اللغة عند الإمام الشافعي ممثلة للغة الأصوليين - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 564 - عددالزوار : 92681 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11935 - عددالزوار : 190855 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56888 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26179 )           »          شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 726 )           »          الدين والحياة الدكتور أحمد النقيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 59 )           »          فبهداهم اقتده الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 57 )           »          يسن لمن شتم قوله: إني صائم وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 27 )           »          رمضان مدرسة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          أمور قد تخفى على بعض الناس في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى الإنشاء

ملتقى الإنشاء ملتقى يختص بتلخيص الكتب الاسلامية للحث على القراءة بصورة محببة سهلة ومختصرة بالإضافة الى عرض سير واحداث تاريخية عربية وعالمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-10-2020, 06:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,601
الدولة : Egypt
افتراضي اللغة عند الإمام الشافعي ممثلة للغة الأصوليين

اللغة عند الإمام الشافعي ممثلة للغة الأصوليين (1/ 2)
د. حسنة عبدالحكيم عبدالله الزهار



لان الشافعي هو واضعُ أصول الفقه - فلسفة الفكر الإسلامي وعموده الفقري - فإن الشافعي يُعد رائدًا في مجاله، ومؤسِّسًا لخطواته ومنهجه، ومؤصِّلاً لأسُسه وفروعه.


وتعد كتبُه أوَّل المؤلفات في هذا العلم، بل هي أوَّل المؤلفات المُنَظَّمة منهجيًّا، وكان الناس قبله يَجتهدون ويستنبطون، ولم يكن لهم قانونٌ كُلِّيٌّ، ولا نظام ثابت يعتمدون عليه ويحتكمون إليه، حتى جاء الشافعي فوضع "الرسالة" وأصَّل فيها الأصول وقعَّد القواعد، فاجتمع الناس عليها[1].



والبحث الذي بين أيدينا سوف نتناول فيه ملامحَ من فكر الإمام الشافعي اللُّغوي من خلال:

الفصل الأول: مفهوم اللغة عند الشافعي، ويضم:

أ - خصائص اللغة عند الشافعي.

ب - الدلالة عند الشافعي.

ج - أنواع الدلالة (دلالة المفرد - دلالة التركيب).

الفصل الثاني: طريقة الشافعي في معالجة بعض القضايا الدلاليَّة:

أ - المشترك اللفظي.

ب - الأضداد.

ج - الترادف.

د - المجاز.

هـ - تحديد المصطلح.



الفصل الأول

مفهوم اللغة عند الشافعي

نبدأ باللغة عند الشافعي باعتباره رائدَ الأصوليِّين على الطريق، وكتبُ الشافعي أجمعُ كتب أدبٍ ولغة وثقافة قبل أن تكون كتبَ فقهٍ وأصول[2].

وفكرة الشافعي عن اللغة مرتبطةٌ بفكرته عن العربية، فهو لا يتناول اللغةَ بشكل مجرد، بل يتناولها بشكل محدَّد مجسم، هو ما عرفه بخصائص العربية التي درسها فيما بعد علماءُ اللغة من خلال درس "فقه اللغة العربية".



ومع ذلك نستطيع أن نستخلص خصائص عامة صالحة للتطبيق على كلِّ اللُّغات، منها:

1 - اتِّساع اللُّغات سَعةً تغلب قدرة الفرد العادي على الإحاطة بها جميعها، وإن لم يكن من الصَّعب على الجماعة اللغوية الواحدة أن تُلِمَّ بلغتها، فما ينقص عند فرد يكمله الآخر، وهذا هو دور الجماعة اللغوية في المحافظة على كِيان اللغة ككلٍّ متكامل؛ يقول الشافعي: إنه رأى لسانَ العرب "أوسعَ الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، لدرجة أنه لا يُحيط بعلمه إنسان غير نبي، ومع ذلك فلا يذهب منه شيء على عامتها"[3].



2 - إنَّه رأى اللُّغة تتوزَّع على ألسنة أهلها بشكل فيه تفاوت، كلٌّ يتكلمها على قَدْر مخزونه منها، وقدراته الذَّكائية، وخبراته السابقة، وثقافته، كلُّ فرد في الجماعة اللُّغوية الواحدة لديه قَدْر من لغة قومه يشارك به ويتبادل به التواصل مع جماعته، ومن مَجموع لُغة أفراد الجماعة تتكَوَّن اللُّغة ككل وتكتمل، وفي ذلك يقول الشافعي: "الناس طبقات في العلم، فمنهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقلَّ مما جمع غيره"[4].

ويقول: "فلِسانُ العرب عند خاصتها وعامَّتها لا يذهب منه شيء عليها، ولا يطلب عند غيرها"[5].



3 - وثَمة حقيقة لُغويَّة أخرى أدركها الشَّافعي، وهي أنَّ اللغة أعم وأشمل من العلوم المختلفة ومِن علم العلماء في كُلِّ التخصصات؛ يقول: "وعلم أكثر اللِّسان في أكثر العرب أعم من علم أكثر السنن في العلماء"[6].



4 - أمَّا موضوع اختلاط اللُّغات في اللِّسان الواحد، وتشابُه بعض الألفاظ في بعض اللُّغات، فقد أقرَّه الشافعيُّ ولم ينكره، مع تعصُّبه للعربية وذهابه إلى أن مَن دَخَل في العربية وامتلك ناصيتها، صار من أهلها؛ يقول: "لا ننكر إذا كان اللَّفظ قيل تعلُّمًا أو نُطق به موضوعًا - أنْ يوافقَ لسان العجم، أو بعضها قليلاً من لسان العرب، كما يتَّفق القليلُ من ألسنة العجم المتباينة في أكثرِ كلامها، مع تنائي ديارها، واختلاف لِسانِها، وبُعدِ الأواصر بينها، وبين مَن وافقت بعضَ لسانها منه"[7].



فهو يعترف بإمكانيَّة وجود ألفاظ مُتشابهة بين لُغات مُتباينة مُتباعدة زمانًا ومكانًا؛ وذلك بسبب التواضُع العشوائي للغة أو التعلُّم.

5 - والشافعي - إذ يؤكد على أهمية العربيَّة لُغة القرآن الكريم، وعلى السمات التي مَيَّزتها، وعلى ضرورة إجادة المسلمين من العرب وغير العرب لها، لا يُنكر وجودَ اللُّغات الأخرى، ويدرك أنَّ لها حُجِّيَّتَها، ويدرك أوجه اختلافها وأوجه تقارُبِها، رغم بُعد المسافات المكانية والزمانية، كما يدرك استِنادًا لما ورد في القرآن الكريم أنَّ كلَّ نبي قد أُرسِل بلسان قومه؛ ليكون مفهومًا لديهم، ولو شاء لجعل لسان الأنبِياء واحدًا؛ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4].



ومعرفة الشافعي بخصائص اللُّغة العربية من الأمور المُهمة الواجب تمكُّن عالم اللغة منها؛ لأنَّها تجعله يعمل في هُدًى من منطِق اللُّغة لا من منطق الفلاسفة، وقد أورد السيوطي قول أبي الحسن بن مهدي: حدثنا محمد بن هارون، حدثنا هميم بن همام، حدثنا حرملة بن يحيى - الفقيه المصري - قال: سمعت الشافعيَّ يقول: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلاَّ لترْكِهم لسانَ العرب، وميلهم إلى لسانِ "أرسطاطاليس"، ولم ينزل القرآن، ولا أَتَتِ السنَّة إلاَّ على مصطلح العرب ومذاهبهم في المُحاورة والتخاطُب والاحتِجاج والاستدلال، لا على مصطلح اليونان، ولكل قومٍ لغةٌ واصطلاح"[8].



