عناصر النظم القرآني في سورة الرعد - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         ولا تبغوا الفساد في الأرض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          تحرر من القيود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          فن التعامـل مع الطالبات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 28 - عددالزوار : 777 )           »          العمل السياسي الديـموقراطي سيؤثر في الصرح العقائدي وفي قضية الولاء والبراء وهي قضية م (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 129 )           »          طرائق تنمية الحواس الخمس لدى الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 16 )           »          حقيقة العلاج بالطاقة بين العلم والقرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 27 )           »          الله عرفناه.. بالعقل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 90 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى الإنشاء

ملتقى الإنشاء ملتقى يختص بتلخيص الكتب الاسلامية للحث على القراءة بصورة محببة سهلة ومختصرة بالإضافة الى عرض سير واحداث تاريخية عربية وعالمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-11-2020, 01:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي عناصر النظم القرآني في سورة الرعد

عناصر النظم القرآني في سورة الرعد (1)











د. محمد بن سعد الدبل






بعد تلك اللمسات - التي عشنا معها في المقالات السابقة - حول فاتحة السورة، نمضي مع الآيات متفحصين المفردة القرآنية في كل آية مما ذكرنا، لننظر مدى ما تميَّزت به من جمال وقعها في السمع، واتساقها الكامل في السياق، واتساع دلالتها لِما لا تتسع له عادة دلالاتُ الكلمات الأخرى، بل إننا بحاجة ماسة إلى التريُّث والتدبر، فلعلنا ندرك شيئًا من سر إيثار لفظة على أخرى، ووجه ارتباطها بما قبلها وبما بعدها.





فلنأخذ مثلاً لفظة ﴿ أُنْزِلَ ﴾ من قوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ﴾ [الرعد: 1]، ولنتأمل مخارج حروفها في القرب والبُعد، كيف جاءت بهذا التناسق في الإيحاء بأمر المنزل؟ الذي أضفى على جلالة قدره، وعلو مكانته بناء تلك اللفظة للمجهول!! وأضف إلى تلك اللفظة ما بعدها من ألفاظ في قوله - تعالى -: ﴿ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ﴾، وتأمَّل تلك الإضافة إلى ضمير المخاطب في لفظة ﴿ رَبِّكَ ﴾، ففي ذلك تكريم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وسموٌّ بعبوديته لله وحده، وانظر إلى تعريف ﴿ الْحَقُّ ﴾ باللام، ثم مجيئه ختامًا لأمر المنزل وهو القرآن، وراعِ لفظة ﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ في آخر الآية، ما بالها اختيرت على "﴿ يَعْقِلُونَ ﴾، أو ﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾"؟ ما ذاك إلا أن الإيمان بهذا، وبمن نزل من عنده، وبمن نزل عليه، هو مطلب الآية الكريمة، وفي الذروة من هذا الإيمان المطلوب، الإيمان بالله خالق كل شيء، وإذًا حسن اختيار ﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ على غيرها مما ذُكر، وتخيَّر ما شئت من لفظ في قوله - تعالى -: ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ [الرعد: 2] الآية، "وأطلِقْ لنفسك العنان للحديث عن تلك الألفاظ ووظائفها وسماتها، تَجدك لا تبلغ معشار ما تحدثت عنه من مدلول ومعنى".





إليك لفظة ﴿ رَفَعَ ﴾، تأمَّل لِم أُوثِر التعبير بها على "سَمَك، أو بنى، أو أسَّس"، ما ذاك إلا لأجل تكامل الصورة العجيبة التي رسمتها الآية عن مشهد هائل في العلو، ولفظة ﴿ رَفَعَ ﴾ ينطوي تحتها معنى السَّمك والبناء والتأسيس، فهي أشمل وأوسع في المعنى، وأليق في وصف هذا البناء المحكَم الذي تتراءى في كنهه العظمة، معبرة عنها ظلالُ ﴿ رَفَعَ ﴾ لا بنى أو أسَّس أو سَمَك، ولا سيما وقد ذكر معها في السياق لفظ الجلالة "الله"، على حد قوله - سبحانه -: ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ ﴾ [الرعد: 2]، وهكذا يمكن إيثار لفظة على أخرى في السياق القرآني، فأنت ترى التعبير مثلاً بلفظة "بنى" جيء به في موضع آخر من غير أن يُذكَر معه لفظ الجلالة؛ كما قال - تعالى - في سورة "ق": ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ﴾ [ق: 6]، وفي سورة الذاريات: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذاريات: 47].





وخُذْ من الآية أيضًا لفظة ﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ لِم عبر بها دون "تنظرونها أو تشاهدونها"؛ ذلك لأن صيغة ﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ تحمل معنى الرؤية الكاملة التي لا يحجبها ما يبدد النظر يمنة ويسرة لو جاء التعبير بـ: "ينظرونها"، أو "تشاهدونها"، وإنما الرؤية هنا مسلَّطة على ملكوت السموات للتدبر، والتفكر، وللجمع بين الرؤية الحسية، والرؤية العلمية المؤدية إلى اليقين، ولا يفي بهذا المعنى لفظ: "تنظرونها" أو "تشاهدونها".





هذا بالإضافة إلى ما تتسم به لفظة ﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ من رقة وسلاسة وسماحة، ومثل هذه الصفات مقطوعٌ بوجودها في ألفاظ القرآن مع صفات الفخامة والجزالة والقوة؛ فالبحث عنها تحصيل حاصل، وإنما المهم البحثُ عن الأسرار التي بها صار القرآن مستجمعًا لتلك الصفات كلها.





وإليك لفظة أخرى في سياق آخر، تلك صيغة "سَخَّرَ" من قول الحق - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ [الرعد: 2] الآية.





إنها لفظة موحية بالقوة والعظمة من خلال ظلالها وبِنْيتها؛ إذ جاءت بلفظ الماضي المضعَّف، فهي كبيرة في مدلولها، قوية في بنيتها، ذلك بجانب الحديث عن آيتين كبيرتين عظيمتين، هما الشمس والقمر، فاختير التعبير بها على غيرها، مما يؤدي معنى "التسخير"؛ كـ: "أمر"، أو "جعل" أو "ذلَّل"؛ لأن الآية هنا ترسم مشهدًا عظيمًا فيه منافع جليلة لعموم المخلوقات، ومثل هذه المنافع مجتمعة تقصُر في أدائها لفظة: "أمر، أو جعل، أو ذلَّل"، فأنت تلحظ في آية أخرى - حيث كان الحديث عن نعمة واحدة، هي الإضاءة وتبديل الظلمة والعتمة - أنه كفى في هذا المعنى ما هو دون التسخير مبنًى ومعنى، ذلك هو لفظ "جَعَلَ" من قوله - تعالى -: ﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾ [نوح: 16]، وإذا أنت أنعمت النظر في لفظة "سَخَّرَ" وجدت أنها سِيقت للحديث عن نِعَم كثيرة تُفيدها الشمس والقمر مسخرين من عند الله؛ ففي الشمس وطاقتها الحرارية منافعُ للإنسان والحيوان والنبات، وفي القمر زينةٌ للكون، وتبصير الناس بضبط المواقيت والحساب، وفيهما معًا دلالة لمن أراد التفكر في ملكوت الكون، تدعو إلى الإيمان بخالقِهِ ومبدعِه، وفي الإيمان طمأنينة لنفس المؤمن في الحياة الدنيا، وثواب من الله في الحياة الأخرى، ومن ذا الذي لا يطمع في الحصول على تلك المنافع؟ ومن ذا الذي ليس بحاجة إلى منافع الشمس والقمر، تلك المنافع التي لم يفِ في التعبير عنها لفظ غير صيغة "سَخَّرَ".





