صفحة من ذكرياتي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         فضل دعاء غائب لغائب وما يحمله من معاني عظيمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          الخطاب الدعوي في ألمانيا بين الحس الأمني والحفاظ على الثوابت: خطبة عن فلسطين كأنموذج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          سلسلة شرح الأربعين النووية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 677 )           »          آخر جمعة من رمضان 1445هـ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          هدايات سورة يوسف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          اللهم آمنا وثبتنا على الإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (7) (الدعاء) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (6) (البحث عن التوفيق) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          شرف السلام في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          المتصدق على زانية وغني وسارق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر > من بوح قلمي
التسجيل التعليمـــات التقويم

من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 05-09-2022, 01:40 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,726
الدولة : Egypt
افتراضي صفحة من ذكرياتي

صفحة من ذكرياتي
نورا عبدالغني عيتاني


صغارًا كنَّا، والخوفُ يغلِّف المعنى لدينا، كنَّا نحتمي بهم، نعيش تحتَ رعايتهم، نستظلُّ بفَيْئهم، ونستشعر الأمانَ، لطالما كانوا جناحَنا الذي نُرفرِفُ به، فنحلِّق نحو الأعالي! سواء في الحلم أم في اليقظة، حتى إذا ما ابتَعدنا عنهم قليلًا، أحسسنا بالضَّياع...

أذكر مرَّةً ذهبتُ فيها إلى السوق مع أمِّي، وكان مِن عادتي الذَّهاب معها كلَّ يوم للتبضُّع واشتراء الحاجيات، كانت مُتعتي تتجسَّدُ في هذه النُّزهة الفريدة كلَّ يوم، ثمَّ حصل أنْ تركتُ أمي تنتقي بعضَ الخضار، حين شدَّني مَشهدٌ لافِت في السوق لا أذكره تمامًا؛ إذ إنَّني كنتُ في حينها ألتفتُ لأيِّ حادث أو حديث، بفضولٍ لا أدركُ سرَّه، استغرق شرودي في فضولي بضعَ دقائق، كان من شأنها أن تلهيني عن مُراقبة أمي تنتقي حبَّات الخضار بعناية تامَّة كعادتها كلَّ صباح؛ وإذ بي ألتفتُ أخيرًا بعد أن اكتفيتُ مِن متابعة الحدث، ويا لَهول صدمتي حين وجدتُ أنَّ أمِّي قد اختَفتْ!

تلفَّتُّ خلفي، وأنا متيقِّنة بأنَّها لا شك لم تَبتعِد، فهي لا يمكن أن تَتركني وحدي، ليس مِن عادتها فِعلُ ذلك، ويا لشدَّة خَيبتي حين لم أجِدْ لها أثَرًا في كلِّ الاتجاهات حولي، تلفتُّ يَمنةً ويسرة، ودقَّاتُ قلبي تتسارع بوتيرةٍ لم أعهدها من قبل، إلَّا عند استيقاظي من النوم في جوف الليل والكلُّ نائم، حينها كنتُ ألوذ إلى أمِّي، أصرخ لها من غرفتي:
(ماما!).

ولا أحتاجُ لإعادة الكَلمة أكثرَ من مرَّة؛ إذ إنَّها كانت تَستجيب بسرعة للنِّداء، فتأتيني بكُوب الماء، كانت وحدها تَعرفُ ما أنا بحاجةٍ إليه، دون أن أُخبِرَها، وكنتُ أتساءل في نفسي:
مَن أخبرها؟

وأُجيب نفسي:
لا بدَّ أنَّها تعرف عنِّي كلَّ شيء.

فأزداد طمأنينةً، ويغمرني الأمان أكثر، وفكَّرتُ: لِم لا أُناديها؟ أجل! فهي تَسمع صوتي دائمًا، ما مِن مرَّة ناديت أمي إلا واستجابتْ للنِّداء، وأخذتُ أنادي:
(ماما، ماما!).
وأُعيد الكرَّةَ، لكن، هذه المرَّة لم تُجبْ أمِّي... تسارَعتْ دقَّاتُ قلبي أكثر، أحسَستُ بالرُّعب، وكأنِّي في دنيا غريبة!

هذا السُّوق، المكان القريب جدًّا مِن البيت، الأكثر منه قُرْبًا إلى قلبي، والذي اعتدتُ الذَّهابَ إليه كلَّ يوم، ما باله اليومَ أصبح مكانًا غريبًا عليَّ؟ ما بالُ الناس يسيرون بهذه السرعة؟ ولِم الوجوهُ التي أُحبُّ أن أرقبها كلَّ يوم تحوَّلتْ فجأةً إلى وجوهٍ مريبة، تبعث الخوفَ والريبة في نفسي، وتبثُّ فيَّ الشُّعورَ بعدم الأمان؟ شعورٌ لا يمكن أن أنساه أبدًا، شعور يجسِّدُ الضياعَ بكلِّ ما للكلمة من معنى... أحسستُ أنِّي تائهة، شعرتُ برغبة شديدةٍ في البكاء، لكنِّي تمالَكتُ نفسي، لا لشدَّة شجاعتي؛ بل لشدَّة جُبني!