لكنَّ الأصوليين بعد الشافعي قد خلطوا بين الدِّراسة اللُّغوية والمَنطقية، وكان هذا الخلط في البداية بمقدار المُفيد، ثم زادت نسبة المنطق في مُناقشة القضايا الأصولية، حتَّى وصل الأمر بالكُتُب المتأخرة في هذا العلم إلى درجة عالية من الغموض والإرباك[9].



6 - وعرف الشافعي أنَّ اللُّغة ترتفع قيمتها الاجتماعيَّة والسياسية، بل والعالمية إذا نَزَل بها كتاب مقدَّس، بشرط أنْ يساهم أهلُ اللغة بِجُهدهم الخلاَّق في نشر اللِّسان، ونشر ثقافة وآداب هذا اللسان بين أهل الأمم الآخرين، وفي ذلك يقول الشافعي: "ومَنِ ازداد من العلم باللسان، الذي جعله الله لسانَ مَن خَتَمَ به نُبوَّتَه، وأنزل به آخر كتبه، كان خيرًا له، كما عليه أن يتعلَّم الصلاة والذِّكر فيها، ويأتي البيت وما أُمِرَ بإتيانه، ويتوجه لما وُجِّه له، ويكون تبعًا فيما افْتُرِضَ عليه ونُدِبَ إليه، لا متبوعًا"[10]، ويُعقِّب أحمد شاكر على ذلك في الهامش بقوله: "في هذا معنى سياسيٌّ وقومي جليل؛ لأنَّ الأمة التي نزل بلسانها الكتاب الكريم يَجب عليها أن تعمل على نَشْر دينها، ونشر لِسانِها، ونشر عاداتها وآدابها بين الأمم الأخرى"[11].



7- ومِن خلال تناوُله لخصائص العربية، عرض تلقائيًّا لأهم قضايا اللغة العامة، كـ"العموم والخصوص"، و"المعنى الرئيسي والمعنى الهامشي"، "والدلالة المصطلحيَّة أو الدلالة الخاصة للشيء العام"، "والترادف"، و"المشترك اللَّفظي"، "والمجاز"، و"دور السياق في كشف الدلالة وتحديدها"، وهي أهم القضايا الدلالية المطروحة للمناقشة في حياة أي لغة[12].



الدلالة عند الشافعي

كانت بحوث اللُّغويين في موضوع الدلالة أسبق في الترتيب الزَّمني، ثم تلتها بحوث النَّحويين ثم الأصوليين، وقد تناول الأصوليُّون الدلالة على أنَّها حاجة من حاجات الملاحقة التشريعية؛ لإفساح الحياة الإسلامية بما يجعل الأصول الإسلامية تُساير التطور والنَّماء، الذي أصاب تلك الحياة، كما أدَّى الامتزاج في المعنى بين المصطلح اللُّغوي والشرعي إلى تواصُل الفهْم بين الأجيال العربيَّة وغير العربية التي دخلت في الإسلام[13].



وهذا يعني أنَّ مباحث الأصوليين للدلالة كانت تعتني بالدلالة في حالة الحركة لا حالة الكمون والسُّكون، في حالة التطور لا التوقف، وهذا يعني بدوره أنَّهم لم يتوقفوا عند الدلالة المعجمية السكونيَّة، بل نزلوا إلى ساحة الدلالة الاجتماعية النامية المتطورة.

وكان نزول الأصوليين إلى مساحة الدلالة - بكل ما فيها من معترك وصراع - مسبوقًا بوقفة إزاء مبحث المعنى.



فكرة الأصوليين عن علاقة اللفظ بالمعنى:

لقد تناول الأصوليون - وعلى رأسهم الشافعي - المعنى في علاقته باللفظ من مُنطلق أنَّ المعنى أسبق من اللفظ، ومن ثَمَّ فإن المعنى يتحكم في الموقف، ويُحدد الحركة، فإذا تحرك المعنى وانطبق على اللفظ، قالوا: إنها علاقة "مطابقة"، وإذا صادفت حركة المعنى جزءًا من اللفظ، أصبحت العلاقةُ علاقةَ "تضمُّن"، وإذا توازت حركة اللفظ وحركة المعنى، قيل: إنها علاقة "التزام".



وإذا كانت النَّظرة للمعنى على أنَّه في حالة حركة، فإنَّ من السهل تصوُّر المعنى في حالة تحرُّر من اللفظ بعيدًا عن قيود علاقة الالتصاق بين اللفظ والمعنى، التي صورتها فلسفة سقراط، التي اعتبرت اللفظ والمعنى وجهين لعملة واحدة.



وقد وصل ارتباطُ اللغة بالدلالة على يد الإمام الشافعي مبلغًا يكاد يقارب النُّضج، إلاَّ أنه لم يصلْ إلى درجة التقسيمات والحدود، بل كان يعتمد في ذلك على أمثلة من اللُّغة نفسها، وقد وضع الشافعي في اعتباره المعالجة القرآنيَّة للغة العربية، بنقل بعضِ ألفاظها من الاستخدام الشَّائع إلى الاستخدام الشرعي، الذي قصر معناها على استخدامات معينة تخالف تلك التي استخدمها فيه واضعو اللغة الأولون والناطقون بها، ومن ذلك الألفاظ الشرعية: "ألفاظ الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة"، وكانت هذه الألفاظ تستعمل بوضعها اللُّغوي للدعاء والإمساك، والقصد والنُّمو على الترتيب، إلاَّ أنَّها في الشرع اكتسبت مفاهيم جديدة ترتبط بعبادات معروفة، حتَّى تحولت إلى حدِّ المصطلحية[14]، وقد اتَّجه الأصوليُّون منذ الشافعي إلى تحديد مُغايرة الدلالة اللَّفظية في الاستعمال القرآني والسنة للغة المستخدمة في المجتمع؛ فالشافعي يبين في الرسالة:



- عام الظاهر الذي يراد به العام.

- عام الظاهر الذي يراد به العام ويدخله الخصوص.

- عام الظاهر الذي يراد به الخاص.

- الاشتراك اللفظي.

- الترادف[15].



وفيما يلي نتناول كلاًّ منها بالتفصيل:

اللفظ العام الظاهر الذي يراد به العام:

يقدم الشافعي لهذا بالمثال التالي: ما ورد في قوله - تعالى -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62]، وفي قوله - تعالى -: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [إبراهيم: 32]، وقوله - تعالى -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].



فهذا عام لا خاص فيه، وفي ذلك يقول الشافعي: "فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك، فالله خالِقُه، وكل دابة فعلى الله رزقها ويعلم مستقرَّها ومستودعها"[16].



وهكذا يتَّضح أنَّ الشافعي يتناول العام الذي اصطلح علماء اللغة المحدثون على تسميته بـ"اللفظ الرئيسي"، وهو اللفظ الذي يلتصق بمدلوله، كالأرض والسماء والإنسان والشجر والشمس والقمر... إلخ، وجميعها ألفاظ اتَّفقت جميع اللُّغات على وضوح حدودها العيانية.