ونمضي الآن مع الآية الكريمة بحثًا عن الألفاظ كيف اتسقت، وعلى أيِّ هيئة جاءت، إليك قوله - تعالى -: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ ﴾ [الرعد: 2]، إنك إزاء صيغتين لفعلين مضارعين، هما: يدبر ويفصل، وفي التعبير بهما على تلك الهيئة ما يفيد التجدد والحدوث والاستمرار؛ لأن تسخير الشمس والقمر وما يجري معهما في العالم العلوي، وما يُفيده منهما العالم السفلي؛ كل ذلك في حركة دائبة، وتدبير لا ينقطع ولا يفتُر مع طول الزمن وتعاقب الأيام، وأعظم من ذلك مجيء الفعل ﴿ يُدَبِّرُ ﴾ يليه لفظٌ مفرد هو مفعول له، وهو لفظة ﴿ الْأَمْرَ ﴾ من قوله - تعالى -: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ﴾، ثم يجيء الفعل ﴿ يُفَصِّلُ ﴾ وبعدها مفعول به جمع، وهو ﴿ الْآيَاتِ ﴾ من قوله - تعالى -: ﴿ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ ﴾؛ ذلك لأن التدبير يكون في شأن واحد، والتفصيل يكون في أكثرَ من شأن؛ ولذا جاء المفعول في السياق الأول بلفظ المفرد، جاء المفعول في السياق الثاني بلفظ الجمع، بالإضافة إلى التغيير حتى لا يسير الكلام على نمط واحد؛ لأن هذا التعبير مدعاة لنشاط القارئ والسامع، واستمع لقول الحق - جل ثناؤه -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ﴾ [الرعد: 3].





وتأمل ذلك التعبير البديع بلفظ "مد، وجعل، ويُغْشي"، فتلك ألفاظ سهلة في مبناها، قوية في معناها، والذي يسترعي النظر هنا هو إيثار التعبير بـ: ﴿ مَدَّ ﴾ دون "بسط، أو وسع، أو دحا، أو خلق، إن في اختيار ﴿ مَدَّ ﴾ على غيرها من مرادفتها لَدَلالةً على بُعْدِ أقطار الأرض وسَعتها، ودلالة على قدرة الله على تذليلها لكافة المخلوقات، ولا يؤدي تلك المعاني لفظٌ أشمل من ﴿ مَدَّ ﴾؛ كـ: "بسط" ونحوه مما ذكر؛ إذ قد يتراءى للسامع أن البسط أو التوسعة كانا في جهة دون أخرى.





ولكن لما قال - سبحانه -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ﴾ دلَّنا هذا النظم على عظم القدرة على خلقها وبسطها من جميع جهاتها، والْحَظِ الفعلَ ﴿ جَعَلَ ﴾ وما تُضفيه ظلالُه على معنى الإيجاد الذي لا يُعجِز اللهَ وقوعُه في أي وقت وفي آية بقعة من الأرض، بل هو أهون عليه، وافطن للفظة "كل" في قوله - تعالى -: ﴿ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾، وتأمَّل ما تحمله تلك الصيغة من الدلالة على العموم المطلق بجانب الفعل ﴿ جَعَلَ ﴾ الذي لم يُحدِثْ تكراره خدشًا في تناسق الآية، بل جميع الألفاظ جاءت رتيبة الجرس والإيحاء في تناسق بديع مع لفظة ﴿ مَدَّ السابقة عليها، ثم تدبَّر لفظة "يُغْشِي" كيف لاءمت موقعها؛ إذ جاءت بجانب لفظة ﴿ اللَّيْلَ ﴾ لِما توحي به حروفها من معنى للظلمة، فهي غشاء ساتر لضوء النهار.





واستشعر بديع تلك الصورة العجيبة التي رسمتها ظلال الألفاظ التالية من قوله - تعالى -: ﴿ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ﴾ [الرعد: 4].





والذي يعنينا هنا هو الوقوف على الألفاظ، كيف التأمت وتناسقت؟ وأما الكلام على الجانب التصويري فسيأتي مفصلاً في موضع آخر من هذا الدراسة.





تأمل لِم وصفت هذه القطع ﴿ مُتَجَاوِرَاتٌ ﴾؟ ولم يقتصر على ذكر الأعناب من بين سائر صنوف الفواكه؟ ثم لم الجمع في لفظ: "جنات وأعناب"، والإفراد في لفظ: "زرع"، والجمع في لفظ: "النخيل"؟ إنه نظم بديع محكَم، نسخ إطاره من ألفاظ ذات رصف عجيب؛ فلفظة جمع بجوار أختها، وبينهما مفرد لم يبغِ حولاً عن مكانه، ولم ينُبْ عن قرينه، ناهيك بسر الاقتصار على لفظة "أعناب" واختيارها على غيرها من سائر أنواع الفواكه، ففي ذلك إيماء إلى أن مَن عنده أدنى تفكر لا بد أن ينظر إلى هذا اللون من النعم، في حجمه وطعمه، وشكله الشفاف، الذي يحمل قطرة من الماء، ثم يصبح من أشهى ما يتناوله البشر.





وتأمل التعبير بصيغة ﴿ تَغِيضُ ﴾ و﴿ تَزْدَادُ ﴾، وصيغتي: ﴿ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ من قوله - تعالى -: ﴿ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 8، 9]، أيُّ ألفاظ أوفى في أداء المعنى من "تغيض وتزداد".





لِمَ لم يأت التعبير: بـ: "تنقص" بدل "تغيض" وبـ: "تنمو" بدل "تزداد"؟، تأمل بإمعان أن خِلقة الجنين في الرحم متوارية ممعنة في الخفاء عن الأنظار، لا يعلم أحد من البشر كُنْهَ هذه الخِلقة، وما يعتريها من تقلبات إلا الله خالق كل شيء، ولفظة "تغيض" آكدُ في أداء المعنى، وأبعد في الإحاطة مما يجري للجنين من التعبير بـ: "تنقص"، توحي بذلك حروف "تغيض" المضفية صفة الجزالة على اللفظ، أما التعبير "يزداد" فليس هنا لفظة أليق منها بمكانها؛ لأن التأمل قد يلمس من وراء مدة الجنين بعد طولها ما يعينه على رعاية الحمل والتلطف في الإشراف على الجنين وعلى أمه حتى يزداد سلامة كلما ازداد خِلقةً.





وأما قوله: ﴿ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9] فليست هناك ألفاظ أجزل وأفخم وأمعن في التدرج بوصف الذات العلية بالكبرياء والعلو المطلق منهما، ولا يستطيع أحد أن يقول شيئًا عن لفظة ﴿ الْمُتَعَالِ ﴾ إلا أن يفسرها بها وكفى.





وتأمل لطائف التعبير بلفظة: ﴿ مُسْتَخْفٍ ﴾ دون مُختفٍ، و﴿ سَارِبٌ ﴾ دون ذاهب أو سائر؛ ذلك لما تحمله لفظة ﴿ مُسْتَخْفٍ ﴾ من كثافة في المعنى على أكمل وجه تقصُر دونه لفظة مُختفٍ أو يختفي، ولا شك أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى.





ومما يستوقف المتأمل مقابلة ﴿ مُسْتَخْفٍ ﴾ بـ: ﴿ سَارَبٌ ﴾، تلك اللفظة التي بظلها تعطي زيادة في المعنى على مبناها، فظلها ظل خفاء، أو قريب منه، ولكن الحركة فيها هي المقصودة في مقابل الاستخفاء..."، فتم التقابل العجيب الذي يدركه كل مَن يملك أدنى ذوق بأجواء التعبير، يضاف إلى ذلك إيثار القرآن الكريم لهذه الألفاظ العالية التي لم تبتذلها ألسنة عامة أصحاب اللغة.





