التثبت قبل التوهيم!

[ابوالوليد المسلم]

التثبت قبل التوهيم!


الشيخ علي بن محمد العمران


من قضايا البحث العلمي التي تكرسّت في مناهج البحث المعاصرة: عزو النقول إلى مصادرها، وتختص مادة تحقيق النصوص التراثية بمزيد عناية في جانب العزو إلى مصادر المؤلف التي ينقل منها تصريحا أو تلميحا، وقد تواجه الباحث بعض القضايا المشكلة في هذا الباب من أبرزها:
إذا عزا العالم حديثاً إلى كتاب من كتب الحديث ولم نجده فيه، أو نقل عالمٌ من كتاب ولم يُعثر عليه في المطبوع منه؛ فما الصنيع الأمثل؟

من الباحثين من يبادر إلى نفي وجود ذاك النقل في الكتاب، بمجرد أنه لم يعثر عليه في مطبوعته، وقد يتسرع فيوهّم المؤلف في نقله أو عزوه، وهذا تسرع ينبغي للباحث أن يصون نفسه عنه بل يتريث.

ومن الباحثين من يقيّد كلامه بأنه لم يجده في المطبوع فقط، وإذا كان له أكثر من طبعة وراجعها فهو حسن، فإن لم يجده فيها قال: لم أجده في طبعات الكتاب. وإنما قلنا هذا لاعتبارات عديدة نجمل أهمها فيما يلي:
1- أن يكون عزو العالم أو نقله من رواية أخرى للكتاب، إذا كان للكتاب روايات، كما هو حال كثير من كتب الحديث، وكتب الرجال والأدب وغيرها. وقد يقع في هذا حتى كبار العلماء، فقد نفى الحافظ في فتح الباري أن يكون حديث: (إنما الأعمال بالنيات) مخرّجا في الموطأ، وهو فيه لكنه في رواية محمد بن الحسن الشيباني.


أما المتأخرون من الباحثين فقد وقع لهم مثل هذا النفي كثيرا ، ولو رحنا نعدد أمثلته لطال الأمر، وانظر ما استدركه الأستاذ عبد الستار الشيخ في ترجمته للحافظ ابن حجر على د. سعيد القزقي في تحقيقه لتغليق التعليق حيث نفى في مواضع وجود كتب في الصحيح يحيل الحافظ إليها فلا يجدها المحقق في نسخته بينما هي في رواية أبي ذر التي اعتمدها الحافظ في شرحه.

2- أن يكون النقل سقط من المطبوعة بين يديك أو من الموسوعة التي تبحث فيها.

3- أن يكون قد سقط من النسخة المخطوطة التي طبع عنها الكتاب.

4- أن يكون الإمام قد نقل العزو من كتاب آخر قبله، فيبرأ هو من عهدة التوهيم في الإحالة وتكون العهدة على من قبله.

5- أن يكون الحديث في كتاب جمع أحاديث الكتاب مع زيادات، مثل كتب الجمع بين الصحيحين والمستخرجات وجامع الأصول، فيستروح المؤلف العزوَ إلى الأصول وإنما أخذ من الفروع.

وهذا يتبين بالاستقراء من صنيع المؤلفين، فمثلا ابن خلكان ينقل كثيرا من الأنساب للسمعاني أشياء ليست فيه، والحقيقة أنه إنما ينقل من مختصره اللباب لابن الأثير، فإن ابن خلكان نص على أنه لم يقف على الأنساب! وشيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من عزوه للصحيحين إنما يسوق الألفاظ من الجمع بين الصحيحين للحميدي فقد كان له به عناية خاصة وحفظه عن ظهر قلب. وابن القطان الفاسي ينقل من الضعفاء للساجي ولم يقف عليه وإنما وقف على مختصره لابن حزم.

6- أن يكون الحديث في غير مظنته، فلا يوقف عليه إلا بعد بحث طويل، كما في طائفة من أحاديث البخاري في خبايا الزوايا.

7- أن يكون اللفظ المعزو للكتاب منقول بالمعنى، ولا تجده في المصدر بنفس اللفظ الذي تبحث عنه، وكثيراً ما يحدث هذا للباحثين في الموسوعات الإلكترونية، فإنهم يبحثون بالألفاظ فلا يقفون على المراد .

8- أن يكون الوهم فقط في نسبة الحديث إلى صحابيّه أو النقل إلى قائله، وإلا فاللفظ معروف موجود.

9- أن يكون اللفظ محرفاً في الطبعة التي تراجع فيها أو الموسوعة التي تعتمد عليها. وقد نبّه الحافظ كثيرا في تهذيب التهذيب على أن نسخته من ثقات ابن حبان شديدة التحريف، فربما نقل منه نصا في تحريف ولا نجده اليوم فيما طُبع منه.

هذه الاحتمالات وغيرها تجعل الباحث يتريث قبل أن يخطّئ أحداً في نقل أو يوهّمه في عزو.