كنتُ أخشى أن يراني أحدُهم والدُّموعُ على وجهي فيَعرف أنِّي تائهة، فيفكِّر في اختطافي، لا شك سيفعلُ أحدهم ذلك، لطالما سمعتُ الكبارَ يردِّدون تلك القصص؛ فهذه التي سمعتُها مرَّةً تحكي عن الولد الذي تمَّ اختطافُه واقتلاع كُليتَيْه وعينيه، ومِن ثَمَّ بيعها في أحد المستشفيات، وتلك التي كانت تَروي قصَّةَ البنت التي خرجت إلى السوق وحدها مرَّةً ولم تَعُد، وأخرى وأخرى...

وبدأت كلُّ الروايات تَضِجُّ في فكري، وتبعث فيَّ الرُّعبَ أكثر، وبالرغم من شدَّة رغبتي في البكاء، تجمَّدتِ الدموعُ في عيوني تجمُّدًا تامًّا، حتى أحسستُ بشيء في عُنقي يكاد يَخنقني؛ فإمَّا أن أبكي، وإمَّا أن أنفجِر، لم يَعُد أمامي إلَّا التفكير في الجري، وبدأتُ أركض مِن ناحيةٍ إلى أخرى، وكلَّما ركضتُ مِن ناحية، أحسستُ بالخوف أكثر؛ فقد نسيتُ كلَّ الوجوه التي ألِفْتُها في السوق...
نسيت وجهَ (أبو غازي) صاحب أفضل بقدونس، والذي تأبى أمِّي إلَّا أن تحضر البقدونس مِن دكَّانه، نسيتُ قبَّعةَ القش "المملّعة" على رأس (أبو رستم) وصلعته المضيئة تحتها كقنديل...

كنتُ أمرُّ أمامَ كل بائع فيَبتسم لي، فأُسرِعُ بالرَّكض أكثر، أصبحَتِ ابتسامات الكلِّ تبثُّ فيَّ الشكَّ والريبة؛ تلك الابتسامات التي كانت بالأمس تبعث فيَّ الضحك، خاصةً حين يبسمُ لي (أبو رستم) فتظهر أسنانه المرقَّعة بألوان قوس القزح والمفرَّغة مِن جوانبها تمامًا كالكوسة بعد أن تقومَ أمِّي بتحضيرها للحشو، لطالَما تخيَّلتُ أسنانَه (كوسايةً) بحاجة إلى كومة مِن الأرز واللحم، فاستغرقتُ في الضحك، وحين تراني أمِّي أضحك، كانت تنهرني؛ لأنَّها لا شكَّ كانت تدرك وحدَها ما يدور في رأسي مِن أفكارٍ شيطانيَّة، وتسارع بالقول:
(عيب!).

فأُخفي ضحكتي على مَضض، تمامًا كما أُخفي اليومَ دموعي المحبوسة في حَلْقي وأنا تائهة عنها، نسيتُ كلَّ شيء، كلَّ شيء... حتى دكَّانة أبي كمال، بائع السكاكر الذي كنتُ أتعمَّدُ حثَّ أمِّي على السَّير مِن ناحيته كي تَشتري لي (صيصان) السكُّر، التي قَضتْ على مستقبل أَسناني، وبنَتْ قصورًا للسوس داخلَها يسكن فيها معزَّزًا مكرَّمًا... لم أرَ حتى دكَّانة أبي كمال، لم أعُد أرغب بصيصان السكَّر ولا بأساور البونبون وخواتم التشيبس... حتى أكياس السحبة ما عادت تعني لي شيئًا، تعثَّرتُ بأحدها بينما كنتُ أركض تائهةً لا أعرف إلى أين، أركض بكلِّ الاتجاهات وأُعيد الطريقَ نفسها أكثر من مرَّة دون أن أنتبه.

كلُّ ما كنتُ أريده في ذلك اليوم إيجاد أمِّي، أحسستُ حقًّا بأهميَّتها، كانت تلك المرَّة الأولى التي أعرف فيها ماذا تَعني أمِّي بالنسبة لي...
أخيرًا، بدأ التَّعب يتسرَّبُ إلى قدميَّ الصغيرتين، وبدأ الألَمُ يدبُّ في خاصرتي بشدَّة كسكِّينٍ، تذكَّرتُ نصيحةَ أمِّي، فقد كانت تقول لي كلَّما شعرتُ بألم الخواصِر بأن أبطئ السَّير وأتنفَّس بعمقٍ وعلى مَهل...