وانظر لحسن التناسب بين الألفاظ في قوله: ﴿ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾ [الرعد: 13] ورَاعِ حسن الجوار بين لفظة ﴿ شَدِيدُ ﴾ ولفظة ﴿ الْمِحَالِ ﴾ وقوة الترابط بينهما؛ إذ لما كانت لفظة ﴿ الْمِحَالِ ﴾ توحي بالقوة في مدلولها ومعناها، تقدمتها لفظة ملائمة لهذا المدلول، فجاء التعبير ﴿ شَدِيدُ ﴾ دون "عسير أو شاق" مثلاً، وهذا كله عن الألفاظ مفردة، فكيف بأسرار النَّظم في التركيب؟









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-11-2020, 01:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عناصر النظم القرآني في سورة الرعد

عناصر النظم القرآني في سورة الرعد (2)
د. محمد بن سعد الدبل








إذا كان هنالك خلاف في تقدير اللبنة الأولى في العمل الأدبي، وأعني بها اللفظة المفردة بين عبدالقاهر وغيره من النقاد الذين أشرنا إلى آرائهم فيما سبق، فإننا لا نجد أثرًا لهذا الاختلاف في مزية التركيب، أو التأليف، أو النظم الذي تُضَمُّ فيه اللبنات بعضها إلى بعض حتى تفيد الغرض الذي من أجله تصاغ العبارة، فإن أولئك الذين أشادوا باللفظة المفردة لم يستطِعْ واحد منهم أن ينكر فضل التأليف، أو النظم، أو التركيب؛ أي إنهم جميعًا يلتقون مع عبدالقاهر في اعتبار قوة التركيب، وحسنه، وتنسيقه، وأنه صاحب الأثر الأوفى في تقدير الكلام.




فإذا كان قدامة بن جعفر - مثلاً - قد وصف اللفظة المفردة بما أسلفنا من الأوصاف، فإنه يولي النظم الذي يسميه بـ: "الائتلاف" عناية كبيرة، فيقرر أن اللفظة قد تحسن من حيث هي لفظة مفردة، فإذا نظر إليها مؤتَلِفة - أي: منظومة مع معناها، ومع وزنها، ومع ما تقتضيه قافية البيت في الشعر - اكتسبت مزية أخرى، أو أصابها شيء من القُبح.




ويطلق قدامة كلمة "النعوت" على المحاسن التي يفيدها الكلام من هذا الائتلاف، ويجعل في مقابلها العيوب، وليس يسمح المجال في هذا المضمار ببسط تلك النعوت أو العيوب كما أوردها.




وكذلك ضياء الدين بن الأثير الذي نراه بعد أن أفرد الألفاظ المفردة بالبحث عن أسباب حسنها أو أسرار قبحها - يتكلم طويلاً عن التركيب.




وإذا كنا قد أفردنا بالإشارة بعض الألفاظ المفردة في طائفة من آيات السور، وذكرنا شيئًا مما تمتاز به على غيرها من مرادفاتها - فليس يفوتنا أن ننبِّهَ إلى أن السياق كان له أبعدُ الأثر في تخيُّر هذه الألفاظ على النحو الذي أشرنا إليه، فهذه الألفاظ وحدها في غاية السمو كما فصلنا، وازدادت جمالاً وجلالاً بنَظْمها في التركيب الجملي الذي اقتضاها دون غيرها.




وليس ما يفتش عنه النقاد هو محصل ما يصل إليه الكاتب أو الشاعر في صناعته من الجودة وعدمها قوة وضعفًا؛ لأن نظرتهم إلى القرآن الكريم في أسلوبه لا تختلف بحال من الأحوال، فهو آية في السمو، والجودة، والإعجاز البياني، "وإذا كان الكلام يتركب من ثلاثة حروف؛ هي من الأصوات، وكلمات؛ هي من الحروف، وجمل هن من الكلام - فسِرُّ الإعجازِ في نظم القرآن الكريم هذه الأنواع كلها؛ بحيث خرجت من جميعها تلك الطريقة التي قامت به، فألفاظه كيفما أدرتها، وكيفما تأملتها، وأين اعترضتها من مصادرها أو مواردها، ومن أي جهة وافقتها، فإنك لا تصيب لها في نفسك ما دون اللذة الحاضرة، والحلاوة البادية، والانسجام العذب"، "وإذا صارت اللفظة مركبة، فإن لتركيبها حِكَمًا غيرها مفردة؛ وذاك لأنه يحدث من أثر التركيب فوائدُ من التأليفات والامتزاجات، حتى يخيل للسامع أن هذه الألفاظَ ليست تلك التي كانت مفردة"، وإذًا فأسرار بدائع التركيب كامنة في النظم، فلنبحث عن هذه البدائع في النص الكريم من قوله - تعالى -: ﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 1] الآيات حتى قوله: ﴿ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴾ [الرعد: 14]، ولنتفحص الأسباب التي من أجلها قُدِّم جزء، وأُخِّر جزء؟ ولماذا حُذِف هنا وأُثبِت هناك؟ ولِمَ جاء التعريف هنا وهناك التنكير؟ ولم استُعمل الخبرُ في موضع الإنشاء؟ ولم عبِّر بالمجاز مرة وبالحقيقة أخرى؟ وكيف حَسُن هنا التشبيه، وراق في موضع الجناس؟ إلى غير ذلك من مباحثَ تتصل بشأن التركيب والمعنى في الجملة والجملتين".




وقبل أن نفصل القول في روعة نظم هذه الآيات، أرى من الواجب أن نجمل الأغراض والمقاصد التي نرمي إليها.




وأول ذلك افتتاح السورة بما يلخص موضوعها كله، ويشير إلى جملة قضاياها، فبعد الانتصار للقرآن الكريم، وأنه حقٌّ لا مريةَ فيه يبدأ سياق الآيات في استعراض آيات القدرة، وعجائب الكون الدالة على قدرة الخالق، وحكمته وتدبيره، الناطقة بأن من مقتضيات هذه الحكمة أن يكون هناك وحي لتبصير الناس، وأن يكون هناك بعث ونشور، وحساب وجزاء.




ويستمر السياق في تفصيل آيات القدرة، فتعرض السموات مرفوعة بغير عمد، معروضة على الأنظار، هائلة في شكلها وعلوها دون دعائم تقوم عليها، ومن هذا المنظور الهائل ينتقل السياقُ إلى ما هو أعظم هولاً، إلى المغيب الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار، من قوله - تعالى -: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الرعد: 2]، ويتضح لكل ذي عين وعقل مدى قدرة الله المحيط بكل شيء؛ فمع الاستعلاء والتسخير تقترن الحكمة والتدبير، كلٌّ يجري لأجل مسمى، إلى حدود مرسومة، وَفْق ناموس مقدر، ثم يهبط العرض التصويري الهائل من السماء إلى الأرض، فيرسم لوحتها العريضة الأولى، ويبدأ في تخطيطها وبسطها وانفساحها بخطوط جزئية أدق من الخطوط العريضة الأولى؛ إذ يقول - تعالى -: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ﴾ [الرعد: 4] الآيات، ثم يرمي السياق إلى ما هو أكبر وأسمى غاية، ذلك هو طلب الإيمان بخالق هذا الكون البديع، وما فيه، وهذا المقصد يأتي بطريق التعجب من أمر قوم يلزمهم الإيمان، لكنهم يأبَوْن إلا الكفر تجبُّرًا وعنادًا.




﴿ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [الرعد: 5] ما لهؤلاء لا يؤمنون؟ فإن الذي خلق هذا الكون الضخم ودبَّره على هذا النحو قادرٌ على إعادة الأناسيِّ خلقًا جديدًا، لكن إنما هو الكفر المسيطر على العقول والأفهام ﴿ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]! إن هذا الكفر لا يملك معه فرد من هؤلاء المعاندين إلا الوقوف أمام المبلغ الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - بطلب الخوارق والمعجزات، وتلك حجة مَن غلب على قلبه الكفرُ والضلال، واستحوذ على عقله العنادُ فَلَجَّ في كبريائه الساقطة.