واللَّفظ العام في اللغة الذي يشمل "يستغرق ألفاظًا متعددةً، فلا يقع اللفظ العام في الأفعال، كما لا يقع في المعاني المجردة، كالوجود والذكاء والحرية... إلخ، فهي معانٍ كليةٌ، فالوجود ليس له متعدد، فكذلك الذَّكاء والحرية؛ لأنها معانٍ شاملة لجزئياتها وليس لأجزائها، والعموم مُختص باسم العَيْن دون اسم المعنى، والمعنى الواحد لا يضم متعددًا"[17].



وقد طوَّر الأصوليُّون مَبحث العموم؛ لأنَّهم يبحثون وراء المعاني التي يُستدل عليها من واقع الحياة وأحداثها؛ لاستنباط الحكم وتطبيقه على ظاهر السلوك الإنساني، سواء أكان ذلك السلوك يعتمد على اللسان أو الجوارح؛ ولذا فالعام لفظٌ وُضِع للدلالةِ على أفراد غير محصورة على سبيل الشُّمول والاستغراق، كما في قوله - تعالى -: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 3]، فلفظ الإنسان عام يدُلُّ على استغراق أفراد مفهومه[18].

والتعريف السابق أقرب إلى الحدِّ المنطقي منه إلى التعريف اللغوي، والتعريف اللغوي يحصر في دائرة اللفظ الرئيسية، أو دائرة الغطاء ذات المعنى المعجمي الواحد[19].

وللموضوع تتمة





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12-10-2020, 06:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,601
الدولة : Egypt
افتراضي رد: اللغة عند الإمام الشافعي ممثلة للغة الأصوليين





لقد حصر الأصوليون صيغ العموم في الألفاظ النحوية والصرفية التالية:

1 - الجمع المعرَّف بأل غير العهدية: "الرجال، النساء".

2 - الجمع المنكَّر، كما في قوله - تعالى -: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً} [ص: 62].

3 - الاسم المفرد: إذا دخلت عليه "أل غير العهدية"، كما في قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38].

4 - اسم الجنس إذا دخلت عليه "أل" غير العهدية، كلفظ "الحيوان"، وفي النَّصِّ الشرعي: "عن ابن عباس: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر، أي: العقد المجهول الكمية والكيفية"[20].

5 - أسماء الشرط: "مَن، ما"، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أحيا أرضًا مَيِّتَةً فهي له، وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه))؛ صحيح البخاري، ج 4، ص 23.

6 - ما معناه الشرط: "متى للزمان"، و"أين للمكان": متى جئتني أكرمتُكَ.

7 - النَّكرة في سياق النَّفي أو النهي، مثل: ما جاءني أحدٌ، لا رجلَ في الدار، ولا تَضرِب أحدًا، وفي نصوص الشريعة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وصية لوارث))[21].

8 - ألفاظ توكيد العام: "كل، جميع".



ومن الأمثلة يتَّضح أن دلالة اللفظ على عموم المعنى قد اقترن بأنْماط نَحْوية وصرفية مُعينة، ولم يأتِ دالاًّ بذاته، وإنَّما دلَّ على عمومٍ في سياقٍ، وتصاحب اللفظ أدواتٌ معينة كأدوات التعريف أو التنكير أو النفي؛ لتساعده في إبراز معالم العموميَّة، ويذكر السيوطي في "المزهر" أن: "العام الباقي على عمومه هو ما وضع عامًّا واستعمل عامًّا"، وقد ضرب أمثلة، منها: "كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذًا للسيل فهو وادٍ، وكلُّ ريح لا تُحرك شجرة ولا تُعْفي أثرًا فهي نسيم"[22].



ويشبهه في ذلك ما ورد في "كليات" أبي البقاء.

ويذكر الشيخ عبدالوهاب خلاف أنَّ "الأصوليين قد درجوا على وضع قواعد كُلِّية تحمل أحكامًا عامة، مثل: كل عقد يشترط لانعقاده أهلية المتعاقدين"[23].



وبهذا نستطيعُ أن نخرج بحقيقة مفادُها أن الأصوليين كانوا يلجؤون إلى العموم بضوابطه، بوضع أحكام أو قواعد عامة تحكم المسائل الكلية، ومِن ثَمَّ كان يهمهم الوقوف عليها بوضوح؛ لأنَّها تمثل صُلب عملهم.



2 - اللفظ العام الظاهر الذي يراد به العام ويدخله الخاص:

ويستشهد الشافعي على هذا النوع بالآيات الكريمة الآتية: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75]، و{حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77]، فأهل القرية في الآيتين لفظ عام يرادُ به خاص، أي: جزء من أهل القرية، وهذا النَّوع قد عالجه علماء اللُّغة المتأخرون، في باب تخصيص الدلالة، وكان القدماء قد عالجوها بشكل آخر في باب المجاز المرسل، الذي علاقتُه جزئية، بأن يُطلق الكل ويراد الجزء، وتخصيص أو قصر العام يؤثر في حجية العام بإخراج قَدْر غير معين منه، ويختلف الفقهاء في هذه المسألة[24].



3 - اللفظ العام الظاهر الذي يجمع العام والخصوص:

وقد ضرب له الشافعي مثلاً بقوله - تعالى -: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

فكل نفسٍ خوطبَت بهذا من زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبله وبعده مخلوقة من ذكر وأنثى، وكلُّها شعوب وقبائل، وهذا هو العام، أما قوله - تعالى -: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فيخُص به العاقلين البالغين من بني آدم، دون المخلوقين من الدَّواب سواهم، ودون المغلوبين على عقولهم والأطفال[25].



وليس ثَمَّة فرق بين الخاص والخصوص في النَّمطين السابقَيْن؛ لأنَّ الخاص الذي يدُلُّ على فرد واحد أو أفراد مَحصورة قد جاء مُتضَمَّنًا في اللَّفظ العام على سبيل المجاز، والخصوص الذي ورد في النَّمط الثالث هو مصدر استعمل في معنى اسم "الخاص"، بل ذكر المُحقِّق أنَّها وردت في إحدى النُّسخ: "الخاص"[26]، وفيها جاء اللفظ جامعًا لمعنى العام والخاص في إطار واحد، مع ربط الخاص بمواصفاتٍ مُعينة، فجاء الخاص مستثنًى من الإطار العام، ويذهب الأصوليُّون واللغويون إلى أن الخاص يكون خصوصَ عين، أو خصوص جنس، أو خصوص نوع.



وهكذا نرى أنَّ الحدود لم تكن واضحةً عند تعريف مصطلح الخاص ومصطلح الخصوص؛ لأنَّ اللغة لم تكن قد وصلت إلى حدٍّ من التعقيد والدخول في التفاصيل الدقيقة آنذاك، وهو الأمر الذي قام به مَن جاؤوا بعد الشافعي.



4 - عام الظاهر الذي يراد به كله الخاص:

وفيه مثَّل الشافعي بلفظ "الناس" في الآية الكريمة: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]، وفي {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج: 73]، وقوله - تعالى -: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، وقوله - تعالى -: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24]، ومنها جميعًا فُهِمَ أنَّ كلَّ سياق يوضح أنَّ المقصود بلفظ الناس: "البَعض" المتَّصِف بصفات معينة عددية أو نوعية.

ففي الآية الأولى لفظ الناس الأوَّل دَلَّ على أربعة نفر، ولفظ الناس في اللغة يدل على ثلاثة نفر، ويَدُل على جميع الناس، ولفظ الناس الثاني دل على المنصرفين عن أُحُد "نوعية خاصة من الناس".

وفي الآية الثانية دل على عامة الناس.

وفي الآية الثالثة دل على العدد الذي حضَرَ الحج وشهد عرفة.

