الإسراف وضرره على الأفراد والجماعات - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الاكتفاء بسماع أذكار الصباح والمساء عند قولها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          الفرق بين صلاة التراويح وصلاة القيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          قراءة القرآن بصوت مرتفع في المسجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          الفرصة الأخيرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          ترزقوا وتنصروا وتجبروا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          لا سمَرَ إلَّا لِمُصَلٍّ ، أوْ مُسافِرٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          على أبواب العشر الأواخر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          رمضان شهر الإقبال على مجالس العلم والعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          التغيير الشامل في رمضان .. هل هو ممكن؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          تاريخ غزوة بدر .. الميلاد الثاني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 06-08-2020, 05:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي الإسراف وضرره على الأفراد والجماعات

الإسراف وضرره على الأفراد والجماعات


سيد مبارك





مقدمة الباحث

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصَحْبه أجمعين.



﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].




﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].



أمَّا بعدُ:

فإنَّ أصدَق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.



ثم أمَّا بعدُ، فهذا البحث على الرغم من صِغَر حَجْمه، فإنه عظيم النفع - إن شاء الله تعالى، لماذا؟ لأنه يعالج موضوع الإسراف، وهو موضوع على درجة عظيمة من الأهميَّة؛ لأنه انتشَر وتفشَّى بين المسلمين في القرن الواحد والعشرين، وقد عمَّ الإسراف كلَّ شيء؛ الصالح والطالح، وهو أمر يُنذر بضررٍ شديد في الدنيا والآخرة.



ومن ثَمَّ استعَنت بالله على المُضي قُدمًا في بيان خطورة هذا الموضوع، وبيان أقسامه وأنواعه من الناحية الشرعيَّة، فضلاً عن آثاره وأضراره، ووَضْع الحلول الشرعيَّة لعلاج ما أفسَده في الدين والدنيا، وذلك بإيجاز شديد دون تطويلٍ مُملٍّ، أو تقصيرٍ مُخِلٍّ.



هذا، وقد راعَيْت في البحث إلقاء الضوء على النقاط التالية:

المعنى اللغوي والشرعي للإسراف.



أنواع الإسراف وضرره.



وسائل علاج الإسراف.



وبعدُ:

أسأل الله تعالى أن يكون هذا البحث خالصًا لوجهه الكريم، ولايكون للشيطان فيه حظٌّ ولا نصيبٌ، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.



المعنى اللغوي والشرعي للإسراف:

بادئ ذي بَدءٍ، ينبغي أن نبدأ بحثنا بالتعريف اللغوي والشرعي للإسراف، وما في معناه من التبذير والترف؛ ليُدرك القارئ الكريم أوْجه الاختلاف بينهما.



المعني اللغوي والشرعي للإسراف:

الإسراف أو السَّرَف، وهما بمعنًى واحد، جاء في القاموس[1] ما مُختصره:

"قيل: أرادَ بالسَّرَف الغَفلة، يقال: رجل سَرِفُ الفؤاد؛ أي: غافل، وسَرِفُ العقْلِ؛ أي: قليلُه، وقيل: هو من الإسْراف والتَّبذير في النَّفقة لغير حاجةٍ، أو في غير طاعة الله، والغالبُ على ذِكره الإكثارُ من الذنوب والخطايا، واحْتقاب الأوزار والآثام"؛ ا .هـ.



وقال ابن منظور في اللسان[2]:

"السَّرَف والإسراف: مجاوزة القصد، وأسرَف في ماله: عجل من غير قصدٍ، وأمَّا السَّرَف الذي نَهى الله عنه، فهو ما أُنْفِق في غير طاعة الله؛ قليلاً كان أو كثيرًا، والإسراف في النفقة: التبذير...، وقيل: هو مجاوزة القصد في الأكل مما أحلَّه الله"؛ ا .هـ.



أمَّا التعريف الشرعي للإسراف، فقال الحافظ ابن حجر في تعريف الإسراف هو: "مجاوزة الحد في كل فِعل أو قولٍ، وهو في الإنفاق أشهر"[3].



ويتبيَّن لنا مما سبَق أنَّ المعنى اللغوي لا يختلف كثيرًا عن المعنى الشرعي، فهو أيضًا مُجاوَزة الحد في إنفاق المال وغيره.