ويعرض السياق في الآيات وجوه الهداية وطرق الإرشاد لهؤلاء ولغيرهم، وأن عليهم النظر، والتأمل في آفاق الكون، وآيات الله المبثوثة في السماء والأرض، وأن عليهم التفكير والاتعاظ، فلينظروا إلى مصارع الغابرين الذين استعجلوا عذاب الله، فأصابهم وتركهم مثلةً يعتبر بها مَن بعدهم ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ﴾ [الرعد: 6]، ويمضي سياق الآيات مقدمًا مغفرة الله على عقابه في مقابل تعجُّل هؤلاء الكافرين الغافلين، ليبدو الفارق الكبير بين الخير الذي يريده اللهُ للناس، والشر الذي يريده الناس لأنفسهم، ومن وراء هذا الشر يظهر انطماس البصيرة، وعمى القلب، والانتكاس الذي يستحق درك النار، وتلك الأغراض تجمعها الآياتُ الكريمات من قوله - تعالى -: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ * وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ [الرعد: 6، 7].




ويستمر عرض تلك المقاصد السامية منتهية بالجولة الأولى في الآفاق، والتعقيبات عليها، حتى يبدأ السياق جولة جديدة في وادٍ آخر، في الأنفس والمشاعر والأحياء من قوله - تعالى -: ﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى ﴾ [الرعد: 8].. إلى قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11] نلحظ في مرامي تلك الأغراض والمقاصد: تقرير المبدأ وإبراز حالة تغيير الله ما بقوم إلى السوء؛ لأنهم كانوا السبب في ذلك؛ فليس الله بظلامٍ للعبيد، ثم يستمر العرض، فيأخذ سياق تلك الآيات جولة جديدة أخرى، في وادٍ آخر موصول بذلك الوادي الذي تحدثت عنه الآيات الأولى في مطلع السورة، ذلك معرض تجتمع فيه مناظر الطبيعة، ومشاعر النفس الإنسانية متداخلة متناسقة في الصورة والظل في مشهد تخيم عليه الرهبة والضراعة، والجهد والإشفاق، وتظل النفس فيه في ترقُّب وحذر، وفي تأثُّر وانفعال، نلحظ ذلك في قوله - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ﴾ [الرعد: 12، 13]..... إلى قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴾ [الرعد: 14][1].




ولنبدأ الآن في تحليل نظم هذه المعاني، وتلك المقاصد والأغراض التي ضمها إطار الآيات من مطلع السورة إلى قول الله - عز وجل -: ﴿ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴾ [الرعد: 14]، وبأدنى تأمُّل نلحظ أن أول ما يطالعنا في تراكيب هذه الآيات تنوعُّها وتفاوتها من حيث الطول والقِصَر على حسب ما يقتضيه معنى هذه أو تلك، فقد ساقت الآية الأولى من السورة معنى "الانتصار للقرآن الكريم، وأنه الحق الذي لا مرية فيه"، ولم يتطلب الموقف هنا سوى ثلاثة مقاطع من الآية، هي قوله: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 1]، وقوله: ﴿ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ﴾ [الرعد: 1]، وقوله: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الرعد: 1]، ولما بدأت الآيات في عرض القدرة الإلهية جيء بثمانية مقاطع هي قوله: ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ ﴾، وقوله: ﴿ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾، وقوله: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، وقوله: ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾، وقوله: ﴿ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾، وقوله: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ﴾، وقوله: ﴿ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ ﴾، وأخيرًا: ﴿ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ [الرعد: 2].




وهكذا حتى نستقرئ الآيات جميعًا في هذه المجموعة، بل ستجد ما هو أبدع وأروع، وذلك فيما يظهر من تنوع التركيب في كل مقطع من مقاطع الآية الواحدة، من جملة اسمية، إلى جملة فعلية.




فهذه مثلاً جملة: ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ ﴾ تعقبها متراخية عنها جملة: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، وتأتي بعد ذلك جملة ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾، فالأولى اسمية تعطي معنى الثبوت والاستمرار، فلا أحدَ غير الله - سبحانه - رفع السموات وثبَّتها بغير عمد؛ فهي مستمرة على هذا العلو المتناهي الثابت الذي لا يزول، وثمة جملة أخرى تفيد معنى التجدد والحدوث، وذلك مثلاً في قوله - تعالى -: ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾، فمن ذا الذي يذلِّل هذين الفلكين، ويسخِّرهما لمصالح البشر، وَفْق قاموس طبيعي متجدد؟ فنهار يعقبه ليل، وليل يعقبه نهار، في حركة متكررة دائبة لا تفتر؟




لا أحد غير الخالق الكريم الذي أبدع خلقهما على هذا النحو العظيم.




وتأمل بديع صلة قوله - تعالى -: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ بالجملة التي تليها من قوله في مطلع الآية الثانية: ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ ﴾، ووجه الصلة بينهما: أن الأُولى نعت الإيمان على كثير من الناس، لكن هذا الإيمان بمن؟ إنه الإيمان بالله الذي رفع السموات بغير عمد، حقًّا إنه تركيب تستلهم معناه القلوب، وترعاه العيون.




يأتي بعده في السياق معنى أدق وأعظم، يغيب عن مدارك البشر جميعًا، ذلك هو قول الله - سبحانه -: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، ولأمر ما جاء العطف بـ: "ثُمَّ" دون غيرها من حروف العطف!! إن هذا الحرف يعطي مهلة للتأمل، لينظر أهو قادر على اكتناه ذلك العلو المطلق، والاستواء الغيبي الذي لا تدركه الأبصار.




ويأتي بعد ذلك في السياق العطف بالواو، الذي لا يقتضي غير التشريك بين جملتين، وفي هذا إيماؤه إلى مدى إحاطة علم الله وقدرته؛ فكونه - تعالى - على خلقه بائن منهم، فإن علمه وقدرته محيطة بكل شيء؛ ولذا جاء قوله - تعالى -: ﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ بعد قوله: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾.




وافطن إلى قوله - تعالى -: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ ﴾ ما لهذه الجمل جاءت من غيرِ عطف بـ: ثم، أو الواو، أو حرف آخر من حروف العطف؟




إن الأمر ليس يخضع لتقنين البلاغيين ومصطلحاتهم، كقولهم: عطف على تلك الجملة لكمال الانقطاع، وترك العطف لشبه كمال الاتصال مثلاً، وإنما الأمر أدق وأبدع من ذلك، ونلحظ براعة النظم في عملية التدبير والتفصيل الذين لا يُعجِز اللهَ شيءٌ منهما؛ فاتصالهما مركبين في التعبير من غير عطف ينم عن اتصالهما الوثيق بعلم الله، وقدرته المسيطرة التي لا تنقطع ولا تنفصل بحال من الأحوال.




والْحَظْ كيف ختمت الآية الأولى في السورة بقوله - تعالى -: ﴿ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ دون ﴿ لَا يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أو ﴿ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ مثلاً، وختمت الآية الثانية بـ: ﴿ تُوقِنُونَ ﴾ دون ﴿ تُصَدِّقُونَ ﴾ ليس هذا الختام لتوافق الفاصلة القرآنية فحسب، وإنما لكون الآية الأولى ذكرت في سياقها معاني القدرة الإلهية من رفع السموات والاستواء، وتسخير الشمس والقمر، وتلك الأمور تستدعي أن يكون الختام بـ: ﴿ تُوقِنُونَ ﴾ دون ﴿ تُصَدِّقُونَ ﴾؛ فدرجة اليقين أعم وأكبر من التصديق، واليقين بالشيء أصل التصديق به.




