك (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159).
وكان ابن القيم يقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهما الله-: "كان أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة، ويقينًا وطمأنينة!".
وقال يحيى بن معاذ الرازي: "ولي الله ريحان في الأرض، فإذا شمه المريدون ووصلت رائحته إلى قلوبهم اشتاقوا إلى ربهم".
فأحسن في عبادتك مع الله، واستعن بالله؛ يفض الله على قلبك بواردات النور، والثقة في الرب الشكور، فإذا قلبك يتسع لجميع الخلق، ويتسع خلقك معهم رفقًا ولينًا وتواضعًا، وكن كما قال عبد القادر الجيلاني مع الخلق بلا نفس، ومع الله بلا خلق.
وكل ذلك في حقيقة الأمر لتحقيق البلاغ المبين، والنذارة الكبرى؛ لتنقذ الناس من دركات النار، ولتكون سببًا في نجاتهم ودخولهم الجنة.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 11-05-2020, 04:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات إيمانية في خواتيم سورة الحجر

تأملات إيمانية في خواتيم سورة الحجر -3





كتبه/ أبو بكر
القاضي



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما
بعد؛



(وَقُلْ
إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ):



الدعوة إلى الله وصدق البذل فيها من أهم وسائل
إدارة الصراع بين الحق والباطل، بل إدالة الحق على الباطل.



الدعوة إلى الله سر تخلص الشعوب من أسر الطواغيت
مكرهم وكيدهم وسحرهم، وتأمل قصة إبراهيم مع النمرود، وقصة موسى مع فرعون، وقصة
مؤمن آل فرعون، وغلام أصحاب الأخدود، وانظر إلى أثر الدعوة في إزهاق الباطل وعلو
الحق والعز والتمكين في الدنيا قبل النعيم في الآخرة (بَلْ
نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ
الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
)
(الأنبياء:18).


وما ضعف المسلمون عبر التاريخ إلا لتضييعهم
شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ النذارة والبشارة، والدعوة إلى الله؛
لأنها ىسر خيريتهم (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللّهِ
)
(آل عمران:110).


الدعوة إلى الله سر الخير والتمكين، وكسر
الطواغيت، وتحرير الأمم، وبناء الحضارات، وإرساء المبادئ والقيم، وهدم الباطل
وزخارفه، والقذف بالحق الدامغ لكل فساد وظلم واستبداد؛ ولذلك لابد من المواجهة
والانخراط والاختلاط..



ستواجه وجوهًا صالحة، وقلوبًا كارهة منكرة
مستكبرة، وظلمات، وأمواتًا وصدودًا وإعراضًا، ولابد من الصبر على الحق كما أن
الكفرة الفجرة يصبرون على الباطل، بل ويقسمون على نصرته وأحقيته في الوجود، (كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ . الَّذِينَ جَعَلُوا
الْقُرْآنَ عِضِينَ . فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ . عَمَّا
كَانُوا يَعْمَلُونَ
)
(الحجر:90-93)؛ هؤلاء المقتسمون الذين يقسمون على الباطل (وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ
اللّهُ مَن يَمُوتُ
)
(النحل:38).


وقد أقام الله عليهم الحجة وبيَّن لهم المحجة، فلا
عذر لهم في التكذيب والعناد، لا عذر لهم في تكذيبهم ولو لحرف واحد من القرآن،
فالحق لا يتجزأ، والحقيقة مطلقة؛ أن الله هو الحق المبين؛ فليس لهم أن يجعلوا
القرآن عضين، أي: يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض!



فيرد الله على قسمهم على الباطل -وما هذا القسم
إلا باطلًا- بقسمٍ منه -تبارك وتعالى- على إحضارهم وإرجاعهم بين يديه وسؤالهم؛ فهم
كذبة (وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ
يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلـكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ . لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ
)
(النحل:38-39).