وأمَّا التبذير فقد جاء في اللسان (4/ 50) ما مختصره:

"قيل: من البذر الذي هو الزرع، وهو راجع إلى التفريق...، وبذر ماله: أفسَده وأنفقَه في السَّرَف، وكل ما فرَّقتَه وأفسدتَه، فقَدْ بذَّرْتَه...، وتبذير المال: تفريقه إسرافًا، ورجل تِبْذارة: للذي يُبذِّر ماله ويُفسده، والتبذير: إفساد المال وإنفاقه في السَّرَف"؛ ا.هـ.



أما معناه الشرعي، فقد قال القرطبي في تفسيره[4]:

"قال الشافعي: التبذير إنفاق المال في غير حقِّه، ولا تبذير في عمل الخير، وهذا قول الجمهور، وقال أشْهَب عن مالك: التبذير هو: أخْذ المال من حقِّه ووَضْعه في غير حقِّه، وهو الإسراف"؛ ا.هـ.



وجاء في آداب الدين والدنيا (ص299): "واعْلَم أنَّ السرف والتبذير قد يَفترق معناهما، فالسرف: هو الجهل بمقادير الحقوق، والتبذير: هو الجهل بمواقع الحقوق، وكلاهما مذموم، وذَمُّ التبذير أعظم؛ لأن المسرف يُخطئ في الزيادة، والمُبذِّر يُخطئ في الجهل"؛ ا.هـ.



وأمَّا التَّرف، فقال ابن منظور في اللسان (9/ 17)، مادة "ترف" ما مُختصره:

"الترف: التنعُّم، والتُّرْفَة: النَّعْمة، والتَّتْريف: حُسن الغذاء، وصبيٌّ مُترف: إذا كان مُنعَّمَ البدن مُدَلَّلاً، والمُترف: الذي قد أبْطَرتْه النعمة وسَعة العيش، وأتْرَفته النعمة؛ أي: أطْغَته"؛ ا.هـ.



وأمَّا معناه الشرعي، فقال الشوكاني[5]: "والمُترف: الذي أبْطَرته النعمة، يقال: صبي مُترف: مُنَعَّم البدن، أي صاروا تابعين للنعم التي صاروا بها مُترفين من خصب العيش ورفاهية الحال، وسعة الرِّزق، وآثروا ذلك على الاشتغال بأعمال الآخرة، واستَغْرقوا أعمارهم في الشهوات النفسانيَّة"؛ ا.هـ.



وبعد بيان المدْلول اللُّغوي والشَّرْعي للإسراف، وما يدور في معناه من التبذير والترف، ينبغي التنبيه دومًا إن الإسراف من الأمراض التي انتشَرتْ وتفشَّت بين المسلمين في زماننا هذا، وإن لَم يُعالج على الوجه الشرعي، فإنَّ أضراره في الدين والدنيا على الأفراد والجماعات فادحة وخطيرة، ويَنبغي كذلك أن يُدرك المسلم جيدًا أنَّ الإسراف وما في معناه من التبذير والترف - يشكِّلون معًا مثلثًا لكيد الشيطان وتلبيسه، على رأس المثلث الإسرافُ، وضِلْعاه التبذيرُ والترَف، وهذا المثلثُ الشيطانيُّ أصاب الأُمة الإسلاميَّة بأمراضٍ اجتماعيَّة ونفسيَّة وبدنيَّة خطيرة في الدين والدنيا؛ كما سوف نُبيِّن في هذا البحث.



ولهذا كان لهذا المثلث الشيطانيِّ في الكتاب والسُّنة الشيءُ الكثير؛ قَدْحًا وذمًّا، وترهيبًا وترغيبًا، وسوف نذكر الآيات والأحاديث تباعًا حسب موضعها في البحث، ولكن ينبغي أن نُبيِّن أن الإسراف - سواء في الدين أو الدنيا - يَندرج تحت ثلاثة أقسام، وهي بإيجازٍ شديد:



القسم الأول: إسراف محرَّم شرعًا، حرَّمه الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.



القسم الثاني: إسراف مكروه، وهو ما جاوَز الشرع وتعاليمه، وله أصل في الدين.



القسم الثالث: إسراف مُباح، وهو ما أباحَه واستحبَّه الشرع بشروط، ولَم يُقَيِّده بحدٍّ مُعَيَّن.