والْحَظْ هذا التناسق العجيب في سياق الآيات؛ إذ لما انتهت من عرض القدرة الإلهية في العُلْوِ، أعقبت بعرض القدرة ومظاهرها في السُّفْلِ، على حد قول الحق - تبارك وتعالى -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ﴾ [الرعد: 3] إلى قوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الرعد: 3]، والإطار الذي يكتنف عرض هذه المعاني الشريفة السامية منوع بجمل اسمية وأخرى فعلية، مرة مؤكدة، ومرة غير مؤكدة، ومما يسترعي النظرَ في هذا السياق توالي ثلاث جمل مصدَّرة بفعل ماضٍ من قوله - تعالى -: ﴿ مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾، وقوله: ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ﴾، وبعد هذه الأفعال تأتي جملة: ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ﴾، ما سر افتتاح هذا التركيب بالفعل المضارع "يُغْشِي"؟ أليس مد الأرض، وبسطها، وتثبيتها بالجبال الراسية، وبث الثمرات في جنباتها من الدلائل على عظمة الخالق وقدرته؟ إنه لكذلك، ولكنَّ فَرْطَ أُلْفَة الناس لهذه المخلوقات، وبقاءها صامتةً جامدة قد يهوِّن عليهم أمرها، دون تدبر واعتبار طويلين، أما آية الليل وآية النهار فهما آيتان كبيرتان، في إحداهما: طلب المعاش، وفي الأخرى: طلب السكون؛ فالكيفية البشرية فيهما متجددة نشيطة مستمرة.




ولذا جاء التعبير بالمضارع الدال على التجدد والحدوث، وأخيرًا تأمَّل ختام الآية إذ جاء مؤكدًا بأن واسمية الجملة، وانتهى بقوله: ﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ دون ﴿ يَعْقِلُونَ ﴾ مثلاً؛ لأن في هذه المخلوقات، وبديع صنعها، وتسخيرها - ما يستوجب التفكر والتأمل في ملكوت الكون، ثم سِرْ مع الآية من قوله: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ﴾ [الرعد: 4] إلى قوله: ﴿ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾، إنه نمط من القول رفيع، تتوالى تراكيبه في عرض الجزئيات الدقيقة للأرض، بعد رسم الخط العريض لخِلْقتها والغرض منها، فبعد أن قال - سبحانه -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ﴾، ثم بيَّن فيها من منافع لعموم المخلوقات قال مفصلاً: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ ﴾ [الرعد: 4]، وكذا وكذا، سبحان الله! ما من تركيب أو جملة إلا وتأتي حاملة في ثناياها معنى أضخمَ وأعظم من إطارها؛ فجملة: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ﴾ أربعة ألفاظ فقط، لكن من ذا الذي يستطيع عد قطع الأرض وحَصْرها وجمع صفاتها؟ إن هذا من بلاغة الإيجاز في أسلوب القرآن الكريم، وأعظم منه طريقةُ حرثِ هذه القطع، وما ينبت فيها، وما يخرج منها، وأعظم منها سقيها بماء واحد، ثم اختلاف ما تنتجه في اللون والطَّعْم والحجم والرائحة، ولسرٍّ ما جاءت جملة ﴿ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ﴾ مصدَّرةً بالفعل المضارع ﴿ يُسْقَى ﴾ دون أسقيناه، ففي الأول استمرار لتنوع الثمرات واختلافها على الرغم من سقيها بماء واحد، وفي ذلك استمرار القدرة المهيمنة على كل شيء، وأخيرًا تأمَّل ختام الآية بقوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الرعد: 4]، نعلم أن في خلق هذه المخلوقات ما يستثير العقول، ويدعوها إلى التدبر والتفكر، فليس الأمر مجرد حدَث أو شعور، ولكنه قضية تخاطب العقل أولاً، وتستلهب الشعور ثانيًا.




ومما نلحظه في تراكيب هذه الآيات مجملة تنوُّعها من جملة فعلية إلى اسمية مؤكدة وغير مؤكدة، إلى ما هو مصدَّر بالاستفهام وغيره، وكل ذلك أكسبها جدة وحيوية.





[1] من تفسير سورة الرعد في الظلال لسيد قطب.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 11-11-2020, 01:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عناصر النظم القرآني في سورة الرعد

عناصر النظم القرآني في سورة الرعد (3)
د. محمد بن سعد الدبل




خذ الآن قوله - تعالى -: ï´؟ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ï´¾ [الرعد: 5] الآية، واستشعر ارتباطها بما قبلها، إنه تقرير "لذكر مسألة المعاد؛ لأنه سبقه عرض هائل لذكر الدلائل القاهرة على ما يحتاج إليه أمر المبدأ[1]، فجاءت هذه الآية بهذا الربط المحكم البديع، على الرغم من طول النفَس بينها وبين إخوتها، ولم يزل المعنى حيًّا ينبض بالحركة المتواصلة، ثم اتلُ قول الله - تعالى -: ï´؟ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ï´¾ [الرعد: 5] إلى قوله: ï´؟ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ï´¾ [الرعد: 5]، وتأمل ما اشتملت عليه من الجمل، فقد ضم إطارها ست جمل، على الرغم من قِصَر هذا الإطار، والأهم من ذلك صفات تلك الجمل، وطريقة نظمها، إنها في عمومها جمل اسمية، مصدَّرة بالاستفهام في بعضها، وهذا الاستفهام إنكاري؛ ذلك لأن المعنى الذي تسوقه: هو إنكار الكافرين مسألة المعاد، ولما كان الإنكار منهم قويًّا يؤكده عدم إيمانهم بما وضَّح لهم عن هذا الشأن، توالت التأكيدات بالجمل الاسمية حسمًا للموقف.


وتأمل ذلك الربط العجيب بواسطة حرف العطف، وما أحدثه من تناسق صوتي يملأ جرسه الفم، ويقرع الآذان، وراعِ ذلك التكرار بلفظة "أُولَئِكَ" الذي بواسطته أدت الجمل معناها وافيًا، وقررت ما يستوجبه أمر هؤلاء المنكرين الذين غلت عقولهم وأبوا إلا عمى البصيرة عن الحق؛ فالأغلال والنار جزاء لهم من جنس عملهم.


لقد تدرج وصف العذاب مما هو شديد إلى ما هو أشد؛ إمعانًا في النكاية بهؤلاء المنكرين؛ لإمعانهم في الكفر والضلال.


وانظر ختام الآية من قوله - تعالى -: ï´؟ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ï´¾، وتأمل ما أحدثته بلاغة التقديم وتوسيط ضمير الفصل ï´؟ هُمْ ï´¾ بين الصدر والعجز، ففي ذلك تأكيد العذاب بالخلود فيه، وليس لمنكري البعث فحسب، وإنما للجمع المدلول عليه بقوله وسط الآية: ï´؟ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ï´¾ [الرعد: 5][2].


وقد وافق توسيط الضمير في آخر الآية، توسيط لفظ الكافرين في صدرها، فأي إحكام يبلغ مثل ذلك؟


ثم يمضي السياق في قوله - تعالى -: ï´؟ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ï´¾ [الرعد: 6] إلى قوله: ï´؟ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ï´¾ [الرعد: 6]، وهنا أربع جمل: اثنتان منهن في صدر الآية، ونوعهما فعليتان، الأولى: فعلها مضارع، والثانية: ماضٍ مصدَّر بـ: "قد"، واثنتان اسميتان جاءتا في عجز الآية، مقابلة ونسج بديع؛ فمضارع يدل على التجدد والاستمرار؛ لأن الآية تسوق معنى، هو تمادي الكافرين في غيهم، واستمرارهم عليه، بعدم الإيمان الذي ينم عنه طلبُهم تعجيلَ العذاب، وماضٍ مصدَّر بـ: "قد" تحقيقًا لوقوع العذاب؛ إذ قد حل بمن قبل هؤلاء.