وفي الآية الرابعة دل على بعض الناس، وخصَّ بهم نوعيةً معينة هم الكفار والعُصاة الذين مآلهم إلى النار[27].



شروط التخصيص:

ويُحدد بعض اللُّغويين أدوات التخصيص التي قد ترد أحيانًا، وقد لا تستخدم - بما يلي:

1 - الاستثناء، كما في قوله - تعالى -: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282].

2 - الصفة، كما في الحديث الشريف أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب الصدقة، وكان في الغنم في كلِّ أربعين سائمة شاة، وفي رواية: وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة؛ فخص هنا سائمة الغنم.

3 - الشرط، كما ورد في "الأحكام الشرعية": "مَن قال لزوجته: أنت طالق إن دخلتِ الدار، فقد أوقف الطَّلاق على حالة دخول الدَّار".

هكذا رأينا أنَّ للتخصيص دورًا آخر في تحديد بعضِ الأصول الشرعية والأحكام، ومن هنا لزم تحديد هذا المصطلح، ومعرفة الأدوات المساعدة في عمليَّة التخصيص، وقد جوَّز جمهور العُلَماء تخصيص العام من الكتاب أو السنة بالخاص من الكتاب أو السنة المتواترة أو المشهورة[28].



5 - الصنف الذي يبين سياقه معناه:

وقد استشهد عليه الشافعي بقوله - تعالى -: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163]، {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء: 11 - 12]، وفي كلتا الآيتين جاء لفْظُ القرية في سياقه دالاًّ على أهل القرية؛ لأنَّ القرية لا تكون عادِيَة ولا فاسقة بالعُدْوان في السبت ولا في غيره، ولا تكون ظالمة، وإنَّما أراد بالعدوان والظلم أهل القرية[29]، وشبيه بما سبق لفظ القرية الذي ورد في الآية الكريمة في سورة يوسف: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 81-82]، فالمقصود في الآية أهل القرية وأهل العير؛ فقد لعب المجاز دورًا مهمًّا في انتقال الدلالة، فاصطبغ السياق هنا بسمة خاصة[30].



6 - ما نزل عامًّا دلَّت السنَّة خاصَّة على أنَّه يُراد به الخاصُّ:

وفي هذا الباب استشهد الشافعي بآياتِ المواريث في سورة النِّساء الآيتين: (11 - 12)، وفي هاتين الآيتين وَرَدت أنصبةُ الوَرَثة إجمالاً، ثم جاءت سنة رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ففصلت الإجماليَّ، وبيَّنت أنه أراد بالوالدِيَن أحَدَ الوالِدَين، وأراد بالأزواج بعضَ الأزواج، وبيَّنت السنة أيضًا شروطَ الوالدين والأزواج الذين يرثون، من ذلك أن يكونَ دِينُ الوالدين والمولود والزَّوجَين واحدًا هو الإسلام، وألاَّ يكون الوارث منهم قاتلاً، وألا يكون مملوكًا[31]، وفي قوله - تعالى - في الآيات السابقة: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، أَبَانَ الرَّسول أنَّ الوصايا مقتصرةٌ على الثُّلُث، ولأهل الميراث الثلثان، وأبان أيضًا أنَّه لا وصية ولا ميراث، حتَّى يَستوفِيَ أهل الدَّين دَينهم[32].



كما أوضحَ الشَّافعي أثر السنة في توضيح وتفصيل:

- غسل القَدَمين أو مسحهما من بعض المُتوضئين دون بعض.

- قطع يد السَّارق في ربع دينار فصاعدًا.

- جلد الزُّناة: "الحُرَّان البِكْران مائة جلدة"، ورجم الثَّيِّب[33].



قال الشافعي: "ففرض الله على الناس اتِّباع وحيه وسنن رسوله؛ فقال في كتابه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]"[34].



وقال الشافعي أيضًا: "وسنة رسول الله مبيِّنة عن الله معنى ما أراد دليلاً على خاصِّه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إيَّاه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله"[35].



أما مفهوم الخاص عند الأصوليين:

من خلال ما سَبَقَ يتَّضح أن مفهوم الخاص عند الأصوليين يعني: اللَّفظ الواحد الذي لا يصلُحُ مدلوله لاشتراك كثيرين فيه، وما هو خاصٌّ بالنسبة إلى ما هو أعمُّ منه[36].



وهو تعريف رَبَط بين مدلوله اللفظي وانتفاء الاشتراك في هذا المدلول، فضلاً عن مدلوله بالنِّسبة للعام، وقد أَدْرَك الأصولِيُّون المتأخرون وحدَّدوا أنَّ الخاصَّ غير التخصيص، فهناك صيغٌ تتولى ما هو عام، والتخصيص المتَّصل منها هو ما يرد في النَّص بِمُخصِّص ملحوظ يأتي بغير صيغ الخصوص، بل بِمفهوم المدلول المستفاد من السِّياق، كما في قوله - تعالى -: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ} [البقرة: 173]، فصيغة {حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} عامَّة إلا أن سياق النَّص قد خصَّها بحالة عدم الاضطرار، أو يأتي بمُخصِّص ملفوظ، كالاستثناء والشرط والبدل والغاية والوصف، كما في قوله - تعالى -: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].



وقد ذهب الأصوليُّون - لاسيما المتأخرون منهم - مذاهبَ عديدةً في مسألة العموم والخصوص، فمنهم مَن قال بوجود صيغ العموم، ومنهم من قال: إنَّها صيغ الخصوص، وذهبت طائفة إلى القول باشتراك الصِّيغ بين العموم والخصوص، واتَّجه فريق آخر إلى القول بوقف العمل بصيغ العموم والخصوص؛ حتَّى ترد قرينةٌ تخصِّص أو تعمِّم.



وقد عرض الآمدي تلك الاتجاهات في قوله: "ذهبت المُرْجِئة إلى أن العموم لا صيغة له في لُغَةِ العرب، وذهب الشافعي وجماهير المعتزلة وكثيرٌ من الفقهاء إلى أن تلك الصِّيَغ حقيقة في العموم، مجاز فيما عداه، وذهب أرباب الخصوص إلى أنَّ هذه الصيغ حقيقة في الخصوص مجازٌ فيما عداه، وقد نُقِلَ عن الأشعري قولان: أحدُهما القول بالاشتراك بين العموم والخصوص، والآخر الوقف، وهو عدم الحُكْم بشيء مما قيل في الحقيقة في العموم أو الخصوص أو الاشتراك، ووافقه في الوقف القاضي أبو بكر، وعلى كلِّ واحد من القولين جماعةٌ من الأصوليين"[37].



والإمام الغزالي الذي نادى بوجود صيغ العموم أخذ يستدلُّ بوضعها في اللُّغة بشكل عام، وليس في اللغة العربية وحْدَها[38].

ومن أدلة أصحاب العموم:

1 - أن العموم معنى من المعاني المعقولة، وضع أهل اللغة ألفاظًا له بحاجة التعبير إليه.

2 - أن وجودَ الاستثناء في اللغة - وهو نوع من التخصيص - يدُلُّ على وجود العموم في الألفاظ؛ إذ يخرج منها ما يجب دخوله لَوْلاهُ، كما في قوله - تعالى -: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا} [العصر: 2-3].

3 - وجود ألفاظ تُؤكد صِيَغَ العموم ككل، وجميع التي تدل دلالةً واضحةً على استغراق الأفراد.