وإذا أدْرَكنا ماهية كلِّ قسم من أقسام الإسراف، وما يدور في مداره من التبذير والترف، فسيكون من اليسير على القارئ الكريم عند قراءته لمادة هذا البحث، وبيان أنواع الإسراف المختلفة - إدراك إلى أيِّ قسم ينتمي هذا النَّوع من الإسراف أو ذاك، وسوف نبيِّن ذلك أيضًا للتنبيه عليه، مع بيان الأدلة من الكتاب والسُّنة على حُرمته، أو كراهته، أو إباحته شرعًا، والله المستعان.



أنواع الإسراف وضرره في الدين والدنيا:

ونَطرح هنا بعضًا من أنواع الإسراف من كلِّ قسم مما ذكَرناه آنفًا، مع بيان الأدلة من الكتاب والسُّنة الصحيحة، والله المستعان.



أولاً: من أنواع الإسراف المحرَّم:

وهي كثيرة، ونكتفي هنا بطرح ثلاثة أنواع على سبيل المثال لا الحصر، واجْتَهدت في بيان أشدِّ الأنواع من وجهة نظري ضررًا على الفرد والمجتمع، والله المستعان.



1- الإسراف في القتل:

القَتْل كبيرة من كبائر الذنوب وأعظمها، عدا الشِّرك، ولَم يُبح الشرع القتل إلاَّ في أضيق نِطاق؛ كالقصاص من القاتل، وقَتْل المُرتد عن دينه، وما أشبه ذلك؛ حتى تستقيمَ حياة الناس: دينًا ودنيا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء: 33].



قال الشوكاني في فتح القدير[6] ما مُختصره:

"والمراد بالتي حرَّم الله: التي جعَلها معصومة بعصمة الدين أو عصمة العهد، والمراد بالحق الذي استثناه: هو ما يُباح به قتْل الأنفس المعصومة في الأصل، وذلك كالرِّدة والزنا من المُحصن، وكالقصاص من القاتل عمدًا وعدوانًا، وما يَلتحق بذلك، والاستثناء مُفَرَّغ؛ أي: لا تقتلوها بسبب من الأسباب، إلاَّ بسببٍ مُتلبس بالحقِّ، أو إلاَّ مُتلبسين بالحق، ثم بيَّن حُكم بعض المقتولين بغير حقٍّ، فقال: ﴿ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا ﴾ [الإسراء: 33]؛ أي: لا بسبب من الأسباب المسوِّغة لقَتْله شرعًا، ﴿ فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ﴾ [الإسراء: 33]؛ أي: لِمَن يَلي أمره من وَرَثته إن كانوا موجودين، أو ممن له سلطان إن لَم يكونوا موجودين، والسلطان: التسلُّط على القاتل إن شاء قَتَل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخَذ الدِّيَة، ثم لَمَّا بيَّن إباحة القصاص لِمَن هو مُستحق لدم المقتول، أو ما هو عِوَض عن القصاص، نَهاه عن مجاوزة الحد، فقال: ﴿ فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ﴾ [الإسراء: 33]؛ أي: لا يُجاوز ما أباحَه الله له، فيَقتل بالواحد اثنين أو جماعة، أو يُمثِّل بالقتيل أو يُعَذِّبه، ثم قال - رحمه الله -: ﴿ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء: 33]؛ أي: مؤيدًا مُعَانًا؛ يعني: الوَلِيَّ، فإن الله - سبحانه - قد نصَره بإثبات القصاص له بما أبرَزه من الحُجج وأوضَحه من الأدلة، وأمَر أهل الولايات بمعونته والقيام بحقِّه حتى يَستوفيَه، ويجوز أن يكون الضمير راجعًا إلى المقتول؛ أي: إنَّ الله نصَره بوَليِّه"؛ ا .هـ.



وقال تعالى: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: 32].