فسوف يرجعهم ويحضرهم بين يديه، ويحاسبهم
على كل صغيرة وكبيرة، فيقول المولى: (فَوَرَبِّكَ
لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ . عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
)
(الحجر:92-93).


قال ابن عباس:
عن لا إله إلا
الله، وهي أهم شروطها وأركانها وحقائقها التي تشمل الدين كله، وهذا مصداق قوله
-تعالى-: (ويَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا
الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا
مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا
)
(الكهف:49)، كل أعمالهم، وبهذا تتفق أقوال كل المفسرين.


واعلم أيها
النبي وأيها الداعية إلى الحق أنك مسئول أيضًا:
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ
)
(الزخرف:44)، عن البلاغ المبين لرسالات الله وكلماته
وأوامره، (قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ
أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا . إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ
وَرِسَالَاتِهِ
)
(الجن:22-23).


فعليك حمل
ثقيل بين يدي الكبير المتعال فقم:
(فَاصْدَعْ بِمَا
تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
)
(الحجر:94).


وأصل الصدع: الشق والفصل، فالجهر بالدعوة فرقان
بين الحق والباطل والكفر والإيمان، والآيات تختصر لك وتطوى أمامك ثلاثة سنين من
الخوف والإيذاء لحفظ سرية الدعوة ثم تأتى هذه الآية بك إلى مرحلة مختلفة من حياة
النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعوته إلى الحق، إنها القوة وشجاعة النفس، ورباطة
الجأش، في إبلاغ أكبر حقائق الكون والوجود، وجوب العبودية لله الواحد القهار وحده
-تبارك وتعالى-.



وفي غمار ذلك لا تلتفت عن قضيتك رغم الاستهزاء
والسخرية، وتعالي نبرة التحقير والإهانة؛ لأن (إِنَّا
كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
)
(الحجر:95)، (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ
)
(المائدة:67).


وكان جماعة من الصحابة -رضوان الله عليهم-
يحرسون النبي -صلى الله عليه سلم-، فلما نزلت هذه الآية: (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، خرج على الناس وأخبرهم وصرف
الحرس.



الله يكفيك هؤلاء بما شاء وهو العلي القدير، ولكن
عليك أن تتأسى بربك في صبره على هؤلاء المشركين المعاندين، فربك هو الصبور -تبارك
وتعالى- يحلم عليهم مع قدرته؛ فكيف بك أنت أيها النبي، وأيها الداعية؛ كيف يكون
صبرك؟! مع ضمان الله لك بالكفاية والنصر، (إِنَّا
كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ . الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهًا
آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
)، فصفة الحلم لازمة لعباد الرحمن (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)
(الفرقان:63).


فإن كانوا يسبونك ويشتمونك وأنت مبرأ من
ذلك، فاصبر فالله أعلى وأجلُّ، ويسبه ابن آدم وليس له ذلك، ولا يعجل بالعقوبة
ويحلم، فيستحق الثناء والحمد -تبارك وتعالى- على صبره وحلمه، مع قوته وقدرته.



ثم تأتى التسلية الكبرى واللمسة الحانية،
ونبضة الأنس، والقرب الخاص من قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقلب كل منكسر في
سيره إلى الله من جراء الظلم والقمع، وقلب كل بذل وضحى ولم يجد غير الأذى والصدود
والنكران، قلب كل مجروح بجراحات مخالفات المدعوين وعصيانهم لربهم؛ غيرة لربه
-تبارك وتعالى-.



قلب كل متحسر
على مَن تنكب الطريق إلى الله وإلى سعادة الدنيا والآخرة:
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن
مِّنَ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ

وكأنها شبيهة بآية أخرى من النجوم المتلألئة في سماء القرآن: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ . وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ
النُّجُومِ
)
(الطور:48-49).