4 - عُرِفت ألفاظ العموم من الكتاب والسُّنة، فإذا لم نكن نعرف ذلك من نفس اللفظ، فقد نجِد بعض الأحكام الشرعيَّة قد وردت بصيغ العموم؛ إذ جاء في قوله - تعالى -: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].

5 - إجماع الصَّحابة وأهل اللغة على إجراء ألفاظ الكتاب والسنة على العموم.

6 - صيغ العموم لا تَختص بلغة العرب فحسب، بل هي جارية في جميع اللُّغات.



أما أدلة الخصوص:

1 - أنَّ اللَّفظ للخصوص هو أمرٌ مُتيقن، أما تناوله للعموم فهو مُحتمل، والحقيقة في المتيقن أولى على اعتبار أنَّ الخصوص حقيقة والعموم مجازٌ، وقال البعض: "إذا وَرَدَ لفظ خاص في نصٍّ شرعي، فإنَّه يتناول مدلوله قطعًا ما لم يدل على صرفه عنه".

2 - أن صِيَغَ العموم يَكثُر استعمالها في الخصوص.

3 - أن العرب لم تضع ألفاظًا خاصة بالعموم، بل وضعت ما يصلح له ولغيره، فهي عندهم مشتركة بين العام والخاص، فقَلَّما نجد عامًّا لا يتطرق إليه التخصيص، خاصة في الكتاب والسنة؛ فقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج: 1]، قد يَخص منه غير المكلَّف[39].



أما أدلة مَن قالوا بالاشتراك بين العموم والخصوص:

1 - الاستفهام يَحسن عن إطلاق الألفاظ أهي للبعض أم للكل؟

2 - العرب تستعمل الصِّيغَ فيما هو عام كما تستعمله في الخاص، وقلَّما نرى عامًّا لا يتطرَّق لتخْصيص، وجميع الآراء التي ساقها أصحابُ كل مذهب لا تصلُ بنا إلى نتائج محدَّدةٍ، واللغة العربية تأتي بالعديد من ألفاظ العموم وألفاظ الخصوص، ولكنَّها مصحوبة بقرينة "نحوية، أو صرفية، أو سياقية"، ودراسة الأصوليين لمسألة العموم والخصوص والاشتراك في أَشَدِّ الحاجة إلى تحديد مدلول اللَّفظ بما يحقق مقصد الشَّارع فيما يرمي إليه، واضعين نُصب أعينهم أهداف الشرع ومقوماته.
إنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحُكْم ومصالح العباد في المعاش والمعاد؛ ولذلك يتَّجه الإمام الغزالي إلى أنَّ القرينة هي التي تحدد الدلالة وليس مجرد اللَّفظ[40].



والإمام الشافعي لم يذكُر القرينة، بل ذكر السياق في عبارته: "الصنف الذي يُبيِّن سياقه معناه"[41]، ومن أهمِّ الأحكام في هذا الباب: "أحكام إطلاق الخاص وتقيُّده"، وتضم:

- العمل بالمقيد حيثما ورد مقيدًا، والعمل بالمطلق حيثما ورد مطلقًا، ما لم يدل دليل على تقييده.

- يتم حَمْل المطلق على المقيد على عدَّة أوجه، منها:

1 - اتِّحاد الموضوع والحكم ودخول الإطلاق والتقييد على الحُكم، ويأخذ به الشافعيَّة، مثال: "الحكمُ فيمَن أفطر في رمضان، وفيمن وَاقعَ امرأته في رمضان واحدٌ، وهو صيام شهرين، ولكنَّه في الأوَّل مطلق، وفي الثاني مقيد بالتتابع".

2 - اتِّحاد الموضوع والحكم ودخول الإطلاق والتقييد على السَّبب، كقول الشافعي: "لا تجب الزكاة في الإبل إلاَّ في السائمة، ولا يحرم من الدَّم إلا المسفوح".

3 - اختلاف الموضوع واتِّحاد الحكم، وأوْجب جمهور الشافعيَّة الحمل فيه "الحكم بالكفَّارة بعتق رقبة في القتل الخطأ وفي الظِّهار".

4 - اتحاد الموضوع واختلاف الحكم، مثل: "التطهُّر بالغسل في الوضوء وبالمسح في التيمم".

5 - اختلاف الموضوع واختلاف الحكم، مثل: "اختلاف كفارة القتل الخطأ عن كفارة اليمين"[42].



وفي الدِّراسات اللُّغوية الحديثة طوَّر علماء اللغة مبحثَ العام الذي يدخله خاص، أو مسألة العموم والخصوص، إلى ما يُعرَف في قوانين التطوُّر الدلالي بتوسيع الدلالة، تضييق الدلالة، انحطاط الدلالة، ارتقاء الدلالة، انتقال الدلالة من الحقيقة إلى المجاز[43].
يتبع






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 12-10-2020, 06:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,601
الدولة : Egypt
افتراضي رد: اللغة عند الإمام الشافعي ممثلة للغة الأصوليين



وقد لاحظ (بيرل Breal ) أنَّ التطور من الاتساع إلى التضييق هو التطوُّر الطبيعي لتاريخ اللُّغة، وهو ما ذهب إليه الأصوليُّون من قبل، عندما قالوا قولتهم الشهيرة: "ما من عام إلا ويتخيل فيه التَّخصيص"، أمَّا توسيع الدلالة، فيوجد بدرجة أقل.


- ولا يقتصر تناوُل الأصوليين واللغويين العرب لقضية العام والخاص على التَّشابُه بينه وبين توسيع الدلالة أو تضييق الدلالة، كما يقول السيد أحمد عبدالغفار[44]، ولكنَّ العام والخاص من منظور الأصوليين واللغويين العرب يتشابه في تفريعاته المختلفة مع ما عرفه علماءُ اللغة المحدثون بارتقاء الدلالة، أو انحطاط الدلالة، أو انتقال الدلالة من الحقيقة إلى المجاز، ثم من المجاز إلى الحقيقة مرَّة أخرى[45]، ونستطيع أنْ نستدلَّ على ذلك من خلال الرجوع إلى أمثلة الشافعي.


ففي استشهاده بالآية الكريمة: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] على أنَّها عام لا خاصَّ فيه، نلمح في لفظ "دابة" ارتقاء الدلالة، عندما دلَّت على عموم مخلوقات الله التي تدب على الأرض، وتسعى إلى رزق الله، وكان اللفظ قد استقرَّت دلالته في اللغة على الحيوانات التي تدب على أربعة دون بقيَّة المخلوقات.


- واللفظ الواحد يأتي في سياق يدُلُّ على ارتقائه، ويأتي في سياق آخر يدُلُّ على انحطاطه مقترنًا بمواصفات مُعيَّنة؛ فلفظ الناس في قوله - تعالى -: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24]، [التحريم: 6]، دَلَّ على فئة انحدرت إلى أدنى الصفات، واستحقَّت النار عقوبةً، بينما دلَّ لفظ الناس في قوله - تعالى -: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] على طائفة المؤمنين الذين يؤدُّون فريضة الحج، وفي ذلك ارتقاءٌ في درجات البشر.
ومما سبق يتضح أنَّ مدار ارتقاء الدلالة أو انحدارها في آيِ القرآن الكريم يكون حول أحكام إلهية.


- وفي الأمثلة التي ساقها الشافعي تحت عنوان: "الصِّنْف الذي يُبيِّن سياقه معناه"[46] دَلَّ استخدام لفظ القرية في الآيات الممثلة على أهل القرية، فجاءت انتقالةُ الدلالة هنا انتقالةً مَجازية، ويعرفها البلاغيون بأنها مجازٌ علاقتُه المحلية، وفيها ذَكَر سبحانه وتعالى القريةَ، وأراد أهل القرية.