قال ابن حجر الهيتمي: في "الزواجر"[7] ما مختصره:

"جُعِل قتْلُ النفس الواحدة كقتْل جميع الناس؛ مبالغة في تعظيم أمْر القتل الظُّلم، وتفخيمًا لشأنه؛ أي: كما أنَّ قَتْل جميع الناس أمرٌ عظيم القُبح عند كلِّ أحد، فكذلك قتل الواحد يجب أن يكون كذلك، فالمرادُ مشاركتهما في أصل الاستعظام لا في قَدْره؛ إذ تشبيه أحد النظيرين بالآخر، لا يقتضي مساواتهما من كلِّ الوجوه، وأيضًا فالناس لو عَلِموا من إنسان أنه يريد قَتْلهم، جَدُّوا في دَفْعه وقتْله، فكذا يلزمهم إذا عَلِموا من إنسان أنه يريد قَتْل آخر ظُلمًا أن يَجِدُّوا في دَفْعه، وأيضًا مَن فعَل قتلاً ظُلمًا، رجَّح داعية الشر والشهوة والغضب على داعية الطاعة، ومَن هو كذلك يكون بحيث لو نازَعه كلُّ إنسان في مطلوبه وقدَر على قَتْله، قتَله، ونيَّة المؤمن في الخيرات خيرٌ من عمله كما ورَد، فكذلك نيَّته في الشر شرٌّ من عمله، فمَن قتَل إنسانًا ظُلمًا، فكأنما قتَل جميع الناس بهذا الاعتبار"؛ ا .هـ.



وفي الأحاديث النبويَّة الصحيحة تحذيرٌ من القتل بغير حقٍّ، ولقد جعَل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - القتل من كبائر الذنوب وأعظمها بعد الكفر بالله، وأكتفي هنا - منعًا للإطالة - بحديث واحدٍ في الصحيحين وفيه الكفاية، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اجْتَنبوا السبع المُوبقات))، قالوا: وما هنَّ يا رسول الله، قال: ((الشِّرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحقِّ، وأكْل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزَّحف، وقَذْف المُحصنات المؤمنات الغافلات))[8].



وقال ابن تيميَّة - رحمه الله - في "الاستقامة"[9] ما مُختصره:

"وترتيب الكبائر ثابت في الكتاب والسُّنة؛ كما في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود قال: "قلتُ: يا رسول، أيُّ الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعلَ لله ندًّا وهو خَلَقك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتلَ ولَدك خشية أن يَطعمَ معك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تُزاني بحليلة جارك))[10]. وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ﴾ [الفرقان: 68].



ولهذا قال الفقهاء: أكبر الكبائر الكفر، ثم قتْل النفس بغير حقٍّ، ثم الزنا، لكن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذكَر لابن مسعود من جنسٍ أعلى، فأعلى الكفر هو أن تجعلَ الله نِدًّا، بخلاف الكتابي الذي ليس بمُشرك، فإنه دون ذلك، وأعظم القتل قَتْلُ ولَدك، وأعظم الزنا، الزنا بحليلة الجار"؛ ا.هـ.



2- الإسراف في المال والتبذير فيه:

الإسراف في المال: هو ما جاوَز حدَّ الاعتدال إلى التبذير أو الترف، وكلاهما ممقوت شرعًا، وسنذكر هنا مثالاً للتدليل على ذلك؛ كالسَّرف في شُرب وتعاطي الدُّخَان وما يجري مجراهما، ونبدأ ونقول بحول الله وقوَّته: إنَّ التدخين إسراف وتبذير في المال، وهو حرام قطعًا، ولا عِبرة لِمَن قال؛ إنه مكروه، فهو قول على الله بغير علمٍ؛ لأنه أولاً تبذير للمال من غير طائلٍ، وثانيًا ضرَره على الصحة والبدن مُدَمِّر على المدى القصير والطويل، فهو يُشبه الانتحار البطيء، والتدخين أسرَف في شُربه الكثيرُ من العباد؛ حتى صار عادة عمَّت وانتشَرت بين الناس على اختلافهم وثقافتهم وحالتهم الاجتماعية، فالطبيب يدخِّن، وهو يعلم خطورة التدخين على الصحة، والمريض يُدخِّن رغم عِلمه بخطورة حالته، والرجل عمومًا يدخن والمرأة كذلك، وحتى الشباب وصغار السنِّ الذين لا يتجاوَز عُمرهم عشر سنوات، تراهم يدخنون بشراهة جهارًا نهارًا، بلا حسيبٍ أو رقيب؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 100].



وأنا لا أدري كيف يستوي الخبيث والطيِّب؟‍

وقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا ضرر ولا ضرار))[11].