ثم تأتي النتائج المترقبة تحملها الجملتان المؤكدتان بالاسمية واللام، وهما مغفرة في جانب الحسنة، وعقاب في جانب السيئة، تقابُل عجيب من جنس ما يعمله الناس، ومما يسترعي النظر ذلك الجار والمجرور في قوله - تعالى -: ï´؟ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ï´¾ [الرعد: 6]، إن كان من منة فهذا أمن، بل شمول صفحه - تعالى - عن الناس، ومغفرته لمن شاء منهم أرحب وأعظم، بعد ذلك راعِ ختام الآية الكريمة؛ إذ جاء بهذه النقلة السريعة في الفاصلة المبنية على حرف الباء وقبله حرف مديد الصوت هو "الألف"، بينما فاصلة الآيات السابقة جاءت منتهية بحرفي الواو والنون، وفي ذلك تنويع يتجدد معه نشاط السامع والقارئ.


واعلم أن هذه الآية "قررت طعن الكفار في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بطلبهم استعجال العذاب، وتكذيبهم بمسألة الحشر والنشر، فتوالى السياق مثبتًا طعن الكفار في نبوة - صلى الله عليه وسلم - بطلبهم المعجزة والبينة[3]" على حد قوله - تعالى -: ï´؟ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ï´¾ [الرعد: 7]، هنا يبرز الترابط المحكَم بين تراكيب الجمل؛ إذ تكشف عما أراد كفار مكة، واقترحوه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبين صرف الله لهم عما طلبوا، مقررة وظيفة النبي الكريم في الهداية والإرشاد.


وقد قال العلماء في وجه نظم هذه الآية: "إنه - تعالى - لما حكى عن الكفار أنهم طلبوا آيات أخرى غير ما أتى به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أنه - تعالى - عالم بجميع المعلومات، فيعلم من حالهم أنهم هل طلبوا البينات الأخرى للاسترشاد وطلب البيان، أو لأجل التعنت والعناد؟ وهل ينتفعون بظهور تلك الآيات، أو يزداد استكبارهم وإصرارهم؟


لا جرم أنه سبق في علمه المحيط بكل شيء أنَّ طلبهم هذا إنما هو لمجرد العناد المحض، فمنعوا من تحقيق ما طلبوا[4].


وفي الانتقال من أسلوب الخبر إلى الإنشاء في تراكيب الآية الكريمة ما يجدد نشاط السامع، ويعينه على فهم المعنى المراد، وأخيرًا تأمل تقييد طلب هؤلاء الكفار بقول الله عنهم: ï´؟ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ï´¾ كيف وَلِيَه الجواب مقيدًا ومقصورًا بـ: "إِنَّمَا" في قوله: ï´؟ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ ï´¾، ثم عطف على هذا الجواب قوله - تعالى -: ï´؟ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ï´¾، إن في ذلك من حسن الختام ما يُفحِم كل خَصم، وأَعجَبُ من ذلك تناسُق الآية في مجمل تراكيبها وجملها، تقاربها في مجموعها، فهي من شقين:
الأول: في إيراد الله - سبحانه - مقالةَ الكفار، واستهزاءهم برسوله - صلى الله عليه وسلم - وذلك بيِّن من إسناد الرب إلى الضمير العائد إلى الرسول في قوله: ï´؟ مِنْ رَبِّهِ ï´¾؛ أي: كأنه ربٌّ له وحده، وليس ربًّا لهم في زعمهم.


والثاني: في الرد عليهم من جملتين اثنتين، هما: ï´؟ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ï´¾، وقد جاءتا مؤكَّدتين بالاسمية مع ما فيهما من قوة الحصر بـ: "إنما"، إحكام وتناسق عجيب.


وأمعن النظر في قوله - تعالى -: ï´؟ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى ï´¾ [الرعد: 8] إلى قوله: ï´؟ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ï´¾ [الرعد: 9]، وتفحَّص أسرار هذا التراكيب في مدى تلاحُمِها، وترابط جُملها.


لقد قررت الآية السابقة - والخاصة بمطالبة الكفار المعجزة من النبي صلى الله عليه وسلم - أن عِلمَ الله محيطٌ بكل شيء؛ ولذا صرفهم عما طلبوا؛ لعلمه أنهم لا ينتفعون بهذا الطلب، ثم جاء السياق مفصلاً علم الله الذي لا يغيب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.


ولم يزَلِ الترابط والإحكام في نسق الآيات متواصلاً؛ إذ لما تحدثت الآية من قوله - تعالى - في أول السورة: ï´؟ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ï´¾ [الرعد: 5]، لما تحدثت عن مبدأ المعاد جاءت آية: ï´؟ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ï´¾ [الرعد: 8]، لتقرر مبدأ الخَلق والإيجاد، مثبتة قدرة الله في الحالين.


والآن خُذ الجملة من قوله: ï´؟ اللَّهُ يَعْلَمُ ï´¾، وتأمل سر تقديم لفظ الجلالة "الله" على الفعل "يعلم"، إن في ذلك تمكينًا لقدرة الله وتمامًا لعلمه، أفاده ما في العبارة من قَصْرٍ وتخصيص استُفيد من الجملة الاسمية.


والْحَظْ هذه التقابلات العجيبة في صيغ هذه التراكيب المتفقة في الشكل، فكلها من فعل واحد مضارع، هو: "يعلم، تحمل، تغيض، تزداد"، وفي ذلك إشعار بالتجدد واستمرار علم الله وقدرته على الخلق، ثم هذا الختام للآية في قوله: ï´؟ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ï´¾ [الرعد: 8]، فهو يقدر الأمور بحكمته، وعلمه، وإرادته.


لقد فصل في شق الآية الأولى، ثم عمم في الشق الثاني، سبحان مَن لا تند عن علمه خاطرة؛ فقد صورت الآية الكريمة علم الله بما في مكنونات الأرحام، ثم عقب السياق بأن كل شيء ï´؟ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ï´¾، والتناسق واضح بين كلمة مقدار، وبين النقص والزيادة، والقضية كلها ذات علاقة بإعادة الخلق فيما سبق من حيث موضوع السورة، كما أنها - أعني الآية - ذات علاقة من حيث الشكل والصورة بما سيأتي بعدها من ذكر الماء الذي تسيل به الأودية "بِقَدَرِهَا" في السيولة والتقدير، ثم إنه في الغيض والزيادة تلك المقابلة المعهودة في جو السورة العام[5]".


وبعد أن عممت الآية في خاتمتها عِلْمَ الله بكل شيء زاد أو نقص مما يتعلق بمُدَد استقرار الأجنة في الأرحام - انتقل السياق في قوله - تعالى -: ï´؟ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ ï´¾ [الرعد: 9] إلى ما هو أكبر وأعظم في التقسيم، من حيث إحاطة علم الله بكل شيء؛ فهذه الآية كسابقتها، حيث عمت المعنى ثم فصلته: في جملتين اسميتين كمالاً لتأكيد المعنى وقوته، ومما يثير الإعجاب ويبعث على التأمل أن هذه الآيةَ بجملتيها جاءت مركبة من خمسة ألفاظ كلها أسماء، وليس بين هذه الأسماء من وسائل الربط سوى حرف واحد هو "واو العطف"، بل هناك البراعة في تلاحم الأجزاء في الجملة الأولى، من خلال ما يسميه البلاغيون بـ: "التهذيب" الذي هو فن من فنون البديع، وله أنواع، منها: ما يكون بعد الفراغ من تأليف الكلام، وهذا النوع قد عَرِيَ منه القرآن؛ لصدوره من عند الله - سبحانه - لا من عند البشر؛ إذ إن كلام البشر بحاجة إلى التنقيح والتهذيب، أما القرآن فليس بحاجة إلى هذه النظرة الآتية من هذا النوع؛ لصدوره عمَّن هو أعلم وأحكم.