- وقد عرَّف الأصوليون الذين جاؤوا بعد الشافعي المجازَ على أنه انتقالُ اللَّفظ إلى غير ما وضع له؛ لوجود علاقة بين محل الحقيقة ومحل المجاز، وهو مجاز لغوي أو عُرفي أو شرعي، فالمجاز اللُّغوي كانتِقال الاسم من الحقيقة اللغوية إلى المجاز اللغوي؛ "كإطلاق لفظ الإنسان على الناطق عمومًا عن طريق التجاوز"، والمجاز العرفي كاستِعْمال لفظ الدَّابة لكل ما يَدِبُّ على الأرض، بعد استقرار عُرْفِها بذوات الأربع، والمجاز الشرعي كاستعمال لفظ "الصلاة" الذي استقرَّ في الشرع بدلالة خاصة، تضمُّ أقوالاً وأفعالاً تؤدَّى بصورة معينة، وكان يستعمل للدعاء.


وقد ذهب الشافعيَّة إلى أنَّ اللفظ يكون مجازًا إذا تعذَّر حمله على الحقيقة، فتكون دلالةُ اللَّفظ على معناه المجازي دلالةَ ضرورةٍ في أضيق الحدود، كما ذهبوا أيضًا إلى جواز استعمال اللفظ في المعنى المجازي، ويدخل فيه المعنى الحقيقي فلا يوجد ما يمنع[47].


أنواع الدلالة
(دلالة المفرد - دلالة التركيب)
لقد انصرفتْ عناية الأصوليين إلى إدراك لغة النَّصِّ، والتعرُّف على أسرارها في التعبير عن المعاني، ومعرفة ما تشير إليه من قريب أو بعيد، فاللَّفظ والمعنى في تصوُّر الأصوليين هما دليلُ الحكم.


ويقسم الشافعي "دلالة الكلام على المعنى" قسمين:
الأول: دلالة المنظوم، وهي دلالةُ صريحِ اللفظ على تمام معناه الوضعي أو على جزء منه، ويُسمَّى: دلالة المنطوق، والدلالة الصريحة.
الثاني: دلالة غير المنظوم؛ أي: دلالة الكلام بغير صريح اللَّفظ على معنى ما[48].


اللفظ أو التركيب ما وضع إلا للبحث عن الدلالة، وقصد الشارع والتَّمكُّن من ضبط الأحكام؛ مما يتطلب الاهتمام بتحليل اللفظ، وللفظ ظاهر وباطن، فأصحاب الظاهر يعملون بمقتضى اللَّفظ دون النظر للمعاني العامة، ويُبعدون ما يَخصُّ المعاني من الناحية القياسية.
وأصحاب الباطن أو أصحاب الرأي ينظرون إلى المعاني العامة مُجردة عن ألفاظها، ولم يعملوا بخصوصيَّات الألفاظ[49].


وقد تبع التقسيم السابق وجود اتجاهين أمام الشريعة الإسلامية:
أ - اتجاه أصحاب الرأي الذين يضعون أمامهم الهدف التَّشريعي، وهو الحفاظ على مصالح العباد، ويصوِّبون نحوه كُلَّ ما يَعْرِض له من مسائلَ بتوجيه دلالتِها إلى هذا الهدف، وإذا كان هناك أمرٌ مُخالف للهدف التشريعي يجب ردُّه، وإعمال المقتضى الكلي العام، وهو المصلحة الإنسانية.
ب - اتجاه أصحاب الظاهر الذين يلتزمون بمقتضى النَّصِّ، ويذهبون إلى أنَّ الشريعة إنَّما أتت بتلك النُّصوص لابتلاء المكلَّفين أيهم أحسن عملاً، وكلُّ ما خالف النص لا اعتبار له[50]، وقد اتَّضح أنَّ الأصوليين نظروا في تحديد الدلالة اللفظية على أسُس ثلاثة:
أوَّلها: النظر في الدلالة للَّفظة المفردة.
ثانيها: تتبُّع التطور الدلالي لتلك اللفظة، وما يظلُّها من المفاهيم التي تتوارد عليها بعُرْفِ الاستعمال.
ثالثها: مراعاة تحقيق أهداف الشريعة بالتعرُّف على قصد المشرِّع، واتِّجاه المعرفة إلى تلك المقاصد، اتِّجاهًا تناولتْه مُختلف البيئات المعنيَّة بدراسة اللُّغة العربية، من بلاغية أو نَحوية، وكان مدخل علماء الأصول لِهذا البحث هو التأويل في بادئ الأمر، فكان الشافعي يلجأ إلى التأويل؛ للتوفيق بين النصوص التي يبدو في ظاهرها تعارض، ولكنَّه لم يُحدد لنا السبيلَ التي تتَّبع في ذلك؛ لأنَّ علم الأصول آنذاك لم يكن قد وصل إلى كمال نُضْجه كما حدث في المرحلة المتأخرة[51].


دور التأويل في الوصول إلى الدلالة:
لقد ربط الإمام الشافعيُّ التأويلَ بالنص، وبلغته، وبالعقل الذي يتدبر الأمر فيه، ويتَّضح ذلك في ثنايا كلامِه عن البيان، فهو يقول: "إنَّما خاطب الله بكتابه العربَ بلسانها... وأن فِطْرته أنْ يُخاطَب (بظاهرٍ)، يُعرَفُ في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكُلُّ هذا موجود علمه في أوَّل الكلام أو وسطه أو آخره، وتبتدئ الشيء من كلامها يُبين أوَّلُ لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يُبين آخرُ لفظها منه عن أوَّله، وتكلم بالشيء تعرفُه بالمعنى دون الإيضاح باللَّفظ، كما تعرف الإشارة، ثُمَّ يكون هذا عندها من أعلى كلامها؛ لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها"[52].


فقضية التأويل عند الشافعي ترتبط بالنَّص وبلغته إلى جانب استعمال العقل، فكتاب الله نَزَل بلغة العرب، وينبغي أن يُفهم بحسِّهم، واللغة هي وعاء الفكر، فللعقل هنا موقفٌ له أثره الكبير في التَّمييز، وإدراك الفروق، وإيضاح التأويل إلى وسائل من المعرفة، لا تتاح إلا لمن تمرَّسوا بحياة الشريعة، وباللُّغة التي كتِبَت بها، ولهم إدراكٌ قوي لوجوهِها، والشافعي ينبِّه إلى أثر التأويل في فَهْم النص، كما ينبه إلى ضرورة دراسة لُغة النَّص وطاقاتها وخصائصها وأساليبها في الأداء، حتَّى يُمكن التوصُّل إلى الدلالة بالمنطوق أو بالمفهوم، والتأويل لا يعتمد على اللُّغة وحْدَها في أدائها للمعنى، وإنَّما يضاف إلى ذلك حياة الشريعة وظروف أهلها، وتغيُّر المدلول بتغيُّر ظروف الحياة، والتأويل هو حمل اللَّفظ على غير مدلوله الظاهر منه، مع احتمالٍ له بدليل يُعَضِّدُه[53]؛ أي: إنَّ التأويل هو ترجيح لمعنًى من المعاني الخارجة عن اللَّفظ دون قطع لإحداها.