والملاحظ أنَّ معظم وفَيات العالَم الصناعي المتقدِّم في أوروبا وأمريكا، إنما هي بسبب التدخين، ولقد خصَّصوا أماكن خاصة لغير المدخنين، وفرَضوا عقوبات صارمة على مَن يدخِّن في الأماكن العامة؛ لخطورة الدُّخَان؛ لأن أضراره وعواقبه وخيمة على الصحة العامَّة، فهو يُعَرِّضك للجلطة، وتصلُّب الشرايين، كما أنه يؤدي إلى الْتهاب الجفون، وما هو أسوأ من ذلك وهو الْتهاب عَصَب الإبصار والعَمى، والتدخين يتسبَّب أيضًا في تسوُّس الأسنان واصفرارها، واسودادها، ويتسبَّب في الْتهاب اللثة، وتقرُّحات الفم واللسان، والربو، وضيق النَّفَس، والسُّعال، والبُصاق، وضَعف كفاءة الرئة، وسوء الهضم، وتليُّف الكبد، والسكتة الدماغية، والذبحة الصدرية، وإصابة شرايين المخِّ بالتصلُّب، ويُسبِّب الغثيانَ، والإمساكَ المُزمنَ، والصداعَ، والأَرَقَ، والفشلَ الكُلوي، وضَعفَ السمع، وفِقدانَ حاسَّة الشمِّ أو إضعافَها، وضَعْفَ الجهاز المناعي... إلخ.



فالتدخين ضرره في الدين والدنيا لا يُجادل فيه إلاَّ جاحد، بل هو إسراف ومصيبة متعدِّدة النواحي والمصائب، وحسبنا الله ونعم الوكيل؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 27].



قال الطبري[12] في تفسيره ما مختصره:

"وأمَّا قوله: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾، فإنه يعني: إنَّ المفرِّقين أموالَهم في معاصي الله المنفقيها في غير طاعته - أولياءُ الشياطين، وكذلك تقول العرب لكلِّ ملازم سُنة قومٍ وتابع أثَرهم: هو أخوهم.



﴿ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾، يقول: وكان الشيطان لنعمة ربِّه - التي أنعمَها عليه - جحودًا، لا يَشكره عليه، ولكنه يَكفرها بتَرْكه طاعةَ الله، وركوبه معصيتَه، فكذلك إخوانه من بني آدم، المبذِّرون أموالَهم في معاصي الله، لا يشكرون الله على نِعمه عليهم، ولكنهم يخالفون أمره ويعصونه"؛ ا .هـ.



وليتذكَّر المُدخِّن المُسرف على نفسه هذا الحديث الشريف عن نَضْلَة بن عُبيد الأَسْلمي؛ عسى أن يفيقَ من غَفلته، ويُقلع عن التدخين كله بأنواعه، قال - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزول قدَمَا عبدٍ يوم القيامة؛ حتى يُسأل عن عُمره فيمَ أفناه، وعن عِلمه فيما فعَل فيه، وعن ماله من أين اكْتَسبه، وفيمَ أنفَقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه))[13].



هذا وقد أفْتَت[14] اللجنة الدائمة للبُحُوث العلميَّة والإفتاء برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - عن شُرب الدُّخَان وبَيْعه بالحُرمة، وإليك نصَّ الفتوى؛ ليحيا مَن حيَّ عن بيِّنة، ويَمت من مات عن بيِّنة:



س: ما حُكم الإسلام فيمَن يتَّجر في الدُّخَان (السجائر) التي تُباع بواسطة الرُّخصة من طرف شركة الدُّخَان؟



ج: شُرب الدخان حرام، وزَرْعه حرام، والاتِّجار به حرام؛ لِما فيه من الضرَر العظيم، وقد روي في الحديث: ((لا ضرَر ولا ضرار))[15]، ولأنه من الخبائث، وقد قال الله تعالى في صفة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف: 157]، وقال: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ [المائدة: 4]؛ ا.هـ.



3- الإسراف في الشهوات والخروج عن الفطرة السويَّة:

الله - سبحانه وتعالى - خلَق الإنسان في أحسن تقويم، وجعَله خليفته في الأرض، وسخَّر له كلَّ الكائنات لخِدمته، من أجْل أداء مهمَّته على الوجه الأكمل، وأنزَل عليه الكُتُب لهدايته؛ حتى يَلتزم بالمنهج الذي يُعينه على سلوك طريق الاستقامة، وبعَث له الأنبياء والرُّسل مُبَشِّرين ومُنذرين؛ حتى لا يُسرف على نفسه ويتجاوَز ما شرَع الله له.