وللحديث بقية -إن شاء الله-.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 29-05-2020, 03:40 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات إيمانية في خواتيم سورة الحجر

تأملات إيمانية في خواتيم سورة الحجر -4

كتبه/ أبو بكر
القاضي



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالله هو السميع البصير العليم، يعلم ما بك -أيها المحب له والداعي إليه- مِن ألمٍ وحزنٍ عميقٍ، حسرات تكاد تقطع القلب على مَن بارز ربه بالشرك والكفران، أو المخالفة والعصيان، الله يسمع قولهم لك مِن أذى واتهام، واستعلاء وعجرفة، وسخرية واستهزاء، وقد قدَّر ذلك لحكمٍ جليلةٍ جميلةٍ.

ومِن هذه الحكم: ذلك المشهد المتدفق بالنور (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (الحجر:98)، لا يتحرك اللسان، ولا تتمتم الشفاه بالرد والجدال، والمراء السقيم، وإذ ما تحركت فبالتسبيح بحمد الملك والتسبيح، والتنزيه له عن النقائص، والحمد إثبات المحامد، وجمال الصفات والأفعال.

وتنطلق الأركان بالهوى للسجود بين يدي عظمته والتذلل له -تبارك وتعالى-، وهنا تفتح بوابة القرب على مصراعيها، وهنالك تندمل الجروح وتغسل القلوب بنسائم اللطف ورذاذ الرحمات، ويُجلى صدأ الأحزان والأشجان، ولا تبقى إلا أفراح الآخرة، وفيوضات الرضا (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه:130).

والتسبيح والصلاة معنيان مرتبطان في القرآن والسنة؛ لأنهما حقيقة واحدة في تحقيق التذلل لرب العالمين والثناء عليه بما هو أهله، وتعظيمه وتمجيده -تبارك وتعالى-، ويأتي التوجيه الأخير كالتاج والجوهرة الثمينة في ذلك العقد الفريد.

زبدة الإشارات، وأصل الأوامر والتوجيهات، ولب إدارة الصراع بين الحق والباطل، (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99)، فعليك تحقيق العبودية ليس عليك النتائج، عليك البلاغ المبين، ليس عليك استجابة الخلق، فإنما عليك هداية البيان، وعلى الله هداية التوفيق.

عليك الصبر على الطاعة وعن المعصية، وعلى الأقدار المؤلمة وهو حبس النفس؛ ليس عليك استعجال النصر، عليك السير إلى الله بدون توقفٍ أو ترددٍ.

لا استعجال موعود الله مِن النصر في الدنيا أو حتى في الآخرة، فالأمر كله بيده -تبارك وتعالى-، لا نتوقف حتى تصل بك مقطورة الحياة إلى بوابة الغيب، بوابة الرحيل عن الدنيا إلى الآخرة، وهي الموت، ولا تبرح بوابة العبودية صلاحًا وإصلاحًا حبًّا وشوقًا جهادًا وبيانًا، عملًا وعمرانًا، ما دام فيك رمق حياة.

وترك أي مِن ذلك مِن طاعة الله هو موت وإن كنت حيًّا، والموت في سبيل الله -سبحانه وتعالى- هو الحياة الحقيقية؛ لأن الحياة تقاس بقضائها معه -تبارك وتعالى-، والموت بالبعد عنه؛ فلا استسلام ولا ركون أو استكانة في الصراع بين الحق والباطل، والنور والظلمات في نفس المؤمن، أو مجتمعه وأمته إلى أن يأتي اليقين من الله، فهذه الحقائق تهب النفس الطويل، والصبر والصفح الجميل في تلك المسيرة، مسيرة التدافع والابتلاء التي نصبر فيها سويًّا حتى نصل إلى موعود الله الجميل، فإن الله صَّبر المشتاقين بتلك الآية، وهي نعم الجزاء والوفاء والأجر الجزيل، فهل مِن متصبر فيصبره الله حتى نصل إلى برِّ الأمان ولقاء الرحمن؟! (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت:5).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 100.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 97.28 كيلو بايت... تم توفير 3.26 كيلو بايت...بمعدل (3.24%)]