وقد وضع الأصوليون شروطًا للتأويل منها:
- أن يكون موافقًا لوضع اللغة أو عُرف الاستعمال ومقصد الشارع.
- أن يقوم دليلٌ على أنَّ ما انصرف إليه اللفظ هو المعنى المراد مما يمكن حمله عليه.
- إذا كان التأويل بالقياس فلا بُدَّ أن يكون القياس جليًّا لا خفيًّا.
- أن يكون المتأوِّل أهلاً لذلك[54].


والتأويل عند الأصوليين نوعان:
مقبول منقاد، وغير مقبول مستكره؛ فالأول يتمشَّى مع النص، والثاني يرفع النص أو شيئًا منه، وكان مثار الجدل بين الأصوليين حول هذا النَّوع، وكان الأصوليون أكثر الناس تشدُّدًا في قبول التأويل، لاسيما المستكره منه، ومن هؤلاء الشَّافعي، بينما لجأت الطوائف الأخرى - خاصة اللغويين - للتأويل، بل لجؤوا للتأويل المصنوع، والتكلُّف المفسد، كما فعل نَحْويُّو البصرة، وقبل ذلك عند الكوفيين[55]، والأصوليون يُقوِّمون قضاياهم اللغوية على هدي اللغة نفسها، فتراهم يتناولون التَّأويل بمقدار، وخاصَّة فيما يتعلَّق بالنص التشريعي.


وتنحصر تقسيمات الأصوليين للتأويل في ثلاثة:
- تأويل قريب: وهو ما يُمكن الوصول إليه بأقل مرجع.
- تأويل بعيد: وهو ما يحتاج إلى مرجع قوي، حتَّى يُمكن التَّوازن بين بُعْدِ الاحتمال وقوة الدليل.
- تأويل متعذر: وهو ما لا يحتمله اللفظ ويتعذر ترجيحه، وهذا غير مقبول[56].


ولا يلجأ الأصولي للتأويل إلاَّ عند الضرورة المُلِحَّة؛ أي: عند وجود التَّضاد والتَّعارض بين النصوص، فعندها ينظر الأصولي في مُراد اللفظ لغير مدلوله الأول، وما يَحفُّ به من دلالات تختلف باختلاف البيئة والظروف، فقد لا يرتبط اللَّفظ بمعناه، وإنَّما يفهم من خلاله معنى آخر، ولما كانت المعاني نتاجًا فكريًّا، كانت لا تقفُ عند حدٍّ، بينما تكون الألفاظُ متناهية، رغم كونها أدوات المعاني، وطريقة الوصول إليها[57].


واللفظ العربي يتميَّز بأنَّ له من الطاقة ما يُمكنه حَمْل أكثر من معنى، والتأويل هو الطريق إلى ذلك، وبه توَصَّل الأصوليون إلى إدراك المضامين التي لا تظهَر مع اللفظ، فيما إذا عرض أمر يتحتَّم فيه القول بحكم الله، فقد ساعد التَّأويلُ على إضافة دلالات جديدة للألفاظ، وهو ما لا يقبله أهل الظاهر الذين يتمسَّكون بالمعنى الأوَّل للفظ، مُغفلين عواملَ التطور الدلالي، وهو اتجاه يُجمِّد اللُّغة، ويوقف الشريعة عن مسايرة التطور.
أما الأصوليُّون الذين سايَروا التَّطور، فقد حدَّدوا دائرة التأويل بما يتَّفق ومقصد الشارع، وكان التركيزُ على الاجتهاد والخلاف اللَّذين هما من لوازم التأويل.


قال الشافعي: "فكيْف الاجتهاد؟ فقلت: إنَّ الله - جلَّ ثناؤه - منَّ على عباده بعقول، فدَلَّهم على الفرق بين المختلف، وهداهم السبيل إلى الحق نصًّا ودلالة"[58].


ولذا كان الاجتهاد أصلاً من أصول التشريع؛ قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، فيُشير القرآن الكريم إلى الحرية الفكريَّة، ويشرع لها فَهْم النصوص، والإفادة منها فيما يواجه مشكلات الحياة، ويشير الشافعي إلى أمرٍ مهمٍّ في عملية الاجتهاد، ومَن يقوم بالاجتهاد، والاجتهاد يُرادف القياس عند الشافعي؛ ولذلك نجده يقول: "ولا يقيس إلا مَن جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله، فرضه وأدبه، وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه، وإرشاده، ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله، فإذا لم يَجد سنة فبإجماع المسلمين، فإنْ لم يكن إجماعٌ فبالقياس، ولا يكون لأحدٍ أن يقيس حتى يكونَ عالمًا بما نصَّ قبله من السنن وأقاويل السَّلف، وإجماع الناس واختلافهم، ولسان العرب، ولا يكون له أنْ يقيسَ حتَّى يكون صحيح العقل، وحتى يفرِّق بين المشتبه، ولا يعمل بالقول به دون تثبت"[59].


وتختلف وجْهات النَّظر فيما يَحتمل التأويل من الألفاظ، وقد أورد الشافعي صورةً من هذا الخلاف مما له فيه نصُّ حُكْمٍ يَحتمل التأويل، مثال: كلمة "قرء"، في قوله - تعالى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228][60].


وقد أدرك الشَّافعي - كما أدرك غيْرُه من أهل العلم - أن الولوج إلى باب الاجتهاد يكون بسبَب ما طرأ من أمور، وما استجدَّ من أحداثٍ؛ أي: إنَّ بابه الضرورة، فهو يقرر أنَّ الوقائع لا تَشِتُّ عن حكم الله، وذلك بنصٍّ قرآني أو نبوي أو ما حُمِلَ عليهما، وهذا يعني أنَّ النص أصلٌ، والقياس والاجتهاد فرعٌ، والفرع مؤخَّر عن الأصل ومستند إليه، ومن ثَمَّ وجَب استبدال المجتهد بالبيان.


والبيان - في مفهوم الأصوليِّين - هو مادة الدَّليل الموصل إلى الحكم الشَّرعي، الذي ينهجون في سبيل تحديده منهجًا عقليًّا، ويعرضونه عرضًا علميًّا دقيقًا، ويقول الشافعي في البيان: "البيان اسمٌ جامع لمعانٍ مُجتمعة الأصول متشبعة الفروع"[61].


ويقسم البيان الأصولي إلى أربعةَ أقسام:
1 - ما أبانه الله لخلقه في كتابه العزيز، وأتى الكتاب على غاية البيان فيه.
2 - ما أحكم فرضه بكتابه، وبَيَّن كيف هو على لسان نبيه.
3 - ما سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس فيه نصُّ حكم.
4 - ما فرض الله على خلقه وكلَّفهم الاجتهادَ في طلبه[62].


وكان المتأخِّرُون قد أضافوا "بيان ضرورة"، وهو الحاصلُ عند سكوت الشارع عنه، وهو دلالةٌ غير لفظية، كما في قوله - تعالى -: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]، لكنَّ الشافعي يرى أنَّ السكوت الخالص لا يُعَد بيانًا، فبيانُ نصيب الأب مفهوم من سياق الكلام، لا بمحض السكوت، وهو اتِّجاه عقلي مقبولٌ، لاسِيَّما والشافعي يشير دائمًا إلى دور العقل ووظيفته في التمييز والإدراك[63].