فإذا خرَج بعد كلِّ هذا واتَّبع شيطانه، وخالَف فِطرته، وأصبَح أسير شهواته ومَلذَّاته، فلا يلومَنَّ إلاَّ نفسه، ولقد حذَّر الله تعالى من هذا الترف الزائد عن الحدِّ والفِسق الذي يُخالف الفطرة السويَّة، فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16].



قال العلاَّمة الشنقيطي في "أضواء البيان" (3/ 159) ما مُختصره:

﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رُسله وأتْباعهم فيما جاؤوا به، ﴿ فَفَسَقُوا ﴾؛ أي: خرَجوا عن طاعة أمر ربِّهم، وعَصَوه وكذَّبوا رُسله، ﴿ فَحَقَّ عَلَيْهَا القول ﴾؛ أي: وجَب عليها الوعيد، ﴿ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾؛ أي: أهْلَكناها إهلاكًا مستأصلاً، وأكَّد فِعل التدمير بمصدره؛ للمبالغة في شِدَّة الهلاك الواقع بهم"؛ ا.هـ.



وفي السُّنة الصحيحة ترهيب شديدٌ من ارتكاب الفِسق والفواحش، والخروج عن الفطرة السَّويَّة؛ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا معشر المهاجرين، خَمس إذا ابْتُلِيتم بهنَّ، وأعوذ بالله أن تُدركوهنَّ: لَم تَظهر الفاحشة في قوم قطُّ؛ حتى يُعلنوا بها، إلاَّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لَم تكن مضَت في أسلافهم الذين مَضَوْا...))؛ الحديث[16].



وأرى من الأهميَّة بمكان أن أُلقي مزيدًا من الضوء على خطورة هذا النوع من الإسراف، وأنقل هنا ما قاله صاحب كتاب "الإعجاز العلمي في السُّنة النبوية"؛ لأهميَّته[17] في إثبات ما نسعى إليه، قال ما نصه:



"ومن هنا كان تحذير القرآن الكريم من مجرَّد الاقتراب من الفواحش: ما ظهَر منها، وما بطَن، وكانت أحاديث رسولنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومنها الحديث الذي نحن بصدده - الذي ذكرناه آنفًا - وقد جاء يدقُّ أجراس الخطر من إشاعة الفاحشة في المجتمعات إلى حدِّ الإعلان بها، وما يستوجب ذلك من عقاب الله العاجل بالأمراض والأوجاع التي لَم تكن مضَت في أسلافهم، ولقد صدَّقت الأحداث نبوءَة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - فبعد أن استباحَت الحركة الصِّهْيَونية العالمية نَشْرَ الفواحش في المجتمعات الإنسانيَّة، من أجْل تدميرها والهيمنة عليها، ابتداءً بالزنا واللواط، ونكاح المحرَّمات، ومرورًا بالخمر والميسر والمخدرات، وانتهاءً بالتشريع للشذوذ الجنسي بمختلف صُوَره الشنيعة، فيُصِر كلٌّ من المجالس التشريعية - مثل: مجلس العموم البريطاني، والكونجرس الأمريكي، والعديد من المجالس الأوروبية، وقادة الكنيسة الأوروبية، وقادة الكنيسة الغربية - على الإقرار بحقِّ الشواذ في مُمارسة أفعالهم الفاحشة والمنافية للفطرة بحماية القانون، دون أن ينقص ذلك من حقوقه شيئًا، إلى حدِّ أن يرثَ بعضه بعضًا بحقِّ الفاحشة الممارسة بينهم، وأن ينالوا كلَّ ما تناله الأُسرة العادية من حقوق ورعاية وحماية من الدولة وتشريعاتها وقوانينها، بل ويجدون مِن عُلماء النفس والطب والوراثة ما يُبَرِّر لهم فواحشهم! فأصبحوا اليوم يعلنون عن أنفُسِهم، ويخرجون بأعدادٍ كبيرة - في مسيرات ومُظاهرات مُهينة لكرامة الإنسان، وجارحة لأنظار المشاهدين - في غير حياءٍ ولا خجل، بل بتباهٍ بالفُحش الفاضح! وقد شجَّعت المُجاهرة بالفحش مزيدًا من الأفراد على الانضمام إلى رَكبهم الشيطاني، وفيهم الوزراء والمديرون، والأطباء والمهندسون، وأساتذة الجامعات، والمدرسون ورؤساء المعابد اليهوديَّة والكنائس المسيحية، وغيرهم من القيادات السياسية والاجتماعية، والدينية والتعليميَّة والعِلميَّة، وأصبَحت لهم الأجهزة الإعلامية التي تدافع عن انحرافهم، وتُشَرِّع لشذوذهم، وتطالب لهم بمزيد من الحقوق، وتُحارب كلَّ مَن يَنتقد أعمالهم المَشينة، أو يحاول إصلاحهم وإخراجهم من الوحل الذي يعيشون فيه، وأصبَحت لهم جمعياتهم وروابطهم ونواديهم ومحافلهم التي يُعلنون عنها بلا خجلٍ! والتي تَجمع فيها هؤلاء الملوَّثون الدَّنسون القَذِرون، من شياطين الإنس الذين خالفوا الفطرة التي فطَرهم الله عليها، فانْحَطُّوا بأنفسهم إلى ما هو أدنى من مستوى الحيوانية التي تعفُّ عن انحطاطهم، فعاقَبهم الله بأمراض نقص المناعة المُكتسبة؛ من مثل: مرض الإيدز، وهو لَم يكن معروفًا من قبلُ بين أفراد البشر وما أهلَك قوم لوط من قبل بعقابٍ لَم يَعرفه سابقوهم، ومن أمراض نقص المناعة مرض الإيدز، والأيبولا وغيرهما، ومرض الإيدز الذي يُعرف باسم: سرطان الشواذ، أو باسم: طاعون القرن العشرين، وهو مرض جديد على الإنسان، ثم قال:



فقد بدا هذا الفيروس في اجتياح عالَم الرزيلة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1978م، وفي خلال ثلاث سنوات - أي: إلى مطلع عام 1981م - كان عدد المصابين المعروفين بهذا المرض في حدود العشرات، تعدَّى عددهم الآن عشرات الملايين[18] في المجتمعات الإباحيَّة بجميع دول العالم، وفي مقدِّمتها دول الغرب التي تدَّعي أنها دولٌ متقدِّمة ومتحضِّرة، ودول وسط وجنوب إفريقيا المتخلفة، وسبب ذلك الانحلال في الحالتين البُعد عن الدين الصحيح، فقد وصَل عدد المصابين بأمراض نقص المناعة في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها أكثر من عشرة ملايين، وفي أستراليا أكثر من المليون"؛ ا. هـ.



قلت: هذه النبوة عن الأمراض - بسبب الإسراف في الفواحش والتَّرف - ظهَرت في المجتمعات الغربية في أوروبا وفي أمريكا على نطاق واسعٍ، وهي ليستْ منَّا ببعيد، بعد أن أصبَح العالم كله نافذة مفتوحة، يعلم كلُّ فردٍ فيه ما يحدث في أقصى بلاد العالم في التوِّ واللحظة، فنحن نعيش أزهى عصور العلم الذي يَفتح آفاقًا جديدة كلَّ يوم، ولا أدري أتزيد من تقدُّم الأُمم وتحضُّرها بعُقلائها؟ أم إلى تخلُّفها بسُفهائها ومجانينها؟!



أقول: ما حدَث هناك يحدث هنا فعلاً في مجتمعاتنا الإسلاميَّة من مسلمين بالاسم دون المسمَّى، ممن لا رادعَ لهم من دين أو ضمير، وفي الخَفاء وعلى استحياء، وصَدَق النبي المعصوم - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قوله: ((لتتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قبلكم؛ شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ، لسَلَكْتُموه))، قيل: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمَن؟))[19].



من أنواع الإسراف المكروه:

الإسراف المكروه: هو إسراف في أمر له أصل في الشرع، ولكن بخروجه عن حدِّ الاعتدال المأمور به، صار مكروهًا وإسرافًا ممقوتًا، لَم يأمر به الشرع، بل نَهى عنه، ويَنطبق هذا عمَّا يخصُّ أمور الدنيا، فإن كان في الدين، فالأصل فيه التوقُّف وعدم الزيادة عمَّا شُرِع؛ لأنه يؤدي إلى التنطُّع المكروه، وهو الزيادة عن السُّنة فيما له أصل، ولَم يأمر به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويُخاف عمَّن يَرتكبه من الزيادة فيما لَم يُشرع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأُمَّته، وهو البدعة المحرَّمة قطعًا، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.