توقَّفتُ عن الجري أخيرًا، حاولتُ التنفُّسَ بصعوبة؛ إذ إنَّ أنفاسي كانت تَتسارعُ وحدَها بشكلٍ لا إراديٍّ، نفَسٌ من الخوف، وثانٍ مِن الحُزن، وثالث من الجري، ورابعٌ، وخامس... ولكي أستجمِعَ أنفاسي وجدتُ نَفْسي أجلس على صندوقٍ قديم أظنُّه كان صندوقًا للبطاطس بحسب ما أذكر، وإذ بي وأنا على وشك الارتياح مهدَّدة بدَمعةٍ تكاد تنزل مِن إحدى العينين بشكل ملحٍّ، حاولتُ منعَها بكلِّ ما أملك، لكن لا جدوى؛ فقد انحدرتِ الدَّمعةُ وتَلتْها الأخرى، وكلَّما مَسحتُ واحدة سارعَتْ دمعةٌ أخرى بالنزول مِن الناحية الثانية... أحسستُ أنَّ الكلَّ متآمِرٌ عليَّ، حتى دموعي...

لكن، أين ذهبت أمِّي؟ بدأتُ أتساءل في نفسي، وما هي إلَّا ثوانٍ، حتى أحسستُ بيدين مألوفتين تمسِكان بي مِن الخلف وبرائحة أحبُّها كثيرًا تعبق حولي؛ إنَّها بالطَّبع أمِّي، مَن سواها؟ تلفتُّ خلفي وغمرتُها بشدَّة، وبكيتُ أكثر وأنا أقول:
أين كنتِ؟ لمَ ذهبتِ وتركتِني وحدي؟ بحثتُ عنكِ في كلِّ مكان؛ وإذ بها تضحك وتقول:
أنتِ أين ذهبتِ؟

وكانت شدَّة الصَّدمة حين أخبَرتْني أنَّها كانت لا تزال في المكان الذي ترَكتُها فيه، غير أنَّها كانت تنتقي الخضارَ من المحلِّ في الدَّاخل...
سريعًا تلاشَتْ صَدمتي وتلاشى كلُّ شيء، سريعًا نسيتُ تعَبي ووجع الخواصِر؛ حتى إنَّ أنفاسي هدَأتْ بشكلٍ لافِت، فأحسستُ براحةٍ نفسيَّة وتنفَّستُ بعمقٍ كبير، ذاك الذي يسمُّونه تنفُّس الصُّعداء... منذ ذلك اليوم عرفتُ أنِّي لا أستطيع الاستغناءَ عن أمِّي...

حين وقعتْ أحداثُ الحرب، وفي كلِّ انفِجارٍ كان يدوِّي، كنتُ أشعر بالخوف لا شكَّ في الأمر؛ فالصوت كان مدوِّيًا وبشدَّة، غير أنَّ شعورًا ما كان يطمئنني دائمًا، شعورٌ يحيط بي ويشعرني أنِّي وإخوتي لا شكَّ في أمان، وأنَّ كلَّ شيء سيكون على ما يُرام في نهاية الأمر، كنتُ أرقب أمِّي تُعِدُّ طعامَ الغداء، وأبي يتابع الأحداثَ؛ إمَّا على التلفاز أو على المذياع عند انقِطاع الكهرباء، فأتنفَّس بعُمْق وارتياح، عند كلِّ دويٍّ، كنتُ أرى أبي يقلِّب بالريموت كونترول... هذه المشاهد كانت تثير فيَّ الراحةَ بشكلٍ لافت، لا أدري لمَ! ربَّما لإدراكي أنَّهما معنا وسيتولَّيان رعايتنا وحمايتنا، ربَّما لكوني مُقتنعة بفِكرة أنَّه ما مِن مَكروهٍ سيصيبنا طالما أنَّهما يؤمِّنان كلَّ الحماية اللازمة، بالطبع بمشيئة الله وعنايتِه...

دعوتُ اللهَ حينها من كلِّ قلبي دعوةً مخلصة لأمِّي وأبي على السواء أن يحفَظَهما لنا، وأن يحفظ كلَّ أبٍ وأمٍّ في كلِّ مَكان، استشعرتُ جيِّدًا معنى أن يكون المرء يتيمًا، ومعنى أن يكون فاقِدًا للعطف والرِّعاية والأمان... هي لا شكَّ عناية معنويَّة قبل كلِّ شيء، عناية تنبع مِن نفوس أهلنا ونفوسنا، فتألف النفس لها وتتآلفُ النفوس، دعوتُ اللهَ لكلِّ يتيم أن يعوِّضه الله هذه الأُلفةَ والعناية، وتمنَّيتُ أن تحلَّ مشاعر الأب والأمِّ ومحبَّتهما في نفوسِ كلِّ البشر؛ لكي لا يتبقَّى في الكون معنى مِن معاني اليتم، وقسوة الفَقْد، ووحشةِ الضَّياع!


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 53.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 51.85 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (3.20%)]