وقد حدَّد الشافعي أطرافَ البيان الأربعة التالية:
المبين: "اسم فاعل"، وهو الذي يقوم بعمليَّة الإبانة، كالشارع في النَّص الديني من قرآن وسنة، أو المجتهد الذي تَمرَّس بحياة الشريعة وبلغتها.
البيان: وهو الدليل الموصِّل إلى معرفة الحُكم المطلوب، ويتناول الكشف عن المقاصد.
المبيَّن: "اسم المفعول"، وهو عبارة عن اللَّفظ الذي تتضح دلالته، بحيث يعرف المراد منه.
المبين إليه: وهو المتلقي للأحكام والسامع لها، وقد أشار الشَّافعي إلى ذلك بأنَّ "تلك المعاني المتشعبة بيانٌ لمن خُوطب بها، ممَّن نزل القرآن بلسان مُتقارب الاستواء عنده، ومُختلفة عند مَن يجهل لسان العرب"[64]، وهو يقصد أهل اللغة المدركين لأسْرارِها.


وقد ذكر (فيرث) صاحب النظرية السياقية أنَّ أركان "سياق الحال" أو "سياق الموقف" تضُمُّ:
- السمات المتعلقة بالمشاركين (الأشخاص).
- الحدث اللغوي للمشاركين (مرسلين ومستقبلين).
- الحدث غير اللغوي للمشاركين.
- الأشياء الوثيقة الصلة بالموضوع.
- تأثير الحدث اللغوي[65].



[1] تاج الدين السبكي، "طبقات الشافعية"، ج1، ص100 وما بعدها، ويذكر أ. د/ محمد نبيل غنايم في كتابه "تقريب التراث" في الجزء الخاص بـ"الرسالة"، للإمام الشافعي، ص42 أن "المؤرخين قد أجمعوا على أن الشافعي هو الإمام في علم أصول الفقه في كتابة الرسالة، وشذَّ عنهم ابن النديم في "الفهرست"؛ لأنَّه اعتبر أبا يوسف صاحب أبي حنيفة أسبق من الشافعي في وضع هذا العلم"، وقد ورد ذلك عند طاش كبرى زاده في "مفتاح السعادة"، ص102، تحقيق كامل بكري وآخرين.
[2] "الرسالة"، ص13.
[3] "الرسالة"، ص42.
[4] "الرسالة"، ص43.
[5] "الرسالة"، ص44.
[6] "الرسالة"، ص44.
[7] "الرسالة"، ص45.
[8] جلال الدين السيوطي، "صون الكلام عن فن المنطق والكلام"، ص45.
[9] د. حلمي خليل، "الغموض والدلالة"، ص71، 79.
[10] "الرسالة"، ص48.
[11] "الرسالة"، هامش ص48.
[12] "الرسالة"، ص52.
[13] د. السيد أحمد عبدالغفار، "التصور اللغوي عند علماء أصول الفقه"، ط1، ص77، ومقال الأستاذ أنور الجندي "خصائص اللغة العربية في الفكر الإسلامي"، ص48، مجلة "الرسالة الإسلامية العراقية"، العدد 21 السنة الثانية.
[14] "التصور اللُّغوي عند علماء أصول الفقه"، ص78، وورد في "كشَّاف اصطلاحات الفنون"، للتهانوي، ج 3، ص124: "الزكاة كالصلاة وزنًا وكتابةً اسمٌ من التزكية، وكلاهما مستعملان"، وفي "المفردات": "إنَّها في اللغة: النُّمو الحاصل من بركة الله تعالى، وفي الشريعة: قدر مُعين من النصاب الحولي يخرجه الحُرُّ المسلم المكلَّف لله - تعالى - إلى الفقير المسلم غير الهاشمي، ولا مولاه من قطع المنفعة عنه".
[15] "الرسالة"، ص52، 53.
[16] "الرسالة"، ص53، 54.
[17] التهانوي، "كشَّاف اصطلاحات الفنون"، ج1، ص423.
[18] "التصور اللغوي"، ص81.
[19] د. أحمد مختار عمر، "علم الدلالة"، ص96 - 97.
[20] "الرسالة"، ص348.
[21] "التصور اللغوي"، ص83، و"شرح الكافية"، للرضي، ج1، ص304 - 335، و"التسهيل"، لابن مالك، ص158، 164، 166، و"إرشاد الفحول"، ص112.
[22] السيوطي، "المزهر"، ج1، ص426.
[23] الشيخ عبدالوهاب خلاف، "علم أصول الفقه"، ص181.
[24] "إرشاد الفحول"، ص142.
[25] "الرسالة"، ص57.
[26] "الرسالة"، هامش ص3، ص56.
[27] نتصور أنَّ الشافعي قد وضع هذا النَّوع بين "عام الظاهر الذي يُراد به كله الخاص"، وما نزل عامًّا دَلَّت به السنة خاصة على أنه يراد به الخاص؛ ليثبت أنه نوع من أنواع تخصيص الدلالة، والذي يستخدم السياق فيه مساعدًا على معرفة هذا النوع.
[28] الشوكاني، "إرشاد الفحول"، ص142 وما بعدها.
[29] "الرسالة"، ص62، 63.
[30] وهذا مجاز من باب إطلاق المحل على الحال، وقد تَعَوَّد العرب استخدامَ هذا الأسلوب.
[31] "الرسالة"، ص65.
[32] "الرسالة"، ص65، 66.
[33] "الرسالة"، ص66 - 67.
[34] "الرسالة"، ص76.
[35] "الرسالة"، ص79.
[36] الآمدي، "الأحكام في أصول الأحكام"، ص54.
[37] السابق، ج2 ص57.
[38] الإمام الغزالي، "المستصفى"، ج1، ص 419.
[39] "التصور اللغوي عند علماء أصول الفقه"، ص92 - 96، و"مباحث في أصول الفقه"، ص99.
[40] "المستصفى"، ج1، ص147، وابن قيم الجوزية، "إعلام الموقعين"، ج4، ص1.
[41] "الرسالة"، ص62.
[42] "التصور اللغوي"، ص96، "المستصفى"، ج2، ص185.
[43] د. إبراهيم أنيس، "دلالة الألفاظ"، ص123.
[44] "التصور اللغوي"، ص96.
[45] د. إبراهيم أنيس، "دلالة الألفاظ"، ص123، وما بعدها.
[46] "الرسالة"، ص62.
[47] الشوكاني، "إرشاد الفحول"، ص20، وما بعدها.
[48] الآمدي، "الأحكام"، 2/ 188، 3/90.
[49] "التصور اللغوي"، ص116.
[50] المرجع السابق، ص117.
[51] "التصور اللغوي عند علماء أصول الفقه"، ص117.
[52] "الرسالة"، ص52.
[53] الآمدي، "الأحكام"، 2/ 199، وهو ما يتفق مع ما يذهب إليه السِّياقيُّون في "سياق الحل".
[54] الآمدي، 2/ 199.
[55] عباس حسن، "اللغة والنحو بين القديم والحديث"، ص90، دار المعارف - القاهرة، 1966.
[56] "التصور اللغوي عند علماء الفقه"، د. السيد أحمد عبدالغفار، ص122.
[57] السيوطي، "المزهر"، 1/ 41، والفخر الرازي، مقدمة "التفسير الكبير"، ص14.
[58] "الرسالة"، 501.
[59] "الرسالة"، ص509.
[60] انظر: مادة: "قرأ".

[61] "الرسالة"، ص21.
[62] "الرسالة"، ص21 وما بعدها.
[63] ابن الملك، شارح المنار، ص706.
[64] "التصور اللغوي"، ص1.
[65] Firth s theory of meaning, 288.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 121.50 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 118.70 كيلو بايت... تم توفير 2.81 كيلو بايت...بمعدل (2.31%)]