ولقد أمرَنا الله بطاعة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كل ما يخصُّنا - دينًا ودنيا - ونهانا عن مخالفته، وعلى المسلم أن يتَّبع ولا يَبتدع، والآيات والأحاديث في الترهيب من ذلك كثيرة، منها:



قوله تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7].



ومن الأحاديث النبويَّة الصحيحة قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كل أُمَّتي يدخلون الجنة إلاَّ مَن أبى))، قيل: ومَن يأبى يا رسول الله؟ قال: ((مَن أطاعني دخل الجنة، ومَن عصاني فقد أبى))[20]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هلَكَ المتنطِّعون، قالها ثلاثًا))[21].



قال النووي: "قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هلَك المتنطِّعون))؛ أي: المتعمِّقون الغالون، المُجاوِزون الحدودَ في أقوالهم وأفعالهم".



وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ))[22]، وفي رواية لمسلم: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرُنا، فهو ردٌّ)).



قال النووي - رحمه الله - في شرح الحديث:

"قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ))، وفي الرواية الثانية: ((مَن عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ))، قال أهل العربية: (الرَّدُّ) هنا بمعنى: المردود، ومعناه: فهو باطل غير مُعتدٍّ به".



وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كَلِمه - صلَّى الله عليه وسلَّم فإنه صريح في ردِّ كل البدع والمُخترعات.



وفي الرواية الثانية زيادة، وهي أنه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سبَق إليها، فإذا احْتُجَّ عليه بالرواية الأولى، يقول: أنا ما أحْدَثت شيئًا، فيُحْتَجُّ عليه بالثانية التي فيها التصريح بردِّ كل المُحدثات؛ سواء أحدَثها الفاعل، أو سُبِق بإحداثها"؛ ا .هـ.



ومِن ثَمَّ سنكتفي هنا - منعًا للإطالة في مادة هذا البحث - بتوضيح ماهيَّة السَّرَف المكروه في كلٍّ من الدين والدنيا، مع ضَرْب مثال مع واحدٍ لكلٍّ منهما، مع بيان الأدلة الشرعيَّة من الكتاب أو السُّنة الصحيحة؛ ليحيا من حيَّ عن بيِّنة، ويَهْلِك مَن هلَك عن بيِّنة، والله المستعان.



أولاً: الإسراف المكروه في الدين:

قلنا: إنَّ الأصل في الدين أو العبادات، التوقُّف وعدم مجاوزة الشرع فيما لَم يُرَخِّص فيه، حتى لو كان له أصل في الشرع؛ كالصلاة والصيام والصدقة... إلخ.



لماذا؟ لأنه يؤدي بالتبعة إلى التنطُّع والغُلوِّ في الدين، وربما يؤدي إلى الزيادة فيما لَم يُشرع لنا الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيقع صاحبها في البدعة المحرَّمة - والعياذ بالله، ومن أمثلة هذا الإسراف: السَّرَف في التعبُّد، وإهمال الحقوق، ومن أدلَّته:



1- حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسألون عن عبادة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلمَّا أُخْبِروا، كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدهم: أما أنا، فإني أُصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إليهم، فقال: ((أنتم الذين قلتُم كذا وكذا، أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفطر، وأُصلي وأَرْقُد، وأتزوَّج النساء، فمَن رَغِب عن سُنَّتي، فليس مني))[23].



ومن الحديث يتبيَّن رَفْضُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لهذا التنطُّع[24] والغلو في العبادة، والزيادة فيها بما لَم يُشرعه ويسنه لأُمَّته، رغم شرعيَّة الأعمال التي أرادوا أن يعملها هؤلاء الرَّهط؛ لأنه تشدُّد وإسراف يُخالف الطبيعة الإنسانيَّة وقُدرتها على التحمُّل.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 166.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 164.98 كيلو بايت... تم توفير 1.93 كيلو بايت...بمعدل (1.15%)]