ومن أنواع التهذيب: ما يعضد المعنى، وما تجتنب به العيوب اللاحقة لنظم الكلام، "وهذان النوعان من التهذيب هما اللذان جاء نظم القرآن عليهما، غير مقصود ولا متكلف، لأنه كلام قادر مطلق القدرة، وإنما الذي يتطلب النظر والتحرير هو كلام البشر؛ لنقصهم ونقص أعمالهم، ومن هنا فقد استخدمت الآية الكريمة هذا الانتقال العجيب بواسطة أسلوب التهذيب غير المقصود المتكلف، وأربت على كل بلاغة؛ إذ إن التهذيب فيه معنى الانتقال من الأدنى إلى الأعلى على الترتيب، ولكن الآية هنا جاء الانتقال فيها من الأبلغ، وهو قوله - تعالى -: ï´؟ عَالِمُ الْغَيْبِ ï´¾ إلى ما هو دونه في المرتبة، وهو قوله: "وَالشَّهَادَةِ"، وهذا ما يوحي به ظاهر الألفاظ، ولكن بالاستقراء والتدليل يظهر للمتأمل أن الآيةَ اتبعت طريق الانتقال من الأدنى إلى الأعلى وَفْق طريقة فذة في النظم، وبيان ذلك ما ذكره "ابن أبي الإصبع" في كتابه: "بديع القرآن" إذ يقول: "إن علم الشهادة في حق الله - سبحانه - أبلغ؛ فإنا لا نعقل أن علم الشهادة يُعلم إلا بواسطة الحواس، ومتى فقدنا الحواس فقدنا علم الشهادة، وعلم الغيب لا يفتقر في تحصيله إلى الحواس، وقد ثبت بالبرهان القاطع تنزيه الحق - سبحانه - عن الحواس، وثبت أنه يعلم علم الشهادة، وحصول علم لا يعلمه إلا من له حواس لمن لم تكن له حواس أبلغُ وأعجب من حصول علم لا يفتقر في حصوله إلى الحواس، فثبت أن علم الشهادة هنا أبلغ[6]".


وفي ختام الآية هذان اللفظان الفريدان، اللذان هما قوله - تعالى -: ï´؟ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ï´¾، وهذان اللفظان لا نملك إلا الوقوف أمامهما خاشعين، وقبل أن ننتقل إلى آية أخرى يجب أن نشير إلى ما ذكره ابن أبي الإصبع وهو يعرض لروعة النظم في قول الله - تعالى -: ï´؟ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ï´¾ إذ يقول: "وحصول علم لا يعلمه إلا من له حواس لمن لم تكن له حواس أبلغ وأعجب"، فقوله: "لمن لم تكن له حواس" صريح في نفي صفة البصر عن الله - سبحانه - لكن هذا النفي لا يعني به ابن أبي الإصبع نَفْيَ الصفة، وإنما يقصد نفي التشبيه اتباعًا لمذهب أهل السنة والجماعة الذي يثبتون لله من الصفات ما يليق بجلاله، من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، من جهة أخرى فإن الله - سبحانه - الذي اختص بعلم الغيب أهون عليه علم الشهادة، وإدراك ما يستطيع البشر إدراكه بحواسهم.


[1] انظر تفسير الرازي، الجزء 19 ص 8، الطبعة الأولى، المطبعة البهية بمصر 1357.

[2] انظر تفسير أبي السعود، الجزء الثالث ص 201، مطبعة السعادة بمصر.

[3] انظر تفسير الرازي، الجزء 19 ص 12، الطبعة الأولى 1257هـ، المطبعة البهية بمصر.

[4] المرجع السابق، ص 14، 15.

[5] انظر ظلال القرآن لسيد قطب، الجزء الخامس ص 76، الطبعة الخامسة، طبعة بيروت.

[6] انظر بديع القرآن لابن أبي الإصبع ص 159، تحقيق حفني شرف، مطبعة نهضة مصر.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 11-11-2020, 01:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عناصر النظم القرآني في سورة الرعد

عناصر النظم القرآني في سورة الرعد (4)
د. محمد بن سعد الدبل

قِفْ - أيها الكريم - عند قوله - سبحانه -: ﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: 10]، وتأمَّل هذا النظم البديع؛ إذ لما قرر السياق إثبات علم الله المحيط بالشاهد والغائب في الآية السابقة من قوله: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ جاء قوله: ﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ﴾ الآية، وفي ذلك تفصيل لمدى علم الله - جلت قدرته - بكل شيء، ومن بديع هذا النظم تلك المقابلات الفنية العجيبة بين الألفاظ، ومن روائعه مقابلة "مستخفٍ" بـ: "سارب"، تلك اللفظة التي بظلها تعطي عكس معناها، فظلها ظل خفاء أو قريب منه، ولكن الحركة فيها هي المقصودة في مقابل الاستخفاء[1]، فتم التقابل العجيب الذي يدركه كلُّ من له أدنى ذوق بفن القول.


وإن كانت المقابلة هنا غير حقيقية، بل تكاد تكون إيهامًا بالمقابلة، لأن المستخفي يقابله الظاهر الذي يكشف عن نفسه، أما السروب ففيه حركة خفية؛ ولذلك فهو قريب من الاستخفاء، ففيه ما يمكن أن نسميه "مشاكلة معنوية" أو إيهام هذه المشاكلة، وقد فسر الطبري "السارب" بالظاهر؛ أي: الظاهر بالنهار في ضوئه[2]، وهنا تتم المقابلة بين اللفظين.


ويمضي السياق مترابطًا؛ إذ يقول - سبحانه -: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ [الرعد: 11] إلى قوله: ﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11]، في هذه الآية ترابط عجيب يلحظه المتأمل في جو الآية السابقة؛ حيث ترتب عليهن ذكر الأسباب الداعية إلى حلول عذاب الله بكل من يحيد عن الحق بعد ظهوره تكبُّرًا وعنادًا، وعلى ذكر الأسباب تترتب النتائج في أسلوب هذه الآية، والتي من عجيب نظمها عرض الأمور التي ما إن راقبها الإنسان إلا كان بمنجاة من عذاب الله وبطشه، تلك الأمور متمثلة في قوله -تعالى-: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ ﴾، وهذا على القول: بأن الهاء في "له" تعود إلى "من" في قوله: ﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ﴾ [الرعد: 10]... وعلى أن المراد بـ: "المعقبات" الملائكة الحفظة، "وهو الذي عليه الجمهور[3]".


ويتبين بديع الرصف والتأليف في ذكر الأسباب الداعية إلى حلول العذاب، ثم في ذكر ما من شأنه الحيلولة دون عذاب الله بحكمه ومشيئته، وهو عمل الملائكة الموكلين بحفظ البشر ومراقبتهم، فمتى ادَّكر هذا الشأن حصل الخلاص من عذاب الله بأمره وحكمته، وإن لم يراقب الإنسان ربه في سره وجهره، فليس بمنجاة من العذاب، وهذا ما جاء مرتبًا في السياق من قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وقوله: ﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11].


ومن بديع النظم في الآية أن وردت تراكيبها مصدَّرة بالجملة الاسمية في قوله: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ ﴾.


مع بلاغة التقديم والتأخير هنا، وفي ذلك تمام التوكيد وقوته، ثم التنويع في العبارة بمجيء الجملة الفعلية من قوله: ﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾، والفعل هنا مضارع، وصيغة المضارع تفيد معنى التجدد والحدوث، وهذا هو ما يتناسب مع عمل الملائكة الموكلين بالآدميين في جيئة وذهوب، وحدوث واستمرار، وفي تكرار لفظة "قوم" وتنكيرها ما يوحي بملائمتها للفعل ﴿ يُغَيِّرُ ﴾؛ إذ سيق لمعنى الانتقام والعذاب، وفي تكرار لفظ الجلالة "الله" ثلاثًا ما يعضد المعنى قوة ووضوحًا؛ إذ البطش والعذاب قوة، والله لا غيره القوي القادر العزيز.


وأخيرًا تختم الآية بالجملة الاسمية في قوله: ﴿ فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11]، وفي ذلك تأكيد لتقوية المعنى كما تقتضيه الجملة الاسمية، وانظر لم خطفت الياء من لفظة "وال"؟ فليس ذلك لمجرد تناسق الفاصلة، وإنما في ذلك تعبير عن إنزال العذاب، وسرعته، وعدم القدرة على رده والإفلات منه.


ولم تزَلِ الآيات في تراكيبها متلاحمة متلاصقة؛ إذ ترسم الآيتان الكريمتان من قوله - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ [الرعد: 12] حتى قوله - تعالى -: ﴿ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾ [الرعد: 13] مشهدًا علويًّا هائلاً يُؤذِن بالرعب والخوف الشديد.



تلك نقلة عجيبة في سياق الآيات بارعة في نقل الحس والشعور؛ فمن روائع النظم هنا ذكر البرق والرعد، والسحاب الثقال، وبجانب تلك الظواهر تساق لفظتان هما: ﴿ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾؛ إذ إن الظواهر السابق ذكرها من برق ورعد وسحاب - تُحدِث في النفس البشرية أمرين، هما الخوف والطمع، ولا ثالث لهما، وهذا التعبير من براعة صحة الأقسام الذي هو عبارة عن استيفاء المتكلم جميع أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه، بحيث لا يغادر منه شيئًا، وكل ذلك أتت عليه الآية الكريمة، فليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق، والطمع في الغيث، ومن بدائع النظم في الآية هنا تقديم الخوف على الطمع، وإذ إن الصواعق يجوز وقوعها من أول برقة، ولا يحصل المطر إلا بعد تواتر الإبراق، فيبقي عامل الخوف مسيطرًا على النفوس، أما إذا تواتر الإبراق ففي ذلك توقع لنزول المطر؛ ولذا كانت العرب تعد سبعين برقة ثم تنتجع فلا تخطئ الغيث والكلأ، وإلى هذا أشار المتنبي بقوله:
وقد أَرِدُ المياهَ بغير هادٍ
سوى عدِّي لها بَرْقَ الغمام[4]



ولما كان الأمر المَخُوف يجوز وقوعه من أول برقة واحدة أتى ذكر الخوف في الآية مقدمًا؛ لكون الواحد أول العدد، ولما كان الأمر المطمع من البرق إنما يقع بعد عدد من الإبراق أتى ذكر الطمع ثانيًا؛ لكونه لا يقع إلا في أثناء العدد، وليكون الطمع ناسخًا للخوف، كمجيء الرخاء بعد الشدة، والفرَج بعد الكربة، والمسرة بعد الحزن، فيكون ذلك أحلى موقعًا في القلوب، ويشهد لهذا التفسير قوله - تعالى -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ﴾ [الشورى: 28][5].



وقد حصل في هاتين اللفظتين اللتين هما بعض من الآية مع صحة التقسيم حسنُ الترتيب والتهذيب، ومن تمام المعنى وحسن النظم ختام الآية بقوله: ﴿ وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾ [الرعد: 12]، فقد جاءت هذه الخاتمة بعد قوله: "وَطَمَعًا"، فمن ذا الذي لا يطمع فيما تحمله السحاب من خير، وفي وصف السحاب "الثقال" ما يضفي على المشهد روعة وجلالاً وقوة تشهد أنه من صنع الله.


ثم عطفت الآية الثانية بالواو من قوله: ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾ [الرعد: 13]، فهنا مشهد آخر ذو حركة مليئة بالخوف، متمثلة في زمجرة الرعد، وقصف الصواعق المدبرة بمشيئة الله، والإطار المتضمن لتلك المعاني متحرك أيضًا يلحظ ذلك في الأفعال المضارعة "يسبح، يرسل، يصيب، يشاء، يجادلون"، وراعِ العطف بالواو الذي وَلِيَه عطف بالفاء في قوله: ﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ﴾ [الرعد: 13] ففي ذلك الدلالة على نفاذ أمر الله، وسرعته من غير ما تباطؤ أو مانع يحول.


بعد أن قررت هذه الآية أمورًا كلها من عند الله، وأزِمَّتها طوع إرادته من خير أو شر يصيب به العباد أو يصرفه عنهم، جاء قوله: ﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ﴾ [الرعد: 14].


وهنا يتضح الترابط المحكم بين الآيات؛ فقوله: ﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ﴾ حتى آخر الآية: تقرير بأنه ما من شيء سبق ذكره في الآية السابقة، إلا وهو مسيَّر ومدبَّر بمشيئة الله وإرادته، وأن ما دونه من المخلوقات لا يملك من الأمر شيئًا، وإذًا له دعوة الحق لا لغيره.

والآن لنتفحص بعض تراكيب هذه الآية، ولننظر في مدى تلاحم كل لفظة مع أختها، وقيام كل تركيب بوظيفته فيما يخدم المعنى ويوضحه.


انظر لأول الآية، فقد صدِّر بالجار والمجرور مقدمًا على خبره، وفي ذلك تخصيص بأن مَصْدر كل شيء من عند الله، وإليه، وله؛ فإذًا ﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ﴾، وراعِ تلك الإضافة في قوله: ﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ﴾ لأي غرض تلك؟ "إنها من إضافة الموصوف إلى الصفة، فحاصل المعنى أن الذي يستحق أن يُعبَد هو الله - تعالى - لا غيره؛ فهو حقٌّ، وله دعوة الحق[6]"، ويعضد ذلك المعنى ويقويه قوله بعده: ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ﴾ [الرعد: 14].


ويعنينا في نظم تلك الآية الوقوف على كُنْهِ التركيب فيها وطريقته، فبعد قوله: ﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ﴾ خذ من الآية قوله: ﴿ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ ﴾ [الرعد: 14]، وانظر لسَلاسةِ تلك الألفاظ وسهولتها، مع أنها تعبِّر عن مشهد يتطلب ألفاظًا أقوى وأشد، ولكن عدل عن غيرها إليها؛ لأن التصوير جاء منتزعًا من القريب الواقع، فجيء له بألفاظ قريبة المتناول، ثم الْحَظْ لِم التعبير بـ: ﴿ كَفَّيْهِ ﴾ دون كفه، وما السر في تعريف لفظة الماء باللام؟ كل ذلك معين لأداء المعنى على أكمل وجه، في أكمل صورة وأبدع تركيب.



وهذا شأن الأسلوب القرآني في اتباع طريقة التصوير؛ إذ يعمل على تقريب المعنى وتقريره في الأذهان، وسيمر معنا القول في ذلك مفصلاً في حينه إن شاء الله.


وأخيرًا تأمل تكرار النفي في سياق الآية من قوله: ﴿ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴾ [الرعد: 14]، ثم لِمَ لَمْ يعبر بخسارٍ أو ضياع؟ ذلك التكرار للنفي، والتعبير بـ: ﴿ ضَلَالٍ ﴾ يُبقِي المعنى مستمرًّا يشهد بخسران ما يعمله الكافر.


[1] في ظلال القرآن لسيد قطب ((تفسير سورة الرعد))، الجزء الثالث عشر من المجلد الرابع، طبعة دار الشروق ببيروت.

[2] تفسير الطبري، الجزء الثالث عشر من المجلد السابع ص 75، الطبعة الثانية، دار المعرفة بيروت.

[3]انظر تفسير الرازي، الجزء 19 ص 18، الطبعة الأولى 1357هـ، الطبعة البهية بمصر.

[4] انظر التبيان في شرح الديوان للعكبري ص 411، مطبعة بولاق.

[5] انظر بديع القرآن لابن أبي الإصبع ص 65، 66، تحقيق حفني شرف، الطبعة الثانية، مطبعة نهضة مصر.


[6] انظر روح المعاني للألوسي، الجزء الثالث عشر، ص 123، مطبعة إحياء التراث، بيروت.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 144.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 141.59 كيلو بايت... تم توفير 3.31 كيلو بايت...بمعدل (2.29%)]